السرعة السرعة!
في شهر سبتمبر من عام ١٩٣٥م حدثت «معجزة» في منطقة الفحم من حوض الدنتز، وتلك هي أن عاملًا يُدْعَى «ستاخانوف» استعدن ١٠٢ من أطنان الفحم في نوبة واحدة، وهو مقدار يساوي ما يستخرجه العامل الواحد في المتوسط أربع عشرة مرة! ولن تجد من أحداث التاريخ الحديث إلا عددًا قليلًا صادف ما صادفته هذه الحادثة من تهليل وتكبير، بحيث ظلت تذاع أمدًا طويلًا وفي كثير من الهوس والأساليب المسرحية، غير أن المعجزة لم تجاوز حدود ما يمكن فعله في ظروف هذه الحياة الجارية، ولم تخُل من أوجه النقص التي تشوبها، فلم يكن من العسير على مهندس عملي أن يتبين في الأمر عوامل الخداع، إذ كان من الجلي الواضح أن قد أعدت ظروف خاصة وأدوات خاصة وبعض المعاونة بحيث يتمكن «ستاخانوف» من الوصول إلى هذا الرقم القياسي، وإذن فقد دُبِّرَت المعجزة تدبيرًا ليتخذ الكرملن منها وسيلة لإذاعة ديانة جديدة، ديانة عقيدتها السرعة في العمل.
فما فعله «ستاخانوف» يستطيع كل عمال المناجم أن يفعلوه! وما يستطيع فعله عمال المناجم، إنما تستطيعه كذلك سائر الصناعات! وفي هاتين العبارتين تتلخص لك العقيدة الجديدة، وأما من تشكك في هذه العقيدة، فقد حق عليه العذاب، ولم يكونوا ليمهلوه حتى ينتقل إلى الحياة الآخرة فيصلى نار الجحيم بما قدمت يداه، وإذن فكل فني يبدي اعتراضات في طرائق التنفيذ إنما يُحْشَر في دعاة الهزيمة وأعداء «العقيدة الإستاخانوفية»! ومن لم يبلغ مثل الإنتاج الذي ضربه عامل الدونتز، كان من المتكاسلين.
وصاحت «موسكو» صياحًا عاليًا بعبارات تذيع بها في الناس هذا المذهب «الإستاخانوفي»، وأخذت تتدفق رسائل البرق إلى «نيقوبول» آتية من «خاركوف» و«موسكو» تحمل الأوامر من مكاتب الرياسة، وكان كل أمر من هاتيك الأوامر بمثابة التهديد الصريح، فواجبنا كما تمليه الأوامر هو أن نكون في الحال فرقًا «ستاخانوفية» تضرب المثل في سرعة العمل لمن يتراخى، فإذا ما اعترض معترض من المهندسين أو الملاحظين عُدَّ عاملًا من عوامل التخريب.
لم يكن قد مضى على مصانعنا في العمل ستة أشهر كاملة، ظلت تعمل خلالها ثلاث نوبات كل يوم على الرغم مما يحيط بذلك من عقبات، فلم يكن الصلب وغيره من المواد الخامة مما يبعث على الرضى لا كمًّا ولا كيفًا؛ وذلك لأن معظم العمال كانوا حديثي عهد بالصناعة، ومعظم المشرفين عليهم بغير خبرة كافية، زد على ذلك ضعفًا في الحيوية البدنية عند العمال لقلة غذائهم وسوء أحوال معاشهم، ولئن مست بنا الحاجة إلى شيء فذلك هو تنسيق عمليات الإنتاج، أما أن تزيد من عبء العمال أو تزيد الضغط على الآلات، فلئن جاز أن نطالب به في أية لحظة أخرى، فلم يكن ذلك ليجوز في ذلك الوقت، فوسيلة الإنتاج المطرد ليست هي الحركات العنيفة المفاجئة لضرب الأرقام القياسية، بقدر ما هي في التعاون والانسجام، وكيف تستحث ألفًا وخمسمائة عامل أو يزيدون، يعملون معًا عملًا مشتركًا، تتداخل كل خطوة من خطواته في الأخرى، كيف تستحثهم على الإسراع بغير خطة محكمة دون أن يصاب العمل كله بالفوضى والاضطراب؟
لكنها أوامر ولا بد من تنفيذها، ووجَّه زعيم الحزب «كوزلوف» و«المدير براتشكو» دعوة بالحضور للمهندسين ورؤساء الأقسام، وكان الرفيق «برودسكي» يمثل «اللجنة المحلية»، ولم يكن مستبعدًا أن تأخذ الأوهام رجلين مثل «برودسكي» و«كوزلوف» — باعتبارهما من غير رجال الصناعة — لم يكن مستبعدًا أن تأخذهما الأوهام من حيث تطبيق «المذهب الإستاخانوفي» في مصانعنا، لكن «براتشكو» كان رجلًا من رجال الصناعة العمليين؛ ولذلك فقد أدرك ما في الأمر من سخف إدراكًا واضحًا كما أدركته أنا، ومع ذلك فلم يكن بوسع أحد منا سوى أن ينشئ فرق السرعة الإستاخانوفية مهما يكن ما يكلفه ذلك من خسارة في الكفاية والنظام.
وسأل أحد المهندسين قائلًا: «أيأذن لي الرفيق براتشكو بسؤال؟»
– «سل ما تشاء يا لازار بتروفتش.»
– «أنا رئيس قسم فيه مائة وثمانون عاملًا، فلو أسرع عامل واحد عن بقية زملائه تعقَّد حبل العمل في القسم كله، فهل تتفضل بأن تشرح لي في صورة عملية كيف أستطيع أن آخذ الأسلوب الإستاخانوفي؟»
ولم يستطع «براتشكو» أن يشرح له ما يريد بطبيعة الحال، وكل ما كان في وسعه هو أن يعيد الأقوال التي تطبل بها موسكو وتزمر، فيوقع نفسه في لغو سياسي لا غناء فيه؛ فأسفت له لأني رأيته ضحية الإسراف في وضع الخطط النظرية التي ترمي إلى بعيد وتهمل الواقع، بل كنا جميعًا ضحايا هاتيك الخطط.
ولقد اضطررت في نهاية الأمر أن ألجأ في جانب المصنع الذي كان مسندًا إليَّ إلى أسلوب في الإسراع لم تكن تمليه طبيعة العمل، فكنت أعده في صميم نفسي جريمة في حق الآلات والعمال في آن معًا، وجاءتني أوامر صريحة من لجنة الحزب أن أعيد تنظيم عمالي بحيث أضع خيرة العمال ورؤساءهم والمهندسين في نوبة واحدة، ثم انتقينا من الأدوات والمواد أحسنها، وخصصناها لتلك النوبة من نوبات العمل، وبعد أن أعددنا عدتنا على هذا النحو، أصدرنا كلمة الأمر لهذه اللعبة الخادعة أن تبدأ شوطها.
وذات مساء في الساعة الحادية عشرة، وبحضور طائفة من الصحفيين والمصورين، بدأت النوبة «الإستاخانوفية» عملها، فزادت في إنتاجها عن الإنتاج المادي بمقدار ثمانية في كل مائة، وكانت الزيادة متوقعة، فصدرت الصحف بأسطر من الخط العريض، وجاءت التهاني من الموظفين في العواصم، فتنفسنا نحن الصعداء لأننا استطعنا أن نحول عن أنفسنا ضوء المصباح الكشاف، ولقد خصني من المدح شيء كثير باعتباري الرئيس الفني المسئول.
لكن هذا «النصر» الذي ظفرت به في الجبهة الصناعية، تبعه في النفس حزن عميق، فهذا النصر الصناعي غش في أساسه ولا بد أن يرتدَّ سهم الغش إلى نحري، فالنوبتان الأخريان قد حرمتا خيرة الرجال وأحسن الأدوات فخسرتا في إنتاجهما خسارة أكبر مما كسبت النوبة الرابحة، وظهر رجال هاتين النوبتين — بالموازنة مع رجال النوبة الممتازة — بمظهر ذوي الهمة الضعيفة، بل ظهروا بمظهر «الكسالى»، وطبيعي لم تطمئن نفوسهم لهذا الوضع الذي جعل منهم أمثولة، فصبوا سخطهم على زملائهم الذين أسعدهم الحظ وعلى الموظفين في آن واحد.
ولم تلبث موجة الإسراع أن تحولت في طول البلاد السوفيتية وعرضها إلى حملة شعواء تعمل عملها في الجو المألوف من ضغط وإرهاب، وفُصِلَ من العمل ألوف المديرين، وقُبِضَ على كثير منهم بتهمة إنزال الخسارة «بالإنتاج الاشتراكي» الجديد، وبتهمة «الفشل في تهيئة الظروف الإستاخانوفية الصميمة»، ووقعت تبعة التأخير في الإنتاج — كائنًا ما كان — على عاتق المهندسين والفنيين، وصُوِّرَ للرأي العام أن العمال يتحفزون لزيادة الإنتاج، غير أن مديري المصانع يدبرون الخطط عمدًا لتعطيل ما يبتغيه العمال.
وهكذا باعدوا بين العمال وهيئات الإشراف الفني.
ولم يكن يخفى حتى على أبسط عمال المصانع أو المناجم عقلًا، أن هذه الأرقام القياسية التي يبلغونها بوسائل الإسراع المفتعلة لن تلبث أن تصبح «معيارًا» يقيسون به كل عامل.
ولما بلغت هذه الموجة الإسراعية ذروتها في نوفمبر، دُعِيَ إلى موسكو مؤتمر وطني قوامه قادة «الإستاخانوفيين» وخطبهم ستالين فأمطرهم ثناءً، مقارنًا حماستهم بتلكؤ العمال الآخرين، وأصبح هؤلاء «الإستاخانوفيون» منذ ذلك الحين يكونون صفوة ممتازة بين العمال، يتقاضون أجورًا أعلى كثيرًا من أجور زملائهم، ويتمتعون بكل ضروب المزايا — وخاصة من حيث الطعام والثياب — مما لم يكن يتمتع به العمال بصفة عامة.
وكذلك باعد الكرملن بين طوائف العمال المختلفة، فكانت القاعدة القديمة «فرق تسد» تطبَّق على أمة بأسرها تحت راية «إقامة البناء الاشتراكي».
ولم يطل بنا الانتظار حتى شهدنا أسوأ ما يساور العمال من قلق يصبح حقيقة محسوسة، فقد جاءت الأوامر التي ليس إلى ردها من سبيل بأن تُرَاجَع «معايير» الإنتاج — التي كانت تقدَّر الأجور على أساسها — فتُرْفَع من عشرة في المائة إلى عشرين، ولم يكن هذا الأمر إلا تعبيرًا ملتويًا لو وُضِعَ في عبارة مستقيمة لكان معناه أن نبتزَّ من العمال عملًا أكثر مما يعملونه بمقدار عشرة إلى عشرين في المائة نظير الأجور عينها التي يتقاضونها، فقد كان في مصنعي — وعماله يبلغون ألفًا وخمسمائة — ما يقرب من مائتين من «الإستاخانوفيين» أو ملوك السرعة، أما الباقون فقد كانت مراجعة معايير الإنتاج بالنسبة إليهم معناها خفض خطير في مقدار كسبهم، فشاع في الناس امتعاض صامت عابس لا يخطئه النظر.
ولكي يضيفوا إلى الإيذاء إساءة طالبوا بأن تقدم المعايير الجديدة إلى العمال ليقبلوها «بأنفسهم» ولم يكفهم أن يجيء ذلك «تطوعًا»، بل أرادوا أن يصدر عن حماسة، ومُثِّلَت المهزلة حتى ختامها في سلسلة من الاجتماعات، بدأناها باجتماع عام ضم كل من كان في المصنع من قادة الحزب ورؤساء العمل الفني ونقابة العمال و«البارزين» من صفوف العمال أنفسهم، فقد كان واجب هؤلاء أن يرشدوا غمار العمال إلى «فهم» طرائح الإنتاج الجديدة وقبولها.
