المصادر العربية في القصص الأوروبي
استمر الوجود العربي الإسلامي على أرض الأندلس ثمانية قرون طوال، بدءًا من عام ٧١١م، حين عبرَ طارق بن زياد برَّ العدوة إلى الجبل الذي دُعي باسمه بعد ذلك، مستهلًّا بهذا عهدَ فتوح العرب في أوروبا، حتى عام ١٤٩٢ (جميع التواريخ بعد ذلك ستكون حسب التقويم الميلادي) حين ودَّع آخر سلاطين غرناطة العرب مملكتَه بعد استيلاء الملكَين الكاثوليكيَّين عليها.
وفي خلال القرن الأول، أقام العرب حضارة ومدنية راسختَي الجذور في تلك المنطقة، ونشروا الثقافة العربية الإسلامية فيها، في الوقت الذي كانت تَرِين على أوروبا عواملُ الفرقة والنزاع، وتسيطر عليها جهالة حضارية وثقافية عُرفت بعصور الظلام، لذلك كان طبيعيًّا أن تؤثر الحضارة العربية في الأقطار الأوروبية، وقد جاورَتها واحتكَّت بها سِلمًا وحربًا، وكان طبيعيًّا أن يَفِد الآلاف من البلاد المجاورة إلى المراكز الحضارية الإسلامية في الأندلس لينهلوا من العلم والفن، ومن ناحية أخرى، توفَّر الكثير من العلماء الإسبان على دراسة المصنفات العربية وترجمتها إلى اللغة اللاتينية أولًا، ثم إلى اللغة الإسبانية الناشئة، والتي عُرفت في بداياتها باللغة الرومانسية.
وكان دور إسبانيا أنها كانت حلقةَ الوصل التي تمثَّلت علوم العرب وفنونهم، ونقلَتها — إما عن طريق الأسفار والزيارات التي تلقَّتها من جميع الأنحاء، أو عن طريق الترجمات — إلى دول أوروبا، ثم انتشرت هذه الترجمات منذ القرن العاشر حتى الخامس عشر وما بعده في اللغة اللاتينية، التي كان يُطالع بها جميع الدارسين في الغرب، أو في تلك اللهجات الرومانسية التي تفرَّعت عنها في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا.
فمن ذلك، أن عددًا من العلماء الرحَّالة قد توجهوا من مناطق عديدة في أوروبا إلى الأندلس، بعد أن جذبهم إليها علوُّ شأن العلم العربي، وأشهرُ هؤلاء الرحَّالة العلماء هو «جريير دي أوريلاك»، الذي تولَّى البابوية بعد ذلك تحت اسم سلفستر الثاني، وقضى هذا العالِم الكاهن ثلاث سنوات (٩٦٧–٩٧٠) في قرطبة، التي كانت منارة العلم ومركزًا للبعثات الدراسية في تلك الفترة، فقد زخرت بالفقهاء في كل فروع المعرفة والفنون، وازدحمت بالمكتبات الوفيرة الزاد، أشهرها مكتبة الخليفة الحاكم الثاني، التي احتوت على أربعمائة ألف مجلد، في الوقت الذي كانت فيه المكتبات في العالم الغربي تنحصر في المؤسسات الدينية، ولا تحوي سوى عشرات الكتب، ولا تتجاوز المائة كتاب بحال من الأحوال!
أما مركز ترجمة العلوم العربية إلى اللاتينية ثم الرومانسية، فكان المدينة العريقة طليطلة، وكانت طليطلة عاصمة مملكة القوط قبل الفتح العربي، ثم أصبحت إحدى ممالك الطوائف الهامة، ازدهرَت فيها الدراسات العربية والإسلامية، وكانت أولَ مدينة عربية كبرى تسقط في أيدي الإسبان عام ١٠٨٥، ولم يمضِ على سقوط طليطلة إلا عدة سنوات، حتى استحالت مركزًا كبيرًا لنشر المعارف العربية في كل أنحاء إسبانيا المسيحية والعالم الأوروبي، واجتذبَت إليه الكثير من الطلاب والدارسين والعلماء، توفروا على تصنيف الكتب العربية في مكتباتها، وترجمتها إلى اللاتينية، وأدى ذلك إلى قيام مدرسة للدراسات اللاتينية-العربية، تبنَّاها وشجَّعها كبيرُ أساقفة طليطلة المدعو رايموندو في الفترة من ١١٢٦–١١٥٢، ومَن تلاه في هذا المنصب، واضعين نصبَ أعينهم حاجة المسيحية إلى الاستعانة بالفكر والعلم العربيَّين، اللذَين مثَّلَا الحضارة الزاهرة التي سادت آنذاك، كما ساد الاعتقاد من وجهة النظر الدينية، بأنه يجب مقاومة المسلمين الذين يتمتعون بحضارة وثقافة عميقتَي الجذور بالعقل أكثر من القوة، وذلك لا يتم إلا بالتوفر على دراسة كل من معتقداتهم الدينية وعلومهم الوضعية. وبالإضافة إلى ذلك، فقد نُقلت إليهم كتب العرب معارف اليونانيين الذين أهملت روما دراسة تراثهم بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية، حتى اندثرت عندهم. وهكذا اطلع علماء الغرب على مؤلفات أرسطو وإقليدس وغيرهما من العلماء والفلاسفة اليونان، مشروحةً ومفسرة ومزادةً في تراث عميق وأبعاد جديدة، بأقلام علماء العرب والمسلمين الذين يحملون خلفهم تراثهم وثقافتهم المتميزتَين، في فترة ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية خاصة في العصر العباسي، بعد احتكاكها بالحضارات الآسيوية العريقة، مما نتج عنه حركة استنارة لم تعرفها الإمبراطورية الرومانية في أوج ازدهارها.
وبينما كانت مدرسة المترجمين الأوائل تعمل بجدٍّ وحماس في طليطلة، ازدهرت في الأندلس دورة جديدة من الإنتاج الفكري العربي، على أكتاف نخبة من المفكرين البارزين، منهم «ابن باجة»، الذي دعا إلى صوفية عارَض بها صوفية الغزالي؛ إذ أدخل فيها عنصر العقل، و«ابن زهر» الطبيب الذي دُرِّست كتبه في جامعات أوروبا حتى القرن السابع عشر، و«ابن طفيل» صاحب رسالة حي بن يقظان، وابن رشد. فكان الطور الثاني من جهد مدرسة المترجمين هو نقل أعمال هؤلاء إلى اللغة اللاتينية ونشرها بين علماء أوروبا.
