عبقرية ابن الرومي
فرغنا في الفصل السابق من حياة ابن الرومي لنتكلم في هذا الفصل عن عبقريته، وهي زبدة حياته، والغرض الذي من أجله عاش ومن أجله يكتب الكاتبون عنه، فما تحرك في حياته حركة إلا كان لعبقريته منها نصيب أوفى نصيب، حتى لكأنه كان لا يتحرك ولا يتنفس ولا يطعم ولا يشعر إلا ليتخذ من ذلك كله مادة حياة، ويترجم ما عمل وما علم في قالب الفن ترجمة البر الأمين، وصفوة القول في هذه العبقرية: إنها كانت عبقرية يونانية لولا الإفراط والانهماك، أو إنها كانت عبقرية يونانية مكبرة الجوانب بعض التكبير.
ولسنا نصفها هذا الوصف لأنه تفسير سهل لهذه العبقرية النادرة؛ ولكن لأنه وصف موجز يدل على أجزائها المختلفة بقليل من الكلمات.
فربما كان القول بأن ابن الرومي رجل حساس، متوفز الأعصاب، مُلبي المزاج، نشأ في حضارة زاهية فأجابته وأجابها، وأخذت منه وأخذ منها، فنبغ على ذلك المثال الفريد؛ لأنه لا بد في الشعر من مثال فريد، ربما كان هذا أقل في العجب من تفسير عبقريته بأنها عبقرية يونانية، على اعتبار أنها موروثة عن آبائه اليونان؛ إذ مَن هم آباؤه اليونان؟! لا ندري أهم إغريق الجزر أم من إغريق البلاد المعروفة باسم اليونان، أم من إغريق آسيا الصغرى التي كانت تدور الحرب فيها وحولها بين المسلمين ودولة الروم. ومن الصعب أن يحتاج إلى التفسير أن تقول: إن هؤلاء الإغريق جميعًا سليقة واحدة، وأمة واحدة، وعنصر واحد يتحدر منه الرجل، وينتقل إلى بيئة أخرى، وينجب الأبناء في بيئته الجديدة، فيجتمع فيهم كل ما تفرق من خصائص العبقرية الفنية التي تسمى الآن بالعبقرية اليونانية.
ثم نحن لا نعلم أن الإغريق في قديم عهدهم كانوا عنصرًا واحدًا ينتمي إلى سلالة واحدة؛ لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الآسيويين ثابت لا شك فيه، واقتباسهم من عقائد الآسيويين وفنونهم ولغاتهم ثابت كذلك أقطع ثبوت، ولا يمكن أن نجزم برأي في وراثة الفطرة الفنية، ولا سيما الفطرة في الشعب كله حتى لو عرفنا الأصل الذي تحدر منه ابن الرومي بين أصول اليونان الكثيرة؛ فقد كان في بلاد اليونان نفسها ألوف من أبناء الشعب اليوناني المحاطين بالبيئة اليونانية في جميع ظواهرها وبواطنها، فلم ينبغ منهم في عصر ابن الرومي شاعر مثله، ولا نبغ منهم في العصور السابقة التي أزهرت فيها آدابهم وفنونهم شاعر من طرازه في جميع خصائصه وملكاته. فلو أننا نقلنا ابن الرومي من الأدب العربي إلى الأدب اليوناني لكان فذًّا في أدبهم كما كان فذًّا في أدبنا، ولم تنقض الحاجة إلى تفسيره بهذه النقلة من أدب لغته إلى أدب أصله، ولو أننا بحثنا عن مزية أصيلة في الفطرة اليونانية تنتقل مع الدم، وتسري في خلال التكوين لأعيانا أولًا أن نحصر هذه الفطرة، ثم أعيانا بعد ذلك أن نحصر هذه المزية.
فنحن لا نفسر عبقرية الشاعر حين نسميها بالعبقرية اليونانية، ولكننا نصفها في كلمات موجزة وصفًا يقربها إلى الأذهان، ويطبعها بهذا الطابع المعروف عند المطلعين على الآداب، وما من شك في أن الشاعر الذي تحدر من أصل يوناني أيًّا كان مقره غير الشاعر الذي تحدر من أصل عربي أيًّا كان مقره، ولكن التفريق بين هذه الشاعرين شيء، والقول بأن الشاعر لا يحس هذا الإحساس ولا ينظم هذا النظم إلا إذا كان من أبناء اليونان شيء آخر؛ فحسبنا أننا نعرف ما نريد حين نذكر العبقرية اليونانية، ولا نحاول بعد ذلك الخروج إلى تعليل الأصول والتعسف في تقسيم خصائص الشعوب.
وإنما وصفنا ابن الرومي بهذه الصفة؛ لأنه صاحب عبقرية تعبد الحياة، وتحيا مع الطبيعة، وتلتقط الصور والأشكال، وتشخص المعاني، وتقدم الجمال على الخير، أو لا تحب الخير إلا لأنه لون من ألوان الجمال، ثم هي تنظر إلى الدنيا نظرتها إلى المعرض المنصوب للتملي والمتعة، لا نظرتها إلى الحصن المغلق أو الصومعة الموحشة أو غير ذلك من نظرات الأجيال والأديان، ولا نعرف صفة أجمع لهذه الخصال كلها من صفة العبقرية اليونانية التي اتسمت بها في الجملة فنون الإغريق؛ فقد كان الإغريق بجملتهم كما كان ابن الرومي بمفرده لو أن الإغريق كانوا يصيبون من كل متعة بمقدار، وابن الرومي كان لا يعرف في أمر من الأمور مقدارًا أقل من الإفراط والانهماك.
عبادة الحياة
ولننظر أولًا إلى حب الحياة الذي كان أول ما اشتهر به اليونان، وأول ما تستشفه من فن هذه العبقرية الحية في كل جزء من الأجزاء، وكل حالة من الحالات، فابن الرومي كان من أخلص محبي الحياة بين محبيها الكثيرين، أو كان — على الأصح الأوضح — من مدمني الحياة بين شرابها غير المدمنين.
وحب الحياة خليقة نادرة وإنْ ظُنَّ أنها أعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب — سواء حب حياة أو حب شيء من أشيائها — سهلًا رخيصًا يطمع فيه كل من يريد، فمن الناس من يحب الحياة كأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئًا غريبًا عنه، ومنهم من يحبها كما «يحب» الحيوان الأعجم ما هو فيه، ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة؛ لأنه يريد ما يقسر عليه، ويأبى أن يفرض للفراق وجودًا، أو يتوقع لهواه تغييرًا، فهو سعيد بأن يحب، وأن يُسمح له بأن يحب، وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا وتستجد إحساسًا وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة، وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجرًا غير ما يبتغيه خلص العابدين، فكان حيًّا كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه.
