كتاب جديد وأخير لهمنجواي
يبدو أن إرنست همنجواي الذي ملأ عالم الأدب إنتاجًا وصخبًا إبان حياته، لن يكفَّ عن ملئها حتى بعد سبعة وثلاثين عامًا من رحيله. فقد طلعَت علينا الأنباءُ بالشروع في إعداد مخطوط لكتاب طويل سبق أن وضعه همنجواي عام ١٩٥٤، وتجهيزه كيما يصدرَ مع الاحتفال في ٢١ يوليو القادم بمرور مائة سنة على مولده. وهذا المخطوط هو نتاج الرحلة التي قام بها همنجواي إلى أفريقيا في عام ١٩٥٣؛ فقد كان من عادة الكاتب الكبير أن يستقيَ مادة كتبه من تجارب حياته التي يمر بها في شتى الأماكن والأوقات.
والرحلة المشار إليها لم تكن أول مرة يزور فيها همنجواي أفريقيا، فقد سبق له أن قام بسفرة إلى أفريقيا في عام ١٩٣٤، أي قبل حوالي عشرين عامًا من زيارته الثانية، وكان بصحبته زوجته الثانية بولين بفايفر، وقد كتب همنجواي كتابه «تلال أفريقيا الخضر» عن تلك الزيارة الأولى. أما رحلته الثانية التي تتعلق بالكتاب الجديد فكانت بصحبة زوجته الرابعة ماري ولش، وتركَّزت في منطقة شرق أفريقيا التي تضمُّ الآن دول كينيا وأوغندا وتنزانيا، وصَحِبه في هذه الرحلة ابنُه الأوسط باتريك، من زوجته بولين، ومرشد الصيد بارسيفال، صديقه الحميم الذي رتَّب له أيضًا رحلتَه الأولى. وكان معهم كذلك مصورٌ خاصٌّ من قِبَل مجلة «لوك» الأمريكية، التي كانت قد تعاقدت مع همنجواي على كتابة مقال قصير عن الرحلة مقابل اشتراكها في توفير جزء من نفقاتها.
وقد استغرقَت الزيارة الثانية قرابة خمسة أشهر، ومضَت على خير ما يرام، بيد أنها انتهت نهايةً سيئة في يناير ١٩٥٤، حين سقطت بهمنجواي وزوجته طائرةٌ صغيرة فوق شلالات مورشيزون، ولكنهما لم يُصابا إلا بجروح سطحية. وبعد أن عادَا على سطح قارب في النيل الأبيض، وأمكنهما أخيرًا العثور على أحد الطيارين التجاريِّين وافق على أن يطير بهما إلى عنتيبي بأوغندا، انفجرت الطائرة عند إقلاعها، وكانت هذه الحادثة الثانية هي التي تسبَّبَت لهما في إصابات خطيرة، وقد عاد الزوجان آخر الأمر إلى أمريكا بعد أن طيَّرت وكالات الأنباء أخبارًا بوفاة الكاتب في حادثة الطائرة، ونشرت صحفٌ عديدة نعيَه!
وبينما كان همنجواي يتعافى من تلك التجربة الشاقة، وفي ظل الجو الذي أحاط به لحصوله على جائزة نوبل للآداب، قرر في نهاية العام أن يلوذ بضيعته الهادئة الكائنة في ضواحي هافانا عاصمة كوبا، كيما يتوفر على وضع كتابه عن تلك الرحلة الثانية لأفريقيا. وبعد أن أنجز همنجواي مخطوطًا أوليًّا للكتاب الجديد من ٨٥٠ صفحة، اضطر إلى تركه كيما يشارك في الإشراف على تصوير فيلم العجوز والبحر المأخوذ عن روايته المعروفة، ثم أعقب ذلك نجاح الثورة الكوبية بزعامة فيدل كاسترو، مما أرغم الكاتب الكبير على مغادرة كوبا نتيجة للموقف الأمريكي من الثورة، وخلَّف وراءه مخطوطَ الكتاب في خزانة حديدية ببنك هافانا، ثم جاءت بعد ذلك فاجعةُ انتحاره في يوليو ١٩٦١، بطلقة من بندقيته، وفيما بعد نجحَت ماري ولش في الحصول من كاسترو على تصريح بأخذ أوراق همنجواي وأدواته الشخصية من ضيعته الكوبية، والتي تحوَّلت بعد ذلك إلى متحف يحمل اسم الكاتب الشهير. وكان مخطوط الرحلة الأفريقية الثانية ضمن ما حملَته زوجةُ همنجواي من هناك. وقد أهدَت ماري ولش كلَّ متعلقات زوجها الأدبية إلى مكتبة جون كنيدي في بوسطن، التي خصَّصت لها قاعة مستقلة، وإن لم تتضمن مخطوط الكتاب المذكور، الذي احتجز بين الملفات غير العامة باعتباره لم يتمَّ نشرُه بعد. وقد ذكر تشارلس سكريبنر، سليل عائلة سكريبنر التي تولَّت إصدار مؤلفات همنجواي منذ العشرينيات، والتي انضوَت تحت دار سيمون شوستر للنشر، أن هذا الكتاب سيكون آخرَ كُتُب همنجواي حقيقة؛ إذ لا توجد أيُّ مخطوطات أخرى له في أي مكان بعد ذلك، وسيتولى باتريك همنجواي، الابنُ الأوسط للكاتب الكبير، مهمةَ تحرير الكتاب الذي سيصدر تحت عنوان «حقيقي مع اللمحة الأولى» وهي جملة تضمنها المخطوط، وتُشير إلى خداع الحواس في إدراكها للأشياء لأول وهلة، والفرق بين ذلك الإدراك وحقيقة الأشياء. وقد سبق صدور أربعةُ كُتُب لهمنجواي بعد وفاته هي: «عيد متنقل»، و«جزر في الغدير»، و«الصيف الخطير»، و«جنة عدن».
