مقدمة إلى كافكا
تأليف فيليب راف
يرتبط فرانز كافكا
١ اليوم في الأذهان الأدبية ارتباطًا شديدًا بأسماء مثل جيمس جويس، ومارسيل
بروست، وييتس، وريلكه، وإليوت، وهم من أُطلق عليهم بحق «الأبطال المقدَّسون الذين لا
يُمَسُّون» للنزعة الخلَّاقة الحديثة. وهو ينفرد بينهم بأنه الوحيد الذي لم يتمتع بنجاح
شعبي ذي أهمية إبَّان حياته؛ لأنه حجب قصصه الطويلة عن النشر، ولهذا لم تتعدَّ شهرتُه
حلقةً صغيرة من الكتَّاب الألمان، ولم تأتِه الشهرة إلا في العقدَين الأخيرَين، بعد
وفاته.
وأول مرة ظهرَت فيها ترجمةٌ لإحدى رواياته — القلعة The
Castle — كانت في عام ١٩٣٠، بعد أن مضَت على وفاته ستُّ سنوات.
والقلعة رواية تسطع عاليًا في سماء الأدب الكافكي. وحين ظهرَت لأول مرة، لم يتمكن من
سَبْر غَوْر قيمتها الحقيقية سوى عدد قليل من القراء، بل إنه حين ظهرت «المحاكمة»
The Trial، في عام ١٩٣٧، لم يكن المعنى الذي قدَّمه
كافكا، والدوافع الأساسية عنده هي التي أثارت الاهتمام بقدر ما أثاره الإلغاز الظاهر
في
كتاباته. وقد أدهشَت رواياتُه القراء، غير أنهم لم يقتنعوا الاقتناع الكافي بأهميتها.
ومنذ هذا الوقت، جرَت قوةُ الحس التي تمثِّل سمةً قوية من سماته، جرَت في شريان الدماء
الذي يتخلل أدب القرن العشرين.
وقد أصبح كافكا موضوعًا لدراسات نقدية عديدة في كثير من اللغات. وفي جميع الأنحاء،
اتخذ الكتَّاب الشبان، رقيقو الحس، الذين شعروا بالحالة المتجمدة للأساليب الروائية
السائدة، والذين كانوا جاهدين في البحث عن تجديدات خلَّافة، اتخذوا مثاله الذي اتبعه
مأخذًا جديًّا. ولم يَعُد هناك شكٌّ في منزلة كافكا كفنان على النهج الميتافيزيقي، الذي
يهتم بالتركيب النهائي للوجود الإنساني، أو في أصالته الفائقة كمجدد في الأسلوب
الخلَّاق، ومثل ريلكه
٢ في «مرثيات دوينو
Duino Elegies»، يُلقي
كافكا بالسؤال الخالد: «ما هو الحقيقي في هذا العالم؟»
وكافكا سيد من سادة النسق القصصي، أسلوبُه دقيقٌ متروٍّ ذو تحفُّظ ساخر، وهو يجمع
في
رواياته بين الحقيقي وغير الحقيقي، بين ذاتية المضمون الخالصة وأشكال غاية في
الموضوعية، بين صورة صحية ودودة عن العالم الخارجي والتحلُّل الحلمي لهذا
العالم.
وعن طريق توحيد هذه العناصر المتضادة، تمكَّن كافكا من تحقيق ملاءمات جوهرية جديدة
لمصادر الكتابة النثرية. يمكننا القول بذلك إلى أبعد الحدود، دون أن نتقيدَ بإعطاء
تقدير نقدي متكامل لأعماله؛ لأن مثل هذا التقدير يكون سابقًا لأوانه نوعًا ما الآن.
ويكفينا أن نعطيَ تحليلًا ووصفًا لصفات هذه الأعمال. وهكذا يتضح أنه لو كان كافكا
يضطرُّنا إلى الإحساس بأواصر الصلة بيننا وبينه، وبالتماثل القوي القلق، فإن ذلك يرجع
إلى الصفة القوية التي يتسم بها شعورُه بتجربة الضياع الإنساني، بالغربة والإثم والقلق،
وهي تجربة تزداد تسلُّطًا في العصر الحديث.
ولا مراء في أن كافكا واحدٌ من أكثر الفنانين الأدبيِّين عُصابيةً،
٣ وهذا ما يفسر الوعيد المحسوس لرمزيته التصوُّرية، وابتعاده الشديد عن أنماط
الخيال الأدبي المحددة، المتعارف عليها. ورغم وضوح حقيقة عصابية كافكا، فإنها تمثِّل
للذهن غير الأدبي خطرًا، إن لم يكن إغراءً مبتذلًا؛ لأن هذا الذهن ينزع إلى تشويش
الحقائق الجلية بالأحكام والتقييمات النقدية، وليس هناك خطرٌ أعظم من ذلك في تناولنا
للفن الأدبي. وحتى نتجنَّب هذا الخطأ الشائع، يجب فوق كل شيء إدراكُ أن كافكا شيء أكثر
من فنان عصابي وحسب، إنه كذلك فنان يكتب عن العصابية، أو بمعنى آخر ينجح في تجسيم حالات
العقل التي يتصف بها العصابيون، من خلال وسائل الخيال. ويعمل عن طريق ذلك على إدماجِ
عالَمِه الخاص في العالم الذي نعيش جميعًا فيه. وحين تتم هذه العملية، يكون الكاتب
الخلَّاق قد أدَّى العملية الأساسية التي يكمن فيها سرُّ انتصاره كفنان، إن لم يكن
كإنسان، ويكون بذلك قد حرَّر نفسه من شيطانه، ومن حمله الشخصي، ويحوِّلنا بذلك إلى
شركاء له من نفس الشيء. وبحكم اشتراكنا مع المؤلف، لا يكون لنا نحن القراء سببٌ طبيعي
للشكوى. وقد تكون العصابية هي الباعث أو الدافع، ولكن الأعمال الأدبية هي النتيجة. وفوق
ذلك، فإن الكاتب الخلَّاق هو الشخص الأخير الذي يمكن أن يفعله العالَم النفساني من
تمييزٍ فجٍّ ومفيد، لا يمكن للفنان أن يلتفتَ إليه دون أن يقمع في نفسه إحساسه بالحياة
في ذروة تماسكِها وتشعُّبِها.
