مقابلة مع الروائي الكولومبي جابرييل جرسيه ماركيز
في ٢١ أكتوبر ١٩٨٢، منحَت الأكاديمية السويدية جائزةَ نوبل للآداب لعام ١٩٨٢ للكاتب الكولومبي جابرييل جرسيه ماركيز، وقالت في أسباب منْحها له إن ذلك «من أجل رواياته وقصصه القصيرة التي يجمع فيها بين العنصر الوهمي والواقعي، في عالم من الخيال المركَّب الثري الذي يعكس حياةَ قارة وصراعاتِها»، وقال أعضاء الأكاديمية إن رواياته تُذكرهم بأعمال فوكنر وبلزاك العظيمة.
وقد وُلد ماركيز في بلدة «أراكاتاكا» في شمال كولومبيا في مارس ١٩٢٨، ودرس الحقوق، وعَمِل كاتبًا ومراسلًا صحفيًّا في عدة صحف إقليمية قبل أن يتفرغ تمامًا للكتابة الروائية والقصصية، متنقلًا بين المكسيك وإسبانيا وفرنسا. ظهرت أولى قصصه القصيرة عام ١٩٥٥، ولكن شهرته لم تبدأ إلا مع روايته الشهيرة «مائة سنة من العزلة» عام ١٩٦٧. ومن مؤلفاته الأخرى: «الكولونيل لا يجد مَن يكاتبه» التي تُرجمت للعربية بعنوان «الخطاب المنتظر» (١٩٥٨)، «جنازة الأم العظيمة» (١٩٦٢)، «في ساعة نحس» (١٩٦٢)، «خريف البطريرك» (١٩٧٥)، «قصة موت معلن» (١٩٨١). وقد تُرجمت جُلُّ رواياته وبعض قصصه القصيرة إلى اللغة العربية، وهو قد مُنح الدكتوراه الفخرية من جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة.
– بدأتُ الكتابة صدفة، ربما لكي أُثبت لأحد أصدقائي أن بإمكان جيلي أن يُخرج أدباء، وبعد ذلك وقعتُ في فخ الاستمرار في الكتابة عن حب، ثم إلى درجة أن لم يَعُد هناك شيء أحب لديَّ في الدنيا من الكتابة.
– كلاهما حق. حينما كنت مبتدئًا ما أزال أستكشف مهنة الكتابة، كانت تمثِّل لي عملًا بهيجًا، يكاد يكون غير مسئول. أذكر في تلك المرحلة أنني بعد انتهاء عملي في الجريدة حوالي الساعة الثانية أو الثالثة فجرًا، كان بإمكاني أن أكتب أربع أو خمس، بل حتى عشر صفحات كاملة … وفي إحدى المرات، كتبتُ قصةً قصيرة في جلسة واحدة.
– الآن أعتبر نفسي محظوظًا إذا استطعتُ كتابة فقرة جيدة في يوم كامل. لقد تحوَّلَت الكتابةُ عندي مع مرور الوقت إلى عذاب.
– إن ما يحدث حقًّا هو أن الشعور بالمسئولية يزداد؛ إذ إن المرء يشعر أن كلَّ حرف يكتبه له أثرٌ أكبر الآن، إذ يؤثر على عدد أكبر من الناس.
– إنها تُزعجني. إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لإنسان غير مؤهل للنجاح الأدبي، في قارة غير مؤهلة لأن يكون لديها كُتَّاب ناجحون، هو أن تُباع كتُبُه كما تُباع الحلوى الرائجة. إنني أكره أن أتحوَّل إلى مشهد عام، إنني أكره التلفزيون والمؤتمرات والمحاضرات والموائد المستديرة.
– أيضًا كلَّا، إنني لا أتمنى النجاح لأحد، إذ يحدث للمرء حينئذٍ ما يحدث لمتسلِّقي الجبال الذين يجاهدون للوصول إلى القمة، وبعد ذلك، ماذا يفعلون؟ الهبوط، أو محاولة الهبوط بحذق، بأكبر قدر ممكن من الكرامة.
– أربعون سيجارة يوميًّا.
