أولاد حارتنا ومشكلة الشر
أمَّا أن الحارة هي الدنيا، وأن أولاد حارتنا هم البشر، وأن جبل ورفاعة وقاسم هم الأنبياء، فهذا لا شك فيه ولا مراء، ومَن يقول بغير هذا فقد أنكر أحداثًا واضحة لا لبس فيها، وأغمض عينه عن حقائق أدبية لا زيف فيها ولا بُهتان، وأوقع نفسه في متاهة يستحيل عليه معها أن يطابق بين أحداث الرواية وبين أي تفسيرات أخرى.
ولقد أثارَت الرواية ضجةً لا تزال تتردد أصداؤها حتى الآن، وبعد مرور ثماني سنوات على نشرها لأول مرة «١٩٥٩»، كما أثارَت حيرةً عريضة بين القُرَّاء وبين النُّقَّاد الذين تعرَّضوا لها أكبر من تلك الضجة وأكثر عمقًا، والضجة والحيرة إنما جاءتا من محاولة إغفال الأحداث، هذه المقالات القصيرة التي نُشرت في الصحف والمجلات عقب صدور الرواية في كتاب، فهي بالعرض والتقديم أشبه، ولم تحتوِ على أيِّ نقدٍ أو تحليلٍ.
أما تحميل النص تخريجات لا تمُتُّ له بصلة، فأوضح مَثل عليها الجزء الذي كتبه الأستاذ الناقد غالي شكري عن «أولاد حارتنا» في كتابه «المنتمي»، حين مسَّ القضية الأساسية في الرواية — قضية الدين والعلم — مسًّا رفيقًا، وتجاوزها إلى المفهوم الذي شرع ينقد به الرواية وهو جاهز مسبق في ذهنه، مفهوم المادية التاريخية والمنطق الجدلي، فإذا هذا العمل الأدبي الهام يتحول بين يديه — مثلما تحوَّلَت كلُّ كتابات نجيب محفوظ الأخرى — إلى وثيقة اجتماعية تُضاف إلى وثائق الماركسية، وإذا الناقد ينقل القارئ من هذا العمل إلى متاهات فكرية، لا تمتُّ له بصلة، ولا تُضيف مثقال ذرة إلى فهمِه له وتذوُّقِه لأسراره.
والرواية جديدة في كلٍّ من بنائها الفني ومضمونها؛ فقد كان بناؤها شيئًا جديدًا على الأدب العربي الحديث، ومضمونها جديدًا على الموضوعات التي كتب فيها نجيب محفوظ، وحتى لا أستبقَ الأحكام، سأقوم الآن بنقدِ الرواية عن طريق المقارنة والتحليل الموضوعي لشكلها الأدبي وأفكارها الفلسفية، والذي سيخلص إلى أن الرواية — بعكس الظاهر — تُمجِّد الدين وتحثُّ على التمسك به جنبًا إلى جنب مع العلم.
بدأ محفوظ عملَه في التأليف الروائي بمرحلة الرومانسية التاريخية، حين كان يعتزم كتابةَ تاريخ مصر القديم في شكل روائي، أخرج منه بالفعل «عبث الأقدار»، و«رادوبيس»، و«كفاح طيبة»، ثم مات في نفسه هذا الاتجاه، ليتحول بعد ذلك إلى الواقعية برواية «القاهرة الجديدة»، وظل على هذا المنوال حتى انتهاء «الثلاثية». وقال نجيب محفوظ إنه حين ذهب المجتمع القديم ذهبَت معه كلُّ رغبة في نفسه لنقده، وأعلن أنه لم يَعُد لديه ما يقوله أو يكتبه، وظل على هذه الحال من عام ١٩٥٢ إلى ١٩٥٧ «لم أكتب كلمة واحدة، ولم تنبعث في نفسي رغبةٌ في الكتابة، وكنت أعتبر المسألة منتهية تمامًا حتى وجدتني أكتب «أولاد حارتنا»، وأنشرها سنة ١٩٥٩.» جاءت أولاد حارتنا إذن بعد مرحلة انتهى فيها نجيب محفوظ من المرحلة الواقعية التي استغرقت كثيرًا من كتاباته، وانتهى معها اهتمامُه الواقعي بمشاكل المجتمع ونقده، وأصبح يسعى نحو مدى أوسع وأكثر رحابة، فجاءت روايتُه التالية تجديدًا شاملًا في كلٍّ من الشكل البنائي الذي تقوم عليه، والمضمون أو الخلفية الفلسفية التي تكمن وراءه؛ فمن الناحية الأولى، اتجه المؤلف إلى الشكل الأليجوري الذي يخطُّ الأحداث على نهج معين سابق، هو نهج تاريخ الرسالات الإلهية الثلاث، وهذا ما سنبحثه بالتفصيل فيما بعد.
أما من الناحية الثانية، فتعتبر الرواية التعبير التام لنجيب محفوظ عن مأساة الوجود الإنساني، كما أراد أن يسجلها. ولقد تردَّدَت هذه الرؤيا العامة لدى المؤلف كثيرًا في بعض رواياته السابقة كالثلاثية مثلًا، ولكنها لم تستبن في رواية ولم تشغل بها تمامًا إلا في «أولاد حارتنا»، تلك الرؤيا التي تقوم عليها الرواية هي مشكلة الشر في الوجود، والوضع الإنساني في هذه الدنيا، وربما كان هذا الأساس الذي فجَّر منه محفوظ هذه الرؤيا، هو سبب تحرُّج الجميع من الكتابة عنها، وتحرُّجهم من نشرها مرة أخرى في كتاب.
