أول ما رأيت من حركة التطهير
لم يكن يسيرًا عليَّ أن أوائم بين نفسي وبين مجرى الحياة المألوفة بعد عودتي من أقاليم المجاعة، فالفصول الدراسية في المعهد، والمؤتمرات التي تُعْقَد في المصنع، والاجتماعات المركزية بل ومكرورات الحياة اليومية في المنزل، كل هذه بدت لعيني تافهة بالقياس إلى ما عدت به من ذكريات، لقد كنت ثائرًا قلقًا، وحاول أبي أن يسترويني قصة كاملة عما شهدته، لكنه حاول عبثًا فأمسك، وسرعان ما تنمو عند الشيوعيين مناعة تحول بينهم وبين التأثر بما تردده الصحف والمذياع والاجتماعات من ألوان اللجاجة الجوفاء، أما أنا فقد عدت من ثورة النفس بحيث كانت هذه الأشياء تحرك في صدري شجنًا أوشك أن تكون له لذعة الألم ينزل بالبدن.
وإذ أعود الآن بالذاكرة إلى ذلك العهد، أراني أمْيَل إلى العقيدة بأني إذ ذاك كنت قد بدأت في طوية نفسي وثنايا ضميري، أن أعتزل الحزب، فالمفازع التي شهدتها في الريف تركت في نفسي جروحًا هيهات أن تندمل، ومع ذلك، فلهذا السبب عينه أخذ عقلي الواعي يتلمس تلمس اليائس طريقًا يهادن به ضميري، وما أحسب أن قد كان أمامي طريق آخر، في ظروف تحتِّم عليك إذا أردت أن تعيش، أن تذعن للأمر الواقع الذي لم يكن منه مهرب لهارب.
ومع ذلك فلم يكن في مقدور إنسان أن «يترك» الحزب حين يشاء، بل لم يكن في مقدور إنسان أن يتراخى في نشاطه إزاء الحزب أو أن يبدي من الأمارات ما ينم عن ضعف إيمانه فيه، فإذا ما التحق إنسان بالحزب فقد وقع في الفخ إلى الأبد، نعم يجوز للحزب أن يطرده، ويكون معنى ذلك أن تنزل به الكوارث، لكن ليس في وسعه هو أن يتنحَّى منشقًّا عليه، فلو كنت أظهرت ما يدور في صدري من عواطف على حقيقتها؛ لكانت النتيجة إبعادي عن المدرسة ووصمي بالعار وتعقبي بألوان الاضطهاد، بل ربما كانت النتيجة المحتومة أن يُزَجَّ بي في معسكرات الاعتقال أو ما هو شر من ذلك وبالًا.
كان لزامًا عليَّ أن أكتم عواطفي بين جوانحي، كان لزامًا عليَّ أن أدسها دسًّا في أعماق فؤادي، هذا إلى ما بذلته جاهدًا أن أستعيد للحزب ولائي، فلئن كان ذلك ضرورة في الظروف المعتادة، فقد كان عندئذٍ أشد ضرورة؛ لأن حركة التطهير قد نشرت قلاعها للريح.
عُيِّنَت مئات من لجان التطهير، ولم يكن ليمضي طويل وقت قبل أن تعقد تلك اللجان اجتماعاتها العلنية في المصانع والمكاتب ودور الحكومة والمعاهد، وكان على كل شيوعي في البلاد أن يذعن لما يطالَب به من محاكمة واعتراف، واشتد شعورنا عندئذٍ بأننا محاطون من كل جانب بالعيون الرواصد والآذان المنصتة، تلك العيون والآذان التي تخفى عن النظر لكنك تحس وجودها في كل مكان، وكذلك اشتد شعورنا بالأضابير الضخمة التي سُجِّلَت في أوراقها دخائل حياتنا الخاصة ومكنون أفكارنا، وبأعدائنا الذين قد ينتهزون مثل هذه الفرصة فيبرزوا ما لنا من سقطات، ما هو حقيقي منها وما هو من نسج الخيال.
كان السؤال الذي يسبق إلى ذهني وإلى ذهن كل شيوعي إذ ذاك هو هذا: ترى هل تمضي عني موجة هذه المحنة سالمًا؟ هذا سؤال رنَّ صداه في كل وجه من وجوه نشاطنا، وفي كل عبارة من أحاديثنا، لم نعد ندبِّر للمستقبل سبيلًا، فلا مستقبل هناك إلا إذا اجتزنا في سلام تلك العقبة الكأداء.
كنت ترى في كل طابق من طوابق معهد سبك المعادن صندوقًا خاصًّا أُعِدَّ لتلقى به «الإقرارات» عن الشيوعيين، ممهورة بتوقيع مرسلها أو غفلًا من التوقيع، وواصل أعضاء «القسم الخاص» خلف بابهم الحديدي ليلهم بنهارهم يرتبون تلك الشكاوى ويبوبونها ويقارنونها بعضها ببعض، فوقت التطهير هو الموسم الذي يتيح لكل إنسان أن يتصيد من يكنُّ له ضغينة، هو الموسم الذي يفسح المجال للحاسدين والناقمين والمرائين.
كانت كل لجنة من لجان التطهير تتألف عادة من عضوين أو ثلاثة أعضاء وعليهم رئيس، كلهم من رجال الحزب الذين لا تشوب ولاءهم شائبة، ومثل هذه اللجنة تكون بمثابة المحكمة، لها حق الاتهام وحق القضاء في آن معًا، وكان رئيس اللجنة التي عُقِدَت في المعهد رجلًا اسمه الرفيق «جالمبو»، وهو رجل ارتفع فيما بعد إلى منصب وزير الشعب لصناعة سبك الحديد.
فإذا ما تبين لإحدى اللجان عن أحد أنه معيب سحبت منه تذكرة الحزب وأصبح عضوًا سابقًا، وهو أمر يختلف كل الاختلاف عن كونه لا ينتمي إلى الحزب عضوًا من أعضائه، فمن يُنْعَت بأنه عضو سابق فهو طريد لن يكون أهلًا للثقة حتى ختام حياته، ولا سبيل أمامه للرقي، وإذا ما حَزَبَ البلاد أمر، عُدَّ هذا العضو السابق خطرًا على الشعب، إن أفظع ما ينزل بعضو الحزب من نكبات هو أن يطرده الحزب من عضويته؛ لأن ذلك يجعل منه مجذومًا سياسيًّا يجتنبه الأصدقاء السابقون وينكره الأقرباء الذليلون، وإذا ما التقيت به عرضت نفسك لخطر سياسي وهو أن توضع في القائمة السوداء.
إذن فقد كان هناك من الأسباب ما يكفي لتبرير هزة الخوف التي ارتجف بها المعهد كله حين اقتربت منه موجة التطهير، وكان ذلك حين دنا عام ١٩٣٣م من ختامه، وإنه لخوف كانت به مسحة من هوس، فالصحف تنشر القوائم بمن جاء دورهم في التطهير وأين ينتظر أن تقع عليهم الواقعة، ولكل إنسان أراد الوقيعة بمن دنا دوره أن يرسل اتهامًا إلى لجنة التحقيق فيضاف إلى ما جمعه الحزب فعلًا في ملفاته وفي «ملفات» الشرطة السياسية، ولئن كان من الطبع الإنساني أن تغتبط إذا ما نزلت النوازل بجيرانك الذين يعلونك مقامًا أو يسبقونك في الحياة نجاحًا، فلقد زادت الآن هذه الحركة التطهيرية تلك الميول الفطرية شدة وسعيرًا.
وبالطبع كان الشرط الأول لاحتفاظك بعضوية الحزب هو أن تكنَّ للقادة ولاءً لا ذبذبة فيه، وأن يكون ولاؤك ناصعًا لا تشوبه شائبة ﻟ «ستالين» بوجه خاص، وإنه ليكفي أن يقول عنك فلان عن فلان عن فلان تلميحًا خفيفًا يفيد «انحرافك» عن جادة الولاء الخالص، لكي تورَد موارد الهلاك، بل إن أخص خصائص الحياة الداخلية لمن وقع عليه التطهير، وما يدور في رأسه من خواطر في كل الشئون كائنة ما كانت، استُهْدِفَ لهجمات الناس علانية دون أن يروا في ذلك ما يعاب، وكانت إجراءات التحقيق تحتوي على أفظع الفظائع التي عُرِفَت في حمل المتهم على الاعتراف، وفي جعله عرضة لشهادة الزور وفريسة لألوان التعذيب على أيدي الشيوعيين، أما الفريسة القنيصة فقد كانت ترى وقت المحاكمة محنة رهيبة، وأما النظارة فكانوا في أغلب الأحيان كأنما يشاهدون مسرحًا لترويض الوحوش، وكان حضور هذه المحاكمات خلال أسابيع التطهير كلها إلزامًا محتومًا على كل من ينتمي للحزب، وأما مَنْ ليسوا في الحزب أعضاء من غمار الشعب فيغرونهم بالحضور بشتى وسائل التشجيع.