– الآن لا أدخن، ولا أعمل إلا نهارًا من التاسعة صباحًا حتى الثالثة بعد الظهر، في حجرة بلا ضوضاء وذات تدفئة جيدة، إن الأصوات والبرد يُزعجانِنِي.
– أجل، إن هذا أكثر الأشياء إيلامًا بالنسبة لي، بعد الخوف من الأماكن الضيقة، بَيْدَ أن هذا الألم انتهى بالنسبة لي بعد أن قرأتُ نصيحةً لهمنجواي، مفادها أنه ينبغي عدم التوقف في الكتابة إلا عند نقطة يعرف المرء عندها كيف يمضي قُدُمًا في اليوم التالي.
– أي صورة مرئية، أعتقد أن الكتاب، لدى غيري من المؤلفين يولد من فكرة، من مفهوم. أما أنا، فإني أنطلق دائمًا من صورة. لقد انبثقَت قصة «غفورة الثلاثاء» التي أعتبرها أفضل قصصي القصيرة، من رؤيا عن امرأة وطفلة تتشحان بالسواد وتُمسكان مظلة سوداء، تسيران تحت شمس لافحة في قرية مهجورة. ورواية «الأوراق الذابلة» من صورة شيخ يصحب حفيده إلى مأتم. أما نقطة الانطلاق في «الخطاب المنتظر» فهي صورة رجل ينتظر قاربًا في سوق قرية «بارانكيًا»، انتظار مع نوع من الهم الصامت. وبعد ذلك بسنوات وجدتُ نفسي في باريس أنتظر خطابًا، وربما حوالة مالية، بنفس اللهفة، وتوحدتُ مع ذكرى ذلك الرجل.
– شيخ يصطحب طفلًا ليرى الثلج الذي يُعرض كأعجوبة في السيرك.
– أجل.
– ليس مباشرةً، ولكنه مستلهَم منه. أذكر أنني عندما كنت طفلًا صغيرًا في «أراكاتاكا» حيث كنا نعيش، اصطحبني جدِّي لرؤيةِ جملٍ في السيرك، ومرة أخرى، حينما قلت له إنني لم أرَ الثلج أبدًا، اصطحبني إلى معسكر شركة الموز الأمريكية، وأمر بفتح صندوق الفاكهة المثلجة، جعلني أضع يدي فيه، وقد انبثقَت رواية «مائة سنة من العزلة» من هذه الصورة.
– «بعد ذلك بسنوات عدَّة، أمام كتيبة الإعدام، كان على الكولونيل «أورليانو بوينديا» أن يتذكَّر ذلك الأصيلَ القصِيَّ الذي اصطحبه فيه والدُه لاكتشاف الثلج.»
– لأن الجملة الأولى يمكن أن تكون المختبر الذي يعمل على تحديد عناصر كثيرة للأسلوب وللبناء الروائي، بل وحتى يُحدد مدى طول الكتاب.
– كتابتُها في حدِّ ذاتها، كلَّا، بل إنها عملية أقرب إلى أن تكون سريعة؛ فقد كتبتُ «مائة سنة من العزلة» في سنتين أو أقل، بيد أنني أمضيتُ أفكِّر فيها خمسة عشر أو ستة عشر عامًا قبل أن أجلس لكتابتها أمام الآلة الكاتبة.
– ثلاثون عامًا.
– حين وقعَت أحداثُ هذه الرواية، في عام ١٩٥١، لم تكن تُثير اهتمامي بوصفها مادة لرواية بل كريبورتاج صحفي، ولكن هذا النوع الصحفي لم يكن منتشرًا في كولومبيا في تلك الفترة، وكنت صحفيًّا في جريدة إقليمية لم تكن تعنيها هذه الحادثة، ثم بدأتُ أفكِّر في ذلك الحدث كحبكة أدبية بعد ذلك بسنوات عدة، ولكني كنت أحسب دائمًا حساب الثورة التي يمكن أن تُثيرَها في نفس أمي مجرد فكرة رؤية كل هؤلاء الأصدقاء، بل وبعض الأقارب، في كتاب ألَّفه أحد أولادها. ورغم ذلك، فإنني أعترف أن الموضوع لم يجتذبني بعمق إلا حين اكتشفتُ، بعد سنوات من التفكير، العنصرَ الجوهري في الحادثة: وهو أن كلا القاتلَين لم يكونَا راغبَين في ارتكاب الجريمة، وفعلًا كل ما في استطاعتهما كيما يمنعهما أحد، بيد أنهما لم يُفلحا في ذلك، وهذا في المحصلة الأخيرة هو الشيء الجديد الحقيقي في تلك الفاجعة الشائعة، باستثناء ذلك، في كل أمريكا اللاتينية.
