كمال عبد الجواد، اللامنتمي
(ثلاثية نجيب محفوظ)
«… إنه من المستحسن دائمًا أن يتأمَّل الإنسان ما يراود نفسه من أحلام، على ذلك
فالتصوف هروب، كما أن الإيمان السلبي بالعلم هروب، وإذن فلا بد من عمل، ولا بد للعمل
من
إيمان، والمسألة هي كيف نخلق لأنفسنا إيمانًا جديدًا بالحياة؟»
١
هذه الرغبة في إيجاد هدف يربط الإنسان نفسه إليه ويسعى إلى تحقيقه، هي ما يعطي للحياة
شكلًا ومعنًى، وهي كل ما يسعى إليه مَن وجد نفسه في الموقف الذي يقف فيه كلُّ لا منتمٍ،
واللاانتماء ليس مذهبًا من المذاهب الموضوعة كالوجودية أو الرومانسية مثلًا، فليست هناك
قوانينُ تُحدده وتعرِّفه، إنما هو سلوك ينتهجه المرء نتيجةً لتجارب مرَّ بها، أو
لمشكلات عانى منها، فهذه التجارب وهذه المشكلات تصوغ اتجاهَه وموقفه صياغةً جديدة،
وتكشف عن اتجاهات أخرى، يجد نفسه فيها مدفوعًا إلى انتهاج مسلك معين في حياته، وعلى
ذلك، فاللامنتمي لا يُولد لا منتميًا، بل تدفعه ظروفٌ ومحيطُ حياته الذي يعيش فيه إلى
أن يتأمل داخل نفسه وفي طبيعة الأشياء التي تحوطه، حتى ينتهيَ إلى هذا الموقف الذي
يتخذه تجاه الحياة عامة. وليس هناك من سبب واحد، ولا حتى سبب رئيسي، يكون هو المسئول
عن
اندفاع أي امرئ في هذا التيار، إنما هي عدة عوامل مختلفة تتجمع في سبيل ذلك، معقدةً
تعقيد النفس التي تصادفها، وعميقةً عمْقَها، فإذا ذكرنا هنا عدة أسباب من هذه العوامل،
أو تناولنا شخصيةَ اللامنتمي من عدة جوانب مختلفة، فإن ذلك لا يعني أن هذه هي كلُّ
الأسباب والجوانب.
فهناك كما ذكرنا هذه الحاجة الطبيعية التي يشعر كلُّ فردٍ حيٍّ بضرورة وجودها، وهي
أن
يجد شيئًا يرتبط به، وهذه الرغبة تلتمس فعاليَّتَها وقوَّتَها من وجود الإنسان في حياة
لا يدري كنهَها، ولا يعرف سببًا لوجوده فيها، وفي هذه اللاشيئية المميتة، تنزع النفس
إلى إيجاد علة لذلك الخلق، فيهَبُ الفردُ نفسَه إلى شيء ما يُكرِّس وجوده من أجله،
ويربط نفسه به برباط قوي مشدود، ويجد فيه حياته والسبب الذي خُلق من أجله، وهو يشعر في
هذه الحالة بوجود قوانين تحكم الحياة والناس، فيخضع لها ويكيِّف سلوكه تمشيًا معها،
ويصبح منتميًا متفقًا مع البيئة التي يعيش فيها، وهذا الشيء الذي ينتسب إليه الإنسان
ليس محددًا مقصورًا، بل قد يكون أي شيء؛ فقد يكون العمل، وقد يكون مبدأ من المبادئ أو
فكرة من الأفكار، إلى ما شابه ذلك من الأشياء.