ولم يكن أحد من الشيوعيين لِيُخْطَر قبل محاكمته بالتهم التي يكون في النية توجيهها إليه، فكانت هذه القلقلة أشد ما يحرج الصدر من عناصر المأساة، إذ كان عليك أن تتحسس طريقك في الظلام لتكون على أهبة لما عسى أن يفجأك من مباغتات، فتستعرض ماضيك مرة بعد مرة متسائلًا: ترى من أين يأتي الخطر؟
ألم يحدث مرة أنك أفرطت في الحديث ذات مساءً منذ ثلاثة أعوام مدفوعًا في حديثك بما بعثته روح الزمالة في نفسك من طمأنينة؟ قد يكون واحد من هؤلاء الزملاء الذين ركنت إلى حسن طويتهم وشى بك منبئًا بما أفرطت به من ملاحظات. إن أحد أعمامك كان ضابطًا في عهد القياصرة، نعم قد لا تكون التقيت به أبدًا، ولكن ماذا لو حدث أن أحدًا استخرج هذا الشبح من مكمنه وإذا أنت متهم «بإخفائه» عن الحزب، إن امرأة كنت أحببتها قُبِضَ عليها بعد حبك إياها بتهمة الانحراف نحو اليمين؟ ماذا لو فوجئت بتهمة يقذفونك بها قذفًا لعلاقة نشأت بينك وبين من يعادي النظام الاجتماعي؟ إن «بافلوف» ينتظر له الإبعاد من الحزب، فكيف أنسلخ عنه قبل أن يجرني معه إلى مهوى الدمار؟ انج بجلدك على أي نحو ومهما تكن الظروف؛ لأنك ها هنا إنما تخاطر بالحياة نفسها.
بدأ التطهير في معهدنا بصورة رسمية بخطبة طويلة مملَّة ألقاها الرئيس «جالمبو»، قال: «إن حزبنا العزيز قد امتلأت شعابه «بعناصر غريبة» وأعداء متلونين ووصوليين ومنشقين مقنعين وأفراد يقاومون نظامنا الاجتماعي مقاومة حقيقية، وواجبنا أن نخرجهم من بين صفوفنا فننتزع أقنعتهم من على وجوههم ونعرض خبثهم في ضوء النهار، إن البلاد قد فرغت لتوها من تأميم المزارع ومحو المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وقد ختمت مشروع السنوات الخمس الأول وحالفها فيه التوفيق، وها هي ذي تبدأ مشروعًا آخر لسنوات خمس أُخَر، فهؤلاء الذين يداخلهم الريب في أننا نسير في طريق قويم مؤدٍّ إلى الاشتراكية الكاملة والحياة السعيدة هم أنجاس عقدوا الخناصر مع أعداء البلاد، فلا بد من اقتلاعهم من جذورهم ليسلم الحزب وزعيمه الأكبر وأبوه الرفيق ستالين المحبوب!»
وكان كلما ذكر اسم الزعيم؛ دوَّى المكان بالتصفيق لبضع دقائق يسودها قلق في النفوس.
وأخيرًا دارت عجلة التطهير دورتها، وهاك وصفًا للإجراء الذي اتُّبِع: يجلس أعضاء اللجنة خلف منضدة ملفوفة بغطاء أحمر، وفوق منصة تزينها صور الزعماء كما تزينها عبارات مما تجري به الألسنة دفاعًا عن الحزب، وفي أبرز مكان يوضع تمثال نصفي لستالين، تزخرفه عقود من الزهر، فإذا ما بُدِئ في محاكمة شيوعي، نودي إلى المنصة، حتى إذا ما بلغها سلم تذكرة الحزب التي معه، وأخذ يقص قصة حياته، فتجيء القصة بمثابة التقرير السياسي والاعتراف الروحي؛ لأنه كان يدلي بمختصر عن أصله ونشأته وسيرته واهتماماته، ويعترف خلال ذلك بما اقترف من خطايا وأشباه الخطايا، وما زلَّ فيه من عثرات، وإنه لمن الخير لك أن تنبئ بنفسك عن أخطائك، لو شككت في أن اللجنة قد يكون لها علم بها، «فإخفاء» شيء كائنًا ما كان عن الحزب يضاعف من وزر الجريمة التي أخفيتها.
فإذا ما فرغ المتهم من اعترافاته، أخذ أعضاء اللجنة ومن شاء من النظارة يوجهون إليه الأسئلة، فيذكرونه بما قد أهمل ذكره في روايته، ويوقعونه في أقوال ينقض بعضها بعضًا، وكان لمن شاء من الرفقاء أن يتكلم في صالحه أو في غير صالحه، فإذا كانت اللجنة تميل إلى جانبه، جاءت المحاكمة قصيرة في العادة وصورية لا جدَّ فيها، أما إذا أحس النظارة أن المتهم لا يتمتع من اللجنة بالرضى، أو أنه منها على السفُّود، فإنهم يثبون عليه وثبًا، ويدقونه بأقدامهم دقًّا بغير رحمة، وخصوصًا أصدقاءه والمتصلين به، فهؤلاء يأخذهم الخوف على أنفسهم ويسارعون إلى رشقه بألفاظ غلاظ مع الراشقين؛ حماية لأنفسهم من الأذى، وقد تدوم المحنة نصف ساعة، وقد تطول مساءً بأسره، وأحيانًا يستطيع المتهم أن يردَّ عدوانًا بعدوان، وأن يناقش ويدلي ببرهان براءته، ويبكي ولكنه أحيانًا أخرى ينعقد لسانه من شدة الهجوم فيظل في صمت رهيب.
أما من اجتاز التطهير آمنًا فترد له تذكرة الحزب ويهنئه الأصدقاء الذين انزاح عن صدورهم هم ببراءته عبء فادح، وكانت اللجنة أحيانًا تؤجل حكمها حتى تزداد للقضية بحثًا، وأما من انتهت محاكمتهم بالطرد من الحزب فيُهْمَلون ويجتنبهم الناس، فتراهم يقفون في عزلة يتلفتون حولهم في حيرة فلا يرون أمامهم إلا عالمًا تحطمت قوائمه، ثم ينسلُّون خارج القاعة يملؤهم الشعور بأنهم طريدو القانون منبوذون، وما أكثر ما كان هؤلاء المطرودون يزهقون أرواحهم بأيديهم.
أمثال هذه اللجان التطهيرية لم يخلُ منها موضع من بلاد السوفيت على رحبها، ريفها والمدن، وكانت الصحف والمذياع تذيع مقتطفات من هذه المعارض الصاخبة، وكانوا يصفون هذه الحركة في جملتها بأنها «ديمقراطية حزبية»، لكني إذ كنت جالسًا في قاعة المحاضرة في المعهد، أخذني شعور عجيب بأن هذا الذي أرى إن هو إلا جزء صغير من مسرحية كبرى يمثل فيها ملايين الرجال والنساء، ومسرحها هو سدس اليابس على هذا الكوكب الأرضي.
أخذ اضطرابي العصبي يزداد رويدًا رويدًا، إذ كنت أنتظر في قلق دوري على المسرح.
صاح الرئيس جالمبو: «الرفيق سانين، من فضلك.» فتقدم إلى المنصة بخطوات سريعة رجل أشقر الشعر، تقع سنه بين الثلاثين والأربعين، وسلَّم تذكرته. كان نحيلًا وسيم المحيا يلبس منظارًا، كلنا نعرفه ونحبه، هو محاضر في الرياضة، محبوب لقليل من الضعف فيه، ولأنه لا يغالي في الدقة، وأخذ يروي قصة حياته، فهو ابن فلاح، بدأ سيرته في الشيوعية بالتحاقه عضوًا في هيئة الشباب الشيوعي، واستهلَّ حياته المهنية عاملًا بسيطًا يعمل على المخرطة في أحد المصانع، ثم التحق بالمعهد وقام فيه ببحث، وانتهى أمره إلى التدريس.
كانت سيرة حياته التي رواها كأنما هي المثال يُحْتَذَى، وأخذ السأم يدب في نفوس النظارة مما يسمعون، لولا أن قوطعت هذه السيرة النقية بسؤال وجَّهه عضو في اللجنة.
قال في صوت خافت: «أيها الرفيق سانين، هل حدث مرة أن وقعت برنامجًا يقوم على أساس مذهب تروتسكي مع طلاب آخرين أيام دراستك؟»
هنا حدثت حركة بين النظارة وأخذ الناس يتهامسون ويتبادلون النظرات.
– «نعم، لقد فعلت، لكني عدت فتبرأت منه منذ أمد طويل، وكل الناس يعرفون موقفي منه.»
فقال عضو اللجنة في إصرار: «إذن فقد وقَّعت ذلك البرنامج ولست بمنكر هذا؟»
– «بالطبع لا أنكر ذلك، فلم أكتم ذلك سرًّا عن الناس، إن كل زملائي ليعلمون، وإن الحزب ليعلم، أنني زللت في هذا الخطأ، وأنني اعترفت به فيما بعد.»