وقد سبق للروائي جراهام جرين أن أدلَى بملاحظة، مضمونها أن كل كاتب خلَّاق جدير
باهتمامنا، كل كاتب يمكن أن نُطلق عليه لقبَ شاعر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى،
إنْ هو إلا ضحية، هو رجل تسلَّط عليه شعورٌ ما. وكانت الفكرة التي تسلَّطت على عقل
كافكا إحساسًا حادًّا بالقصور والفشل والإثم، إثم لا يرجع إلى ذنب ارتكبه، أو عمل ترَكه
ناقصًا، بل إثم يكمن في أعماق كيانه الداخلي. وقد كتب كافكا مرة في دفتر ملاحظاته: «إن
الحالة التي نجد أنفسنا عليها حالةٌ آثمة، ومستقلة تمام الاستقلال عن الإثم ذاته.»
مفتاح روايته المحاكمة، «إن فكرتنا عن الزمن هي الشيء الوحيد الذي يجعلنا نتصور وجودَ
يوم للدينونة، نُطلق عليه هذا الاسم، وما هو في الحقيقة إلا محكمة تعقد جلساتها بصفة
مستمرة.» وفي نفس مدار التفكير تبرز الصورة الفكرية التالية: «تلعب كلاب الصيد لاهيةً
في الفناء، ولكن الفريسة لم تُفلت من أيديها رغم ذلك مهما كانت سرعة جرْي هذه الفريسة
بين الغابات.» والتطابق مع الإنسان يقع هنا على الفريسة، وعلى كلاب الصيد كذلك،
باعتبارها ترمز لتطلُّع الفريسة إلى عقاب النفس، ورغبتها الدفينة في أن يتمَّ تضييقُ
الخناق عليها، وأن تُؤذَى وتُمزَّق تمزيقًا حتى يتمَّ تكفيرها عن الإثم الذي يغمرها من
الرأس إلى القدم. وفي هذه الجملة القصيرة عن الفريسة والكلاب تكمن خلاصةُ القصة
الكافكية الأصيلة، موضوع التسلطات، النواة القصصية التي تتعلق بضحية القوة الغاشمة،
الموضوع الذي يعود إليه كافكا من آنٍ لآخر، آخذًا في تنويع وتعقيد بنائه في ثراء عجيب،
مقيمًا على أساس بسيط كهذا صرْحَ بناءٍ شامخ، مثل أسطورة القائد العجوز في قصة «معسكر
الاعتقال»، وأسطورة القانون في «المحاكمة»، وأسطورة البيروقراطية السماوية في
«القلعة».
ومع ذلك، يجب ألَّا تقودَنا بساطة النواة القصصية عند كافكا، إلى إهمال الصفات التي
تجعله واحدًا من أكثر الشخصيات إلغازًا في الأدب العالمي. فإذا تحدثنا عنه باعتباره
مؤلفًا لأليجوريات دينية، فإن ذلك لن يُفيدَنا في شيء، فعلى خلاف الأليجوريين الدينين
أمثال «دانتي» و«بنيان»، لا يعتمد كافكا في كتاباته على المنطق المحدد لأحد الأنظمة
الدينية المتعارف عليها. ولا تفترض طريقتُه الخلَّاقة وجودَ أي معرفة خارج الذات. وعلى
هذا فهو ليس بأليجوري على أيِّ نحوٍ مقبول، بل الأصح أنه مجددٌ مغرق في الفردية إلى
درجة لا يمكن معها وضعُه في تصنيف من التصنيفات المألوفة. وكذلك، فإن الصعوبة التي
تُواجهنا في فهمه تختلف في مستواها عن تلك التي تصادفنا عند قراءة أعمال روائي مثل جيمس
جويس مثلًا؛ فبينما يكمن غموض الأخير في طرق الأساليب البراقة، التي يشكِّل بها مادته،
وفي تصميمات بنائه القصصي المتشابكة، فإن الذي يُحيرنا في كافكا هو المعنى المقصود من
قصته فقط. ويمكن مقارنة كافكا بجويس من ناحية اللغة والبناء، ورغم ذلك فإن روايات كافكا
الكاملة قد حيَّرت كثيرًا من القراء. وتزول هذه الحيرة لو أننا تعلَّمنا أن نُصغيَ
بانتباه إلى نغماته التي يضرب عليها، وأن نألف الحرية الكاملة التي ينبذ بها بعض
التقاليد الروائية حين يناسب غرضه الرمزي ذلك. وعلى هذا، فإننا حين نطالع الجملة الأولى
من قصته «المسخ The Metamorphosis»، التي تقول: «استيقظ
الموظف «جريجور سامسا» في صباح أحد الأيام، ليجد نفسه قد تحوَّل إلى حشرة ضخمة.» نُخطئ
لو تصورنا أن كافكا يقصد عن طريق هذه الضربة الجريئة أن يشير بإصبع الاتهام إلى قوانين
الطبيعة، بل يجدر القول بأنه يتهم التقليد الذي يدعو إلى مراعاة الأساليب الطبيعية عند
كتابة القصص. وهو بعد أن يبعد عن هذا التقليد في الجملة الأولى من القصة، يطورها من هذه
النقطة بطريقة واقعية. وأن مسخ الموظف هو رمزٌ مركَّب لغربته عن الحالة الإنسانية، رمز
ليقظته على رعب وجوده الخامل الميت، وعلى الامتعاض اليائس الذي يكمن في لا شعوره، حيث
تلقَى الرغبةُ التي يحس بها في إبعاد أبيه، والحلول محله في محيط العائلة، معوقاتٍ تنجم
عن حاجته إلى معاناة عقاب قاس على رغبته المحرَّمة تلك.