وأُعِدَّ كل شيء وعملت تجاربه مقدمًا، فقُرِئَت خطبة ستالين التي ألقاها ثناءً على «الإستاخانوفيين»، ونهض «ستاروستين» عن النقابة و«كوزلوف» عن الحزب وآخرون عن الموظفين الفنيين، فشرحوا — تعلو وجوههم أمارات الجد — كيف أن معايير الإنتاج الوطيئة التي كانت سائدة عندئذٍ إن هي إلا بمثابة الإهانة للحماسة الاشتراكية والعبقرية الإنتاجية التي عُرِفَ بها حزبنا ومصانعنا، وكذلك قام الشيوعيون الطموحون الذين كانوا ينشدون الظهور والرقي، قاموا فاستغلوا هذه الفرصة في تأكيد عبادتهم لستالين تأكيدًا عبروا عنه بأقوال مكرورة رددوا بها ما تقوله الصحافة والإذاعة ترديد الصدى.
وقُرِئ في النهاية قرار باقتراح زيادة طرائح الإنتاج زيادة كبيرة، فوُوفق عليه «بالإجماع».
وبعدئذٍ عُقِدَت اجتماعات من فروع المصنع المختلفة، حضرها العمال كلهم، وأعلن زعماء السياسة ورؤساء العمل الفني — يعاونهم في ذلك «البارزون» من العمال — ما كانوا قد أعدوه من عبارات واقتراحات، فلما اجتمع رجال القسم الذي أديره من أقسام المصنع، جلس العمال عابسين صامتين لا تكاد تلمح فيهم علامة من علامات الاهتمام، وكانوا كلما ذُكِرَ اسم ستالين صفقوا تصفيقًا آليًّا، ولم يستطع رجال الحزب الهتَّافون الذين انتشروا في أجزاء القاعة أن ينفخوا في المجتمعين ما أرادوه لهم من تحمس حار، فمعظم الحاضرين من رجال ونساء كانوا قد فرغوا لتوِّهم من عمل مجهد دام ثماني ساعات، فكانوا متعبين قلقين لا يريدون إلا أن تنتهي هذه المهزلة التي أمامهم ليذهبوا إلى منازلهم. قُرِئ عليهم تقرير عن العمل المجيد الذي أداه «الإستاخانوفيون»، وأعلنت لهم الطرائح التي اقترح إنتاجها منذ عهد قريب، ثم وقف بعض أعضاء الصفوف الخلفية في نقابة العمال، وتكلموا كما أريد لهم أن يفعلوا حسب خطة وُضِعَت من قبل، فاستحثوا الناس على الأخذ بنظام الطرائح الجديدة في الإنتاج، وبدأت عملية التصويت.
وصاح رئيس نقابة العمال بما طُلِبَ إليه من قبل أن يصيح به، فقال: «أقترح أيها الرفقاء أن توافقوا على القرار بالإجماع.»
مَن الموافقون؟ فارتفعت أيدٍ كثيرة غير حافلة لما ارتفعت له.
ومَن المعارضون؟ صمت، وهنا ارتفع صوت امرأة ارتفاعًا مفاجئًا: «أيها الرفيق الرئيس، إن كيريوشكين ها هنا لم يصوِّت.»
بهذا انبعثت الحياة في الاجتماع لأول مرة، أفي جماعتنا ثائر؟ أبين الأرانب ليث؟ فها هو ذا رجل مغمور اسمه «كيريوشكين» — كائنًا من كان — بلغت به الجرأة ألا يرفع يده بالموافقة، وبهذا اكتُشِفَت جريمته ضد الاشتراكية! فالثورة في طرف، واليقظة الساهرة في طرف، والبلاد يجيئها الإنقاذ في آخر لحظة ممكنة.
سأل الرئيس في صوت المغيظ: «أيها الرفيق كيريوشكين ألست من المصوِّتين؟»
فوقف رجل نحيف وديع المحيَّا، وكان وجهه ملطخًا بالزيت لكنه ينم عن رزانة، وقال في صوت وقور: «لماذا يتحتم أن أصوِّت؟» قال هذا وهز كتفيه هزة يعبر بها عن عاطفته: «إن المعايير الجديدة نافذة على أي وجه من الوجوه، إن مهمتي هي أن أعمل، وها أنا ذا أعمل، ماذا تريدون مني غير هذا؟ أهو واجبي أن أرفع يدي موافقًا؟ لا بأس، فهذه هي يدي أرفعها.» ورفع فوق رأسه يدًا غير آبهة لما تفعل: «إن زوجتي وأطفالي يريدون مني زيادة في الكسب، وهذا الذي نصوِّت له معناه قلة فيما أكسبه …»
وضحك بعض الحاضرين، لكن الكثرة الغالبة ظلت صامتة متأثرة بما قاله الرجل وبالطريقة التي تكلم بها.
وصاح صائح: «أيها الرفاق، إن كيريوشكين يستخف بالاجتماع ويلطخ الحركة «الإستاخانوفية» بالوحل! إنه لا يحس بواجبه نحو الجماعة.»
فهز كيريوشكين — الذي كان ما زال واقفًا — كتفَيه مرة أخرى وقال: «واجب نحو الجماعة! لست أدري ماذا تريد، إنني أحس أن أجري كل شهر مائة وأربعين روبلًا فقط، ولديَّ زوجة وأطفال يريدون القوت.»
– «كفانا مهزلة! هيا إلى الموافقة على القرار!» قال الرئيس ذلك مقاطعًا، غير أن العامل الوديع غلبته جرأته فقال مخاطرًا بنفسه: «ماذا تعني بقولك مهزلة؟!» ثم رفع صوته على نحو لم يكن يتوقعه السامعون: «انظر إليَّ، هذه الحلة التي أشتغل بها هي الحلة الوحيدة عندي، ولن تلبث أن تصبح هلاهيل، وأسرتي جائعة لا تكفي لإطعامها هذه المائة والأربعون روبلًا التي أتقاضاها كل شهر، فإن كانت هذه مهزلة، إذن فكيف تكون المأساة؟»
وجلس، ولم يضحك من الحاضرين إلا قليلون.
وكانت مهمتي في هذا الاجتماع أن أشرح للحاضرين من وجهة النظر الهندسية أن معيار الإنتاج الجديد ممكن وعادل في آن معًا، ولم يكن لي بُدٌّ من أداء مهمتي، وبينا أنا أُلقي على الحاضرين حديثي، كدت أقنع نفسي — وإن لم أقنع السامعين — أننا قادمون على حياة جديدة أوفر ثراءً من حياتنا الراهنة لو عرف كلنا كيف يجيد العمل فينتح إنتاج الأكفاء، فقلت فيما قلت: إننا عشنا قرونًا في خمول وتأخر، ولا بد لنا أن نعوض هذا كله في جيل واحد قصير الأمد، وقد أحسست حينئذٍ بالأسف لنفسي ولهؤلاء الرجال والنساء المنهوكة قواهم، الذين هم بمثابة عشيرتي، فنحن الجيل الذي شاء له التاريخ — إن حقًّا وإن باطلًا — أن يحمل التضحية والعناء.
وكان في قرارة نفسي إذ أنا ألقي حديثي وأزداد في إلقائه حرارة، فكرة استقرت لا تتزحزح، وهي: «لا بد لي من مساعدة كيريوشكين …»
وختمنا اجتماع العمال، وكان ختامه تصفيقًا من هنا وتصفيقًا من هناك، وتفرق الناس، حتى إذا ما جاء اليوم التالي رأيت في صحف نيقوبول وصفًا للاجتماع بلغة الرياء التي نعهدها في مبالغات الكتابة السياسية: «طالب أمس عمال الشعب في مجموعة الصناعة التعدينية في نيقوبول وسط حماسة عاصفة، بأن تراجَع معايير الإنتاج القديمة التي لم تعد تلائم الزمن في تطوره، وأعلنوا بالإجماع أن …» ولم تذكر الصحف سطرًا واحدًا عن كيريوشكين.
أرسلت إلى كيريوشكين أن يجيء إلى مكتبي في نهاية العمل ذلك اليوم، فلما انتهت نوبة العمل، سمعت حركة في غرفة استقبالي.
سمعت أمينة سري تقول: «أين أنت ذاهب؟ إن الرفيق كرافتشنكو مشغول بحيث لا يستطيع لقاءك.»
– «صدقيني لست أريد لقاءه، لكنه هو الذي أرسل يطلب حضوري.»
– «ماذا بينك وبينه؟»
– «ماذا عسى أن يكون بيني وبين الرئيس؟ إنه يطلب مني الحضور فأحضر.»
فدققت جرسًا لأمينة سري وأخبرتها بأن تسمح للزميل بالدخول، ودخل كيريوشكين ممسكًا قبعته بيده.
قلت: «تفضل بالجلوس.»
– «شكرًا، أستطيع الوقوف.»
– «ولكن فيمَ الوقوف؟ تفضل بالجلوس.»
وجلس إلى مكتبي من ناحيته المقابلة لي، فسألته كيف حال العمل معه؟
فأجاب: «حال العمل معي هو حاله مع كل عامل آخر، فأنا أعمل ما بقيت في جسدي قوة تعمل.»
عرفت منه أنه جاء إلى المصنع منذ عامين، جاء من الريف بعد أن ضُمَّت مزرعته إلى المزارع الجماعية، وعرفت كذلك أنه كان يخدم قبل ذلك في الجيش الأحمر، وأنه أحضر معه بعض المتاع لكنه باعه لحاجته إلى المال.
– «إن زوجتي تمسح أرض الغرف في منازل بعض الموظفين، فيأتينا ذلك بما يعين، وهي تغسل الثياب كذلك، لكن لي أطفالًا ثلاثة وليس من السهل أن أدبِّر نفقات عيشهم ولكن فيمَ الشكاة وليس بين العمال من هم خير حالًا مني؟»
كان يتكلم في أناة، يزن كلماته وزنًا وينظر إليَّ وجهًا لوجه، ولم يكن في سلوكه غطرسة ولا خَوَر، لم يُبْد إلا أسفًا عميقًا أسلم زمامه لتصريف القضاء.
– «نعم يا فكتور أندريفتش، ماذا عسى أن أقول؟ إنك أنت، أنت واحد من الرؤساء، تستمتع بحياة طيبة، إنك تحيا في دنياك وأحيا أنا في دنياي، إنك لن تفهم حالة الناس الذين هم على شاكلتي.»
– «لا تزعم ما لا تعرف أيها الرفيق كيريوشكين، فقد أكون على فهم بحالة هؤلاء أكثر مما تظن، لكن دع عنك هذا الآن وقل لي، هل تريد أن تعمل في الآلة القاطعة، إن أجرك هناك سيرتفع إلى مائتين وعشرين روبلًا أو أكثر، وسيكون من حقك بعض الثياب: حلة وحذاء.»
– «بكل سرور، لا بد للإنسان أن يعيش.»
فأصدرت أمري أن ينقل إلى عمله الجديد، فشكرني وانصرف، وسرني من أعماق قلبي أن أراه من أول الأمر إلى آخره محتفظًا لنفسه بكرامتها دون أن يبدي أقل علامة من علامات الزيغ، واستدعيت «ستاروستين» واتفقت معه أن يدبر له شيئًا من المال يأخذه من «رصيد المساعدة المتبادلة»، ثم أمرت زيادة على ذلك أن تُصْرَف له مجموعة من ملابس العمل وحذاء.