– «قد يكون ذلك أيها الرفيق سانين، ومع ذلك فإني لا أزال أتساءل إذا كنا قد عرفنا عنك كل شيء، إني لأتساءل هل يعلمون عنك أنك لا تزال تدين بمبادئ ينكرها الحزب ويبرأ منها الشعب السوفيتي؟»
ازداد اهتمام الناس في القاعة على نحو ملحوظ، كأنما شم الجمهور رائحة الدماء، وأخذ الهم يستولي على مَن كانوا مع «سانين» صحبة منذ دقائق، وجعلوا يرشقونه بالأسئلة صديقًا في إثر صديق، ولم تخفَ غايتهم من ذلك، فقد أرادوا أن «يوقعوه» بأسئلتهم لعلهم بذلك ينقذون رقابهم، وكلما ازداد الزميل به صلة، ازداد حماسة في محاولة إدانته، حتى يبين للناس أنه لم يكن يسايره في شنيع «جرائمه»، ولأنهم يعرفون منه أوجه النقص والضعف، أخذوا يتلاعبون به حتى ارتبك ولم يعد قادرًا على أن يقول دائمًا ما يريد حقًّا أن يقول.
قال في دفاعه عن نفسه: «أيها الرفاق أعضاء اللجنة، لقد أعلنت منذ أمد طويل براءتي مما كنت قد زللت فيه، إنني لم أؤيد أنصار «تروتسكي» قط تأييدًا ذا خطر، فلم أساهم أبدًا في هيئتهم، ولم يحدث إلا مرة واحدة في لحظة من لحظات الضعف، أني أُغْرِيت بتوقيع ورقة، ثم لم ألبث أن أعلنت براءتي منها، إن هؤلاء الناس الذين يتهمونني ليعلمون عني هذا علم اليقين، ولست أدري لماذا يقلبون الحقيقة فيما يقولون …»
لكن الرئيس لم يمهله حتى يتم حديثه، وكان في صوته سخرية ظاهرة.
قال: «لا عليك، لا عليك، إننا نعلم علم اليقين كيف تتلونون أيها التروتسكيون يا أعداء الحزب، إن لدينا من الحقائق ما يثبت أنك لم تتغير في باطنك، وليس مما يخلو من المغزى أن يثير أخلص خلصائك حولك الشكوك.» ثم توجه إلى النظارة وقال: «من يريد الكلام؟»
لم يعد إلى الشك إلا سبيل ضئيل في أن ما يصيب «سانين» أصبح قضاءً محتومًا، فأما وقد انتهى فيه الرجاء فقد تدافع أصدقاؤه ليركلوه ويدفعوه من ذروته إلى الهاوية، كنت تراهم ينهضون في أماكنهم ليقولوا: إن «سانين» مخادع، يظهر الولاء للحزب ويبطن انشقاقًا خبيثًا، ولا تسمع منهم أحدًا يخصص الاتهام بنقط معينة، بل هم يلقون الاتهام جزافًا في عبارات محفوظة، وظلوا كذلك حتى وقع ما لم يكن في الحسبان، فكأنما أحدث بوقوعه هزة كهربائية؛ وذلك أن مهندسًا يعرفه المعهد كله ويجله المعهد كله، طلب الكلام.
بدأ يقول: «لقد كنت أصغي في انتباه إلى كل ما قيل في هذا المكان، فلم أسمع نقطة واحدة في صميم الموضوع حقًّا، أيها الرفاق، إننا الآن نقضي في أمر عضو من أعضاء الحزب، فسنحكم عليه بحياة أو موت من الوجهة السياسية، أين التهم المحددة التي وُجِّهَت إليه؟ لم أسمع منها شيئًا!»
فلم يقع هذا الدفاع إلا موقع المزيد من الوقود يُلْقَى به في النار، فقد احتدت العواطف، وأمعن زملاء «سانين» في وصمه بما يشين وفي قذفه بألوان السباب، شجعهم على ذلك أعضاء اللجنة الذين كانوا بغير شك قد اتخذوا قرارهم في شأن «سانين» قبل انعقادهم، وقُضِيَ الأمر وطُرِدَ الرجل من الحزب.
وما هو إلا أن بدأنا نسمع طالبًا يقص قصة حياته، كان أسود الشعر كثيفه، فيه الملامح السامية، وهو شاب سيرة حياته قصيرة، فلم تلبث المحكمة أن انتقلت به إلى مرحلة الاستجواب.
– «قل لي، أيها الرفيق شلمان، ماذا كانت منزلة أبويك من المجتمع قبل الثورة؟»
– «كان أبي خياطًا، وكانت أمي زوجة تدير دارها فحسب.»
هنا صاح أحد النظارة قائلًا: «إنه كاذب.»
وهنا سَرَت في الحضور هزة عصبية، وبدا أن جلسة المحكمة هذه المرة ستكون ممتعة بعد ما أحس به النظارة من سأم، فالمتهم «شلمان» من ذلك الطراز المكتئب الغارق في كتبه، ليس له من الأصدقاء إلا نفر قليل.
توجَّه «جالمبو» بالكلام إلى الرجل الذي صاح من النظارة، وكان واضحًا أن صيحة الرجل لم تكن مفاجأة للجنة، قال جالمبو: «كيف تستطيع أن تقيم البرهان على أن عضو الحزب الذي نحن بصدد اتهامه، قد خدع اللجنة والحزب جميعًا؟»
– «برهان ذلك يسير، ﻓ «شلمان» وأنا من مدينة واحدة هي «شركاسي»، وقد التحقت منذ أمد قصير بالمعهد فكان لي بذلك أن شهدت «شلمان» لأول مرة، لكنني أعرف أسرته وأعرف أن أباه كان صاحب دكان للخياطة، وأنه كان يستخدم عددًا من العمال، فكان بذلك ممن يستغلون الأيدي العاملة، وكان دكانه في شارع ألكساندروفسكي، أنا أزعم لكم ذلك وأعلم صدق ما أنا زاعمه، ﻓ «شلمان» — باعتباره ابنًا لرجل استغل الأيدي العاملة — يجب طرده من حزبنا المحبوب.»
اصفرَّ وجه المتهم وأخذ في اضطرابه العصبي يطقطق أصابعه، فقد دارت عليه دوائر الحوادث على نحو لم يتوقعه، وأوشك ألا تكون له القدرة على ترتيب ألفاظه.
نقر الرئيس على المنضدة يأمر بحفظ النظام، وسأل المتهم متجهمًا: «هل أنت من شركاسي؟»
– «نعم، هذا صحيح، وقد ذكرت ذلك.»
– «هل كان لأبيك دكان للخياطة في العنوان المذكور؟»
– نعم هذا صحيح، لكنه لم يستغل أحدًا، كان سائر العمال بمثابة الأعضاء في شركة وأبي رئيسهم، إني أقسم لكم أيها الرفاق إن الأمر كان تعاونًا اقتصاديًّا بينهم، أضف إلى ذلك ألا شأن لي بالأمر إطلاقًا، فأنا قد اشتغلت عاملًا في مصنع في مدينة أخرى.»
– «ألم يكن هو أباك؟»
– «يقينًا، يقينًا، إنه أبي.»
– «إذن فقد أخفيت عن المحكمة أنك سليل أسرة من المستغلين.»
– «أنا لا أخفي شيئًا، كان الأمر شركة تعاونية اقتصادية، وعن نفسي أنا فقد اشتغلت في مصنع، وصحيفتي باعتباري عضوًا في الحزب وباعتباري طالب علم لا عيب فيها.»
كانت الطريقة التي يتحدث بها في غير صالحه؛ لأنه كلما ازداد اضطرابًا ازدادت نبرته اليهودية وضوحًا وبروزًا، وطافت بالقاعة موجة خفيفة من الضحك، ثم أخذنا نسمع صيحات، فواحد يصيح «أخرجوه» وآخر يصيح «اطردوه إنه خدع الحزب!» وغادر «شلمان» المنصة فتعثر؛ لأن عَبَرَاته قد أعمت ناظريه، ولم يكن يخفى على أحد أنه سيُطْرَد من المعهد وأن مستقبله قد انهدم.
وجاء بعد ذلك عدد من المتهمين جرت محاكمتهم على صورة مكرورة مألوفة، ثم رُدَّت لهم تذاكر عضويتهم، وبعدئذٍ جاء دور الرفيق «تسارف» فكان محط الأنظار، لقد كان في نحو الأربعين لكنه لم يزل طالبًا، وكانت جبهته وصدغاه قد تغضنت بفجوات عميقة، وكنت ترى في حركاته سرعة وعسكرية، ثم سرعان ما كشف اعترافه عن خدمته بالجيش أعوامًا عدة، وأنه ساهم بنصيب موفور في الحرب الأهلية، ثم ينتهي أمره إلى أن يكون موظفًا في مصنع، وبعد ذلك بعامين اجتاز مرحلة الدراسة الثانوية في المعهد، وقال إنه متزوج ذو طفلين.