وهناك نوع آخر من الرمزية به نسبة أقل كثيرًا من الاستعمالات النفسية، ويوجد في قصص
مثل «سور الصين العظيم The Great Wall of china». ما هو
هذا السور العظيم؟ إنه أيضًا «رمز مركَّب للتضامن الإنساني، للتحقيق الدنيوي للذات،
ولمحاولة بني الإنسان الحصول على مساعدة القوى الغيبية.» ولكن، لماذا شُيِّد السور بهذه
الطريقة المنفصلة، حتى إنه يسمح للمتجولين في الشمال أن يتسلَّلوا خلال المنافذ؟
والجواب هو أن طبيعة الإنسان لا تمكِّنه من إنجاز شيء سوى أهداف محدودة، وليس بإمكانه
فهم «الكل»، ورؤياه منفصمة غير متواصلة، كما أن أمنه لا يمكن أن يكون تامًّا، ولا
يستطيع تحقيق أهدافه إلا بطريقة متقطعة جزئية.
وليس من شك في أن ما يُسبب تشييد السور في النهاية بهذا الشكل المنفصل هو «الأمر
العلوي»، ورغم ذلك فإن المجادلة في قرارات هذا الأمر العلوي لا تُجدي شيئًا على
الإطلاق. وليس سبب ذلك أن مثل هذه المجادلة تُعد كفرًا في حد ذاتها، بل لأنها تصبح على
المدى الطويل عبثًا لا طائل من ورائه. وفي هذا المجال، لا يستطيع المنطق إلَّا أن
يقودَنا إلى نقطة معينة، وما من جواب وراء ذلك سوى في الرمز الذي قدَّمه كافكا في القصة
للنهر إبَّان الربيع. ومع مضيِّ حوادث القصة، يتحول موضوع السور بطريقة نامية حية إلى
سلسلة من التأملات الشعرية، حول العلاقة بين أهل الصين والبلاط الملكي في بكين؛ أي بين
الله والإنسان. وبينما يتمثل ابتعاد الإله في قصة «كلب يبحث»
Investigations of a Dog كابتعاد في الزمن، فإن
الصور في قصة السور تتعلق في معظمها بالمكان؛ «فبكين» العاصمة بعيدة جدًّا عن
القرويِّين الذين يعيشون في الجنوب، حتى إنهم لا يكادون يتصورون وجودها، وهم يتعبَّدون
لملوك ماتوا منذ زمن بعيد، ولا تترامى الأنباء التي تَصِل من القصر الملكي إلى أسماعهم
سوى مهملة باطلة المفعول. ويستبين عجز الصينيِّين عن امتلاك إمبراطورهم في واقع واحد
حي، كانعكاس لفكرة الإله كما يعرفه الإنسان الحديث، وهي فكرة غير محددة غامضة، وفوق
كلِّ شيء فكرة عتيقة، فالإنسان الآن لا يُدرك كُنْه القوى التي تحكم حياته، فإذا عرف
شيئًا عن الألوهية فهي معرفة تاريخية خالصة.
والشِّجار بين المفسرين الدينيِّين والمفسرين النفسيِّين لأدب كافكا ليس بذي أهمية
عظيمة؛ لأن عمله يجمع من المعاني ما يكفي لأن يدعم جزءًا من الحقائق التي تخرج بها
هاتان المدرستان كلتاهما. وعلى هذا يمكن تفسير حادثة الأب الذي يحكم على ابنه بالموت
غرقًا في «الحكم» على ضوء فكرة فرويد عن الأب الطاغية. وفي نفس الوقت، يمكن أن يكون إله
القصاص، وقد قام في غضبٍ ليحطم الوهم الذي يبين للإنسان في إقامة كفاية ذاتية في هذه
الدنيا. وليس هناك أيُّ تعارض بين هذين التفسيرَين في أساسهما، فهما أولًا ليسا
بمتضادَّين، وثانيًا فإن قراءتنا للقصة وفهمنا لها — كما أنها تعتمد على وجهة نظر
المؤلف — فهي تعتمد في نفس القدر على وجهة نظرنا الخاصة في حدود معينة. وقد كان في
شخصية كافكا عنصرٌ من الخضوع الجوهري، يمنعه من الشروع في إثبات أيِّ اتجاه معروف عن
الحياة أو أي فكرة عنها. وقد قال هذا بوضوح في إحدى مأثوراته، التي كتبها عن نفسه بضمير
الغائب: «إنه لا يُثبت إلا نفسه، وبرهانه الوحيد هو ذاته، ولذلك فإن خصومَه قد تغلَّبوا
عليه في الحال، ليس عن طريق دحضه (فهو ممن لا يمكن دحضهم)، ولكن عن طريق إثبات
ذواتهم.»
