الغيرة بين عباس العقاد وأدباء الغرب
موضوع الغيرة الغرامية هو من أكثر الموضوعات تناولًا من قِبل الكُتَّاب على اختلاف تخصصاتهم؛ فقد تناوله علماء النفس والمؤرخون والفنانون، وإن كان أبرز تجسيمًا عند الأدباء في شتى الفروع من شعر ومسرح إلى قصة ورواية.
وأشهر عمل أدبي يرتكز على موضوع الغيرة هو مسرحية عطيل لشكسبير، وشهرتها من شهرة كاتبها الذي ذاعَت أعمالُه في كل اللغات، أما العمل القصصي العربي الهام الذي عُنيَ مؤلفه بتحليل الغيرة، وتصوريها في مناحيها المتعددة، فهو رواية «سارة» للعقاد، التي يمكن أن نُطلق عليها بحق رواية سيكلوجية، وهي العمل الوحيد الذي ضرب فيه العقاد بسهم في النوع الروائي، بما يُوحي أنها كانت نتاجَ تجربة شخصية ضاغطة، لم تهدأ إلا بخروجها من ذهن صاحبها وقلبه في صورة ذلك العمل الفني، ويقابل هذا العمل العربي رواية جراهام جرين «نهاية العلاقة»، و«قصة غرام سوان» من رواية مارسيل بروست العملاقة «البحث عن الزمن الضائع»، بالإضافة طبعًا إلى عطيل.
فرواية العقاد تتناول علاقة غرامية بين بطلها همام وبطلتها سارة، وتَصِف أحوال وأطوار الغيرة العنيفة التي استحوذَت على البطل من جرَّاء تصرفات حبيبته، ومحاولاته العديدة لاستخلاص الحقيقة، وما انتاب هذه العلاقة من جفوات بسبب هذه الغيرة، إلى أن انتهت بالقطيعة الكاملة التي يفضلها البطل على حالة عدم اليقين.
ورواية جراهام جرين أكثر تعقيدًا، فهي تدور حول علاقة بين «موريس بندريكس» وزوجة أحد أصدقائه، التي تهجره فجأة دون سبب معلوم، فيقع في يقينه أنها تركَته إلى رجل آخر، مما يجعله نهبًا للغيرة والشكوك المؤلمة، قبل أن يعرف السبب الحقيقي في ذلك التحول.
أما «شارل سوان» بطل مارسيل بروست، فهو يتعرف إلى إحدى غانيات باريس اللعوبات، فإذا به وهو الفنان الذواقة والنبيل الكريم يقع في هواها على نحو مفرط، وتعتوره غيرةٌ رهيبة عليها، رغم علمه بماضيها وعلاقاتها المتعددة قبل أن يبدأ علاقته معها. ويختلف تناولُ كلِّ مؤلف لهذا الموضوع بحسب رؤيته وطبقًا لحبكة الرواية، بَيد أن قصصهم تتفق في كثير من النواحي المتعلقة بهذا الإحساس الغامض المريض: الغيرة.
رواية ثرية
ورغم أن العقاد لم يكن قصاصًا ولا روائيًّا، فإن القارئ يَعجب من مدى توفيقه في الأسلوب والسرد والبناء القصصي، والتحليل القصصي للشخصيات بشكل خاص، وهي كلها تُضارع الأساليب الحديثة في الفن الروائي، وسبقَت بكثير تناول الروائيِّين المحدثين العرب لها. فنحن نجد في «سارة» — رغم تبكير تأليفها عام ١٩٣٨ — أساليب الراوي العليم بكل شيء، والمؤلف المتطفل على الموضوع، وتداخُل الزمن، بل وتيار الوعي. و«سارة» تنتمي إلى الرواية السيكلوجية، وقد تكون الأولى من نوعها في اللغة العربية، وتركز على مشاعر الغيرة لدى بطلها «همام» في علاقته ببطلتها.
