نجيب محفوظ والفنون
يستمد القارئ والناقد الكثيرَ من المعلومات عن قراءات نجيب محفوظ المختلفة، وما يحبُّه من أشكال الفن والموسيقى، من العديد من الأحاديث واللقاءات الصحفية والأدبية، التي أجراها معه الأساتذةُ: رجاء النقاش، ومحمود سلماوي، وجمال الغيطاني، وفؤاد دوارة، وغيرهم.
وقد لفت نظري حديثُ الأستاذ المتكرر عن كتاب مهم، عكف على مطالعته في فترة الصِّبَا، وأمدَّه بمعلومات أساسية عن الآداب العالمية، وهو كتاب «موجز تاريخ الأدب» تأليف جون درنكووتر. وقد سعيتُ منذ فترة للبحث عن ذلك المرجع، وهو من ثلاثة أجزاء كبار، وحصلت على نسخة منه بصعوبة؛ حيث إن تاريخ طبعه يرجع إلى العشرينيات من القرن الماضي.
وقد أحسستُ بشغفٍ بالغ لمطالعة الكتاب الذي طالعه أستاذنا في فترة التكوين، والذي لا شك أنه قد ترك أثرَه الثقافي فيه، وأمدَّه بإطار عام للأدب العالمي، يختار منه بعد ذلك ما يُثير اهتمامه لقراءته والتبحُّر فيه.
والكتاب مطبوع طباعة أنيقة، ويحتوي كلُّ جزء منه على ما يقرب من الخمسمائة لوحة تتصل بموضوعات الكتاب، وصور توضيحية للموضوعات، على ورق مصقول يزيد من متعة القارئ، وقد أشار الأستاذ إلى تلك الصور واللوحات التي تركَت في نفسه انطباعًا جميلًا عن الكتاب.
أجمل كتاب
والجزء الأول من «موجز تاريخ الأدب العالمي» يبدأ باستعراض أول كتابات وُجدت في التاريخ، قبل ظهورِ أيِّ نوع من المخطوطات أو المطبوعات بآلاف السنين، واعتمد المؤلف على أحدث الاكتشافات الأثرية التي ظهرَت حتى العصر الذي عاش فيه، فهو يحدِّثنا عن الألواح ذات الكتابة المسمارية، التي تم العثور عليها في «نينوى» القديمة، والموجودة الآن في المتحف البريطاني، وترجع إلى عام ٤٠٠٠ق.م. ومن آرائه الجريئة الطليعية، أن العبرانيِّين لا بد وأنهم قد استقَوا قصة الطوفان من روايات الكلدانيين القدامى عنه، ثم ينثني المؤلف للحديث عن الحضارة المصرية القديمة، وكتاب الموتى، ويشير إلى أن كتاب «بتاح-حتب» يمكن أن يكون أقدم كتاب في العالم؛ إذ إنه كُتب قبل مولد النبي موسى بألفين من السنين، وقبل تجميع كتاب «الفيدا» الهندوسي المقدس بألفين من السنين كذلك، ويقتبس المؤلف صفحة كاملة من هذا الكتاب الفرعوني، قبل أن ينثنيَ للحديث عن الديانات الآسيوية القديمة.
ويُخصِّص الكتابُ فصلًا كبيرًا لأول ملحمتَين عرفهما العالم الغربي لليوناني هوميروس؛ الإلياذة والأوديسة، ثم يعرض للكتاب المقدس وتاريخه وموضوعاته بتفصيل كبير، ويُخصِّص فصلًا تاليًا للكتب المقدسة الأخرى، يبرز منها ما كتبه عن القرآن الكريم. وهو في عرضه للإسلام وكتابه المقدس القرآن الكريم موضوعيٌّ للغاية؛ إذ لا نجد فيه أي تحامل أو مغالطات من التي دأب كثيرٌ من المستشرقين على إلصاقها بالدين الحنيف، بل إن نظرتَه إلى الإسلام وكتابه المقدس ونبيه الكريم تفيض بالثناء والموضوعية، ولكن تجدر الإشارة إلى ورود بعض الأخطاء في ترجمة كلمات معينة من آيات القرآن.
