التطهير الأعظم
انفضَّ اجتماع اللجنة المحلية للحزب فاستقللت سيارتي إلى داري، مستصحبًا صديقًا حميمًا من رجال الإدارة في المصنع، وكان قد عاد من موسكو صباح ذلك اليوم نفسه حيث اتصل بكثير من الدوائر، فالأرجح أن قد عاد وفي جعبته أخبار، فقد أُعلن عن قرب محاكمة مَنْ قُبِضَ عليهم وأعني «زينوفيف» و«كاما نيف» وغيرهما من البلاشفة الأقدمين، فأرهفت أذني، كما أرهف سائر الناس آذانهم، لأتسقط كل نبأ جديد، وهل يمكن للخيال أن يتصور رجال «أركان الحرب إبان الثورة» الذين كانوا تحت إمرة «لينين» في أعماق السجون؟! ألا ما أبشعها من فكرة وما أبعدها عن التصديق!
وإذا حكمتُ بما رأيته في عمال «نيقوبول» كان لي أن أقول: إن غمار الشعب لم يكترث كثيرًا لمثل هذا الخلاف الذي دب بين السادة الجدد؛ لأنه خلاف — في رأيهم — وقع بين أفراد أسرة واحدة وليس لهم أن يتدخلوا في أمره؛ ولهذا لم تتحرك قلوب الناس بعاطفة معينة إزاء ما أصاب زملاء «لينين» من فوادح.
أما أعضاء الحزب، والموظفون الذين لا ينتمون إلى الحزب، ورجال الصفوة الحاكمة بصفة عامة، فقد تحركت نفوسهم من أعماق أعماقها؛ ذلك أن «حراس لينين القدامى» لبثوا حتى ذلك العهد مصونة حياتهم من أيدي الفاتكين، فللناس أن يقللوا من شأنهم، أو أن يطرحوا بهم إلى مطارح النفي أو أن يكيلوا لهم أشنع التهم، أما حياتهم فكانت فوق متناول الأيدي العابثة، حتى «ليون تروتسكي» نفسه — بعد أن خبا نجمه — لم يصبه سوى أن أُبْعِدَ إلى «ألما آتا» في وسط آسيا، ثم نُفِيَ إلى تركيا، أما الآن فرجل مثل «جورج زينوفيف» الذي كان يومًا رئيسًا ﻟ «الشيوعية الدولية»، والذي كان خطاب منه (وربما كان الخطاب مزورًا) كافيًا لتحويل الاتجاه في الانتخابات في إنجلترا، مثل هذا الرجل هو الذي يحاكم الآن علنًا بتهمة الخيانة العظمى! فليس من سبيل إلى الشك في أن هذه لم تكن بوادر عاصفة محلية فحسب، بل بداية إعصار سيجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة كلها والبلاد كلها، تاركًا وراءه أثرًا عميقًا من الموت والخراب.
قال لي صاحبي في صوت خفيض خشية أن يسمعه السائق أمامنا: «فكتور! ألك عنق قوي؟»
– «ماذا تعني؟»
– «أعني أنه لن يمضي طويل زمن قبل أن تطاح رءوس كثيرة عن أجسادها.»
– «لكن ماذا عسى أن يصيب رأسي؟ لست من المعارضين ولم أكن قط معارضًا، بل إني لألزم عملي لا أتزحزح عنه ولا أتدخل في السياسة.»
– «ألا بارك الله مَنْ كان في مثل إيمانك، عش وازدد علمًا.»
كان في ألفاظه رنين التهكم، لكن لهجته كانت جادة على نحو تنفطر له القلوب.
– «دعنا نَسِرْ بقية الطريق، فالليلة جميلة قمراء.» قلت ذلك لصاحبي غامزًا إياه بمرفقي، فأخلينا سبيل السيارة؛ لأن الحديث لا يبلغ من الأمان ما يبلغه أثناء المشي، ما دامت البلاد قد ركبت لجدرانها آذانًا تسمع وتسجل، وما دامت الكثرة الغالبة بين سائقي السيارات تعمل إلى جانب وظيفتها تلك عمل مخبرين للشرطة السرية.
سألت صاحبي: «ماذا هناك؟ حدثني لا تخفِ عني شيئًا.»
– «إن موسكو مقلوبة رأسًا على عقب، ويقال: إن لننجراد ليست بخير منها، فالناس يُقْبَض عليهم بالألوف، ولم يعد في الأمر إخفاء، فترى الشيوعيين ومَنْ لا ينتمون إلى الحزب سواءً بسواء، يُنْتَزعون عن مكاتبهم انتزاعًا على مرأى من كل إنسان. لقد قصدت إلى ستة أو نحو ذلك من قادة الحزب، وممن أقصد إليهم كلما ذهبت إلى موسكو، فلم أجد لهم أثرًا، إذ اختفوا على نحو يكتنفه الغموض، فرجال القسم السياسي قد صعدوا إلى قمة السلم وأخذوا يطيحون برءوس القوم وأصحاب المناصب العليا ومديري الأعمال الصناعية والجماعية بل ببعض من يعملون داخل الكرملن نفسه.
إن كل إنسان تعلوه الكآبة ويجمد من الفزع، وكل إنسان تراه كأنما أصابه شلل، وتعتقد طائفة من الرفقاء أن «زينوفيف» و«كامانيف» سيُقْتَلان وأن كثيرًا غيرهما سيلحقون بهما. ليس من اليسير على عقل أن يصدق هذا الذي أقول، فليس له معنًى يفهمه عاقل، لكنه الواقع! سيعاملوننا بمثل ما عاملوا به أصحاب الأراضي الزراعية والروس البيض.»
