بهاء طاهر وباولو كويلو
كثيرًا ما يلحظ القارئ وجوهَ شبهٍ بين عمل فني يقرؤه وبين عمل آخر، حتى وإن كان الأمر لا يتعلق بتأثر أحدهما بالآخر، بل وكثيرًا ما يكون العمل المشابه سابقًا على العمل الآخر، مع عدم وجود إمكانية اطِّلاع كاتبه على العمل السابق بأي حال من الأحوال. وليس هناك من تفسيرٍ لذلك سوى أن تشابُهَ التجارب الإنسانية الأدبية، ووحدة المشاعر التي تدفع كاتبًا إلى صوغ تجربته الفنية، يمكن أن تُنتج أعمالًا ذات ملامح متقاربة. وهذا بالطبع إلى جانب الأعمال التي تأتي بتأثير مباشر أو غير مباشر من كتاب معين أو كاتب معين على كاتب آخر.
وثمة أمثلة كثيرة للتشابه بين أعمال أدبية مختلفة اللغات والأمكنة، سواء كان ذلك نتيجة لتوارد في الأفكار والخواطر أو نتيجة تأثر مباشر أو غير مباشر. ومن بين تلك الأمثلة، ما نجده في رواية «سارة» للعقاد، التي بها لمحاتٌ مقاربة لبعض تيمات رواية «نهاية العلاقة» للكاتب الإنجليزي جراهام جرين، ورواية «زينب» لحسين هيكل التي تُعيد إلى أذهاننا أجواءَ «هِلُوِيز» الجديدة لروسو، مع اختلافات جوهرية في المكان والزمان.
أما موضوع مقالنا هذا فهو الملامح التي تجمع رواية الكاتب البرازيلي «باولو كويلو» (وهذه هي الصيغة العربية الأقرب إلى اسمه، كما يُنطق في لغته البرتغالية) «السيميائي»، وقصة بهاء طاهر «أنا الملك جئت». وقد أشار الروائي المصري إلى أوجه ذلك الشبه في مقدمته لترجمته للرواية، وإن كان لم يجد تفسيرًا لذلك؛ حيث إن قصته صدرَت قبل الرواية البرتغالية بثلاث سنوات، ولم تُترجم إلى لغة أجنبية.
ملامح مشتركة
بيد أن أهداف رحلات السعي ليست وحدها العثور على الكنوز المادية؛ فرحلة السعي التي يقوم بها الدكتور فريد عبد الله في قصة بهاء طاهر، هدفها الظاهري البحثُ عن واحة مجهولة في الجنوب الغربي من سيوة، وهي واحة لا يعرفها أحدٌ ولم يرصدها أيُّ مستكشف، وبذلك فهي تمثِّل الواحة التي سيجد فيها بطلُ القصة خلاصَه النفسي. ورغم ذلك فإن رحلة الدكتور فريد تتكشف عن العثور على معبد فرعوني ضخم لم يكن أحد يدري بوجوده، وهو أيضًا رمز لما كان ينشده البطل من رحلة سعيه.
فالدكتور فريد يخرج إلى الصحراء الواسعة المجهولة في رحلةِ سعيٍ بحثًا عن السلوى والنسيان؛ أي خلاصه الذاتي، بعد مأساة وقعَت له منذ سنوات، ويعرضها لنا المؤلف على نحوٍ غامض مقتضب، ويتفرق في ثنايا القصة، ونفهم منه أنه أحبَّ زميلةً له حين كان يدرس الطب في جامعة جرينوبل بفرنسا، وهي فرنسية تُدعَى مارتين، وأنهما تواعدَا على الزواج، وبعد تخرُّجهما، تقوم مارتين بزيارة فريد في مصر لتتعرف على أسرته وتتعرَّف أسرتُه عليها، ثم تعود إلى فرنسا بعد أن يكون الحبيبان قد أصبحَا «شبه مخطوبَين»، ونفهم من سياق القصة أن مارتين قد تعرَّضت بعد ذلك لمرض أو محنة لا ندري كنهها، ألزمَتها دخول مصحة للأمراض العقلية؛ حيث دأب فريد على زيارتها كل عام. وما تذكره القصة عن بداية ما حدث هو ما يلي: «وفي أبريل ١٩٢٥، سافرت مارتين إلى مرسيليا شبه مخطوبة لفريد. صحبها فريد إلى الإسكندرية، ولوحَت له بمنديل أبيض من فوق الباخرة. وكان حول رقبتها إيشارب وردي يُرفرف أيضًا في الهواء، وكانت تلك هي النهاية. رغم ذلك، ظل الدكتور فريد يسافر كل سنة إلى فرنسا شهرًا على الأقل لكي يرى مارتين. رفض أن يسمع أيَّ حديث عن زواج آخر.» ثم تَصِف القصة زياراتِ البطل لمارتين في المصحة، ولمحات لبداية إصابتها بالمرض العقلي، دون ذكر تفاصيل أكثر تحديدًا لما حدث لها وأدى بها إلى ذلك الوضع، ثم تركز القصة على حالة الدكتور فريد النفسية، وخطته في السفر إلى قلب الصحراء الواسعة إلى المجهول، حيث لم يذهب أحد قبله.