– في الواقع، لم تُثِر اهتمامي أبدًا فكرةٌ لا تصمد أمام مرِّ السنوات وهي تختمر في رأسي، فإذا كانت الفكرة جيدة إلى درجة تصمد معها السنوات الخمسة عشرة التي انتظرَتها «مائة سنة من العزلة»، أو السنوات الستة عشرة التي مرَّت على رواية «خريف البطريرك»، أو السنوات الثلاثون التي اختمرَت فيها فكرة «وقائع موت معلن»، فلا يبقى أمامي مناصٌ من كتابتها.
– مطلقًا، عدا بعض نقاط العمل. لقد علَّمَتني التجربة أنه عندما يحتفظ المرء بملاحظات عن رواية يؤلِّفها، ينتهي به الأمر إلى التفكير في هذه الملاحظات وليس في الرواية.
– لقد تغيَّر عملي في هذا المقام كثيرًا، فحينما كنتُ في مقتبل العمر، كنت أكتب في انطلاق، وأنتهي من كتابة صفحات ثم أعود لتصحيحها. أما الآن فإنني أمضي مصححًا سطرًا بسطر أثناء الكتابة، بحيث إنه عند نهاية اليوم يكون عندي صفحة كاملة دونما تصحيحات أو شطب، تكاد تكون جاهزة للمطبعة.
– كمية هائلة. فمثلًا أبدأ في كتابة صفحة على الآلة الكاتبة …
– دائمًا. آلة كاتبة كهربائية. وحينما أُخطئ أو لا تُعجبني الكلمة المكتوبة، أو لمجرد وقوع خطأ مطبعي، فإنني أطرح الورقةَ كلَّها جانبًا، وأبدأ ورقة أخرى. ويمكن أحيانًا أن أستهلك خمسمائة ورقة كيما أكتب قصة من اثنتَي عشرة صفحة. وهذا يعني أنني لم أستطع أن أتغلَّب على الهاجس الذي يجعلني أُومِن أن خطأً مطبعيًّا يبدو لي خطأً في الإبداع.
– كلَّا، إنني على درجة من الوفاق معها إلى حدٍّ لا أستطيع معه إلا الكتابة عليها. وبصفة عامة أعتقد أن المرء يكتب أفضل حين تُتاح له وسائل راحة تامة. لا أُومِن بالأسطورة الرومانسية التي تقول إن على الكاتب أن يجرِّب الجوع والحرمان والبؤس كيما يُنتج. إن المرء يكتب أفضل حينما يأكل جيدًا، وحينما يكتب على آلة كاتبة كهربائية.
– لأن ما أكون بصدد كتابته يكون جزءًا من حياتي الخاصة. والحقيقة، أنني لا أتعاطف مع الأدباء الذين يقصُّون في مقابلاتهم الصحفية حبكاتِ كتابهم المقبل، فهذا دليل على أن الأمور لا تجري على هواهم، فيتعزُّون بأن يحلُّوا في الصحافة المشاكل التي لم يستطيعوا حلَّها في القصة.
– أجل، فإنني حين أكون بصدد كتابة شيء أتحدَّث كثيرًا عنه، فهذه طريقة لاكتشاف مواطن القوة والضعف فيه، طريقة ألجأ إليها لأسترشد الطريقَ في الظلمة.
– مطلقًا، إنني أتجنب ذلك إلى حدِّ التطير. إنني أُومِن أن المرء في مجال العمل الأدبي، يكون وحيدًا دائمًا، كما لو كان غريقًا في وسط البحر. أجل، إن الكتابة أكثر المهن عزلةً في العالم، فلا أحد بإمكانه مساعدة المرء في كتابة ما يكتب.