وإنك لتتابع أبياته الكثيرة في هذا الغزل، أو في هذه الفتنة، أو في هذا السكر، فيخيل إليك أنه شارب قبض على الكأس يود أن يجرعها مرة واحدة من فرط التعطش والخوف عليها، لولا أنه يستعذبها ويستطيبها، فيترشف منها رشفة بعد رشفة، ويعود إليها ينظر ما فرغ منها وما بقي فيها، ويضن ويشتاق ويشعر بمرارة الفقد لفرط شعوره بحلاوة المتعة، فما نقصت من تلك الكأس — الحياة — قطرة إلا أحس بطيبها، وأحس بألم فقدها، وعرف مقدارها، وقاس من الكأس حيزها، وعاد يترشف لينسى فيزداد ذكرًا على ذكر، وخسارة بعد خسارة، وأي ذكر؟ وأي خسارة؟ وأي ألم؟ وأي فجيعة؟
ومن هذه اللهفة بعد اللهفة تعرف كيف بلغ العشرين، وكيف بلغ الثلاثين، وكيف بلغ الخمسين، وكيف بلغ الستين في قصائد شتى ومناسبات عدة لا موضع هنا لإحصائها، ولكنها تدلك إذا راجعتها على مغالاته بهذه الوديعة، وضنه بتسليمها والتفريط فيها، وحرصه على ذخيرتها حرص الشحيح الذي يود أن يزيد في ماله المحسوب وهو يراه ينقص ساعة بعد ساعة، ولمحة بعد لمحة.
وهو إذا ذكر الشباب لم تكن صورة الشباب في ذهنه أنه فترة من الزمن، أو ظواهر من المتعة والعافية، وإنما يذكره وهو ينفذ إلى صميمه وباطنه ولبابه الذي لا يحسب بالأيام، ولا معول فيه إلا على جدة الشعور وجلاء الدنيا في بشاشتها الأولى كأنها الثمرة المقطوفة، ولها من الشمس صبغة جديدة، ومن الطل مسحة غضة، ومن العصير المكنوز وليمة تنادي الشهوة، وتفتح اللهوة.
فلا يعنيه أن يدوم له الشباب، وإنما يعنيه أن تدوم له الدنيا القديمة، وهي في جدة البواكير وفي طرافة المفاجأة التي لا تذال، وإلا فما يغنيه أن يدوم الشباب والدنيا أمامه مذالة المنظر مجرودة اللون، مسلوبة من تلك المفاجأة في كل نظرة، وفي كل لقاء.
أجل، هذا هو الشباب في صميمه وباطنه ولبابه، والشباب عنده أيضًا أن يستقبل الحياة لأنها لا تكون جديدة إلا بهذا الاستقبال.
والشباب عنده دولة يولى صاحبها على هذه الدنيا فتطيعه وتعطيه من خيراتها كل ما تملك وكل ما يصبو إليه.
والشباب عنده هو الحياة، لا فرق بين فقده وفقد الحياة إلا أن فاقد الشباب يعلم بموته، وفاقد الحياة لا يعلم ولا يأسى على ما فات:
والشباب عنده مفقود لا عزاء بعده إلا عزاء الموت القريب:
والشباب عنده مبكي ولا يوفَّى البكاء إلا بالدم:
ومرثي لا ينقطع رثاؤه حتى الممات:
والخير الأكبر هو أن يحيا الإنسان، والشر الأكبر هو أن يموت، ولا سيئة عنده لهذا الخير العميم إلا تنغيص ذلك الشر العميم.
وكل ما في الحياة من قلة الغبطة أن الأحياء يموتون:
وعلى هذا النحو يقول:
فالخلود الخلود، لا شيء دون الخلود يرضيه ويستقر عليه مُناه، وإلا فبنو الحياة بائسون محرومون؛ لأنهم لا يعيشون؛ لا لأنهم يعيشون كما يقول المتشائمون الذين لا يحبون هذا الحب، ولا يعبدون هذه العبادة، ولا يحسون هذا الإحساس، وما تكلمنا بالمجاز حين قلنا: إنه يعبد الحياة؛ لأنه — على ما في شعره في هذه الأبيات المفرقة في شتى القصائد — قد كان يعلم ويقول: إن للحياة دينًا يحرم ويحلل، ويأمر ويطاع ولو عارض أوامر الدين:
وذكر المحرمات في قصيدة أخرى فقال:
فقد كان يدين في خوالجه بهذا الدين، ويستوحي منه شريعة التحليل والتحريم، وتهم خواطره بالتبتل فيثنيه عنه هذا التبتل الذي لا تسكت دعوته ولا ينقطع رسوله:
وقد كان همه الأكبر أن يحيا؛ لأنه مهيأ النفس للإحساس بالحياة، ولو كان همه على ما به من الخصاصة واللهفة أن يطلب القوت وينصرف إلى ذرائع العيش لما كان بالملوم.
•••
وتعلق ابن الرومي بالحياة أقل شيء غرابةً، وأقرب شيء إلى طبيعة الأمور. نعم إنه كان سقيم الجسم، عسير الرزق، مخيب الآمال، فكان أحرى لذلك أن يبغض الحياة، أو يحبها حب المجبر الملوم، إلا أن المرء لا يحب الحياة على مقدار سعادته بها، واستجابة آماله فيها، كما أن المرء لا يحب المرأة على مقدار ما ينال من حظوتها، ويغنم من إقبالها، بل يحب هذه أو تلك كلما امتلأت بها نفسه، واشتغل بها حسه، واشتبكت بها ذكرياته، وامتزجت بها رغباته، وابن الرومي كان صاحب نفس لا توصف إلا بأنها أداة مهيأة للنظر والسمع والتلقي عن الوجود من حيثما ألقي إليه بأثر من آثاره، وخبر من أخباره دق أو جل، وأسعد أو أشقى:
ومن أبهر ما يبهرك في هذه اليقظة الحسية حاسة اللون الذاكية المتوهجة، التي تطالعك من كل وصف يصف به الوجوه أو الأزهار أو الكئوس أو الحلي أو الخمر، أو غير هذه المناظر التي تلامس البصر بألوانها، فإنك قل أن ترى في وصف شاعر من شعراء العالم أجمع نظيرًا لهذه الحاسة الشفافة المتوفزة، التي تختلج لكل لمحة من لمحات اللون وكل شعاع من أشعة النور، وتفطن إلى ألطف ما يبديه للعين من محاسن الامتزاج والمقابلة، وأصفى ما يجلوه من دقائق المباينة والمشاكلة، فيصيح صيحة الوهل حين يرى الوجنة الحمراء إلى جانب الصدغ الأدعج:
ويصيح هذه الصيحة كلما رأى هذا المنظر:
ويقول في مثل هذا المعنى:
ويصف قينة فلا يكاد يعرض من مناظرها لغير الألوان التي في وجهها وثيابها:
ويقول في ساقية:
وفي قينة:
وفي مثلها:
وفي قيان مجتمعات:
وليس ألطف من قوله في وصف الأعناب السود:
وفي العنب الأبيض:
أما الخمر فربما كان نصيب عينه من نشوتها أجمل لديه وأحب إليه من نصيب السكر عند الشاربين؛ إذ تراه لا يصف سكرها كما يصف ألوانها وألوان أقداحها، بل هو يكاد يحسبها لونًا شائعًا في الفضاء كما قال:
وكما قال في موضع آخر:
وهكذا يقول في الرياض التي:
أو في الشقائق التي هي:
وهكذا يقول في كل شيء.
