هنري ميلر
إن كانت منزلة هنري ميلر في مجتمعنا الأدبي لمَّا تزل موضع نقاش، فإن ذلك قد يرجع إلى أنه من ذلك النوع من الكتَّاب الذين يُثيرون أقصى حدٍّ من النقد مع كلِّ صحيفة يُضيفونها إلى مجموع أعمالهم. وعلى هذا فمن السهل تقديرُه بأكثر من قيمته الحقيقية، ومن السهل أيضًا التقليل من قيمته الفعلية، بل وتجاهله كليةً. ولك أن تتصور وضْعَه الحالي الذي يقف فيه؛ فالمتعالون من النقَّاد، ما عدا قلة منهم، تربَّوا في مدرسة ت. س. إليوت ذات النظريات الجمالية اللاشخصانية، يميلون إلى إهمال شأنه، فنغمته الساحرة، وطقوسه الشائنة، وخشونته الدارجة، واحتقاره للقوانين المرعية، كل ذلك يجعله مثلًا سيئًا بالنسبة لهم، ومن الناحية الأخرى، يجاهد معجبوه في مدحه ويُغرقون في ذلك حتى ليساور المرءَ الريبُ أنهم على وشك أن يقدِّسوه، وهم يتحاشَون الضرورة التي تدعوهم إلى التفرقة بين فنِّ استغلال الشخصية الداخلية للفنان، والفن الذي يستغل المادة الخارجية من أي مصدر كانت من أجل أغراض الخلق الفني. ومثل هذه التفرقة ضرورية جدًّا في حالة هنري ميلر، فعمله شخصي المضمون إلى حدٍّ واضح، حتى إن القارئ ليميل في لحظات الغيظ الشديد إلى اعتباره مجردَ تهويمات ذاتية.
ولقد أعلن ميلر مرارًا وتكرارًا أن اهتمامه لا ينصبُّ على الكتابة بمعناها المعروف، ولكن على رواية قصة حياته التي لا ينفد مَعينُها، تلك القصة التي تمتدُّ لتضمَّ بين جوانحها أخبارًا كاملة عن آرائه وخطراته الفلسفية وإلهاماته وتوقعاته وتهريجاته. وكثيرًا ما ينساق ميلر وراء ذلك الإعلاء الذاتي الذي تميل إليه الشخصية البوهيمية عادة. وهو في أحسن أحواله إنما يكتب على مستوى من التعبيرية الحقة، ويُنتج نوعًا من الشعر خالصًا، يحمل طابعَ البهجة والوحشية في الوقت نفسه. ومن سوء الحظ أن ميلر منذ أنهى حياة تطوافه وعاد إلى موطنه الأصلي قد أطلق العنان، فبالغ في إطلاقه لأشد ميوله سوءًا، وهو الميل الذي يدفعه إلى انتحال شخصية الفيلسوف في الاحتفالات والتجوالات التي تُقيمها الفِرَق الطليعية في كاليفورنيا.
رحل ميلر إلى اليونان ليطهِّر نفسه من أدران اتصاله الطويل الأمد بالفرنسيين، وليُحسن من آماله في إحراز تجديد روحي، وقد كتب يقول: «لقد وصلت إلى التناسق الذي أبغيه آخر الأمر في بلاد اليونان، فهناك تضاءلتُ وتطهرتُ، وعدتُ إلى التناسب الإنساني السليم، وأصبحت على استعداد لتقبُّل نصيبي والإعطاء من مجموع ما أخذته. ولقد مررت بميلاد جديد حقيقي بينما كنت أقف عند قبر أجاممنون.»
ويتحدث ميلر عن اليونانيِّين باعتبارهم أناسًا «لا هدف لهم، فوضويِّين، آدميِّين عقلًا وروحًا وبطريقة متنافرة»، وهو بهذا إنما يطابق بينهم وبين قِيَمِه الخاصة. ورغم أنه يعترف بأنه لم يقرأ حرفًا من «هومر»، فهو يعتقد أن اليونانيِّين لم يتغيروا منذ تلك الأزمان السحيقة تغيُّرًا جوهريًّا.