– جزيرة مهجورة في الصباح، ومدينة صاخبة في الليل. ففي الصباح أحتاج إلى الهدوء، وفي الليل إلى قليل من الشراب والأصدقاء المقرَّبين لتجاذُب أطراف الحديث. إنني أحسُّ دائمًا بالحاجة إلى التواصل مع الناس في الطرقات، وأن أكون مطَّلعًا باستمرار على الأحداث.
– بادئ ذي بدء، جدِّي؛ فقد كان يحكي لي أشدَّ الأشياء هولًا دون أيِّ انفعال، كما لو كانت أشياءَ رآها لتوِّه. واكتشفتُ أن هذه الطريقة الهادئة وذلك الثراء في التصوير هما أكثر ما يُسهم في إضفاء طابع الواقع على حكاياته. وقد استخدمتُ نفس طريقة جدِّي في كتابة «مائة سنة من العزلة».
– كلَّا، لقد جاء ذلك من «كافكا»، الذي يقصُّ الأشياء بنفس طريقة جدِّي. وحين قرأتُ في السابعة عشرة من عمري قصَّتَه «المسخ»، اكتشفتُ أنني سأُصبح كاتبًا، فحينما رأيتُ أن بالإمكان أن يستيقظ «جريجوري سامسا» من نومه ذات صباح ليجدَ نفسه وقد تحوَّل إلى خنفسة هائلة، قلت لنفسي: «لم أكن أعرف أنه يمكن كتابة مثل هذا، ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فالكتابة شيء يهمُّني.»
– ذلك أنني أدركتُ أنه يوجد في ميدان الأدب إمكانيات أخرى غير العقلانية الأكاديمية، التي كانت كلَّ ما أعرف آنذاك من كتب المدرسة. لقد كان الأمر كما لو أنني تخلصتُ من قيدٍ على حريتي، ورغم ذلك فقد اكتشفتُ بمر الزمن أنه ليس بإمكان المرء اختراع أو تخيُّل أي شيء يتوق إليه؛ لأنه يخاطر في هذه الحالة بكتابة أكاذيب، والأكاذيب أخطر في ميدان الأدب منها في ميدان الحياة، ففي نطاق الخيال والابتكار، هناك قوانين، وفي إمكان المرء أن ينزع عنه ورقة العقلانية، على شريطة ألَّا يقع في الفوضى، في اللاعقلانية التامة.
– أجل في الفانتازيا. إنني أُومِن بأن الخيال ما هو إلا أداة لكشف تفاصيل الحقيقة. بيدَ أن نَبْع الإبداع هو الواقع أولًا وأخيرًا أو الحقيقة. والفانتازيا، أو الاختراع الكامل التام، على طريقة «والت ديزني»، دون أيِّ سند من الواقع، هي أشد الأشياء مقتًا في الأدب. أذكر ذات مرة أنني اعتزمتُ تأليف كتاب لقصص الأطفال، وأرسلت إليك قصة «بحر الزمن المفقود» كمثال، وأنك ذكرت لي بصراحتك المعهودة أنها لم تُعجبك؛ ربما لأن الفانتازيا لا تنجح في نقل أي شيء إليك، ولكن تلك الحجة هدمت مشروعي؛ ذلك لأن الفانتازيا لا تُعجب الأطفال، وإنما ما يُبهرهم حقًّا هو الخيال، والفرق بين الاثنين هو الفرق بين الإنسان وبين الدمية الناطقة.
– همنجواي.
– أجل، بيدَ أنني أعتبره قصَّاصًا ممتازًا، وممتازة هي نصيحته بأن القصة ينبغي، مثلها مثل جبل الثلج في المحيط، أن تستندَ على الجزء غير المرئي من الجبل: في الدراسة، والتأمل، والمادة المجموعة وغير المستخدمة مباشرة في القصة. أجل، إن همنجواي يُعلِّم المرءَ كثيرًا من الأشياء، بما في ذلك معرفة الكيفية التي تدور بها القصة في أحد المنعطفات.