وفي عام ١٢٥٢، تولَّى عرش قشتالة الملك ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم (١٢٢١–١٢٨٤)، وبلغَت حركةُ الترجمة عن العربية أوجهًا في عهده؛ إذ بسط رعايته على علماء عصره، وأشار بترجمة كتب معينة من التراث العربي من قبل تولِّيه العرش، منها كتاب «الزرقلي» فلكي قرطبة، وكتاب كليلة ودمنة الذي ظهرَت أول ترجمة له بأوروبا في إسبانيا عام ١٢٥١، وكتاب «قصص السندباد» الذي ضاع أصله العربي، وبقيَت لنا الترجمة الإسبانية بعنوان «كتاب مكائد النساء وحِيَلهن».
وما يهمُّ التنويه به في تلك الحقبة الألفونسية لنقل المعارف العربية، أن تلك الكتب لم تَعُد ترجمتها تقتصر على اللاتينية فحسب، بل أصبحت تُنقل أولًا إلى اللغة الرومانسية؛ أي الإسبانية المحلية التي لم تكن قد تطورت بعد التطور الكافي.
الحلقة المفقودة
كان أهم عمل تُرجم في هذه الفترة هو حديث المعراج، الذي يروي وقائع إسراء النبي محمد ﷺ إلى المسجد الأقصى وعروجه إلى السماء، وقد أثارت هذه الوقائع ضجة عظمى في أوائل القرن الحالي في أوساط المستشرقين، بسبب ما قيل عن تأثر دانتي بها في ملحمته «الكوميديا الإلهية»، دون وجود ما يُثبت تداولها في اللغات الأوروبية في عهده. وعارض الكثيرون ذلك القول، بل وسفَّهوا أمرَه، إلى أن اكتُشفَت ونُشرت عام ١٩٤٩ النصوص الفرنسية واللاتينية لوقائع هذا الحدث، بما لا يترك مجالًا لشكٍّ في ترجمة نصوصه وذيوعها في لغات أوروبية قبل العصر الذي وُجد فيه دانتي. وكان اكتشافُ هذه المخطوطات في رفوف مكتبتَين من أكبر مكتبات أوروبا، وهي المكتبة القومية بباريس ومكتبة أكسفورد بإنجلترا، مثارَ تساؤل عظيم، يدور حول إمكانية تواجد الكثير من الحلقات المفقودة في تاريخ انتقال الثقافة والعلم والأدب العربي إلى أوروبا، وظهر هذا الأثرُ في كتاباتهم الكلاسيكية المشهورة التي نقرؤها اليوم، فنجد في ثناياها صدًى عميقًا لجوانب معروفة في آدابنا القديمة، ونتلمس منها موضوعاتٍ ونماذجَ أدبيةً مألوفة لدينا، ولكن تقف أمامنا علامةُ استفهام كبرى، وهي همزة الوصل التي يسَّرت نقل هذه الأعمال العربية إلى أولئك الكُتَّاب الأوروبيِّين. وفي رأيي أنه إذا كان المترجمون قد توفروا على نقل جواهر العلوم البحتة العربية من كيمياء وطب ورياضيات إلى اللاتينية أو اللغات المحلية، فإنه يكون غريبًا أن يُهملوا نقل العلوم والمعارف الأدبية المشهورة إلى لغاتهم أيضًا. وهم إذا كانوا قد ترجموا أعمالًا مثل حي بن يقظان وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة، فما الذي يمنع أنهم قد ترجموا أيضًا كتب الجاحظ، وأبي العلاء، ومقامات الذبياني والحريري؟ إنَّ عدم وجود نصوص هذه الكتب اليوم في ترجماتها الأوروبية ليس دليلًا على عدم إتمام مثل هذه الترجمة وذيوعها في عصر النقل الذي تحدَّثنا عنه، ومثالنا على ذلك، الاعتقاد السابق بعدم وجود ترجمة للمعراج إلى حين ظهورها في نصوص مؤكدة، وأَمضي متابعًا لهذا الرأي، فأذكر سببَين جوهريَّين وراء تلك الحلقة المفقودة، أولهما: ضياع الكثير من الكتب العربية ونصوص ترجماتها في الفترة التي سادت فيها محاكم التفتيش، وتسلَّطت على حياة الناس في إسبانيا. وقد نشأت فكرةُ محاكم التفتيش أصلًا من حملات الكنيسة والبابا ضد الهراطقة الذين هددوا أساس الديانة المسيحية، ثم زادت هذه الحملات بسبب المنافسة والصراع على السلطة بين الكنيسة والملوك في أوروبا، إلا أن محاكم التفتيش الرسمية قد اتخذت صفةً أوسع وسلطةً أشد في إسبانيا، بالذات بسبب وجود أعداد كبيرة من المسلمين واليهود يعيشون فيها في المالك المسيحية، وحتى بعد أن تنصَّر الكثير منهم هربًا من حكم الطرد من البلاد، فإنهم كانوا ما يزالون يُقيمون طقوسهم وعباداتهم سرًّا. ولهذا صدر أمرُ البابا «سكست» الرابع بإقامة هذه المحاكم لفحص عقيدة هؤلاء الأفراد توخِّيًا للنقاء الديني. وقد باشرَت هذه المحاكم عملَها في مدن إسبانيا وقُراها، وكانت تُصدر أحكامًا مفزعة بالحرق والقتل لدى أقل شبهة، وعمدَت إلى ألوان التعذيب تُماثل ما قام به النازيون بعد ذلك بقرون عديدة، ولكن ما يهمنا هنا هو أثر ذلك النظام على الثقافة العربية، فبعد عدة سنوات من سقوط غرناطة في أيدي الإسبان، نفذ الإسبان، وحملوا حملات شديدة على المسلمين الباقين في غرناطة، وألقَوا بالآلاف من الكتب العربية طعامًا للنيران، وقد ثار المسلمون عدة مرات من جراء هذا الاضطهاد، حتى انتهى بهم الأمر إلى الحكم عليهم بالطرد جملةً عام ١٦٠٩، وكانت شبهة الاحتفاظ بأي كتب عربية أو أي شيء له صلة بالمسلمين وبالعرب كافية لتقديم صاحبها للمحاكمة. ومن هنا يمكن تصوُّر كيف ضاعت آلاف الكتب والمخطوطات العربية وترجماتها في ذلك العقد الذي دام قرونًا عدة، أو كيف فقدت وضلَّت طريقها وسط خزائن الكنائس والأديرة والجامعات، التي قد تكون محتفظة به حتى الآن.