ولقد شَغلت هذه المشكلة بالَ المفكرين والفلاسفة والأدباء جميعًا منذ بدء ظهور التفكير الديني، ومنذ بدأ المفكرون يتفلسفون، ومنذ بدأ الأدباء والفنانون يعبِّرون عن ذواتهم؛ فدائمًا ما تنشأ مشكلة من التعارض الواضح بين النظرية والواقع، والمشكلة الدينية ليست استثناءً من هذا، وفي مشكلة الشر يكون التعارض هنا بين إيماننا بالإله — العلة الأولى — وبين واقع التجربة، بين إيماننا بإله هو الحب كل الحب، والقدرة كل القدرة، وبين ظهور الشر وعلو طالعه في الدنيا، ولو أننا كنَّا ننظر إلى الإله باعتباره قوة عليا تسيطر سيطرة استبدادية، وذات نزوات لا يمكن تعليلها ولا تفسيرها، لمَا نشأت هناك مشكلة مثل هذا النوع على الإطلاق، ولكن ما دامت الصفات المتعلقة بالإله صفات قوة وبأس، وما دمنا ننظر إليه باعتباره محبًّا للإنسان وحاكمًا للكون، لذلك تقفز أمامنا المشكلة وتقف لنا وجهًا لوجه: إذا كانت الطيبة والقدرة الإلهية صفتَين ثابتتَين، لماذا يكون هناك شرٌّ إذن؟ كما يتعين علينا أن نواجه المعضلة، التي سبق أن أثارها أبيقور مرة أخرى: لو أن الإله له كلٌّ من القوة والقدرة، فلماذا يكون هناك شر؟ وسيادة الشر تمثِّل حالة ضد الإيمان بقدرة الإله وطيبته، وعلى هذا يجب أن يمرَّ إيماننا بفترة التجريب، وأن ما يجعل الشقاء والمعاناة في الدنيا أكثر إحباطًا، أن معظمها ليس له معنًى أو غرض، وأنها تتوزع دون أي مراعاة للقيمة الأخلاقية، ولقد اشتكى «توماس هكسلي» من ذلك، بقوله: «إذا كان هناك قضية مستمدة من حقائق الحياة الإنسانية، اتفق عليها المفكرون في كل زمان ومكان، فهي أن مَن ينتهك القواعد الأخلاقية ينجو دائمًا من العقاب الذي يستحقه، ويزدهر حال الشرير، بينما الصادق الورع يشحذ رزقه، وتنزل خطايا الآباء على الأبناء، وتُعاقِب الطبيعة الجهولَ معاقبتَها للخاطئ المتعمد، والآلاف من المخلوقات البريئة تُقاسي من أجل جريمة غير مقصودة ارتكبها إنسان واحد … وعلى هذا، فإذا حكمنا على الكون من وجهة النظر الأخلاقية، فإنه يبدو كونًا فاسدًا.» وهذه اللامبالاة في توزيع العقاب والثواب — وهو منشأ عقدة المشكلة في رواية أولاد حارتنا، حين اختار الجبلاوي أدهمَ ليكون ناظر الوقف دون سبب ظاهر — هو الذي يُظهر الإله بمظهر القسوة في معاملة الإنسان؛ يقول جون ستيوارت ميل: «لو أن العدالة هي قانون كل الخلق، وكان الخالق قادرًا، إذن لتوزَّع الشقاء والسعادة على الدنيا، فيتساوى نصيبُ كلِّ فرد فيها على حسب أعماله الطيبة والشريرة تمامًا … ولا يُنكر أحد أن الدنيا التي نعيش فيها تختلف عن ذلك تمامًا.»
هذا الشر لا سبب له، ولا يدرك أحدٌ من الذين يتلقَّون ضرباتِه مدى استحقاقهم له، فهم «مقضيٌّ عليهم بسجن لا يمكن تصور مداه، من أجل جريمة غير معروفة»، ويوضح «كامو» أن الشر أعمى، وأنه قد يأتي من أقرب الأصدقاء، وكما صوَّر في روايته «الغريب» أصدقاء البطل «ميرسو»، يحاولون إنقاذه من تهمة القتل بالشهادة في صفِّه أثناء محاكمته، فيزيدون من التصاق التهمة ضده دون أن يقصدوا ذلك، يعود فيقول في «الطاعون»: «إن الشر الموجود في العالم يرجع كلُّه تقريبًا إلى الجهل دائمًا، وإن طيبة النفس إذا لم تتوفر لها الاستنارة، قد تؤدي إلى نفس الأضرار التي تنتج عن الشر»، وتتجلَّى عبثيةُ العالم وسيادة الشر فيه ولا معقولية هذا الشر، في المشهد الذي يُصيب الطاعون فيه طفلًا صغيرًا بريئًا ويموت به، وفي ثنايا الأوصاف المُرهفة والتفاصيل الدقيقة، التي رسم بها «كامو» هذا المشهد، تأكيد لهذه العبثية وتلك اللامعقولية. يقول المؤلف عن «تارو» و«ريو» بطلَي الرواية، و«ريو» هذا هو الراوي، ويقوم مقام «كامو» نفسه: «لقد شاهدَا من قبل أطفالًا يموتون، فإن الهول الذي بدأ منذ أشهر لم يكن يُتعب نفسه في الاختيار، ولكن لم يحدث قط لهما أن تتبَّعا آلام الضحايا دقيقة بدقيقة، كما يفعلان الآن منذ الصباح. ولا شك أن الآلام التي صبَّتها الأقدار على هؤلاء الأبرياء لم تكُفَّ يومًا عن الظهور في أذهانهم بمظهرها الحقيقي، أي على أنها فضيحة، ولكنهما — حتى الآن على الأقل — كانا يشعران بتلك الفضيحة بصورة تجريدية على نحو ما؛ لأنهما لم يكونا قد رأيا أبدًا عن قرب ولمدة طويلة احتضارَ أحد الأبرياء، وفي تلك اللحظة، أخذ الطفل يتلوَّى من جديد، كما لو كانت أفعى قد عضَّته في معدته، وراح يئنُّ أنينًا خافتًا، وظل هكذا ثوانيَ عديدة، غائر الجسم فريسةً للرعشة والاهتزازات التشنجية، كما لو كان هيكله الواهي ينحني تحت ضغط ريح الطاعون العاتية، ويتحطم تحت نوبات الحمَّى المتكررة، وانتهت تلك الأزمة، وبدأ الطفل يسترخي قليلًا، وبدَا أن موجة الحمى قد انسحبَت، وتركَته يلهث على شاطئ رطب مسمَّمٍ، قد تشابهَت فيه الراحة والموت، ولما عاودَته موجةُ الحمى من جديد للمرة الثالثة، وبعثَت في جسمه شيئًا من الاضطراب، كوَّر الطفلُ جسمَه وتراجع إلى نهاية الفراش وسط آلام اللهب الذي يحرقه، وأخذ يهزُّ رأسه في جنون وهو يقذف بغطائه بعيدًا عنه، وتدفقت الدموع الغزيرة من بين جفونه الملتهبة، وأخذت تسيل على وجهه الجامد، وفي نهاية الأزمة، كانت قد خارَت كلُّ قواه، فضمَّ ساقَيه اللتين برز العظم منهما، وذراعَيه اللتين ذاب ما عليهما من لحم خلال هذه الساعات الثماني والأربعين، وبدا وسط سريره المخرب كما لو كان مصلوبًا غريبَ الشكل» (ص٢٧٢-٢٧٣).