كانت مسافة الخلف الاجتماعي بين رجل مثل «كيريوشكين» وبين «أرستقراطي» من نوع «إستاخانوف» أبرز في شعور الناس من المسافة بين العمال والإدارة، وذلك بسبب الصلة اليومية الدائمة بين مَنْ هم من قبيل «كيريوشكين» ومَنْ هم من النوع «الإستاخانوفي»، والظاهر أن السياسة الرسمية كانت تعقد النية على توسيع هذه الفوارق وعلى خلق أسباب أخرى مما يبث العداوة والريبة بين الناس ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.
كان المهندسون ورجال الإدارة في الصناعة يلقون ازدراءً يزداد يومًا بعد يوم لما زعموه فيهم من «رجعية» ومن «تعطيل» للذين يضربون لغيرهم الأمثال في سرعة الإنتاج، وقد ساهم رجال الهيئة التنفيذية من الحزب في هذا الإيقاع بالإخصائيين في أفخاخ المهاجمين، وذلك لئلا يتجه اللائمون نحوهم بلائمة، وهكذا أخذ نفوذنا ينهار انهيارًا لا ينقطع، فلما أحس بعض المهندسين ورؤساء العمال بل وبعض الأيدي العاملة الصغيرة، أن الكلمة العليا أصبحت لهم دون رؤسائهم، راحوا يتخذون قرارات جزافية يزيدون بها من أجورهم، وكثيرًا ما كان ذلك يؤدي إلى أفدح النكبات بالإنتاج على وجه الإجمال.
ونفخت السياسة في أبواق الكفاية الإنتاجية فاتخذت لنفسها حق التصرف في الشئون الصناعية، فكثيرًا ما كانت الكلمة النهائية في هذه الشئون للموظفين الشيوعيين أو لرجال الشرطة دون المهندس أو مدير المصنع، حتى لو كان الأمر متعلقًا بمشكلات فنية خالصة، فكنا في صميم عهد من عهود الفوضى والحرب الأهلية في دائرة الصناعة، ووقعتُ بين حدَّبن: التعليمات الآتية من موسكو من جهة، وارتياب الأدنين من جهة أخرى بين شاق الأعمال وتدهور النظام، حتى أصبح الاضطراب العصبي والإرهاق صفة حياتي العادية أو كادا.
وأيقظني التليفون ذات مساء، فإذا بي أعلم أن إحدى الآلات أصيبت بعطب فجأة فتعطل نصف الفرع الذي أشرف عليه من فروع المصنع، فتمتمت لنفسي قائلًا: «وهذا وجع رأس جديد.» ثم ارتديت ملابسي، حتى إذا ما بلغت المصنع وجدته يموج بألوان الموظفين، فرئيس القسم السياسي في نيقوبول قد حضر بنفسه، كما حضر «دوروجان» و«جرشجورن» وغيرهما من المساعدين، وأخذ «كوزلوف» و«ستاروستين» ومهندسون كثيرون يهرولون حلقات حلقات، بينما جلس الإخصائيون من رجال الشرطة في مكتبي يستجوبون مَنْ حامت حولهم الشبهات ويدوِّنون مذكراتهم.
ولم ألبث طويلًا حتى تبينت ما حدث، فلا بد أن بعض «الإستاخانوفيين» المتحمسين وأحد المهندسين، قد قرروا على غير أساس أن يزيدوا من سرعة دوران المخرطة، ولما كانت هذه الآلة الأسطوانية لم تصطبغ بالعقيدة في ستالين انكسر منها جزء كبير عند الحزام الرئيسي وتعطلت آلة عن العمل، وكان الأمر على كثير من الخطورة؛ لأن الآلة المكسورة كانت صناعة ألمانية فلم يكن في الإمكان إصلاحها أو تغييرها قبل زمن طويل.
كان الموظفون الذين تكاثروا هناك حينئذٍ يتجهون بتفكيرهم اتجاهًا بوليسيًّا، فلم يعنهم إصلاح ما فسد بقدر ما عناهم ضبط المسئولين عن هذا الحادث، فانبثَّ المحققون في أرجاء المصنع، وقامت استجوابات سرية في المكتب الرئيسي للقسم السياسي، سادها التهديد والشتائم، ولقد دُعِيت عدة مرات ووُجِّهت إليَّ أسئلة، بحيث لم يمضِ ذلك المساء بما فيه حتى خارت قواي ولم أعد كثير النفع في مباشرة العمل، فالتعليلات البسيطة الواضحة لم تكن لتقنع «جرشجورن» لما اتصف به من التواء وعجز في تفكيره، فكنت تراه يصيح ويرغي ويزبد ويطالب ﺑ «دليل» على اتهام هذا الشخص أو ذاك، وكلما ذكر اسمًا رأيت ملف أوراق يبرز فورًا من مكمنه. ولم يكفهم أن يفرضوا الرقابة على كبار الموظفين، بل فرضوها كذلك على الصفوف الدنيا من العمال.
وصرخ جرشجورن قائلًا: «كرافتشنكو، لست أراك بالمعين لنا فيما نحن بصدده، وصدقني إن قلت لك: إنك قد تدفع ثمن ذلك! فمن أجل نفسك أنت ينبغي أن تساعدنا على ضبط عوامل التخريب.»
وإذ نحن في معمعان هذه الأيام المليئة بأسباب الاضطراب، جاءني عامل ميكانيكي ماهر — هو دوبنسكي — يصحبه مساعده شباشنسكي، فبينما كان الآخرون في هياجهم يحققون، كان هذان الميكانيكيان العظيمان يخبران المعادن ويجريان التجارب الحرارية ويخططان التصميمات، وانتهى بهما البحث إلى الرأي بأن في مستطاعهما أن يصنعا بديلات للأجزاء المكسورة، لكنهما أرادا ضمانًا بأنه في حالة فشلهما لا تقع تبعة الزمن الضائع والمادة المفقودة على عاتقيهما.
وبعد دراسة ما قدماه من رسوم وأرقام، قررت أن التجربة التي يقترحانها جديرة بالاختبار، فأبلغت قراري «لبراتشكو» و«كوزلوف» و«بروسكي» وقاية لهذين الرجلين وحماية لنفسي، وكذلك أمليت تقريرًا وافيًا أرسلته ﻟ «رياسة صناعة الأنابيب» في خاركوف ثم عينت للتجربة ما يلزمها من رجال ومادة وأمرت بالبدء في إجرائها.
لكن على الرغم من كل ما اتخذته من أسباب الحرص السياسي، فقد كان يشغلني قلق عميق، إذ تصادف لي أن أعلم من مجرى التحقيق في مكتب القسم السياسي أن «دوبنسكي» هذا لأمر لا أدريه كانت تكتنفه غمامة من الريبة من قِبَل الهيئة الرسمية، مع أنه كان رجلًا مسنًّا هادئًا وقورًا قادرًا، وكان من الجميع موضع الإعجاب، لكنه لما كان قد علَّم نفسه بنفسه واتسعت مطالعاته، فقد كان يمثل الرجل المثقف من نمط ما قبل الثورة، وهو نمط أخذوا ينظرون إليه عندئذٍ بأنه يميل بشكل ظاهر نحو الذبذبة السياسية، ولقد كان «دوبنسكي» عضوًا في الجماعة «المنشفية» من فريق الديمقراطيين الاشتراكيين برياسة القيصر، ولم يكفه ثمانية عشر عامًا يقضيها في عمل يخلص له تحت إشراف السوفيت ليمحو هذه الوصمة الشنيعة من صحيفته.
وقبل كل شيء وأهم من كل شيء، فلقد خُيِّلَ إلى هؤلاء الذين اصطبغت عقولهم بالصبغة الشرطية، الذين لا يحيون إلا إذا أثاروا الفزع في النفوس، الذين يصعدون على أكتاف غيرهم والذين يتصيدون الأبرياء كما كان الناس يتعقبون السحرة في قديم الزمان، خُيِّل إليهم أن «دوبنسكي» هدف جميل يمارسون فيه أساليب الاضطهاد، وأراد القدر الساخر أن يكون «دوبنسكي» هو الرجل الوحيد الذي تقدم بفكرة عملية في سبيل إعادة الإنتاج إلى مجراه، فلو فشلت تجربته، فالأرجح عندي أن يتخذ «جرشجورن» وعصبته من هذا الفشل فرصة هم في انتظار مثلها؛ لأنهم عندئذٍ يتهمون هذا الذي كان في ماضيه عضوًا «منشفيًّا» بتهمة التعطيل المتعمد.
ظللت في المصنع مع «دوبنسكي» و«شباشنسكي» أربعة أيام، ووقف المخبرون التابعون للقسم السياسي جانبًا يرقبون، لينزلوا بنا الثبور إذا ما حادت بنا الأمور عن الجادة المستقيمة، لكن أمرنا انتهى إلى عاطفة تضطرب في صدورنا حين اختبرنا الآلة بعد تركيب الأجزاء الجديدة التي صُنِعَت لها حديثًا، فإذا الآلة تدور! لقد دارت عجلة الإنتاج دورتها من جديد.
ومع ذلك كله فقد مضى التحقيق في سبيله بضعة أسابيع أخرى، فإن الشرطة لما فشلت في إيجاد شخص أو أشخاص تمثل بهم لما أصاب الآلة عن عطب، أخذها الغيظ وأحست خيبة الرجاء كأنما قد خُدِعَت عن فريستها المشروعة، ولا أظن أن علاقتي برجالها قد حسنت بما تمَّ من إصلاح؛ إذ إنني لم أحافظ تمام المحافظة على كتمان رأيي فأعلنت أن الأمر كله في نظري حادث بسيط لا يستحق كل هذه اليقظة من رجال الشرطة.
كلا ولا حسنت علاقتي على الأيام بمندوبي نقابة العمال أو الحزب، فكاد ألا يمضي أسبوع يخلو من صدام بين حماستهم السياسية وبين وسيلتي في إدارة الإنتاج بعقل فطري سليم، وها أنا ذا أختار من عشرات الحوادث التي وقعت بيني وبينهم عددًا قليلًا مما أبقته لي الذاكرة، ولا أختار ما أختاره إلا جزافًا.
فقد حدث ذات صباح أن وجدت الفرع الذي كنت أشرف عليه من فروع المصنع قد أصابه اضطراب عجيب، فقد حدث شيء من الخلل وأحسست كأنما شُحِنَ الجو بالكهرباء، وسرعان ما شهدت السبب، ففي ركن من أركان المكان، وعلى مرأى من كل من كان في المصنع، رُصَّت بعض الأنابيب رصًّا فنيًّا ووُضِعَ عليها لافتة ضخمة كُتِبَ عليها ما يأتي: «يجب أن يعلم عمال هذا القسم ومهندسوه من ذا يعطل الحركة الإستاخانوفية.»
ثم تبع ذلك قائمة طويلة بأسماء، فالظاهر أنهم وجدوا عددًا من الأنابيب التالفة، فأرادوا أن يذلوا طائفة المسئولين على هذا النحو، مع أن الأسماء المثبتة في القائمة — فيما أعلم — كلها لعمال مخلصين لا يؤخذ عليهم شيء من التقصير، والعيب في الأنابيب قد يكون راجعًا إلى شوائب في صفاء الصلب ولا يمكن إلقاء التبعة جزافًا على هؤلاء الناس فأمرت بهذه الأنابيب «المعروضة» وما عليها من لافتة أن تُزَال عن مكانها، وغضب «ستاروستين» لذلك غضبًا شديدًا، وقرَّعني تقريعًا على تدخلي في عمله، وهو تربية أعضاء النقابة «تربية سياسية»، ولمَّح لي تلميحًا فيه نغمة التهديد بأنني أغض من شأن ما ينبغي أن يكون ذا شأن.