وثاني هذين السببَين هو الصعوبات التي تكتنف علم البحث عن المخطوطات القديمة وتحقيقها؛ فمراكز الثقافة العالمية تزخر بمثل هذه المخطوطات، ولكنها تبقى عادة «مهملة» في مخازنها نتيجة لقلة المتخصصين في تناول هذه الوثائق التاريخية والأدبية الهامة، وتحقيقها وتصنيفها، ونتيجةً لاعتبار القائمين على أمور هذه المراكز والمكتبات تلك المخطوطاتِ ثروةً «قومية» لا يسمحون لغريب أن يُحرز قصب السبق في الكشف عن كنوزها، وبخاصة المخطوطات ذات المتن العربي المسطَّرة بالخطوط القديمة، التي يُنفق المستشرقون أوقاتًا طويلة في فك طلاسمها، والتي كان يمكن أن تحقَّق بسرعة أكبر لو قام بتلك المهمة خبراء وأساتذة عرب، أو اشتركوا في ذلك مع أصحابها الأوروبيِّين. ونتيجةً لهذا، فإن هناك كميات كبيرة من هذه المخطوطات حبيسة في مكتبات الاستشراق الهامة مثل مكتبات: الإسكوريال القومية، ومدرسة الدراسات العربية في إسبانيا، وإسطنبول بتركيا، والفاتيكان، وجامعات هولندا وفرنسا وإنجلترا، وفي بعض مراكز الثقافة بإيران والمغرب وتونس. ولا بد أن يكون في مثل هذه المخطوطات المخزونة ما يُلقي أضواءً جديدة على الشئون التي يتناولها هذا البحث، بالإضافة إلى إمكانية وجود نصوص لبعض الكتب العربية الهامة التي تعتبر اليوم في حكم المفقودة.
قصص الفروسية والملاحم
إن الإبداع القصصي في التراث العربي القديم لا يماثل الدرجة التي وصل إليها الشعر، ولكن هذا لا يعني، كما يستطرد كثير من المستشرقين في القول، بأن العرب لم يعرفوا هذا اللون الأدبي أيامها، بل كان الأمر على النقيض من هذا؛ ذلك أن العدد القليل من النماذج القصصية العربية التي وُجدت قبل ظهور الإسلام وبعده، وذاعَت وانتشرَت طوال فترات العصور الوسطى الأوروبية بواسطة إسبانيا، مارسَت نفس الدور الذي قامت به الكتب العلمية العربية الأخرى التي أثَّرت على العلوم الأوروبية، فإن مَن يتوفر على دراسة تراث قوم بغيةَ التعرف على حضارتهم، يتناول ذلك التراث جملةً، ويدرس علومهم بالمعنى العربي القديم لكلمة علوم، فتشمل العلم والفلسفة والتاريخ والجغرافيا والأدب بكل أنواعه، فهي تعني المعارف جملةً وتفصيلًا، وسنرى، كما سيأتي بيانه بعد ذلك، كيف أن معظم الكتب القصصية العربية — على قلَّتها — كانت شائعةً متداولة في العالم الأوروبي في العصور الوسيطة.
فمن بين النماذج القصصية التي عرفها العرب قبل الإسلام، ثم بعده: قصص الفروسية، ونفس هذا النوع من القصص هو الذي ساد عصرًا بأكمله في أوروبا القروسطية، وتمثل في ذلك السيل الجارف من الكتب التي لا نعرف لها مؤلِّفًا، والتي تتناول أبطالًا قوميِّين، وتذكر معاركهم وحروبهم ورحلاتهم في سبيل الذود عن حِمَى وطنهم أو عشيرتهم أو أهليهم، وفي سبيل إحقاق الحق والعدالة. وكان من أوائل هذه الكتب «أنشودة رولان» الفرنسية (كُتبت في بداية القرن ١٢)، و«السيد القمبيطور» أي «المبارزة» الإسبانية: (كُتبت في القرن ١٣)، ونشيد نيبيلونجن الألماني (القرن ١٣)، التي كانت أشبهَ بالملاحم التي تُعبر عن روح الأمة في صراعاتها وحروبها. والبطل في مثل هذه القصص يتخذ صفاتٍ أسطورية؛ إذ هو يقتل الأُسود ويصارع الغيلان والمردة، وينتصر على الأعداد الغفيرة بضربة واحدة، وهلم جرًّا. ولقد تداول الرواة هذه الملاحم شفاهةً قبل تسطيرها بمئات السنين، فلما كُتبت على الورق، تحوَّل موضوع الاثنتين الأوليَين منها، فأصبحتا تدوران حول حروب المسيحيين ضد المسلمين في المناطق التي كانوا يتجاورون فيها؛ فرولان بطلٌ في جيش شارلمان الذي يحارب المسلمين في شمال إسبانيا بموضع «رونصفال»، والسيد القمبيطور هو الذي يشنُّ الغارات على ملوك الطوائف في الممالك الإسلامية الباقية أيامها على أرض المسلمين.
وقد عرف العرب هذا النوع من الملاحم المرورية أولًا ثم المدونة، منذ عهد الجاهلية، وتحت اسم السِّيَر، وكانت أولى هذه الملاحم وأشهرها سيرة عنترة بن شداد، التي تدور حول حروب العرب وغزواتهم، وتناقلَت وقائعها أخبار هذا الفارس والشاعر العربي الشهير، ممزوجة بمعالم التاريخ الجاهلي والإسلامي، إلا أن هذا كله غطَّته غلالة أسطورية، خرجَت بالوقائع إلى حد الخوارق والمعجزات غير الواقعية. وقد ردد هذه القصص العنترية الرواة الشعبيون منذ ظهورهم، ثم جُمعت ودُونت في عهد الخليفة هارون الرشيد (٧٦٦–٨٠٩)، وتولَّى ذلك الكاتبُ المشهور الأصمعي.