ويشابه هذا الوصفُ المعجز لحالة الطفل البريء، الذي يعاني من آثار المرض المخيف، وصْفَ معاناة المسيح على الصليب، ودق مسامير الصلب في يديه وقدميه، وتركه يتعذب فوق تل الجلجلة.
ويقول الطبيب ريو عن الطفل: «إذا قُدِّر له أن يموت، فإنه سيكون قد عانى من العذاب أكثر مما عانى غيره» (٢٧٤). ويموت الطفل، فيلتفت ريو إلى الأب «بانلو»، الذي يمثِّل الدين، ويقول له: «أما هذا على الأقل فإنه كان بريئًا، وأنت تعرف ذلك جيدًا» (٢٧٧). وحين يقول له الأب: «إني أفهمك جيدًا، إن هذا يدعو للثورة لأنه يتجاوز إدراكنا، ولكن قد يكون من الضروري أن نحبَّ ما لا نستطيع فهمه» يردُّ عليه ريو: «لا أيها الأب، إنَّ فكرتي عن الحب بعيدة عن ذلك، وسأظل حتى الممات أرفض أن أحبَّ هذا العالم الذي يُلقَى فيه بالأطفال تحت عجلات التعذيب.»
ويأتي بعد ذلك الفصل مباشرة ردُّ كامو المباشر على تلك المشكلة، وهو نفيُ وجود الإله، وقد عبَّر عن ذلك بالحيرة والشك اللذَين انتابا «بانلو» رجل الدين بعد مشاهدته معاناةَ الطفل البريء، فيرى أنه إذا كان من العدل أن يُصعق الرجل الماجن، فليس هناك ما يُبرر تعذيب الطفل، وأنه ليس هناك على ظهر الأرض ما هو أهم من تعذيب طفل، ولا من الشناعة التي يجرُّها وراءه هذا التعذيب، أو البحث عن المبررات التي ساقَت إليه، ومن ذا الذي يستطيع أن يؤكد أن خلود إحدى المتع يمكن أن يكون عوضًا عن لحظة من عذاب البشرية؟ كلَّا، فسيبقى الأب وجهًا لوجه أمام المشكلة، وفاءً لتلك المفارقة التي يُعتبر الصليب رمزًا لها، سيبقى وجهًا لوجه أمام عذاب طفل، وبعد تلك الحيرة يمرض الأب بحمَّى غريبة، ويرفض العلاج، ويموت آخر الأمر، ويحرص كامو على أن يبيِّن أن الأب لم يَمُت من الطاعون المنتشر في أرجاء المدينة؛ ليُثبت أن موته جاء نتيجة طبيعية لعجزه عن الاستمرار في الحياة مع كل هذه المظاهر، التي تُثْبِت تناقضًا واضحًا مع كل ما يؤمن به ويعتقد فيه، وهذا الموت هو رمزٌ كامل لبطلان الاعتقاد في وجود الآلهة، أو هو الصيحة الجافية المنكرة التي أطلقها نيتشه قبل ذلك، مُعلنًا موت الإله.
ولكن «كامو» — ككل مفكر أصيل — إذ هو يعترف بوجود الشر وغلبته على حياتنا، لا يقف أمامه مكتوفَ اليدين مستسلمًا، بل هو يقدم اتجاهه ويوضحه في الرواية، واتجاه كامو نحو المشكلة هو الالتزام بكفاح الشر. يقول الراوي في الطاعون: «وقد دأب كثيرٌ من الهداة الجدد في مدينتنا، يقولون إنه لم يَعُد هناك جدوى من أي شيء، وإنه ينبغي أن نجثوَ على أقدامنا، وكان «تارو» و«ريو» وأصدقاؤهما يُجيبون على ذلك بما شاءوا، ولكن النتيجة كانت دائمًا ما قد عرفوه، وهي أنه يجب علينا الكفاح بطريقة أو بأخرى، ولا ينبغي أن نجثوَ على أقدامنا، المهم هو حماية أكبر عدد من الناس من أن يموتوا، ومن أن يذوقوا الفراق الأبدي، ولم يكن هناك سبيل إلى هذا إلا سبيل واحد، وهو مكافحة الطاعون، ولم تكن هذه حقيقة مُرضية ولكنها منطقية» (١٧٠).
ويشترك كامو مع دستويفسكي في تقديم الحب والتعاطف، ليقفا في وجه الطاعون الذي يجتاح الدنيا، ويغلف الإنسان بلهيبه؛ ففي محادثة بين «رامبير» و«ريو»، يقول الأول: «آه! لست أدري، ما هي مهنتي على وجه التحديد؟ وربما كنت مخطئًا لأنني اخترت الحب.» وواجهَهُ ريو، يقول بقوة: «كلَّا، لست مخطئًا» (٢١٤). كما يقول ريو بعد أن سأله تارو عمَّا إذا كانت لديه فكرة عن الطريق، الذي ينبغي اتباعه للوصول إلى السلام: «نعم، إنه التعاطف» (٣٢٤).