فريد وسنتياجو
وما إن ندلف مع فريد إلى الصحراء، ونقرأ عمَّا يصادفه في رحلته فيها من أحداث ومخاطرات، ومؤامرات المرافقين له، حتى ينتقل تفكيرُنا إلى المغامرات التي صادفَت بطل رواية كويلو، الفتى سانتياجو. فقد مر سنتياجو بعدد من التجارب قبل أن يدلف هو الآخر إلى الصحراء. كان يدرس ليكون كاهنًا، فهجر دراسته ليعمل راعيَ غنم يجول مع قطيعه في مدن الأندلس وقراه، حبًّا في الترحال. وقد تبدل حالُه مع حلم آخر رآه أكثر من مرة، بعثوره على كنز بجوار أهرامات مصر، ثم بمقابلته مع أحد ملوك التاريخ القديم الذي يزوِّده بنصائح بالمضيِّ في تحقيق قدَرِه والبحث عن أسطورته الذاتية، وبالطبع، اقتفاء أثر كنز الأهرامات. وفي طنجة، يعمل سنتياجو مع العرب من أهل المغرب ويتعلم العربية، ويربح أموالًا كثيرة تؤهله لتحقيق حلمه في عبور الصحراء في طريقه إلى الأهرامات، ويلتحق بقافلة متجهة إلى مصر. وتذكِّرنا كلمات رئيس القافلة، ووصف الاستعدادات لعبور الصحاري، بما جاء في قصة بهاء طاهر، والدكتور فريد يستعد لرحلته هو في صحراء سيوة. ويلتقي سنتياجو في القافلة بإنجليزي يعتزم الذهاب إلى «واحة الفيوم» للقاء السيميائي، وهو أحد فلاسفة الكيمياء الأسطوريِّين، كيما يتعلم منه التوصل إلى استخلاص إكسير الحياة، وطريقة تحويل المعادن إلى ذهب. وينغمر سنتياجو في أجواء الصحراء، ويسعى وراء «العلامات» و«روح العالم» ولغته، وكلها أشياء حدَّثه عنها الملك العجوز من قبل، فقد تعلَّم منه «أن للعالم روحًا، وأن مَن يستطيع فهم هذه الروح يمكنه أن يفهم لغة الأشياء.»