ويتفق عددٌ من المستشرقين والباحثين على أن عنترة هو مثال الفارس الأوروبي، ذاهبين إلى أن الفروسية الأوروبية لها مظاهر بعيدة أو غريبة على المجتمع والروح الأوروبي السائد أيامها، حين كان النظام الإقطاعي هو المسيطر، وأن هذه الفروسية التي تمثلت في الدفاع عن الشرف والشجاعة والوفاء، وقول الشعر والحب العذري، هي أقرب شبهًا بفروسية البادية العربية في عهد الجاهلية وبدايات الإسلام، كما أن هناك العديد من الشواهد والتفصيلات التي تقوم عليها أسس رواية الفرسان، كلها مأخوذة من السير العربية، منها العاطفة الرومانسية العذرية، التي تجيش في صدر الفارس تجاه سيدة تملك عليه فؤاده، فيخرج إلى الحرب أو يقيم العدالة في الأرض باسمها، ثم الاهتمام بذكر ووصف حصان الفارس وسيفه، وهذا يعيد إلى الذهن تقديس العرب الأوائل للخيل وللصوارم، ويعيد إلى الذهن حصان عنترة الشهير «الأبجر بن مغان» وسيفه الأشهر منه «الظامي». وقد أورد المستشرقان نيكلسون وهيللر في كتاباتهما عن هذا الموضوع أمثلة وردت في سيرة عنترة، وتكررت بعينها في أنشودة رولان.
وقد تطوَّر هذا النوع من الملاحم القصصية إلى كتب تحكي مغامراتِ الفروسية والفرسان، حيث ظهر عددٌ كبير منها في إسبانيا في الفترة من القرن ١٣ وحتى القرن ١٥، وأشهرها كتاب «أماديس الغالي» الذي فقدت نسخته الأصلية، و«كتاب الفارس ثيفار»، ولا بد أن صلة كتب الفروسية هذه بالعرب وبالفرسان العرب كانت شيئًا معروفًا شائعًا في زمانها، حتى إن سرفانتس عند وضعه كتابَ دون كيشوت ليسخر به من شيوع روايات الفروسية المليئة بالخرافات، وسيطرتها على أذهان السذج والبسطاء، قد جعله على لسان أحد المؤلفين العرب هو سيدي حامد الأيلي!!
حديث المعراج
كليلة ودمنة
ومن الموضوعات التي تناولها العرب في كتاباتهم القصصية ثم انتشرَت في أوروبا طولًا وعرضًا، عن طريق إسبانيا، قصص الحِكم والمواعظ التي تضرب الأمثلة بالحيوانات والطيور. وكان النموذج الأول لهذا النوع هو كتاب كليلة ودمنة الذي عرَّبه ابن المقفع، ورغم أنه نقله عن الهندية، إلا أنه قد ثبت أنه قد أعاد تأليف الكتاب «بما يعطي معطيات تتلاءم واتجاهه الفكري، وتُسهم في المشاركة في بناء المجتمع الذي كان يعيش فيه»، ولو أنه كان مترجمًا لهذه القصص وحسب، لما أدَّى هذا الكتاب إلى قتله في النهاية، كما يذكر الأستاذ فاروق خورشيد في كتابه أضواء على السيرة الشعبية.
الحب وفنونه
أول كتاب يحفظه لنا التاريخ مخصص للحديث عن فنون الغرام هو كتاب «أوفيد» «فن الحب»، إلا أن المطالع لكتب الحب التي وضعها المؤلفون الغربيون بدءًا من القرن الثاني عشر الميلادي يجد أن لها طبيعة تختلف عمَّا قدَّمه الكاتب الروماني الشهير، فأين كان إذن مصدر وحيهم في ذلك؟
ألف ليلة وليلة
وقد جاء أول ذكر لقصص ألف ليلة وليلة في كتاب مروج الذهب للمسعودي (توفي عام ٩٥٦)، وتُشير المراجع عادة إلى أن أول ترجمة عرفَتها أوروبا لألف ليلة وليلة هي التي قام بها «أنطوان جالان» في أوائل القرن الثامن عشر إلى الفرنسية، وعنها تُرجمت إلى كل لغات العالم تقريبًا، إلا أن ذلك التأريخ يُغفل جانبًا هامًّا، هو ما حدث من تناقل قصص ألف ليلة وليلة شفاهةً بين ما تُنوقل من الآداب العربية والأوروبية، ما بين العالم العربي الإسلامي والغربي المسيحي، عن طريق قوافل التجارة وجيوش الحروب الصليبية والإمارات المسيحية التي بقيَت فترةً وسط العالم الإسلامي وبالعكس، وغيرها من وسائل الاتصال، وقد أشار عددٌ من المستشرقين، من بينهم جب وكوسكان، إلى تلك الحقيقة التي تنادي بوصول قصص ألف ليلة وليلة إلى مسامع تشوسر وبوكاتشيو، مما أدى إلى تأثرهم بها في كتابَيهما بعد ذلك، خاصة وأن كليهما كانا من الأدباء الرحالة، وتنقلا في أجواء عديدة ومدن مختلفة. وقد فصَّلت د. صفاء خلوصي الشبهَ بين الديكاميرون وحكايات ألف ليلة وليلة في كتابها «دراسات في الأدب المقارن».
وإلى جانب النقل الشفوي لقصص ألف ليلة وليلة، فإن هناك كتابَين وُضعا في إسبانيا في فترة بعيدة من العصور الوسطى، لا يدعان شكًّا في صلتهما بألف ليلة وليلة، أول هذين الكتابَين تُرجم من العربية عام ١٢٥٣ في عهد ألفونسو الحكيم ويُدعى السندباد، أو «كتاب مكائد النساء وحِيَلهن»، ويتضمن ستًّا وعشرين قصة ذات موضوعات شرقية، يقصُّها عدةُ حكماء يدافعون عن أحد الأمراء ضد اتهامات وجَّهتها له زوجة أبيه. وقد احتوى هذا الكتاب على صور قاتمة للنساء اللواتي يتحايلن بكل الطرق على إنفاذ رغباتهن وشهواتهن، ووردت به قصة الرجل والمرأة والببغاء، وغيرها من قصص حيل النساء التي زخرت بها قصص ألف ليلة وليلة.