سأل الرئيس: «قل لي أيها الرفيق «تسارف» ماذا ارتأيت في نظام المزارع الجماعية، أي موقف اتخذته حيالها على وجه الدقة؟»
– «أي رفيقي، لقد اشتغلت في القرى وعاونت في حل طائفة المالكين الزراعيين باعتبارهم طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، وإني لأعترف أنني وجدت من الإجراءات ما أحدث في نفسي حيرة وضيقًا، لكني كنت راضيًا عن الحركة من حيث المبدأ.»
– «الظاهر أنك لم تفهم سؤالي، أيها الرفيق «تسارف»، أو ربما آثرت لنفسك ألا تفهمه، فلست الوحيد الذي أحس حيال هذا المشروع العظيم ضيقًا، لكنني أحب أن أعرف استجابتك للمشروع من وجهة النظر السياسية.»
– «لم أقف إزاء الحزب موقف المعارض قط.»
فلوح عضو اللجنة ببضع أوراق في يده الله أعلم ماذا تكون، وقال: «ليس ما تقول صوابًا لسوء الطالع، فلدينا ها هنا من الحقائق ما يثبت أنك إبان تسريح المالكين الزراعيين بَدَرَت منك إشارة استحسان لما كان قرره «بخارين» من أوجه النقد للرفيق «ستالين»، أيها الرفيقان «كاساريك» و«سوموف» تقدَّما وأيِّدا أمام اللجنة ما قررتماه في هذا الشأن.»
كان كثير منا يعرف هذين الطالبين، فهما ممن يدرسون قليلًا ويتكلمون كثيرًا، وها هما يتقدمان إلى صدر القاعة ويعيدان من الذاكرة ما حفظاه من اتهام مؤداه أنهما حين كانا في الريف مع «تسارف» سمعاه يتحدث بلسان النقد عن سياسة المزارع الجماعية على وجه الإجمال، وهما يسوقان مقتطفات بنصها مما يزعمان أنه كلام المتهم، وكنت ترى «تسارف» يحاول المقاطعة، لكن محاولاته كلها في هذا السبيل ذهبت هباءً، ولم يك ثمة سبيل إلى الشك في أن قضيته خاسرة.
هنا تصبَّب العرق البارد من جبيني، فالسلوك الذي سلكه «تسارف» في الريف، بل وألفاظه بنصها، تذكرني بما سلكت وما نطقت.
واتجه الرئيس نحوه قائلًا: «تسارف، ألا تزال تنفي عن نفسك الخروج على مبادئ الحزب؟»
– «نعم، وإنهم ليبالغون، أضف إلى ذلك أن النقد ليس بالضرورة خروجًا على الحزب، فلست إلا إنسانًا من البشر، وقد كان حولي من صنوف الألم ألوان وأشكال.»
فصاح «جالمبو» ليسكته خشية أن يقول ما لا ينبغي أن يقال: «إن من يضمرون الولاء من أعضاء الحزب يثقون بلجنتهم المركزية وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين.» فصفَّق هنا الحاضرون، «إن الحزب لا يفسح من صدره مكانًا لأمثالك ممن تبلغ بهم القحة أن ينكروا أخطاءهم.» وهنا صفق الحاضرون مرة أخرى، «مطرود.»
فصاح «تسارف» قائلًا: «سأرفع شكاتي إلى اللجنة المركزية، إن صحيفتي إبان الحرب لتعلن عن مجدها، وأصبت نجاحًا فيما وُكِلَ إليَّ في الريف من مهام، لقد أرقت دمي في سبيل الثورة، وليس لكم الآن أن تقوضوا بنيان حياتي.»
ولكن أعضاء اللجنة أداروا لهذا القول آذانًا صماء، وأخذوا يعدُّون ملفات القضية التالية، كان «تسارف» في المعهد مقربًا إلى القلوب جميعًا، أما الآن فهم يجتنبونه، إذ هو يغادر المنصة، إنه يوشك ألا يصدق ما قد حدث، ما قد حدث له وهو من هو بين سائر الناس!
وتلاه على المنصة «ديخوفتسف» الذي جعل يشتغل بيديه عاملًا منذ أن كان في الثامنة من عمره وأصبح رئيسًا لطائفة من العمال، ثم وقع عليه الاختيار من بين «الألوف» ليكون مهندسًا، ولقد جاء حديثه الآن بحيث يترك في السامعين أعمق الأثر، وكانت إجاباته عن الأسئلة السياسية التي وُجِّهَت إليه، وعن الأسئلة التي أريد بها اصطياده في الفخ فيما يتعلق بالحزب وتاريخه، كانت إجاباته كلها بغير شائبة تشوبها.
سأله «جالمبو» سؤالًا كأنما هو عابر: «هل أنت متزوج أيها الرفيق ديخوفتسف؟»
– «نعم!»
– «متى تزوجت؟ ومَنْ زوجتك؟»
– «تزوجت في العام الماضي، وزوجتي ابنة ورَّاق، وهي تشتغل الآن بصناعة التمريض في أحد المستشفيات.»
– «قل لي: هل سجلت زواجك أو لم تسجله؟ بعبارة أخرى: كيف جعلت من زواجك زواجًا شرعيًّا؟»
احمر وجه «ديخوفتسف» وأخذ يتململ في ارتباك وحيرة، ثم أشرقت عليه فجأة علة التماس هذا السؤال، واشرأبَّت أعناق النظارة وأرهفت منهم الآذان، وساد المكان سكون تام، وأخيرًا تكلم المتهم بصوت خافت، فاعترف بالحقيقة المروعة.
قال مطأطئ الرأس: «تزوجت في الكنيسة.»
وبهذا القول انفجر الصخب من جوف السكون السائد، إذ ضحكت النظارة في قهقهة اهتزت لها أجسادهم.
وعلا «ديخوفتسف» بصوته فوق الضحك، وقال: «أنا أعلم يا رفاقي أن مثل هذا الكلام يبعث على الضحك، إنه مهزلة مضحكة وأنا بذلك أعترف. إن الحفل يعقد في الكنيسة ليس يعني عندي شيئًا، صدقوني فيما أقول، لكني شغفت بزوجتي حبًّا وأبى والداها عليَّ زواجها إلا إذا قبلت مهزلة الكنيسة، إنهما رجعيان، وليست زوجتي بأقل مني استخفافًا بالخرافات، لكنها الابنة الوحيدة لأبويها ولم ترد أن تؤذي الأبوين الشيخين.
ناقشتها ورجوتها وأنذرتها أن ذلك لن يؤدي إلى خير نرجوه، لكنها لم تذعن، ولم أستطع العيش بغيرها، فانتهى أمرنا إلى زواج عقدناه في كنيسة ريفية بعيدة، ولما كنا في طريقنا عائدين، أخفيت برقع العرس وزهوره في محفظة أوراقي.»
لم يملك الحاضرون إلا مضيًّا في زئاطهم، ونقر الرئيس يطلب النظام، ولا نظام، وفقد «ديخوفتسف» اتزانه فازداد بصوته ارتفاعًا: «أؤكد لكم أننا بالله كافران، إن زوجتي عاملة وأنا ماضٍ في دراستي ولنا طفل، أتوسل إليكم يا رفاقي أن تصفحوا عن زلتي، إني أعترف أنني قد أذنبت بما أخفيت من هذه الجريمة عن الحزب.»
وحاول كثير من الناس أن يدفعوا عنه الأذى، لكنه طُرِدَ، فليست جريمته تنحصر في عقد زواجه بالكنيسة فحسب، بل ما هو أخطر من ذلك، وهو أنه قصَّر فلم ينبئ رؤساءه بمثل هذا العدوان الفظيع على مبادئ حزبه.
هكذا مضت حركة التطهير بومًا بعد يوم، فتبدأ الجلسة بعد الفراغ من الدراسة فورًا، أي نحو الساعة الخامسة عصرًا، ثم تظل منعقدة حتى تضرب في أحشاء الليل، وفي ختام الأسبوع الأول، وقد أصبح الأمر مشهدًا لأفظع المآسي، بما يصاحبه من عبرات وضحكات ولهو العابثين، فوجئنا بما هزَّنا فأيقظنا؛ ذلك أن معلمًا موهوبًا وإخصائيًّا في البحث العلمي، وهو الرفيق «بطرس بولكين» نودي للمحاكمة، إننا نعلم عنه أنه من أب قسيس، وهي حقيقة تزعزع موقفه، ولو أن أباه بطبيعة الحال قد برئ من الكنيسة، بل والتحق بجمعية «الكافرين بالله» ليمحو من صحيفة أبنائه نقطة سوداء.
وما كان «بطرس» ليُقْبَلَ عضوًا في الحزب بغير انسلاخ أبيه عن الكنيسة، على الرغم من أنه عالم بارع، لقد أخلص الرجل للعلم إخلاصًا نسي فيه نفسه، فواصل العمل ساعات بعد ساعات، يشير على كثير من المصانع، ويقف أمام مخابير العامل، ويشرف على طلابه في حجرات الدرس، فكأنما أسرف في حماسته للعلم على هذا النحو ليمحو «عارًا» يصمه من تاريخ أسرته.