ويدخل القارئ إلى صميم موضوع الرواية من أول فصل فيها، إذ البطلان في حالة خصام طارئ لنفس أسباب الشك والغيرة لدى البطل، الذي يتذكَّر حواراتٍ دارَت بينه وبين حبيبته تدل على دهائها الفطري، الذي يمكِّنها من التملص من أسئلة حبيبها التي يرمي من ورائها إلى معرفة إخلاصها له من عدمه. ويحلل العقاد في فصلٍ تالٍ مشاعرَ بطلِ الرواية على نحوٍ نفسيٍّ وبلاغي رائع: «كانت شكوكًا مريرة لا تغسل مرارتَها كلُّ أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدًا رويدًا … وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلَين، يجذبه كلاهما جذبًا عنيفًا بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة ولا إلى الاتهام، بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام، فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب، وهكذا إلى غير نهاية، ولا إلى غير راحة واستقرار.» وهذا من أبدع أوصاف وتحليل مشاعر الغيرة، التي تجيء من قلم كاتب مفكر، يَزِن كلامه بميزان العقل والحجة.
غيرة
ويرتكز بطل الرواية — همام — في غيرته هذه على اعترافات كانت سارة قد ذكرَتها له عن علاقات سابقة لها، بل وعلاقة أقامَتها إبان فترات الجفاء التي كانت تحدث بينهما، وعن الحِيَل التي كانت تدبِّرها لتغطية مواقفها، مما جعله يشك في أنها تفعل الشيء نفسه معه، وتُقيم علاقات مع رجال آخرين من ورائه: «وتوالى أمامه ما يزيد من لهيب شكه، من فلتات اللسان وشوارد الخاطر وعلامات الزينة والحلي والملابس، حتى غلبَت الأكدار على كل صفاء وكل رجاء بينهما.»
شك
وفي الفصل المعنون «علاج الشك»، يرسم العقاد صورةً فريدة عن المد والجزر اللذَين سادَا العلاقة بين همام وسارة، حتى في أوقات الصفاء واللقاء؛ حيث يرى همام في أفعال وأقوال صاحبته مجردَ تمثيل، وحين يحاول مجادلتها ليعرف حقيقة علاقاتها بالآخرين، لا تشفي له غليلًا أبدًا، وهو بصفته كاتبًا مفكرًا لا يرضى بأقل من الحقيقة كاملة: «ولكن الشيء الذي لا يُطاق هو أن تشك، ثم لا تستطيع أن تَصِل إلى الحقيقة، ولا أن تكفَّ عن الشك، ولا أن تستقرَّ عليه. فإنها حالة لا يُطاق لها دوام، ولا بد لها من انتهاء.» ويجرِّب همام طرقًا عديدة للتوصل إلى الحقيقة التي تشفيه من غيرته، فيكتب لسارة خطابًا طويلًا يحلِّل فيه علاقته بها، ونظرته لها ولشخصيتها، ويلقاها بعد إرسال الخطاب، فلا يجد منها تغيرًا أو يحس أثرًا للخطاب عليها. وحين يواصلان العلاقة بعد ذلك، يقرِّر همام اللجوءَ إلى الوسيلة التي يلجأ إليها كلُّ عاشقٍ غيور، وهي مراقبة حبيبته، وهو يعهد بذلك إلى صديق مقرَّب منه، يتابعها ويقصُّ عليه كلَّ تحركاتها. وتتخلل مراقبة الصديق مواقف طريفة مضحكة، ولكنها لا تؤدي إلى كشف أي حقيقة.
قطيعة
ولمَّا رأى همام فشلَ كلِّ محاولاته للتوصل إلى حلٍّ لشكِّه في سارة، يقرران إثرَ مشادة عنيفة بينهما الانفصالَ والقطيعة، ويتلاقيان لآخر مرة لتبادل الرسائل والصور التي لدى كلٍّ منهما للآخر، وهكذا يفضل بطل الرواية، الكاتب العقلاني مرهف الشعور، أن يضحيَ بحبيبته من أجل مبادئه المتمثلة في طلب الحقيقة كاملةً أو لا شيء على الإطلاق. ويتلو ذلك عدة فصول، يحلِّل فيها الكاتب مشاعرَه وأحاسيسه تجاه تلك العلاقة العاصفة، ويقص للقارئ بدايةَ تعارفه على سارة، وتعليقاته على أثر هذا الحب عليه وعلى حبيبته. وهو هنا يماثل أسلوبَ الكثير من الروايات التي تسرد الأحداث، لا بترتيبها الزمني، بل بحسب نظرة المؤلف لها، طبقًا للبناء الروائي الذي ينتهجه، وقد أحس العقاد بغرابة ذلك على القارئ العادي وقتَها، فبرر ذلك بقول منطقي ممتع، هو دأبه في كل كتاباته: «ترتيب الحوادث إلى أن تنتهيَ، ثم نكرُّ راجعين للسؤال عن بدايتها، وسبيل التواريخ أن تنطويَ السِّيَر وتنصرمَ الدول، ثم نتقصَّى مناقشتها وأسباب ظهورها، فنحن لا نَحيد عن مجرى الزمان حين نعرف الساعة كيف تلاقَت سارة وهمام، بعد أن عرفنا منذ برهة كيف كانت القطيعة، وكيف كان اللقاء الأخير.»