وقائع عجيبة
ومثل ما يحدث مع الدكتور فريد من مخاطر في الصحراء، يصادف سنتياجو مغامراتٍ وأحداثًا تنحو إلى الغرائبية التي يبرع فيها «كويلو». إذ يضيف من خياله أشياءَ تاريخيةً وجغرافية لا صلة لها بالواقع، وهو الأسلوب الذي تعلَّمه من قصص ألف ليلة وليلة التي تشرَّبها عن طريق زميله الأرجنتيني الشهير «لويس بورخيس». وتزداد جرعةُ الفانتازيا في الرواية؛ حيث تصل القافلة إلى «واحة الفيوم» في قلب الصحراء؛ ففيها تقع أحداث عجيبة، ولكنها تدخل في صلب السرد بما مهَّد به المؤلف من الحديث عن الأحلام والأسطورة الذاتية وروح العالم، ويدخل القارئ في صلب تجربة سنتاجو في بحثه عن قدره، وما هو «مكتوب» له فيه، ويتعرف هناك على «فاطمة» التي يجد فيها قرين روحه، وعلى السيميائي، وهو عربي عجوز يهبه دفعات روحية عميقة، تُمكِّنه في النهاية من التعمق في ذاته إلى الحد الذي يستطيع معه إجراء وقائع عجائبية أمام رؤساء القبائل في «واحة الفيوم»، يتحول في إحداها إلى ريح عاصفة، وبعد أن يُتمَّ سنتياجو بنجاح كلَّ هذه الطقوس — التي هي أشبه بطقوس العبور في الأساطير القديمة — يتَّجه إلى عبور ما تبقَّى له من الصحراء، التي تفصله عن أهرامات مصر. ويبحث هناك عن الكنز في الأمكنة التي تراءَت له في أحلامه، ولكن بلا جدوى. ويهجم عليه بعضُ قطَّاع الطرق، ويسرقونه ويضربونه، وحين يعلم أحدُهم بقصة حلمه، يسخر منه، ويقول له إنه حدث له نفسُ الشيء؛ إذ حلم مكررًا بوجود كنز في بلدة بإسبانيا، مطمور بالقرب من كنيسة قديمة، يهجع الرعاة للمبيت فيها مع أغنامهم، وتنمو في موضع هيكلها شجرة جميز، ولكنه — أي قاطع الطريق — ليس بالغفلة التي دفعَت سنتياجو إلى الجري وراء أضغاث الأحلام. وكان في حديث الرجل السر الذي ينتظر سنتياجو؛ إذ أدرك من وصفِ قاطعِ الطريق أن المكان الذي ذكره هو الموضع الذي يعرفه جيدًا في بلدته الأندلسية، والذي كثيرًا ما آوى إليه مع غنمه!
نبع الليالي
وقصة الكنز هي طبعًا مأخوذة بنصِّها من إحدى حكايات ألف ليلة وليلة «إفلاس رجل من بغداد»، وفيها تحكي شهرزاد عن تاجر في بغداد يفقد ثروته، ويرى حلمًا يتكرر يُوجهه إلى الذهاب إلى مصر، حيث يجد رزقًا كثيرًا له هناك. وحين يذهب إلى مصر، يُقبض عليه خطأ مع عصابة من اللصوص، ويَمثل أمام القاضي ويحكي له حكاية أحلامه، فيضحك القاضي ويقول إنه حلَم بوجود كنز كبير في أحد بيوت بغداد: «بخط كذا وصفُه كذا … في جنينة تحتها فسقية، بها مال له جرم عظيم»، ولكنه ليس بغفلة التاجر الذي ينساق وراء أحلامه.
ويعود التاجر إلى بغداد، بعد أن عرف من وصف القاضي للبيت الذي تحته كنز أنه بيته هو، فحفر تحت الفسقية فوجد الكنز، ووسَّع الله عليه في رزقه.
ومؤازرةً لقصة سنتياجو، يخرج الدكتور فريد إلى الصحراء بحثًا عن حبيبته مارتين، والفناء فيها هناك، وهو يقول في بداية القصة: «إنه في الصحراء يرى وجهَ مارتين في كل مكان؛ في التماعات السراب البعيد، وفوق التلال، وفي وميض النجوم.» وحين يكتشف فريد المعبد الفرعوني، وهو أيضًا عجائبي أسطوري من وحي الفانتازيا ذاتها التي ابتدعَت «واحة الفيوم»، يجد في نقوشه الهيروغليفية ما يُشير إلى اسم مارتين، ويتوازى النقش مع اللوحة الهيروغليفية التي نراها في بداية القصة في عيادة الدكتور فريد، والتي أهداها له صديقُه عالم الآثار، وهي تقول: «فريد يحب مارتين.» ويمرُّ فريد وحيدًا مهجورًا في معبد الصحراء بطقوسه الذاتية، من فك الحروف الهيروغليفية التي تقول: «أنا الملك جئت»، إلى تخايل صورة الرجل الملثم له كالسراب الخادع، والوهج الوردي الذي يغلف الصحراء في الشروق والغروب، وهو نفس اللون الذي يتردد كثيرًا أيضًا في رواية كويلو.