ولم يمضِ بعد ذلك طويل وقت حتى شهدت «ماكايف» الذي ابيضَّ شعره مع تقدم السن — وهو عامل كان له في نفسي منزلة لجودة عمله — شهدته يبكي في صمت إذ هو قائم بعمله، فلما سألته ما الخبر، أشار إلى الحائط المقابل، فنظرت فإذا بصورة «هزلية» لهذا العامل قد عُلِّقَت وكُتِبَ تحتها: «متلف للحركة الإستاخانوفية.»
وضرع إليَّ قائلًا: «فكتور أندريفتش، خلصني من هذا العار، فإني أعترف بأني ربما اقترفت إثمًا، والحقيقة هي أن زوجتي مريضة ولم تغمض لي عين مدى أيام عدة، فلست إلا بشرًا ولعل في هذا ما اقترفته من إثم، ألا يكفيهم أن يأخذوا مني لقاء التلف ما اقتطعوه من أجر؟ ألا بد أن يضيفوا إلى ذلك هذا التعريض بي لهزء الآخرين؟»
فناديت رئيس العمال.
سألته: «من ذا الذي علق هذه اللافتة؟»
– «رئيس نقابة العمال المنوط به قسمنا.»
– «انزعها فورًا وأرسلها إلى مكتبي.»
– «لا أستطيع يا رفيقي كرافتشنكو، فلو فعلت ذلك لجلبت على نفسي المشكلات.»
– «قل له: إن الأمر أمري وأنا متحمل تبعته.»
وأزيلت اللافتة المسيئة، لكنه لم يمضِ على ذلك بضع دقائق حتى جاءني عدد من موظفي نقابة العمال ومن متهوسي الحزب، فتزاحموا حولي، وأخذوا جميعًا يتكلمون في وقت واحد، يتهمونني بتعطيل «التربية السياسية» وتشجيع التدهور، كما يتهمونني بأنني «أهدم نفوذ النقابة والحزب»، وهددوا بأنهم رافعون شكاتهم مني إلى خاركوف بل إلى موسكو.
قلت: «هذا جد جميل يا رفاق، اشكوا ما رضيت نفوسكم بالشكوى، أما من وجهة نظري فأنتم الذين تُتَّهمون بالتعطيل بما تقدمون من إساءة إلى رجالي، وبما تهدمون من قوة العمال المعنوية، أنا رئيس هذا المكان، وأجدر بكم أن تعاونوني بدل أن تعاكسوني، ولأقلها لكم كلمة قبل أن أنساها: إن بعضكم كان يجب أن يكون الآن عاملًا بدل الوقوف ها هنا مجادلين.»
ولما تقدم ذلك النهار أرسل «كوزلوف» يطلب حضوري، فقد وصلت إليه الشكاوى التي قُدِّمَت في شأن «ماكايف»، وإنه في رأيهم لخطر «عظيم»، فعرضت رأيي وسرني أن أراه موافقًا لوجهة نظري، ووعد أن يكون ظهيري إذا ما استثارت حماقة هؤلاء الناس بعض الدوائر العليا، وشاع الخبر بأني أقف إلى جانب العمال ضد متهوسي السياسة، فأشاع في النفوس هزة رفعت مكانتي في قلوب العمال، لكن كان ذلك مسيئًا إلى مَن شئت من الموظفين ومن رجال الحزب ذوي النفوذ.
وحدث كذلك حادث استنفد من وقتي ومجهودي عدة أسابيع، وذلك أن عطبت آلة من صناعة ألمانية، وشق علينا أن نستبدل بالجزء المكسور جزءًا جديدًا، فتعطل جانب من مصنعي عن عمله ثلاثة أيام أو أربعة، فدهم القسم من جديد رجال الشرطة و«أصحاب السلطان» من ذوي الوجوه الجاهمة.
ودرست الحالة دراسة صوَّرت لي الأمر على حقيقته تصويرًا سرعان ما انتهيت إليه، فقد حدث أثناء الليل، وكان الضوء رديئًا، ولا بد أن يكون أحد العمال قد تناول خطأ قطعة من الصلب لم تكن هي القطعة التي قصد إلى تناولها، فقد كانت الآلة مُعَدَّة لنوع من الصلب يكون ما فيه من الكربون قدرًا ضئيلًا، أما إذا وُضِعَ فيها صلب يحتوي من الكروميوم على ١٨ إلى ٢٠ في المائة، ومن النيكل على اثنين في المائة، فإنها تصاب بالعطب، هذا هو الأمر على حقيقته ولم يكن ثمة من لغز عويص.
لكن القسم الاقتصادي لم يقتنع بسلامة تعليلي لما حدث، فقد كان لا يزال يتعقب ما توهمه من مؤامرات التخريب التي لم يتمكن بعدُ من ضبطها، فراح يحلل الصلب على النحو الذي يرضيه، ويستجوب عشرات من العمال، ويستدعي الإخصائيين من خارج المدينة، ويحصل على تقارير من أستاذ التعدين في معهد دنيبروبتروفسك، وبدا هذا الإجماع على رأي واحد في التقارير «غريبًا» في رأي الشرطة، ترى ماذا تكون «وجهة النظر السياسية» التي يعتنقها هذا الأستاذ الذي اتفق مع كرافتشنكو؟ أيكون بينهما صلة من التعارف؟ فعدت من جديد أنفق الليالي الطوال في جدال كنت فيه على حذر؛ لأن أية كلمة أنطق بها غافلًا، أية هفوة من هفوات اللسان، قد يكون مؤداها أن تعود بالخراب على مهندس أو عامل، ولا أقول على نفسي، وحاول «جرشجورن» هذه المرة أيضًا كما حاول في المرات السابقة أن يضيق نطاق الاتهام بحيث يحصره في «دوبنسكي»، لكني دافعت عن هذا الميكانيكي في كل موضع من مواضع الحديث.
وجاءني أمر مستعجل بصناعة أنابيب لا يأتيها الصدأ، وكان الأمر مذيلًا بإمضاء «أورزنكدز»، ولم يكن مصنعنا معدًّا لمثل هذا الأمر، ولم تكن لنا خبرة بمثل هذا النوع من العمل، فقبلناه بعد أن أنذرنا أولي الأمر ألا يتوقعوا منا في هذا الصدد أكثر مما ينبغي، فأُرسلت لنا من موسكو فرقة تعيننا على ذلك قوامها رجال خبروا هذا الضرب من ضروب الأنابيب، كما خبروا الصناعة الكيميائية التي طُلبت من أجلها هذه الأنابيب، وكان بين رجال تلك الفرقة إخصائي في التعدين اسمه «تيموشنكو»، وهو رجل نحيل صغير السن، يلبس منظارًا وقد أخذ الشيب يدبُّ في شعره، وخُيِّلَ إليَّ أنه في حالة من الذعر المتصل، وقيل لي إنه ابن أستاذ مشهور يسمى بهذا الاسم، كان وقتئذٍ يعيش ويحاضر في الولايات المتحدة.
وكان العمل بطيء الخطى بادئ ذي بدء كما توقعنا له أن يكون، ولم يكن مما أنتجناه أول الأمر من هذه الأنابيب أكثر من ١٠ في كل مائة يصلح للاستعمال، بل مرت أيام كان كل ما أنتجناه خلالها معيبًا، وجاءنا خبراء من نواحٍ كثيرة ليرشدونا، وعقدنا اجتماعات كثيرة فبحثنا خلالها درجة الحرارة ومقدار السرعة في السير في العمل، وأنماط الصلب وأنواع الالتحام، وكان كلنا حريصًا على أن ينجز ما أُمِرْنَا بصناعته، قلقًا لما أصابنا من تعطل، فمهما يكن من أمر العقيدة السياسية التي نكنُّها في صدورنا، فقد أحسسنا جميعًا أن ستالين قد يجيء وستالين قد يمضي، أما الروسيا فباقية إلى الأبد، وما هو الآن معرض أمامنا للخطر، إنما هو مستقبل الروسيا الصناعي، أما ما كان يُعنى به المخبرون الذين تكاثر علينا عديدهم، فهذا شيء واحد فقط: ماذا عسى أن يكون هناك من عوامل التخريب الخافية؟
وانتهى بنا الأمر إلى حل مشكلاتنا الفنية، ووُفِّقْنَا في صناعة الأنابيب التي لا تصدأ بحيث صادفت قبولًا لدى «جماعة كيمورفو الكيميائية»، ووُزِّعَت مكافآت طيبة علينا جميعًا، غير أن «جرشجورن» وزملاءه ظنوا أنهم قد وقعوا على فريسة فثبتوا فيها أنيابهم لا يَدَعُونها تمضي، وكانت الفريسة بالطبع هي «تيموشنكو» الشاب ومعه طائفة من المهندسين أرسلتهم الشركة الصناعية إلى خاركوف، فحدث ذات مساء أثناء جلسة عاصفة انعقدت في منتصف الليل، أن أخذ «جرشجورن» يصب لهيب غضبه على رأسي المكدود، فلماذا أقف موقف «الحامي من ابن وغد عاق لحزبه؟ ألم أعلم أن «تيموشنكو» كان على اتصال بأبيه الذي أسلم ما عنده للرأسماليين؟»
فقلت مؤكدًا: «كل ما أستطيع أن أقوله لك عنه هو أنه شاب قدير، بذل وسعه وأدى واجبه غير منقوص، نعم إننا قد صادفنا مصاعب كثيرة، لكني أؤكد لك أنه لم يخطئ أبدًا بحيث كان خطؤه سببًا في شيء من تلك المصاعب.»
– «إنك تلعب بالنار يا كرافتشنكو! أذكر أن هذا الأمر مما يهم الصناعة الكيميائية، فهو إذن أمر يتعلق بالدفاع الوطني، ومع ذلك فلست أراك تحرك إصبعًا في معاونتنا على حصد عوامل التخريب!»
ولم يقلع «جرشجورن» عن غيِّه إلا حين دفعني الناس دفعًا أن أهدد بالاتصال ﺑ «أورزنكدز» تليفونيًّا لأطلعه على هذا التدخل في عملي من رجال الشرطة، وهكذا كانت الحسنة الوحيدة في هذا الموقف كله هي أن قد كان لي ظهير أستند إليه، ولو وضعت مهندسًا في مثل هذا الموقف بغير ظهير كهذا يؤيده لألقى نفسه منذ زمن طويل في أحد السجون، أو في معسكر من معسكرات السخرة.
ولما دعاني «أورزنكدز» إلى موسكو في أوائل عام ١٩٣٦م، خُيِّلَ إليَّ أن هذه الدعوة بمثابة الدرع الواقية أرسلتها الملائكة لحمايتي، ذلك أن علائقي بالقسم السياسي كانت قد بلغت حدًّا بعيدًا من التحرج ولم يعد أمامي ثغرة للمروق، وباتت حياتي في نيقوبول من الصعوبة حدًّا لا يحتمل؛ لأني أبيت أن أتهم الأبرياء أو أن أغضي عن أفعال الشرطة التي تدفعهم إليها الظنون الخاطئة، أما وقد دُعِيت لمقابلة «الوزير» فقد أخذت أستجمع شجاعتي لعلي مستطيع أن أبسط الوقائع بين يديه، فتلك فرصة سنحت قد لا تعود.
حياني «أورزنكدز» تحية ودية، ثم أنبأني فيمَ دعاني، فقال: إن الحاجة قد مست إلى نوع خاص من الأنابيب لصناعة استخراج البترول في «باكو»، وإن الخطة المرسومة للبترول تتوقف كلها على السرعة التي نستطيع بها إنتاج مقدار معين من تلك الأنابيب.
قال: «إنني أتجه إليك يا صديقي لأنني أعلم أنك ممن أستطيع الركون إليهم، وسيكون بين يديك ما تريد من آلات ومواد وأيدٍ عاملة، فإذ أصبتَ التوفيق كافأتك بسيارة وسام، وكافأنا زملاءك جميعًا بالعلاوات.»