تجربة موريس
وإذا كانت رواية العقاد تأتي على لسان الراوي، فإن رواية جراهام جرين يسردها البطل موريس بندريكس على لسانه، وهو أيضًا كاتب معروف، وتقع أحداث القصة في لندن إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ونعرف من سيرة المؤلف أن هذه الرواية يمكن أن تكون هي الأخرى نتاج تجربة شخصية، شأنها شأن رواية العقاد، ويبدأ جرين روايتَه أيضًا بعد انتهاء علاقة البطل الراوي بصاحبته، ثم يعود بنا القهقرى إلى تاريخ تلك العلاقة وتفاصيلها، ونعرف أن موريس قد عرف «سارة مايلز» حين كان يكتب رواية عن حياة موظف حكومي كبير، واتخذ من زوج سارة نموذجًا له، وانتهى الأمر بأن وقع في غرام زوجته سارة، وهامت هي به كذلك، وتستمر العلاقة بينهما من عام ١٩٣٩ حتى عام ١٩٤٤، يتخللها غيرةُ العشيق من حياة صاحبته مع زوجها، ويصف جرين فورات الغيرةَ تلك على نحوٍ يضارع وصفَ العقاد لها، وإن لم يبلغ في ذلك التفاصيل السيكلوجية الدقيقة التي نراها عند العقاد، وفي أحد لقاءات سارة وموريس في منزله، تقع غارة جوية مدمرة من غارات الألمان على لندن عام ١٩٤٤، وتسقط قنبلة أمام المنزل، بينما موريس يقف أعلى السلم ليرى ما يحدث، فيهوي من الطابق الأعلى إلى الأرض وسط الحطام، وبعد فترة نراه وقد نجا، ويعود إلى الحجرة، فيجد سارة راكعة تصلي، وبعدها تودع عشيقها وتخرج، ولا يراها بعد ذلك؛ إذ إنها تقطع كل علاقة لها به.
وبالطبع، تعصف بموريس عواطفُ الشك والغيرة، ويؤمن أنها تركته إلى رجل آخر، وبعد عامين من هذا العذاب، يعمد موريس إلى ما فعله همام في رواية العقاد، وهو مراقبة حبيبته السابقة، وهو لا يلجأ في ذلك إلى صديق، بل يتعاقد مع أحد المخبرين «السريين» ليقوم بذلك مقابل أجر، وهذه الوكالات تتوفر بكثرة في الغرب. ويجمع المخبر الخصوصي أولًا بعض المعلومات التي تُشير إلى أن سارة على علاقة بشخص ما، ولكنه ينجح بعد ذلك في سرقة دفتر مذكرات كانت سارة تكتب فيه خطراتها وأحداث حياتها. وفي هذه المذكرات، تتضح الحقيقة أمام موريس؛ فسارة لم تكفَّ يومًا عن حبِّه، ولكنها اضطرَّت إلى إنهاء علاقتها به نتيجةَ وعدٍ تعهدت به أمام الله، ويعلم موريس أنه في آخر لقاء لهما، حين سقطَت القنبلة أمام منزله، تهرع سارة إلى أسفل السلم، فترى موريس ممددًا لا أثر للحياة فيه، وتجس نبضَه وترى أنفاسه، فتتأكد أنه قد مات، وتصعد إلى حجرتها وتركع أمام السرير، تصلي داعيةً الله، ناذرة أنه إن يُبقِ موريس حيًّا، فإنها تتعهد بإنهاء علاقتها به من فورها، وعندما يدخل موريس عليها، ترى أن الله قد استجاب دعاءها، وتنفذ عهدها بتركه نهائيًّا.