وقصة بهاء طاهر كثيفة، محكمة الصنع؛ حيث كل عبارة وصورة لها دورها في الصياغة وفي الأثر التراكمي، الذي تُخلفه القصة في نفس قارئها.
تأثيرات أخرى
ومن ناحية أخرى، أشار النقاد إلى التأثيرات والتوازي بين رواية كويلو بعد أن ذاعَت واشتهرت، وبين أعمال أدبية أخرى، أهمها «النبي» لجبران خليل جبران، و«الأمير الصغير» لسانت إكزوبيري، ورواية «السيميائي» فيها بالفعل الكثير من صوفية جبران وروحانيته، كما أن شبهها بالأمير الصغير واضح في عدة مواطن، أهمها تيمة الصحراء التي تبدأ بها أحداث القصة الفرنسية. وقد ألهم ذلك التشابه إحدى دور النشر الأمريكية إصدار طبعة فاخرة من الترجمة الإنجليزية «للسيميائي»، بمصاحبة رسوم بديعة بريشة الرسام «مويبيوس»، جاءت ذات شبه كبير بالرسوم التي وضعها سانت إكزوبيري بنفسه لروايته، وقد أوردنا هنا بعض رسوم رواية كويلو لإعطاء القارئ العربي فكرة عنها.
وأُحب أن أُضيفَ هنا، أن الموازنات العربية لرواية السيميائي لا تقتصر على قصة بهاء طاهر؛ فكويلو يُشير إلى بطل روايته بوصفه «الفتى»، على نحو ما فعل طه حسين في أيامه، كما أن هناك رواية أخرى معروفة لمحمود تيمور، هي «نداء المجهول»، تنتمي أيضًا لنوعية «السيميائي» و«أنا الملك جئت». وعلى الرغم من أن أحداثها تبدأ في بقعة نائية من جبال لبنان، فإنها تتحدث عن أمكنة أشبه بالصحراء، حيث البدو والرعاة وقطعان الأغنام، وفيها تبحث إنجليزية تُدعى «مس إيفانس» عن قصر خفي، بعد أن سمعت كثيرًا من القصص الغريبة عنه، حيث يقال إن أحد زعماء العشائر قد ابتناه، وإن ملكيته آلَت أخيرًا إلى حفيد له يُدعى يوسف الصافي، كان يجهزه لزواجه من فتاة يحبها اسمها صفاء. وحين ترفضه أسرة الفتاة وتزوجها لآخر، يقتلها يوسف الصافي في ليلة عرسها ثم يختفي، ويزعم الأهالي أنهم وجدوا جثته منتحرًا. وتذهب مس إيفانس بصحبة صديقَين ودليلٍ فيما يشبه القافلة لإماطة اللثام عن سر ذلك القصر. وتصادف القافلة مخاطرَ وأهوالًا جسيمة، إلى أن تهتديَ إلى مغارات القصر وأروقته. ويكتشفون فيه الحفيد يوسف الصافي، الذي يظن في هذيانه أن الفتاة الإنجليزية هي حبيبته صفاء. وبعد أن يعود إلى رشده، يتقارب قلب مس إيفانز منه، حيث تشعر أن ذلك الشخص هو أسطورتها الذاتية، دفعها إليه قدَرها المكتوب. وفي الرواية نفس الأجواء الروحانية والصوفية، والمغامرات التي نجدها في الكتابَين اللذَين تحدثنا عنهما.
وإن في عرض مثل تلك المشابهات والموازنات في الأعمال الأدبية والفنية، عبر اللغات والبلدان المختلفة، إلقاءَ أضواء جديدة عليها، وحثًّا للقارئ على مطالعتها، وتبيُّن مواطن الشبه أو الاختلاف بنفسه، مما يكشف له مناحي جمالها الفني، ويُثري قراءته لها بأبعاد أعمق ومعانٍ جديدة.