عصر ابن الرومي أو القرن الثالث للهجرة
«كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الجهالة، كان عهد اليقين والإيمان، وكان عهد الحيرة والشكوك، كان أوان النور وكان أوان الظلام، كان ربيع الرجاء وكان زمهرير القنوط: بين أيدينا كل شيء، وليس بين أيدينا شيء قط، وسبيلنا جميعًا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعًا إلى قرار الجحيم، تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقاتها أن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات.»
هذا هو عصر الثورة الفرنسية، وهكذا استهل وصفه الكاتب الإنجليزي «شارلس دكنز» في بداية قصة المدينتين، إلا أنك قد تنقل هذا الوصف إلى أمة غير الأمة الفرنسية، وعصر غير القرن الثامن عشر للميلاد، وأنت لا تخرج به عن زمانه ومكانه وفحواه؛ إذ هو وصف صادق لكل عصر من العصور في تواريخ الانتقال والاضطراب، ومن تلك العصور القرن الثالث للهجرة في دولة الإسلام الشرقية، وهو القرن الذي لا يوصف في جملته إلا بمثل هذا الوصف الغامض الجلي الذي كأنما يصف لك عصرين مختلفين، لا عصرًا واحدًا متناسق الأوضاع والأحوال؛ لأنه في الحقيقة عصران مختلفان، أو عدة عصور مختلفات، وإن اجتمعت في نطاق واحد من الزمان.
إن كان لكل دولة أوان للبذر، وأوان للنماء، وأوان للحصاد، فالقرن الثالث للهجرة كان أوان النماء للدولة العباسية، جاء بُعيد التمهيد، وقبيل النضج والذبول، ففيه نما وأزهر كل ما بذره مؤسسو الدولة من جراثيم الخير والشر، وعناصر الصلاح والفساد، وكانت الدولة في إبانه أشبه شيء بالمرج الأخضر الذي ينمو فيه الحب والفاكهة والشوك والعشب المسموم: خضرة زاهية نضرة، ولكنها وسيمة شائهة، ومصلحة مهلكة، ومرجوة مخشية، ومختلط فيها الغذاء والسم اختلاطًا لا سبيل فيه إلى التنقية والتمييز؛ فهو العصر الذي بلغ كل شيء فيه أقصاه، وأثمر كل عمل فيه نتاجه المحتوم، أثمر فيه الخطأ كما أثمر فيه التوفيق، وظهر فيه ما قدموا صالحًا أو طالحًا على السواء، فبدأ التمام وبدأ النقص في حين واحد، واجتمع الخليط من حضارات العرب والفرس والروم إلى الخليط من عوامل القوة والضعف والبشارة والإنذار، فكان نسيجًا من ألوان الزمان لا تشبع منه عين الفنان ولا رؤية الحكيم.
وليس بنا أن نسهب في وصف هذا القرن واستقصاء تاريخه، فإنما يعنينا منه ما يحيط بفرد واحد هو الشاعر الذي نترجم لحياته، فحسبنا من تاريخ ذلك العصر ما نوضح به نواحي تلك الحياة، والقليل الوجيز من ذلك التاريخ كافٍ لتوضيح ما نريده في هذا المقام.
حالة الحكومة والسياسة
ولد ابن الرومي في سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتُوفِّي في سنة أربع وثمانين، على قول بعض الرواة، فهو قد أدرك في طياته ثمانية خلفاء؛ هم: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، والمعتضد الذي تُوفِّي بعد ابن الرومي ببضع سنوات، فإذا أردنا أن نحيط بالحالة التي كانت عليها الحكومة وسياسة الدولة يومذاك؛ فلعلنا لا نستطيع أن نعرض لذلك ببيان هو أوجز من الإلمام بالمصير الذي صار إليه بعض أولئك الخلفاء؛ فمنهم واحد قُتل، وهو المتوكل، وثلاثة خلعوا وقُتلوا بعد خلعهم؛ وهم: المستعين والمعتز والمهتدي، وقيل: إن من الآخرين من مات مسمومًا، والبقية الذين ماتوا على سرير الملك لم يخل عصر أحدهم من فتنة، أو انتفاض، أو غارة خارجية، ولم يكن حظ ولاة العهود والأمراء والوزراء بخير من حظ الخلفاء، ولا مصير أكثرهم بأسلم من هذا المصير، فقل بين هؤلاء من نجا من الخلع والسجن والتعذيب واستصفاء الأموال.
وكان الخلفاء عرضة للغضب والكيد من الجند والوزراء ونساء القصور، أما الأمراء والوزراء فكانوا عرضة للغضب والكيد من جميع هؤلاء، ويزيد عليهم الخلفاء كلما قدروا على البطش، وأمنوا على أنفسهم دسائس المشاغبين والمنافسين.
إن اطِّراد البطش بالخلفاء والوزراء لا يدل على أمان أو انتظام في سير الأمور، ولكن هذا كله لا يزال ضعيف الدلالة على ما كانت عليه حقيقة الحال في حكومة تلك الأيام، فقد يعوزنا أن نعلم كيف كان المقتولون يُقتلون، والمخلوعون يُخلعون؛ لنعلم كيف كان الفساد يجري في خلائق النفوس كما كان يجري في سياسة الدولة وأعمال الدواوين، فقصارى ما يدل عليه اطراد العدوان أن شريعة الحكم لا تُرعى، وأن الحُكَّام لا تُتقى، إلا أن الحكومة قد تهزل هيبتها، وتبطل شريعتها، ثم تبقى للناس بعد ذلك حرمات أخرى يتقونها، وآداب أخرى يحرصون عليها.
تبقى لهم حرمات المروءة وآداب العرف والدين، أما في ذلك العهد فقد بلغ التنكيل والتبشيع في بعض حوادث الفتك مبلغًا لا حرمة معه لشرع ولا لدين ولا لمروءة.
فمن أمثلة ما كان يصيب الخلفاء ما حدث للمعتز حين طالبه الجند الأتراك بأرزاقهم، فلم يجدوا عنده ولا عند كُتابه ووزرائه مالًا، قال الطبري في أخبار سنة خمس وخمسين ومائتين: «فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا، المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل … ثم بعثوا إليه أن اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمر لا بد منه فليدخل إليَّ بعضكم. فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس … فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه … ورأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده … فذكر أنه لما خُلع دُفع إلى من يعذبه، ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه، ثم جصصوا سردابًا بالجص السخين، ثم أدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتًا، وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان في هذه السنة، فلما مات أُشهِد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه …»
ومن أمثلة ما كان يصيب الوزراء ما حدث لمحمد بن عبد الملك الزيات في أيام المتوكل، وذكره الطبري في أخبار سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، قال بعد أن ذكر مصادرة الأموال، ونهب الدور، وضم الضياع: «لم يزل أيامًا في حبسه مطلقًا، ثم أمر بتقييده فقيد، وامتنع من الطعام، وكان لا يذوق شيئًا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أيامًا ثم سوهر ومنع من النوم: يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يومًا وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبًا، فأتي به فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أتي بتنُّور من خشب فيه مسامير حديد … وكان هو أول مَن عمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتُلي به فعُذِّب به أيامًا.
وذكر عن الدنداني عن الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يده إلى السماء جميعًا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد، وفي وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائمًا كما كان ثم شدوا عليه، قال المُعذِّب لي: خاتَلتُه يومًا وأريتُه أني أقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل ثم مكثت قليلًا، ثم دفعت الباب غفلة فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل؟ فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك أيامًا حتى مات.
واختلف في الذي قُتل به فقيل: بُطح فضُرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قُلب فضرب على ظهره مثلها، فمات وهو يُضرب وهم لا يعلمون، فأصبح ميتًا قد التوت عنقه ونُتفت لحيته، وقيل: مات بغير ضرب، وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه إلا رغيفًا واحدًا، وكان يأكل العنبة والعنبتين، قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد يا ابن عبد الملك! لم تقنعك النعمة والدواب الفُرْه والدار النظيفة والكسوة الفاخرة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة! ذُق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على نفسه، فلما كان قبل موته بيوم ذهب عنه عتاب نفسه، فكان لا يزيد على التشهد وذكر الله.» والذي روي عن التمثيل بالمذنبين — ولا سيما في أيام المعتضد — أفظع من هذا وأعنف، وكأنما كان التفظيع بهم فرجة يتفننون في ابتداع أشكالها وأساليبها؛ ليلهوا بها النظارة ويذكروها فيما يذكرون من مشاهد المجون والفكاهة!