وحين تتضح الحقيقة لموريس، يتصل ثانية بسارة، ويخبرها بأنه عرف الحقيقة، ويطلب منها العودة إليه، ولكن سارة كانت عاجزة عن التحلل من وعدها الإلهي، وتتحاشى زيارة موريس بالخروج، وهي مريضة وسط عاصفة ثلجية تُودِي بحياتها في نهاية الأمر.
غرام سوان
أما قصة «غرام سوان» لبروست، فهي تعود بنا إلى التحليل السيكولوجي الدقيق لأحاسيس الغيرة في أدق تفاصيلها، بما عُرف عن مؤلفها من الاستفاضة في عباراته وكتاباته عن كل موقف وشخصية في روايته الضخمة «البحث عن الزمن الضائع»، وتحليله العميق يماثل ما فعله العقاد في روايته، كما أن سوان — إضافةً إلى كونه من نجوم المجتمع الفرنسي الراقي — يهتمُّ بالفنون بكافة أنواعها، كما يمكن اعتباره كاتبًا أيضًا، فهو يضع مؤلفًا عن الرسام الهولندي «فرمير»، فهو في هذا صنو همام وموريس في الروايتَين السابقتَين. ويتعرف سوان يومًا على «أوديت دي كريسي»، وهو غانية من طراز المحظيات، الذي كان شائعًا في فرنسا في أوائل القرن العشرين. ولم يُبدِ سوان في أول الأمر اهتمامًا بها، فلم يكن نوعُ جمالها مما يلفت نظره، بالإضافة إلى اهتماماتها المختلفة عن اهتماماته، والتي يمكن اعتبارها مبتذلة، بَيد أن أوديت تتقرب منه افتتانًا بوضعه الاجتماعي، وثرائه وكرمه معها، وتدعوه إلى الحفلات التي تحضرها لدى إحدى العائلات، التي تتعلق بأهداب الأرستقراطية، وهناك تقترن صورة أوديت في خيال سوان بلحن موسيقي يعشقه، ويرى في وجه الغانية صورة من لوحة كلاسيكية مشهورة، فيقع في هواها وتُصبح خليلته. ويصف بروست ببراعة التحولات التدريجية التي طرأت على سوان بعد علاقته بأوديت، وكيف أثَّرت عليه بذوقها وأصحابها: «أما الآن، وقد عشق أوديت … فلقد صار يحاول أن يجد الرضا والمتعة في الأشياء التي تحبها هي، وصار لا يجد متعة ولذة في محاكاة عاداتها فحسب، بل وأيضًا في اعتناق آرائها» (ترجمة د. نظمي لوقا).
وتبدأ معاناة سوان في مضمار الغيرة والشكوك مع ظهور منافس له في شخص الكونت دي فورشفيل، واهتمام أوديت به، وعندما يتحول شيئًا فشيئًا إلى محاولة الاستحواذ على صاحبته في كل صغيرة وكبيرة، ويستغرق بروست في وصف لواعج الغرام، وعواصف الغيرة التي تجتاح سوان على نحوٍ لم يسبق له مثيل من قبل، وينهج سوان نهجَ همام وموريس في مراقبة حبيبته، فهو مثل همام لا يقنع إلا بالوصول إلى الحقيقة الخالصة، وهو يقوم بنفسه بعملية المراقبة، بأن يتلصص على بيتها في الأوقات التي لا تنتظره فيها، وقد أسفرت إحدى هذه الزيارات المفاجئة عن واقعة، أكدت لسوان صدقَ شكوكه، حين لم تفتح له الباب، رغم علمه بوجودها في المنزل، وسماعه وقْعَ خطوات في الداخل. ولما عاد ثانية بعد ساعة، استقبلَته واعتذرَت له بأنها كانت نائمة حين جاء من قبل، ولما فتحت له كان قد رحل، «واستطاع سوان على الفور أن يتبيَّن في هذه القصة شذراتٍ من الحقيقة الظاهرية، التي يدسُّها الكذابون في قصصهم؛ لإكسابها مظهرَ الصدق، وإخفاء ما يريدون إخفاءه خلف هذا المظهر، وخالت أن ذلك كفيلٌ ألَّا يفضحَها أو يفضح أكاذيبها، ولكن فاتها أن عناصر الصدق التي استخدمَتها لا تتكامل مع عناصر الأكاذيب، فتبقى هناك ثغرات تكشف الخديعة والزور.»