وفنان عظيم آخر دارت معظمُ كتاباته حول هذه المشكلة هو «إرنست همنجواي»، فإذا ما انتقلنا إليه نجد أن الحالة تختلف والنظرة تختلف. فهمنجواي — على نقيض كامو — لا يُنكر وجود القوى السماوية، ولكنه ينتهي إلى نفس النهاية التي انتهى إليها، ولكن تمرده على السماء لا ينتج عن أي نزوع عقلاني، بل يصدر عن الإرادة التي رفضت الإيمان به، ومع اعتراف همنجواي بوجود العلة الأولى للكون، فإنه يحدد موقفه منها بالنظر إلى مشكلة الشر تلك، فيقرر أن هذا الشر صادر عن الآلهة، وقد أثار همنجواي اتجاهه هذا في روايته الشهيرة «وداع للسلاح». ويتركز الشر عند همنجواي في الموت، الموت الفجائي العنيف الذي يحيل الحياة إلى عبثية، والوجود إلى لا عقلانية مطلقة، وهو يصوِّر لنا الحياة في هذه الرواية شرًّا لا طائل من ورائه؛ فبعد أن جاهد بطلها «فردرك هنري»، وناضل في سبيل الفوز بحياته الهانئة ممثلةً في شخص حبيبته كاترين، تموت بين يديه في لحظة، وتذهب دون أن تترك وراءها شيئًا، ولا حتى وليدها … أي بلا أي أمل في بعث جديد، والمهم هنا، أن كاترين هذه تموت بلا سبب يدعو إلى موتها على الإطلاق، وهذا ما يوضح إحساس همنجواي بمشكلة الشر، وتساؤله ذلك السؤال الأزلي: «ما سبب ذلك؟»
ماذا إذن يقدم همنجواي أمام هذا الشر للقوى العليا؟ إنه يقدم ما يقدمه دائمًا في قصصه رواياته، يقدِّم مجالدةَ الإنسان وعزمَه وتحمُّلَه كلَّ هذه الشرور والمصائب بصلابة وأمل، هذه الصلابة والمجالدة التي تُضفي على الإنسان صفاتٍ تجعله يرتفع إلى مصافِّ الآلهة ذاتها، وإن يكن مغلوبًا مهزومًا، ومثله في هذا مثل العجوز الذي صارع قوى الشر في عرض المحيط، ثم عاد بخفَّي حنين بعد أن تكالبَت عليه قوى الشر وأفقدَته رزقَه كلَّه، ولكنه لا يتحطم، بل يفكر في حياته المقبلة والاستعداد للخروج في غزوة صيد جديدة، بعد أن يتجهز لها مرة أخرى، وشعار همنجواي في هذا الأمر أن الإنسان قد يُهزم، لكنه لا يتحطم أبدًا، وهذه المجالدة الفريدة التي لا يحدها حدود، والتي تَنبُت في الإنسان نبتًا جوهريًّا أصيلًا، هي التي تمنح الإنسان قوةً تُمكِّنه من مجابهة الشرور بتعريةِ الحقائق وتفهُّمِها.
كل هذه المقارنات، تمهد وتوضح للموقف الذي اتخذه نجيب محفوظ، من مشكلة الوجود الكبرى في روايته الفاصلة «أولاد حارتنا»، فماذا يقول نجيب محفوظ إذن؟ وما هو اتجاهه؟
لقد عجز نقادُ الرواية عن فهمِ المغزى الذي عناه المؤلف من وراء تصوير سقوط إبليس، ثم زلة آدم، ثم الحركات الدينية الثلاث وترتيبها الواحدة وراء الأخرى، ما هو الغرض من تقديم مثل هذا البناء من الانتفاضات الدينية، التي حاولَت أن تُطهر النفوس الإنسانية من الأوشاب التي غطَّتها والأدران التي عَلِقت بها، ثم يعود الحال بعدها إلى ما كان عليه إن لم يكن أسوأ؟ لماذا ركز المؤلف على دور الرسالات السماوية في هذا العالم، وقدَّمها في تفصيلاتها الدقيقة؟ الرد هو لتصوير حرب الخير ضد الشر، حرب النور ضد الظلام، حرب الحكمة ضد الجهالة، كان الأوان قد آن لمحفوظ في مرحلة رواية «أولاد حارتنا» أن ينعطف إلى المجال الفلسفي، ويفجر في رواية أو بالأحرى في «رؤيا فلسفية» المشكلةَ التي طالما ألمح إليها في رواياته السابقة، وألمح إليها في رواياته اللاحقة، المشكلة الخالدة، مشكلة الشر، وفي اعتقادي أن الوسيلة الكبرى المباشرة التي اعتمد عليها نجيب محفوظ في تبيان وإظهار أبعاد المشكلة، هي الشكل والتركيب البنائي للرواية، ولنتتبع ذلك في تفصيلات الرواية، لنرى في كل سطر أقتبسُه منها رأيَ المؤلف واتجاهه.
هكذا بدأ الحال، هكذا زرع الشر أولَ بذوره في الدنيا، ثم نبتَت وفرَّعت، فضرب بأطنابه في كل مكان، ثم يثور المؤلف محاولًا الإصلاح، وتغيير هذا الشقاء والبؤس والشر إلى خير وسعادة، فجاء «جبل» أولًا، يحاول تغيير الأوضاع وإدخال الخير إلى النفوس، وإشاعة الروح الجديدة في الأحوال السائدة في أيامه، وكانت وسيلةُ جبل إلى هذا التغيير تختلف اختلافًا جوهريًّا عن وسائل مَن تبعه من المبشرين؛ كانت وسيلة جبل وسيلة مادية في جوهرها، فقد التزم بالمجاهدة والمحاربة من أجل انتزاع حقِّ عشيرته في الوقف، كما كانت عدالته مبنيةً على العدالة المادية التي تُصر على الانتقام للمظلوم من الظالم، بمثل ما وقع على الأول من ظلم، وقد استعان جبل لتحقيق بُغيته بكل أنواع الحيلة والدهاء والقوة، وهذا يتناسب مع ما أتى يبشر به قومَه من نعيم، وأن يفيء عليهم من نصيبهم في ريع الوقف، ثم جاء رفاعة بعد أن ساء الحال بالناس مرة أخرى، وعادوا إلى سابق عهدهم إن لم يكن أسوأ، ولكنه جاء بوسيلة أخرى مخالفة تمامًا لما جاء به جبل، جاء برسالة الخير للناس أجمعين. وكان جبل قد قصره على عشيرته فقط، فبسطها رفاعة للبشرية كلها. وكان جبل يدعو لمملكة الأرض والتمتع بأموال الوقف، فدعا رفاعة إلى نبذ المال وبشَّر بملكوت السماء، وكان جبل يقول: العين بالعين والسن بالسن. فقال رفاعة: مَن ضربك على خدك الأيمن، فأدِر له خدك الأيسر.
في كل مرة، كان الحال يعود أسوأ مما كان؛ فبعد النور الذي جاء به جبل، يقول الراوي إنه كان يمكن أن يستمر الخير على الأرض، «لولا أن آفة حارتنا النسيان»، وآفة النسيان هذه تسبِّب انتكاسَ كلِّ مثلٍ طيب، وحين كان الزمن زمن رفاعة، عاد كل شيء شرًّا وسوءًا؛ ففي كل يد مخلب، وفي كل لسان سمٌّ، وفي القلوب الخوف والضغائن، أما الهواء النقي ففي خلاء المقطم أو في البيت الكبير، حيث ينعم الواقف بالسلام وحده» (٢٢٨)، وحين مات جبل، جاء زنفل ثم خنفس، وعاد الناظر والفتوات إلى التربع على العرش وإلى اضطهاد الأتباع وبخسهم حقوقَهم، كأنما لم يظهر مَن يُسمَّى جبل، أو كما يقول المعلم شافعي أبو رفاعة: «… الحقيقة أن جدنا في البيت اعتزل، وأن ناظر وقفه بريع الوقف استأثر، إلا ما يهب للفتوات نظير حمايته، وزنفل فتوة آل جبل يتسلَّم نصيبهم ليدفنه في بطنه، كأن جبل لم يظهر في هذه الحارة، وكأنه لم يأخذ عين صديقه دعبس بعين المسكين كعبلها» (٢١٥)، واستمرارية الشر يعترف بها الجبلاوي نفسه في لقائه مع رفاعة: «أما جبل فقد قام بمهمته، وكان عند حسن الظن به، ولكن الأمور ارتدَّت إلى أقبح مما كانت عليه» (٢٤٧).