أساس هذا الشر كله سببان غالبان؛ هما: القطيعة بين بني العباس والعرب، ونظام الإقطاع الذي تمادى فيه بنو العباس حتى انتهى إلى تصدع العالم الإسلامي وتشعبه في مدى قرنين اثنين بضع عشرة شعبة، فبنو العباس كانوا قومًا موتورين طال عليهم الظلم واحتمال المكاره، وكانوا ينقمون على العرب أنهم خذلوا آل النبي في نضالهم مع بني أمية، وباعوهم بيع السماح لما استمالهم الأمويون بالعطايا والوعود، فلبثوا زمانًا يُسامون الذل، ويُلعنون على المنابر، ويشهدون قتل رجالهم، وسبي نسائهم وهم آل النبي الذي لم يسأل قومه على الهداية أجرًا إلا المودة فيهم، وابتلوا بكل محنة في دولة الأمويين، ولا من يغضب لهم أو يجنح إليهم.
ولقد كان بنو العباس شركاء بني علي في الوتر، وإن كان المصاب في معظمه مصاب هؤلاء؛ لأنهم كانوا جميعًا من آل البيت، ينالهم من الذل ما ينال كل مُنتمٍ إليه، ثم لما قامت لهم آخر الأمر دولة لم تقم على أيدي العرب وهم أولى الناس أن ينصروهم وتأخذهم الغيرة لهم، وإنما قامت على أيدي الفرس الذين كانوا ينقمون مثلهم على الدولة العربية، فامتلأت نفوسهم حفيظة على العرب، وانقطع ما بينهم وبينهم من صلة المودة والطمأنينة، وشعروا لهم في نفوسهم بما يشعر به المظلوم لمن ظلموه، أو أعانوا عليه ظالميه، والموتور إذا خاب ظنه في إنصاف الناس، وساء رأيه في أمانتهم وإخلاص طويتهم لم يعرف لهم حقًّا، ولم يرع لهم ذمة، ولم يجر الأمر بينه وبينهم إلا على المنفعة والرهبة دون الثقة والمودة. ومن هنا كانت تلك السياسة النفعية الفاتكة التي اشتهر بها أساطين بني العباس، ومضى عليها خلفاؤهم من بعدهم، وجاء اتصالهم بأجلاف الأعاجم من قبائل الترك والديلم، فنقلوا عنهم ضروبًا من المثلات التي تعودها هؤلاء الأعاجم في وحشية البداوة.
قيل: إن العباسيين إنما قربوا إليهم الفرس والأعاجم واتخذوا منهم الأعوان والقواد مكافأة لهم على نصرهم إياهم، وتأييدهم لهم على أعدائهم … والحقيقة أن بني العباس كانوا يتوجسون من العرب قبل أن تقوم لهم دولة، وتنتظم لهم عقدة، وكان إبراهيم بن محمد بن علي، صاحب الدعوة قبل السفاح، يكتب إلى أبي مسلم: «إن استطعتَ ألا تدع بخراسان لسانًا عربيًّا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.» فهو الحذر من العرب الذي أبعد هؤلاء وأخملهم في دولة بني العباس، وليست مكافأة الفرس ومن إليهم.
ثم توالت الحوادث بما باعد الشقة بين العرب وأصحاب الدولة الجديدة، فلما كان الخلاف بين الأمين والمأمون ذهب العرب مع الأمين؛ لأن أمه عربية، وذهب الفرس مع المأمون؛ لأن أمه فارسية، وقتل الأمين وانتصر المأمون، فحفظها للعرب وأمعن في إقصائهم وتقريب الأعاجم على تعدد أجناسهم، ثم جاء المعتصم — وكانت أمة تركية — فاعتمد على جنود الترك، وكثر اختلاف الأجناس في جيش الدولة وولاة أمرها، فضلًا عن اختلاف الأجناس بين نساء القصور وأمهات الأمراء، وتفاقمت أسباب الدسائس بين الملوك والأمراء والقادة والوزراء، وحاشية القصور من رجال ونساء، وبلغ من تفاقمها أن أشفق منها الجند والقواد الذين هم مساعير نيرانها، فشغب الجند على قوادهم، وتنازع القواد أمرهم فوَدُّوا جميعًا لو يملكهم خليفة قوي يخيفهم، ويحسم أسباب النزاع بينهم، كما قال بغا الكبير: «نجيء بمن نَهابه ونَفرَقه فنبقى، وإن جئنا بمن يخافنا حسد بعضنا بعضًا فقتلنا أنفسنا.» ثم اشتد إشفاقهم من تحاسدهم حتى طلبوا أن يتولى القيادة أمير من بيت الخلافة، ولا يتولاها أحد منهم، ولكن أسباب الشقاق كانت أكبر وأوسع من أن يحسمها مثل هذا التدبير العاجل الذي لا يطول الاستقرار عليه.
كان أمر الدولة إذن قائمًا على سوء الظن والدسيسة، وقد أَلِف المؤرخون أن يذكروا إخلاص الفرس لبني العباس، حتى خُيِّل إلى بعض قراء التاريخ أن بني العباس كانوا خليقين أن يطمئنوا إلى جهة واحدة على الأقل من جهات الدولة، وأن يسكنوا إلى شعب واحد من شعوبها الكثيرة، وما كان الأمر كذلك إلا في الظاهر الذي لا ينخدع به رجال من المحنكين الحذرين كرجال الدولة العباسية، فما نظن أبا مسلم نصير الدولة الأكبر إلا كان طامعًا في الخلافة متربصًا بأوليائه الدائرة؛ ولهذا طمح إلى مصاهرة بيت الملك وارتقى بنسبه إلى العباس، وبدأ باسمه في مخاطبة الخليفة، وأراد أن يؤم الناس في موسم الحج، واستعد للمُلْك استعداده الذي لا يخفى على أوليائه، وما نظن البرامكة إلا كانوا يفعلون فعل أبي مسلم في شيء من التبصُّر وطول الأناة.
ولِمَ لا يطمع هؤلاء وغيرهم وما كانت تعوز العظماء في أمة الفرس أسباب الدعوة والانتقاض؟ فإن كان الأمر أمر الطمع والقوة، فها هم الفرس أصحاب القوة التي وصل بها العباسيون إلى الخلافة، وإن كان أمر الدين والغيرة على آل البيت فها هم أبناء علي عندهم، يدعون لهم إذا شاءوا، ويجدون من الناس مستمعًا ومجيبًا بعدما أصاب العلويين على أيدي بني العباس من قسوة وتنكيل، وما أصاب العرب في دولتهم من إهمال واطِّراح.
كان حكم بني العباس حكم الموتور المستريب، ولا يكون إلا هكذا حكم الموتور المستريب، وأطبق نظام الإقطاع على هذه الآفة فتمت به البلية، وتشعبت المقاصد حتى فشا سوء الظن، ولم يبق موضع لثقة بين إنسان وإنسان من العاملين في الحكومة.
نظام الإقطاع
فنظام الإقطاع نظام معيب، ولكنه يبقى مستور العيوب ما بقيت هيبة الدولة وسطوة القائمين عليها، فإذا ضعفت وضعفوا فهو الشر المستطير يشقى به الحاكم والمحكوم، وينخر في أركان الملك فلا يدعه إلا وهو مفكك الأجزاء معتورٌ بأسباب الفناء.
فكان الولاة — والخلافة العباسية مرهوبة الجانب والأمور مستقرة في عنفوانها — يؤدون المال الذي عليهم، ويتعهدون الأرض والمرافق بالإصلاح؛ لتغزر عندهم موارد الجباية، وتدوم لهم وللناس منابع الثروة، فلما تقلقلت الخلافة وارتاب الولاة في أمرها وفي أمرهم أهملوا الإصلاح، وتهافتوا على جمع المال، وحبسوا أرزاق العمال، وأغفلوا مرافق الرعية، فخربت الأرض وعمَّ السخط وفسدت طاعة الجند على ما بها من فساد الشقاق والدسيسة، ولجأ الخلفاء إلى اغتيال الولاة والكُتَّاب، وكل من بأيديهم مال الجباية، فأعملوا فيهم القتل واستصفاء الأموال، واستخراج الدفائن والمخبآت، وأصبحت الكتابة والوزارة وما إليهما من وظائف الدولة كأنما هي رخصة بالظلم والغصب ريثما يحتاج الخلفاء إلى ما جمعه الوزراء والكتاب، فيحصلوا على المال من هذه الطريق!