وعند ذلك، يتذكر سوان ماضي أوديت، فهي مجرد غانية تمنح نفسها لمن يدفع الثمن، كما أنها قد عملت في بيوت المتعة من قبل. ويقوم سوان بالتجسس على رسائل أوديت، ويستمع إلى تعليقاتِ مَن عرفوها سابقًا، ويحلل المعلومات على هَدي شكوكه، كما أنه يزور بيوت المتعة التي سمع أن أوديت عملَت بها، ويسأل عنها. وكانت كل واقعة يعرفها تزيد من لهيب الغيرة لديه، خاصة حين يستجوب أوديت بما يعلمه، فتنكر في البداية، ثم تعترف في آخر الأمر أنها «ربما» تكون قد فعلَت ما يقوله!
ويصف بروست حال بطله في هذه الدوامة كما يلي: «وتضاعفَ داء سوان، فما كان حبُّه لها إلا نوعًا من المرض لا خلاص له منه، وتداخل في نسيج عاداته وأفعاله وأفكاره، وصحوه ونومه، وصحته، بل وفيما كان يتمناه لنفسه بعد موته، لقد صار هذا الحب المرَضِي وشخصه وكيانه شيئًا واحدًا، بحيث استحال عليه أن يتخلص منه من غير أن يدمر وجوده نفسه، فحالته هي التي يقول عنها الجراحون إنها تجاوزت مرحلة إجراء الجراحة.» وهذه الجملة الأخيرة، هي التي تفسر ما أقدم عليه سوان آخر الأمر ليتخلص من ذلك المرض، الذي استشرى فيه؛ فهو لم يجد حلًّا لحبه وغيرته على أوديت إلا … بالزواج منها. وتمضي الرواية بعد ذلك في مسار آخر.
عطيل الأشهر
أما المثال الكلاسيكي الأشهر للغيرة في الأدب العالمي، فيتمثل في مسرحية عطيل لشكسبير. وعطيل يختلف عن الرجال الذين تحدثنا عنهم سابقًا، فهو جندي محارب وليس كاتبًا أو فنانًا. لذلك، فإن شكَّه لا ينبع من داخل ذاته كما يحدث مع همام وموريس وسوان، بل تطلَّب الأمرُ عاملًا خارجيًّا تمثَّل في «ياجو» كي يبثَّ فيه سمومه، ويحمله على الشك في زوجته دزدمونة.
وعطيل، كرجل عملي، يطلب أدلة ملموسة، يقدِّمها له ياجو عن طريق الخديعة والمكر. وربما كان مشهد المنديل الذي أهداه عطيل لزوجته ثم ضاع منها، ويطلبه عطيل بإلحاح، هو أبلغ مشهد عن عصف الشك والغيرة في نفس الإنسان. وحين يقدِّم له ياجو مزيدًا من الأكاذيب حول خيانة زوجته دزدمونة مع الضابط «كاسيو»، لا يتردد عطيل تردُّدَ همام وموريس وسوان، بل يقول على الفور: «لسوف أمزِّق تلك المرأة تمزيقًا.»
وتتضمن المسرحية صورًا بديعية بليغة عن الشك والغيرة، كتلك التي وردت على لسان ياجو لعطيل: «مولاي، حذار من الغيرة! ذلك مخلوق شائه، يتحلَّى بعيون خضر، لكن يسخر ممن ينهش كبده.» (ترجمة د. محمد عناني)، أو حين يصور عطيل أحاسيسه العاصفة: «إني مثل البحر الأسود، إذ تندفع التيارات الباردة به بحوافز لا تهدأ، لا تشعر بالجزر ولا تعرف العودة لوراء، بل تنطلق إلى بحر المرمرة وعبر مضيق البوسفور.» وطبعًا يُنهي عطيل غيرتَه وشكَّه بالنهاية المتوقعة من رجل عملي مثله؛ إذ يقتل دزدمونة جزاءً لها على خيانتها المزعومة، ثم يقتل نفسه بعد أن يعلم براءتها وطهرها.
وهكذا تبيِّن لنا هذه الموازنات بين تلك الأعمال الأدبية، التي تنتمي إلى ثقافات ولغات مختلفة مدى التقارب بينها حين يتعلق الأمر بالنوازع الأساسية للنفس البشرية، التي تتماثل في كل زمان ومكان.