أما من حيث تأثير ألف ليلة، فبالإضافة إلى كتابَي السندباد وتعاليم الحكماء اللذَين قدَّمتهما إسبانيا إلى جاراتها الأوروبيات، كُشف النقاب أخيرًا عن عدد من المخطوطات الجديدة، تتناول قصصًا إسبانية مما احتوت عليه ألف ليلة، كُتبت في نفس هذه الفترة من العصور الوسطى، منها قصة مدينة النحاس، وثمة عددٌ من المبعوثين العرب الذين يدرسون الدكتوراه في جامعتَي مدريد وغرناطة، يعملون في جد واجتهاد لتحقيق أصول هذه المخطوطات، وإرجاع ما تحتويه إلى أصوله العربية.
تربية الطبيعة
أما هذا المثال القصصي، فهو يضرب في ميدان الفلسفة والتربية بسهم وافر؛ إذ كان نتاج قلم أحد الفلاسفة الأندلسيين المشهورين، هو ابن طفيل (١١٠٥–١١٨٥). ورغم أن كتابه الذي اشتهر به وهو «رسالة حي بن يقظان» كتاب فلسفي أساسًا، وكان ركيزة من ركائز نظرية التوحيد، التي شارك فيها ابن باجة قبل ابن طفيل، فإنه يدخل في عداد القصص نظرًا للقالب الروائي الذي صاغه عليه مؤلفه، ويبيِّن فيه إمكانية أن يهتديَ الإنسان إلى وجود الله جل جلاله عن طريق الاتصال بالطبيعة وما فيها من كائنات حية ونباتات، ويغذي روحه وحياته بهذا الهدي الطبيعي في وجه من وجوه الحياة ومناحيها المتعددة وأطوارها. ومن الثابت اليوم أن هذه القصة الفلسفية قد تُرجمت إلى اللاتينية في أواخر القرن الخامس عشر، وأعاد البروفيسور «بوكوك» ترجمتها للاتينية في أكسفورد عام ١٦٧١، ثم صدرت بعد ذلك بعام واحد في ترجمتها الإنجليزية، ثم تُرجمت إلى معظم اللغات الأوروبية بعد ذلك.
إلا أننا نجد كتاب ابن طفيل يُخرج لنا أثرًا قصصيًّا خالدًا آخر في مكانٍ قصيٍّ عن الأندلس، هو الجزيرة البريطانية، إذ أخرج الكاتب الإنجليزي الذائع الصيت «دانييل ديفو» روايته المشهورة في كل زمان ومكان «روبنسون كروزو»، وتحكي قصةَ رجل ألقَت به المقادير على جزيرة مهجورة بعد غرق سفينته، وكيف أقام بيدَيه وبهدي من الضرورة والظروف الطبيعية التي أحاطَت به، نوعًا من الحضارة تمثِّل تقدُّم الإنسان على الأرض؛ فروبنسون كروزو بهذا يمثِّل المجتمع الإنساني بأسره. والشبه واضح بين هذه القصة وبين كتاب ابن طفيل، في المنهج على الأقل. وكان قد أُشيع عند صدور كروزو لأول مرة عام ١٧١٩، أن مؤلفها قد استوحاها من قصة حقيقية وقعَت لبحار إنجليزي يُدعى ألكساندر سلكريك، أُلقي على جزيرة نائية تتبع شيلي بأمريكا الجنوبية، حيث عاش في عزلة كاملة مدة خمس سنوات، ثم عاد بعد ذلك إلى إنجلترا عام ١٧٠٩، حيث ذاعَت قصتُه وتناولَتها الصحف بالرواية والتعليق، إلا أن ديفو أنكر أيَّ تأثيرات لديه من قصة سلكريك، مؤكدًا أنه كان قد انتهى من كتابة قصته الخيالية عام ١٧٠٨، قبل عودة البحار الغريق بعام كامل. ويُشير كافة المستشرقين ونقاد الأدب المقارن اليوم إلى إمكانية اطلاع ديفو على الترجمة الإنجليزية لحي بن يقظان، واستلهامه إياها في روايته، وقد أعجب جان جاك روسو كثيرًا بروبنسون كروزو، واعتبرها خيرَ رسالة تدور حول التربية، وتفضل مثيلاتها الأرسطية والمحدثة التي صدرَت حتى عهده. وقد أكد روسو في كتاباته، وخاصةً في «الاعترافات»، على أهمية التربية الطبيعية الفطرية في نمو الشخصية والإدراك السليم. كما صدرت روايات خيالية عدة بعد ذلك تنحو نفس هذا المنحى، وكُتُب «يوتوبيه»، أشهرها كتاب «هنري ثورو» الأمريكي «والدن»، وكانت كلُّها صدًى للنموذج الأول الذي استهل هذا التقليد الفلسفي القصصي، وهو قصة حي بن يقظان.