وبلغ من شيوع الاختلاس أن الذين كانت بأيديهم خزائن الدولة شاركوا العمال وأصحاب الوظائف في أرزاقهم، فكانوا لا يؤدون رزق عامل أو صاحب وظيفة إلا إذا اقتطعوا منه إتاوة لأنفسهم، واستكتبوه توقيعه باستيفاء رزقه، غير مستثنين من ذلك أحدًا حتى إخوة الخليفة وأهل بيته، بل قد بلغ من شيوع الاختلاس أن أصبح سرًّا مذاعًا لا يكتم في حضرة الخليفة نفسه، ولا يبالي الوزير أو الكاتب أن يجهر بين يديه بفعله: فلما عرض الخليفة المهتدي لسليمان بن وهب بما كان يأخذه هذا من العمال «معجلًا ومؤجلًا»، قال له سليمان: «يا أمير المؤمنين! هذا قول لا يخلو من أن يكون حقًّا أو باطلًا، فإن كان باطلًا فليس مثلك من يقوله، وإن كان حقًّا وقد علمت أن الأصول محفوظة، فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من غير تحيف للرعية، ولا نقص للأموال؟»
وراجت تجارة الارتشاء من العمال وعمال العمال حتى بلغت أقصى ما عساها أن تبلغه في أواخر أيام الدولة، فقيل عن الخاقاني فيما رواه الفخري: إنه ولَّى في يوم واحد تسعة عشر ناظرًا على الكوفة، وقبض من كل واحد منهم رشوة! فإن كان قد بقي لحسن الظن بين ولاة الأمر بقية، فهذه السرقات والرشاوى والمصادرات والنكبات قد أتت على هذه البقية، فلم تدع بينهم إلا علاقات الحذر والمساومة والتربص وفساد الطوية، ولا جرم تبيض الفتنة وتفرخ في بيئة كهذه بين جند يشغبون، وعمال يدلسون، وعرب يحنقون، وعلويين يتحفزون، ورعية تمزقها براثن الرعاة، وملوك لا يؤمنون على الملك ولا على الحياة.
وقد حضر ابن الرومي في زمانه بعض هذه الفتن وسمع بما تقدمه، وترك لنا في شعره مثلًا مما حدث في واحدة منها، وهي فتنة الزنج التي اختلطت فيها الأسباب السياسية والدينية والاجتماعية، فقال يصف ما حل بأهل البصرة على أيدي الثائرين:
ودرجت الأحوال على ذلك، فلم يكن يُهوِّنها على الناس إلا اتساع أرجاء البلاد الإسلامية، وتفرق الفتن في تلك الأرجاء، وإلا فترات من القوة يتاح فيها للدولة في الحين بعد الحين خليفة حازم الرأي، نافذ العزيمة، فتسكن غوارب الفتنة بعض السكون، ويستقيم الولاة والعمال بعض الاستقامة، وتعلو هيبته، فيخشاه المغيرون على الدولة من داخلها وخارجها، وتفيء الرعية إلى ظله زمنًا حتى يحم أجله، فتعود الأمور إلى ما كانت عليه؟
الحالة الاجتماعية
تنتهي الفوضى السياسية — إذا تطاول بها الزمن — إلى الخراب والعسر ونضوب الأرزاق بين جميع الطبقات عاليها وهابطها على السواء، ولكن الفوضى لا تمنع الترف إذا هي جاءت في البداءة، أو ترددت في الفترة بعد الفترة ولم يطل بها زمن التخريب والإفساد، فلا يندر أن يجتمع الترف والفوضى في طبقات من الدول المتداعية، التي ورثت السلطان القديم والثروة الواسعة ومظاهر الحضارة وأفانين المعيشة الفاخرة، بل كثيرًا ما تكون الفوضى من أسباب الترف والمغريات به؛ لتعويدها النفوس أن تخلد إلى الدعة واغتنام اللذة، وأن تحجم عن المساعي الجليلة والآمال الرفيعة يأسًا من كل غاية، وشكًّا في مصير كل نعمة، وعلمًا بأن الحياة لا تجري على وتيرة، ولا تنتظم في سياق.
وكذلك كان القرن الثالث للهجرة قرن الفوضى والترف، أو قرن الخطر و«التسلية»، بلغ فيه كلاهما مبلغه، وسرت إلى العصر جرائر العصور الأولى، فجنى ثمارها خللًا في السياسة، وبذخًا في المعيشة، وحياة كحياة الجند ليلة الحرب كلها قصف، وكلها استسلام.
ورث القرن الثالث حضارات العرب والفرس والروم، وأساليب اللهو في هذه الأمم، وفي الأمم التي اتصلت بها من ترك وهند وصين، وتجمَّعت الأموال المستحيرة في أيدي الأمراء وجباة الخراج وأصحاب التجارات الغادية الرائحة في البر والبحر بما تستدعيه ضرورات العيش، ونوافل الشهوات، فكثر المترفون المنعمون، وشاعت فنون الخلاعة والمجون، وأصبح لكل ضرب من ضروب اللهو علم يعرفه علماؤه، ويُقرَّب أهله إلى الخلفاء وذوي الرئاسة، حتى الرقص وما إليه، فضلًا عن الغناء والسماع.
نقل المسعودي في مروج الذهب أن الخليفة المعتمد قال لبعض من حضر من ندمائه: «صف لي الرقص وأنواعه، والصفة المحمودة من الرقاص، واذكر لي شمائله، فقال المسئول: يا أمير المؤمنين، أهل الأقاليم والبلدان مختلفون في رقصهم من أهل خراسان وغيرهم، فجملة الإيقاع في الرقص ثمانية أجناس: الخفيف والهزج والرمل وخفيف الرمل، وثقيل الثاني، وخفيفه، وخفيف الثقيل الأول وثقيله، والرقاص يحتاج إلى أشياء في طباعه، وأشياء في خِلقته، وأشياء في عمله، فأما ما يحتاج إليه في طباعه فخفة الروح، وحسن الطبع على الإيقاع، وأن يكون طالبه مرحًا إلى التدبير في رقصه والتصرف فيه، وأما ما يحتاج إليه في خلقته فطول العنق والسوالف، وحسن الدل والشمائل والتمايل في الأعطاف، ودقة الخصر، وحسن أقسام الخلق … ومخارج النفس والإراحة، والصبر على طول الغاية، ولطافة الأقدام … ولين المفاصل، وسرعة الانفتال في الدورات، ولين الأعطاف، وأما ما يحتاج إليه في عمله، فكثرة التصرف في ألوان الرقص، وإحكام كل جزء من حدوده، وحسن الاستدارة وثبات القدمين على مدارهما، واستواء ما تعمل يمنى الرجل ويُسراها حتى يكون في ذلك واحدًا. ولوضع القدم ورفعها واجبان: أحدهما أن يوافق بذلك الإيقاع، والآخر أن يتثبط به، فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن، فليكن ما يوافق الإيقاع، فهو من الحب والحسن سواء، وأما ما يتثبط به فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن، فليكن ما يوافق الإيقاع مترافعًا، وما يتثبط به متسافلًا.»
وقس على ذلك سائر ضروب اللهو والترف حتى انتهى القرن وأقبل ما بعده، وللقوم في آداب المجالس وآداب المائدة ما لم نسمع بمثله عن رومة وبيزنطة، فكان من رؤسائهم من لا يأكل لقمتين بملعقة واحدة، كما قيل عن الوزير المهلبي: إنه «كان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله أنه إذا أراد أكل شيء بملعقة، كالأرز واللبن وأمثاله، وقف في جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجًا مجرودًا — وكان يستعمله كثيرًا — فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام في الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى يفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية؛ لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية.»