وحاول عرفة أن يُعيد إيقاد شعلة الخير بين البشر، وهو إذ ينجح في الحارة، فإنما يعني ذلك نجاحَ آرائه ومبادئه في الدنيا، وقد «تمخضَت المقابلة عن عهد جديد في الحارة، فقد اعترف بالرفاعيِّين كحيٍّ جديد مثل حي جبل فيما له من حقوق وامتيازات … وحَظِي رفاعة في موته بما لم يكن يحلم به في حياته من التكريم والإجلال والحب، حتى صار قصةً باهرة يردِّدها كلُّ لسان، وتتغنَّى بها الرباب.» (٣٠٤)، واستبشر الناس بعد رفاعة خيرًا، واستقبلوا الحياة بوجوه مشرقة، وقالوا بثقة واطمئنان إن اليوم خير من الأمس، وإن الغد خير من اليوم، ولكن آفة هذه الحارة هي النسيان؛ فقد ذهبت جهودُ رفاعة أيضًا أدراج الرياح، وما إنْ حلَّ عهدُ «قاسم» حتى كان الشر قد أطبق بأنيابه على الدنيا من جديد، وحين نتأمل افتتاحية جزء «قاسم» من الرواية، نُدرك كيف استغل نجيب محفوظ افتتاحَ كلِّ جزء من أجزاء جبل، رفاعة، قاسم، عرفة، بفقرة تبيِّن سوء الحال، مما يؤدي إلى إقامة نظرية استمرارية الشر وأزليَّته في الأذهان. ففي أيام «قاسم» «لم يكَد يتغير شيء في الحارة؛ الأقدام ما زالت عارية تطبع آثارها الغليظة على التراب، والذباب ما زال يلهو بين الزبالة والأعين، والوجوه ما زالت ذابلةً مهزولة، والثياب مرقَّعة، والشتائم تُتبادل كالتحيات، والنفاق يصمُّ الآذان.» (٣٠٩)، وقاسم ذاته، ناجَى نفسه، واعترف بسيادة الشر، ورأى في خطراته كيف كانت نهاية الطيبين من أهل الحارة مؤسفةً دائمًا، وحاول قاسم في أيامه أن يصدَّ تيارَ الشر، ويزرع الخير، حتى قال كثيرون من أولاد حارتنا إن الحارة قد آن لها أن تبرأ الآن من آفة النسيان، وأنها ستبرأ منها إلى الأبد، وهذا الاعتقاد هو المعادل الأليجوري، أو هو الرمزي لحقيقة أن النبي محمد ﷺ هو خاتم الرسل والأنبياء.
ويسأل «حمدان» «جبل» بعد لقائه الأخير مع جبلاوي: «ألم تسأله عمَّا يمنعه من إجراء العدل بنفسه؟ أو عمَّا جعله يعهد بالنظارة إلى قوم لا يُحسنون القيام على حقوق الناس؟» (١٧٩). وتقول عبدة زوجة المعلم شافعي أبي رفاعة إنه في هذا البيت «جدك صاحب هذه الأرض كلها وما عليها، الخير خيره والفضل فضله، ولولا عزلته لملأ الحارة نورًا» (٢١٨). وحين يقول جواد لرفاعة عن الجبلاوي: «والله لو فتح أبوابه ما بقيَ أحد من أهل حارتنا في داره القذرة.» تقول «أم بخاطرها»: «لنفعل مثله، فإنه لا يشغل بنا نفسه (٢٣٠–٢٣١).» ويقول رفاعة نفسه: «أين أنت يا جدي؟ لماذا لا تظهر ولو لحظة! لماذا لا تخرج ولو مرة؟ لماذا لا تتكلم ولو كلمة؟ ألا تدري أن كلمةً منك تغيِّر حارتنا من حال إلى حال؟ أم يرضيك ما يجري بها؟» (٢٣٤). ويستبين هذا الاتجاه تمام الاستبانة من مشهد مقتل رفاعة: «ومضى جندوسة نحو الخلاء بحذاء سور البيت الكبير، رفع رفاعة عينَيه إلى البيت لكنه رآه مظلمًا كالسماء، وظلَّت عينا رفاعة مرفوعتَين نحو البيت، ترى هل يدري جدُّه بحاله؟ إن كلمة منه تستطيع أن تُنقذَه من مخالب هؤلاء الجبارين وتردُّ عنه كيدهم، إنه قادر على أن يُسمعَهم صوته كما أسمعه إياه في هذا المكان» (٢٩٤). ولكن القساة يقتلون رفاعة أبشع القتلة، ويكتفي المقتول بالهتاف من أعماقه: «يا جبلاوي.» وقاسم هو الآخر تقول له زوجته، حين يُخبرها أن الجبلاوي اختصَّه برسالته: «ولماذا لا يُحقق إرادتِه بنفسه، وهو صاحب الوقت وسيد الجميع؟» (٢٥٥)، وهو نفسه: «مدَّ بصرَه خلال الفضاء حتى استقر على البيت الكبير، بيت الجبلاوي، الغارق في صمته كأنه لا يُبالي بصراع الأبناء من أجله» (٤٢٦). وفي أيام عرفة كذلك يظل هذا الاتجاه سائدًا، فيقول «شكرون»: «يا جبلاوي، حتى متى تُلازم الصمتَ والاختفاء، وصاياك مهملة وأموالك مضيَّعة، أنت في الواقع تسرق كما يسرق أحفادك يا جبلاوي … يا جبلاوي ألَا تسمعني؟ ألَا تدري بما حلَّ بنا؟ لماذا عاقبت إدريس وكان خيرًا ألف مرة من فتوَّات حارتنا! يا جبلاوي!» (٤٧٥). ويقول عرفة هو الآخر: «هل سمعتَ عن أحفادٍ مثلنا لا يرَون جدَّهم وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو، وهو لا يُحرِّك ساكنًا؟» (٢٤٣).