– أجل، لقد تعلمتُ من جرين كيف أفك رموزَ الأماكن المدارية وأسرارها، فمن أشق الأشياء على المرء الفصل بين العناصر الجوهرية من أجل الخروج بتركيبة شعرية في جوٍّ يعرفه أكثر من اللازم؛ لأنه في هذه الحالة يعرف كثيرًا إلى درجة لا يعرف معها أين يبدأ، ويكون لديه الكثير مما يقول حتى ينتهيَ به الأمر إلى عدم القدرة على قول شيء، وكانت هذه هي مشكلتي مع الأجواء المدارية. لقد قرأتُ باهتمام شديد خريستوف كولومبس وبيجافيتا، وغيرهما من مؤرِّخي جزر الهند الغربية، ممن لديهم رؤيا أصيلة، وقرأتُ سالجاري، وجوزيف كونراد، وغيرهما من الكتَّاب «المداريين» في أوائل هذا القرن ممن تحلَّوا بمقاليد الحداثة، وغيرهم كثيرين، وجدتُ أن هناك مسافةً كبيرة جدًّا تفصل بين رؤياهم وبين الحقيقة؛ فالبعض يقع في شرك تعداد الأشياء، والآخر في شرك البلاغة والخطابة. وقد حلَّ جراهام جرين هذه المشكلة الأدبية ببراعة، بعناصر قليلة متفرقة، ولكن يجمعها تماسكٌ ذاتيٌّ دقيق وواقعي، وبهذه الطريقة يمكن إخضاع لغز المدار كلِّه لعبير الثمار.
– أجل، لقد علَّمتني الصحافة طرقًا ووسائل لإضفاء الشرعية على قصصي. ومثال ذلك: قيام الأب «رينا» باحتساء فنجان من الشوكولاتة الساخنة قبل أن يرتفع عشرة سنتيمترات من على سطح الأرض في رواية «مائة سنة من العزلة»، فهذا من أثر التدقيق الصحفي، وهو نافع جدًّا في السرد الروائي.
– في حالتي، كانت السينما نعمةً ونقمة في آنٍ واحد. أجل، لقد علَّمتني أن أرى عن طريق الصور، بيد أنني أُدرك الآن أن هناك في جميع كتبي السابقة على «مائة سنة من العزلة» نهجًا غير متوازن من التشخيص المرئي للشخصيات والمشاهد، بل وحتى هوسًا بإيضاح وجهات النظر والأُطُر.
– أجل، إنها رواية يُماثل أسلوبُها السيناريو السينمائي. إن حركاتِ الشخصيات كانت وراءها كاميرا سينمائية، وحين أعود إلى قراءة الكتاب، أرى الكاميرا وراءه. واليوم أرى أن الحلول السينمائية تختلف عن الحلول الأدبية.
– ذلك لأن الحوار يبدو زائفًا في اللغة الإسبانية. لقد ذكرت دائمًا أن هناك فرقًا شاسعًا في تلك اللغة بين الحوار الشفوي والحوار المكتوب؛ فالحوار الجيد في الحياة الواقعية لا يلزم أن يكون جيدًا في الروايات؛ ولذلك فإني لا ألجأ إليه إلا قليلًا.
– بطريقة عامة فحسب؛ ففي سياق الكتابة، تقع أحداث غير متوقعة؛ فمثلًا كانت أول فكرة كوَّنتها عن شخصية الكولونيل «أورليانو بوينديا» في «مائة سنة من العزلة» ترسم شخصيةَ محاربٍ قديم في حروبنا الأهلية، مات وهو يبول تحت شجرة.
– أجل، كنت أعلم أنه ينبغي أن أجعله يموت يومًا ما، ولم أكن أجرؤ على ذلك. كان الكولونيل قد هَرِم بالفعل وهو مشغول بصنع أسماكه الذهبية، وقلت ذات أصيل «الآن أجل، قد انتهى بالفعل!» كان عليَّ أن أجعله يموت. وحين أنهيت ذلك الفصل صعدتُ وأنا أرتجف إلى الدور العلوي حيث كانت زوجتي، وأدركتْ هي ما حدث من مجرد النظر إلى وجهي، وقالت: «لقد مات الكولونيل.» أما أنا فقد رقدت في السرير، وطفقت أبكي ساعتين.
