فلسفة ابن الرومي
لكل شاعر كبير فلسفة للحياة، أو فهمٌ لها على وجه من الوجوه، وهذه هي مزية الشاعر الكبير على الشعراء الصغار.
فإذا قرأت عشرين شاعرًا كبيرًا، فأنت أمام عشرين نسخة من الدنيا، أو أمام عشرين مثالًا لها كلٌّ منها مخالف لغيره مستقل عنه في طريقة تمثيله؛ لأن الشاعر الكبير يشعر بكل شيء حوله، فما من مظهر ولا مخبر إلا وله موقع من قلبه، وصدى في ضميره، ولأنه مستقل في إدراكه وشعوره ينحو نحو نفسه، ولا ينحو نحو غيره، فإذا قرأت شعره فهناك الدنيا كلها ممثلة في ذلك الشعر على طريقته التي لا تشبهها طريقة، ولا كذلك الشاعر الصغير؛ أي الشاعر الذي تضيق نفسه بسعة الدنيا فلا يشعر إلا بجانب صغير من جوانبها الكثيرة، والذي يتبع غيره في إدراكه وشعوره، فلا يثبت على قدميه لحظة إلا ريثما يتكئ على سند من سابقيه أو معاصريه، فإن هذا الشاعر الصغير شذرة من الدنيا، وليس بمثال كامل للدنيا برمتها، وقد تكون هذه الشذرة أجمل وأتقن، وأحب وأشهى من المثال الكامل في مساحته الواسعة ومنظره الجسيم، ولكنه شذرة على كل حال أو خريطة بلد واحد لن تغنيك — بالغة ما بلغت من روائها وإتقانها — عن خريطة الأرض الكاملة، وإن قصرت في الرواء والإتقان.
فمن الشعراء الكبار من يريك الدنيا كأنها معرض للجمال، أو يريكها كأنها متنزه للفرجة، أو كأنها كعبة للعبادة، أو ميدان للقتال، أو طريق للعبور، أو ملعب للسرور، أو يريك الدنيا كما هي. وذلك أكبر الشعراء وأعلاهم في مراتب الإلهام. أما الشاعر الذي تسأل نفسك بعد قراءته: ما هي الدنيا؟ وما مثالها في خلدك؟ فلا تهتدي إلى جواب، فليس بالشاعر الكبير وإن عد في المجيدين من الشعراء.
فلا بد للشاعر الكبير من إدراك الدنيا كلها، ولا بد لهذا الإدراك من صورة تختلف كثيرًا أو قليلًا من سائر الصور، وهذا هو الذي نعنيه بفلسفة الشاعر، ولا نتخطاه إلى معنى الفلسفة الشائع بين المفكرين، إذ لو قصدنا إلى هذا لوجب علينا أن نقول: إن الفلسفة أبعد المطالب عن ابن الرومي، وإن ابن الرومي أبعد الناس عن الفلسفة، بل لوجب علينا أن نقول أكثر من ذلك: إن قريحة ابن الرومي كانت نقيض القريحة التي يحتاج إليها الفيلسوف؛ لأن الفيلسوف يجرد كل شيء ليراه بعين الفكر؛ حيث تلتقي الكليات، وتنعدم الفوارق والأجزاء، وابن الرومي كان يجسِّم كل شيء ليراه بعيني الفنان في عالم الأنوار والأشكال والخطوط والحركات.
وربما خطرت للقارئ وساوس ابن الرومي وأوهامه وأسراره، فحسبه من أهل الباطن الذين ينظرون إلى الدنيا نظرة الروحانية، وقرب ما بينه وبين الفلاسفة المجرِّدين على هذا الاعتبار، فيجب علينا كذلك أن نبادر إلى القول بأن ابن الرومي كان نقيض أهل الباطن المتعمقين، كما كان نقيض الفلاسفة المجردين؛ لأن أهل الباطن يتجاوزون الظواهر إلى البواطن، ويحسبون الظواهر وهمًا أو كذبًا لا وجود له إلا في الحس المضلل المخدوع. أما ابن الرومي فكان يعكس الأمر، فيلبس الأسرار ثوب الظواهر، ويلحق عالم الخفاء بهذا العالم المجسم المحسوس، فالباطنيون ينفون الظواهر، ويثبتون الأسرار، وابن الرومي ينفي الأسرار ويُثبت الظواهر؛ وكان يلحي الناس لأنهم يغفلون عن نذير الخفاء ولا يتقونه كما يتقون نذير العيان؛ لأن الخفاء عنده إن هو إلا عيان يراه ويلمسه ويتجنبه ويلقاه.