أما أن كافكا كان رجلًا ذا مزاج ديني، فهذا ما لا أشك فيه أبدًا؛ فمع أنه قد خلق
صورًا مبرزة في الفشل والإحباط الإنساني، ويميل إلى الشعور بأنه سجين في هذه الدنيا،
وتُعذبه الكآبة والعجز والضعف، والخيالات المحمومة التي تراود السجين، فإنه لم يتخلَّ
عن ثقته في معنوية الوجود وروحيته، وفي القهَّار، كما أنه فقد الثقة في مجهوداته
الأدبية؛ لأنه كان يريد لكتاباته أن تَصِل إلى القوة التي تتمكن معها من رفع العالم إلى
المملكة «النقية، الحقة، الثابتة». ومع ذلك، فليس هناك شيءٌ في أوراقه الخاصة، أو في
رواياته يُجيز الزعم القائل بأنه كان يعتقد في إله خاص به، يوافق على النظم الجامدة
التي تتصل بالدين الرسمي. وحتى الخطيئة الأولى، وهي العقيدة القريبة من مركز أعماله،
كان يفسِّرها في تبصُّر بأن أساسها هو الشكوى التي يُردِّدها الإنسان، ولا يكفُّ عن
ترديدها «بأن شرًّا قد ارتُكب في حقه، وأن الخطيئة الأولى قد وقع وزرُها عليه.» وينظر
العالم الديني إلى هذا على أنه مجرد خرافة، خرافة رقيقة تتهم نفسها، ولكنه خرافة على
أي
حال. وقد أشار الناقد الألماني «فرانزيلي» إلى كافكا — وكان من معارفه الشخصيِّين —
باعتباره «خادمًا لإلهٍ لا يعتقد فيه أحد.» كانت تقواه متناقضة، مستثناة من التعريفات
والتصنيفات المحددة، بعيدة كل البعد عن الهدوء والتقليدية، ترفض السلوى التي يقدِّمها
الدين في إباء، وتُصر رغم ذلك على شقِّ طريقها إلى نوع من الإيمان «كالمقصلة في ثقله
وفي خفَّته»، ونوع من التقوى لا تجد متنفسًا لها في الأفكار العامة، ولا في الفكر
المنطقي، بل في لغة الفن فقط، تلك اللغة التي تقدِّم كلَّ شيء، ثم لا تزعم شيئًا، ولا
تؤكد شيئًا، ولا تُثبت شيئًا في نفس الوقت.
وُلد كافكا في عام ١٨٨٣، من أبوَين يهوديَّين من طبقة متوسطة، ويبدو أنه قد فقد ثقتَه
بنفسه في مطلع حياته، واستبدل بها كما يقول «شعورًا لا حدَّ له بالإثم.» وقد وسمت حالات
الضياع والفشل، وفكرة عدم وجود حلٍّ لأبسط المشكلات الإنسانية، وسمَت فترةَ شبابه
بالحزن، وألهمت فنه بعد ذلك. ويقف أبوه في مركز حياته كشخصية تتفق تمام الاتفاق مع فكرة
فرويد، عن الرعب المتمثل في الأب الأول. كان الأب نشطًا، صلبًا، متقلبًا، ناجحًا،
محترمًا، وكان يتعرض بالسخرية لميول ابنه غير العملية وتجوالاته الروحية، دون أن يقصد
سوءًا من وراء تلك السخرية، بل هي طبيعته أملَت ذلك عليه. وكانت الأم رغم شفقتها على
ابنها، مستغرقةً بجل عواطفها في أمور زوجها لدرجةٍ جعلَتها عاجزة عن أن تتخذ لنفسها
دورًا مستقلًّا. وهكذا تعرَّض فرانز الصغير لتطرفات العزلة واستبطان النفس، تلك
التطرفات التي كانت تلغي نفسها دومًا عند التفكير في التكامل عن طريق الزواج وإنجاب
الأطفال وممارسة أعباء مهنة محترمة. «مهنة حقة … المهنة المناسبة.» وكان تأثير أبيه
عليه ظاهرًا، لدرجةٍ جعلَته يتعثر في حديثه أمامه، رغم أنه يتحدث عادةً بطلاقة فائقة.
وقد كتب في خطابٍ وجَّهه إلى والده بعد ذلك: «لقد بدأتَ تأخذ تلك الصفة الغامضة التي
يتصف بها جميعُ الطغاة، الذين يعتمدون في تفوقهم على شخصياتهم وليس على الحق.» ومن
الواضح أن مصدر فكرة السلطة التي تشيع في معظم أعماله يرجع إلى موقفه المتناقض تجاه
والده، موقف يتمثل في نفورٍ فيَّاض وشعورٍ بالمماثلة أيضًا. ونحن نرى البطل في أعمال
كافكا القصصية الرئيسية، والذي تظهر فيه عناصر من شخصيته الذاتية، نراه دومًا وقد
قهرَته قوى ما فوق الطبيعة، تلك القوى التي تجد دائمًا ما يُبررها ويُعلي من شأنها، حتى
ولو ظهرت في ثياب بيروقراطية ظالمة متوعدة. ويحكي «ماكس برود»، صديق كافكا الحميم ومؤرخ
حياته، الذي نشر كتاباتِه بعد وفاته، يحكي أنه حاول أن يُدلِّل لرفيقه على خطأ إحساسه
الذاتي بالحقارة، وخطأ مغالاته المزمنة في الإعلاء من شأن والده. ولكن هذه الأحاديث
كانت تذهب أدراج الرياح؛ لأن كافكا كان يُدلي بسيل من الحجج يصدُّ بها أقوالَ صديقِه
ويُفندها. وقد تحقق ماكس برود أنه لا يمكن لامرئ أن يتساءل عمَّا كان يجدي كافكا قبول
والده له إلا من وجهة نظر أحد الغرباء البعيدين عن كافكا وإحساساته. فقد كان واضحًا أن
حاجته إلى هذا القبول تُمثل لديه شعورًا فطريًّا لا يُنقض، دام إلى آخر حياته.