وتصادف أني قابلته في البهو صباح اليوم السابق ليوم محاكمته في التطهير.
سألته: «كيف حالك يا بطرس؟»
– «ليست حالي أطيب حال يا «فيتيا»، فما أدري أيصيب السهم مني مقتلًا فأسقط صريعًا أم يخطئ فأنجو.»
وضحكت قائلًا: «أُوهو! ما دمت قد جعلت تتمثل بشعر من نظم «يوجين أونجين» إذن فقد ملأ صدرك الهم.»
أخذ يروي قصة حياته على مسمع من الحضور الذين زاد عددهم عن المألوف، ولعله فيما أظهر من براعة في طريقة الاعتراف قد استفاد من أصله الكنسي، فقد صرح أنه لم يستر قط وصمة العار في حياته، زد على ذلك أن أباه قد طلَّق العقيدة الدينية تطليقًا أعلنه للناس في الصحف، ومضى فقال: إنه لم يكن يسيرًا أن يمحو القديم ليستبدل به جديدًا، بل اقتضاه الأمر مجهودًا شاقًّا طويلًا لكي يقضي على كل أثر من آثار الخرافة التي تلقاها إبان الطفولة، لكنه فعل ذلك ووُفِّقَ فيما فعل أيها الرفاق، وها هو ذا قد كرس كل فكره للبحث العلمي، فالبحث العلمي — فما يرى — خير وسيلة يستطيع أن يخدم بها الحزب وستالين.
قال «جالمبو» الرئيس: «قل لي أيها «الرفيق بولكين» هل طال عهد اتصالك ﺑ «سانين»؟»
– «نعم، عرفته منذ أمد ليس بقصير، كنا زميلين في الدراسة، وتخرجنا في المعهد معًا، وها نحن أولاء زميلان في التدريس ها هنا.»
– «هل علمت أن «سانين» وقَّع على وثيقة تتشيع لمذهب تروتسكي؟»
– «نعم علمت ذلك كما علمه كثيرون من الحاضرين الآن.»
– «لست أسألك عن سواك، بل أسألك عن نفسك.»
– «نعم، علمت ذلك عن «سانين»، ولست بمنكر ذلك.»
هنا رفع «جالمبو» صوته في غضب: «وإذن فلماذا لم تنبئ لجنة التطهير أنك كنت تعلم ذلك؟!»
– «لم أجد ما يدعو إلى مثل هذا النبأ، لقد بلغ من شيوع العلم بهذه الحقيقة ما أبعد ذكرها عن روايتي، إن «سانين» نفسه قد استنكر زلته علنًا، وقد مضى على الحادث وقت طويل.»
– «اسمع يا «بولكين» إنك لا تنكر أنك كنت على صلة وثيقة ﺑ «سانين» وإنك بين أعضاء الحزب لرجل عليم ببواطن الأمور، وكان ينبغي عليك أن تعرف كيف يخفي أعداء الحزب — سواء منهم من يجنحون إلى يمين أو شمال — حقيقة أمرهم، فهل أظهرت ما يدل على يقظة بولشفية فيك؟ هل بلغت الحزب بما كان يقوله «سانين» من كلام كلنا يعرف الآن ما هو؟»
– «إنه لم يقل شيئًا من هذا القبيل على مسمع مني قط، وليس لديَّ ما أقوله غير هذا.»
– «هذا جميل، وهل عرفت بونوموريف؟» وبونوموريف هذا عضو آخر من أعضاء الجماعة التي تهاجم الحكومة.
– «نعم عرفته، وقد وقع هو كذلك على البيان الذي يدعو إلى سياسة تروتسكي.»
– «وهل أنبأت لجنة التطهير بأمره؟»
– «لا، لم أفعل لنفس الأسباب التي أبديتها في حالة سانين.»
– «وبعبارة أخرى أنت لم تقتصر على أن يكون لك أصدقاء من أنصار مذهب تروتسكي، بل زدت على ذلك أن أخفيت دسائسهم الحقيرة عن الحزب.»
– «أولًا ليس هؤلاء المعلمون أصدقاء شخصيين لي، لكنهم زملاء المهنة، أي أنهم معي في هيئة التدريس لا أكثر ولا أقل، وثانيًا لم يكتم أحد منهم ماضي حياته سرًّا.»
– «يظهر أيها الرفيق بولكين أنك لا تدري أن الحزب يجاهد في مناهضة المنشقين عليه، إنك فيما يبدو تنظر إلى هذا الكفاح كله نظرة استخفاف، أليس كذلك؟ فليس من الخطر في رأيك أن يكون أصدقاؤك تروتسكيين مقنَّعين، هذا أمر لا يعنيك، فكيف إذن يجوز لنا أن نثق فيك؟»
فقال بولكين في صوت رزين: «لست أرى أين جريرتي!»
فقال جالمبو: «وهذا مما يزيدك في رأينا سوءًا.»
هكذا أخذت محاكمة «بطرس» تنحرف في اتجاه يخشى عليه منه، فلما أدرك الناس اتجاه التيار، نهض منهم كثيرون ليغمسوا رأس هذا العالم في الماء فيغرقوه، وقد حدث لواحد من هؤلاء أن أدرك إبان حديثه أنه إنما يفتري كذبًا، فغلبه شعوره بالخيانة، والتاث عليه القول في منتصف عبارته، وتلعثم لسانه، ثم انفجر قائلًا: «إنني أقول لغوًا، إن الرفيق بولكين زميل ممتاز ورجل عظيم.»
فهبط السكون على أرجاء القاعة كلها، كأنما أُصِيبت بشلل من جراء هذه الصدمة التي وقعت عليها من هذا الفعل الجريء، واضطر أعضاء اللجنة أن ينفقوا خمس دقائق في أقوال خطابية يلهبون بها عواطف أنفسهم بحيث يلبسون لبوس الغضب من جديد، وسُحِبَت من «بولكين» تذكرة الحزب، فدهش لهذا جل الحاضرين.
ولقد علمت فيما بعد أن هذا الطرد قد انتهى إلى سحق أسرته، ثم ازداد الموقف سوءًا بطرد أخته — وهي طالبة في معهد آخر — لا لشيء سوى أن أخاها قد ارتكب إثمًا، وإذن فتضحية أبيهما بعقيدته الدينية لم تنتج نفعًا، وتحطمت حياة شخصين، لكن حدث بعد بضعة شهور لم ينقطع خلالها بعض الأعلام من الزملاء من استئناف الحكم الذي صدر ضد «بولكين»؛ لأنهم قدروا فيه نبوغه، أن أعيد الرجل إلى عضوية الحزب، فعادت أخته إلى معهدها تبعًا لازمًا لذلك.
ومضت اللجنة في محاكماتها، وخرج منها أربعة أو خمسة من الزملاء سالمين، ثم جاء دور طالبة نعرفها جميعًا ونقدرها جميعًا لذكائها وإخلاصها، فنوديت إلى المنصة. كانت سوداء الشعر والعينين، في نظراتها التماع وفي صوتها رنين، هي من هؤلاء النسوة اللاتي يجذبنك دون أن يكون لهن أدنى درجات الجمال، قالت عن نفسها إنها لأب صانع يشتغل بالنجارة، وإنها عملت في مصنع وهي في أوائل العقد الثاني من عمرها، وإنها أنفقت أمساءها في الدرس حتى وقع عليها الاختيار أخيرًا للالتحاق بالمعهد حيث تتلقى في الهندسة منهجًا دراسيًّا.
سألها الرئيس: «أيتها الرفيقة جرانك، هل تزوجت؟»
– «نعم!»
– «وكم مضى على زواجك؟»
– «خمسة أعوام.»
– «ومن زوجك؟»
– «هو صانع سابق، التقيت به في مهنته، ثم رُقِّي بعد ذلك رئيسًا لعمال في مصنع من مصانع صهر الحديد.»
– «هل هو عضو في الحزب؟»
– «كلا، ليس هو الآن عضوًا، لكنه كان فيما مضى.»
وهنا تشمَّم النظارة رائحة الدم تفوح في الهواء مرة أخرى، فعاد فريق منهم كانوا في طريقهم إلى البهو للتدخين، عادوا إلى مقاعدهم، واشرأبَّت الأعناق.
– «لماذا خرج من الحزب، هل أُخْرِجَ منه مطرودًا؟»
فقالت جرانك في صوت هادئ: «طُرِدَ زوجي من الحزب لاشتراكه في حركة المعارضة العمالية.»
– «وهل طلَّقْتِه عندئذٍ؟»
– «كلا!»
– «أين زوجك هذا الآن؟»
– «أُلْقِيَ عليه القبض وأودع سجن الشرطة السياسية.»