وليست حاسة البصر متفردة بهذه القوة بين حواس ابن الرومي، ولا حظها من الذكاء والتوفز بأوفر من حظ غيرها، فإن الرجل كان يسمع ويشم ويذوق ويتلمس، كما كان يبصر ويتصور، فلا تقصر حاسة من حواسه عن أختها، ولا تشكو إحداهن كلاكًا أو فتورًا في حصتها من التمييز والشعور، وهو القائل في وصف صوت:
وفي وصف مغنية:
فكأنه قد بلغ في تحسس الصوت مرتبة الموسيقيين الذين يتمثلون للأنغام ألوانًا وزخارف وأوشية تكاد تنطبع في صفحة الخيال، أو تكاد تدركها العين لشدة بروزها في قرارة الوجدان. وهو لا يدع لك أن تشرح أو تستخلص ما تقرؤه من كلامه حتى يقول لك بالعبارة الصريحة: إنه يصل بين الرؤية والسماع، ويترجم بين الحاستين فينقل إلى لغة العيون ما تضمنته لغة الآذان. وإليك ما يصف به إحدى القيان:
ثم يستطرد إلى تمييز الأنغام فيقول:
وإنك إذا قرأت مدائحه الأخريات في القيان المحسنات، وأهاجيه في شنطف ودبس وأبي سليمان ومن لا يجيد هذه الصناعة من المغنين والمغنيات؛ علمت أن له أذنًا واعية تهفو إلى السماع الجميل، وتنفر من السماع القبيح، وإذا قرأت مبتكراته في فضائل الأزهار والرياحين ولذة الاستمتاع بروائحها، وتمييزه لمراتبها؛ علمت أنه كان يستروح من جمال مشموماتها مثلما كان يستروح من جمال مناظرها، وإذا قرأت ما قال في الموز الذي «يدفعه البلع إلى القلوب»، وفي المشمس الذي إذا رأيت بستانه «فأيقن بحق أنه لطبيب»، وفي الدجاجة التي تلوح له سميطة صفراء دينارية، والتي «يكاد إهابها يتفطر»، أو قرأت مقطوعاته في القطائف والفطائر واللوزينج والحلوى التي كان يقرظها ويفتن في تشبيهها؛ علمت كيف كان النهم بالمناظر والطعوم بابًا عنده للنهم بالطعام، بل حسبك من دليل على شراهة حاسة الطعم عنده وقوة التذاذه بها قوله: إنه ما كان ليحفل بالموت أو ليجزع من القبر «لولا فواكه أيلول …»
وحاسة اللمس في هذه الأداة الحسية اليقظى كحواس البصر والسمع والشم والطعم في الدقة والرفاهة والانتباه، فها هو ذا يصف الريح الشمالية:
وها هو ذا يصف الليل في شهر أيلول:
أو ها هو ذا يصف البارد:
فها هنا تلمس معه برد الهواء الذي «يجمش» الجلود والأحشاء، بل ها هنا يخيل إليك أن لبرد الماء في «شطر الكوز» الأخضر ثقلًا راسبًا ينقع الغلة بالرجرجة قبل أن ينقعها بالشراب، وأن الشاعر ما اختار «معتق الرساطون» من أسماء الخمر إلا لأنها كلمة مجسمة أشبه بالرصاص البارد الذي ترى لاستقراره راحة كراحة الظمآن بعد الارتواء، ثم تعيد نظرك في الأبيات فتعجب ما هي الحاسة التي لم تشترك في وصف هذه الأبيات؟! أهي حاسة البصر وهي ترى للماء رونقًا كرونق السيف اليمان المسنون، وترى خضرة الكوز كأنه جرو اليقطين، وترى «شطر» الكوز وهو كأنما تفلق من برودة ما فيه، وترى صنعة الكوز فإذا هي صنع قادر صناع؟ أم هي حاسة السمع وهي تصغي إلى رجرجة الماء ونفح الريح؟ أم هي حاسة الري وهو هنا ناقع لا يبقي من الظمأ بقية في الصدور؟ أم هي حاسة الخيال وهو يرتفع بالكوز إلى رأس الطود النياف العرنين، ويشبع القلب بالخمر المجلوبة من قطربل وكركين؟ فأوجز ما يقال في تصوير ابن الرومي لهذا الكوز: إنه قد التهمه حسًّا بكل ما فيه من منظور ومسموع ومشروب ومتخيل وملموس.
فهذه أيها القارئ نفس تامة الأداة تشعر شعورًا شديدًا بالحياة من حيثما واجهتها، وتداخل الطبيعة في كل جزء من أجزائها؛ فقد عاش صاحبها يومًا يومًا من عمره، وناحية ناحية من وجدانه، ولابس الحياة ولابسته.