والكتاب الجديد فيه ملامح أسلوب همنجواي المميز، سواء من ناحية اللغة أو المحتوى؛ ففيه ذكرُ باريس التي يعشقها الكاتب، وحديث عن عزرا باوند، والبيسبول، والشراب، والتأمل في الحياة، وهو يحتوي على معلومات مثيرة تخلط الواقع بالخيال، فلا يدري القارئ ولا الناقد هل ما يذكره همنجواي فيه قد وقع حقيقةً أم هو من القصص الخيالي. ومن هذه القصص أنه بينما كانت ماري ولش متغيبة في جولة شرائية في العاصمة الكينية، يتخذ همنجواي من فتاة تُدعَى ديبا، في الثامنة عشرة من عمرها، زوجة ثانية له. وكانت الفتاة من قبيلة «واكيمبا» الكينية، ويبدو أنها كانت علاقةً طارئة لم تَدُم سوى المدة التي قضاها همنجواي في رحاب تلك القبيلة. وقد جرى ذكرُ تلك الزيجة الأفريقية في السيرة الجامعة التي كتبها كارلوس بيكر عن همنجواي، كما أن هوتشنر صديق الكاتب الحميم يذكر في كتابه «بابا همنجواي»، أن الكاتب أشار لها في حديثه معه بعد عودته من الرحلة الثانية، وكان يعدُّ على أصابعه، ثم يقول في غموض: «في سبتمبر القادم سيكون لي ابنٌ أفريقي!»
وعلى طريقةِ همنجواي في تشجيع بناء الأساطير حول حياتِه وكُتُبِه، لم يكن أبدًا ينفي أو يُثبت حدوثَ مثلِ هذه الوقائع، بيد أن ابنه باتريك، محرر الكتاب، والذي حضر السفرة الأفريقية، ينفي حدوثَ ذلك الزواج ويؤكد أنه من قبيل الخيال القصصي.
وقد رجعتُ إلى الكتاب الذي أصدرَته ماري ولش عن حياتها مع همنجواي، وسردَت فيه بالتفصيل رحلتَها معه إلى شرق أفريقيا، وقد جاء ذكر الفتاة ديبا عرَضًا بوصفها «حبيبة همنجواي الأفريقية»، وقد وصف الكتاب وقائعَ الرحلة، بما فيها صيد الأسود والنمور والفهود، وخاصة الهوس الذي سيطر على ماري باصطياد أسد أسود مفترس، كان يهاجم قرية قبيلة واكيمبا ويَلْتهم ماشيتَها. وقد جاء ذكره أيضًا في كتاب همنجواي المنتظر، ويتعرض لقيام زوجته فعلًا باصطياد ذلك الأسد، الذي يفترش جلده أرضيةَ قاعة همنجواي بمكتبة كيندي، كما عثرت في كتاب ماري ولش على معلومة ألقَت الضوء على ما كنت قد شاهدتُه في متحف همنجواي بهافانا — في أثناء رحلة عمل للترجمة هناك — من وجود بعض التذكارات الفرعونية به؛ فقد ورد في كتابها أنهم توقَّفوا في مدينة السويس عند عودتهما بالباخرة من أفريقيا في طريقهما إلى فينيسيا. ورغم أن همنجواي قد بقيَ على ظهر الباخرة نتيجة لإصاباته في حادثتَي الطائرتين، فقد انضمَّت زوجتُه إلى جموع المسافرين في رحلة سياحية سريعة إلى القاهرة، زاروا فيها الأهرامات وأبا الهول والمتحف المصري وخان الخليلي، حيث اشترَت ماري ولش تلك التذكارات، وهي تذكر أيضًا في الكتابِ نفسِه قصةَ سفرها إلى كوبا خلال أسوأ علاقات بين البلدين، بعد محاولة خليج الخنازير الفاشلة، وكيف أنها نجحت في الحصول على موافقة السلطات الكوبية على الخروج بمخطوطات همنجواي وأرواقه إلى أمريكا.
بَيْدَ أنها تذكر شيئًا هامًّا قد يتعارض مع تأكيد سكريبنر بأن كتاب الرحلة الأفريقية الثانية هو آخر كتاب لهمنجواي، فهي تسرد بين المخطوطات كتابًا عن ذكريات همنجواي عن الحرب العالمية الثانية. ولما كانت قد أشارت إلى الكتب الأربعة الأخرى التي صدرَت تباعًا لهمنجواي بعد وفاته، وأشارت أيضًا إلى مخطوط ذلك الكتاب الأفريقي الجديد، فلا بد أن كتاب الحرب العالمية الثانية شيء آخر مستقل، وسنسمع عنه في يوم من الأيام كيما يُضمَّ إلى تراث هذا الكاتب العظيم، الذي شغل الناس في حياته ويشغلهم بعد وفاته بأكثر من ثلث قرن.