لكن ذلك الاتفاق لا يحدث على الدوام؛ فقد لا يجد المرء ما ينتسب إليه منذ البداية،
أو
قد يفقد «شعوره بالانتماء» إلى شيء ما، وهنا تكون نقطةُ التحول المركزية التي تطوح
بشعور الاستقرار الذي يحسه الفرد العادي، ويدخل في مرحلة صراع؛ إما داخلي مع نفسه وإما
خارجي مع المجتمع، ويتخذ الصراع الداخلي شكلًا هادئًا مترسبًا في النفس، وهو ما يحدث
في
حالة كمال عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، أما الصراع الخارجي فله شكل ثائر، يتمثل
في
الخروج على القانون أو إثارة الشغب. وقد عبَّر «يوجين أونيل»
٢ عن هذه الحالة أوضح التعبير في مسرحيته «القرد الكثيف الشعر»
The Hairy Ape، حين صَوَّر عاملًا من عمال تشغيل
السفن، سعيدًا بعمله الذي يحبه، حتى يُخرجه عن هذا الشعور تعليقٌ قالَته ابنةُ صاحب
السفينة التي يعمل عليها، فيحتقر عمله من جرَّاء ذلك، ويفقد شعورَه بالانتماء، ويبدأ
في
مواجهة سلسلة من المتاعب لمحاولته التهجمَ على الناس، ثم يحاول ربطَ نفسه بإحدى
الجماعات فيفشل في ذلك، وفي كل شيء يحاول أن يشدَّ نفسه إليه، وينتهي الأمر بأن تقتلَه
إحدى الغوريلات الضخمة، حين يحاول أن يُنشئَ صداقةً معها، كآخر شيء يأمل في الانتساب
إليه، بحكم الأصل الواحد الذي قال «داروين» به.
وهذه الظاهرة — ظاهرة الانتساب إلى شيء — هي من أهم العوامل التي حددت شخصية كمال،
وهي ترتبط عنده بظاهرة أخرى، هي فقدان الإيمان بمُثُل كان يقدِّرها حقَّ قدرها، فكانت
أول صدمة يتلقاها فيما يتصل بذلك، ما حدث له حين اكتشف في مطلع حياته أن مسجد الحسين
لا
يحوي جسد ابن الخليفة علي، على مثل ما كان يعتقد سابقًا، وتركه ذلك الاكتشافُ في خلاءٍ
روحي وألمٍ عميق، غير أن تلك الحادثة لم تكن سوى إرهاصًا بما سوف يُصادفه بعد ذلك، حين
ربط نفسَه بحب عايدة شدَّاد.
والحديث عن علاقة كمال بعايدة، يستلزم عنايةً أكبر في معالجته، وأُحبُّ أن أنفيَ
منذ
البداية فكرةً لا بد وأن تجولَ في ذهنِ كلِّ مَن يقرأ الرواية، وهي أن هذا الحب إن هو
إلا حبٌّ رومانسي، من الذي نمرُّ به في فترة صبانا، والذي سرعان ما يخبو غير مخلِّف
وراءه شيئًا. فبالتأمل فيه ومتابعة آثاره التي نجمَت عنه، يتبين خطلُ هذه الفكرة، وكمال
نفسه يقول بعد ذلك، وقد حفرَت تجربتُه آثارَها الهائلة في روحه: «واحذر أن تسخر من
أحلام الشباب، فما السخرية منها إلا عارضٌ من أعراض مرض الشيخوخة، يدعوه المرضى بالحكمة.»
٣ فحبُّ كمال كان السببَ المباشر الذي رمى به في شعوره بالغربة عن العالم وعن
الحياة، وكان المثل الذي آمن به فأودى في النهاية إلى أن أصبح كافرًا بكل المُثُل
الموجودة والتي لم توجد، وكان دينَه الذي انتهى به إلى الإلحاد. فحبٌّ كهذا الحب لم يكن
عاديًّا مألوفًا كالذي نشاهده أو نسمع به، بل كان وجودًا بأكمله وحياة قائمة بذاتها،
فبغير هذا الحب لم يكن كمال يشعر بأن له وجودًا أو كيانًا، فإذا انمحى هذا الحبُّ فقدَ
إحساسه بالوجود، وهو ما يحدث بالفعل، ويذكِّرنا ذلك بعطيل شكسبير، حين يقول عن حبِّه
لديزدمونة:
إني أحبك حتى لو هلكَت روحي
فإذا ضاع هذا الحب يومًا
عاد الفراغ والسديم ثانيةً إلى حياتي
٤
ويتأكد لدينا هذا المعنى حين نتأمل قليلًا مظاهرَ هذا الحب في تفاصيله الدقيقة؛
فعايدة هي التي أضاءَت حياة كمال، وفتحَت روحه على آفاق لا تُحد، وقد قال لها مرة في
حديث له معها، حين كاشفها بشعوره نحوها، وهما سائران في طريق العباسية، بعد مرور مدة
لم
يَرَها فيها: «أقنعتني هذه التجربة القاسية بأنه إذا كان مقدورًا عليَّ أن تختفيَ من
حياتي، فمن الحكمة أن أبحثَ لي عن حياة أخرى.»