ثم يتطرق الكتاب إلى الموضوعات المعهودة في تاريخ الأدب؛ فيعرض للأدب اليوناني الذي يستفيض في شرحه وإيراد أمثلة منه، عارضًا للفلسفة اليونانية وأساطينها المشهورين، والمسرح اليوناني الكلاسيكي، والأساطير والشعر اليونانيَّين، ويقوده الأدب اليوناني إلى الأدب اللاتيني الروماني؛ فيستعرض المؤلف أشعار أوفيد وكاتولوس، وخُطب شيشيرون، والحديث عن آلهة الرومان وأساطيرهم، ويلاحظ القارئ تداخلًا بين الأدبَين اليوناني واللاتيني، قد يكون المؤلف قد تعمَّده، مبيِّنًا التأثر الشديد لأدب روما بأدب اليونان.
ثم ينتقل المؤلف نقلة مفاجئة إلى العصور الوسطى، ويحدد بداياتِها بسقوط روما على يد القوط الغربيِّين عام ٤١٠ ميلادية، وتستمر حتى سقوط القسطنطينية في يد الأتراك عام ١٤٥٣، ويمهِّد للأدب في تلك الفترة الطويلة بفذلكة تاريخية، يمرُّ فيها سريعًا على الحضارة الرفيعة التي أقامها العرب في إسبانيا، حينما كانت أوروبا غارقة في عصورها المظلمة، ليتحدث بعد ذلك عن أدباء تلك الفترة؛ كالقديس أغسطين صاحب الاعترافات المشهورة، وعن الملحمة الشعبية الألمانية نيبلونجن، وأشعار التروبادور، ودانتي وكوميديته الإلهية، ثم تشوسر أبو الشعر الإنجليزي كما يسميه.
ومن الملاحظ هنا أن المؤلف لا يُشير من قريب أو بعيد إلى أثر الأدب العربي في الأندلس، وغيرها في أشعار التروبادور وفي دانتي وتشوسر؛ حيث إن الحديث والبراهين عن الأثر العربي في تلك الأعمال المبكرة لم يبدأ إلا بعد ذلك في دراسات الأدب المقارن، التي وضعَتها باقة من المستشرقين الإسبان، أمثال آسين بالاثيوس ومنندث بيدال.
ثم يقفز بنا المؤلف مرة أخرى إلى عصر النهضة، ممهِّدًا له بنُبذة قصيرة عن أسباب الصحوة من عصور الظلام الغربية، ويعرض الكتاب لأريوستو ومكيافللي ورابليه ومونتاني، ثم يُفرد فصلًا طويلًا لسرفانتس وروايته «دون كيخوته»، وهو محقٌّ في هذا؛ إذ أصبح هذا الكتاب رائدًا لفن الرواية، حتى إن النقادَ العالميِّين اختاروه في العام الماضي كأفضل رواية عالمية على وجه الإطلاق. ويدلف الكتاب إلى أوائل المؤلفات التنويرية التي تعتبر أساس الحركة الهيومانية في عصر النهضة، وهي مؤلفات إرازموس وتوماس مور وبدايات كتب العصر الإليزابيثي في إنجلترا.
ويبدأ المجلد الثاني من الكتاب المرجع بأسطورة الأدب في كل زمان ومكان: ويليام شكسبير، وقد ركز في حديثه عنه على الأفكار والخطوط العامة وراء أعماله أكثر من تركيزه على مسرحيات معينة، ثم يُفرد المؤلف جانبًا كبيرًا للأدب الإنجليزي من ملتون حتى شعراء القرن الثامن عشر، إلا أنه لا يسير وفق منهج معين حسب الموضوعات أو البلدان المختلفة، بل يسير طبقًا للمنهج الزمني للآداب العالمية؛ ففي وسط حديثه عن الأدب الإنجليزي، يُعرِّج إلى الأدب الفرنسي، ليُغطيَ أدب وفكر عصر لويس الرابع عشر، ويهمُّنا هنا، الفصل الذي يعقده لنشأة الرواية على يد: دانييل ديفو وصمويل ريتشاردسون وفيلدنج، ثم يعود ثانية إلى فولتير وروسو، ثم يعرض لشخوص الأدب الألماني، ممثلًا في: جيته وشيللر ولسنج، قبل أن يستعرض بالتفصيل شعراء البحيرة الإنجليز، ثم الشعراء الرومانسيِّين الأشهر: بايرون وشلي وكيتس.
ومن الأمور اللافتة في هذا المجلد، حديث المؤلف عن الأثر الذي تركَته «ألف ليلة وليلة» في بعض الروائيِّين والشعراء، وكانت قد ظهرت لأول مرة بالفرنسية على يد «أنطوان جالان» عام ١٧٠٤، وتَبِعها على الفور العديد من الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.
