تمهيد
هذه ترجمة وليست بترجمة
لأن الترجمة يغلب أن تكون قصة حياة، وأما هذه فأحرى بها أن تسمى صورة حياته، ولأن تكون ترجمة ابن الرومي صورةً خير من أن تكون قصة؛ لأن ترجمته لا تخرج لنا قصة نادرة بين قصص الواقع أو الخيال، ولكننا إذا نظرنا في ديوانه وجدنا مرآة صادقة، ووجدنا في المرآة صورة ناطقة لا نظير لها فيما نعلم من دواوين الشعراء، وتلك مزية تستحق من أجلها أن يُكتب فيها كتاب.
إن مزايا الشعر كثيرة تتفرق بين الشعراء، ويتفرق الإعجاب بها بين القراء، وقد يحرم الشاعر إحداها أو أكثرها وهو بعد شاعر لا غبار عليه؛ لأنه يحسن نمطًا من الشعر تصحُّ به الشاعرية، كالجمال في الحسان، يروقنا في كل وجه بلونٍ وسمةٍ وهو في جميع الوجوه رائق جميل، وكاللمحة الواحدة من ملامح الجمال تحلو في هذا الوجه، وتحلو في ذاك، ولا تشابه بينهما في غير الحلاوة؛ ففي العيون ألف عين جميلة لا تشبه الواحدة أختها، ولا تتفق اثنتان منها في معاني النظرات ومحاسن الصفات، وليس هناك إلا جمال واحد عند الكلام على جوهر الجمال.
وكذلك الشعر، يعجبنا في كل شاعر بطراز مختلفٍ وهو شعر سائغ مستملح في كل طراز، فالذي يعجبنا من المتنبي غير الذي يعجبنا من البحتري، والذي يعجبنا من هذين غير الذي يعجبنا من الشريف الرضي أو من أبي العلاء، أو من أبي نواس، أو من ابن زيدون، والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الشاعرية، غير الذي يستحقها به البقية! فقد تفرقت مزايا الشعر كما قلنا أيما تفرق، وامتنع الإعجاب بهن جميعًا على الحصر والتعريف.
غير أن المزية التي لا غنى عنها، والتي لا يكون الشاعر شاعرًا إلا بنصيب منها، هي مزيَّة واحدة، أو هي مزية نستطيع أن نسمِّيَها باسم واحد، وتلك هي الطبيعة الفنية.
نتعمد أن نقول: إنها تسمى باسم واحد؛ لأنها في الحقيقة أشياء شتى تدخل في عموم هذه التسمية.
فالطبيعة الفنية هي الطبيعة التي بها يقظةٌ بيِّنة للإحساس بجوانب الحياة المختلفة، وهنا ينتهي بنا الإجمال إلى كلمة كأنها كلمات، أو كأنها معجم كامل من المصطلحات، أليست جوانب الحياة علميًّا لا حد لها في العدد ولا في الصفة؟ ثم أليست أنواع التيقظ لتلك الجوانب أشتاتًا وأخلاطًا لا تجتمع في حصر حاصر؟ بلى! فمن المتيقظين لجوانب الحياة من هو عميق الشعور بها، ومن هو متوفِّز الشعور أو مهتاجه أو مستفيضه أو محصوره أو مستقيمه أو منحرفه، إلى غير ذلك من أنواع الشعور ودرجاته، فالذي تجمعه كلمة اليقظة هنيهة لا تلبث أوصاف اليقظة أن تفرقه كل مفرق، فهل من سبيل إلى إسلاس المعنى، وتقريب مقاده للتعريف والتوضيح؟
نعم! وسبيل ذلك غير عسير، فنحن نقول موجزين: إن الطبيعة الفنية هي تلك الطبيعة التي تجعل فن الشاعر جزءًا من حياته أيًّا كانت هذه الحياة من الكبر أو الصغر، ومن الثروة أو الفاقة، ومن الألفة أو الشذوذ، وتمام هذه الطبيعة أن تكون حياة الشاعر وفنه شيئًا واحدًا، لا ينفصل فيه الإنسان الحي من الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته هو موضوع شعره، وموضوع شعره هو موضوع حياته، فديوانه هو ترجمة باطنية لنفسه، يخفي فيها ذكر الأماكن والأزمان، ولا يخفي فيها ذكر خالجة ولا هاجسة مما تتألف منه حياة الإنسان، ودون ذلك مراتب يكثر فيها الاتفاق بين حياة الشاعر وفنه أو يقل، كما يلتقي الصديقان أحيانًا طواعية واختيارًا، أو كما يلتقي الغريبان في الحين بعد الحين على كرهٍ واضطرار، فالإنسان والشاعر في هذه الحالة شخصان يلتقيان في المواعيد، ثم يذهب كل منهما لطِيَّته إلى أن يتاح لهما اللقاء مرة أخرى بعد زمن طويل أو قصير، وكأن الشعر عند هؤلاء الشعراء روح من تلك الأرواح التي تلبس صاحبها وتفارقه، ثم تلبسه كلما استحضرها له مستحضر من الحوادث والأهواء، فهو إذا لبسته شاعرٌ يأخذ عنها ما تحسه، وينقل عنها ما تقول، وهو — إذا فارقته — فردٌ من هذا الملأ الذي لا يُوحَى إليه، ولا يُكشَف عنه الحجاب.