أما كتابات ميلر التي يستبين فيها استعداده الفائق لتسطير النثر الوصفي، فهي تلك المقالات التي وضعها عن زياراته لميسيناي وكنوسوس وفايستوس، وغيرها من المواطن الأثرية. وبعض فقرات هذه التقارير مثالٌ طيب على جرأته الخطابية. ووسيلته الطبيعية للكتابة هي المبالغة في القول، لكنه يمتلك إحساسًا حيويًّا يمكِّنه من الإشارة إلى موضوعات ورموز محددة، وهذا يسمح له بدوره بالحصول على قدرٍ من التحكم في لغته المتعاظمة، وهو يُدمن بصفة خاصة استخدامَ الاصطلاحات والصور التي يستعيرها من العلم، خصوصًا علم البيلوجي (الأحياء) وعلم الفلك، وهناك طريقة له لا تتغير، وهي أن يوزِّع هذه الاستعارات من الناحية الأسلوبية بطريقة تُوحي بخلق تأثير من عدم التناسب والفزع، وهي حيلة يعبِّر من خلالها تمامًا عن وَجَلِه من العلم ومن آثار العلم جميعًا؛ فميلر ينتمي إلى اتحاد كارهي التقدم ومحطِّمي الآلات في الأدب المعاصر، ورغم أنه يفتقد إلى الدافع الذي يجعله يدين بالولاء للتقليد، فمن المشكوك فيه أيضًا أن يرضى به رفاقُه المفكرون زميلًا لهم في جماعتهم، وبالإضافة إلى ذلك، فقد استسلم ميلر مؤخرًا لميوله الغيبية وانقادَ لها انقيادًا، وغيبيَّاته هي من نوع جامع مانع، لا تعرف حدودًا ولا تُقيم شبهات، وجريًا على ذلك، فهناك فصل غريب في كتاب «عملاق ماروسي» يَصِف فيه المؤلف مقابلةً له مع عرَّاف أرمني في أثينا، ويصادق ميلر على دعواه بأنه لن يموت أبدًا، وأنه مكتوبٌ عليه أن يقوم برسالات ذات طبيعة دينية «ستعود عظيمة على العالم». ويمكن لنا أن نحمل هذه النبوءة على محمل قطعة خيالية من قطع جنون العظمة، أو على أنها من الأماني الطبيعية التي يمر بها كلُّ إنسان.
وكان كلُّ اتصال يُجريه الراوي في هذه الروايات التي سبق ذكرها بموضوعات ثقافية لا يعمل إلا على اشتداد الدوافع الفوضوية عنده، ولا يُعَد لديه بعد ذلك أيُّ ملجأ من العالم الخارجي، بل تنمحي عند ذلك أيضًا فكرةُ البيت، وهو المكان الوحيد الذي يمكن للمرء أن يقول عنه صدقًا بأنه مِلكه، فهو لا يضمُّ ممتلكاتِه فحسب، بل هو يحوي إنسانيتَه كلَّها. ولا يبقى بعد ذلك من شيء سوى تهويمات العودة إلى رحم الأم، وهي تهويمات تملك الزمام إلى درجة تؤدي إلى ظهور صور منمقة ضرب بأطنابها من فكرة الرحم هذه، وكذلك إلى انبعاث عديد من التوريات والنكات والاسترحامات.