واقتدى الأواسط والفقراء بالعلية والأغنياء، فكثرت بيوت القيان والخمر، وأدمنت المعاقرة صبوحًا وغبوقًا، وشاع اقتناء الجواري والغلمان، واستبيحت اللذات على أنواعها مألوفها وغير مألوفها، وطيبها وخبيثها، فتكشفت الوجوه، وقل الحياء، وخف موقع الهجر والبذاء على الأسماع، ولا سيما حين أصبح الحكام والولاة هم قدوة الناس في هذه الأفانين، وهم موضع النعمة التي تصبو إليها نفوس المحرومين، وفي إحدى قصائد ابن الرومي البائية وصف لعيش الكتاب والموسرين، لا بأس بأن نلحقه بهذا الباب لدلالته على ذلك العصر وعلى موقع هذه اللذات من نفس الشاعر، وذلك حيث يقول:
•••
•••
ففي هذه القصيدة وصف وافٍ لمناعم العيش في بيوت الطبقات الموسرة، ومعظمها من «الموظفين»، وفيها — مع هذا الوصف الوافي — تفسير واضح لتهالك الناس على العمالة والكتابة وسائر الوظائف التي يأتي رزقها من المرتبات والجبايات والرشى والأسلاب، وفيها — مع هذا وذاك — تفسير لنقمة الطبقات المحرومة، وللثورات التي كانت تهب من هنا وثَمَّ لرد الظلامات وإنصاف الفقراء، وأي شيء أدل على طلب الثورة والتلهف على قلب الأحوال، والتأهب لتلبية الداعين إلى الشغب من قول شاعر وديع كابن الرومي:
لا جرم يكون ذلك العصر عصر الحيرة والانتظار، ولا جرم تتأهب فيه النفوس لدعوة الجماعات السرية، وتتعلق الآمال بالمهدي المنتظر والمصلح الأكبر الذي يغسل الأرض بالدماء، ولا جرم يكون ذلك العصر هو عصر بابك الخرمي، وداعية الزنج والقرامطة، وغيرهم من الثوار وأصحاب المذاهب الذين كانوا يمزجون المقاصد الاجتماعية بالمقاصد الدينية، ويعالجون الترفيه عن الفقراء المنزوفين بالدعوة إلى المساواة، والتمرد على الحكام، وكان ذلك على أكثره في بلاد الفرس، حيث بقي الفلاحون كما كانوا في عهد الأكاسرة يسامون سوم الأنعام، ويُستنزفون كما كان يستنزفهم الأمراء والملوك والمؤلهون في غابر الأزمان، ثم كان ذلك على أكثره في المرافئ والثغور حين تكثر الحركة، ويزدحم العمال والصناع، ويرتفع السعر، ويشتد التنافس بين الطبقات.
على أن هذه الأحداث كانت تمر بالدولة وهي باقية سليمة منها بعض السلامة؛ لأنها — كما أسلفنا — كانت تتلقاها متفرقة في الأماكن والأوقات، وكان شغب الشاغبين يوصم بالكفر والإفساد في الأرض، ويسمى القائم به تارة باسم الفاسق، وتارة أخرى باسم المارق أو الفاجر أو الخبيث، فيُنسى اسمه الأول ولا يُذكر إلا بهذا الاسم المنتحل، وكانت هذه الثورات بتراء ليست لها وجهة مرسومة، ولا خطة معلومة، فكانت تعوزها عناصر الدعوة المشروعة المستجابة التي تلتف بها الجماهير، وتستبسل فيها، فلا توشك الثورة أن تستفحل حتى تفتر وتضمحل، وتثوب الأمور إلى نصابها.
هذا والقصور سادرة في غيها قلما تحس لهذه المشكلات الاجتماعية أثرًا، أو تتحرك لعلاج أسبابها الدفينة إلا في العهد بعد العهد، والصحوة بعد الصحوة، ولا تراها فيما عدا ذلك إلا غارقة في بذخها مفتنَّة في زينتها ولهوها: المهندسون والمزخرفون والمطربون والطهاة، والندماء يستبقون في تجويد أساليب المعيشة، وجلب ألوان المسرة، ومجالس الطرب تدخل على المجتمع العالي بعرف جديد من الآداب والأذواق، فلا يكون الأدب إلا أدبها، ولا الذوق إلا ذوقها، ولا يحسب الوزير وزيرًا ولا الرئيس رئيسًا إن لم يكن مع ذلك نديمًا يحسن المجالسة والمفاكهة، ويصلح للمجلس قبل صلاحه لسياسة الدولة، فأصبحت المنادمة باب السلوك إلى الملوك، وسلم الوصول إلى الحظوة عندهم والدالَّة عليهم، والنقض والإبرام في شئون الدولة بالزلفى إلى أهوائهم، واحتاج إلى علم هذه الصناعة كل ذي خطر في الدولة لما كان عسى أن يحتاج إليه من الترويج عن الخليفة، وحسن المدخل عليه في ساعات صفوه وغضبه، ونوبات إقباله وإعراضه.
وكان أعلى ما يرجوه صاحب العلم والأدب والفضل والكياسة أن يصبح نديمًا لملك، أو مربيًا لابن ملك. وهما عملان متقاربان متشابهان في الآلة والكفاءة، ولم يكن من السهل أن يحذقهما الأديب؛ لأنهما صناعة تجمع صناعات، وفن يلم بشتى فنون، وإليك مثلًا مما كان يعرفه النديم الذي كان يرتقي به الحظ إلى مجالسة الأمراء والخلفاء، نقل ياقوت في معجم الأدباء عن أمالي جحظة النديم أن يزيد بن محمد المهلبي قال: «كنت أرى علي بن يحيى المنجم، فأرى قبح صورته، وصغر خلقته، ودقة وجهه، وصغر عينيه، وأسمع بمحله من الواثق والمتوكل فأعجب من ذلك وأقول: بأي سبب يستظرفه الخليفة؟ وبماذا حظي عنده والقرد أملح من قباحته؟
فلما جالست المتوكل رأيت علي بن يحيى قد دخل على المتوكل في غداة من الغدوات التي قد سهر في ليلتها بالشرب وهو مخمور يفور حرارة يستثقل لكل أمر يخف دون ما يثقل، فوقف بين يديه وقال: يا مولاي، أما ترى إقبال هذا اليوم وحسنه، وإطباق الغيم على شمسه، وخضرة هذا البستان ورونقه، وهو يوم تعظمه الفرس وتشرب فيه؛ لأنه هرمزروز — يوم هرمزد إله الخير — وتعظمه غلمانك وأكرتك مثلي من الدهاقين، ووافق ذلك يا سيدي أن القمر مع الزهرة، فهو يوم شرب وسرور وتجلٍ بالفرح، فهش إليه وقال: ويلك يا علي! ما أقدر أن أفتح عيني خمارًا.
وعلي بن يحيى هذا هو الذي ذكر ياقوتٌ قبيلَ ذلك أنه «كان بكركر من نواحي القُفص ضيعة نفيسة لعلي بن يحيى المنجم، وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة يسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى، فقدم أبو معشر من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة فمضى ورآها، فهاله أمرها فأقام بها وأضرب عن الحج، وتعلم فيها النجوم وأغرق فيها حتى ألحد، وكان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والإسلام.»
كذلك كانت مجالس المجتمع العالية وآداب جلاسها وندمائها، والحديث الذي نقله ياقوت مظنة للزيادة والتأليف في بعض أجزائه، ولكنه يدل في جملته على المناقب والخصال التي كانت تُطلب من النديم في ذلك الزمان. وترى من هذا الحديث كيف كانت سنة الفرس غالبة على مجالس الطرب وآدابها ومواعيدها وأدواتها، كما ترى ذلك من أوصاف المهرجانات والنواريز، وأعياد الطبيعة، ومنازه الرياضة والألعاب والصيد والطرد، وسائر المراسم والأزياء.
•••
إذا تلخصت الحالة السياسية في سوء الظن، فقد تتلخص الحالة الاجتماعية في اغتنام الفرصة، وإن هذا وذاك في الحالتين لَكالشيء وظله، أو كالصوت وصداه.
الحالة الفكرية
فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسَنَ الخط، قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتًا في مدح قينة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئًا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء ومن المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله بالتكذيب، وهو لا يدري من نقله، فقد رضي عوضًا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف، وفلان دقيق النظر. يذهب إلى أن لطف النظر قد أخرجه من جملة الناس، وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر، وهو — لعمر الله — بهذه الصفات أولى، وهي به أليق! لأنه جهل وظن أن قد علم؛ فهاتان جهالتان، ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المعجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياه الله بنور الهدى وثلج اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب، وفي أخبار الرسول وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنصب لذلك وعاداه وانحرف عنه إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون، والفساد، وسمع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية، والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة، راعه ما سمع وظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يَحلَ منها بطائل!
إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعرض لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر وخبر واستخبار ورغبة، ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي: الأمر والاستخبار والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر! والآن حد الزمانين! مع هذيان كثير … ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع كلام رسول الله وصحابته؛ لأيقن أن للعرب الحكمة وفصل الخطاب … فلما أن رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نقصان، وخشيت أن يذهب رسمه، ويعفو أثره، جعلت له حظًّا من عنايتي، وجزءًا من تأليفي، فعملت لمغفل التأديب كتبًا خفافًا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد يشتمل كل كتاب منها على فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل …
وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة، ولكنها لمن شدا شيئًا من الإعراب، فعرف الصدر والمصدر، والحال والظرف، وشيئًا من التصاريف والأبنية، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء وأشباه ذلك. ولا بد له مع كتبنا هذه من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين، حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحاد، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقسي والمدورات والعمودين، ويمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر ليس كالمعاين.
وكانت العجم تقول: من لم يكن عالمًا بإجراء المياه وحفر فرص المشارب، وردم المهاوي، ومجاري الأيام في الزيادة والنقص، ودوران الشمس، ومطالع النجوم، وحال القمر في استهلاله واقفًا له، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا، ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه، وحال أدوات الصناع ودقائق الحساب كان ناقصًا في حال كتابته. ولا بد له مع ذلك من دراسة أخبار الناس، وتحفظ عيون الحديث؛ ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلًا إذا كتب، ويصل بها كلامه إذا حاور، ومدار الأمر على القطب، وهو العقل وجودة القريحة، فإن القليل معها بإذن الله كافٍ، والكثير مع غيرهما مقصر.
هكذا كان حكم ابن قتيبة على عصره.
وابن قتيبة أديب لغوي فقيه ولد في أوائل العقد الثاني من القرن الثالث، ومات في سنة ست وسبعين ومائتين، ونشأ وعاش في بلاد العراق، فهو معاصر ابن الرومي في زمنه، وقرينه في وطنه، وشاهد عيان لذلك العصر يُحدِّث عنه بما اختبر ورأى من صفات أهله.
فهل أصاب ابن قتيبة أو أخطأ في حكمه؟
لم يصب كل الصواب ولم يخطئ كل الخطأ، وأيًّا كان حظه من الصواب أو الخطأ، فقد مثل عصره أحسن تمثيل ينظر إليه صاحب الأدب واللغة والفقه، وغاب عنه ما وراء ذلك من نظرٍ لا يحيط به الذين يتحزبون لهذه العلوم على فروع العلم كافة.
فمن حسن تمثيله للعصر أنك تعرف من مقدمته كل ما كان يشتغل به أبناء عصره، أو لا يشتغلون به من المعارف القديمة والحديثة، وأنك تعرف منه أن العصر لم يكن عصر العلوم القديمة وحدها؛ لأن العلوم الحديثة المنقولة والموضوعة أصبحت شرطًا في الكاتب والأديب لا تتم بغيرها كتابته وأدبه، حتى رأى مثل ابن قتيبة أنه في حاجة إلى إظهار مساهمته في هذه المعرفة وهو يدعو إلى علم اللغة والكتابة؛ لئلا يُسْتجهل ويُعرض عنه.
والمعاصر من بعض الوجوه أصلح الناس للحكم على عصره، ولكنه من وجوه أخرى أقل الناس صلاحًا لإنصافه، والإحاطة بجميع نواحيه، فهناك أشياء يراها القريب ولا تدخل في رؤية البعيد، وهناك أشياء يحيط بها البعيدُ ولا يلمح منها القريبُ إلا اليسير؛ كالناظر إلى القمر في المنظار يرى جزءًا منه كبيرًا مفصلًا، ولكنه لا يراه كله، ولا يقع نظره على ما حوله، ومثل هذا ما حدث لابن قتيبة حين كبَّر وصغَّر، وتناول المقياس ليُقدِّر فأخطأ فيما قدَّر.
أخطأ ابن قتيبة في شرح حالة العلم والتفكير بين أبناء عصره لأسباب متعددة، منها أن العلم لم يكن منهجًا واحدًا في ذلك العصر، ولكنه كان مناهج كثيرة تشتمل على منهج أهل السنة المتشددين في إنكار البدع، ومنهج الفرق الإسلامية التي تدخل فيها فرق الشيعة وفرق المعتزلة على اختلافها وتباعد المسافة بينها، ومنهج العلوم الحديثة من يونانية وفارسية وهندية وغيرها من مستحدثات الترجمة والابتكار، ومنهج المتأدبين المتظرفين الذين يقتبسون كل قبس، ويستطرفون كل طرفة، إلى غير ذلك من المناهج التي تتقارب وتتباعد على نحو مما نعهد في زماننا الذي نحن فيه.
وقد كان الخلاف والتعصب بين هذه المناهج على أشده في العراق؛ لأنه كان مجمع العواصم، وملتقى العرب والعجم، ومثابة العلماء والأدباء من جميع الطوائف والمذاهب، فرأي ابن قتيبة هو رأي المتشددين أنصار العلوم العربية، لا يرون غيرها إلا فضولًا أو كالفضول، ولا يحسبون المنطق والفلسفة والرياضة وما إليها إلا لغوًا، قصاراه أن يلغط اللاغط بالكمية والكيفية، والخط والنقطة، والجوهر والعرض مع «هذيان كثير».
ولكنه مع ازدرائه هذه العلوم الحديثة لم يلبث أن فرَق من تُهمة الجهل بها، فذكر أطرافًا من مصطلحاتها، ودلَّ بذلك على خطرها الذي لا يُزدرى، ولكنها — كما رأى القارئ — أطراف مقتضبة كالتي نهاها على الأغرار المفتونين بظواهر تلك العلوم، فلا يقولها القائل وله علم صحيح بما وراء تلك الأطراف.
ومن الأسباب التي باعدت بين الأديب اللغوي، والإصابة التامة في تمثيل عصره أنه كان أديبًا ولغويًّا، وكان سبيل العلم بالأدب واللغة أن يتحرى الطالب ما تقدمه، وأن يرتقي في تحري القدم إلى أبعد عصوره، فلا ينظر إلى العصور التي خلفت بعد العرب الأسبقين إلا على أنها عصور نازلة منحدرة تمعن في الجهل والإسفاف بمقدار إمعانها في البعد من العربية الجاهلية! فعنده أن السلف قد ذهبوا بالخير كله، ولم يبق للمتأخرين إلا أن ينعوا زمانهم، ويأسوا على ما فاتهم! وكل زمان هو شر الأزمنة في أوانه، وخير الأزمنة — أو من خيرها — متى لحق بالماضي العريق! وما برح ذمُّ الإنسان عصره وانتقاصه إياه ديدن كل أديب فيما غبر، وديدن بعض الأدباء في هذه الأيام، فابن قتيبة إنما جرى على هذه العادة التي لا تستغرب في عهد البداوة العربية، وفي عهد كل بداوة طبعت على تعظيم السلف، والتفاخر بالأسباب، والرجوع إلى القديم.
على أن الرجل لو تجرد من هذه العادة لبقي سبب آخر لعله كان يمنعه أن يُنصف أبناء عصره، أو يستجمع أخبارهم ويحسن المقابلة بينهم وبين مَن سبقهم، ولحِق بهم من أمثالهم، فربما كان بعض الجهابذة في أيامه متباعدين متفرقين في أقطار ذلك الملك الواسع لا يسمع بهم إلا لمامًا، وربما كان القريبون منه في طريق العمل، فلم يستووا بعد على غاية القمة، ولم يلبسوا بعد هالة الخلود والشهرة، وذلك فضلًا عن الذين جاءوا بعده بقليل؛ فهو لا يعرفهم، ولا يُطالب بأن يعرفهم.
والحقيقة أن ذلك العصر كان من أزهى عصور العلم في بلاد الإسلام قاطبة؛ لأنه كان أول عصر تلقى علوم الثقافة الإسلامية كلها كاملة مفروغًا من وضعها وترجمتها، وتحضيرها غير مستثنًى منها علوم السنة والعربية التي كان ابن قتيبة يتوفر عليها.