ها هنا توترت الأعصاب في الحاضرين، فهم الآن إزاء مسرحية بكل معناها، فمن المواقف المألوفة في المسرحيات السوفيتية أن تكون المرأة التي هي عضو في الحزب زوجة لرجل خارج عليه، ونرى الكاتب المسرحي دائمًا يُعمل فنه بحيث تختار الزوجة حزبها دون حبها.
– «هل هذه هي أول مرة يُلْقَى فيها القبض على زوجك؟»
– «كلا، بل المرة الثانية.»
– «ومع ذلك فلم تطلقيه بعدُ؟»
– «لا، لم أطلقه.»
– «هل زرته في السجن؟»
– «نعم، أزوره كل أسبوع.»
– «لماذا؟»
– «لماذا؟ لآخذ له معي شيئًا من الطعام وثيابه النظيفة وسجائره.»
– «أليس هناك من يأخذ له هذه الأشياء سواك؟»
– «أظن أن هناك من يستطيع ذلك سواي، فله أم وأخت.»
– «إذن فنبئينا لماذا تزورينه في سجنه، إنك عضو في الحزب أليس كذلك؟ ومع ذلك فليس في ضميرك ما يردعك عن معاونة رجل عدو للحزب.»
– «إنه زوجي.»
– «أوه! إنه زوجك! لكن أليست سلامة الحزب أعظم خطرًا من المصالح الشخصية التافهة؟»
– «لست أوافقه من الوجهة السياسية، وأحاول أن أناقشه في الأمر لأردَّه إلى الصواب، وكلما التقينا دار النقاش بيننا إلى حد العراك.»
– «أوه! إذن أنت لا تذهبين إلى السجن إلا مغايظة له؟»
هذه السخرية التي يبثها «جالمبو» في عباراته قد أرخت من الأعصاب المتوترة في جمهور النظارة، فكنت تسمعهم يضحكون آنًا بعد آن، ثم أخذت ترتفع من هنا وهناك صيحات: «حسبنا هذا! اطردوها!»
رفعت الفتاة صوتها وقالت: «معذرة أي رفيقي الرئيس، أهذه لجنة لتطهير الحزب أم هي حلقة ألعاب بهلوانية؟ إنني أطالبك بأن تقرر ما يوجَّه إليَّ من تهم سياسية، وأمنعك من أن تجعل من حياتي الشخصية نكاتًا تضحك بها هؤلاء المتفرجين.»
– «إذن فلماذا لم تجيبي إجابة صريحة فتنبئينا على وجه الدقة لماذا تزورين كل أسبوع رجلًا هو عدو الحزب ومن الخوارج عليه؟»
– «لقد أنبأتك بما تريد، فليس هو زوجي فحسب، بل هو كذلك من بني الإنسان، ومن الجبن والخيانة أن أطلقه حين تحل به الصعاب، إنني لا أتفق معه في وجهة النظر، لكننا عملنا جنبًا إلى جنب، ودرسنا جنبًا إلى جنب، وعشنا تحت سقف واحد، ويُحس كل منا عاطفة إزاء الآخر، فالحق أنَّا حبيبان!»
فقوبل هذا الاعتراف بضحكات عالية، شيوعية تعلن ولاءها لحزبها وهي تحب سجينًا في محبس الشرطة السياسية!
ولخص «جالمبو» الموقف فقال: «اختصارًا، باعتبارك عضوًا في الحزب، ترفضين حتى الاعتراف بخطئك في الاتصال برجل هو عدو الشعب، ورأيي أن النتيجة واضحة: إن مواطنتنا «جرانك» لا تستحق البقاء في صفوف الحزب، إننا لن نأذن لها بعد ذلك أن تساهم في مصالح بلادنا.»
وقوبل الحكم بالاستحسان وبصيحات: «هذا حق! أخرجوها!» ومع ذلك فقد سرت في الجمهور موجة من العطف عليها حين غادرت المنصة مرفوعة الرأس مرتعشة الشفتين، وسارت في الممشى الأوسط حتى خرجت من القاعة، وهمس في أذني طالب جلس بجانبي قائلًا: «إنني لا أدافع عن «جرانك»، لكني رغم ذلك أرى الأمر متعلقًا بحياتها الخاصة، ولا ينبغي لنا أن نعالجه على هذا النحو.» فظللت صامتًا؛ إذ مَن أدراني إن كان جاري قد ثارت نفسه حقيقة أو دفعه إلى قوله حافز خفي آخر، فأراد أن يثير صدري فأنطق بما يودي بي إلى الخطر.
ولما نودي اسم «سريوزا تفتكوف» أخذ قلبي يثب في صدري، إذ لا شك في أن شهادته ستعرض لما صادفه في الريف، وهذا قد يؤدي إلى ذكري، وقد كنت أعلم أنه رجل ذو عاطفة، يخشى على سلامته وسلامتي.
وقف على المسرح وانعقدت عليه الأبصار، فبدا للعين من اليفاعة وضعف الحيلة بحيث لم يصلح لتلك الوقفة، بل كانت يفاعته بمثابة السبة الشائنة في ذلك المحيط المتجهم، كانت تبدو عليه أمارات الاضطراب واضحة، ومع ذلك فقد أخذ يروي عن نفسه قصة موصولة الحلقات وإبان حديثه لم يزحزح عينيه من ركن القاعة الأقصى، فتعقبت نظرته وإذا هي تنتهي عند أبيه الذي كان يبتسم له مشجعًا، ولما بدأ يقص قصة عمله في القرية قاطعه الرئيس: «أيها الرفيق تفتكوف، هل أبوك عضو في الحزب؟»
– «نعم، وقد مر خلال محنة التطهير سالمًا.»
– «قل لي كيف كان شعورك إزاء حركة المزارع الجماعية في الريف؟»
– هنا رأيت وجه «سريوزا» قد شحب لونه، ووجَّه نظراته إليَّ وقال: «أديت الهمة التي كلفتني بها اللجنة الإقليمية، لكنني أعترف أن موقفي إزاء حوادث معينة وقعت في القرية كان موقفًا سلبيًّا.»
فمضى «جالمبو» يقول: «عندنا من الأدلة ما يثبت أنك لم تكن من الحزم بحيث ينبغي أن تكون، وأنك أظهرت ترددًا وتباطؤًا في البت في أمورك في مناسبات كثيرة، فماذا أنت قائل؟»
هنا شعرت أن «تفتكوف» ستخور قواه فيتهافت ساقطًا إذا لم يُسْعَف بما يشد بنيانه، ولم يكن بُدٌّ من إفساح الفرصة أمامه ليستجمع قواه، فكأنما دفعتني الغريزة دفعًا أن أنهض فأطلب الإذن بالكلام.
قال الرئيس: «ما سؤالك؟»
– «أطالبك بإعلان اسم الشخص الذي وشى بهذا الزميل.»
– «هو موظف في مكتب النائب العام.»
– «ذلك لا يغير من الموقف يا رفيقي، إن اسمه مهم هنا، فقد كنت في الريف مع الرفيق تفتكوف وأعلم الحقائق.»
– فوافق الرئيس قائلًا: «إذن فاسمه أرشينوف.»
– «ذلك ما رجحت أن يكون.» قلت ذلك في نغمة الظافر فكأنما أثرْتُ بذلك في «سريوزا» حبل الحديث، هذا إلى أن فترة المقاطعة هيأت له فرصة تهدأ فيها نفسه الثائرة، فمجرد ذكر اسم «أرشينوف» قد استثار فيه الغضب — فيما يظهر — وأعاد له الثقة بنفسه.
قال: «أرشينوف! أؤكد لكم أن تقرير هذا الرجل زائف ولا قيمة له؛ لأن دافعه إلى كتابته شخصي بحت، إنه خشي أن أبلغ ما أعرف عنه، فقد اتخذ اتهامي وسيلة لوقاية نفسه، كانت هذه أول مرة لي في الريف، وطبيعي أن كانت تنقصني التجربة، وأنه من الجائز أن أرتكب بعض الأخطاء في عملي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد اصطنع «أرشينوف» من الأساليب ما يصمه بالعار، تلك الأساليب التي استنكرها الحزب وهاجمها منذ ذلك الحين، ولما عدت قدمت تقريرًا عن سلوكه إلى اللجنة الإقليمية، فلست أنا المجرم، إنما الذي أجرم هو «أرشينوف» هذا بعينه.»
– «لكن أليس صحيحًا أن «أرشينوف» ضرب رقمًا قياسيًّا في تسليم الغلَّة، وأنه فعل ذلك حيث مُنِيتَ أنت بالفشل أحيانًا؟»
– «نعم، ذلك صحيح في مناسبات كثيرة، لكن ذلك لا يستتبع بالضرورة أن أجاوز تعليمات الحزب فأسلك على النحو الذي سلك.»
– «هذا جميل، مَنْ ذا يريد الكلام؟»
فوقفت وأشار لي الرئيس أن آخذ في الحديث.