وفي عام ١٩٠٦، حصل كافكا على إجازته في القانون من الجامعة الألمانية في براغ، ووجد
عملًا بعد ذلك في شركة للتأمين ضد الحوادث، غير أن اهتماماته الحقيقية كانت تتمثَّل في
ميدان الكتابة، وقد مارس هذه الأخيرة بكل حماس أخلاقي، معتبرًا إياها بذلًا مقدسًا
للطاقة الإنسانية، وخطوة للاتصال ببني الإنسان، وانعكاسًا باهرًا للإدراك الديني. ورغم
ذلك فإن الكتابة لم تكن لتُقيم أوده، فبالإضافة إلى اعتراضه من ناحية المبدأ على تحويل
الموهبة الأدبية إلى مصدر للمنفعة المادية، كانت أمامه عقبات أخرى في هذا السبيل. وكان
يكتب في سرعة خاصة به، يملؤه سخطٌ متوهج، وكانت تتملكه في نفس الوقت حاجةٌ ملحَّة لأن
يقف على قدمَيه، لأن يستقل سريعًا عن عائلته. ورغم ذلك فقد عملَت وظيفته في شركة
التأمين على تفكُّك شخصيته، للتناقض التام بينها وبين مهنة الكتابة.
ويكتب كافكا في خطاباته عن الأدب، باعتباره أمله الوحيد في السعادة وتحقيق الذات.
وعندما كان يتحدث عن الحالات التي تُشبه حالاتِ الغيبوبة، والتي تجعله يقترب من
الإحساسات الإنسانية العادية، يُضيف بأن هذه الحالات كان ينقصها هدوء الإلهام، مما
يجعلها لا تساعد على الكتابة الحسنة. وهو يتحدث عن نفسه على أنه بسبيل خلق «عقيدة سرية
جديدة، عقيدة صوفية»، غير أن إجاباتِه عن معنى العقيدة كانت مشتتةً متناقضة. (وقد قال
«ماكس برود» بحق إن إصراره هذا كان إصرارًا أخلاقيًّا، وليس إصرارًا فكريًّا). ونحن
نقرأ في يومياته: «إنني أمثل العنصر السلبي للعصر الذي أعيش فيه … وبخلاف كير كجارد،
٤ لم تَقُد حياتي يدُ المسيحية الثقيلة، ولا أنا تعلَّقتُ كالصهيونيِّين بأحد
أطراف أردية اليهود المحلقة في الفضاء.» ويبدو أن الشائبة الوحيدة في علاقة كافكا
«بماكس برود» كان مبعثها برود كافكا تجاه الصهيونية. وكان قد كتب مرة: «ماذا يجمع بيني
وبين اليهود في الوقت الذي لا يكاد يوجد هناك ما يجمعني ونفسي؟»
وكان عام ١٩١٢ عامًا مصيريًّا في حياته؛ فقد قابل «فيليس ب»، تلك الفتاة التي جاءت
من
برلين والتي كان يرغب في الزواج منها، ولكن الظروف أجبرَته على الابتعاد عنها. وقد عانى
شجنًا طاغيًا من جرَّاء فسخ خطوبته لها مرتين. كان يشعر أن الزواج عملٌ مستحيل بالنسبة
لرجل مقطوع الصلة في مثل ظروفه، رجل يفتقد الاستقلال الاجتماعي، والتوافق الآمن في
حياته. وقد شهدَت هذه السنة كذلك التقاءَ مقاصده الأدبية مع منهجه المستمر في سَبْر
غَوْرِ نفسه الداخلية، مما أتاح له أن يتقدَّم وئيدًا بخُطًى ثابتة في عمله. ولو
قارنَّا ما كتبه إبَّان خريف هذا العام بكل ما كتبه قبل ذلك، لبدَت هذه الأخيرة مجردَ
تخطيطات ناقصة لا أكثر. وفي ليلة ٢٢ سبتمبر في هذا الخريف، كتب «الحُكم»
The Judgment في جلسة واحدة. وقد قال بعد ذلك إنه
حمَل عبءَ وزرِه على ظهره أكثر من مرة في خلال هذه الفترة، التي امتدَّت من العاشرة
مساء حتى السادسة صباح اليوم التالي. والحُكم هي أول قصة كافكية تظهر فيها سماتُ أدبه
المعروفة، كما أنها أول قصة سبر فيها المؤلف موضوع الصراع بين الأب والابن إلى الأعماق.
وفي نفس الشهر أو الشهر الذي تلاه، كتب كافكا الفصل الافتتاحي الطويل لروايته الأولى
«أمريكا»، وفي نوفمبر أكمل أعظم قصصه «المسخ»، وحقق فيها تأثيرًا فعَّالًا عن طريق
تناوله الكامل للتفصيلات الواقعية التي تُساند وتدعم الرؤيا الكئيبة لموضوعاته القصصية.