ففي القرن الثالث تمت المذاهب الأربعة في الفقه، وظهرت آثار أقطاب الحديث كالبخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه والترمذي والنسائي، ونزعت السياسة إلى تأييد أهل السنة أيام الخليفة المتوكل، ثم انتهى القرن بظهور أبي الحسن الأشعري الذي مال من مذهب المعتزلة إلى مذهب أهل السنة، فقيل فيه: «كان المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري، فحجزهم في أقماع السمسم.»
ولم يخل علم من العلوم القديمة أو الحديثة من أعلام نبغوا في القرن الثالث أو حضروا أوائله، حتى العلوم العربية التي كان ابن قتيبة يتهم القوم بإهمالها والجهل بفضائلها، وهي علوم الرواية والنحو واللغة والأدب، فمن رجالها المشهورين الذين حضروا ذلك القرن: الفراء، وابن السكيت، وقطرب، وابن الأعرابي، ونفطويه، والجاحظ، وأبو عثمان المازني، وثعلب، والزجَّاج، والمبرد، وابن الأنباري، وابن دريد، والأخفش، والسجستاني، والصولي، والرياشي، وأبو سعيد البكري، وقدامة بن جعفر، وابن أبي الدنيا، وابن العلاء السكري، وكثيرون ممن يضارعون هؤلاء أو يقلون عنهم في الطبقة والشهرة.
أما العلوم الأخرى فقد تأسس في ذلك القرن التاريخ والجغرافيا، وعاش فيه من المؤرخين والجغرافيين: البلاذري، واليعقوبي، وأبو حنيفة الدينوري، وأبو زيد البلخي، والطبري، وابن البطريق، وابن خرداذبه، وابن الفقيه، وابن رسته، وبرزك بن شهريار وآخرون، وكان من فلاسفته: الكندي والفارابي وابن سينا، ومن أطبائه: الرازي وابن سهل وابن ماسويه، وراج علم النجوم حتى أوشك ألا يكون في ذلك الزمن إلا منجم!
ولم يقتصر الأمر على نبوغ هؤلاء الأعلام في مناهج العلم المختلفة، بل تجاوزه إلى طوائف الناس من خاصة وعامة، فتحدثوا بالعلوم واشتغلوا بمحاوراتها ومناظراتها، وأقبلوا على اقتناء كتبها، فكان العصر عصر ثقافة عامة كثرت فيه المشاركة في مسائل البحث والمطالعة، وشاع ذلك بين الناس أوسع شيوع، حتى كان الرجل منهم يجمع بين أشتات الثقافة في زمنه، كما رأيت فيما نقلناه عن علي بن يحيى المنجم، أو كما ترى من قول ابن الرومي في رجل يصفه بدعوى العلم في معرض الهجو والتهكم:
وبلغت هذه التهمة العلمية حدًّا أضجر الظرفاء كما أضجر المتشددين، فكان الفتى المهذب يومئذ إما طالب علم قديم أو طالب علم حديث، أو مشاركًا في هذا وذاك، أو ظريفًا ضجرًا من أكثر هؤلاء على حد وصف ابن المعتز:
والظاهر أن علم النجوم والرياضيات على الجملة كان أروج العلوم الحديثة، وأكثرها طلابًا؛ لطرافته وموافقته أحوال الزمن وتقلباته، وشيوع الحضارة الفارسية التي كان أهلها يعبدون الكواكب، وينوطون بها مقادير الخير والشر، وطوالع السعود والنحوس، ولم يكن الإيمان بالسعد والنحس والزجر والقيافة غريبًا عن العرب، فقبلوا العلم الحديث غير متعسرين، وأفرطوا فيه ذلك الإفراط الذي لم يرض عنه ابن قتيبة، ولم يرض عنه ابن المعتز، وهما في هذا المقام طرفان!
… فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة تخيلها بصري، وتوهمها طرفي كأصغر من حبة الذر، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرًا بإفكه، وأقبل عليَّ وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟ فقال: كالبسيط … فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كالله والنفس! فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب لله الأمثال والله يقول: فَلَا تَضْرِبُوا لِلهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب فأقبل عليَّ مستبسلًا وقال: إني أرى فصاحة لسانك سببًا لعُجمة فهمك، وتدرُّعك بقولك آفة من آفات عقلك، فلولا من حضر والله المجلس، وإصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبينت من توازرهم؛ لأمرت بسل لسان اللكع الألكن، وأمرت بإخراجه إلى حر نار الله وسعيره …
وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟ فقلت: استجهلني ورب الكعبة! وأخذ يخط وقلبي مروع يجب وجيبًا، وقال لي غير متعظم: إن هذا الخط طول بلا عرض. فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له: قاتلك الله! أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربي عن تخطيطك وتضليلك! إنه لصراط مستقيم، وإنه لأحدُّ من السيف الباتر والحسام القاطع، وأدق من الشعرة، وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي، وحسبتني غرًّا غبيًّا لا أعلم ما في باطن ألفاظك، ومكنون معانيك؟ والله ما خططتَ الخط وأخبرتَ أنه طول بلا عرض إلا ضلة بالصراط المستقيم لتزل قدمي عنه، وأن تُرديني في جهنم! أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة ومما تدل عليه وترشد إليه … إني بريء من الهندسة ومما تعلنون وتسرون …
فهذا مثل بارع من السخرية التي كانوا يقابلون بها سخرية القوم من المنطق والنجوم، والكتاب على ما فيه من الصورة الهزلية يدل بين سطوره على حقائق كثيرة، منها استفاضة تلك العلوم وجلالة خطرها بين المتأدبين، حتى إن رجلًا كابن ثوابة بلغ من المكانة والسن مبلغه يخف إلى تعلمها، ويحسب أن مروءته لا تكمل بين ذوي العلم بغير درسها، ومنها أن أشياعها كانوا من الكثرة، وأن أساتذتها كانوا من التجلة والهيبة بحيث كان يعزُّ على ابن ثوابة أن يجد في مجلسٍ رجلًا واحدًا يؤازره، ويرضى له أن يهين المعلم الذي جبهه بالقول الخشن، واستطال عليه بالتقريع في داره.
وليس يخفى أن الهزل كالغضب كلاهما مصور مبالغ موكل بالغلو في التكبير والتصغير، فلا المتشددون كانوا كما مثلهم لنا أبو حيان في دعابته وهزله، ولا المشغوفون بالحديث كانوا كما مثلهم لنا ابن قتيبة في نكرانه وغضبه، بيد أننا إذا حسبنا كل حساب لمبالغة الهزل ومبالغة الغضب بقيت المسافة طويلة بين الفريقين، والبرزخ الفاصل بينهما متعذر العبور على تقارب الجيرة في الزمان والمكان.
وليس يصعب على القارئ أن يتخيل هذه الحالة بجملتها؛ لأنها أشبه شيء بما نحن فيه الآن من تباعد وتقارب، واتصال في الثقافات وانفصال، أو لعل الفرق الوحيد بيننا وبينهم أن عصرهم كان عصر الموالي الذين يدخلون العصبية الشعوبية في هذا الخلاف، ويجتهدون في درس العلوم الحديثة لأنها تنافس العلوم العربية، وتضيف إليها ما ليس منها، وهم يودون ألا يحصروا الدين والعلم والسيادة جميعًا في العرب، وألا يستأثر العرب دونهم بكل مأثرة وفضيلة، وقد يشعرون بهذا القصد أو لا يشعرون، ولكنهم حريُّون أن تميل بهم ضمائرهم هذا الميل إذا وقع التنافس بين العرب والشعوبية، والتمست المفاخر من الجانبين.
الشعر
قد تكثر دراسة الآداب والعلوم ولا شعر، وقد يكثر الشعر ولا دراسة للآداب والعلوم، أما القرن الثالث للهجرة فقد كان جامعًا لأشتات الثقافة بفروعها، كثير الآداب والعلوم، كثير الشعر، كثير المعنيين بالأشعار.
عاش في ذلك القرن — ولا سيما أوائله وأواسطه — نخبة من جلة الشعراء النابهين: كأبي تمام، والبحتري، والحسين بن الضحاك، وعلي بن الجهم، ودعبل الخزاعي، وابن المعتز، وابن الرومي، وعاش فيه مع هؤلاء مئات من قالة الشعر المحسنين وغير المحسنين، والمحترفين وغير المحترفين، وأوشك أن يكون كل متعلم متأدب شاعرًا ينظم الأبيات والمقاطع في بعض أغراضه.