روايات الشطَّار
وكانت إسبانيا هي التي قدَّمت للعالم أجمع هذا النوع من الروايات؛ روايات الشطَّار، في نماذج فريدة من نوعها انتشرت في العالم الأوروبي كله، ولكنها استمدته — كما سنرى فيما بعد — من عدة مصادر عربية أيضًا. وقد ظهرت أول رواية بيكارسكية في إسبانيا عام ١٥٥٤، حين صدرَت في «برغش» و«أمبيريز» و«قلعة إنارس» ثلاثُ طبعات في نفس الوقت تقريبًا، من رواية مجهولة المؤلف بعنوان «لاثارييو دي تورمس». وتحكي الرواية على لسان بطلها لاثارييو قصةَ نشأتِه في منزل والدته وعشيقها بعد وفاة والده، ثم خروجه إلى الحياة صبيًّا لأحد الشحاذين المكفوفين، وكيف كان يحتال عليه لإشباع جوعه وعطشه، ويسخر من استغلاله الدين والصلاح لابتزاز نقود المحسنين، ثم فراره منه في النهاية بعد أن لقَّنه درسًا قاسيًا تركه بين الحياة والموت. وتنقل لاثارييو بعد ذلك خادمًا لعدة أسياد، لم يكونوا بأفضل من الشحاذ الأعمى، فهم إما فقراء مدقِعون، أو بخلاء مقترون، أو محتالون أفَّاقون. ويضطر إلى مجاراتهم في هذا النوع من الحياة أو ذاك، والتعلم من فنون مكرهم وحِيَلهم، وشحذ قريحته حتى يستطيع أن يستخلص منهم ما يتبلغ به ويُبقي عليه الحياة، وهو في هذا يمرُّ بتجارب مريرة مضحكة، مغرقة في الواقعية التي تقارب المأساة، إلا أنها تنتزع من القارئ الضحك والابتسام لغرابتها وطرافتها. ويستقر لاثارييو في النهاية مع أحد وجهاء الريف، يُغدق عليه من خيراته، مقابل رضاء الفتى الزواج من خادمته التي كانت تعمل عنده، ولا يهتم لاثارييو بغمزات الناس عليه لهذا الاتفاق، ما دام قد وجد مستقرًّا يضمن له العيش الهنيء والرغد في الحياة.
وقد عمل نجاح هذه الرواية، برغم عاصفة الاحتجاج الديني الذي أثارَته واقعيتُها، على صدور أعمال أخرى في إسبانيا وفي الخارج، لها نفس سمات هذا النوع القصصي، ومن بين ما صدر في إسبانيا منه بعد ذلك تتميز روايتان هامتان: الأولى باسم «عثمان الفراش» تأليف «ماتيو اليمان» والثانية باسم «السيد بابلو النصاب» تأليف «كيبيدو». وسنتلو في هذا المقال ذكرًا عن هاتين القصتين لرسم فكرة عامة عن مضمون هذا النوع من القصص؛ فعثمان الفراش تقصُّ حياة بطلها الذي يحمل هذا الاسم. وُلد عثمان في إشبيلية بالأندلس، نتيجة علاقة غير شرعية ما لبثَت أن أُصلحت بالزواج بين الوالدين، ولكن الابن يضطر إلى الخروج إلى الدنيا ليكسب عيشَه فيها، ولم يكَد يُكمل العام الثاني عشر من عمره، فيتوجه إلى جنوه حيث يعمل في نُزُل يعيش فيه على الكفاف. ويبدأ تجواله وتشرُّده في أنحاء كثيرة في أوروبا، ويُقبض عليه مرات عديدة، ويسرقه أصدقاؤه، ولا يتركون معه دانقًا. ويعود إلى إسبانيا ليتفرغ لعدة مغامرات غرامية تنتهي بالفشل، فيلتحق بفرقة من الجند المرتزقة متجهة إلى روما، ولكنه يغيِّر من هيئته ويهرب منهم، ويمضي متسولًا يحتال على رجال الدين مستغلًّا طيبةَ قلوبهم. وفي القسم الثاني من القصة، يتنقل على خدمة عدد من كبار القوم، ويجوب البلاد الإيطالية مستخدمًا حيلته وذكاءه في كسب المال، ثم يعود إلى برشلونة حيث يعمل بالتجارة، ويتزوج ويرث ثروة من زوجته المتوفاة، ثم يلتحق بجامعة «قلعة إنارس» ليدرس اللاهوت! غير أنه يهجر الدراسة قبل تخرُّجه بقليل ليتزوج فتاة أخرى، ويفقد ثروته، فيُرغم زوجتَه على ممارسة الدعارة مقابل النقود، ولكنها تهرب منه، ويعمل عثمان مديرًا لأعمال إحدى الثريات، ولكنه يسرقها، فيُحكم عليه بالأشغال الشاقة على السفن الملكية، غير أنه يكتشف مؤامرة يُدبرها البحارة للقيام بثورة على السفينة فيشي بهم، فيُحكم له بالبراءة مكافأةً له على ذلك.
أما الرواية الأخرى، «السيد بابلو»، فقد كتبها أحد شوامخ الأدب الإسبان في القرن السابع عشر، وعنوانها الكامل «قصة النصاب السيد بابلو، مثال المتشردين ومرآة البخلاء»، ونُشرت عام ١٦٢٦، وكان مؤلفها من المستشرقين الأوائل الذين أجادوا اللغة العربية وقرءوا فيها الكثير من الآثار، ولم يكن العهد قد طال بعدُ بخروج العرب من إسبانيا. وتدور القصة حول بابلو، ابن حلاق لص، وأم تعمل بالسحر والشعوذة. يلتحق بابلو بخدمة الفتى الثري «دييجو كورونيل»، ويدرسان معًا في مدرسة داخلية خاصة لدى مدرِّس كاد أن يُميتَهما من الجوع؛ لشُحِّه وتقتيره الشديدَين. ويلتحقان بعد ذلك بجامعة «قلعة إنارس»، حيث يتعرض بابلو لأسوأ الدعابات والمزح من الطلاب القدامى بالجامعة على عادة ذلك العصر. وحين يبلغ مسامعَه نبأُ موت والده على حبل المشنقة، يعود إلى بلدته ليتسلم إرثه ويرحل إلى مدريد، حيث يعيش حياة عاصفة جوالة مع أصدقاء له من الشطَّار، وينتهي به الأمر إلى السجن. وبعد أن يقضيَ فترة العقوبة، يحاول الزواج، ولكنه يفشل فشلًا ذريعًا. ويعمل بعد ذلك مُهرِّجًا في فرقة هزلية في طليطلة، وينتهي بابلو من سرد قصته بالإشارة إلى اعتزامه السفر إلى أمريكا الجنوبية حتى يعمل على تحسين أحواله هناك في العالم الجديد.