وفي المجلد الثالث والأخير، يستمر المؤلف في اتباع منهجه الزمني، دون ارتباط بموضوعات معينة، فيبدأ بالرواية عند والترسكوت وألكساندر ديماس وفكتور هوجو، وبعد ستين صفحة عن الشعراء الفيكتوريِّين في إنجلترا، يعود إلى الرواية عند ثاكري وديكنز، ثم يغطي في سرعةٍ أعلامًا روائية، مثل: الأخوات برونتي وجورج إليوت، ويعقد المؤلف فصلًا طويلًا عن أدباء أمريكا: إمرسون، هورثون، إدجار ألان بو، ثورو، والت ويتمان، مارك توين … وغيرهم، ويعود إلى فرنسا في القرن التاسع عشر ليتحدث عن: جورج صاند وبلزاك وفلوبير وزولا وموباسان وإرنست رينان وبودلير وفيرلين، ويلاحظ هنا غياب الشاعر المتمرد أرثر رامبو عن الصورة؛ ربما لأنه لم يكن قد اندرج بعدُ في إطار الموروث الأدبي الفرنسي، كما يلاحَظ أن هذه الباقة من الروائيِّين الفرنسيِّين، هي ممن يشير النقاد إلى تأثُّر نجيب محفوظ بكتاباتهم.
الأعمال الخالدة
في الفصول الباقية من هذا المجلد يستعرض المؤلف المئاتِ من الكُتَّاب من كل الجنسيات، يهمُّنا منهم الروائي الفرنسي مارسيل بروست وروايته الملحمية «البحث عن الزمن الضائع»، التي قرأها الأستاذ نجيب بعد ذلك بالإنجليزية، ويعرض الكتاب سريعًا لأعلام الأدب الروسي، محتفيًا بدستويفسكي وتولستوي اللذَين نعرف أنهما من الروائيِّين المحبَّبِين لأستاذنا، ويذكر المؤلف أن رواية الجريمة والعقاب لدستويفسكي هي أفضل رواية واقعية على الإطلاق، ورغم إشارة درنكووتر إلى الشاعر والمسرحي الأيرلندي ويليام بتلرييتس، وفوزه بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٢٣، فإنه لم يكتب كلمةً واحدة عن مواطنه الشهير جيمس جويس؛ ربما لأنه أيضًا لم يكن قد استقرَّت مكانتُه بعدُ في الرواية الحديثة، وربما تُنيرنا العبارة التالية التي اختتم بها درنكووتر كتابه، وتُلقي الضوء على سبب إغفاله العديد من الأدباء الواعدين في عصره: «أما عن الكُتَّاب الشبان الذين ما زالت قدراتُهم في طور التكوين، فليس لهم مكانٌ في هذا الموجز.»
ويعجب القارئ من فعل الزمن في التقييم الأدبي والنقدي لدرنكووتر، فهو يهتمُّ بكثير من الأسماء التي لا يكاد يكون لها ذكرٌ الآن، بينما يُغفل أسماءً نَفَضَ عنها الزمنُ غبارَه، وأصبحوا من نجوم الأدب العالمي، وهو يُهمل ذكْرَ الكُتَّاب الذين ما زالوا في طَور التكوين؛ كجويس وهمنجواي وفيرجينيا وولف، الذين أصبحوا من عُمَد الرواية الحديثة، حيث تحتلُّ روايةُ عوليس لجيمس جويس الصدارةَ في الأعمال القصصية في القرن العشرين، وقد أصاب الزمن المؤلف درنكووتر أيضًا بآثاره؛ فرغم أنه كان من مشاهير الشعراء في زمنه، لا يكاد أحدٌ يذكره الآن!
أجمل لوحة
والآن، إلى اللوحة.
في حديث للأستاذ نجيب مع محمد سلماوي ردًّا على سؤال عن الفنون التي أحبَّها، قال الأستاذ: «أما من حيث الفن التشكيلي، فأذكر لوحةً معينةً لفان جوخ أعتقد أن اسمها ساعة الراحة، وكانت تمثِّل فِناءَ سجنٍ كبير والمسجونون يدورون فيه في طابورٍ وقتَ راحتهم، وقد تأثرتُ بهذه اللوحة بشكلٍ خاصٍّ.»
