توني موريسون ورواية «الفردوس»
صدرت مؤخرًا (فبراير ١٩٩٨)، عن دار «ألفريد نوب» بنيويورك رواية جديدة للكاتبة الأمريكية توني موريسون بعنوان «الفردوس»، وهي أول رواية تكتبها بعد حصولها على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩٣. والخطوط العامة للرواية الجديدة تدور في نفس النهج العريضة للموضوعات التي تتناولها الكاتبة في رواياتها السابقة، خاصة روايتها «محبوبة»: فقدان البراءة، وافتئات ذكريات الماضي على الحاضر، وعدم القدرة على تحمُّل الخسارة والتغيير والألم. كذلك، تدور الرواية حول موضوعات ومشاكل السود الأمريكيِّين التي تنتمي موريسون إليهم. والفردوس هو اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة التي يحلم الفلاسفة والكُتَّاب بإقامتها على الأرض. ومدينتها الفاضلة هي بلدة صغيرة تسمى «روبي» في ولاية أوكلاهوما، كل سكانها من السود، أسَّسها في أواخر القرن التاسع عشر مجموعةٌ من العبيد الذين حصلوا على حريتهم بعد الحرب الأهلية الأمريكية. وفي أوائل الستينات من القرن العشرين، نرى «روبي» لا تزال تلك البلدة النموذجية مكتفية بذاتها، تسير الأحداث فيها بهدوء وسلاسة. هي تبدو من كل ناحية فردوسًا حقيقيًّا، فالجريمة فيها منعدمة، ولا حاجة بها إلى وجود الشرطة. وليس هناك محلٌّ للجوع، فإذا نزل بمحصول أحدهم الخراب، أو حلَّت به ضائقة مالية، تكاتف الجيران لإغاثته، والثمن الذي تعيَّن على السكان أن يدفعوه لحياتهم في ذلك الفردوس الأرضي هو العزلة التامة. فالبلدة كانت تبعد كثيرًا عن أي عمار، ولم تكن ترحِّب بالغرباء، فليس فيها فنادق أو مطاعم، ولا دور للسينما أو مستشفيات، كانت «روبي» وسكانها يقومون في حالة من الكمال السحري الذي يُنذر بالانقضاء في أي لحظة.
ومع بداية أحداث الرواية، نجد أن سياسة البلدة في الانعزال والاكتفاء الذاتي قد وصل بها إلى القلق والوهن، ويبدأ الشباب في التشكيك في السياسة التي يتبعها الآباء والأجداد ويتصدَّون لمحاربتها؛ إذ يرون أنها سياسة بالية وتستوجب التغيير. وهناك قَسُّ الأبرشية الذي يحاول إقناع كبار السن من السكان بعراقة انتسابهم لقارة أفريقيا، فيردون عليه بأن العبودية هي ماضيهم، ولا يمكن ولا حتى لأفريقيا أن تُغيِّر من هذا الواقع.
وتَبْرع الكاتبة في تصوير شخصياتها من سكان البلدة، ومنهم التوءمان ديكون وستيوارد، عميدَا عائلة مورجان. فستيوارد يمثِّل مصير البلدة كلها في تطلعاتها اليوتوبية؛ فكلما ربح شيئًا ماديًّا خسر مقابله شيئًا معنويًّا. أما ديكون فهو أقل هامشية وتكبرًا من ستيوارد، وهو رمز لإمكانية عودة الحيوية لهذا المجتمع. وتتعقد أحداث الرواية بالعبور فوق قصة «روبي» وسكانها إلى المكان الوحيد الذي يبعد أميالًا قليلة عن البلدة، وهو مبنًى مهجورٌ كان قديمًا ديرًا من الأديرة لهداية وإرشاد الفتيات من السكان الهنود الأصليين، وتسكنه الآن مجموعةٌ من النساء اللاتي يجمعهن الضياعُ والتشرد، بمن فيهن بعض النسوة ممن لفظَتهن «روبي» حين خرجن على النظام المتعارف عليه فيها. وترسم القصة شخصياتٍ عديدةً في هذا القطاع أيضًا، منها كونسولاتا العجوز، ومافيز الشابة التائهة التي قضَت على طفلَيها دون قصد حين تركَتهما في سيارة مغلقة حتى اختنقا، وغيرهما من الشخصيات المأساوية التي تحمل كلُّ واحدة منها جروحًا من نوع ما. ويمثل هذا الدير المهجور وسكانه مقابلًا مضادًّا لبلدة «روبي» المنظمة وسكانها المتنعمين، لا سيما وأنه يفتح أبوابه لكلِّ مَن تخذلها الحياة المثالية التي تصورها «روبي». وهكذا أصبح الدير يمثِّل للتقليديِّين من سكان البلدة كلَّ ما هو غريب ومخيف: الفوضى والضياع والانفلات. ويزيد الطين بلة أن قاطني الدير من النساء فحسب. ولهذا، لم يجد قادة مجتمع «روبي» المحافظون مخرجًا من الثورة المكبوتة التي تضطرم في صدر الشباب إلا بصبِّ جامِ غضبهم على نسوة الديرن. وكان لا بد أن تحدث مواجهةٌ بين رجال «روبي» وهؤلاء النسوة، ولكنها كانت مواجهةً عنيفة، انتهَت نهايةً فاجعة بالقضاء عليهن.