٥ وهي كانت، أولًا وأخيرًا، «معبودته»، وقال بعد فراقه عنها: «ولكن أين يمضي
الشعور الباهر الرائع الذي نَوَّر قلبه أربعة أعوام؟! لم يكن وهمًا ولا صدى لوهم، إنه
حياةُ الحياة، ولئن تُسيطر الظروف على هذا الجسد، فأي قوة تستطيع أن تتطاول على الروح،
وهكذا لَتبقَينَّ المعبودة معبودته، والحب عذابه وملاذه، والحيرة ملهاته، حتى يقف أمام
الخالق يومًا، يُسَائِله عما حيَّره من معضلات الأمور.»
٦
وكانت عايدة المثال الذي أقامه في نفسه للجمال والكمال، حتى إنه لم يصدق أنها بشرٌ
تَسري عليها القوانين الطبيعية؛ كالحب والزواج والولادة:
«وا قلباه! أيليق هذا العبث بالمعالي؟! أيحسب الشرير أن المعبودة تحبل وتتوحم، وتنداح
بطنها وتتكور، ثم يَجِيئها المخاض فتلد!»
٧
ثم يقول في حفل زفافها إلى حسن سليم: «إن المعبودة نفسها نزلت من علياء السماء
لتقترنَ بواحد من البشر، ليتفتت قلبك حتى يُعجزك لَمُّ أجزائه المتناثرة.»
٨ وكان الحب في حياته، حتى إنه كان يؤرخ كلَّ شيء به، فكان يقول إن هذا حدث
ق. ح. أو ب. ح. أي قبل الحب أو بعد الحب.
وقد أدى هذا الحب، الذي دعَّم به كمال حياتَه ووجد فيه كيانه، إلى جعله منتميًا
مثاليًّا، فنجده متفقًا مع بيئته التي يحيا فيها تمام الاتفاق؛ فهو متحمس أبدًا لمبادئه
السياسية، ولآمال رفاقه من أبناء الشعب لنصرة قضية بلاده، ونشعر — نحن القراء — بحرارة
إيمانه بذلك، على عكس ما يحدث منه في «السكرية»، فهو يناقش ويحضر الاجتماعات، ولكنَّا
نستبطن أنها مجردُ مشاركة سلبية، ليست لها الحرارة التي كان يَنفُثها فيها كمال سابقًا،
وهو مؤمن بالقوانين الوضعية والسماوية، مؤمن بدينه إيمانًا لا حدَّ له، حتى إنه يأبى
أن
يشرب البيرة أو يأكل لحم الخنزير، حتى لو كان مَن يقدمهما إليه عايدة شدَّاد نفسها، وهو
لا يرضى أن يرافق صديقه فؤاد الحمزاوي، لمقابلة قمر ونرجس صديقتَيهما القديمتَين، ويرجع
ذلك السلوك إلى أسس دينية ومثالية. وهو بلا شك سعيد بهذا الانتماء وهذا التوافق، بغض
النظر عن أنه يحب حبًّا من طرف واحد، أو بدون نتيجة تُرجى.