لقد كان الرجل «جديد» الإحساس في شبابه وهرمه، فعالمه أبدًا عالم الطفولة الخالدة الذي يطالع صاحبه أبدًا ببهجة جديدة أو خوف جديد: طفولة خالدة، ولكنها مروَّعة لفرط ما ألح عليها من السقم والألم، فهي في هذه المأدبة الإلهية التي تُسمى بالدنيا، فاغرة الحس أبدًا لكل طارئ جديد من طوارئ الإغراء والترويع، طفولة لم تزدها السنون إلا إمعانًا في الطفولة، وإغراقًا في اللعب، وشوقًا إلى الحلوى، ورهبة من العصا، واحتيالًا على هذه الرهبة، فلن ترى في شعره كله قولة واحدة إلا هي قولة الطفل الكبير الذي يفهم أضعاف ما يفهم الكبار، ولكنه لا يحس إلا كما يحس الأطفال.
أيتكلم عن الصبر؟ أيتكلم عن العزلة؟ نعم ويتكلم عن الزهد والعفة والتقوى وعما شئت من الحكم والنصائح! وزد عليه أنه يتكلم عنها كلام النية والعقيدة لا كلام الخبث والرياء، ثم ما هو إلا أن تعروه بادرة واحدة من بوادر الفرح أو الحزن، وغواية واحدة من غوايات الربيع أو الخريف حتى تذهب جميع هذه الحكم والنصائح في الرياح، وينطلق الطفل الكبير مصفقًا للمتعة الجديدة، أو صارخًا من الألم الجديد؛ لأن الكلمة العليا في هذه «الفلسفة» للإحساس الطارئ، لا للفكر السابق أو الإحساس القديم.
أتسميها إذن فلسفة «أبيقورية» تنشد اللذة أينما كانت، وتهرب من الأمل أينما كان؟ إن كنت تسمي الطفل الذي يتهافت على الحلوى ويجفل من العصا «أبيقوريًّا»، فلك أن تعد ابن الرومي في جماعة الأبيقوريين، ولكن الأبيقورية — في رأيي — ليست «جدة» الإحساس المتفزز للمسرات والآلام، وإنما هي فتور الإحساس واستكانة الشيخوخة إلى ما يريح، ونفورها مما يزعج ويثير، وهي في معناها الشائع نقص في الإحساس، وليست بزيادة فيه، وإلا فهل تظن أبا نواس شعر بلذعة الألم أو بنضرة السرور قط؟ هذا هو الأبيقوري في الأبيقوريين، وهو كما تعلم واحد من أولئك المترفين الذين يطلبون اللذة ويشفقون من الألم؛ لأنهم فاترون فارغون، لا لأنهم مرهفو الحس مفعمون بالحياة.
أما ابن الرومي فكان يألم ويسر؛ لأن حياته هي الألم والسرور؛ أو لأنه لا بد له من أن يحس، ولا بد للإحساس من أن يكون بعض الألم وبعض السرور، وليس في وسعك أن تعطله من الإحساس بهذا أو بذاك، إلا إذا عطلته من الحياة، وليس في وسعه هو أن يطلب اللذة باختياره، أو يجتنب الألم باختياره؛ لأن الجدول الرقراق لا يطلب الصفاء، ولا يجتنب الكدر، وإنما يصفو ويكدر لأنه ماء، ولن يكون إلا من الماء.
فعالم ابن الرومي هو عالم الطفولة الخالدة لا عالم الشيخوخة الوادعة أو عالم «الأبيقوريين».
والطفولة الخالدة هي الإحساس الجديد بالألم، والإحساس الجديد بالسرور، ولقد دام له هذا الإحساس الجديد كأحسن ما يدوم بعد فقد الشباب، ولكنه لفرط طمعه في الحياة كان لا يقنع إلا بأن يجمع بين «بشاشة الأوطار» وقدرة الشباب؟