وكما ذكر الناقد الأمريكي بروك ألن في مراجعته للرواية، التي اعتمدتُ عليها في جانب من هذه العجالة: «إن الفردوس، مثلها في ذلك مثل روايات موريسون الأخرى، ليست بالرواية السهلة القراءة، فهي كثيفة وغامضة، وهي تتطلب من قارئها تركيزًا وتمحيصًا، ولكنها تُكافئه على الجهد الذي يبذله. إنها عمل طموح، يُثير القلق، وهو برهان على أن توني موريسون لا تزال تتغير وتنضج في اتجاهات جديدة تُثير الدهشة.»
وتوني موريسون من مواليد ١٩٣٢، درست في جامعة هوارد حيث حصلت على الليسانس في الآداب، ثم حصلت على درجة الماجستير من جامعة كورنيل عن موضوع الانتحار في أعمال فرجينيا وولف ووليام فوكنر. وبعد أن عملت بالتدريس زمنًا في جامعة هوارد، مارسَت عملية التحرير في دار راندوم هاوس للنشر حيث شجعت على نشر العديد من مؤلفات الكاتبات السود، ومنهن أنجيلا ديفيز. وتعمل موريسون منذ عام ١٩٨٩ أستاذة في جامعة برنستون الشهيرة في نيوجرسي.
وقد برزَت توني موريسون على الساحة الأدبية بصدور روايتها الأولى المعنونة «العين الأشد زرقة» عام ١٩٦٩، عن فتاة سوداء لا تستطيع التكيُّف مع ثقافة البيض، وينتهي بها الأمر إلى كراهية الحياة كلها، ثم تلا ذلك روايتها «سولا» عام ١٩٧٤، عن امرأتين من السود وموقفهما المختلف تجاه مشكلة العنصرية، ولكن موريسون تقول إنها لم تعترف بنفسها ككاتبة إلا بصدور روايتها «نشيد سليمان» عام ١٩٧٧، التي تحكي رحلة الإنسان الشاقة المعذبة في سبيل التعرف على الذات وعلى حقيقة المجتمع وسر الحياة. وفي عام ١٩٨١، تصدر روايتها «طفل القار» التي تقع أحداثها في إحدى جزر الكاريبي، ولكنها أيضًا تسبر غور التوترات الطبقية والعِرقية، وتفوز روايتها التالية «محبوبة» عام ١٩٧٨ بالجائزة القومية الأمريكية بوليتزر، ثم تأتي رواية «جاز» عام ١٩٩٢ لتُصوِّر إيقاعات حي الزنوج في هارلم في العشرينيات، وجو العنف الذي يسوده. ومن تاريخ صدور هذه الروايات، نرى أن ثمة فاصلًا زمنيًّا متوسطُه أربعُ سنوات بين رواية وأخرى، مما يُستدل معه على مدى التأني الذي تدرس به المؤلفة أفكارَ قصصها وشخصياتها، قبل أن تشرع في كتابتها حين تكتمل لديها الصورة التي تريد التعبير عنها في رواية جديدة. وتذكر موريسون أن فكرة «الفردوس» قد جاءتها فور صدور روايتها السابقة «جاز»، وقبل عام من حصولها على جائزة نوبل للآداب، وهذا ما مكَّنها من المضيِّ قُدُمًا فيها وسط طوفان الشهرة والاحتفالات التي تلَت حصولها على الجائزة.
وقد تحدَّثت في خطاب ستوكهولم عن قيمة الكتابة وقوة اللغة في صياغة الضمير الإنساني، مما دعا سامعيها إلى المقارنة بين كلمتها والكلمة التي ألقاها وليام فوكنر عام ١٩٦٢. وليس هذا هو وجه الشبه الوحيد بين موريسون وفوكنر؛ ذلك أنها تفخر دائمًا بأنها أول الأمريكيِّين مولدًا يحصل على الجائزة منذ حصول فوكنر عليها؛ إذ إن الأمريكيِّين الأربعة الذين حصلوا عليها في أثناء تلك الفترة هم ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة من بلدان أخرى، وهم سول بيلو وإسحاق سنجر وتشيسلاف ميلوش وجوزيف برودسكي.