– «لا شك أني باذل جهدي لا أدخر وسعًا، وإنه ليسرني أنك عالم بما يعوزنا من آلات، ولكني أحب أن تعلم يا «جريجري كونستانتينوفتش» أنني أعمل في ظروف من تدخل القسم السياسي تجعل الحياة ضربًا من المستحيل؛ لذلك ينتابني اليأس.»
– «ماذا تعني؟»
فأخذت أقص في تفصيل كيف يتعقبون أعمالنا الفنية كما يتعقب الصائد فريسته، وكيف تأخذهم حمى الاضطهاد والاتهام مما حوَّل مصنعي — وسائر المشروعات في نيقوبول — إلى قاعة من قاعات التطهير، وأنبأته عن «دوروجان» و«جرشجورن» كيف يحاولان أن يجعلا من الحوادث الجارية مؤامرات على التخريب يخلقها لهما خيالهما، وكيف يجبران الناس على اتهام الأبرياء مثل «تيموشنكو» و«دونبسكي».
وختمت حديثي قائلًا: «لا أحب الكلام في هذه الأمور لكني لم أعد أستطيع السكوت، فمَن ذا الذي يدير صناعة التعدين؟ أهي رياسة الصناعات الثقيلة أم القسم السياسي؟ كيف نستطيع تجريب الجديد، كيف نستطيع تنفيذ الأوامر التي يقتضي تنفيذها إجراء التجارب، كيف نستطيع أن نخطو إلى الأمام خطوة واحدة، إذا عُدَّ كل ما يصيبنا من فشل وكل ما نزلُّ فيه من خطأ في بداية العمل الجديد مؤامرة على الإتلاف والتخريب؟ بل كيف يستطيع إنسان أن يؤدي عملًا كائنًا ما كان إذا وجد نفسه تحت «مراقبة» لا تنقطع من مخبري الشرطة ولجان الحزب وطوائف النقابة وأنصار السرعة الإستاخانوفية وغيرهم ممن يُعَدُّون بالمئات؟
ما الذي يمنعنا من وقف هذا الإرهاب الجاسوسي بحيث ندع الناس يعملون في طمأنينة وهدوء؟ إن الجيل القديم من مهندسين وإخصائيين كاد أن يفنيه الموت أو تقضي عليه التصفية، وأصبحنا اليوم من أنصار السوفيت، نشأت كثرتنا الغالبة نشأة هيَّأها الحزب كما يشاء، فإذا لم نكن أهلًا للثقة بحيث نعمل مدفوعين بعوامل من ضمائرنا، فأين الرجاء في رقي بلادنا؟ أما عن نفسي أيها الرفيق الوزير فلم أعد أطيق العمل في مثل هذه الظروف، فهؤلاء الأوغاد لا ينفكون يديرون رأسي دوارًا كأنني نحلة تدور، فكيف تريدون الرجل أن ينتج إذا كان دَوَّارًا في دوامة لا تقف ولا تسكن؟»
كان «أورزنكدز» تعلو وجهه الكآبة، يعض على شفتيه آنًا بعد آن، وكانت الشيخوخة قد دبت في جسمه دبيبًا سريعًا في العام الأخير أو العامين الأخيرين، ولم يعد يسارع إلى الضحك كما كان يفعل قبل، ولم يعد يفور بالمرح الصادر من قلبه عن تفاؤل الواثق كما كان يفعل قبل، ومهما يكن من أمر مشاعره إذ ذاك فقد كاد ألا يفصح عن شيء مما في نفسه إلى مرءوس له مثلي من مديري المصانع، ولا عجب فهو على كل حال عضو في «الهيئة السياسية العليا»، أعني عضوًا من اثني عشر عضوًا أو نحو هذا العدد من الرجال الذين كانوا أقرب ما يكونون صلة بستالين.
قال لي في صوت خافت: «هدِّئ من نفسك يا صديقي، ولست ألومك على تحدثك إليَّ بمثل ما تحدثت، فهنالك أشياء كثيرة تخفى عليك فلا تراها من حيث أنت، ولن أخفي عنك أنك واحد من مئات آخرين من قادة المهندسين الذين هم أعضاء في الحزب، وأفضوا إليَّ بمثل هذه الشكاة وفي هذا المكان بعينه … أما عنك خاصة فإني أعدك أنني ما دمت حيًّا، وما دمتَ أنت مخلصًا لواجبك، فلن يمسَّك أحد بسوء، هذا وعد مني إليك.»
ولم ينتظر حتى أخرج، بل تَلْفَن من فوره الرفيق «هاتايفتش» أمين اللجنة الإقليمية في دنيبروبتروفسك، الذي تقع منطقة نيقوبول تحت إشرافه، وأخذ — على مسمع مني — يعنِّف «هاتايفتش» تعنيفًا قاسيًا، وأمره بأن يكفَّ القسم السياسي في نيقوبول عن مضايقة الرفيق «كرافتشنكو» وإلا فلتبلغ له أسباب ما يصنعون.
ووضع السماعة مبتسمًا وقال: «هل يرضيك هذا؟»
– «أشكرك شكرًا جزيلًا، لكن ذلك لا يكاد يزيل من الإشكال الأكبر شيئًا، إذ لا يزال هذا النظام المخيف قائمًا.»
ولم يحدث قط منذ ذلك اليوم حتى مات «أورزنكدز» فجاءةً أنْ دعاني القسم السياسي أو استجوبني شيئًا، نعم ظل المخبرون حولي يعملون في نشاطهم المعهود — «ماكاروف» و«رومانوف» و«يودافين» ومئات غيرهم — لكني لم أمَسَّ منهم بسوء، فمهما ثارت في نفوس رجال الشرطة السرية من شكوك وامتعاض فيما يخصني، فقد كتموها في صدورهم مؤقتًا بناءً على أوامر ظهيري في موسكو، وقد يجيء اليوم الذي يتيح لهم أن يفلتوا فجأة من هذه القيود، فيغرقوني في خضم مخيف.
عدت إلى نيقوبول فجمعت كبار رجال المصنع والإدارات الفنية فيه، وبسطتُ أمامهم المهمة التي عهد بها إليَّ «أورزنكدز»، وكلَّفت عددًا منهم بواجبات معينة، وجاءتنا العُدَد والمواد كما وعد الوزير، وسرعان ما أخذت عجلة العمل في دورانها، وظللتُ بعد ذلك أسابيع أنام في مكتبي أكثر مما أنام في منزلي، حتى استطعت أن أنتج من الأنابيب اللازمة ﻟ «باكو» بنسبة أسرع مما وُضِعَت الخطة على أساسه، فجاءت التهاني من جديد منهالة على المصنع من «خاركوف» و«موسكو» ونُشرت صورتي في الصحف، وطار إليَّ «إيفانتشنكو» من «خاركوف» ليشكرني بنفسه.
وقد اهتزت نفوسنا هزة الغبطة الحقيقية حين استطعنا أن نقهر ما قام في سبيل هذا المشروع الصناعي العسير من صعاب، وكانت فرحتنا بتغلبنا على ما اعترض سبيلنا من ألوف المشكلات أعظم من غبطتنا بما اعترفت لنا به الهيئات الرسمية من تقدير، وما منحته من مكافآت مالية.
ولما كان «إيفانتشنكو» في نيقوبول دعاني ذات ليلة لعشاء، فقد تعارفنا منذ سنوات، وكنت أثق في إخلاصه، وإني وإن كنت خلال الفترة التي قضيتها عندئذٍ في المصنع — وهي تزيد على عام — قد ارتفعت منزلة بفضل تأييد الوزير فإنني كنت أتلوَّى من عذاب في فخاخ الجاسوسية، وجعلت أروي ﻟ «إيفانتشنكو» مثلًا في إثر مثل لأبيِّن له كيف يؤدي تدخل الشرطة وتوهم وجود مؤامرات على التخريب، إلى قتل روح الابتكار وتعطيل الإنتاج.
فأجابني في نغمة حزينة: «أُدْرك هذا الذي تشعر به يا «فكتور أندريفتش» ولا تحسبن أن الأعلين من الرجال أوفر من ذلك حظًّا، فها أنا ذا رئيس لمنطقة صناعية من أكبر المناطق، وعضو في الحكومة، وشيوعي قديم، ورجل ساهم في تقويض بناء «ونتر بالاس» في ثورة أكتوبر، فقد يسبق إلى وهمك إزاء هذا أنني محل للثقة، لكن لا! فهذه الجموع من النمل والحشرات قد تكاثرت بحيث تشيع في نفسي الفزع، أنا الذي لم يعرف ما الفزع في حومات الوغى حين تتعرض الحياة للخطر، لقد حيروني بتحقيقاتهم وشكوكهم حتى لم أعد أعلم من أين أسير وإلى أين، ففيمَ هذا كله؟ ما أظن أحدًا من الناس يعلم مجرى الأمور إلا «الرئيس».»
لما انزاح عن صدري مؤقتًا كابوس الشرطة، أحسست باستقلال لشخصي إحساسًا موهومًا لم يدم طويلًا، فتهيأ لي بفعل هذا الوهم أن أنظر بعين المتفائل إلى «دستور ستالين» الذي كان قد أذيع حديثًا، فقد بدا لي أن بقاء السلطة مركزة في أيدي حزب واحد أقل خطرًا وأهمية من الضمانات التي نص عليها نصًّا صريحًا بحيث تكفل للناس حقوقهم المدنية، بل تكفل لهم ما هو أهم من هذا، وهو تقييد أنواع السجن والقبض، فلو كان هذا الدستور الجديد دليلًا على اتجاه التفكير في الدوائر العليا، إذن فلا شك أننا قد اجتزنا أخبث مراحل الإرهاب.
فلا بد لحياة الإنسان من رجاء يتعلق به كما لا بد له من هواء يتنفسه، ولقد تحسست الطريق التي قد تؤدي إلى الزيادة من الحقوق الإنسانية التي يتمتع بها المواطنون السوفيت، كما تحسس الطريق إلى ذلك ألوف الألوف من الناس، وكنا في ذلك نلتمس النجاة لأنفسنا من غرق قد يغوص بنا إلى أعماق أعماق اليأس، كنا في ذلك نلتمس النجاة بكل بادرة من بوادر الأمل تبدو أمامنا مهما قل شأنها، وإذن فلو استثنينا عددًا قليلًا ممن رانت على قلوبهم غشاوة كثيفة من تشاؤم، فلم يروا في الدستور الجديد إلا خدعة جديدة، أقول: لو استثنينا هذا النفر القليل لصح لنا أن نقول: إن الشيوعيين تقبلوا الدستور تقبُّل من تتوق نفسه إلى تحقيق ما فيه.
فقد كان إحياء الأمل في نفوسنا حينًا بعد حين شرطًا لازمًا لبقائنا أحياء، لقد كنا نريد أن نسلم أنفسنا إلى إيمان مهما يكن فيه من إسراف، كنا نريد أن نخدع عقولنا ونغالط حواسنا، فكنا نحارب شكوك المتشككين في إخلاص، وكنا نلتمس المعاذير، ويمنِّي بعضنا بعضًا بما يصوره لنا التفاؤل من آمال لم نكن نؤمن بإمكان تحقيقها إذا ما خلا كل منا إلى نفسه، «فخير ما على الأرض من دساتير ديمقراطية» لم يخلق في صحرائنا السياسية إلا سرابًا.