ولكن هذا الانتماء لم يكن مقدَّرًا له أن يدوم؛ فكما خَيَّب ضريحُ الحسين أملَه،
خيَّبَته عايدة شداد كذلك، فأفاق يومًا على زواجها من حسن سليم صديق الجماعة، ومع أنه
لم يطمع يومًا في الزواج منها، فإن ذلك لا يمنع أنها قد فارقَته فعلًا ولم يَعُد يراها،
وليس له أن يفكر في حبِّه لها بعد ذلك، أما التأثير الذي جاء به غياب عايدة في نفس كمال
فلم يحدث بغتةً بين يوم وليلة، بل بدا ألمًا هائلًا اجتاح روحَه وظل يترسَّب في قاعها،
ثم انسحب على حياتِه كلِّها بعد ذلك. انظر إلى مدار أفكاره حال سماعه خبرَ خطبة عايدة:
«وراح يستجدي نفسه أقصى ما لديها من قوة، ليسترَ جرحه الدامي عن العيون اليواقظ،
وليتفادى مواضع الهُزْء والزراية، تجلَّدي يا نفسي، وأنا أعدُكِ بأن نعود إلى هذا كلِّه
فيما بعد، بأن نتألم معًا حتى نهلك، وبأن نفكر في كل شيء حتى نُجَن، ما أمتع هذا الموعد
في هدأة الليل حيث لا عين ترى ولا أذن تسمع، حيث يباح الألم والهذيان والدمع دون زراية
زارٍ أو لومة لائم، وثمة البئر القديمة أُزيحُ عن فوهتها الغطاء، وأَصرخُ فيها مخاطبًا
الشياطين، ومناجيًا الدموعَ المتجمعة في جوف الأرض من أعين المحزونين، لا تستسلم، حذار؛
فالدنيا تبدو لناظرَيك حمراء كعين الجحيم.»
٩ ذلك كان الأثر المباشر، الحزن والذهول الذي يُغرِق الحواس، ثم يجيء وَعْيه
بموقفه الحالي بعدما حدث، بعد زوال أو ابتعاد مَن كان ينتمي إليهم، وهو بدايةُ تضعضع
حياته الهادئة، حياته كمنتمٍ، ونهاية لها: «عايدة وحسين في أوروبا! إنسان يفقد في ساعة
واحدة حبيبته وصديقه، تفتقد روحُك معبودها فلا تجده، ويفتقد عقلُك أليفَه فلا يجده، وفي
الحي العتيق تعيش وحيدًا مهجورًا، كأنك صدى حنين هائم منذ أجيال، تأمل الآلام التي
ترصدك، آنَ لك أن تحصد ثمار ما زرعتَ من أحلام في قلبك الغِر، توسَّل إلى الله أن يجعل
الدموع دواءً للأحزان، وعلِّق إن استطعتَ جسمَك بحبل المشانق، أو ضَعْه على رأس قوة
مدمرة تنقَضُّ بها على العدو، غدًا تلقَى روحك خلاء، كما لقيتَ بالأمس ضريح الحسين …
يا
خيبة الآمال!»
١٠
وينهار الصنم الذي أقامه في قلبه لمعبودته بعد زواجها، وقد وضعه هذا الزواجُ أمام
الحقائق التي كان يتجاهلها؛ فعايدة بشرٌ عاديٌّ تخضع للشوق والحب والزواج والولادة
وسائر القوانين التي تسري على غيرها، ويزيد في ذلك، ما قاله له صديقه إسماعيل لطيف، من
أن عايدة قد استغلَّت حبَّ كمال لها للإسراع في الظفر بحسن سليم زوجًا لها، فهبط الصنم
من علياء سمائه، وتمرَّغ في الوحل «بعد حياة عريضة فوق السحاب». وانتهى الأمر بكمال إلى
القول: «لم أَعُد من سكان هذا الكوكب، غريبٌ أنا وينبغي أن أحيا حياة الغرباء.»
١١ وبات يتحدث عن العالم الفاني، وآماله الخاوية، وأحلامه الطائشة.
ومنحَه الألمُ العميق الذي جلبَته عليه تجربتُه الغريبة في حب عايدة، إنعامًا للنظر
في الأمور لا يتأتى للشخص العادي، وانعكس تفكيرُه في حبِّه على تفكيره في كل الأشياء،
ولكن الأثر الرئيسي، الذي عاد عليه من تحطُّم حبِّه بعد زواج عايدة، هو فقدانه الإيمان
بالحب، وهو ما كان يعتقده من أسمى المُثل والقيم في الحياة، ففقد إيمانه بالحياة تبعًا
لذلك، وصار يتناول كلَّ ما يعنُّ له من الأفكار بالبحث والتحليل، والتهبَ فؤادُه بالشك
في كل شيء، فصار المؤمن القديم، الذي ما كان يرضى لأحد أن يتعرض للدين بشيء، مُلحِدًا
ناكرًا للدين، ولا عجب في ذلك؛ ألم تكن عايدة هي دينه؟! وانعكس ذلك على بقية سلوكه،
فشرب الخمر، وهو الذي لم يرضَ أن يتذوق البيرة سابقًا، وغشيَ دور الدعارة مع ياسين،
أخيه الأكبر، بعد أن عافَت نفسه قبل ذلك ما كان يفعله مع قمر ونرجس.