– إن الإلهام كلمة أفقدها الرومانسيون معناها. إنني لا أنظر إليه على أنه حالة من حالات التجلي ولا نسمة إلهية، بل على أنه توفيق مع الموضوع عن طريق العناد والسيادة عليه، حين يود المرء أن يكتب شيئًا، ينشأ نوعٌ من التوتر المتبادل بينه وبين الموضوع، بحيث يستحثُّه الموضوع في نفس الوقت، وثمة لحظة تنهار فيها كلُّ العوائق، وتبتعد فيها كلُّ الصراعات، وتقع للكاتب أحداثٌ لم يحلم بها، وحينئذٍ لا يكون هناك في الحياة أفضل من الكتابة، هذا هو ما أدعوه الإلهام.
– أجل، وحينئذٍ أعود لأنظر في كل شيء منذ البداية. إنها تلك الأوقات التي أدور فيها في البيت بأحد الأزاميل، أُصلح به الأقفال ودوائر الكهرباء، وأدهن الأبواب باللون الأخضر؛ ذلك أن العمل اليدوي يساعد أحيانًا على قهر الخوف من الحقيقة.
– إنه يكمن بصفة عامة في البناء.
– خطيرة إلى درجة تُرغمني على البدء من جديد. لقد أوقفت العمل في «خريف البطريرك» في المكسيك عام ١٩٦٢، بعد أن انتهيت من كتابة حوالي ٣٠٠ صفحة، ولم أُبقِ بعد ذلك على أي شيء منها سوى اسم البطل. وقد استأنفتُ كتابتَها في عام ١٩٦٨ في برشلونة، وعملتُ فيها كثيرًا خلال ستة أشهر، ثم أوقفتُ العمل فيها مرة ثانية لأن بعض جوانب القيم الأخلاقية للبطل لم تكن واضحةً تمامًا، وبعد ذلك بسنتين، اشتريت كتابًا عن الصيد في أفريقيا لأن المقدمة التي كانت قد كتبها همنجواي للكتاب أثارَت اهتمامي.
ولم تكن المقدمة بذات شأن، ولكني مضيتُ قُدُمًا أقرأ الفصل الخاص بالأفيال، وكان يكمن فيه حلُّ الرواية. لقد كانت بعضُ عادات الأفيال تفسِّر تمامًا القيم الأخلاقية للبطل.
– أجل، لقد مرَّ عليَّ وقتٌ اكتشفتُ فيه شيئًا خطيرًا؛ فقد عجزتُ عن إشاعة جو الحرارة في المدينة التي أَصِفها في روايتي. كان ذلك خطيرًا لأن الأمر كان يتناول مدينة من مدن البحر الكاريبي تسودها حرارة خانقة.
– الحل الوحيد الذي خطر لي هو السفر مع أسرتي بكاملها إلى الكاريبي، ذهبت أتنقَّل هناك حوالي سنة دون أن أفعل شيئًا، وحين عُدتُ إلى برشلونة حيث كنت أكتب الرواية، زرعت بعض النباتات، وأشعتُ بعضَ الروائح، ونجحت أخيرًا في أن أجعل القارئ يحس بحرارة المدينة، ثم انتهيتُ من الرواية دون مزيد من العثرات.
– أفقد اهتمامي به كليةً، وكما قال همنجواي، إنه يكون حينذاك كالأسد الميت.
– أجل، إني أُومِن أن الرواية تصوير رمزي للحياة، نوع من النبوءة، والواقع الذي تُعالجه الرواية يختلف عن الواقع في الحياة، رغم أنه يستند إليه، كما يحدث في الأحلام.