مما تقدم يمكن أن نستخلص بوضوح الاتجاهَ الذي يقفه الراوي من مشكلة العلة الأولى؛ إن ما يُحيره أكثر ليس الشر الذي قد يكمن فيها، ولكنه الصمت، إنه يعترف بوجود الإله — خلافًا لألبير كامو — كما أنه لا يعرف كهمنجواي بأن الشر هو السماء، وإنما هو الصمت التام الذي يُثير لديه التساؤل. واتجاهه من موقف علاقة الشر بالآلهة هو موقف اللاإرادية، وهو يُذكرنا بما ذهب إليه أبيقور الفيلسوف اليوناني، حين يذكر أن الآلهة موجودة لا شك في ذلك، غير أنها قد انشغلَت عن البشر بأعمالها الخاصة، ولم تَعُد تأبَه لهم ولا تُعيرهم أيَّ التفات، منهمكة في سعادتها الخاصة.
واضح إذن، أن الدين وحده، في رأي نجيب محفوظ، لم ينجح في مداواة أمراض البشر، وفي التقليل من وطأة الشر في دنيانا الأرضية، وآية هذا الفشل واضحة في افتتاحية الجزء الرابع من الرواية بعنوان «عرفة»؛ إذ نجد أنه بعد جبل ورفاعة وقاسم، عاد الحال كما هو لم يتغير. وبعد أن قال كثيرون في عهد قاسم إن حارتنا قد آنَ لها أن تبرأ من آفتها، نجد في افتتاحية «عرفة» أن «المتأمل لحال حارتنا لا يصدِّق ما تقول الرباب في القهوات، مَن جبل ومَن رفاعة ومَن قاسم؟! وأين الآثار التي تدل عليهم خارج نطاق القهوات؟ أما العين فلا ترى إلا حارةً غارقةً في الظلمات، وربابًا تتغنى بالأحلام، كيف آل بنا الأمر إلى هذه الحال؟ أين قاسم والحارة الواحدة والوقف المبذول لخير الجميع؟ وماذا جاء بهذا الناظر الجشع وهؤلاء الفتوات المجانين؟!» (٤٤٧).
عاد الحال كما كان إذن، «أما أهل الحارة فانقلبوا إلى ما كانوا عليه في الزمان الأسود، بلا كرامة ولا سيادة، تُنهكهم الفاقة، وتتهدَّدهم النبابيت، وتنهال عليهم الصفعات، وانتشرت القذارة والذباب والقمل، وكَثُر المتسولون والمشعوذون وذوو العاهات، ولم يَعُد جبل ورفاعة وقاسم إلا أسماءً وأغانيَ ينشدها شعراء المقاهي المسطولون» (٤٤٨).
فما الحل إذن؟ ماذا يقول المؤلف في ذلك؟ إن إجابته على هذا السؤال تكمُن في الجزء الأخير من الرواية، المعنون «عرفة»، الحل الذي قدَّمه هو شخصية عرفة، المعرفة، العلم. العلم هو الحل الذي يقدِّمه نجيب محفوظ علاجًا لمشكلة البشرية الأزلية، وإحلالًا للخير على هذه الأرض وعلى بني البشر، عرفة إذن هو الحل، عرفة ابن التنجيم والسحر، الذي انبثق لا يُعرف له أب، انبثق ونبع من لدى حي الرفاعيِّين (إشارة إلى أن العالم المسيحي هو الذي قام بصياغة العلم الحديث وتطويره)، رغم أن الأحياء الأخرى تتنازع انتسابه إليها، وقيمة هذا العلم تتبدَّى في قول رفاعة عن حجرته، التي أحالها إلى معمل علمي: «إن أيَّ مغفل ممن يحسَبون أنفسهم معدَمين في هذه الحارة، لا يستطيع أن يدرك خطورة الأشياء التي تُصنع في هذه الحجرة المعتمة القذرة ذات الروائح الغريبة … إن أعاجيب لا يحيط بها الخيال يمكن أن تخرج من هذه الحجرة، المجانين لا يدركون قيمة عرفة الحقيقية، لعلهم يعرفونها يومًا ما، وعند ذاك يجب أن يترحموا على أمي، لا أن يُعرِّضوا بها كما يفعلون» (٤٦١).
ولكن نجيب محفوظ لا يكتفي بالمزج بين العلم والدين هكذا ببساطة، ولكنه إذ يقدِّم لنا العلم إنما يصبغه بصبغة خاصة، تتفق ورؤياه الفلسفية الخاصة، محمِّلًا إياه معانيَ مختلفةً كثيفة متشابكة. وهذه المعاني والرموز التي قصدها المؤلف هي ما جعلت من شخصية عرفة شخصية غامضة مغرقة في الغموض، تحارُ الأذهان في تفسيرها واستيعابها، ولا عجب في هذا؛ فالجزء الخاص بعرفة هو القاعدة التي ترتكز عليها الرواية، والمسمار الذي يربط بين أجزائها، والقسم الذي يخلع معنًى وترابطًا على ما سبقه من الأقسام. ولما كان المؤلف يريد أن يقدِّم لنا هذه الشخصية كما يريدها أن تكون، فإنه يُدخلها في تجاريب عديدة توضح لنا جوهرها في النهاية. فعرفة يتسبب في قتل الجبلاوي، مثلما هدم كوبرنيكس وداروين، نظرية ألوهية الأرض ونظرية الخلق الإنساني.