ولكن هذه الأشياء — الخمر والنساء — تخذله كما خذلَته عايدة من قبل، ولا يجد فيها
أيَّ حقيقة يمكن أن تُريحَه في هذا الكون الزائف: «أين ذهبَت نشوة الخمر الساحرة؟ وما
هذا الكرب الخانق الذي حلَّ محلَّها؟ ما أشبهه بخيبة الحب التي ورثَت أحلامَه السماوية»
١٢ ويتلفت حوله في حيرة بالغة باحثًا عن الطريق، عن الحقيقة، وهي الحيرة الحقة
التي يتسم بها كلُّ لا منتمٍ أصيل.
تكشَّفت له جميعُ الأشياء عن وهمٍ كبيرٍ؛ مسجد الحسين، حبه العظيم، الدين، الخمر،
الجنس، فلم يجد في أيٍّ من هؤلاء تفسيرًا للذي ينشده، حتى أبوه الذي ظهر له قبل ذلك
عظيمًا قويًّا جبارًا، تكشَّف له في آخر الأمر عن رجل عادي، غارق لأذنَيه في الخمر
والمرح، مع العوالم والراقصات: «هذه القوة الجبارة التي يخافها كل الخوف، يخافها ويحبها
معًا، ما كنهها؟ ليس إلا رجلًا، لولا مرحه الذي خص به الغرباء لم يكن شيئًا، فكيف
يخافه؟ وحتى متى يُذعن لقوة هذا الخوف؟ إنه وهمٌ كسائر الأوهام التي امتُحن بها»
١٣ ويعصف به الفكر، حتى إنه يردد: «تأمل هذه العجائب، أنت وياسين تتشاربان!
أبوك شيخ ماجن! هل ثمة حقيقي وغير حقيقي؟! ما علاقة الواقع بما في رءوسنا؟ ما قيمة
التاريخ؟ ما العلاقة بين عايدة المعبودة وعايدة الحُبلى؟ أنا نفسي أنا، لماذا تألمتُ
ذلك الألم الوحشي الذي لم أبرأ منه بعد؟ اضحك حتى تنفق.»
١٤ ويُذكرنا قوله عن علاقة الواقع بما في رءوسنا، بما قاله أمير المترددين في
مسرحيته شكسبير:
ليس هناك شيءٌ طيب وشيءٌ سيِّئ
ولكن تفكيرنا هو الذي يجعله كذلك
هكذا تكاتفَت كلُّ هذه العوامل تدريجيًّا، حتى انتهى بها الأمر إلى التبلور في نفسية
كمال، ويتبلور تبعًا لها الموقف الذي اتخذه تجاه الحياة. ويظهر لنا ذلك التبلور في
الفصل الأربعين من «قصر الشوق»، الذي أعتبرُه قمةً للتحول، وبداية لحياة كمال الجديدة
كلا مُنتمٍ، كغريب عن الحياة وعن البيئة وعن كل شيء، وجميع الذين كتبوا عن اللاانتماء
أو اللامنتمين يذكرون لحظاتٍ كهذه التي مرَّت في هذا الفصل — ويسمونها لحظات الإدراك
—
حين يقف المرء وحيدًا وقد اكتملَت في نفسه إدراكُ حقيقتها الفعلية، أو تكشَّفت لها
حقائقُ جديدة، فقد بدأ كمال يبحث في أمر وجوده في هذه الدنيا، وعن الغاية من هذا
الوجود، وقد اصطبغَت نظرتُه بالمادية الصرفة، وهي نهايةٌ طبيعية للذي فقد إيمانه بكل
الأشياء والقيم. وتتكشف له الحقيقة الكبرى التي تُشَكِّل الفكرة اللامنتمية، وتُشغل
بالَ اللامنتمي وجميعَ مَن كتبوا عن هذا السلوك، وهي الإدراك الذاتي بعدمِ وجودِ أيةِ
غاية من وجودنا أو وراءه، وإن وجود هذا العالم ووجود الشر فيه ما هو إلا محض صدفة، وما
وجود الفرد نفسه في الحياة إلا صدفة أيضًا، وقد عرَّف «كولن ولسون» الكاتب الإنجليزي
المعروف، عرَّف اللامنتمي بقوله: «إنه الإنسان الذي يُدرك ما تنهض عليه الحياة
الإنسانية من أساس واهٍ، والذي يشعر بأن الاضطراب والفوضى هما أعمق تجذُّرًا من النظام
الذي يؤمن به قومه.»