أيكون قتل «كيروف» هو الذي أفزع السادة فحملهم على شيء من التساهل؟ فأوروبا كانت — فيما بدا — سائرة نحو الحرب، فهذا هو اغتصاب إيطاليا للحبشة اغتصاب اللصوص قد أعقبته حرب أهلية في إسبانيا، وهذا هو هتلر يهز سيفه النازي، أيكون السادة — إذن — قد صمموا إزاء ذلك على أن يوحدوا صفوف الشعب الروسي وراءهم بما يتفضلون به عليه من فتات الحرية؟ هكذا أخذنا ننفخ في صدورنا جذوة الأمل، ونجحد في أذهاننا نوازي الارتياب، ولم يكن يسيرًا علينا أن نبقي جذوة الإيمان مشتعلة في وقت أخذت ريح الإرهاب الأعمى تهب فيها عاتية على نحوٍ لم نعهده من قبل، وكان لا بد للإنسان من إغماض عينيه إغماضًا يكاد يكون صحيحًا بمعناه الحرفي، حتى يُبقي لنفسه على آخر بصيص من الأمل.
كان العمل جاريًا لتوسيع مجموعتنا الصناعية في نيقوبول، فأدت جموع العمال الذين كانوا يقومون بالبناء الجديد إلى تقليل موارد طعامنا وتضييق محالِّ سكنانا على نحو لم نشهد له مثيلًا، وحدث ذات يوم، في الوقت الذي كان صدري يجيش فيه بالأمل في تغيير يسير بنا نحو ما هو أفضل، حدث أن رأيت فرقة من جنود القسم السياسي تحوم حول مكان البناء الجديد، فلم يكن لذلك إلا معنى واحد، وهو أنهم قد جاءوا للعمل برجال سخروهم لذلك تسخيرًا.
ودنوت من المكان فوجدتني لم أخطئ التخمين؛ إذ وجدت أربعمائة أو خمسمائة من الرجال والنساء أضناهم الشقاء، وجدتهم يعملون تحت الحراسة المسلحة، وجدتهم جماعة من الكائنات البشرية على وجوهها من علائم الأسى ما لم أشهد له مثيلًا في كل ما عشت من سنين، فقد كانوا من هلهلة الثياب والقذارة وانحطاط الأجساد في صورة بشعة، لكن سكونهم في غير ابتسام كان أشد بشاعة من ذلك كله، وراحوا يعملون كأنهم ناس ضُرِبَت عليهم مسكنة وذلة، فقدوا كل اهتمام بالحياة حتى لم يعودوا ينظرون إلى ما حولهم نظرة الفاحص، أو يختلطون بالعمال الأحرار الذين كانوا يعملون على مقربة منهم.
كان هؤلاء المسجونون في نهاية كل يوم يُصَفُّون ثم يساقون إلى ثكنات خُصِّصَت لسجنهم تبعد عنا بضعة أميال، وبعد بحث دقيق علمت أن هؤلاء العمال قد تم «الاتفاق» على استخدامهم بين الموظفين القائمين على بناء هذه المنشآت وبين رجال القسم السياسي في مفاوضات رسمية، بحيث يُدْفَع للقسم السياسي عن كل سجين مبلغ يقرب مما يُدْفَع للعمال الأحرار، وهكذا كان القسم السياسي يسخر الملايين من المسجونين السياسيين تسخيرًا مباشرًا — في استخراج الملح أو استنجام الذهب أو في مد السكك الحديدية واحتطاب الخشب من الغابات وتجفيف المستنقعات وبناء المواني — حتى إذا ما تبقى من المسجونين السياسيين فيض بعد ذلك كله؛ استغلوه رقيقًا في مشروعات سوفيتية أخرى.
وحدث في عطلة الأسبوع إبان الصيف أن استقللت قاربًا بخاريًّا مع صديق وسبحت به في نهر الدنيبر، وكان معنا كثير من الطعام وزجاجة من النبيذ، فلما بلغنا مكانًا من الشاطئ بليل الهواء تظلله الأشجار، جلسنا فأكلنا، ثم مشينا بعد ذلك مشية طويلة في طريق يمتد حذاء الشط، وإذا نحن فجأة نسمع صوتًا أمامنا، حتى إذا ما جئنا إلى حنية في الطريق وجدنا منبسطًا فسيحًا تغطيه المستنقعات، ورأينا بضع مئات من رجال ونساء يشتغلون تحت حراسة مسلحة.
عندئذٍ أحسست كأنما أقحمت نفسي على فاحشة، وكان أول ما بدا لي أن أصنعه هو أن أنسحب متظاهرًا بأني لم أرَ مما رأيت شيئًا، لكن دافعًا جذبنا جذبًا نحو المكان، حيث العمال في هلاهيلهم يغوصون في الطين والماء إلى رُكَبهم، فلا تكاد تتبين منهم شيئًا من صفات الإنسان، وأخذت سحائب من بعوض المستنقع تموج فوق رءوسهم، فقد أشعل الحراس المشاعل ليذبُّوا عن أنفسهم البعوض، وأما المسخرون فالظاهر أن قد اعتادت أجسادهم لسع الحشرات، واستقر بصري آخر الأمر على فتاة على ملامحها سحنة الأموات، اسودَّ وجهها ويداها بفعل البعوض، لكنها لم تنفك عاملة بمجرافها لا تحفل بشيء، كأنها لم تكن تدري أنها تؤكل أكلًا وهي لا تزال على قيد الحياة.
ودنا منا ضابط.
قال: «لماذا لا تنصرفان إلى سبيلكما أيها المواطنان؟ ليس هذا معرضًا للمتفرجين.»
قلت: «أنا من رجال الحزب ورئيس أحد المصانع، وهذا الذي أراه مما يهمني من الوجهة الفنية الخالصة، فماذا يصنع هؤلاء؟»
– «إننا نجفف المستنقع.»
سألته: «أهو مشروع يقوم به القسم السياسي؟»
– «كلا، بل يقوم به السوفيت في نيقوبول، لكنهم «تعاقدوا» مع القسم السياسي على إمدادهم بالأيدي العاملة.»
وعدنا في صمت إلى القارب البخاري حيث أخذنا سمتنا نحو الدار، فقد شعرنا بأن استئناف الرحلة بعد الذي رأيناه ضرب من النذالة الخلقية، وكنا قد أنفقنا الصباح كله نتحدث في الدستور وفي إمكان تحقيق ما وَعَدنا به، أما بعد هذا الذي رأيناه فلم نستأنف ما كنا قطعناه من حديث.
كان قد حدث بيني وبين والدي شيء من القطيعة أخذ يزداد على مر الأيام منذ التحقت بالحزب، فكنت إذا ما تحدثت في حضرته أحس كأنما يلزمني الواجب أن ألتمس المعاذير لضروب السياسة التي لم أضمر لها في نفسي إلا مقتًا وكراهية، فقد كان مما يضيق له صدري على صورة لا أستطيع أن أتبين تعليلها على وجه الدقة أن أسمع والدي يضرب المثل العليا التي يجب أن تُحْتَذى، ويعيد ويكرر المبادئ الإنسانية، وأن أراه عاجزًا عن مسايرة الضرورات العملية بحيث ينزل عن شيء من تلك المعايير، وها أنا ذا أعود بذاكرتي إلى الوراء فأعلم علم اليقين الآن ما كنت حينئذٍ لا أجاوز فيه حدود الارتياب، وذلك هو أن أبي إنما كان أمامي بمثابة الضمير قد تجسد في إنسان، وأن ما كان بيني وبينه من خلاف إنما هو خلاف بيني وبين ما يمليه ضميري عليَّ إذا ما أردت أن أصف الواقع وصفًا أدنى إلى الصواب، فبدل أن ألزم نفسي إلزامًا أن أسوي ما بيني وبين ضميري من خلاف، رحت أحاول التوفيق بيني وبين والدي في وجهة النظر.
وكان أبي ينبئني أحيانًا أثناء زياراتي لهم عمن قُبِضَ عليه و«اختفى» من بين الرجال الذين عرفناهم معًا أعوامًا طوالًا في مصنع «دنيبروبتروفسك»، وأحسست كأنما يعدني أبي مسئولًا شخصيًّا — باعتباري عضوًا في الحزب — عن كل ما يقع من إجحاف، وأمسكت عن تبليغه ما يحدث شبيهًا بذلك من حوادث القبض في «نيقوبول»، وما أراه من جماعات المسخَّرين من المسجونين، وما أعانيه من فعل الجواسيس.
وكلما أحسست في نفسي هذا الحافز على إخفاء ما أعلمه عن أبي دون سائر الناس جميعًا، وهو حافز لا يبرره سند من العقل، ثارت نفسي على نفسي غضبًا وخجلًا؛ لأن ذلك في حقيقة الأمر إن هو إلا بمثابة إخفاء ما أعلمه عن نفسي.
لم أكن شديد الرغبة في أن يزورني أبي في «نيقوبول»، ولم أشأ أن أصف له فخامة العيش الذي كنت أعيشه هناك، حتى لا أعرض أمام عينيه الفاحصتين صورة قد لا يرضاها، ومع ذلك فقد ألححت في رجائي إياه أن ينفق معي بضعة أيام، فوافق على زيارتي بعد إلحاح، ولما كان يجوب أنحاء منزلي الفسيح بما أمامه من حديقة للزهور وما خلفه من حديقة أخرى للفاكهة، وما له من حظيرة لسيارتي، أخذ يزداد في نفسي شعور القلق والحيرة، وكان كل ما قاله أبي: «إنك تعيش عيش السادة النبلاء.»
واعترتني الحيرة نفسها التي لا يبررها سند من العقل، حين طلب إليَّ جوازًا يدخل به المصنع، فقد كرهت أن يتناول أبي بمعاييره الخلقية القاسية ما لا بد أن يراه من ظروف العمل في المصنع، ومع ذلك فقد اضطرني واجب البنوة أن أوقع له على عدد من جوازات الدخول، ولم أعد أراه إلا قليلًا خلال بضعة الأيام التي تلت، ولقد توثقت عرى الود بينه وبين كل من صادفه أثناء تجواله، إذ كان هذا الرجل الرشيق المكتهل بملامحه الدقيقة الواضحة المعالم، وعينيه الشابتين الجادتين، على أتم ما يكون الإنسان ارتياحًا، كلما وجد نفسه بين طوائف العمال، وقد كان العمال يقبلونه واحدًا منهم في غير تكلف ولا عناء، حتى لقد لبث العمال رجالًا ونساءً عدة شهور بعد زيارة أبي يسألونني عنه بلهجة تنمُّ عن عاطفة ساذجة صادرة من قلوبهم.
–قال لي «دوبنسكي» الكهل يوم أن رأى أبي: «أي رفيقي «كرافتشنكو»، إن أباك رجل لطيف، لطيف حقًّا، إنه يوحي إلى الإنسان أن يزهى بكونه عاملًا يشتغل بساعديه، وفي رأيي أنه يعلم من أمر الآلات ما لا يعلمه معظم مهندسينا.»
فوافقته قائلًا في شيء من التكلف: «نعم، فقد كان أول من علمني الصناعة.»
وفي نهاية ذلك اليوم كنت في مكتبي أراجع تصميمًا مع بعض زملائي، فإذا أنا أسمع ضجة في حجرة استقبالي، ورفعت أمينة سري صوتها: «أنا أسألك أيها المواطن لماذا تريد أن تقابل الرفيق كرافتشنكو؟»
وسمعت صوت أبي يرتفع على صوتها: «أمن شأنك أن تعلمي ذلك؟ أهو حاكم مستبد أم رفيق حتى ليضطر الإنسان أن يتوسل توسلًا ليؤذن له برؤيته؟ أليس لديكم ها هنا إلا جوازات للدخول واستئذان قبل المقابلة!»
– «إذن فلن آذن لك بالدخول أيها المواطن، فلا بد من طاعة القانون.»