ولكن المؤلف يقدِّم لنا جوهرَ نظريته الأصيلة هنا، فإن العلم لم يكن يهدف إلى قتل الدين، بل إنه لا يمكنه القيام وحده دون وجود الدين! هذا ما يقوله المؤلف صراحة، حين يذكر أن هدف عرفة لم يكن قتل الجبلاوي، وإنما هو قد اقتحم عليه مركز سلطانه لكي يستكشفَ ويحلَّ طلاسم وجوده وألغازه، كما يقول حين يصور مدى جزع عرفة وفزعه عندما يدرك أنه هو المتسبب في وفاة الجبلاوي، وعند ذلك تستبين حقيقة النظرية التي يُلملم المؤلف أطرافها لتتضح في النهاية متكاملةً متناسقة. إنه يقول إن العلم وحده لا يمكن أن يعيش وأن ينجح في حلِّ مشكلات البشر، بل لا بد أن يكون مستندًا إلى دعامة. فعرفة فور علمه بتسببه في وفاة الجبلاوي، يعمل على ردِّ الحياة إليه، وبعد وفاة الجبلاوي، يتردد عرفة إلى المكان الذي تردَّى فيه العلم في العصر الحديث، الذي امتلأ بالشك والإلحاد والإيمان بالعلم وحده، دون أي قوًى روحية أو أي معتقدات معنوية أخرى، فعرفة بعد ذلك قد أصبح ذيلًا لناظر الوقف «قدْري»، وعَمِل تحت إمرته وطَوْع بنانِه، أي أن العلم بدلًا من أن يبنيَ الخير والسلام على الأرض ولبني البشر، أصبح سلاحًا في يد الحكام الطغاة، يُرهبون به الضعفاء، ويُمكنون لأنفسهم في الأرض، وأصبح العلم يُستخدم في سبيل الشر، في سبيل إنزال الأذى بالبشر، وأفضل مثل على ذلك هو اختراع الأسلحة النووية المهلكة، والتي يقابلها في الرواية اختراع الزجاجات التي أصبحت في يد الناظر سلاحًا إرهابيًّا، يُرهب به أهل الحارة، بل ويرهب به عرفة نفسه، ولا يمكن للعلم الذي سيبني الحياة ويُرسي دعائم الخير في الأرض أن يستمر هكذا أداةً للشر والدمار؛ لذلك فهو لن يكون بذي فائدة في هذا المضمار والحالة هذه، ولذلك فإنه يموت هو الآخر. إن العلم الذي لا يضع نفسه في خدمة الإنسان ورفاهيته يدمر نفسه بنفسه، ولا يكون له من وجود، وهكذا يقتل أعوان الناظر «عرفة» وزوجته، ويلقيان مصرعهما. وإن طريقة قتلهما لتدلُّ دلالة بالغة على أن العلم الذي لا يُحسَن استخدامه، يكون قد دفن وأهيل عليه التراب، حتى لو نجح في اختراع آلات التدمير والخراب.
أيُّ علم إذن يريده نجيب محفوظ؟ إنه يذكر أن عرفة قد لقيَ تفهمًا كاملًا بعد وفاته، وأن أعوانه قد بشَّروا به منقذًا للبشرية، فأكبرَ أهلُ الحارة ذكراه، ورفعوا اسمه حتى فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم، عرفة هذا هو عرفة الذي ندم على وفاة الجبلاوي، وكان يعمل على ردِّ الحياة إليه، عرفة الذي أدرك بشاعةَ خدمته للناظر، واستمراره في استخدام نفيس في يد قوى الشر، عرفة الذي أصبح مقترنًا في أذهان أولاد الحارة، بعد ذلك، بالسلام والخير. أيُّ علم يريده إذن نجيب محفوظ ويبشِّر به؟ إنه العلم المتحد بالقيم والمعتقدات المعنوية. وهكذا، يصرِّح نجيب محفوظ عن رؤياه الفلسفية التي طالما ترددت هي الأخرى في أعماله: اتحاد العلم والدين، الجسد والروح، المادة والروح، الدين الظاهري وحده لا يُجدي، والعلم الذي يقتل الدين والروح ينقلب على نفسه، ولا ينجم عنه إلا الدمار والخسارة، وحلُّ المشكلة هو في التوافق والانسجام بين العنصرين، وتوافق الألوان واتساقها في قوس قزح متكامل، يندمج فيه العلم والروح في تناسق يؤدي إلى السلام والخير، وهو الحل الوحيد أمام البشرية؛ إذ لا سعادة في الإغراق في المادة، ولا تكامل في الإغراق في المعنويات. وهكذا يدين محفوظ أيًّا من الاتجاهَين وحده، ويبشِّر بوحدة تجمعهما معًا، وهذه الوحدة هي التي ينتظرها أولاد حارتنا، وهي لا بد منبثقة آخر الأمر.
وهكذا، تستبين القيمة الأخلاقية لهذه الرواية، التي تعرَّضت للهجوم على أسس دينية؛ ذلك أن نجيب محفوظ لم ينادِ فيها بالتخلص من الدين، على العكس؛ إذ إنه يقول إن لا غنى للعلم عن الدين. وإنما هو ينادي بالتدين الحقيقي، التدين السليم، الذي ينفتح على كل أبواب المعرفة، والذي يستعين بالعلم لخير العباد، ولتحقيق أهداف الدين السامية. ولم يكن هذا بالجديد، وإنما تناوله المؤلف وأبرزه كيما يحفزَ أبناء الأمة الإسلامية إلى النهوض والارتقاء للعودة إلى ما كان عليه المسلمون من رفعةٍ وشأنٍ أيامَ كانوا يأخذون بأسباب العلم، وكانوا هم قادة النهضة العلمية والثقافية في العالم، حينما كان الغرب ما يزال يعتمد على الخرافات والأساطير في عصوره المظلمة، لم يكن هذا جديدًا، أكرر؛ لأن القرآن الكريم يحثُّ في الكثير من آياته إلى الرجوع إلى العقل وتدبُّر إعجاز خلق الله تعالى، من كونٍ وبشرٍ وأنعام ونبات، وهذا التدبر هو أساس العلم، وهو الذي يُفضي لمن يعقل ويبصر إلى الإيمان: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: ٢٨). ولهذا، فقد أخطأ مَن جرَّموا نجيب محفوظ على هذه الرواية، فهم لم ينظروا إلا إلى سطحها، ولو غاصوا في معانيها لوجدوا أنها تُمجد الدين والتدين، وإنما هي تهاجم الانحراف عن أصول الدين، والغفلة عمَّا يدعو إليه كتاب الله جل شأنه، من الأخذ بأسباب المعرفة والعلم.