١٥
فيصحو المرء فجأة على هذه الحقيقة الرهيبة، وهو الذي اطمأن إلى قولِ مَن سبقوه، إن
الإنسان ما هو إلا مركز الكون الذي لم يُخلق إلا من أجله، وأنه — أي الإنسان — قد خُلق
خلقًا خاصًّا لغاية سامية عظيمة، يصحو المرء على هذه الحقائق كما صحا كمال عبد الجواد
في نهاية «قصر الشوق»، فيشعر بتفاهة الحياة عمومًا، وتفاهة الإنسان الذاتية على وجه
الخصوص، وملأت هذه الأفكار رأسَ كمال: «وعن الصفوة المختارة من أبناء السماء، فقد رفعوا
الأرض إلى مركز الكون، وجعلوا الملائكة تسجد للطين، حتى جاء أخوهم كوبرنيكس فأنزل الأرض
بحيث أنزلها الكونُ جاريةً صغيرة للشمس، ثم تلاه أخوه داروين فهتك سرَّ الأمير الزائف،
وأعلن على الملأ أن أباه الحقيقي هو حبيس قفص، الذي يدعو الأصدقاء للتفرج عليه في
الأعياد والمواسم.»
١٦
بهذه المرحلة إذن، بدأت حياةُ كمال كلا منتمٍ، هذه الحياة التي عرضها لنا نجيب محفوظ
في القسم الثالث من الرواية «السكرية»، فنجده وقد فصَل نفسه عن أحداث الحياة اليومية
التافهة، وانعزل، في محيط قراءاته وأفكاره، ملتمسًا — مثل كل مَن أفاق على حقيقة الحياة
والوجود، كل لا منتمٍ — حلًّا ومنفذًا يهرب فيه من هذه التفاهة واللاغائية: «هذه
السويعات الموهوبة للفلسفة، التي تمتد حتى منتصف الليل، هي أسعد أوقات يومه، وهي التي
يشعر فيها على حدِّ تعبيره بأنه إنسان، أما بقية اليوم الذي ينقضي في عمله كمدرِّس
بمدرسة السلحدار الابتدائية، أو في إشباع شتى مطالب الحياة الضرورية، فمداره الحيوان
الكامن فيه، المستهدف أبدًا تأمين ذاته وتحقيق شهواته.
١٧ وهو قد رغب عن الزواج؛ لأن الزواج في نظره يمثِّل نوعًا من الثبات الذي قد
يقضي على حريته، التي هي كلُّ رأسماله في طريقه المضني للبحث عن الحقيقة، ثم إنه حائر
يُداخله الشكُّ في كل شيء، والزواج نوع من الإيمان، فكيف إذن يندرج في قائمة المؤمنين،
وهو الذي وهب حياته للبحث عن حقيقة الحياة، والتي تتطلب الشك في كل شيء؟!»
واستعان نجيب محفوظ في روايته بوسيلة أدبية، استخدمها شكسبير في جميع مسرحياته،
لمساندة رسم الشخصية وإظهار بعض الصفات فيها بطريقة واضحة، وهي طريقة الأضداد
Foills، فقدَّم لنا شخصية إسماعيل لطيف ليزيد في
إظهار شخصية كمال كما أرادها، تمامًا كما يضع الرسام اللون الأسود في مهاد لوحته ليُبرز
اللون الأحمر مثلًا الذي استعان به فيها، فنرى إسماعيل لطيف وقد تزوج وأنجب الأطفال،
ولم يَعُد فكْرُه مشغولًا إلا بزوجته وأطفاله وأخبار الدرجات والعلاوات، وهي الحياة
التي ينفر منها كمال، ويودُّ الهرب منها بأي سبيل، فهو على نقيض إسماعيل تمامًا، فقد
قادَته الغربة التي ارتمى فيها إلى الصورة الحقة للَّامنتمي، الذي قال عنه «باربوس»:
«إنه الشخص الذي يرى أعمق وأكثر مما يجب»؛ فكمال لا تروقه هذه السطحية الآلية التي
يحياها مَن حوله، بل ويطمح إلى حياة أخرى حقيقية، وهو لا يكف — ككل لا منتم — عن
الملاحظة والتأمل، وإعمال الفكر في كل صغيرة وكبيرة أمامه، ولا يني يُحلل أيَّ شيء
يصادفه، حتى لو كان ذلك مناسبة موت أعز شخص لديه: «وخجل من نفسه إذ نزعت لحظات إلى
تحليل الموقف ودراسته، كأن احتضار أبيه يجوز أن يكون زادًا لتأمُّله ومادة لمعرفته.»