وهذه القصة تجسيدٌ حيٌّ لصفتَي الضرورة والتطرف، تجسيد لإحساس امرئ جثَم الوجود على
أنفاسه، وليس أمامه إلا الانتماء إلى هذا الوجود. ويمسُّ هذا كله شعورنا حين نقرؤه في
أعمال كافكا؛ لأنه يشتمل على المنهج وعلى المضمون، على الطلب وعلى الاستجابة، على الهدف
وعلى الطريق في آنٍ واحد. وعن طريق هذه الصفة «الوجودية» فقط، ينجح كافكا في تجسيم
عالمه أمامنا، وينقل نداء الحقيقة الذي لا يُخطئ إلى عناصر هذا العالم، التي لم تكن
لتبدو بدونه سوى نتاج خيال غريب ضال. ويمكن لي أن أقول إن كافكا قد حقق تمامًا ولأول
مرة فكرته الخاصة عن الكتابة في قصة «المسخ»، وهي فكرة تتصف بباطنية وإلحاح لا يوصفان.
وقبل كتابة هذه القصة بفترة طويلة، حاول كافكا أن يشرح معنى الكتابة كما يتراءى له،
فقال في خطاب إلى صديقه أوسكار بولاك: «إن الكتب التي نحتاج إليها، هي تلك التي تؤثر
فينا تأثير الكارثة، تلك التي تجعلنا نُقاسي نفسَ المعاناة التي نمرُّ بها حين يموت لنا
أحد الأقارب الذين نعزهم أكثر من أنفسنا، تلك التي تجعلنا نشعر كأننا على شفا الانتحار،
أو تائهين في غابة بعيدة عن العمران، وهكذا يجب على الكتاب أن يعمل عمل الفأس في البحر
المتجمد في نفوسنا.»
وفي أكتوبر من نفس العام، كتب «ماكس برود» في يومياته: «إن كافكا في حالة من النشوة،
قائمًا يكتب طوال الليل …» وأيضًا: «… إن كافكا تنتابه حالة غريبة من النشوة.» وتتضمن
هذه النشوة شيئًا أكثر من الإعلاء وشعور الحرية التي يمر بهما الكاتب عادةً، حين يتقدم
في عمله الفني تقدُّمًا محسوسًا. ويستبين من الطبيعة الإكراهية لقصتَي «الحكم»
و«المسخ»، ومن تعليقات كافكا عليهما في يومياته، أن هاتين القصتَين كانتا الفأس الذي
حطَّم بحر الثلج بداخل نفسه، أو بمعنى آخر، أن عملية خلقهما تضمنَت النفاذ إلى طبقات
من
مادة مكبوتة، لم يكن في الإمكان إدراكها قبل هذا الوقت. ويبدو كما لو أن المعاناة
العصابية في كافكا والفنان فيه تعاونَا واتفقَا في رواياته التي تتميز بالحركة النفسية،
في سبيل الحفاظ على الحياة الغالبية. ويمكن للمرء في دقة أن يقول عن مثل هذه الأشياء
متفقًا مع «ييتس»: إنه كلما كان الخلق لا شعوريًّا، كلما كان أكثر قوة.
وتقوم رواية «أمريكا»، التي بدأ كافكا كتابتها في تلك الفترة على مبعدة من أعماله
الأخرى، فهي تفتقد ذلك العنصر غير الطبيعي، وليس فيها ذلك الاستدعاء للقوى الخفية أو
أي
تصوير ملغز للعالم المعروف المألوف، وهو الأسلوب الذي اتبعه كافكا بعد ذلك من أجل تطعيم
رواياته بعنصرَي اللامعقول والإبهام، وهي الرواية الوحيدة من بين أعمال كافكا، التي
أطلق الفنان فيها العنان لنزعته نحو كتابة الملهاة. ورغم ذلك، فإنه لم يقصد من وراء
كتابتها عرْضَ نقائص معينة، بل قصد تصوير الموقف الإنساني المتميز. وقد كتب كافكا في
دفتر ملاحظاته: «لو أن حوادث الملهاة نُظمت تنظيمًا متناسقًا، لتحولت إلى حقيقة
واقعية.»
ويمكن لهذه العبارة أن تكون شعارًا لهذه الرواية البيكارسكية
٥ «أمريكا»، وهي تحكي مغامرات صبي في السادسة عشرة من عمره — كارل روسمان —
من أهالي براغ، في إحدى مدن الولايات المتحدة التي طغت عليها الآلية. ولم يكن كافكا قد
رأى الولايات المتحدة قط عند كتابته لهذه الرواية، بل إنه كوَّن صورة محددة في ذهنه
عنها فحسب.
وكان كافكا يميل، بحكم نوبات الضياع والفشل التي انتابته، إلى الاطلاع في دهشةٍ
وإعجاب بالغَين على كل أمثلة الإرادة البناءة، على قدرة الإنسان على اكتشاف مهنته
الحقيقية، على إمكانه تحقيق التكامل مع مجتمعه، هذا المجتمع الذي كان يربط كافكا بأعظم
القيم، والذي اعتقدَ أنه يكمن بعيدًا عن متناول يده. ويمكن مطابقة الأسى الذي كان يغمره
بصفة دائمة بذلك الذي شعر به بطلُ قصة هوثورن
٦ «مكتب المخابرات»، الذي لم يكن يكفُّ عن الصياح قائلًا: «أريد مكاني، مكاني
الشخصي، مجالي المناسب، أريد عملي الذي خلقَتني الطبيعة لأؤدِّيَه، حينما شكَّلَتني على
هذا النحو، والذي بحثتُ عنه طوال حياتي عبثًا!» ولهذا السبب كان بنيامين فرانكلين من
بين الشخصيات التاريخية المحببة عند كافكا، وهو الذي نجح في كل ما تولَّى من الأمور.