ومصادر هذه الروايات في الأدب العربي، الذي كان شائعًا أيام الوجود العربي في الأندلس عديدة؛ فالصفات الرئيسية في هذه الروايات هي قيام البطل بسرد روايته ومغامراته بنفسه، وحياة البطل التي تتميز بالتنقل المستمر والتطواف وجَوْب الآفاق، بالإضافة إلى لُبِّ هذا النوع من القصص وهو استخدام الدهاء والاحتيال، تظهر كلها في بعض قصص ألف ليلة، كما تظهر بقدر أكبر في فن المقامات الذي ظهر في القرن الحادي عشر الميلادي، وكان أبرز نتاجه مقامات بديع الزمان الهمذاني (٩٦٨–١٠٠٧) ومقامات الحريري (١٠٥٥–١١٢٢). وقد عمل الهمذاني على خلق شخصية من صعاليك المجتمع هو أبو الفتح الإسكندري، وهي واحدة من بين شخصيات مقاماته، جمع فيها نفس السمات التي ظهرت بعد ذلك في «البيكارو» من صعوبة الحياة الوضيعة والاحتيال على التكسب، والاستهتار بالقيم والتقاليد والناس، وما إلى ذلك. أما الحريري فإن بطلَه أبا زيد السروجي هو الذي نبَّه بعض المستشرقين إلى الشبه الشديد بينه وبين «البيكارو» الإسباني، فأبو زيد هذا متسول ذكي، بائس، طريد المجتمع، رُزق موهبةً أدبية وجلاءً فكريًّا يستغلهما في اكتساب قوته ورزقه. وتستبين في مقامات الحريري سماتٌ أساسية ظهرت فيما بعد في روايات الشطَّار الإسبانية؛ مثل استغلال الدين والتظاهر بالتدين في سبيل الحصول على المال، وتنكُّر البطل في هيئات مختلفة لكي يهرب من مطارديه أو للاحتيال على الآخرين، وتصوير أولئك القوم الذين يعيشون من تعبِ غيرهم وكدِّهم، ويهيمون بأطايب الطعام والجيد من النبيذ والشراب.
قال أستاذنا المرحوم الدكتور غنيمي هلال عن أبي زيد في كتابه عن الأدب المقارن: «وهو في كل ما يأتي محتال لا تنفد حِيَلُه، ومرة ثالثة يقف على قبر ميت غير مكتفٍ بالموقف في استدرار عطفِ الناس عليه، يبدو معصوبَ الذراع، ويتنكر في زيِّ امرأة مع أطفالها، ويبلغ استهتاره أقصاه حين يزعم حاجته إلى مال ليجهز ابنة له، وليست هي سوى ابنة الكرم، الخمر …»
أما تلك النهاية السعيدة التي عادةً ما تنتهي بها قصص الشطَّار بقدر أكبر، فهي أيضًا قد وُجدت أولًا في مقامات الحريري، لتوفر اللمسة الأخلاقية في مثل هذه القصص؛ إذ نجد أن بطلَه الشهير أبا زيد بعد طول التجوال والتطواف على هيئته تلك وأفعاله التي أشرنا إليها، يتوب في النهاية توبةً نصوحًا، ويعود إلى الحياة الصالحة والنهج القويم.
ومما هو ثابت أن مقامات الحريري قد تُرجمت للعبرية على أثر تأليفها، وظهرَت في إسبانيا بالذات محاكاةً لها من الكُتَّاب العبرانيِّين الذين عاشوا بين ظهراني العرب في الأندلس. وتُشير قرائن عديدة إلى انتشار المقامات بين الأوساط الأدبية الإسلامية والمسيحية في إسبانيا. وكانت طريقة صياغتها الفريدة، ذات الجمل الموزونة المشطورة، التي تنتهي بنفس القافية، وتسير على نفس النسق، من بين الأشكال الأدبية التي استعارها الأوروبيون — وعن طريق الترجمات العبرية للكتب العربية — لتظهر بعد ذلك في كتاباتهم القصصية في لغاتهم الأوروبية، مثل ملحمة السيد، وحكايات كانتربري، بالإضافة إلى أن كثيرًا من الكتب القصصية التي أشرت إليها في هذا المقال، مُسطرة بنفس هذه الطريقة.
وثمة مؤلِّفٌ عربي آخر تردَّدَ اسمُه كثيرًا في سياق مصادر روايات الشطَّار والصعاليك، وهو أديبنا المشهور أبو عثمان الجاحظ؛ فهو قد أفرد عددًا من مؤلفاته — وإن لم يَصِلنا معظمها — للحديث عن هذه الطبقة البائسة الفقيرة، وعن طريق احتيالها على العيش، وأن بعض صفات البخل والتقتير التي وضعها في كتاب البخلاء، واحتيال البخلاء على التهرب من الإنفاق ومن الاستضافة، قد انعكست في روايات البكاريسك الإسبانية، خاصة الأولى منها قبل لاثارييو دي تورمس؛ فالجاحظ قدَّم لنا في كتابه قصصًا عديدة تبيِّن دقائق حياة البخل وتفصيلاتها، وهو كما يقول الأستاذ «فاروق سعد» في كتابه «مع البخلاء»: «يتابع بخلاءه في حلِّهم وترحالهم، ولا يتردد في أن يدخل بنا مساكنهم لنقف على أكلهم ومواكلتهم وممتلكاتهم، وعلى همومهم ومشاكلهم وهواجسهم.» والكتاب يزخر هو الآخر بأخبار الفقراء والمتسولين والصعاليك، وكان الجاحظ يلمس عن قرب آثارَ الفقر والبؤس في مجتمعه الذي حفل بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية الخطيرة، التي تركَت أثرَها العميق على حياة الناس وأمنهم وثرواتهم، والفقر والتسول يؤديان إلى الغربة والتجوال والتشرد، وإلى شحذ القريحة وادِّعاء ما ليس في المرء من أجل التكسب. كما أشار الأستاذ فاروق سعد ببراعة إلى حقيقة هامة وردَت في وصف أحد المتسولين في كتاب الجاحظ، ممن يترك التسول أحيانًا وينصرف إلى ممارسة رواية القصص، ويقول في ذلك: «أنا لو ذهب مالي جلستُ قاصًّا.» وهذا إرهاص بما حدث من ورود قصص الشطَّار كلها على لسان أبطالها، بعد انتهائهم من حياة الصعلكة التي انتهجوها، كما يشير الأستاذ سعد كذلك إلى تردُّد وصايا خالد بن يزيد لابنه في كتاب البخلاء، ووصايا أبي زيد السروجي لابنه في مقامات الحريري، ترددها في روايات الشطار، ومنها وصية يتلوها الشحاذ الأعمى إلى لاثارييو، يدعوه فيها إلى الحرص والحذر، والاحتراس من الدنيا ومن الناس.