١٨ وهكذا كان دأبه دائمًا، كما يظهر لنا من أحاديث نفسه التي يُقدمها لنا
المؤلف كل حين ببراعة فنية، تُذكِّرنا بتيار الوعي عند جيمس جويس وزملائه.
ثم تُصادف كمال تجربةٌ أخرى عميقة؛ فإن حياته الغريبة كلا منتمٍ يبحث عن سبب أو هدف،
يرجع له وجوده في الدنيا، لا تخلو من بريق لمثل هذا الأمل، وقد تمثل له في شخصية بدور
شدَّاد، فقد خُيِّل إليه أنها إحياء للفكرة أو للحب الذي شَدَّه قديمًا إلى الحياة،
واعتقد أنها ستكون خلاصه، وأنها الحل المناسب للحالة التي وجد نفسه فيها. «ولكنه ما إنْ
رأى بارقة نور في ظلمة حياته الداكنة، حتى انطلق يتلمَّسه وهو لا يلوي على شيء، مدفوعًا
بقوًى هائلةٍ من اليأس والأشواق والأمل، غير مبالٍ بما قد يعثر به في طريق محفوف
بالتزمت والتقاليد من ناحية، وبالشباب المتوثب للسخرية من ناحية أخرى.»
١٩ فهو يندفع في الطريق إليها، ناشدًا خلاصَه ونجاته من بحر الحيرة العميق
الذي غَرِق فيه، غير أنه يفشل في النهاية في تحقيق أيِّ نتيجة إيجابية في علاقته مع
بدور، ولا يرجع هذا إلى قصور ذاتي في نفسه أو في وسائله، فهو — كما قال — لو أراد
الزواج من هذه الفتاة ما اعترضه عائقٌ جدِّي، ولكنه يرجع إلى إدراكه العميق المستكن
فيه، بأن لا حل هناك لهذا الوجود غير المبرر، وإذا كان هذا الزواج لن يقدم له ما ينشده
من هذا الحل، فإنه سيرمي به فوق ذلك إلى نمط من الحياة هو الموت ذاته بالنسبة إليه،
حياة الزواج والأسرة والأطفال والانهماك الكلي في السعي وراء الرزق، وترك جهاده الأزلي
في البحث عن الحقيقة.
وجميع الذين كتبوا عن اللامنتمي أو بحثوا في مشكلاته، لم ينتهِ أيٌّ منهم إلى حلٍّ
لهذه المشكلات أو هذه الحياة، وهذا أيضًا ما تُبيِّنه الحياة التي عاشها اللامنتمون
الأحياء؛ فطبيعة هؤلاء وأولئك هي الحيرة الدائمة، وقد اهتدى بعضُ المفكرين ممن ينتمون
إلى مذهب يبدأ في أساسه بنفس القاعدة التي يهتدي إليه اللامنتمي — وهي أنه ليس هناك ما
يُبرر هذا الوجود ولا غاية من ورائه، وهذا أبسط صورة لأساس مذهب الوجودية — اهتدَوا إلى
مخرج من هذه التفاهة الوجودية بما سمَّوه الالتزام بقضية الحرية، فلكي يُضفيَ المرءُ
على ذاته وحياته صفةَ الوجود الإنساني الحق، عليه أن يُدرك أنه حرٌّ في الاختيار غير
مقيد، وعليه أن يلتزم بهذه الحرية وبحمايتها عند نفسه وعند الآخرين. ومعنى ذلك ألا
يرتبطَ المرءُ بعقائد أو أفكار تُفرَض عليه أو يُنشأ عليها، بل يجب أن يُحرِّر نفسه من
كل قيد، ويؤمن بما يعتقد فيه اعتقادًا قائمًا على التجربة والإيمان الداخلي، ونجد كمال
في آخر «السكرية» ينزع إلى مثل هذه الحالة من طلب الإيمان القائم على الاختيار الواعي،
فهو يكرِّر ما قاله أحمد ابن أخته في هذا الشأن: «إني أومن بالحياة والناس، هكذا قال،
وأرى نفسي مُلزَمًا باتِّباع مُثُلِهم العليا ما دمتُ أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن
ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزمًا بالثورة على مُثُلهم ما اعتقدت أنها باطلة؛ إذ
النكوص عن ذلك خيانة.»