واللوحة المُشار إليها، رسمها فان جوخ عام ١٨٩٠، وهو نزيل مصح عقلي في مدينة «سان ريمي» بجنوب فرنسا، نقلًا عن لوحة بالأبيض والأسود للرسام الفرنسي جوستاف دوريه، كان ثيو قد أرسلها لأخيه وهو في المَصَح، وكان فان جوخ قد دخل المَصَح بإرادته بعد نوبة الهياج التي أصابَته في مدينة آرل، وهو يقيم مع الرسام بول جوجان، والتي انتهت بحادثةِ قطعِ فان جوخ لأذنه.
ونظرةٌ واحدة إلى اللوحة، تُنبئنا بالسبب الذي حبَّبها للأستاذ نجيب محفوظ؛ إذ إنها تمثِّل الحالة الإنسانية أصدقَ تمثيل: الإنسان سجين، يدور في حلقات مفرغة، يراقبه أناسٌ بورجوازيون ميسورون يرتدون القبعات العالية، ويبرز في هذه اللوحة السجين الذي يتوسطها، والذي رأى فيه النقادُ شخصيةَ فان جوخ نفسه، وهو الوحيد الذي لا يرتدي قبعة السجن، ويتطلع أمامه إلى المجهول في ترقُّب وقلق وحيرة، والحق أني ما تطلَّعت إلى وجه هذا السجين بعد أن قرأتُ ما كتبه الأستاذ عنها، إلا وتذكرتُ حيرةَ كمال عبد الجواد الوجودية، وصيحته المعبرة في «قصر الشوق»: أنا الحائر أبدًا. وتستبين حيرةُ الوجود في كثير من أعمال الأستاذ وشخوصه، مثل بطل «الشحاذ» الذي فشل في التكيف مع أنماط عديدة للحياة، وبطل «الطريق» الذي يبحث عن هويته الضائعة، وقد كتب فان جوخ لأخيه ثيو بعد إتمام هذه اللوحة، قائلًا: «إن كل ما يحيط بي ها هنا قد بدأ يثقل عليَّ، لقد قضيتُ عامًا كاملًا في المَصَح ولا أستطيع الاستمرار، فقد نفد صبري يا أخي العزيز، ولا أستطيع أن أتحمل المزيد، لا بد من التغيير، حتى لو كان إلى الأسوأ.» وقد قضى فان جوخ على حياته بعد أشهر من رسمه لهذه اللوحة.
عشق الموسيقى
أما القطعة الموسيقية التي عشقها أستاذنا نجيب محفوظ — بين الكثير من المقطوعات الأخرى عربيةً وأجنبية — فهي السيمفونية التاسعة لبيتهوفن. كان لا بد من وجود هذا العمل التفاؤلي، كي يوازنَ الصورة المتشائمة التي تُقدمها لوحة فان جوخ؛ فهذه السيمفونية احتفاءٌ بالحياة والحب الإنساني والأخوة بين بني البشر، وهي تعتبر من أشهر السيمفونيات الكلاسيكية وأحبها إلى عشاق هذا النوع من الموسيقى، إضافةً إلى سيمفونيته الخامسة بالطبع.
وقد وضع بيتهوفن سيمفونيته التاسعة بعد فترة انقطاع طويل عن السيمفونيات بعد السيمفونية الثامنة، خاض خلالها فترةً عصيبة من حياته، وصلَت إلى حدِّ اتهام الناس له بالجنون، ثم فاجأ الجميع بهذه السيمفونية التي يصفها معظمُ نقاد الموسيقى بأنها أعظم وأهم عمل مفرد في تاريخ الموسيقى الأوروبية.
وقد قدَّم بيتهوفن في هذه السيمفونية ملحمةً رؤيوية، تُصوِّر في قسمها الأول الصراعَ المعاصر بين شتى العوامل الإنسانية والتاريخية، ليخرجَ من هذا الصراع إلى مستقبل طوباوي، يمكن فيه خلقُ مدينة فاضلة يعيش فيها الناس في ودٍّ وإخاء.
وقد استخدم بيتهوفن فيها لأول مرة الكورال كيما يُنشدَ جزءًا من قصيدة للشاعر الألماني شيللر، بعنوان «أنشودة إلى البهجة»، يقول فيها:
وقد لاقَت السيمفونية التاسعة احتفاءً من كثير من الاتجاهات التي تُناقض بعضُها بعضًا، وتبنَّاها الكثير من الجماعات والبلدان والأحزاب، بيد أنها تَوَّجت نجاحها باختيار الاتحاد الأوروبي لحنها الأساسي كنشيد رسمي لأوروبا الموحدة.