– «الله الله على قانونكم!» صاح أبي بهذه العبارة ثم دفع الباب دفعًا ودخل مكتبي، أخجله أن يرى معي ناسًا آخرين، لكنه لم يستطع كظم غيظه: «أي نوع من القانون هذا يا فيتيا؟ ما هذا؟ إن الرجل في أيام القياصرة من أسرة «رومانوف» نفسها لم يكن ليتعذر عليه لقاء الرئيس، لكني ألتمس المعذرة، فقد ظننتك وحيدًا هنا.»
وقدمت أبي للحاضرين، ثم طلبت إليه الخروج، وكان أبي ممن لا يخطئون بغير التماس المعذرة.
– «لقد أبديتُ شيئًا من القحة فألتمس منك العفو عما بدر مني، والحق أن هذه الرسميات كلها وهذه الفوارق كلها التي تباعد بين غمار الناس وبين الموظفين لمما يضيق له صدري ضيقًا شديدًا.»
فلما أن طمأنته بكلماتي التمس مني مكرمة، وهي أن أتفضل فأطلعه على دفاتر القيد الخاصة بمصنعي؛ لأنه بعد أن شاهد ضروب العمل هناك بضعة أيام أراد أن يعلم كم نؤجر القفالين والخراطين وعمال الكهرباء وغير هؤلاء وأولئك من العمال، كما أراد أن يعلم كم رجلًا تمتع باستراحات الحكومة خلال عطلته وبأسباب الراحة الأخرى خلال العام المنصرم، ولما لم تكن هذه المعلومات المطلوبة سرًّا مكتومًا، دققت الجرس أطلب رئيس مكتب القيد وأمرته أن يضع دفاتره تحت تصرف أبي.
ولبثت بعد ذلك عدة ساعات في المصنع، حتى إذا ما عدت إلى الدار وجدت أبي قد سبقني إليها، فلما اجتمعنا على العشاء بدت على وجهه علائم الهموم، لكننا أخذنا نشقق الحديث في أمور مطروقة لا نتعمد اختيارها، غير أني أدركت أن أبي كان قد ادخر في نفسه ما أعد من قنابل فيفجرها في حديث «جاد» نبدؤه فيما بعد، وقد أدركت ذلك في يقين حين اقترح عليَّ أن أصرف «باشا» عن الدار ذلك المساء، وقد أضاف والدي إلى ذلك قوله: «لا حاجة بنا إلى آذان غريبة عنا.»
جلست على أريكة في غرفة مكتبي وأشعلت لفافة وأعددت نفسي لأسمع منه ما يقول.
– «وبعد يا أبت، ماذا يشغلك؟»
– «لقد لبثت يا بني زمنًا طويلًا أتمنى الفرصة التي أحدثك فيها حديثًا مكشوفًا صريحًا، إنك عزيز عليَّ، لا باعتبارك ولدي فحسب، بل كذلك باعتبارك إنسانًا شهدته يتفتح خلال أعوام ثلاثين، ومع ذلك فكلما كرَّت الأعوام ازدادت الصراحة بيني وبينك عسرًا، وإن ذلك لعلامة سوء؛ لأنها علامة على المخاوف التي تكتنف حياتنا هذه الأيام.»
– «يؤسفني ذلك يا أبت، ولكني أسائل نفسي ترى هل يساير أبي التاريخ في خطاه؟ أعني أنني أشك في أنك لا تزال تحيا في جو عصر غبر.»
– «أنا معترف يا «فيتيا» بأنك أغزر مني علمًا بحوادث السياسة الجارية، فأنت رجل من رجال الحزب العاملين وموظف له خطره في الدولة، إذ تشرف على ألف وخمسمائة عامل، وتدير إنتاجًا تقدر قيمته بعشرات الملايين من الروبلات، ومع ذلك كله فأحسبني أكثر منك علمًا بغمار الناس، العمال منهم والمزارعين، فما أسرع ما يجرف الإنسان تيار الحوادث بحيث لا ينظر إلى غمار الشعب إلا من طرف المنظار الخاطئ، وكان واجبه أن ينظر إليهم من طرفه الآخر، فلديك وفرة من المال وألوان الراحة والسيارات والخدم …»
– «لست يا أبت فيما أرى حقيقًا بهذا التقريع، فما سرقت شيئًا، إنما هي أشياء أعطانيها نظام الحكم القائم، فتراني مقابل ذلك أعمل أكثر مما يعمل الفلاح.»
– «لست أريد لك تقريعًا بما قلت، فأرجوك ألا تسيء فهم ما أقول، لكني لا يسعني سوى أن يأخذني الهم خشية أن تكون قد أضعت من قلبك شعور الإخاء مع سواد الناس، ولأقلها في عبارة أصرح: إني أخشى أن تكون من هؤلاء الحاكمين (البيروقراطيين) الذين ترضى نفوسهم كل الرضى إذا ما رأوا أنفسهم رؤساء يتحكمون في أفراد الشعب الروسي الذين لم يسعدهم الحظ.»
– «لست أفهم في جلاء ماذا تريدني أن أصنع، فما أنا إلا ترسًا ضئيلًا في آلة كبرى، الحق يا أبي أني أبذل في العمل جهدًا لا يبقي لي من وقتي فراغًا ولا من قوتي فضلًا بحيث أشغل نفسي بالمبادئ الأولى، إنني في عملي كمن دُفِنَ في رمسه.»
– «واختصارًا فأنت تتحول شيئًا فشيئًا إلى نعامة تخفي رأسها في الرمال فتختفي بذلك جميع المشكلات، إنك تقول: ليس الخطأ خطئي ولست أنا بالمسئول عن صيانة إخواني من سائر الناس، وليكن بعد ذلك ما يكون، نعم فلقد شهدت الأيام الغابرة كذلك ناسًا من هذا الطراز، إن آلام بني وطنك لم تعد تمس من قلبك الشغاف.»
– «استمع إليَّ يا أبت، لا تحسبن أني غافل عما يقع، أو أني قد أحنيت ظهري للنظام القائم، فأنت على كل حال لا تدري ماذا يدور في نفسي ويدور في نفوس ألوف الألوف من سائر الشيوعيين، ولكن ماذا عسى أن أصنع؟ أأخرج في الطرقات فأصيح: الغوث الغوث! أمسكوا القاتل! وفضلًا عن ذلك فلا تنسَ أن هنالك عناصر إيجابية كذلك، فهنالك مصانع جديدة ومناجم جديدة وسكك حديدية …»
– «طبعًا يا فيتيا طبعًا، لكن الثورات لا تثور من أجل المصانع والسكك الحديدية، إنما تثور من أجل الشعب، إن جوهر الأمر كله هو حقوق الإنسان وما يتمتع به من حرية، وبغير هذه الحقوق وهذه الحريات، بغير هذه الكرامة الإنسانية، فالناس عبيد ولا عبرة بعد ذلك بالصورة التي تحوَّل إليها سجنهم بفعل التحول الصناعي، فأنتم أيها الشيوعيون حين تزهون بالمصانع الجديدة، فإنما تعنون بذلك أن الناس قد حسنت أحوال عيشهم، وإذن فالسؤال هو: هل حسنت أحوال العيش بالفعل لأهل بلادنا؟»
– «أظن ذلك لو قورنت حياتهم الآن بما كانوا يعانونه من شقاء أيام القياصرة.»
– «فيتيا! لماذا تخدع نفسك؟ ألا تذكر حياتك في بيت جدك وفي بيتي حينما كنت غلامًا؟ لم نكن أغنياء، لكننا لم يعوزنا قط الخبز واللبن والثياب الضرورية، بل قد كانت لك ولإخوتك مرضعة خاصة، لقد عشنا عيشًا لا يعاب، ولو عدت بذاكرتي إلى الماضي لوجدت حياتنا إذ ذاك حياة مترفة بالقياس إلى حياة أسرة من الطبقة العاملة الآن، كم عاملًا له اليوم بيت يسكنه من طراز البيوت التي سكنَّاها؟ إن حياة الجوع والهزال التي تحياها أكثرية الناس اليوم، لم يَشْقَ بها في الماضي إلا نفر قليل.
إنني حين طلبت إليك اليوم أرقامًا عن مصنعك، إنما فعلت ذلك لسبب، فلأمر ما لا أزال أذكر جيدًا ما يقابل هذه الأرقام من أيام ما قبل الثورة، فالقفالون في نيقوبول يتقاضون اليوم أجرًا يتراوح بين مائة وخمسة وأربعين روبلًا ومائتين في الشهر، بينما كانوا يتقاضون قبل عام ١٩١٧م أجرًا يقع بين خمسة وثلاثين روبلًا وخمسين، وكان الخراط الماهر عندئذٍ يتقاضى أجرًا يتراوح بين خمسة وأربعين وخمسة وثمانين روبلًا، وهو اليوم يتقاضى ما بين مائتين وثلاثمائة وخمسين، فلو أدخلنا في حسابنا صنوف العمال الأخرى من قلَّابين وصهارين وعمال الكهرباء، فمتوسط الأجور اليوم هو مائتان وأربعون روبلًا، بينما كان المتوسط خمسة وخمسين روبلًا في الأيام الغابرة.
كم دفعت ثمنًا للحلة التي ترتديها؟»
– «ثمانمائة روبل.»
– «ثمانمائة روبل! هذا أجر عامل صهار ماهر في ثلاثة شهور أو أربعة! أتدري ماذا كانت هذه الحلة تساوي في الأيام الغابرة؟ من خمسة عشر روبلًا إلى عشرين على أكثر تقدير، وإذن فهذه هي الصورة أمامك فانظر، ارتفعت الأجور النقدية بحيث أصبحت من ثلاثة أمثال إلى خمسة أمثال ما كانت عليه، وهم يطنطنون بهذه الزيادة على أنها تقدم اقتصادي عظيم، لكن تكاليف العيش لم تزد مقدار خمسة أمثال ما كانت عليه، بل زادت بحيث أصبحت خمسة عشر مثلًا بل أربعين بل خمسين مثلًا، لقد كان القفال الذي يتقاضى في الماضي خمسين روبلًا يعيش في بحبوحة، وهو اليوم يكسب مائتي روبل ويعيش عيش المشردين الأشقياء.»
– «لكنك قد نسيت ما يتمتع به اليوم من مزايا: عطلات بأجور ورعاية طبية ومدارس لحضانة أطفاله …»
– «هذا جميل، فلننظر إلى هذه المزايا، إنك تسميها منحات بالمجان، وأنت تعلم أن جزءًا كبيرًا يقتطع من أجور العمال لتغطية ما تكلفه هذه المزايا من نفقات، إذ يُقتطع من أجر العامل من عشرين إلى خمسة وعشرين في كل مائة مما يكسب، ليدفع رسوم النقابة والقروض الإجبارية وما إلى ذلك، فالعامل في الماضي كان في مستطاعه أن يدفع من عشرين إلى خمسة وعشرين في كل مائة من أجره ليحصل بها لنفسه على ما يريد من معونة طبية وعطلات، دون أن يوضع من الحكومة موضع مَنْ أُحْسِنَ إليه.
لماذا نحتاج إلى دور لحضانة الأطفال؟ لأنه لا يستطيع من الزوجات أن يبقى في الدار لرعاية الأطفال إلا عدد قليل، كان العامل فيما مضى يستطيع أن يعيش مع أسرته عيشًا لا بأس به ولا يكلفه أكثر من خمسين روبلًا في الشهر، أما اليوم فإن تقاضى مائتي روبل، فلا بد له إلى جانب ذلك أن يرسل زوجته وأبناءه الكبار ليعملوا حتى تتعادل مكاسبه ونفقاته، وأما عن الرعاية الطبية التي يظفر بها العمال، فخير لنا ألا نمسَّها بحديث، أإذا مرضت يا فيتيا تذهب إلى العيادة الحكومية؟»
– «كلا، بل أستعيد الدكتور جوركين عيادة خاصة.»