٢٠
ويبزغ عليه هذا التبيان كالفجر بعد الليل الطويل، ويمكن أن نستدلَّ من ذلك على أن
كمال قد وجد أن هذه السلبية التي انتهى إليها لا يمكن بحال أن تكون حلًّا لحياته
ووجوده، إنما الحل في النزول إلى الحياة، واختيار الصالح منها، والثورة على ما لا يتفق
ونفسه، فإن أهم ما في حياة الإنسان هو حريته في التعبير عمَّا يدور في نفسه، سواء كان
هذا التعبير متفقًا مع رأي المجموع أو مختلفًا ومعارضًا له.
إن هذه السطور القليلة في آخر «السكرية» توضح التحول الذي كان ممكنًا أن يظهر في كمال
عبد الجواد، لو صوَّره لنا المؤلف بعد هذه الحوادث. ذلك التحول الذي يأتي كالفجر
الجديد، كما حدث «لميرسو» في غريب «ألبير كامي»، حين ثار في نهاية حياته، وتبيَّن أن
معنى الحياة لا يكمن في السلبية وعدم الاكتراث، بل هو في التعبير عن النفس؛ سواء كان
بالاتفاق مع المجتمع أو بالثورة عليه وعلى نُظُمه، مما يحقق للمرء الوجود
الذاتي.
وتُذكِّرنا السطور السابقة من السكرية برواية جيمس جويس المسماة «صورة للفنان في
شبابه» A Portrait of An Artist as a Young Man حين
يتخبط «ستيفن ديدالوس» الفنان الشاب باحثًا عن معنى لحياته، بعد أن ثار على الدين، ورفض
أن يرتبط به في حياته وعمله، ثم ينبثق هدفه أخيرًا بعد تجاربه التي مرَّ بها، ويعبِّر
عنه بقوله:
«لن أخدم ما لم أَعُد أومن به، سواء كان ذلك: المنزل أو الوطن أو الدين، وسأحاول
أن
أُعَبِّر عن نفسي في الحياة أو في الفن على أكملِ الصور الممكنة وأصدقِها، مدافعًا عن
نفسي بتلك الأسلحة التي لا أسمح لنفسي باستخدام غيرها: الصمت، النفي، الدهاء.»
٢١
وقد رسم جويس في روايته هذه، صورةً لصراع الفنان، ووقف في نهايتها على اكتشافه
للطريقة المثلى لتحقيق وجوده الإنساني. ثم قدَّم لنا بعد ذلك هذا الفنان في ممارسته
الفعلية التطبيقية لهذه الأفكار التي انتمى إليها، فنراه وقد نفى نفسَه إلى باريس، في
الرواية الطويلة المعقدة «عوليس» Ulysses. وكذلك قدَّم
لنا نجيب محفوظ في الثلاثية تطورًا لحياة كمال عبد الجواد، من تجاربه التي رمَت به إلى
اللامنتمية، حتى النهاية الغامضة التي انتهى إليها في «السكرية»، وبقيَ عليه أن يتبع
الثلاثية بأخت رابعة، يقدِّم لنا فيها كمال في مرحلة الصراع من أجل التعبير عمَّا
توصَّل إليه، ومن أجل تطبيق أفكاره النظرية التي انتهى إليها في حياته العملية، فهل
يفعل يا تُرى؟