– هذا صحيح؛ لأن عقلانيتهم تمنعهم من فهم أن الواقعية لا تكمن في أسعار الطماطم أو البيض. إن الحياة اليومية في أمريكا اللاتينية تُرينا أن الواقع مليءٌ بالأشياء الخارقة للعادة، ومن عادتي في هذا المقام أن أُشيرَ إلى المكتشف الأمريكي «دي جراف»، الذي قام في أواخر القرن الماضي برحلة عجيبة في عالم الأمازون، رأى أثناءها مرةً نهرًا تغلي مياهه، ومكانًا يؤدي صوتُ الإنسان فيه إلى سقوط أمطار غزيرة. وقد حدث مرة في الطرف الجنوبي الأقصى من الأرجنتين، أن أطارت الرياح القطبية سيركًا بحاله في الهواء، وفي اليوم التالي كان الصيادون في تلك المنطقة يستخرجون بشباكهم جثثًا للنمور والأسود! وفي قصتي القصيرة «جنازة الأم العظيمة»، أحكي قصة رحلة مستحيلة للبابا إلى ضيعة في كولومبيا، وأذكر أنني تعمَّدتُ أن أَصِف رئيس الجمهورية الذي استقبل البابا على أنه أصلع ورَبْع القامة حتى يكون مختلفًا تمامًا عن رئيس كولومبيا في ذلك الوقت وكان نحيلًا طويلًا. وبعد مرور إحدى عشرة سنة على القصة، ذهب البابا إلى كولومبيا، وكان رئيس الجمهورية الذي استقبله رَبْع القامة كما في القصة! ويكفي الاطلاع على الصحف لإثبات أن ثمة أحداثًا خارقة للعادة تقع بيننا كل يوم، وإني أعرف أناسًا ريفيِّين بسطاء قرءوا «مائة سنة من العزلة» بسرورٍ وتفهُّمٍ عظيمَين، دون أيِّ استغراب من أحداثها؛ لأنني لا أقصُّ فيها أيَّ شيء غريب عن الحياة التي يعيشونها بالفعل.
– لا يوجد في روايتي سطرٌ واحد لا يستند إلى واقع.
– كل ذلك له أصلٌ في الواقع.
– مثلًا: «ماوريسيو بابيلونيا» في بلدة «أركاتاكا»، حين كان لديَّ من العمر خمس سنوات، حضر إلى منزلنا مرة كهربائي لتغيير العداد، إنني أذكره كما لو كان بالأمس؛ لأن طريقته في ربط نفسه إلى العواميد حتى لا يقعَ بهرَتني. وقد عاد إلى منزلنا مرات عديدة. وفي مرة من هذه المرات، وجدتُ جدَّتي تهش فراشة بقطعة من القماش، وهي تقول: «دائمًا حين يأتي هذا الرجل إلى البيت، تأتي معه هذه الفراشة الصفراء.» وكان ذلك نواة تلك الشخصية.
– «أوديب ملكًا»، و«أماديس الغالي» و«لا ثاريو دي تورمس» و«يوميات الطاعون» لدانييل ديفو، و«أول رحلة إلى الأرض» لبيجافتا.
– جوزيف كونراد وسانت إكسبري.
– لا أحتفظ بشيء منه، غير أنني ما زلتُ أُومِن أن أفضلَ روايةٍ كُتبت قاطبةً هي روايته «الحرب والسلام».
– لقد حاولتُ في الواقع ألَّا أبدوَ أيَّ أحد. وبدلًا من أن أُقلد، أحاول دائمًا أن أتفادى الكتَّاب الذين أُحبُّهم أكثر.
– إن النقاد يُحدِّدون المؤثرات بطريقة لا أفهمها، وفي حالة فوكنر، أعتقد أن التشابه هو في الأماكن الجغرافية عنه في الطرق الأدبية. لقد اكتشفتُ فوكنر بعد مدة طويلة من كتابة أولى رواياتي، حين كنت أرتحل عبر جنوب الولايات المتحدة، إن ما رأيتُ من القرى الحارقة المفعمة بالأتربة، والناس اليائسين، يُشبه المناظر التي أرسمها في قصصي.
– ما كنت لأصبح الكاتب الذي أنا عليه الآن لو لم أقرأ منذ عشرين سنة عبارةً في رواية فرجينيا وولف «مسز دالوي»، حوَّلت تمامًا شعوري وفكري عن الزمن.
– آرثر رامبو، وفرانز كافكا، وشعراء القرن الذهبي الإسبان، ثم موسيقى الحجرة من شومان إلى بيلا بارتوك.
– بالطبع، نيرودا، الذي أعتبره أعظمَ شاعر في القرن العشرين وفي كل اللغات.