وأحسنُ ما يكتب ميلر يكمن في النثر ذي الحيوية والرنين، بالأوصاف التي يصف بها حياتَه البروليتارية الثقيلة في الطرقات، تلك الطرقات التي تعمل سلسلةً لا تنتهي من الظواهر المتحللة الشاردة فيها على إضفاء لمعة من لمعات الحلم والأسطورة على تجوالاته بحثًا عن امرأة أو استهدافًا لدعوة على الغداء، وهو يرى من كلِّ نافذة من نوافذ البحر «جنية البحر وهي تتلوى بين ذراعَي المجنون»، ويتنسم في كل مكان عبيرَ الحب «وهو ينبثق متدفقًا مثل تدفق الغاز» خارج المسارب الرئيسية «الحب الذي يخلو من النوع ومن المطهرات، الحب الذي يحتضن كلَّ شيء بين دفَّتَيه كما تفعل الحيوانات عند الأشجار.» ويعالج ميلر في هذه الروايات موضوعَي الطعام والجنس معالجةً منهجية تتصف بدقة الأمر الواقع، وبإحساس قوي متفجر للحاجات الأساسية، حتى إنهما يفقدان معنيَيهما الحقيقيَّين لدى الكثيرين منَّا، فميلر يبعث موضوعَي الطعام والجنس فيجعل منهما عواطف بطولية، بل إنه يضرب عليهما بستار التعميم فيجعل منهما مبادئ وأسسًا، فالإنسان الشريد الطريد لا ينظر إلا إلى الأشياء التي يفتقدها أكثر من غيرها، فحالته تلك تجعل منه فوضويًّا بالفطرة، يعتبر شاذًّا كل التقاليد والقوانين الأخلاقية أو أي محاولة لضبط عملية التجربة وفقًا لإحدى القيم، إن المشكلة بكل بساطة هي البقاء على قيد الحياة، وكل الوسائل مباحة للوصول إلى تلك الغاية، ويتحول الإنسان إلى شخص أحمق، يكمن خفيةً في الدهاليز والحانات وغُرَف الفنادق، أملًا في أن يضرب الحظُّ ضربتَه فيُنيل المرء ما يبتغيه ويسعى وراءه. وهو يخطف الحلوى من الأطفال ويسرق المال من البغايا، أما فيما يتعلق بالحصول على عمل مستقر، فهو يستطيع دائمًا أن «يسلي، وينمي، ويعلم»، ولكنه لن يقبلَه الآخرون بطريقة أصيلة أبدًا … وكل شيء يعمل على إبقائي بعيدًا، واعتباري طريدًا شريدًا.
وتملؤه حقيقةُ أن العالم في حالة من حالات الانهيار، بشعور من الرضا عميق: «إن الانهيار المجيد للعالم يُبهرني» ذلك لأن الحطام الذي يتطاير في كل الأنحاء يُبرر ما حدث له بصفة شخصية ويدعمه، وهو يُحرز اتساقه الشخصي عن طريق قبول الانهيار كنوع من الاستعراض الرؤيوي، يمكن للفنان الذي رفضه المجتمع والذي يسعى إلى إحياء الغرائز البدائية السديمية أن يُحقِّق عن طريقه بعثًا للأحلام والأساطير، التي يجاهد ضيقو الأفق لكي يقمعوها من النفوس. ولا فائدة من التدخل لوقف هذا التيار أو لمحاولة تفادي الكارثة. وكل ما بوسع المرء أن يعملَه هو أن يرتدَّ إلى مصيره الذاتي المحض. ويُعلن ميلر: «العالَم على ما هو عليه، وأنا على ما أنا عليه، إنني أُعرِّض نفسي للعناصر المدمرة التي تحوطني، وأَدَع كلَّ شيء يُثير الدمار بي. إنني أنحني وأتطاول لأتجسس على العمليات الخفية، وذلك لكي أُطيعَ وليس لأُصدر الأوامر»، وهو يقول أيضًا: «إنني لا أدافع ولا أهاجم، إنني على الحياد … ولو كان الشيء الجوهري هو أن أحيا، فلسوف أحيا، حتى لو أصبحتُ من أكلة لحوم البشر.» والفنان لا يصبح حرًّا في أن يبنيَ أشكالًا موضوعية حتى ولو عاش في مجاله المناسب الخاص به، فلا بد له أن يهجر «المعيار الأدبي الذهبي»، وأن يُكرِّس نفسه لخلق أعمال بيوجرافية — وثائق إنسانية أكثر منها «أدبًا» — ويصور الإنسان في قبضة الهذيان.