– «لقد عملت مع الرفيق تفتكوف والرفيق أرشينوف في «بودجورودنوي» وسأذكر تفصيلات ذلك حين يأتي دوري، لكني أريد الآن أن أقول: إنني وجدت الرفيق «تفتكوف» رجلًا شريفًا متعاونًا ووجدته شيوعيًّا يحاسبه ضميره على ما يفعل، إنه شخص مهذب بوجه عام، ولو أنه لا يزال قليل الخبرة، فلا ينبغي أن نجعل منه فريسة لأساليب «أرشينوف» هذا، لو كان هنا لمزقته إربًا، ولو أذنتم لي لأنبأتكم ببعض أعماله التي تعد الآن من جلائل الأعمال.»
صاح بعض الحاضرين: «لنسمع ما يقوله عنه! امضِ في الحديث!» لكن الرئيس بَدَتْ عليه علامات الفزع واضحة؛ لأنه لا يريد ذكر شيء من مفازع الريف.
– «أيها الرفاق، نحن الآن بصدد البحث في ماضي «تفتكوف» لا «أرشينوف»، فهذا الزميل المتحدث من بين النظارة يمكنه أن يتقدم ها هنا ليروي قصته همسًا للجنة.»
ذهبت إلى المنصة وأخذت في قصتي عن فظائع «أرشينوف» الوحشية في صوت خفيض، وكنت كلما قلت شيئًا سجل أعضاء اللجنة نقطًا في مذكراتهم، ولن أدري إلى الأبد هل كانوا يفعلون ذلك عن جهل بأنباء «أرشينوف» أم كانوا يفعلونه على سبيل إيهام النظارة أنهم جادُّون، لقد كنت قبل ذلك قدمت تقريرًا مفصلًا عن هذه الحقائق، لكن لم يكن مستحيلًا أن يكون لأرشينوف أصدقاء من ذوي السلطان بحيث يبعدون تقريري فلا يقع في أيدي لجان التطهير.
شجع دفاعي عن «سريوزا» كثيرين غيري، فتكلم في صالحه ثلاثة رجال وامرأتان، وبعدئذٍ أعيدت له تذكرته، فأتى من المنصة رأسًا إليَّ، وضغط على يدي ضغطة المعترف بالجميل وعيناه تغرورقان بالدموع، ثم ذهب إلى أبيه الذي ضمَّه إلى صدره.
كان رجائي أن أنادى لمحنتي بعد «تفتكوف» مباشرة، ولو حدث ذلك لجاز أن أفيد بالاتجاه الطيب الذي خلفه وراءه، فيما يظهر، لكن الاسم الذي نودي به هو «الرفيق جرنتشنكو» الذي كان يحاضر في مذهب «ماركس» ومذهب «لينين» في معهدنا، فكان بحكم وضعه هذا بمثابة المبشر «الروحي» — على نطاق مصغر وبمعنى من معاني الكلمة — المبشر الذي يذيع مبادئ المذهب الجديد بين الناس، فلو كان في قائمة رجال المعهد رجل واحد يجلُّ عن النقد بحكم عمله، لكان هو هذا الرجل المديد القامة، البسيط المحيا، لقد كان رأينا فيه أنه أقرب إلى بث الملل في النفوس باعتباره معلمًا، أما باعتباره إنسانًا فقد كان في رأينا ممتازًا إلى حد يستحيل أن يفوقه فيه سواه.
كان «جرنتشنكو» يحاضر باللغة الأوكرانية، وهي لغته الأصلية، على الرغم من أن أوضاع هذه اللغة القديمة قد أهمل استعمالها، لا بل عُدَّت ضربًا من ضروب «الخروج على الوطن»، إنه شيوعي متعصب، يقول عنه طلابه: «إنه يرافق ماركس كل ليلة في مخدعه.» ولأننا لم نكن ندري عن قصة حياته إلا قليلًا فقد أنصتنا في انتباه زائد إلى اعترافه.
هو سليل أسرة فقيرة من الريف، ولبث يعمل في إحدى الضياع الواسعة خادمًا في إصطبل حتى قامت الثورة، وكان قد بلغ من العمر عامه التاسع عشر حين سقط القيصر، فالتحق بصفوف البلاشفة من فوره، وصعد في الجيش الأحمر حتى بلغ مرتبة «قائد فرقة»، وأُثْخِنَ في ميدان الحرب بجروح كثيرة، ولما أن وضعت الحروب الأهلية أوزارها درس النظرية الشيوعية في أحد معاهدها الخاصة، وها هو ذا يحاضر في مذهب لينين، حقًّا إنها لسيرة سوفيتية لا تشوبها شائبة من فساد.
وختم روايته قائلًا: «ومع ذلك فلا بد لي من الاعتراف للجنة وللحاضرين من الرفاق بما زللت فيه من أخطاء في موضوع الخروج على الوطن، فقد ترسمت خطى «سكربنك» وغيره ممن شوَّهوا النظرية الشيوعية كما تعرف في صورتها المألوفة، تلك حقيقة من ماضي حياتي المرير، وهي حقيقة آسَف لها وإن يكن قد محاها النسيان محوًا تامًّا.»
فقاطعه الرئيس بلهجة أوضح ما تكون اللهجة توعُّدًا بالشر، وتوترت أعصاب الحاضرين جميعًا: «تقول محاها النسيان؟ ولكن ألا تزال على صلة بأفراد من أمثال …» وذكر له ثلاثة أسماء أو أربعة.
– «نعم، ربما أكون قد صادفتهم هنا أو هناك، فما يستطيع أحد أن يجتنب هذا اللقاء العابر، لقد كانوا فيما مضى من الوطنيين في أوكرانيا ولستُ معهم الآن على صلة من الود.»
– «ألم يكن بينك وبينهم قط تبادل الرسائل؟»
– «لا.»
– «ألم تقابل هؤلاء الرجال بعد أن عفا عنك الحزب عفوًا كريمًا؟»
– «لا، وإذا لم تخنِّي الذاكرة، فقد التقيت مرة برجل هو صديقي وصديقهم، ولكني لم أتحدث معه في السياسة.»
– «هل تعلم أين هؤلاء الوطنيون الآن؟»
– «سمعت تقريرًا عن بعضهم أنْ قد أُلْقِي عليه القبض، ولكني لا أعلم مَنْ.»
– «ممن سمعت هذا التقرير؟»
– «من الصديق المشترك الذي قابلته عرضًا.»
– «لقد ذكرت لنا الآن توًّا أنك لم تتحدث معه في السياسة، فكيف حدث أن أنبأك تقريرًا بأمر القبض على هؤلاء؟»
– «ربما أكون قد استعملت كلمة خاطئة حين قلت «سمعت تقريرًا»، فلم تكن أكثر من ملاحظة عابرة.»
– «أيها الرفيق جرنتشنكو، أنت ساذج إذا ظننت أنك مستطيع أن تذر في أعيننا رمادًا، فنحن نعلم أنك — مثلًا — حين سمعت بأمر مَنْ قُبِضَ عليهم، قابلت الخبر باستياء.»
– «يؤسفني أن أقول: إن من بلغ عني ذلك قد افترى عليَّ كذبًا.»
– «الأمر على نقيض ذلك تمامًا، فلدينا من مصادر عدة ما يثبت أنك ما تزال «أوكرانيًّا» أولًا، «لينينيًّا» ثانيًا، فلدينا اتهامات مقدمة من رجلين هما من ألصق زملائك بك.» وذكر اسمهما.
فوقع هذا القول على «جرنتشنكو» وقع الصاعقة، إذ لم يكن يخفى عن أحد منا أن هذين الرجلين لم يعودا بعدُ أحرارًا من القيد.
وتمتم جرنتشنكو قائلًا: «لا أستطيع أن أفهم غايتهما من الوشاية بي بمثل هذا الكلام، لقد كانا حقًّا من خيرة الأصدقاء.»
فقال أحد أعضاء اللجنة: «وأظن أنك يا «جرنتشنكو» لم تقل شيئًا ضد المزارع الجماعية.»
– «لا، ربما أكون قد تحدَّثت في نقد ألوان بعينها من الإسراف في تطبيقها، لكني لم أقل قط في حياتي كلمة أهاجم بها ما اتخذه الحزب في هذا الصدد من قرارات.»
– «حسبنا منك هذا، ولنسمع الآن ما عسى أن يقوله في شأنك الحاضرون.»
ونهض الأساتذة الذين يحاضرون في مذهبي «ماركس» و«لينين» واحدًا في إثر واحد ليُنْزِلوا بزميلهم الضربات، وأخذوا يلقون الخطب تباعًا ليقولوا: إن الروح الوطنية (التي يتهمون بها جرنتشنكو إزاء وطنه أوكرانيا) تتنافى مع الشيوعية، وجعل هؤلاء الزملاء ينكتون رءوسهم لعلهم واجدون فيها ما يقذفون به زميلهم المتهم من ألوان الاتهام، فكانوا يعثرون في أعماق ذاكراتهم على نُتَف من أحاديث زميلهم لا تسعفهم الذاكرات بنصها الصحيح، وكانوا فيما يذكرونه عن زميلهم من وقائع لا يحددون لها التواريخ، بحيث جاء ما قالوه بمثابة المسامير التي تُدَق في نعشه السياسي، حتى لو كان ما قالوه يرجع تاريخه إلى زمن لم يكن شعور «جرنتشنكو» الوطني تجاه بلده أوكرانيا مما يحرمه قانون الشيوعية، بل كانت الحماسة الوطنية عندئذٍ ضربًا من الإلزام.