ابن الرومي واحد من أولئك الشعراء القليلين الذين ظفروا من الطبيعة الفنية بأوفى نصيب، فمن عرف ابن الرومي الشاعر؛ فقد عرف ابن الرومي الإنسان حق عرفانه، ولم ينقص منه إلا الفضول. والغريب مع هذا أن ابن الرومي الشاعر هو ابن الرومي الذي لم يعرف بعدُ، وإن عرفت له مزايا ونالت حسناتٌ له حقَّها من الإعجاب.
ليس من الصدق للتاريخ أن يقال: إن ابن الرومي كان خاملًا في زمانه أو بعد زمانه، بهذا المعنى الشائع من الخمول الذي يراد به سقوط المكانة الأدبية ونسيان الأثر بين المتأدبين، فلعله إذا قيس إلى الشعراء الهجَّائين خليقٌ أن يعد سعيد الحظ موفور الجزاء؛ فقد ذهب شعر بشار إلا أقله، وذهب شعر دعبل إلا أقله، وبقي ديوان ابن الرومي كله فلم يذهب منه إلا أقله! وهذه محاباة من الشهرة لم يرزقها في العربية شاعرٌ هجاء، أو لم يرزقها قبل عصر الطباعة إلا أفراد معدودون بين سائر الشعراء، ثم جاء عصر الطباعة فلم يكن الخمول هو الذي جنى على ابن الرومي وأخَّر طبْع ديوانه بعد الدواوين التي في طبقته؛ لأنه ذُكر في كل كتاب متداول من كتب الأدب، وحُفظت له مختارات كثيرة في حيثما وردت مختارات الشعراء المبرزين، والذين أهملوه — كصاحب الأغاني — إنما تعمدوا ذلك حنقًا عليه لا إصغارًا لشأنه، فتأخر طبعه في العصر الحديث لأسباب غير الخمول والإهمال؛ تأخر لأن ديوانه أطول ديوان محفوظ في اللغة العربية من جهة، ولأن نسخته — من جهة أخرى — لم تكن ميسورة في البلاد السورية حيث طبعت بعض الدواوين، وريما كان الإقذاع في الهجاء سببًا ثالثًا مضافًا إلى ذينك السببين.
فليس من الصدق للتاريخ إذن أن يقال: إن ابن الرومي كان خاملًا بذلك المعنى الشائع من الخمول، ولكنه مع هذا كان خاملًا، وكان خموله أظلم خمول يصاب به الأدباء؛ لأنه الخمول الذي يحفظ ذكر الأديب، ولكنه يخفي أجمل فضائله وأكبر مزاياه. وهذا هو الحيف الذي أصاب ابن الرومي، ولا يزال يصيبه عندنا بين جمهرة الأدباء والمتأدبين.
قال ابن خلكان يصفه ويقدره: «هو صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة، فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية.»
وهذا وصف صادق كله، ولكنه ليس بكل الوصف، الذي ينبغي أن يوصف به ويُتمَّم به تعريفه، فهو تعريف ناقصٌ، والناقص فيه هو المهم، وهو الأجدر بالتنويه؛ إذ هو المزية الكبرى في الشاعر، وهو هو الطبيعة الفنية التي تجعل الفن جزءًا لا ينفصل من الحياة.