كما أن كتاب «السيرة الذاتية» لفرانكلين، واحد من مصادر رواية «أمريكا». ومع ذلك، فلا
يظن أحد أن كافكا قد فُتن بفكرة «ريتشارد المسكين»
٧ عن نفسه أو بفلسفته العامة، ولكنه اهتم من نموذج الطبيعة الأمريكية هذا
بعنصر القدر الذي لا يمكن تفسيره، ذلك العنصر الذي ظهر على شكل إيجابي في هذا العمل.
وأغلب الظن أنه قرأ توصيات «ريتشارد المسكين»، التي يحث فيها على اتباع الفضيلة. ويقرأ
المرء قائمةَ الأمثال التي أعدَّها عن سكينة النفس، والاعتدال في النفقة، والاعتدال في
الطباع، والاعتدال في كل شيء، وما شابه ذلك من الموضوعات، كما يقرأ سِفرًا عن
الاستراتيجية. قرأ كافكا هذه الأعمال، وفسَّر هذه الأقوال الحكيمة الكئيبة على أنها
خطوات في تلك اللعبة المتشابكة، التي يسعى فيها المرءُ لنَيل الحظوة عند القوى المجهولة
التي تسود قوانينُها كلَّ شيء، رغم أن مرماها ومعناها غير معروفين ولا يمكن
معرفتهما.
وكان ما جذب كافكا نحو فرانكلين، ذلك المظهر الذي يجعله شبيهًا بأوليس،
٨ وقد تصوَّر أن أمريكا لدى فرانكلين مثل البحر الأبيض لدى البطل الأسطوري.
وكان يعتقد أن الأمريكيين لم يرسموا الابتسامة على شفاههم إلا لأنهم تمكَّنوا من إيقاع
الهزيمة بالقدَر، ربما عن طريق الحماية التي كفلَتها لهم أبعاد العالك الجديد غير
العادية.
ويتسم بطل «أمريكا» «كارل روسمان» بالبراءة حقًّا، وهو في هذا المجال يختلف اختلافًا
جوهريًّا عن «ك»، بطل روايتَي «المحاكمة» و«القلعة». ﻓ «ك» يتناول مشكلة الإثم بطريقة
تشريعية في معظمها، متأثرًا في ذلك بالمنهج العقلي، ويحاول الانتقام من الكوارث التي
نزلت به، ويجاهد في سبيل إطلاق سراحه بإثبات براءته من ارتكابِ أيِّ جرم عن طريق
إجراءات منطقية. أما كارل فإنه يعاني من الاضطهاد دون أن يفكر في الانتقام، أو يعكف على
التفكير طويلًا في الإساءات التي ارتُكبَت في حقه، ولم يَفُهْ بكلمة احتجاج حين طرده
عمُّه الثري بعناد من منزله دون أيِّ سبب على الإطلاق، بل بدأ يلائم نفسه في هدوء مع
الموقف الجديد. وهو ليس بشخصية ذاتية، بل إن طاقته من ذلك النوع الحنون الذي ينساب في
أضيق المسالك في وداعة ولطف.
ويصيب كارل شيءٌ من سخرية كافكا؛ فقد وقع في أحابيل سلسلة من الحوادث والأخطاء وسوء
الفهم، دقيقة في ظروفها، سحرية في تتابعها. وأحاط حُسن الحظ بخطواته الأولى في أمريكا،
تلك البلاد التي لم يجرؤ على التمعُّن في آليتها البيروقراطية الهائلة، المحيرة عن قرب.
غير أنه لم تمضِ سوى شهور قليلة حتى دهمَته الكوارث فجأة، واضطرته إلى البحث عن عمل في
رفقة اثنين من اللصوص العاطلين: «ديلا مارش» و«ربنسون». وبعد محاولات عدة، يُنشئ صداقة
مع امرأة لها روح أثينا، إلهة الصيد، في صورة مديرة أحد الفنادق، ولكنه يفقد منزلته تلك
أيضًا، حين يُبعده رفيقاه اللصان عن عمله، ليُرغماه بعد ذلك على الالتحاق بخدمة
«برونيلدا»، وهي امرأة تُشبه الساحرة «كيركي»
٩ في الجو الذي تعيش فيه، والتي دفعَت باللصَّين إلى شهوانية قذرة. (وإني
أعتقد أن الفصل السابع «الملاذ»، الذي يصف المطاردة بين كارل ورجل البوليس، وملاقاته
«برونيلدا» الفريدة، والاستعراض الانتخابي، وحديثه مع الطالب الذي يتغذَّى على مشروب
القهوة، لهو عندي من أحسن ما كُتِب في الروايات الحديثة). وفي النهاية، يفرُّ كارل من
معقل «برونيلدا» ليجدَ عملًا في مسرح أوكلاهوما الطبيعي، وهو أحد المشروعات الكريمة
الخيالية، يفتح الباب للعاطلين إلى جنباته الرحبة، حيث يحصلون على عمل، ويتم التوفيق
بينهم وبين المقاصد الخفية للقوى التي تحكم حياة الإنسان.