فالخلفاء كانوا ينظمون للغزل والغناء، والأمراء والوزراء — سواء منهم الفرس والعرب — كانوا يتطارحون الأشعار، ويحفظون منها الشيء الكثير، والمنتمون إلى الفرس والأعاجم كانوا أسبق إلى المنافسة في هذا المضمار؛ لينفوا عنهم تهمة العجمة ويدخلوا مع العرب في ميدان الفصاحة. ومن الأمراء الفرس الذين مدحهم ابن الرومي مَن وضع كتابًا في الشكر ضمَّنه مختارات مما قيل في هذا المعنى، وختمه بأماديح يطري بها صديقه العلاء بن صاعد على حروف المعجم، ونعني به عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، عميد بيته العريق الذي تخرج منه كبار القواد والولاة.
لهذا كان ابن الرومي يقول وهو يشكو:
لأنه كان يشعر بالمنافسة، ولا يشعر بالعطف من جانب هؤلاء الزملاء.
•••
وندر في ذلك العصر من خلا شعره من آثار الحضارة التي أجملنا وصفها فيما تقدم، فمن لم تظهر في شعره المعاني الفلسفية والآراء الطريفة التي سرت إلى المتأدبين من مذاكرة علم الكلام والعلوم المترجمة، ظهرت فيه محسنات اللفظ والمعنى التي كشفها البحث في أشعار المتقدمين، وأدت إليها المعارضة بين أقوال الفحول، واستطلاع أسرار البلاغة فيما أجادوه، ومن لم يظهر في شعره هذا وذاك ظهرت فيه تفخيمات الفرس وترصيعاتهم، وجاءته العدوى من أساليب الكتاب في النثر المنمَّق، وأساليب التحية في المجالس، وأساليب المعيشة في القصور، وربما عرضت الكلمة الفارسية في البيت العربي مما له المرادفات بالعشرات كقول شاعرنا:
يعني الأسد.
وربما نظموا في أوزان الشعر الفارسية كالدوبيت والرباعية، أو تفننوا في التسميط والتوشيح والازدواج على نحو ما نراه من كلف بعض الشعراء المعارضين باختراع الأوزان والأعاريض.
وامتاز هذا العصر والذي تقدمه بما يصح أن نسميه علم الشعر تمييزًا له من العناية بنظم الشعر نفسه؛ فقد كان الشعراء المولدون يأتون بالمحسنات البليغة عفوًا، أو محاكاة للأقدمين، أو تصرفًا في الاختراع، ولا يسمون هذه المحاسن بأسمائها، أو يستخرجون منها علمًا مرتبًا على أقسام، معززًا بشواهد، وسبق في هذا المجال أمثال بشار ومسلم والعتابي وأبو نواس، وتلاهم أبو تمام وتلامذته في أوائل القرن الثالث، ثم تمكن حب التعريف والتقسيم والتخريج والتأويل من عقول الأدباء، وكتب الجاحظ وقدامة بن جعفر وابن المعتز في هذه المعاني فإذا علم جديد مقيس على الشواهد معروف بالأسماء.
مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه، وتُعفِّي معالمه، وقد وجدت حذاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراسًا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقُّد خواطرهم، ولطف أفكارهم، واعتماد البديع وأفانينه في أشعارهم، وكأنه مذهب سهَّلوا حزنه، ونهجوا دارسه.
فأما الفحول الأوائل ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين، فمذهبهم التعالم عن كذا إلى كذا، وقصارى كل أحد منهم وصف ناقة بالعتق والنجابة والنجاء، وأنه امتطاها فادَّرع عليها جلباب الليل، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف يتخلص به إلى غرض لم يتعمده، إلا أن طبعه السليم وصراطه في الشعر المستقيم نضى تياره، وأوقد باليفاع ناره.
وهذا هو كلام متناسب تقتضي أوائله أواخره، ولا يتميز منه شيء عن شيء … ولو توصل إلى ذلك بعض الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني، وفتحوا أبواب البديع، واجتنوا ثمر الآداب، وفتقوا زهر الكلام؛ لكان معجزًا عجبًا.
فهذه النظرة تريك أثر البديع في كتابتهم، وفي نقدهم القصيد، فأما الكتابة فهذا نمط منها تكثر فيه الاستعارة مع القصد إلى معنى يُراد ويفهم، وأما النقد فمذهبهم في وحدة الأغراض واتصال الأجزاء لا يخالف مذهب المعاصرين إلا باستحسان التلفيق بين المديح والنسيب، وعذرهم أن المديح كان قوام حياة الشاعر يومئذ؛ فما كان الاستغناء عنه والاعتماد على النسيب وحده بالمستطاع.
•••
وغني عن القول بعد هذا أن «التنبُّه» كان هو السمة الغالبة على الشعر كله في ذلك العصر الدائب على التفتيش والانتقاد، فكان شاعرهم ينظم القصيدة وهو واعٍ لنفسه، عامدٌ لترتيب أبياته، عارفٌ بمواضع التجويد في لفظه ومعناه، وتتابع الشعراء كبارهم وصغارهم على هذا، فكان فيهم كل ما في هذه الطريقة من المآخذ والفضائل، ومن عناصر الضعف والقوة.
•••
وتغيرت أغراض الشعر، فهذا الذي يقول فيه ابن قتيبة: إنه لا يعدو مدح قينة أو وصف كأس …! وإنما كان هذا الإمام الناقد الذي درس الشعر ووازن بين أصوله وفصوله مستنكرًا مستصغرًا يرى الشوهة، ويغمض عن الحسنة، ولولا ذلك لرأى أن الشعر قد كان يعدو مدح القيان، ووصف الكئوس إلى أغراض كثيرة تشمل كل وصف، وتدخل في كل معرض من معارض الحياة في ذلك الزمان، ولم يقل فيها إلا ما كان وقفًا على أغراض البداوة، وأيام الجاهلية الأولى؛ لأن هذه البداوة قلت فلم يكن لها نصيب من الشعر إلا القليل.
لكنا نخاله كان على حق فيما شكاه من شح الجوائز وكساد سوق أهل الأدب عامةً عند الملوك والأمراء، فاشتغال هؤلاء الملوك والأمراء بالشعر ونظمه وحفظه وروايته شيءٌ، وإجازتهم عليه الجوائز السنية شيءٌ آخر.
إنما كانوا في عصر ثقافة يود فيه كل امرئ كامل المروءة أن يعرف كل ما يعرف من الآداب والفنون والملاهي، فإذا تعلموا الشعر فكما يتعلم الرجل المثقف التوقيع على المعازف والشعوذة، وطرائق التفكهة والإضحاك في مجالس السمر، ولا يلزم من ذلك أن يكون لهذه الأشياء أو لأهلها المنقطعين لها خطرٌ في نفسه.
ولا عجب أن يكثر الناظمون وحافظو الشعر في زمن كانت الوزارة فيه والكتابة — أو صناعة الأدب — فنًّا واحدًا، وشارة واحدة، وكان معظم الوزراء والولاة من الأدباء الذين ظفروا بالحظوة عند الخلفاء، ولكنَّ أمورًا كثيرة طرأت في أواخر ذلك العصر كان من جرائها تطفيف أرزاق الشعراء، وابتلاؤهم بكثرة النُّظراء وقلة النُّصراء، ومنها توزع العناية بين العلوم الحديثة والشعر الذي كان مستأثرًا بجل عناية العرب في صدر الدولة الإسلامية، ومنها غلبة المنادمة على الشعر، وترجيح صفة النديم على صفة الشاعر إذا تعذَّر الجمع بين الصفتين، ومنها قلة الاكتراث للمدح والذم حين استبحر العمران، واستفاضت المناعم واللذات، وشاعت الإباحة والمجون، ومنها كثرة الشعر والشعراء، فقد أصابه وأصابهم ما يصيب كل كثير من الرخص والبوار.
