توفيق الحكيم المُفترى عليه مرتين
لقد عانى أديبُنا الكبير توفيق الحكيم من كثير من الافتراءات، أبرزها ادعاءات السرقة الأدبية، التي طاردَته لا مرة واحدة، بل مرتين، آخرها في العام الحالي حين ألمح أحدُ الأدباء العرب من المشاركين في مهرجان الرواية العربية بالقاهرة، أن الحكيم قد استمد روايته الشهيرة «عصفور من الشرق» من رواية للكاتب الأيرلندي المبدع وليام بتلر ييتس، عنوانها «الطائر الأرقط».
وقد ثارَت ضجةٌ كبرى حول الاتهام الأول للحكيم بأنه أخذ فكرة كتابه «حمار الحكيم» من كتاب الشاعر الإسباني رامون خيمينيث «بلاتيرو وأنا»، وذلك بعد فوز خيمينيث بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٦، وتسليط الأضواء على إنتاجه الأدبي. بيد أننا إذا ما طالعنا الكتاب الإسباني الشهير، الذي نُشر عام ١٩١٤، لوجدنا أنفسنا أمام مقطوعات من النثر الشعري الغنائي النزعة، وليس فيه عناصر القصص إلا أقل القليل، فالكتاب له عنوان فرعي هو «مرثية أندلسية»، ويقع في ١٣٨ «مشهدًا»، بعضها لا يتجاوز الفقرتين. وهذه المشاهد جلُّها تأملاتٌ ذاتية للكاتب عن قريته «موجير» بالأندلس الحالية، وهي التي اشتهرت بأنها المرفأ الذي انطلق منه كريستوفر كولومبس عام ١٤٩٢ بحثًا عن الهند، فإذا به يكتشف أمريكا. وخيمينيث يوجِّه تأملاتِه إلى حماره، ويصف من خلالها القرية ومواطن الجمال فيها، ويحكي عن سكانها وأحوالهم، وأطفالها وألعابهم وتعليقاتهم على الحمار بلاتيرو. والكتاب له ترجمة عربية للدكتور لطفي عبد البديع، بعنوان «أنا وحماري»، وصدر عن دار المعارف عام ١٩٥٨.
فإذا انتقلنا إلى كتاب توفيق الحكيم، الذي صدر عام ١٩٢٠، لوجدنا شيئًا مختلفًا تمامًا؛ فكتاب «حمار الحكيم» قصة سردية لها بداية ووسط ونهاية، وأحداث مترابطة، تبدأ بشراء المؤلف للحمار الصغير على غير رغبة منه، وتفاصيل المشاكل التي يسبِّبها له في فندق بوسط القاهرة. ثم تنتقل القصة للحديث عن تكليف الكاتب بوضع الحوار لسيناريو فيلم سينمائي يدور في ريف مصر، وذهابه مع فريق الفيلم إلى قرية صغيرة بالقرب من البدرشين في مساء اليوم الذي اشترى فيه الحمار. ولمَّا لم يجد المؤلف مَن يعتني بالحمار في غيابه، اضطر إلى اصطحابه معه إلى القرية وسطَ ذهولِ كلِّ مَن شاهد ذلك المنظر الفريد. وهناك تُركز القصة على أسلوب المخرج في صنع أفلامه، وعلى وصف الريف ورجاله ونسائه، بينما يتوارى الحمار إلى الظل بعد محاولة العثور له على «حمارة» لتُرضعه حتى لا يموتَ جوعًا. ويركز المؤلف على الجمال الفني الذي يجعل المخرج وصحبه من الأجانب يعجبون بمشاهد ريفية يراها هو تخلُّفًا وقذارة. وينتقل النقاش إلى عالم الحيوان بوجه عام؛ حيث يخلص الكاتب إلى أن فكرة الشر غير موجودة عند الحيوان، وإنما هي تتجسد لدى الإنسان. ويلي ذلك قصصٌ وأفكار وحوادث في تلك القرية تُتيح للمؤلف أن يعرض آراءه عن الريف المصري على مر التاريخ، وعن مراحل نهضة المرأة المصرية، وحكاية شروع الكاتب مرة في الزواج، ثم هجره منزله وإقامته في الفنادق حتى يُتاحَ له الاختلاط بالناس والجماهير. ويعود «الجحش»، الذي أطلقوا عليه لقبَ الفيلسوف إلى الصورة حين يرفض حتى الرضاعة، مما يُعرضه للموت الحتمي. ويقرر الكاتب تأجيل عمله في الفيلم؛ حيث إنه لا يستطيع العمل في موضوعات لا يقتنع بها، وأشخاص لا يحس بهم. وفي نهاية الكتاب، يُخطر المخرج المؤلف بنبأ موت الحمار في اليوم الذي أبحر فيه الثاني إلى أوروبا، مما يستتبع خاطرة فلسفية للمؤلف عن استحقاق الحمار للتقدير والاحترام، في حين لا يستحق كثيرٌ من الناس العظماء إلا السخرية والازدراء.