وليس الأمر كله حسًّا بالظواهر كذلك الحس الذي لا مذهب له وراء العيون والآذان والآناف، ولا هو بالدقة التي ترهف الحواس إرهافًا، فلا يكون قصاراها إلا أن تقابل بين المرئيات والمسموعات، أو بين هذه وتلك وبين المشمومات والملموسات، كلا! فإن هذه اليقظة الحسية لتصاحبها يقظة في الشعور الباطني تسري به في كل مسرى، وتنفذ به إلى كل منفذ، وتترجم العواطف والأخلاق كما تترجم المناظر والألحان؛ فإذا تتبع «المكر» في خبايا الفكر، فهو القائل في ذلك قولًا لا يسبقه فيه شاعر:
وإذا جال الحزن في نفسه بدت منه على الكون غشاوة، ولاح له كأنما نُفخ في الصور ودُمِّر كل عامر:
ثم عرف أنه هو الحزن الدخيل، وليست الدنيا البادية للعيان هي التي يراها بتلك النظرة الشاحبة فقال:
وقد يتأمل المرأة، فإذا هو محيطٌ — في بيت واحد — بسر «الأنوثة» كله، وبما في المرأة من ضعف وقوة، وبما هنالك من العجب في أن تكون هذه المخلوقة العجيبة إنسانًا كالرجل، وهي والرجل جسدان مختلفان، وطبعان متباينان، وأن تكون غريبة عنه وهي قرينة له ما عن مقارنتها محيص، وذلك كله ملحوظ في البيت الذي يقول فيه:
ولا عجيبة هنا إلا العجيبة التي يحسها من أحس سر الأنوثة وسر الرجولة، وأحاط بالتوفيق الغريب بين هذين الإنسانين، حيث يفترقان وحيث يلتقيان، واستوعب لغز «الجنس» ببديهة واسعة لم يحجبها عن ذلك اللغز أن الجنسين أشيع ما يرى في عالم الإنسان والحيوان.
وأما وقد ذكرنا المرأة ولغز الجنس المنوط بها، فقد يكون من الواجب أن نعرف مقدار ما شغلته من هذه النفس وحركته من هذا الإحساس، فإذا كان ابن الرومي عابدًا للحياة، فالمرأة ولا ريب كاهنة هذا المعبد التي تتم على يديها مراسم العبادة، ومحورها الذي تلتف حوله الشعائر والقرابين، وإذا كان ابن الرومي نفسًا تيقظت فيها أداة الحس والشعور، ففي المرأة ولا ريب تلتقي أشد مغريات الحس، وأعمق بواعث الشعور، ولا بد من شأن لهذه «المخلوقة» في حياة هذا الشاعر، فما هو هذا الشأن؟ وما حقيقته؟ وما مداه؟ وهل هو شأن «المرأة»، أو هو شأن «امرأة» خاصة، أو أكثر من امرأة خاصة؟ وهل عَشِق؟ وهل أَحَب؟ وهل عرف ما هو الحب الذي نعني به شيئًا أكثر من العشق وأكثر من الغرام؟
فأما هذا الشأن فقد كان، ولا يعقل إلا أن يكون، وما فرغ ابن الرومي قط من شأن النساء، ولا كره الشيخوخة إلا لأنها تصده عن المرأة أو تصد المرأة عنه؛ فلأجلها قبل كل شيء كان يخاف غائلة السن؛ ولأجلها قبل كل شيء كان يتمنى خلود الشباب:
ولأجلها كذلك تمنى أن تنعكس أيام العمر فيتقدم فيه الهرم ويتأخر فيه الشباب:
وفي وسعك أن تقول: إنه عرف «العشق» الذي لا يعرفه إلا من نشبت علائقه بامرأة واحدة دون سائر النساء، فوصف ما وجده من هذا العشق في غير موضع، وقال من ذلك:
وقال:
بل جرب الغيرة فقال في تهوينها على العاشق ما لا يقوله إلا غيور:
فهو قد عشق وغار وكابد لوعة الرغبة التي يحصرها العشق في إنسانة واحدة بين سائر النساء، وفارق وناجى وذكر، وقال من ذلك في معشوقة فارقها على أمل اللقاء:
إلا أن هذا كله عشق وليس في حب. وقد يكفي الإحساس والعاطفة لإضرام العشق، وإغرام المرء بامرأة يشتهيها ويغار عليها، ويشعر نحوها بذلك الشعور الفطري الذي ركب في عامة الرجال وعامة النساء. أما الحب الذي نعنيه فلا يكفي فيه الإحساس والعاطفة، ولا بد فيه من «الروحانية» أو الزهد والتضحية، ونكران النفس، ومن ثم نكران الحياة، ويقترن ذلك بالتصوف والارتفاع بالمرأة إلى ما فوق مرتبتها في الطبيعة، وفوق حظها من محاسن الأجسام؛ إذ الطبيعة لا تعرف في المرأة إلا أنها أنثى، وكذلك العاشق. أما المحب فإنه قادر على أن يفيض من روحانيته نورًا على من يحب، وأن يحفها بهالة علوية قد يهابها، وقد يخشع لها في بعض المواقف خشوع المتنسكين. ولم يكن لابن الرومي نصيب من هذه الروحانية، ولا من ذلك النور، فما كانت المرأة في حسه أو عاطفته إلا أنثى طبيعية، ومخلوقًا جميلًا فيه متعة للأعين ومسرة للقلوب، ونساؤه كلهن نساء المتعة والمسرة على نسق واحد يلخصه مثل هذا البيت:
وهو في هذا أيضًا وفيٌّ «للعبقرية اليونانية»، وللصورة التي رسمها اليونان لجمال «فينوس»؛ فقد كان اليونان طبيعيين في الجمال، وطبيعيين في العشق، ولم يكونوا روحانيين في شعر ولا فلسفة ولا تصوير، وخلاصة الحب عندهم أنه نسخة من حب «خلوي ودفنيس» في غابة حفلت بالألوف من نسخ هذا الحب بين أزواج الطير والحيوان، فإذا تنزه فهو حب عصفور لعصفورة، أو ظبي لظبية، أو حيوان جميل لحيوانة جميلة يخلو من الكثافة، ويزدان بالخفة والرشاقة، ولكنه لا يخلو من «الجسدانية» ولا من «الطبيعية»، ولا يفارق الأرض ليصعد إلى سماء «الروحانية» والنور، وإذا تنزه بعد ذلك فهو صداقة حامية يشترك فيها الفكر والذوق والغريزة، ولا ينفسح فيها مجال كبير للنزاهة والتقديس.
حب الطبيعة
وتنتقل من ذاك إلى الخاصة الأخرى من خواص الطبيعة اليونانية، وهي حب الطبيعة.
فقد وصف الطبيعة شعراء كثيرون، ولم يمنحها الحياة إلا قليلون! أما الذين منحوها حياة نحبها وتحبنا، ونعطف عليها وتعطف علينا، ونناجيها وتناجينا، فأقل من هؤلاء القليلين.