رأينا هنا مدى أهمية وضرورة مثل هذا البناء بالنسبة لرواية جويس، فماذا كان هدف ونتيجة هذا التكنيك الذي اتبعه محفوظ؟
الحقيقة، إن بناء نجيب محفوظ لروايته على نسق الأديان السماوية قد أدى إلى جمود في الأحداث وتحجُّر في الشخصيات، فقد تقيَّد المؤلف تمامًا بسير التاريخ، وبما يرويه عن الشخصيات، فلم يُضْفِ من رؤياه ومن ابتكاره على أي حادثة أو على أي شخصية، بما يمكنه من إثارة معنى جديد أو تحميل هذه الأحداث والشخصيات باتجاه جديد يخلع أصالةً عليها، وربما كان تناوله لشخصيات دينية مقدسة، هو ما جعله يحرص كلَّ الحرص على عدم المساس بجوهرها، ولكن هذا الجمود الذي اتصفَت به الأحداث والشخصيات، يعوِّضه الفصل الأخير عن عرفة الساحر — العلم الحديث — إذ هو قد حمَّله ببذور فكرية، تنسحب جملةً وتفصيلًا على كل كلمة خطَّها قلمه في الفصول السابقة من الرواية، على القارئ إذن، لكي يُدرك الفن البنائي الفريد في أولاد حارتنا، أن يتناول الفصول السابقة على الفصل الأخير كمجموعة واحدة، يقابلها بعد ذلك فصل عرفة؛ ليدرك الماهيةَ الفلسفية التي قصدها المؤلف وأخضع البناء والنسيج الروائي إخضاعًا تامًّا لخدمتها، وهي تلك الماهية التي أوضحناها سابقًا عند الحديث عن المضمون الفلسفي للرواية.
وإلى جانب هذا البناء الفريد في أولاد حارتنا، هناك الرمز المُحْكَم البارع، والكلام عن الرمز في الرواية، سيتيح الفرصة لإثبات بعض الفروض التي سلَّمنا بها في المقال، وهذا هو السبب الذي سأسمح لنفسي من أجله ببعض الاستطراد عند الحديث عن رموز بعض الشخصيات المعينة، وأول هذه الرموز شخصية الجبلاوي، وهي أهم رمزيات الرواية. وإذا ثبت مقابلها الموضوعي ثبتت بالتالي جميع الفروض المترتبة عليه، والجبلاوي إنما يرمز للإله؛ فإلى جانب المشهد المعروف في بداية الرواية من سقوط إدريس «وحتى الاسم على وزن الشخصية المقابلة لها: إبليس»، واصطفاء أدهم (آدم)، ثم زلة أدهم وأميمة وهبوطهما إلى الحارة، هناك تلك الأوصاف التي تُذكر عن الجبلاوي، فماذا في هذه الأوصاف؟ تعالَ مثلًا نرى ما يذكره أبناء الجبلاوي في فاتحة الرواية عن أبيهم: «وما يُقلقهم إلا أنه جبار في البيت كما هو جبار في الخلاء، وأنهم حيالَه لا شيء» (١١)، وأدهم يقول عنه: «لا شيء يعادل شدة أبي إلا رحمته» (٢٦)، وهي كلها أوصاف لا تُخلع إلا على الإله.
ومن يشك في ذلك فليرجع إلى لقاء جبل بالجبلاوي: «مضيت في تجوالي في ظلام دامس؛ فحتى النجوم توارَت وراء السحب، وما أدري إلا وأنا أُوشك أن أصطدمَ بشبح هائل، توهمتُه أول الأمر أحدَ الفتوات، بدا لي شخصًا ليس كمثله أحد في حارتنا ولا في الناس جميعًا، طويلًا عريضًا كأنه جبل، فامتلأتُ رهبةً وهممت أن أفرَّ، وإذا به يقول بصوت عجيب: «قف يا جبل» (١٧٦). وهو يقول لجبل: «إني أرى في الظلام منذ اعتدتُ التجوال فيه، قبل أن توجد الحارة» (١٧٨) والحارة هي الدنيا، والإله وحده هو الذي كان قبل أن توجد الدنيا، والكون كله ملك له، ويَرِدُ ذِكرُ الجبلاوي أكثر من مرة باعتباره «ذلك الجبار الذي دان له الخلاء»، ويقول قاسم عن حواره مع بواب الجبلاوي: «فسألته: هل يدري (أي الجبلاوي) بما يجري في حارتنا؟ فأجابه بأنه يعلم كل شيء، وبأن المقيم في البيت الكبير يستطيع أن يطَّلع على كل صغيرة وكبيرة مما يقع في حارتنا» (٣٥٢).
وهكذا، التكرار في الوصف يؤدي إلى خلقِ جوٍّ من الرمزية، يغلف شخصية الجبلاوي، بحيث لا يكاد يُعادله جوٌّ آخر في روايات نجيب محفوظ كلها من حيث البراعة الفنية، وهنا أيضًا براعة في رسم شخصيات جبل ورفاعة وقاسم، وخلق المعادلات الأليجورية للأحداث التي وقعَت لهم، تجعل جبل يحترف مهنة الحواة، إشارة إلى حية موسى — عليه السلام — التي انطلقت تسعى. ورفاعة أيضًا رُسم بدقة بالغة؛ فبكلمات قليلة، يوحي المؤلف بعديد من الأفكار التي ما كان يبلغ مراده من الإيحاء بها إلا بالاستطراد والإسهاب، لولا رمزية الأليجورية التي تجعل المؤلف يرسم على مثال سابق، يساعده في بثِّ الأفكار التي يريدها في ذهن القارئ الواعي؛ إذ يقول شاعر الرباب لرفاعة: «ما أشبهك بجدك» (٢١٩). كما يذكر أنه قد «تنوقل أيضًا أن جثةً (أي جثة رفاعة) ظلت ملقاة في الخلاء، حتى حملها الجبلاوي بنفسه، فواراها التراب في حديقته الغنَّاء» (٣٠٣). كما عمد نجيب محفوظ أيضًا إلى صياغة بعض عبارات الجزء الخاص برفاعة، في أسلوب يشابه أسلوب الإنجيل تمام المشابهة، منها: «فسألته أتطمع في المال الكثير؟ فأجابه بأنه في تطهير الحارة يرغب، لا في المال الكثير» (٢٣٤). وأيضًا، عن لقاء رفاعة بياسمينة: «وجدها في جلباب بُني ذي كلفة بيضاء حول الطوق وفوق نهضة النهدين، وحافية، وعارية الساقين وجدها أيضًا» (٢٢٣). وعلى نفس النسق، يقول قاسم لعمِّه: «لن أُقلع عمَّا في رأسي، ولو ملكتُ الوقفَ كلَّه وحدي» (٣٦١). وهي صدى لما قاله النبي محمد ﷺ، من أنه «لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته أو أهلك دونه.»
ومهما تعدَّدت الشروح والتفسيرات حول «أولاد حارتنا»، ومهما تناقضت في مدلولاتها ومضموناتها، فإن هذا لن يغضَّ من قيمة هذا العمل الفني الكبير، الذي أضاف جديدًا إلى التراث الأدبي العربي، وأسهم إسهامًا كبيرًا في الفن الروائي الحديث.