والسياق القصصي واضح في «حمار الحكيم»، وهو ما يخلو منه تمامًا كتاب خيمينيث، ولا يشتركان إلا في استلهام فكرة الحمار ذاته، وهي صورة تبدو محبَّبة للحكيم؛ إذ إن هناك «حميرًا» أخرى في قصصه.
وإذا ما انتقلنا إلى «الافتراء» الثاني على الكاتب الكبير، لوجدناه أبعدَ عن التصديق من ذلك الافتراء الأول وأسهل منه تفنيدًا؛ إذ إن هناك حقيقة واحدة تنسف هذا الادعاء من أساسه، وجديرة بأن ينتهيَ الموضوع عندها، لولا أنني سأتخذه تعلَّة للحديث عن الكتابَين موضع التحقيق. ذلك أنني اكتشفتُ أن رواية «الطائر الأرقط» لييتس لم تُنشر في حياة المؤلف، وأنه لم ينقحها، وأن أول مرة نُشرت فيها جزئيًّا كانت في الستينيات، وأول مرة نُشرت كاملة مع تحقيقات للنص ونصوص أخرى مبدئية لنفس الرواية، كانت هي النسخة التي صدرت عام ١٩٧٦، والتي نفدت من الأسواق، ونجحت في العثور على نسخة مستعملة منها بعد أشهُر من طلبها.
وتُخبرنا مقدمة الكتاب قصة التعاقد مع ييتس على كتابة الرواية، وكيف أنه عَمِل في عدة نسخ منها ما بين عامَي ١٨٩٦ و١٩٠٢، بَيد أنه لم يرضَ أبدًا عنها ولم يُنقحها بالشكل الذي كان يريده، ومن ثَم فقد تركها، فلم تُنشر إلا بعد وفاته بكثير، ولمجرد التأصيل الفني لأعماله؛ ذلك أنها نادرًا ما تُذكر في كثير من الكتب التي تحكي حياةَ ييتس أو تُقدم أعماله، فهو قد اشتهر أساسًا كشاعر وكاتب مسرحي، وصاحب رؤى، وليس كقصَّاص أو روائي. والرواية نفسها تنقسم إلى أربعة فصول، في مائة وسبع صفحات من القطع المتوسط، وتدور حول حياة شاب فنان، تبدأ وهو في الثامنة من عمره، وتُصور آماله وأحلامه وتجاربه في الحياة، وهو يعيش مع أبيه في مقاطعة من مقاطعات أيرلندا، وبهذا فهي شبيهة بموضوع رواية جيمس جويس «صورة للفنان في شبابه»، ولكن الأسلوب والتصوير والخلق والفني مختلف في كلتا الروايتَين؛ فستيفن ديدالوس، الجويسي، وهو يمرُّ بتجربة التفتح الفني والخلق الأدبي، يثور على جميع أنواع القيود والتقاليد التي تمنع انطلاقه بحرية في التعبير عن نفسه، وتنتهي به إلى اختيار المنفى بعيدًا عن بلاده أيرلندا، كيما يمر بالتجربة ويصوغ في مصهر روحه الضميرَ الذي لم يُخلق بعدُ للإنسان. أما البطل في «الطائر الأرقط»، واسمه مايكل، فاهتمامه ينصبُّ في المقام الأول على التجارب الروحانية والصوفية، وينابيع الرؤى والأحلام، وهو في هذا يبتعد عن المجال الديني التقليدي، ويخلق لنفسه منطقًا دينيًّا جديدًا. وفي الفصل الثاني، نرى مايكل وقد أصبح شابًّا لا يزال يسير على درب الروحانيات، يسعى إلى الزواج من «مرجريت هدسون»، التي تُصارحه باستحالة ذلك؛ لأنها وعدَت أمَّها قبل موت الأم ألَّا تتزوج إلا من كاثوليكي متدين. وعليه، يُقرر مايكل الابتعادَ بالسفر إلى الخارج لتحقيق حلمه القديم بإنشاء مجمع للصوفيِّين والروحانيِّين. ويروي الفصل التالي لقاءه في المتحف البريطاني بلندن بأحد أصدقائه القدامى، وبدء مشروعهما الروحاني الكبير، بإقامة معبد يعتمد على التراث الصوفي الأيرلندي القديم، الذي يدور حول الكأس المقدسة، ثم تأتيه صديقةٌ لحبيبته مرجريت لتُخبره أن مرجريت قد تزوجَت منذ عام، وأنها غير سعيدة في زواجها، وأنها تطلب إليه الذهاب لملاقاتها في منطقة برية في «جالواي» بأيرلندا. ويُصدَم مايكل بنبأ زواج مرجريت، ويُهرع من فوره لملاقاتها في المكان الذي حدَّدته له. وبعد مناقشات عديدة بينهما تقتنع بضرورة رحيلهما معًا إلى باريس ليبدآ هناك حياة مشتركة. وبعد أن يجهز مايكل المالَ اللازم لحياتهما في باريس، يُفاجأ بأن مرجريت حامل من زوجها، وأنها لا تستطيع لذلك أن ترحل معه. ويودِّعان بعضهما البعض وداعًا حارًّا، يشتمل على رؤيا روحانية تمسُّهما معًا في نفس الوقت. وتنتهي الرواية بفصل قصير، بعد عشر سنوات من الأحداث السابقة، في حي مونمارتر بباريس؛ حيث يحضر مايكل جلسة روحانية أُقيمت على الطراز المصري الفرعوني القديم، مستلهمة روح إيزيس. وفي نهاية الرواية، نعرف قرار مايكل بالسفر إلى الشرق، إلى بلاد العرب وفارس، حيث يستلهم من شعوبها، بعد أن يتعلم لغاتهم، السرَّ في التوفيق بين الدين وبين الحياة بكل ما فيها من مشاعر وعواطف مضطربة متناقضة.