وذاك أن الشاعر قد يؤخذ بأحمرها وأبيضها وأصفرها وأخضرها، ويفتن بما فيها من الزراكش والأفانين، ثم لا يعدو بذلك أن يمدح شيئًا قد يجد مثله في ألوان الحلي وأصباغ الطنافس ونقوش الجدران، أو نحن نخطو وراء ذلك خطوة فنقول: إنه لا يعدو بذلك أن ينظر إلى دمية فاتنة يروقه منها وجه مليح، وقوام ممشوق، وحسن مفاضٍ على الجوارح والأوصال، ولكنه لا يتطلع منها إلى عطف ولا يفتش فيها عن طوية.
وقد يستريح الشاعر إلى الطبيعة لأنها ظل ظليل، ومهاد وثير، وهواء بليل، وراحة من عناء البيت، وضجة المدينة، فلا يعدو بذلك أن يستريح إليها كما تستريح كل بنية حية إلى الماء والظل والهواء، كذلك تهجع السائمة في المروج، وكذلك تهتف الضفدع في الليلة القمراء.
وقد يمنحها الشاعر حياة من عنده أو من عند الخرافات والأساطير، فإذا هي حياة بغيضة لا تصلح للتعاطف والمناجاة، ولا يصدر عنها إلا الفزع والإحجام، ولا تقوم بينه وبينها إلا الحواجز والعداوات.
أما الطبيعة التي تُحبُّ وتُناجى، وينم التعاطف بين الشاعر وبينها عن ثروة غزيرة من الشعر والشعور، فهي طبيعة الحور الخافقات في الهواء، والعرائس السابحات بين الأمواج، والعذارى الراقصات في عيد الربيع، والجنيات الهامسات في رفرفة النسيم ورقرقة الغدير، وحنين الصدى وحفيف الأغصان، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة العامرة بما في البروق والرعود والسماوات والأعماق من بطولة وعظمة، ونضال جياش بالغضب الظافر، والسطوة المجيدة، والخطر المثير، والشجاعة التي تُقدم ولا تُحجم، وترجو ولا تخاف، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة التي تبث الإغراء في كل شيء حتى ليحذر الملَّاح لجة البحار؛ مخافة أن تستهويه بنات الماء من وراء زُرقة الأمواج، فيثب إلى أحضانها وكأنما يثب إلى أحضان عروس طال بها عهد الغياب.
فعلى هذا النحو تنجلي الطبيعة للعبقرية التي تحبها وتمنحها الحياة، فليست هي دمية ولا حلية، وليست هي مروحة للهواء ولا مجلسًا للمنادمة، ولكنها قلب نابض وحياة شاملة، ونفس تخف إليها، وتأنس بها، و«ذات» تساجلها العطف وتجاذبها المودة، ثم هي عمار لا خواء فيه، وأسرة لا تبرح منها في حضرة قريب يناجيك وتناجيه، ويعاطيك الإخلاص وتعاطيه.
وقد كان ابن الرومي يحب الطبيعة على هذا النحو، ويستروح من محاسنها نفسًا تتصبى الناظر إليها، وتتبرج له «تبرج الأنثى تصدت للذكر»، ويرى وراء هذه الزينة التي تبدو على وجهها عاطفة من عواطف العشق، تتعلق بها العفة والشهوة تعلقها بالعاطفة الإنسانية الشاعرة:
ولا يقول هذا القول على سبيل الاستعارة اللفظية، ولكنه يقوله ويصف الطبيعة الوصف الذي يقتضيه ذلك الشعور، ويمليه ذلك التصور، فيشف وصله لها عن شغف الحي بالحي، وشوق الصاحب إلى الصاحب، وتسمع من تشبيبه بها رنة طرب أو شجو لا تخرج إلا من نفس مفعمة بأصداء الطبيعة قد نفذت إلى طويتها، وشاركتها فيما تتخيله لها من حزن وسرور، فهو يحيا مع الشمس الغاربة حين تضع على الأرض «خدًّا أضرع» من دهشة الفراق، وهو يحيا مع النوار حين تخضل بالدمع عيونه، وتهبط مع الليل شجونه، وهو يحيا مع الذباب المغرد والطير الساجع في ساعة الغروب التي يمتزج فيها الحنان الذائب بالشوق الخفيض، وهو ينتظم ذلك كله في أنشودة واحدة لم تدع مزيدًا لفن اللون والحركة، ولا مزيدًا لوحي الخيال والسليقة:
وهو يعرف الربيع حياةً تتحرك في الوحش والطير، كما يعرفه زخرفًا تتحلى به الأرض والسماء؛ لأنه وليمة الحياة للأحياء.
وهو ينتشي مع الطيور والأغصان إذا بعثت الشمال بتحيتها و:
وهو يستمع إلى الروضة في بكائها وشدوها إذ هي:
وهو يفهم الشعر الذي لا ينشده صاحبه للأجر والصنعة:
وهو يحسن الإصغاء إلى سر الحياة الكامنة في هذه الأرض، وينصت إلى ما يبوح به الربيع في نجواها إذا:
وهو يشتهي جمال الطبيعة من كل جارحة في نفسه إذا بدت للعين:
وقد بلغ من قوة هذا الإحساس فيه أن تجاوز حيز البديهة إلى حيز التفكير، كأنه التفت إلى نفسه فأدرك من طول المراقبة وتواتر الإحساس المتشابه علة أُنسه بالطبيعة، وعلم أنه أانس مستمد مما يفيضه عليها من دلائل الحياة، فقال في أبيات يصف بها الأغصان:
ولما شغف بالشباب ذلك الشغف المتوهج لم ينس معه الشغف بالطبيعة، ولم يفرق بين ربيعه وربيعها، وبين ثمراته وثمراتها، بل خلع من شبابه عليها، وخلع من شبابها عليه ومزج بينهما مزجًا لا تخاله يكون إلا في مهجة واحدة، وجسد واحد؛ فإذا تذكر الشباب فاسمع ما هذا الذي يذكره بالشباب:
وهذا حنين إلى الطبيعة وشبابها، وحنين إلى العمر وشبابه لا تدري أين يبتدئ أحدهما وأين ينتهي الآخر، فهما حنين واحد، وشباب واحد، وفاكهة واحدة، وروضة واحدة، وإنك لتذوق الفاكهة فتذوق فيها طعم الشفاه والخدود، وتجد فيها مس الضفائر والنهود، وتجمع فيها بين وليمة الحب ووليمة البستان بعد أن تسمعه يقول:
أو بعد أن تسمعه يقول:
فلا افتراق عنده بين الطبيعة والشعور، يكاد لا ينظر إلى الحسان إلا تذكر الروضة والبستان، أو يكاد لا ينظر إلى الروضة والبستان إلا بنظرة تثير الرغبة وتوقظ الأشجان.