وهكذا حُشِرَ «جرنتشنكو» في زمرة المطرودين الذين يجللهم العار، وهو ذلك الرجل المتعصب لمذهب «لينين» بذهنه الأوكراني الصافي، وبهذا بلغت سيرته ختامها.
وكنت أتساءل: ترى ماذا عسى أن يلحق بهذا الرجل من أحداث حين سمعت اسمي ينادى به، فأسرعت إلى المسرح وقصصت قصة حياتي: في المزرعة الجماعية، وفي مناجم دونتز، وفي المصنع، وعلى حدود فارس، ثم في المصنع من جديد، وأخيرًا في المعهد، وكنت أحس إبان الحديث أنني إنما أدلي بسيرة تستثير في السامعين إعجابًا، فآبائي من طبقات الشعب إلى حد مقبول، ومناشطي شيوعية الاتجاه لم تنحرف عن مبادئها قط، وذكرت نبأ تفتيشي في «نيقوبول» وزيارتي الطويلة ﻟ «أورزنكدز»، ذكرت هذا النبأ متعمدًا لكني جعلته يبدو كما لو كان شيئًا ذُكِرَ عرضًا في سياق الحديث. وأخيرًا غامرت بذكر تقرير موجز عن مهمتيَّ اللتين أُسْنِدَتا إليَّ في المناطق الزراعية، إذ إنني كنت على يقين أن أمري هناك قد وشى به واشٍ، فلا بد لي إذن ألا أخفي ما اتخذته من قرارات جريئة، ثم بينت أنها قرارات أملتها عليَّ ضرورة الموقف.
– «في أي الظروف ضاعت منك تذكرة الحزب؟ هل تعلم أن ضياعها فيه هدم خطير لقوانين الحزب؟»
– «أعرف ذلك وآسف له أيها الرفاق، ضاعت مني ونحن في معمعان الحصاد، فقد أصيب عامل زراعي بإغماء مفاجئ فحللت مكانه في العمل، وبينا نحن في اضطرابنا هذا فقدت محفظتي، وها هي ذي شهادة من القسم السياسي في ذلك الإقليم تثبت ذلك.»
فحصت اللجنة عن الشهادة المقدمة، وأضافتها إلى ملف أوراقي، واستأنفت استجوابي.
– «لدينا ما يثبت معارضتك للتدابير الفعالة التي تطبَّق في جمع الغلال، وأنك أنكرت ممثلًا رسميًّا للحزب.»
– «الواقع عكس ذلك يا رفاقي، إنه هو الذي أساء إلى الحزب، أقول ذلك على زعم مني بأنكم تعنون «أرشينوف» الذي حدثتكم عن أساليبه.»
– «لنفرض معك أننا نعني أرشينوف.»
– «وإن كان ذلك كذلك، يا رفيقي الرئيس، فها هي ذي صورة من تقرير عنه قدمته إلى اللجنة الإقليمية وإلى جريدة برافدا، وسترى أن هذا الرجل وصم بالعار الشيوعية والشيوعيين، لقد بذلت جهدي في سبيل صيانة الحزب وسمعته الطيبة من أفعاله؛ ولهذا يحاول أن يحفر الأرض من تحت قدمي، لقد كان مما استخدمه «وسائل بدنية».»
فسأل أحد النظارة: «أي ضرب من الوسائل البدنية؟»
فقال الرئيس مسرعًا: «قد ألمَّت اللجنة الآن إلمامًا كاملًا بالوقائع، فخير لنا الآن أن تحدثنا عن شيء من أساليبك أنت أثناء الحصاد في لوجينا.» قال الرئيس ذلك بسرعة ليغير موضوع الحديث.
وقصة الحصاد في «لوجينا» هي أكبر عقبة أمامي، وقد رتبت في رأسي كيف أسلسل حوادث القصة، ووعيت ذلك في رأسي أيامًا لأقوله ساعة الاتهام، لكن القصة التي رتبتها في رأسي ذابت الآن على نحو لا أدريه، وتدخلت الحوادث تدخلًا لم أستطع معه وضعها في خط واحد مستقيم، فاعترفت بأنني جمعت الشوفان والشعير إنقاذًا للحصاد، وبأنني أقمت دارًا جماعية للأطفال، وأنني لجأت إلى «وسائل حازمة» في إطعام هؤلاء الأطفال وفي إنقاذ الناس وإنقاذ الموقف جميعًا.
«لقد شكرني الرفيق هاتايفتش بنفسه على ما فعلت في الحصاد الذي أتممته قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وها هي ذي شهادة رسمية من القسم السياسي تثبت حسن صنيعي.» وناولتهم الشهادة: «ماذا أقول بعد هذا؟»
أخذت الرئيس حيرة؛ لأنني جئت إليهم مدعمًا بالوثائق، فلو كان في عزمه أن يسير القضية على نحو يضرني، فهو الآن في حالة من التردد، وانفتحت الطريق أمامي للنجاة، ثم سار بالأمر في طريق أخرى جديدة تنفستُ معها الصعداء.
– «ما وظيفة أبيك؟»
– «يشتغل في مصنع «بتروفسكي-لينين» ويشتغل معه هناك أخي الأصغر، أما أخي الأكبر فهو حاسب في مصنع كيميائي.»
– «هل أبوك عضو في الحزب؟»
– «لا.»
– «وأخواك؟»
– «لا.»
– «لماذا كان أبوك سجينًا قبل الثورة؟»
– «لأعمال ثورية. في ثورة ١٩٠٥م وبعدها أيضًا.»
– «لأي الأحزاب كان ينتمي؟»
– «لم ينتمِ إلى حزب في حياته.»
– «أواثق أنت مما تقول؟»
– «كل الوثوق أي رفيقي جالمبو.»
– «إذن فهل لأحد هنا من الحضور أن يقول شيئًا؟»
ونهض من الرفقاء ثلاثة ليهاجموني، كما نهض كثيرون آخرون ليثنوا عليَّ، وكان بين هؤلاء «سريوزا»، وعلى كل حال لم يكن في الأمر ما يثير الاهتمام، فأخذ الناس ينسلُّون خارج القاعة التدخين، فهي قضية سخيفة. وأُعطيت تذكرتي.
وقبل مغادرتي للمنصة سألت أعضاء اللجنة عمن وجه إليَّ الاتهام في الفترة التي أقمتها في «لوجينا»، ونظروا إلى ملفات الأوراق مما يدل على أن صاحب الاتهام لم يطلب إخفاء اسمه.
فقيل لي: «صاحب الاتهام عضو في الحزب، هو الرفيق سكوبين.»
– «هذا على وجه الدقة ما ظننت.» قلت ذلك مبتسمًا، وهكذا لم ينسَ لي ضابط الشرطة السرية في القسم السياسي أني رفضت الحديث معه!
أحاط بي الأصدقاء، وضغطوا على يدي، فما زالت حياتنا مفتوحة الطريق أمامنا، لا نزال رجالًا في الحزب ذوي مركز حسن.
وفي أوائل سنة ١٩٣٤م أعلن «الرفيق لا زار كاجانوفتش» في موسكو أن ١٨٢٥٠٠ عضو طُرِدُوا من الحزب، ولا بد أن تزيد الأرقام النهائية على ذلك العدد؛ لأن عملية التطهير لم تكن قد انتهت بعدُ في بعض المناطق، وهكذا انتهت على هذا النحو سِيَر مائتي ألف من الناس، وزعم «كاجانوفتش» أن الحزب قد تم «تنظيفه» بذلك وأنه قد أصبح الآن حزبًا ذا عقيدة واحدة، لكن هذه النتيجة لم تلزم عن تلك المقدمات.
بل إن هذه المقدمات انتهت إلى نقيض هذه النتيجة كما أشاهد الأمر في نفسي، فعلى الرغم من أن المحنة ذهبت عني موجتها فليس إلى الشك من سبيل في أني أصبحت أكثر ارتيابًا في الحزب وأكثر قلقًا في أعماق نفسي من ألوف الرجال والنساء الذين قُذِفَ بهم فوق كومة المهملات السياسية، وما هو صحيح بالنسبة إليَّ كان صحيحًا بالنسبة إلى عشرات الألوف سواي، فليقل الزعماء لأنفسهم ما شاءوا من «أن آخر ما تبقى من آثار الخروج على الحزب ومعارضة مجراه قد زال»، ليقل الزعماء في ذلك ما شاءوا، لكن الصفوف الدنيا من أعضاء الحزب كانت أعلم بالأمر من هؤلاء الزعماء.