ولم يحاول كافكا أن يقدِّم فكرة حقيقية عن أمريكا؛ فتفاصيله عنها لا تُطابق الحقيقة
بالمرة. غير أن الصورة في مجموعها تكون حقيقة رمزية غريبة. وإذا كانت هذه الرواية من
وجهتها الواقعية مجردَ محاكاة ساخرة لخيال «ريتشارد المسكين» (أي لحياة الأمريكيِّين)،
فهي من وجهتها الأدبية تستمدُّ شيئًا من أدب «ديكنز». ﻓ «دافيد كوبرفيلد» الولد الطيب
الذي يستخدم ذكاءَه في أوقات المحَن والتجارب للاستفادة إلى أقصى حدٍّ مستطاع من
الفضيلة التي يتحلَّى بها، ما هو إلا طراز لكارل بطل «أمريكا»، ولكن تقليد رواية ديكنز
بهذه الطريقة يعتبر تناولًا هزليًّا لها، وهو شبيهٌ باستخدام جويس لملحمة هوميروس في
رواية الأول «يوليسيس».
وإن المرء لَيفتقدُ في رواية أمريكا ذلك المضمون العميق، الذي يميز أعمال كافكا
الأخرى. ومن الواضح أن خياله لم يدعم تلك المجهودات التي بُذلت في القصة للسير بحياة
أحد الشبان إلى نهاية سعيدة، بل كان خياله أقرب إليه حين كتب عن القلاع والمحاكم
المخيفة، حيث يطوف «ك» بحثًا عن العدالة، حتى يكتشف في النهاية أن العدالة بقدر ما هي
حتمية فإنها ليست بذات معنًى.
«فأمريكا» تندرج تحت ما يمكن أن نُطلق عليه الجانب النفسي لفنِّ كافكا. وتبدأ حركة
هذا الفن من علم النفس إلى علم الأساطير التجريبي (أي من الملاءمة الفورية بين حالاتٍ
شخصية داخلية إلى عرض هذه الحالات على العالم الخارجي). وهكذا، فإن الأساس الصحيح الذي
تقوم عليه أعمالُه يتجسم في البداية — كما يحدث في «الحكم» و«المسخ» — في شخصية أب
حقيقي، أب يمكن بسهولة مطابقتُه بفكرة فرويد عن الرومانسية العالمية،
١٠ بينما لم يَعُد للأب في الروايات التالية الأكثر طولًا شخصية يمكن التعرُّف
عليها في الحياة المألوفة، فقد تمَّ إقصاؤه عن حياة الأسرة، وأصبح فكرة عامة: كقوة من
القوى الرسمية، مقدسًا، قصيًّا، خفيًّا، مثل القانون أو المحكمة، أو مثل طبقات الموظفين
الذين يقطنون القلعة.
وفيما يختص بهذا الخط من التطور، يمكن اعتبار قصة «في مستعمرة العقاب
In The Penal Colony» قصة انتقالية. وقد كتبها
كافكا في نوفمبر ١٩١٤، حين بدأ العمل فعلًا في رواية «المحاكمة». وتتضح الإشارات
الدينية في القصة الأولى أكثر مما سبقها من القصص؛ ربما لأنها تبيِّن تأثيرَ كيركجارد
الذي اكتشفه كافكا لأول مرة في عام ١٩١٣. ويتبيَّن القارئ من شخصية القائد العجوز، الذي
تنبعث ذكراه المخيفة في قصة «في مستعمرة العقاب» بعض السمات الفردية التي يتصف بها الأب
«الحقيقي»، وفي نفس الوقت تتخذ هذه الشخصية الشكل الأسطوري الملغز، الذي يتخذه رمز
السلطة كما صوَّره كافكا في رواياته التالية.
وعلى المدى الطويل، لم تُفلح محاولات كافكا لسَبْر غَوْر حياتِه النفسية في أن
تُنقذَه من مخاوفه التي دمرَت أعصابَه، ولا من شعوره بالاحتقار الذاتي، وداومَ على
شجاره مع نفسه، وعلى خططه التي وضعها لعقاب هذه النفس، بل إنه فكر في الانتحار، قائلًا:
«لقد حمل بلزاك عصًا مكتوبًا عليها هذا الشعار «إنني أحطِّم أي عقبة»، ولكن شعاري هو
«كل عقبة تُحطِّمني».» وقد أثَّر تذبذبُه المستمر بين الكتابة وبين عملِه على صحته
كثيرًا، فعانى من نوبات الصداع والأرق، حتى هاجمه أخيرًا مرضُ السُّل، واضطرَّه إلى
قضاء عدة سنوات في المصحَّات.
وقد اعتبر كافكا مرضَه ذا حتمية نفسية: «لقد تآمرَت نفسي مع رئتي من وراء ظهري.» ولم
يتثبَّت من حاجته إلى الاستقلال بحياته إلا في عام ١٩٢٣، حين قابل «دورا دايمانت» — وهي
فتاة نشأت في عائلة يهودية محافظة في بولندا — ووجد نفسَه في حالة صحية تسمح له
بالانتقال معها إلى برلين. غير أن الوقت كان قد فات لتعويض ما فقده من سنوات المرض
والشقاء.
وفي يونيو ١٩٢٤، مات كافكا في أحد المستشفيات بالقرب من «فينا» بداء سلِّ الحنجرة،
وكان عمره واحدًا وأربعين عامًا.
ولم ينشر كافكا إبَّان حياته سوى بعض أعماله القصيرة، كما أنه لم يُكمل أيًّا من
رواياته الثلاث إلى نهايتها. وقد كتب قبل وفاته إلى «ماكس برود» طالبًا منه إحراقَ
جميعِ المخطوطات التي خلَّفها وراءه. ولحسن الحظ، أخذ هذا الصديق على عاتقه مسئوليةَ
إغفال هذه الوصية الأخيرة اليائسة.