حاشية
بدأت في تأليف هذا الكتاب عقب فراري من بعثة المشتريات السوفيتية مباشرةً، وواصلت العمل فيه شهرًا بعد شهر في أقسى ظروف الاضطهاد والتهديد الموجه إلى حياتي، وكنت في أثناء العمل دائم الانتقال من مدينة إلى مدينة، ومن فندق إلى فندق، ومن مسكن إلى مسكن، أتسمى بأسماء مستعارة، وأنتسب إلى أمم مختلفة، وأنشد «السلامة» أحيانًا في بيوت الأمريكيين أو في بيوت مواطنيَّ الروس، وأرى حقًّا عليَّ أن أعبر عن شكري الخالص لكل من عطف علي وأمدني بمعونته الأدبية.
ولو أن عملاء السوفيت قد أمسكوا بتلابيبي في خلال تلك الفترة «لمحوا» أثري من الوجود، أو لفعلوا بي ما هو شر من هذا، فبعثوا بي إلى الاتحاد السوفيتي «لأحاسَب» على ما جَنَتْه يداي، ولكن كان من حسن حظي أن شيئًا من هذا لم يحدث، ومن ثم أصبحت الآن — ولأول مرة في حياتي — أشعر أني حر طليق أستطيع الدفاع عن بلدي وعن شعبي وعن نفسي.
وكانت الحرب لا تزال دائرة الرحى حين غادرت بعثة المشتريات؛ ولذلك كانت الضرورة الملحَّة القاضية بالتعاون العسكري بين الديمقراطيات الغربية ودولة الاتحاد السوفيتي الطغيانية تفرض عليَّ أشد القيود، ولقد قبلت هذه القيود عن رضا وطيب خاطر؛ لأن الحاجة إلى النصر المشترك كانت مفضلة لديَّ على كل شيء سواها، أما الآن وقد انتهت الحرب بنصرنا، فإني أرى من الواجب المفروض عليَّ أن أتحدث لأكشف عن كل شيء ولأكشف عنه بأعظم ما أستطيع من الصراحة والقوة، ومن أجل ذلك وضعت هذا الكتاب.
وثمة سبب آخر يحتم عليَّ أن أفصح عما في نفسي؛ ذلك أن كثيرًا من الشعوب والأمم قد أخذت منذ نهاية الحرب «تنحرف نحو اليسار» بعضها طائعة تفعل ذلك بملء حريتها وبعضها مكرهة تفعله تحت تأثير الضغط الخارجي، ولو أنه كان من المستطاع أن يتم هذا دون أن يحدث فيه ما حدث في المرحلة الأولى من مراحل الانقلاب في الروسيا، وأن يكون صورة كاملة من الشيوعية الطغيانية القائمة في الكرملن، لو كان هذا مستطاعًا لناديت بترك المقادير تجري في أعنتها، ولكن أشد ما يؤسف له أن الانقلابات التي جرت في جزء كبير من بلاد العالم المتمدين، حيث استطاعت القوة السوفيتية والمبادئ السوفيتية أن تتخذ طريقها، قد أيدت مخاوفنا، فحدث فيها مثل ما حدث في المرحلة الأولى من مراحل الانقلاب السوفيتي وسادت فيها النظم السوفيتية في صورتها النهائية.
إن الدولة البوليسية تقبض بيد من حديد على أبناء وطني، فلا يستطيعون أن يسمعوا العالم صوتهم ليفصحوا له عن آرائهم وآمالهم وشقائهم؛ ولهذا أشعر أني إذا استطعت أن أكشف للبلاد الديمقراطية وحكوماتها عن حقيقة الطغيان القائم في الكرملن، فإني بالقدر الذي أكشف عنه من هذا الطغيان أعمل ولو قليلًا على تحذير العالم من ضروب الخداع والأوهام؛ ذلك أن أهم ما نحتاجه لبناء عالم خير من عالمنا الحاضر أن يسود التفاهم المتبادل، وتقوى أواصر المودة والصداقة بين شعوب الأرض لا بين حكوماتها فحسب.