ما الغوص على المعاني النادرة؟ وما النظم العجيب والتوليد الغريب إن لم يكن ذلك كله مصحوبًا بالطبيعة الحية، والإحساس البالغ، والذخيرة النفسية، التي تتطلب التعبير والافتنان فيه؟ إن كثيرًا من النظامين ليغوصون على المعاني النادرة ليستخرجوا لنا أصدافًا كأصداف ابن نباتة وصفي الدين، أو لآلئ رخيصة كلآلئ المعتز وابن خفاجة وإخوان هذا الطراز، وإن الغوص على المعاني النادرة لهو لعب فارغ كلعب الحواة والمشعوذين إن لم يكن صادق التعبير، مطبوع التمثيل والتصوير. وعلى الأوراق المالية رسوم ونقوش وأرقام وحروف، ولكنها برسومها ونقوشها وأرقامها وحروفها لا تساوي درهمًا إن لم يكن وراءها الذهب المودع في خزانة المصرف! فالإحساس هو الذهب المودع في خزانة النفس، وهو الثروة الشعرية التي يقاس بها سراة الكلام، أما الرسوم والنقوش والأرقام والحروف، فعلامة لا أكثر ولا أقل، وقد تغني عنها علامة أخرى برقم ساذج وتوقيع بسيط!
نعم، ما النظم العجيب والتوليد الغريب واستغراق المعنى حتى يُستوفَى إلى آخره ولا تبقى فيه بقية؟ إن هذا بقضه وقضيضه إن هو إلا أدوات التعبير، وليس هو التعبير المطلوب في لبابه، فإذا لم يكن عند الشاعر ما يعبر عنه، فكل معانيه وتوليداته ونوادره لغو لا حاجة بنا إليه، وإذا كان عنده ما يعبر عنه، واستطاع التعبير بغير توليد ولا إغراب ولا استغراق؛ فقد أدى رسالته وأبلغ في أدائها أكمل بلاغ، وهذه هي الرسالة المقصودة، وهذا هو الشعر الجيد، وهذه هي الطبيعة الفنية. أما المعاني والتوليدات فهي وسائل إلى غاية لا قيمة لها إلا فيما تؤديه وتنتهي إليه، ويستوي بعد ذلك مَن أدى إليك سريرة نفسه بتوليد وإغراب، ومَن أداها إليك بكلام لا أغراب فيه ولا توليد.
وابن الرومي شاعر كثير التوليد، غواص على المعاني، مستغرق لمعانيه، ولكننا لو سئلنا: ما الدليل على شاعريته؟ لكان غبنًا له أن نحصر هذا الدليل في التوليد والغوص والاستغراق، فقد نحذف منه توليداته ومعانيه، ولا نحذف منه عناصر الشاعرية والطبيعة الفنية، فهو الشاعر من فرعه إلى قدمه، والشاعر في جيده ورديئه، والشاعر فيما يحتفل به وفيما يلقيه على عواهنه، وليس الشعر عنده لباسًا يلبسه للزينة في مواسم الأيام، ولا لباسًا يلبسه للابتذال في عامة الأيام، كلا! بل هو إهابه الموصول بعروق جسمه، المنسوج من لحمه ودمه، فللرديء منه مثلما للجيد من الدلالة على نفسه، والإبانة عن صحته وسقمه، بل ربما كان بعض رديئه أدل عليه من بعض جيده، وأدنى إلى التعريف به والنفاذ إليه؛ لأن موضوع فنه هو موضوع حياته، والمرء يحيا في أحسن أوقاته، ويحيا في أسوأ أوقاته، ولقد تكون حياته في الأوقات السيئة أضعاف حياته في أحسن الأوقات.
هذا الجانب من شاعرية ابن الرومي هو الجانب الخامل المجهول، وهو الجانب الذي وقفنا على التعريف به صفحات هذا الكتاب، وعندنا أننا ننصف كل شاعر — ولا ننصف ابن الرومي وحده — بتوضيح هذا الجانب من الشاعرية، أو بتوضيح ما نسميه الطبيعة الفنية؛ لأنه هو المقياس الذي لا يتم لنا أن نقدر شاعرًا بغيره، والذي نجهل الشعر كله والشعراء كلهم إذا نحن أغضينا عنه والتفتنا إلى سواه مما لا يستحق كبير التفات.