ولو كان للطبيعة في بلاد العراق ظواهر أخرى غير هذه الظواهر التي توزَّع وصفها في قصائده ومقطوعاته؛ لقرأت له في تلك الظواهر الأخرى وصفًا على هذا الأسلوب يحييها ويناجيها، ويلهمها القول والعمل، ويزوِّدها بالسير والأحاديث، كما ترى في الأساطير المروية عن بلاد الرعود والبراكين والمغاور والآجام؛ لأننا لا نحسب هذه القريحة قادرة على أن تتخيل شيئًا من الأشياء بغير حياة، ولا على أن تفصل بين عالم الطبيعة وعالم الحياة في أي البلاد.
التشخيص والتصوير
والقريحة المطبوعة على إعطاء الحياة مطبوعة كذلك على إعطاء الشخوص، أو على ملكة التشخيص.
ولكننا نحب أن نستثني هنا ذلك التشخيص الذي تلجئ إليه ضرورة اللغة وتسهيل التعبير مع علم المتكلم بما في كلامه من المجاز والمفارقة؛ فقد يتكلم الشاعر أو غير الشاعر عن الشمس بضمير المؤنث، وعن القمر بضمير المذكر، وقد يسند إليهما فعال الأحياء العاقلة وغير العاقلة، ولكنه بعد تعبير لفظي ليس وراءه تصور، وليس وراء التصور — إن كان — أثر من الشعور، ولا سيما الشعور المتبادل بين طرفين متعاطفين.
وإنما المقصود بالتشخيص تلك الملكة الخالقة، التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حينًا، أو من دقة الشعور حينًا آخر، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فإذا هي حية كلها؛ لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامسة ولامسة، فيستبعد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة. وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله، وسبب ما عنده من قدرة الإحياء، وقدرة التشخيص؛ قدرة التشخيص التي هي ملكة مقصودة تكون عند أناس، ولا تكون عند آخرين، وليست قدرة التشخيص التي هي حيلة لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير، ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر.
خذ مثلًا للمعاني «التشخيصية» التي يأتي بها اللفظ والمعاني التشخيصية، التي يأتي بها الشعور من أبيات ابن الرومي في مشهد الشمس ساعة الغروب؛ فقد ينظر بعض الشعراء إلى الشمس في هذا المشهد، فيجعلها حسناء مفارقة، وما دامت حسناء مفارقة فهي معشوقة أو عاشقة، وما دامت معشوقة أو عاشقة فهناك قصة غرام تدور على هذا المعنى إلى حيث ينتهي بها المطاف؛ وكل هذا لأن الشمس مؤنثة في اللغة العربية، وحسناء في تشبيهات الشعراء! فهي قصة مولدة من لفظ عرضي قد يكون لها نصيب من الشعور، وقد لا يكون لها أقل نصيب. أما الشيء الذي لا يمكن أن يخلقه اللفظ ولا التشبيهات ولا تسلسل الخواطر، فهو الشعور العميق بوحشة الغروب وما ينعكس من ذلك الشعور العميق على الشمس من ترنيق وضراعة وانكسار ونظر يائسٍ كنظر المريض إلى العواد، ووجوم شائع بينها وبين عيون النور التي تغرورق على الأغصان لتدمع، وتلحظ ألحاظًا خشعًا من الشجو والإغضاء، فلا بد إذن من شعور يسبق التشخيص، ويلقي عليه ظله، ويثبت فيه من حياته، وأيًّا كان لفظ الشمس من التأنيث أو التذكير، وأيًّا كان موقعها من تشبيهات الشعراء؛ فإن هذا الشعور لا يتغير ولا يضعف ولا يزول.
هذا الشعور هو الذي يسبق كل تشخيص لابن الرومي أو كل «صورة مشخصة» في شعره، سواء تكلم عن بلد أو يوم أو خليقة، أو فترة من العمر، أو معنى محسوس أو غير محسوس.
فأنت تستخرج من بغداد «صورة مشخصة» حين يقول عنها:
وأنت ترى للمهرجان والنيروز «شخصين» يشبان ويشيبان، ويدينان بالأديان، ويحدوهما الشوق، وتلوح عليهما الهيبة حين يلوحان لك في قوله:
ولهنوات النفوس «شخوص» عنده يخاطبها وتخاطبه، ويعتب عليها وتعتب عليه، وتسمع بينه وبينها هذا الحوار:
إلى آخر ذلك الحوار.
والشباب روح أو ملك يعيش كما يعيش الرجل وزميله مع الجان في بعض الأساطير.
والود كائن حي يعالجه القتل أو يترك إلى الهرم فيموت:
والعوسج شرير «ملعون» يهجى ويسخر منه ويقال فيه:
وإذا كانت هذه قدرة ابن الرومي على خلق الأشكال للمعاني المجردة، أو خلق الرموز لبعض الأشكال المحسوسة؛ فإن القدرة التي سبق بها الشعراء في الأمم كافة — بغير شك ولا تردد — هي قدرته البالغة على نقل الأشكال الموجودة كما تقع في الحس والشعور والخيال، أو هي قدرته على التصوير المطبوع؛ لأن هذا في الحقيقة هو فن التصوير كما يتاح لأنبغ نوابغ المصورين، فلست أعرف فيمن قرأت لهم من مشارقة ومغاربة أو يونان أقدمين وأوروبيين محدثين، شاعرًا واحدًا له من الملكة المطبوعة في التصوير مثلما كان لابن الرومي في كل شعر قاله مشبهًا، أو حاكيًا على قصد منه أو على غير قصد؛ لأنه مصور بالفطرة المُهيَّأة لهذه الصناعة، فلا ينظر ولا يلتفت إلا تنبهت فيه الملكة الحاضرة أبدًا، وأخذت في العمل موفقةً مجيدةً، سواء ظهر عليها أو سها عنها، كما قد يسهو المصور وهو عاملٌ في بعض الأحايين.