وأعمال ميلر تتفق مع نظرياته، فرواياته في الحقيقة تُذيب أشكال الكتابة وأنواعَها في تيار من الإنذارات، والقصص، والنقد التاريخي العالمي، والشعر النثري، والفلسفة الفورية، وكل هذا يتعرض لضغط وحصر التعبير الذاتي تحت كل التكاليف، فالحقيقة الخارجية تُكدر صفو ذاته أيما تكدير، وهي المضطربة العاجزة أصلًا، فينقلب عاجزًا عن تقديم التضحية المستمرة للشخصية التي تتطلَّبها عملية الخلق، ولا يستطيع بعدُ أن يتحمل التعبير عن نفسه ضمنيًّا عن طريق العمل الفني ككل، بل يتعين عليه في ذات الوقت أن يخترق حجبَ كلِّ جزء منفصل من أجزائه وكل دقيقة من دقائق تفصيلاته ويستوعبها. ويظهر كما لو أن هذا الكاتب يقول: «لو أن كلَّ شيءٍ قد خيَّب آمالي، فهذا الكتاب على أقل تقدير كتابي الخاص، ففيه قد خلقتُ كلَّ شيءٍ على صورتي، إنني أمثل فيه إلهًا.»
وإني لأميل إلى الاعتقاد أن هذا هو معنى الجمالية «البيوجرافية» التي مارسها ميلر ودعا إليها في الوقت نفسه في أول أعماله، والتي يُمارسها عددٌ متزايد من الكُتَّاب رغم أنهم لا يعترفون بها برنامجًا منهجيًّا، وهم لا يمارسونها لأسباب شخصية كما يفعل ميلر ولا حتى يصلون إلى النتائج نفسها التي يصل إليها، بل لأن غربة الإنسان المتزايدة في المجتمع الحديث ترمي بهم إلى اتجاهات نرجسية، وتدفعهم إلى تحمُّل أعباء ذلك العمل الذي يُرسل بهم أيدي سبأ، فهم يقومون بامتلاك العالم الذي يزخر الآن بالمجردات والإغماضات من خلال واسطة النفس، والنفس وحدها، وشعارهم هو: «كن نفسك» وليس «اعرف نفسك». ولقد كان «توماس وولف» واحدًا من هذا النوع من الكُتَّاب، ولقد أثبتَت أعمالُه حقيقةَ أنه كان يفتقد الوعي الكافي المطلوب منه لكي يفهم محنته، ومن الناحية الأخرى، كان ميلر واعيًا كلَّ الوعي بموقفه، وذلك حينما بدأ يخطُّ أولى رواياته، وبدلًا من أن يحاول أن يستعيد الصلة المفقودة بينه وبين العالم، فهو يتقبَّل حالة غربته على أنها مصيره المحدد الذي لا يتحول، وبهذا العمل تمكَّن من أن يحقق بعض الاتفاق مع هذا المصير.
ومن المستطاع إسقاط ادِّعاءات ميلر بأنه مرشد للحياة والأدب أو نبيٌّ للقدر، رغم كلِّ ما يتذكره المرء من مقال كتبه عن بروست وجويس بعنوان: «عالم الموت». وهذا المقال قطعة نقدية ملهمة حقًّا، ورغم ذلك، فهو يُبدي في رواياته الثلاث تميُّزًا ملحوظًا في الترجمة للمفكر الهائم على وجهه، وفي التغنِّي بأناس الطبقات التحتية من المجتمع، الذين أثارَت فيهم بعض الصلات الخفية غير المرئية بالفن والأدب عداوةً دفينة للنمط العادي للحياة، وعزمًا على الهروب من عجلة النصيب، والسعي حتى ولو كان الثمن هو الجوع والاحتقار. ولقد قام ميلر بنوع جديد من الانتقاء حينما بدأ يعالج هذا الموضوع. وهناك عِرْق من ديكنز أيضًا في رواياته، يظهر في الصور الهزلية التي تطفو على السطح مرة ومرة، مثل المونولوجات الثائرة الفكهة للصحفيَّين «كارل» و«فان نوردن» في رواية «مدار السرطان». والحقيقة أن نباحه يفوق عضته سوءًا، وهو يضرب بسهم في اتجاهات الرجل المتوحش، ولكن ما يفتقده حقًّا هو منطق أبطالِه الأوروبيِّين المميت وصفاؤه.