أما عصفور من الشرق، فتُمثل أيضًا نوعًا من السيرة الذاتية على هيئة رواية فنية؛ وهي إلى جانب كتاب «زهرة العمر»، تعرض لنا صورة فنية لحياة توفيق الحكيم في فرنسا، في فترة ما بين الحربين العالميتَين، التي زخرَت بالنشاط الفني والأدبي المكثف، وتلاقى فيها الأدباء والفنانون من كلِّ حدب وصوب. ويحكي لنا الحكيم عن الكتب التي قرأها، والتيارات التي تأثَّر بها وهو في فترة التكوين الأوروبي تلك. ولا نستبعد أنه قرأ مسرحيات ييتس وشعره من بين ما قرأ، ولكنه بالقطع — كما أسلفنا القول — لم يطَّلع قط على رواية «الطائر الأرقط». وعصفور من الشرق تحكي علاقة بطلها محسن — وهو نفس اسم الحكيم في «عودة الروح» — مع الأسرة التي يسكن لديها في باريس، ثم مع سوزي عاملة شباك التذاكر في مسرح «الأوديون»، والتي هام بها وأحبَّها حبًّا عنيفًا ملك عليه لبَّه، حتى إنه انتقل للسكنى في الفندق الذي تنزل فيه في أطراف باريس. ومع محاولاته للتقرب منها، تمنحه أسبوعين من المودة والوصال يسبح معها في السعادة والهناء، كيما يسقط بعد ذلك في هوَّة الواقع الأليم حين يكتشف أنها كانت تستخدمه لإثارة غيرة صديقها الفرنسي. ثم تركز الرواية على محاورات محسن مع إيفان المهاجر الروسي، الذي يحلم بالذهاب إلى الشرق حيث يتصور أنه سيعثر هناك على «اليوتوبيا» — الحياة المثالية في المدينة الفاضلة — التي عجز الغرب عن التوصل إليها.
وهكذا نرى أنه لا شيء يجمع بين الروايتَين، اللهم إلا اعتزام بطل الطائر الأرقط الذهابَ إلى الشرق بحثًا عن قوس قزح، الذي تتناغم فيه الألوان، حيث يتناغم الدين مع العواطف الطبيعية الأرضية. بَيد أن هذه الفكرة عند مايكل «ييتس» وعند إيفان «الحكيم» لا تلتقيان إلا في الإطار العام؛ لأن إيفان ينطلق في ثورته على الغرب من منطلق مختلف تمامًا عن منطلق مايكل؛ اشتراكي يحلم بالعودة إلى منابع الإلهام التي أفسدها القائمون على أمور الدين في الغرب، وفسروها بما يتفق مع مصالحهم، مما قسَّم البشر إلى مَن يملكون ومَن لا يملكون. وحتى مصادر الثقافة والقراءة في أوروبا أصبحت «من الدرجة العاشرة» في رداءتها وابتذالها. ولكن توفيق الحكيم لا يُنهي الرواية عند هذا الحد، بل إنه يردُّ على هذه الفكرة برأيه الذي لم يشأ أن يذكرَه لإيفان الحالم، وهو أن الشرق الذي يحكي عنه قد تحول في الوقت الذي تدور فيه أحداث الرواية إلى وهم كبير، فقد ناله ما نال الغرب من التسمم والابتذال، حتى إنه لا يوجد «اليوم» شرق … «إنما هي غابة على أشجارها قردة، تلبس زيَّ الغرب، على غير نظام ولا فهم ولا إدراك.»