إنما التصوير لون وشكل ومعنى وحركة، وقد تكون الحركة أصعب ما فيه؛ لأن تمثيلها يتوقف على ملكة الناظر، ولا يتوقف على ما يراه بعينه ويدركه بظاهر حسه، ولكن تمثيل هذه الحركة المستصعبة كان أسهل شيء على ابن الرومي وأطوعه، وأجراه مع ما يريد من جد أو هزل، وحزن أو سرور. وقد مر بك وصفه لمشيته التي «يغربل فيها»، وللأحدب الذي شبهه بالمصفوع وهو يتجمع ويتهيأ للصفع ويخشاه! فأضف إليه هنا وصفه لحركة الكتان في حقله:
ووصفه لحركة الرقاق في يد الصانع:
ووصفه للقمر في سريانه:
ووصفه لحركة الري في النبات:
ووصفه للحركة البطيئة في سير السحائب:
فإنك تقرأ هذه الأبيات وأمثالها مما سبق أو لم يسبق في هذا الكتاب، فيروعك منها — أول ما يروع — صدق تمثيلها للحركة في الجملة والتفصيل، ليس أصدق من وصف ذوائب الكتان بالغدير وهي تتلاحق مع الريح، ثم يتمم تصوير الحركة هنا تصوير اللون الأخضر، والملمس الناعم والغيم الذي يسري على جلس الكتان مع الليل في وقت الوسن، ويسف بحواشيه المطيرة إلى الأرض البليل، فالصورة كاملة لا تنقص منها سمة من سمات المكان والزمان والحركة، ولا حظٌّ من حظوظ العين واللمس والخيال، ومثلها صورة الرقاق وهي تكبر في لمح البصر كما «تنداح» الدوائر في صفحة الماء، ومثلها صورة الليلة القمراء وهي كاملة متحركة من بداية الإسفار إلى السريان إلى الصفحة الريا التي تطالعك بالامتلاء والنداوة إلى الصفاء المحيط بكل هذا، فاللألاء المشرق على ذلك الصفاء.
ليس في البيت كلمة واحدة إلا لها مكانها من الصورة، ونصيبها من التلوين والتمثيل والتبيين، ومثل ذلك المياه التي تسور في العيدان كأن لها وجيبًا أو دبيبًا يتتبعه الناظر بعينه، ويصغي إليه بأذنه، والسحائب التي لا تفرق بين حركتها وركودها لأنها أطبقت على أغوار البلاد ونجودها. وهات ما شئت من صور له في وصف الإنسان والحيوان والنبات والجماد، فإنك لتجدن فيها كلها مثل هذا الصدق، ومثل هذه الحركة، ومثل هذه الحياة. وقد يكون قولنا هذا من تحصيل الحاصل بعدما سلف من بيان إحساسه باللون، ويقظته لكل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه، أو يدركه من ظواهر الأجسام وبواطن العواطف والأخلاق، ولكنه تحصيل حاصل غير مألوف ولا مستغن عن بعض الإبانة وبعض التفصيل.
ولو كان ابن الرومي مصورًا لما استُغرب منه هذا الولع بالألوان والظلال والأشكال والحركات؛ لأنه كان لا يستطيع إذن أن يشرع في عمله قبل أن يلتفت إلى عناصر الصورة المحسوسة، ويجيلها في روعه، ويهيئها للظهور على قرطاسه، أما الشاعر فلا ضرورة في نظم الشعر تقسره على أن يلتفت هذا الالتفات الدقيق إلى كل لمحة من لمحات اللون والظل، وكل صغيرة من صغائر الشكل والحركة، فإذا التفت إلى ذلك في عامة شعره بغير ضرورة قاسرة، ولا طريقة مسبوقة، فإنما يلتفت إليه لأنه مطبوع على التصوير ينظر إلى حوله، فينطبع ما يراه في حسه وإن دق وخفي، كما ينطبع النور البعيد الضئيل في مصوَّر الفلكي المحكم التركيب.
وبودنا أن نثبت الآن قصيدة «المهرجان» النونية برمتها؛ لأنها نموذج وافٍ لشعر ابن الرومي في هذا الباب، ولكنا نجتزئ منها بما يأتي، وفيه الدلالة الكافية على هذه الملكة النادرة، قال:
فتأمل، فهل ترى في وسع المصور القدير أن يلتفت إلى لون أو ظل أو شكل أو خط أو حركة في المهرجان لم يلتفت إليها ابن الرومي في هذه القصيدة؟ وتأمل الشاعر هل تراه في قصيدته إلا كما قلنا في بعض مقالاتنا: «كالرسام الذي بسط أمامه لوحته، وأقبل على الوجوه والأشكال يتفرسها، ويطيل النظر إلى ملامحها وإشاراتها وما تشف عنه من المعاني، وتشير إليه من الدلائل، ويراقبها في التفاتاتها ومواقفها وحركاتها؛ لينثني بعد ذلك إلى لوحته، فيثبت عليها ما توارد على بصره وقريحته من الألوان والمعارف والهيئات من حيث هي تحفة فنية تستهوي الحواس والأذواق؟
فهو يبدأ برسم زينة المهرجان، واختيال الدنيا بمنظرها فيه وبرود الوشي التي أذالتها للناظرين، واللهو والسرور الذي شمل كل شيء، وأديل له من جميع الهموم والأحزان، ثم يرسم حجرات الأمير بزخارفها وتهاويلها، وضيوفها الغادين إليها الرائحين منها، وقيام الكماة صفًّا بعد صف مطرقين إلى الأرض، مغضين بالأبصار حانين على السيوف، ثم يرسم الأمير فوق سريره وقد طلع على الجمع بوجه معيب يمكن العين منه لحظة، ثم ينهاها عن إدامة اللحظان، ثم يذكر لك وقار الإمارة، وسمات الحلم والرزانة بين قوم يعنون له، ويجلون قدره من الحب والتبجيل، لا من الصلف والكبرياء.
ثم يرسم المادحين بين يديه يرتلون عليه الثناء ضاربين الصدور بالأذقان، وينصرفون من حضرته بالعطايا والحملان، بعدما شبعوا من خوان يلوح في مثل قطع الروض، وإن سمي بالخوان، ثم يرسم القيان الكواعب الأبكار عاطفات على المزاهر عطف الأم على الرضيع بنهود مفعمات، ولكنها صفر من درة الألبان، ثم يرسم أثر الغناء على وجوه السامعين، فإذا هو شجن وسلوى، وأمرات من الحزن والجذل، وطرب يشوبه السكون وسكون يشوبه الطرب … فلا تزال في القصيدة تنتقل بين أبياتها من صورة إلى صورة، ومن منظر إلى منظر، ومن حركة إلى حركة حتى تأتي عليها، وقد استعرضت في خيالك متحفًا واسعًا من الأشكال والخطوط عملت فيه القريحة والنظر، واشترك فيه الفن والإحساس، وروى لك أصدق الرواية عن عين تلمح وتعي، ونفس تحس فتستوعب، وخيال يدخر الجمال المنظور فيثري بالألوان والسمات …»
زعموا أن بعضهم قال لابن الرومي: «لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال للائمه: أنشدني شيئًا من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده قوله في الهلال:
فقال: زدني. فأنشده قوله في الآذريون — وهو زهر أصفر في وسطه خمل أسود:
فصاح: وا غوثاه! تالله لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون بيته، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظروا إذا وصفت ما أعرف أين يقع قولي من الناس.» إلى آخر القصة.