– «طبعًا، وهكذا يصنع كل من يستطيع إلى ذلك سبيلًا، فأنت تعلم كما أعلم أن السبيل الوحيدة — إن أردت علاجًا مفيدًا — هي أن تدفع أجرًا، فالعناية الطبية، شأنها شأن كل شيء آخر، قد أفسدتها الإدارة المستبدة (البيروقراطية) كما أفسدها عدم الاكتراث، ولكن ما قصة هذه الاستراحات التي يقضي فيها العمال عطلاتهم والتي تطنطن بها الصحافة الشيوعية؟ إن في مصنعك يا فيتيا ألفًا وخمسمائة عامل، فهل تعلم كم من هؤلاء قد استفاد بهذه الاستراحات خلال العام المنصرم؟»
– «لست أدري، وأظنهم بضع مئات.»
– «أخطأت، فقد راجعت الأرقام اليوم ولم أجد في المصنع كله إلا سبعة وخمسين تمتعوا بذلك الامتياز، ومعنى ذلك أن الألف والخمسمائة عامل قد دفعوا كلهم جزءًا من أجورهم نظير هذه المتعة، لكن لم يتمتع بها فعلًا سوى سبعة وخمسين، وبالطبع كانت الاستراحات مليئة طول الوقت بزائريها، مليئة بالمديرين ورجال الحزب وكبار «الإستاخانوفيين» وغير هؤلاء ممن تخصهم الدولة برعايتها، نعم إني أرى ضرورة التأمين الاجتماعي والعناية الطبية وما إلى ذلك، على شرط أن تُمْنَح هذه الامتيازات للعمال منحة تنفق عليها الدولة من أرباحها باعتبارها مالكة المصانع والقائمة على إدارتها، أعني الأرباح التي كان يجنيها الرأسماليون فيما مضى، ولا تقتطع النفقات من أجور العمال أنفسهم، وفي هذا وحده أساس الثورة كلها.
لكن أين تذهب أرباحكم؟ إن صناعتكم بل إن اقتصادكم كله ينتهي بكم إلى خسارة، وعلينا نحن المواطنين جميعًا أن نسدد هذه الخسارة، إن ما يؤلم يا بني هو أنكم تعطون التوافه ثم تزهون كأنما أعطيتم شمَّ الجبال، إنه ليؤسفني أن أقول: إن التقدم الاقتصادي ضئيل إذا قيس بما بذلناه من أجله وما ضحينا به في سبيله.
إنه لا يصدِّق ما أنتم زاعموه من حكايات خلقتها أوهامكم إلا الأجانب الذين خلصت نواياهم، وإلا الشباب الذين لم يعيشوا في الماضي ليذكروه، إن الوقائع المادية لا تساوي — فيما أرى — الحقائق السياسية والروحية، لكنكم في دعايتكم لا تذكرون إلا ما أديتموه في عالم المادة؛ ولذلك فأنا أقيس أعمالكم بمقياسكم أنتم للأمور.»
– «لو كان كل شيء في الماضي جميلًا يا أبت، فلماذا رحبت بالسجن وعملت على إثارة الثورة؟»
– «لا تتكلم كلامًا فارغًا من المعنى! إنك تعلم أني لا آسف على شيء، وأني أعيد كل ما عملته لو عادت الأمور من جديد، لقد جاهدنا لنمحو الشرور، وخاطرنا بأرواحنا في سبيل إزالة الطغيان السياسي والظلم الاقتصادي، وليس معنى ذلك أننا مستعدون أن نفخر بالشرور نفسها إذا ما تغيرت أسماؤها، إن تبرير ألوان العسف القائمة اليوم بيننا على أساس ما كان في ماضينا من شرور لمن قبيل التهريج الشعبي الرخيص.»
– «لكن كل شيء اليوم ملك للشعب، وليس بيننا الآن رأسماليون ولا مستغلون.»
وكنت أزداد حرجًا في صدري كلما أخذنا في الحديث، وعلة ذلك على وجه الدقة هي أنني كنت من صميم قلبي أوافق أبي على كثير مما قال.
– «لا تتظاهر بالغفلة يا فيتيا، إن العامل الذي لا يجد ما يكفيه من قوت، على الرغم من أنه يشتغل هو وبعض أفراد أسرته في كثير من الأحيان، لا يعنيه في كثير مَن ذا يستغل جهده، أهو مالك من الأفراد أم هي الدولة، إنه إذا ما سيق إلى السجن فلن يجد العزاء في كونه يساق إلى السجن باسم الشعب الذي هو فرد منه، فمهما يكن من أمر الرأسماليين، فقد كان في مقدوري إذا ما قصر الرأسمالي في أجري أو في تهيئة ظروف طيبة يسير فيها العمل أن أغير عملي، وكذلك كان في مقدوري عندئذٍ أن أبثَّ ما شئت من دعاية في زملائي العمال، وأن أدعوهم لاجتماعات كيما نعلن احتجاجنا، وأن أدبر الإضراب وأنضم إلى ما شئت من أحزاب سياسية وأنشر ما أعارض به الحكومة، أما اليوم فافعل شيئًا من هذا تجد أن قد انتهى بك الأمر إلى معسكر للاعتقال أو ما هو شر منه، صدقني إن زعمت لك أن مجال الحياة كان أوسع نطاقًا حينما كان لدينا مائة ألف من أصحاب رءوس الأموال الذين يستخدمون الأيدي العاملة، منه اليوم حين يقوم على أمورنا مخدوم واحد هو الدولة، لماذا؟ لأن الدولة لها جيش وشرطة سرية وسلطان لا تحده الحدود، لقد لبثت طول عمري أكافح الرأسمالية، وما زلت عدوًّا لها، لكن ذلك لا يعني أن أهلِّل مكبرًا للاشتراكية التي تقوم على رجال الشرطة.»
لم أنبس بكلمة وما وسعني سوى أن أعبس بوجهي.
«كان في مقدورنا على الأقل أن ندير في رءوسنا من الخواطر ما نشتهي، فقد كان هنالك أحزاب سياسية كثيرة وشيع وآراء منوعة، وإني لأرى الحكم المطلق الذي كان فيما مضى قائمًا على الرغم من كل غلظته؛ أراه أكثر سماحة بالقياس إلى ما أشاهده اليوم، نعم كانت الشرطة القيصرية تضرب المضربين، بل كانت أحيانًا ترميهم بالرصاص، وكثيرًا ما قتلت أو طوحت إلى النفي بالثائرين، لكن ذلك كله كان يتم على نطاق أضيق مما تتم عليه نظائر هذه الأشياء اليوم، فقد كنا نعد المسجونين السياسيين بالألوف وأما اليوم فنعدهم بالملايين، وكان إذا ما وقع بأحد شيء من الإجحاف قابله الناس بالاحتجاج والمظاهرات والاجتماعات الحافلة، أما اليوم فليس في وسعنا إلا صمت القبور.
خذ ما يسمى نقابات العمال، ما هذه النقابات إن لم تكن أداة جديدة تفرض بها الحكومة أوامرها فرضًا، وتستنزف منا ما وسعها أن تستنزفه من مجهود في العمل؟ لقد شهدنا يومًا كانت فيه منظمات العمال هيئات تعبر حقيقة عن آراء العمال، فكانت بذلك مدرسة سياسية تعلمنا في رحابها كيف نطالب بحقوقنا ونجاهد في سبيلها، أما اليوم فمَن ذا الذي يستطيع أن يرفع صوته باحتجاج كائنًا ما كان؟ إن الصحافة التي تتخذ أسلوب المتحدث بلسان الرأي العام، هي اليوم مِلْك للحزب ومِلْك للدولة، فليست تعكس على صحائفها إلا آراءهم هم.
وشيء آخر يا بني، إنك تعلم أني ما آمنت قط بالدين، لكنني كنت دائمًا أقدر ما للناس من حق في عبادة الله إن شاءوا، فكم بقي من هذا الحق الآن؟ إذا شاءت لك المصادفة أن تكون ممن يختلفون إلى الكنيسة، فماذا تستبقي لنفسك من احتمال بقائك في منصبك ومضيك في سيرتك العملية؟ إن ذلك يصبح ضربًا من المستحيل!
لقد كان للناس حق الرحلة خارج البلاد حتى في أسود عهود أسرة «رومانوف»، أما اليوم فقد أُغْلِقَت دوننا الأبواب، وكل من يحاول عبور الحدود يُرْمَى بالرصاص كأنه كلب من الكلاب، لا، بل لا يقتصر العقاب على من يحاولون ذلك، إنما يعدوهم إلى أفراد أسرهم كذلك، أتريد أن تغادر البلاد؟ هيهات! إنكم ها هنا تربطون العمال إلى آلاتهم والفلاحين إلى أراضيهم كأنما هم عبيد.»
– «لماذا تحدثني بضمير المخاطب كأن هذه الأشياء كلها مما صنعت يداي؟!»
– «عفوًا يا فيتيا، لكنك لا تستطيع أن تتنصل من قسطك في التبعة باعتبارك شيوعيًّا.»
– «هل تراني عضوًا في القسم السياسي أم تراني رجلًا من رجال الهيئة العليا الحاكمة؟
إنك يا أبي واقعي في كل شيء إلا هذا الأمر؛ لأنك فيما يبدو لي لا تستطيع إدراك الحقيقة الواقعة، وهي أن الشيوعيين المسئولين أنفسهم — ودع عنك سوادهم — هم من ضعف الحيلة بما يصيب سائر أفراد الشعب، بل قد يكونون أضعف من هؤلاء سلطانًا.»
– «لست أريد الإجحاف بأحد يا فيتيا فأنا أعلم جيدًا كيف يعجز أي فرد كائنًا من كان عن تنفيذ شيء إلا في حدود ضئيلة، أنا لا أريدك أن تصيح: «الغوث! أمسكوا القاتل!» لكني على الأقل أحب أن أشعر أن تنشئتي لك لم تكن فشلًا ذريعًا، وأنك على الأقل عالم بحقائق الأمور.»
– «نعم إني عالم بها، بل أكثر علمًا بها مما تظن، فكن مطمئنًّا من هذه الناحية، لكنني لا أزال أتلمس للأمل بصيصًا، إني أوثر ألا أنظر إلى الأشياء نظرة سوداء، فمثلًا أحب ألا أنظر نظرة سوداء إلى الدستور الجديد، فقد نظفر بمزيد من الحرية على كل حال …»
– «وددت لو استطعت مشاطرتك هذا الإيمان، ولكن ما قيمة كلمات على ورق ما دامت الشرطة السرية قائمة تدير الأمور على هواها، وما دامت البلاد لا ترى إلا حزبًا واحدًا بصحافته وبربه الأعلى — ستالين — وبمحاكمه، وما دام كل رأى مخالف يعدُّ إجرامًا؟ إني من الكهولة بحيث لم تعد تخدعني الأوهام في حياتي، لو كنت أرى أقل علامة تدل على زوال شيء من الإرهاب القائم، تدل على انبثاق فجر الحرية الصحيحة، لكنت أول من يكبر لها مهللًا في فرح صادق، ولكني لم أرَ بعدُ علامة تدل على شيء من هذا، إنني يا فيتيا كلما قرأت عبارات زهوكم أو قرأت دستوركم الجديد، لم يسعني سوى أن أذكر هذين البيتين من شعر فولتير:
لا تحسبني مستسهلًا هذا الحديث الذي أفضيت به إليك، إنه ليشقيني أن أرى ولدي بين طائفة المستغلين الجديدة، حتى وإن لم يكن هو بمقترف الخطأ، وربما جاء يوم نزداد فيه تفاهمًا.»
ولقد جاء ذلك اليوم أسرع مما توقَّع أو توقعت.