إلا أن إسهام الجاحظ في هذا الميدان القصصي عن الشطار، لا يقتصر على كتاب البخلاء، وبعض أقسام كتابه «المحاسن والأضداد»، وإنما ثمة كتاب آخر مفقود، يتحدث عنه مؤرخو الأدب، بعنوان «حِيَل المكدين» أي الشحاذين الصعاليك، ومَن يدري، فلربما يُكشَف النقاب يومًا ما عن مخطوط لهذا الكتاب، فنجد فيه ما يُلقي مزيدًا من الضوء على ما ورد في لاثارييو دي تورمس وغيره من كتب الشطار الأولى.
ولم يقتصر أثرُ روايات الشطار على إسبانيا وحدها، بل إن هذا النموذج القصصي ما لبث أن انتقل من إسبانيا إلى الأقطار الأوروبية، حيث تُرجمت هذه الروايات البكارسك إلى اللغات الأوروبية المختلفة، ففي فرنسا، حاكى بعض الكتاب مثال «لاثارييو دي تورمس» و«عثمان الفراش» اللتين انتشرتَا بسرعة هناك، فظهرت أشهر رواية شطَّار فرنسية عام ١٧١٥ باسم «تاريخ جيل بلاس»، وإن كان كثيرٌ من النقاد يعتبرونها مجردَ ترجمة لقصة إسبانية مجهولة، تبتعد عن كونها خلقًا إبداعيًّا أصيلًا. وبعد ذلك تأثر بقصص الشطَّار عددٌ كبير من الكتاب الفرنسيِّين منهم فولتير في رواية كانديد (١٧٥٩)، وديدرو في جاك القدري (١٧٩٦)، وستندال في رواية الأحمر والأسود (١٨٣١).
وفي ألمانيا، تُرجمت لاثارييو دي تورمس في عام ١٦١٤، وعثمان الفراش في ١٦١٥، والسيد بابلو النصاب في ١٦٧١، وفي عام ١٦٦٩ تظهر رواية شهيرة في الأدب الألماني تنتسب لهذا النوع، هي رواية «المغامر»، كتبها جيرمان شلايفهايم (١٦٢١–١٦٧٦).
أما في إنجلترا، فقد بلغت روايات الشطَّار شأوًا عاليًا من الشهرة والرواج، بدأت عام ١٥٩٤، برواية توماس ناش «المسافر سيئ الحظ»، ثم برواية دانييل ديفو (صاحب روبنسون كروزو) المسماة «مغامرات مول فلاندرز» عام ١٧٢٢، التي جاءت أقرب إلى روايات الشطار الإنجليزية من الروح الإسبانية لهذا النوع من القصص، ومن ناحية الصفات الأساسية للشخصية التي تلعب دور البطولة وتطور حياتها. ثم جاءت روايتا هنري فيلدنج «جوزيف أندروز» (١٧٤٢) و«حياة توم جونز اللقيط» (١٧٤٩) فرسَّختا أقدام الرواية البيكارسكية الإنجليزية بما ضمَّتاه من صفات للبيكارو الإنجليزي، وبما أضافه فليدنج من سخرية من العاطفية الرخيصة والفضائل المزيفة التي أضفاها على أبطال روايته. وقد التقط تشارلز ديكنز الخيط بعد ذلك في رواياته التي تتجه إلى نفس المنحى، ومنها أوليفر تويست، ودافيد كوبرفيلد، وآمال عظام، وغيرها.
ولم تنقطع روايات الشطار عن الظهور في عالم الأدب المعاصر، فنحن نجد لها صدًى كبيرًا في روايات ألمانية مثل «فيلكس كروس» (١٩٥٤) لتوماس مان، ورواية «الطبلة النحاسية» (١٩٥٩) لجونتر جراس، وفي إنجلترا في رواية كنجزلي آميس «جيم المحظوظ»، ورواية أيريس مردوخ «تحت الشبكة»، وفي الرواية الأمريكية في قصة «الحارس في الحقول» (١٩٥٤) لسالينجر، و«مغامرات أوجي مارش» (١٩٥٤) لصول بيلو.
وهكذا تستبين آثار الحضارة العربية الإسلامية في كل مناحي الأدب القصصي حتى يومنا هذا، كما استبانت يومًا ما وسيطرت على منازع الفكر والثقافة العالمية طوال قرون عدة ماضية. وهذا شأن التاريخ، فما من حضارة تنهض وتنتشر إلا وتترك آثارًا واضحة وبصماتٍ بارزة على كل ما تحيط وتختلط به، حتى لو مرَّت عصور بعد ذلك تبدو فيه شعلتُها وقد خبَت وذوَت. هكذا كان الحال مع الحضارات المصرية القديمة والهندية والفارسية واليونانية والرومانية، وهكذا هو مع الحضارة العربية الإسلامية، فهذه الحضارات والثقافات هي التي أقامت دعائم حضارتنا الحديثة لبنةً لبنة، فحضارة اليوم ما هي إلا نتاج كل هذه الحضارات وثمرة لها.
مراجع البحث
-
(١)
الدكتور شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي، دار المعارف بمصر، ١٩٦٠.
-
(٢)
الدكتور محمد غنيمي هلال، النماذج الإنسانية في الدراسات الأدبية المقارنة، معهد الدراسات العربية العالية، ١٩٦٤.
-
(٣)
الدكتور الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، مكتبة وهبة، ١٩٧٧.
-
(٤)
فاروق سعيد، مع البخلاء، الشركة اللبنانية للكتاب، ١٩٧١.
-
(٥)
محمد مفيد الشوباشي، رحلة الأدب العربي إلى أوروبا، دار المعارف بمصر، ١٩٦٨.
-
(٦)
فاروق خورشيد، أضواء على السير الشعبية، المكتبة الثقافية، يناير، ١٩٦٤.
-
(٧)
ناجية غافل المراني، سيرة عنترة والدراسات الاستشراقية، مجلة الآداب، بيروت، مارس–أبريل، ١٩٧٧.
-
(٨)
عبد الجبار السامرائي، ألف ليلة وليلة في الآداب الأوروبية، المرجع السابق.