وقد تصح هذه القصة أو لا تصح، ولكنها على الحالتين تدل على رأي شائع في التشبيه بين الذين كانوا يتعاطون الأدب في عصر ابن الرومي، وبين الذين يتعاطونه في هذه الأيام، فلابن المعتز تشبيهات كثيرة أبلغ من هذه التي مرت في القصة، وأجمل وأنقى في المعنى والديباجة، ولكنهم لا يختارون له في مقام التحدي والتعجيز إلا هذه الأبيات وأمثالها؛ لظنهم أن نفاسة التشبيه إنما تقاس بنفاسة المشبه والمشبه به، وأن الغرض من التشبيه إنما هو مضاهاة أبيض على أبيض، وأصفر على أصفر، ومستدير على مستدير، ومستطيل على مستطيل مما يرى بالعين، ولا فضل فيه للشعور والتخيل، فالشاعر الذي يصف النجوم ويشبهها بالجواهر والحلي هو الشاعر غير مدافع، وهو المثل الأعلى في هذه الصناعة.
ثم يليه الشعراء على حسب الأشعار في سوق المشبَّهات! وقصارى ما يطلبه الشاعر من التشبيه أن يثبت لك أنه رأى شيئين من لون واحد، وشكل واحد، كأنك في حاجة إلى مثل ذلك الإثبات الذي لا طائل تحته، فإما أنه أحس وتخيَّل وصوَّر إحساسه، وتخيله باللفظ المبين والخواطر الذهنية الواضحة، فليس ذلك من شأنه ولا هو مما يدخل عنده في باب البلاغة والشاعرية، وهذا خطأ بعيد في فهم الوصف والشعر يخرج بهما عن القدرة النفسية إلى القدرة الآلية التي تحكي المناظر الظاهرية، كما تحكيها المصورة الشمسية، فالمسافة عظيمة جدًّا بين شاعر يصف لك ما رآه كما قد تراه المرآة أو المصورة الشمسية، وشاعر يصف لك ما رآه وشعر به، وتخيله وأجاله في روعه وجعله جزءًا من حياته.
وليس يعنيك أنت أن يكون الشاعر صحيح العين مطلعًا على المرئيات المتشابهة ليتصل ما بينك وبينه، ويقترب وجدانك من وجدانه، ولكنما يعنيك منه أن يكون إنسانًا «حيًّا» يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها، وتلك هي مزية ابن الرومي في وصفه وتشبيهه، ومزيته في شعره كله من أوائل شبابه إلى اليوم الذي مات فيه. وينبغي هنا أن نذكر مرة أخرى أن ملكة الشعر غير ملكة الوصف، وليستا بشيء واحد كما يفهم كثير من القراء، فمن وصف وشبَّه ولم يشعر فليس بشاعر، ومن شعر وأبلغك ما في نفسه بغير وصف مشبه، فلا حاجة به إذن إلى سرد الصفات لتتم له ملكة الشاعرية.
•••
من ثم نقول: إننا قسمنا العبقريات الفنية إلى أقسام وفصائل، فخير ما نفهم به عبقرية ابن الرومي أنها عبقرية يونانية على المعنى المفهوم بين قراء الآداب من هذه الكلمة؛ إذ لا نعرف صفة لعبقرية ابن الرومي هي أوجز ولا أبين من هذه الصفة المجموعة في كلمة واحدة، فإنه كان محبًّا للحياة في خفة وطفولة وأريحية دائمة، كالحب الذي عهدناه في جملة الفنون اليونانية، وكان مشخصًا لمحاسن الطبيعة وعناصرها، كما شخصتها أساطير اليونان، وولَّدت منها بنات الماء وعرائس الغاب وأرباب السحب والبحار وغيرها من ولائد الذوق والخيال، وكان مأخوذًا بالجمال في كل شيء كما أخذوا به في كل شيء، مستغرقًا في الحس الدنيوي كما استغرقوا فيه.
أما أنه كان كذلك لأنه من سلالة اليونان، فذلك قول لا نجزم به ولا نجزم بنفيه؛ لأنه يستطيع أن يكون كذلك ولو لم يكن من تلك السلالة التي اختلطت فيها سلالات الشرق والغرب والشمال والجنوب، فما اختص اليونان بإبداع الفنون واستجلاء الجمال، ولا يحسن بأحد أن يدعي ذلك لشعب من الشعوب، وكل ما امتازوا به على غيرهم أنهم منحوا الفنون حريةً لم تُمنحها في الشعوب القوية التي توطدت فيها الدولة وتوطد فيها الدين، فاشتمل على العلوم والفنون، وأحاطها بقيود المراسم والموروثات، فلما خضع اليونان لمثل هذا السلطان نضب فيهم ذلك المعين الحر، وأخلدوا إلى المراسم والموروثات إلا قليلًا من الحنين المتجدد إلى الفن القديم، وامتياز اليونان بالحرية في الفن فضل عظيم.
ولكن ما مقدار ما يسري منه في الدم، ويثبت مع الغرائز، ويتنقل مع السلالات؟ وما هو الحد الفارق بين اليونانية وغير اليونانية في الشعوب الكثيرة التي يتناولها اسم اليونان في آسيا وأوروبا، وقبل التاريخ وبعد التاريخ؟ فأنت ترى أن القول بالوراثة اليونانية في ابن الرومي ليس أسهل ولا أصوب من القول بانفراد هذه الظاهرة الغريبة التي لا تزول غرابتها من بعض الوجوه، حتى لو ظهرت في بلاد اليونان، وقد يكون فيما مر بك من شرح مزاجه ونشأته تعليل صالح لهذا الإحساس المتوفز، يساعد على تفسيره بعض التفسير، فحسبنا إذن من كلمة العبقرية اليونانية أنها كلمة مفهومة في لغة الآداب، وإن لم تكن مفهومة في لغة الأنساب.