ومنها أن الدعوة السياسية خرجت كلها — أو أغلبها — من أيدي الشعراء إلى أيدي الدعاة، الذين تفرغوا لهذه الصناعة وبلغوا بها أيام العباسيين والعلويين شأوًا من البراعة والإتقان قلما يُفاق في عهد من العهود، ومنها اضطراب أمور الحكم واختلال أحوال الرعية في أواسط القرن الثالث بين عصرين سعيدين، فات السابق ولم يأت بعده أوان اللاحق، ونعني بهما عصر الهيبة والثروة والعطايا والملك الموطد المرجو المخوف، وقد ذهب، وعصر الأمراء الذين تقسموا المملكة، واستقر كل منهم على جزء منها، وتنافسوا بينهم في اجتلاب الشعراء والتشبه بالخلفاء، ولم يأت بعد!
فكان الشعراء ضائعين من هنا وهناك، وربما كان هذا سر خفوت الشعر وقلة الشعراء المجيدين في الربع الأخير من القرن الثالث، والربع الأول من القرن الذي تلاه.
الدين والأخلاق
إذا عرفت حالة السياسة وحالة الاجتماع وحالة التفكير، فليس بالحاجة الدينية ولا الخلقية خفاء.
لأن عقيدة المرء شديدة الصلة بتفكيره ومعيشته، ومجرى الأحكام في زمانه، وظاهرٌ بعدما تقدم أن الدين في القرن الثالث لم يكن «دين الفطرة» الذي يؤمن به شعب لم يعرف الترف والفساد، ولم يشهد من ولاته إلا العدل والاستقامة، ولم يتعود أن يناقش نفسه في عقيدته وعقيدة غيره، فنشوء المذاهب واختلاف الآراء ضرورة لا محيد عنها في أمثال تلك الأحوال.
كتب ميسرة بن حسان السمري إلى أحمد بن سليمان بن أبي شيخ يسأله عن مذهبه، ولم يكن أحد يقف على حقيقته:
فأجابه عنه ابن الرومي:
•••
وسؤال ابن حسان له مغزاه، فما كان له من محل لو أنهم كانوا يُصدقون أن الرجل في زمانهم يبطن ما يظهر، ويؤمن بالدين الذين يؤمن به الناس كافة، فكأنما كان المفروض في طائفة من الناس أن يطووا سرائرهم على مذهب غير مذهب الإجماع، وسرٍّ في الاعتقاد غير الذي يبدونه علانية من «توحيد ذي الجلال، وتصديق الذي بلغ الرسول».
وليس بعجيب أن يكون الأمر كذلك والعهد عهد الملل والنحل والأحزاب والعصبيات والدعوات والبحث والتفسير، فما من نحلة كانت ولا شعبة من نحلة إلا كان لها أنصار، ولأنصارها شأن ما في بعض الجهات، ولا سيما العراق ملتقى الأمم، ومشتجر النزاع، ومتوسط الرقعة الإسلامية، ومثابة الحضارات القديمة والحديثة، وما كان أكثرها من نِحَل، وأشدَّه من لهج بالانتحال! لكأنما كانت بلاد الدولة العباسية معرضًا للنحل، ومستبقًا للمشاقة بين المنتحلين! ففيه التشيع بدرجاته، والاعتزال بطوائفه، والسُّنة باختلاف أقوال المجتهدين فيها، والفلسفة بمذاهبها، والعلوم الحديثة بشعابها، وفيه ما بين هذا وذاك أشكالٌ من التدين يجيء بها دخول الفرس والروم والديلم في الإسلام عمدًا أو على غير عمد، فبعضهم كان يسلم وهو في الباطن على دين آبائه، وبعضهم كان يخلص في إسلامه، ولكنه يَنقل إلى دينه الجديد موروثات دينه القديم، وذلك فضلًا عن النصارى واليهود وعباد الأوثان، وكلهم على اختلاف في المذاهب والعصبيات كهذا الاختلاف، فغير مستغرب أن يسأل المرء عن دخيلة رأيه وباطن اعتقاده في هذا المعرض الحاشد بالطوائف والأديان.
إلا أننا لنخطئ أشد الخطأ إذا فهمنا من هذا أن الإباحة حلت محل الدين في تلك الفترة، فتعفَّى أثره وبطل سلطانه؛ فإن مداراة الآراء التي تخالف الإجماع لا تدل على ذلك، بل لا تدل إلا على نقيض ذلك، والمعهود في أمثال تلك الفترة أنها تقبل الغلو في التدين، كما تقبل الشكوك وتعدد المذاهب، كأن الإحساس بالخطر على العقيدة يحرك بواعث الغيرة عليها، ويزعج النفوس إلى المنافحة عنها، فإذا رأيت الإباحة والترخُّص في جانب لم تلبث أن ترى الغلو والتشدد في الجانب الآخر، ولا يخفى أن هذا الجانب الآخر والأقوى والأكبر؛ لأنه جانب العادة الخالدة والعدد الأكثر.
وربما لاح للناس أنهم نبذوا الدين، فما يشعرون إلا وهم يلبون دعواته، ويتعصبون لأهله، ويظنون في أنفسهم أنهم غير متدينين! ولقد كان مع الترخص في إباحة اللذات أناس غالون في النهي عنها يثورون على أصحابها في الحين بعد الحين؛ ليُقوِّموا المنكر باليد واللسان. ومن هؤلاء فئة ببغداد خرجت بُعيدَ مولد ابن الرومي تهجم على البيوت، فتريق الخمر، وتضرب القيان، وتكسر العيدان، وكان ينادى في بغداد قبيل وفاته — أي في سنة تسع وسبعين ومائتين: «ألا يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع قاصٌّ، ولا منجمٌ، ولا زاجرٌ.» وحلف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
بل كان ابن الرومي إذا ذكر الخمر في مديح أمير أسرع فاستدرك قائلًا: إنها الشراب الحلال لا الشراب الحرام:
ومثل هذا لا يقال إلا وللدين هيبة، وللفرائض رعاية.
•••
وهناك الضمائر التي لا تقوى على الشك لأنها تستريح إلى التسليم والاتكال، فهي إما أن تهرب من الشكوك والأقاويل إلى إيمان بسيط لا لجاجة فيه، أو تهرب منها إلى اللهو والمؤانسة وما يعنيها في الحاضر بين يديها لحظة بعد لحظة، كما قال ابن المعتز:
وأصحاب هذه الضمائر — حين يحسبون — أقرب إلى المؤمنين منهم إلى المتشككين.
•••
وما يقال في الدين يقال في الأخلاق، فلا ريب في أن السياسة القائمة على السلب والغيلة، والآداب القائمة على اغتنام الفرص وانتهاب اللذات، والعقائد القائمة على ما رأيت من الشك والتشعب قلما تبقي للنفوس بقية صالحة من الأخلاق، ومسكة عاصمة من الغواية، ولكننا حريون أن نذكر أن نفوس الدهماء مطبوعة على العزاء، وأن أكبر العزاء لها في هذه الفترات أن تحسب الغواية والرذيلة من مساوئ الغنى والجاه، وتعتصم هي بالصبر والرجاء، وفي بنية الأمة أبدًا مثلما في بنية الحي من العوامل المكافحة للفساد التي لا تني تصون الجسم زمنًا، ولا تبرح تُلهم وظائفه السداد وإن ضل العقل، وأنحى على الجسم بما ينهكه ويرديه، فتظل هذه العوامل ناشطة في بنية الأمة ولو تراءى للنظر من مشارفة بعض الطبقات أنها وفت في الاضمحلال؛ فلا يحسن بنا أن نبالغ في تضخيم شأن الفوضى التي ابتليت بها العقائد والأخلاق في تلك الفترة الشاذة المتناقضة، فهي ولا ريب كبيرة وبيلة، ولكنها ليست أكبر ولا أوبل مما قد يعتري أممًا كثيرة، وتؤاتيها بعده أسباب السلامة.
•••
ذلك عصر ابن الرومي بخيره وشره، وزيادته ونقصه، لقائلٍ أن يقول في أطواره ما شاء أن يقول، وأن يختلف في أوصافه ما شاء أن يختلف، ولكن وصفًا واحدًا من تلك الأوصاف لا يجوز فيه أقل اختلاف؛ ذلك أنه كان في خيره وشره عصرًا حيًّا يصنع التواريخ، وليس بالعصر الميت الذي يطويه التاريخ في ثناياه.
وقد وضعنا له حدودًا من أرقام السنين لضرورة الحصر والتقريب، ولكننا لم نرد بتلك الأرقام إلا أن تكون معالم في طريق الزمن يُهتدى بها إلى البدايات والنهايات، وليست هي البداية والنهاية، ولا هي محور الابتداء والانتهاء.