وليس الطغيان الشيوعي القائم في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية مشكلة مقصورة على الشعب الروسي وحده، ولا على الشعوب الديمقراطية وحدها، بل هي مشكلة الإنسانية بقضها وقضيضها، إذ ليس في مقدور العالم أن يظل أبد الدهر غير عابئ بما يعانيه من ألوان العذاب قسم كبير من بني الإنسان، منتشر على سدس سطح الكرة الأرضية، إن هذا القسم تحكمه زمرة متألهة من الزعماء تعتمد على هيئة سياسية عليا من رجال الحزب البلشفي، وعلى شرطة سرية ضخمة مهولة، وليس لمئات الملايين من الآدميين الذين يسكنون في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية رأي مسموع في تقرير مصيرهم، وهم مقطوعو الصلة بشعوب البلاد الأخرى وبمجرى تفكيرهم.
ويعمل زعماء الكرملن وأعوانهم المقيمون في خارج بلادهم جادين ليحملوا سائر شعوب العالم على الاعتقاد بأن النظام السوفيتي ضرب من الحرية وبأن الديمقراطية الحقة ليست هي الديمقراطيات «العتيقة البالية» بل هي ديمقراطية النظام السوفيتي نفسه.
ولا حاجة بي إلى القول بأني كتبت هذا الكتاب بلغتي الروسية، فكان لا بد إذن من ترجمته، وأن النص الإنجليزي قد روجع فيه ما يتصل بأمريكا قبل صدوره بالإنجليزية، ولكني اشترطت في هذه المراجعة أن يكون جميع ما فيه من الحقائق والحوادث والتجارب الشخصية والحادثات السياسية والوصف التصويري والخصائص الفردية؛ أن تكون هذه كلها بجميع دقائقها وتفاصيلها هي بعينها التي وردت في المخطوط الروسي، هذا إلى أني قد راجعت النص الأخير من الكتاب بنفسي بعد أن تمَّت ترجمته وأشرفت على طبعه.
ولقد حاولت أن يكون الكتاب على نمط سيرة شخصية، ومن أجل هذا كان لا بد لي أن أغفل فيه قسمًا كبيرًا من المعلومات المتصلة بالنظم السياسية والإدارية والشرطية المعقدة، وبالمشاكل الخاصة بالدولة السوفيتية، وفي عزمي أن أنشر ذلك كله وغيره من الشئون المتصلة به فيما بعد.
ولقد اضطررت أحيانًا إلى تغيير أسماء بعض الأشخاص وإخفاء أسماء بعض الأمكنة، وتحوير بعض الظروف؛ لكي أحمي بعض الأشخاص الذين لم يرتكبوا ذنبًا من بطش الدولة السوفيتية وانتقامها، ولكني حين لجأت إلى هذا العمل الذي حتمته عليَّ الظروف القاهرة، قد التزمت الصدق التام في رواية الحوادث ذاتها ولم أُخِل قط بما لهذه الحوادث من أهمية في القصة.
وختامًا أهدي هذا الكتاب إلى أبناء الروسيا وأنا واحد منهم، وأهديه إلى ذكرى الملايين الذين قضوا وهم يجاهدون للتخلص من الاستبداد السوفيتي، وإلى الملايين من الأبرياء الذين يقضون زهرة العمر في سجون الكرملن وفي معسكرات السخرة التي يخطئها الحصر، وإلى ذكرى الملايين من مواطنيَّ الذين ضحوا بحياتهم دفاعًا عن أرض الآباء والأجداد وهم يحلمون بأنهم يهيئون لأبناء وطنهم مستقبلًا مجيدًا خيرًا من حاضرهم.
وأُهْدِي هذا الكتاب أخيرًا إلى الشعوب الراقية المتحضرة ذات النزعة العقلية الاجتماعية التي تؤيدنا في الجهاد لإقامة صرح روسيا الديمقراطية التي لا يرجى للعالم سلام دائم بغير قيامها.
نيويورك في ١١ فبراير سنة ١٩٤٦م