– «من ذا يكون أول اللاحقين؟»
– «لا علم لي بما لا تعلم، لكني أرجح ألا يفلت منا أحد، أعني أن كلًّا منا ستطويه سحابة الغموض، إن اثنين من مهندسينا — ذكر اسميهما — قُبِضَ عليهما ليلة أمس، وهذا مفروض فيه أنه سر مكتوم، إذ أُمِرَ المدير «براتشكو» أن يبعث بهما إلى موسكو في قطار معين، لكنهما لما بلغا من الطريق محطة «زبرزهي» نقلهما رجال القسم السياسي وقذفوا بهما في سيارة هناك، لقد شاءت المصادفة لصديق من أصدقائي أن يكون ساعتئذٍ في المحطة فيرى كل ذلك، إن الأمور ستجري بعد الآن جريًا سريعًا فافتح عينيك تشهد!»
وحدث فعلًا أن سارت الأمور سيرًا سريعًا، فما كدت أبلغ المصنع في الصباح التالي حتى أسرَّ إليَّ أحد مساعديَّ نبأ المهندسَين اللذين قُبِضَ عليهما، فسرعان ما شاع هذا النبأ في أرجاء المصنع كله كما تشيع «أسرار» السوفيت في كثير من الأحيان، وفي غضون الصباح جاءتني رسالة تليفونية من «لنسكي» الأمين الثاني للجنة الحزبية الخاصة بالمصنع، وطلب إليَّ الذهاب إليهم رأسًا، فلقد كان «لنسكي» هذا معروفًا بقسوة قلبه على الرغم من حلاوة حديثه ونعومة مظهره ووداعة محياه التي تبديه في مظهر المعلم الريفي.
بدأ حديثه معي قائلًا: «أيها الرفيق كرافتشنكو، أريد استشارتك في أمر غاية في الدقة، يخص «أركادي لمانسكي»، فقد راقبت عمله وتزاورتما في منزليكما، أفلم يحدث قط أن حادثك في أمور سياسية؟ ألم يحدثك قط عن ماضيه السياسي في لننجراد مثلًا؟»
– «كلا، فلم نكد نتحدث في شيء غير العمل، فمصنعه ومصنعي يتعاونان إلى حدٍّ كبير في العمل، وذلك ما ينشئ الصلة بيني وبينه، لكني لا أذكر أنْ قد دار بيننا حديث في السياسة أبدًا.»
وكان هذا الذي قلته صوابًا في أساسه، ففي ظل الحياة السوفيتية قلَّ من الناس من تجمع بينهم ظروف العمل بحيث تبلغ بهم صلات الود حدًّا يبيح لهم أن يتبادلوا الرأي في الأمور «الدقيقة»، ولم نبلغ هذا الحد من صلات الود، أعني نفسي «ولمانسكي»، لكن «لنسكي» لم يرضه قولي، ولست أشك أبدًا في أنه سجل في ذاكرته أني «أستر» رجلًا مشتبهًا في نقاء مذهبه، وأبلغني إذ ذاك أن مكتب الحزب سيجتمع ذلك المساء ليبحث في «أمر لمانسكي»، وحذرني ألا أبوح بما استُشرت به في ذلك الأمر حتى يحين موعد ذلك الاجتماع.
وجاء «لمانسكي» إلى اجتماع ذلك المساء في روح مرح، ولم يدُرْ في خلده قط أن المهمة التي من أجلها استعجل الاجتماع خاصة به، كان «لمانسكي» هذا رجلًا مليئًا في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، به شغف خاص بحسن الهندام، وقد حدث له ذات مرة أن غادر البلاد في مهمة رسمية لشراء أشياء من ألمانيا، فأصبح منذ ذلك الحين يميل بخياله إلى أن يعدَّ نفسه رجلًا وطنه العالم، ولم يخلُ من ازدراء الأفق الضيق السائد في «نيقوبول» الذي ينحصر في حدود الوطن الواحد.
كانت قاعة الاجتماع معبأة بدخان التبغ، وكان رئيس الاجتماع هو «لنسكي»، وجلس إلى جانبه رجل غريب عنا بدين من كثرة ما أكل، حليق الرأس بحيث لم يبق من شعره إلا ما يقرب من جذوره، ويعلو محيَّاه عبوس ظاهر، وعلى الرغم من أنه كان يرتدي حلة مدنية، فإن حركاته في سرعتها وحسمها قد كشفت فيه عن شرطي منقوع في مهنة الشرطية، ولقد أمسك بحقيبة أوراقه على فخذيه وشدد عليها قبضته بحيث يشعر الرائي أن مثل هذه الحقيبة إنما احتوت على شر بالنسبة إلى بعض الناس.
قال لنسكي: «أيها الرفاق، بدأت جلسة مكتب الحزب، ولدينا في جدول أعمالنا الليلة موضوع واحد: هو موضوع رئيس لفرع من فروع المصنع وعضو شيوعي، ألا وهو «أركادي فاسيلفتش لمانسكي».»
– «أنا؟» بهذه الصرخة صاح لمانسكي واقفًا على قدميه، وشاعت على وجهه ابتسامة فيها بلاهة، فقد كانت الضربة من المفاجأة بحيث لم يظهر أثرها فورًا.
– «نعم أنت! اجلس حتى ينادَى اسمك.»
فهبط لمانسكي في استرخاء حتى جلس على كرسيه، وخُيِّلَ إلى الرائي أن وجهه قد طارت عنه كل نقطة من دمائه، وأخذ يمسح جبينه بمنديله.
– «أعند أيكم يا رفاق ما يعلق به على موضوع البحث؟» فلم يُجِبْ أحد.
– «إذن فما دامت هذه هي الحال، فقف يا «لمانسكي» وقُصَّ علينا أنباء مناشطك، وخصوصًا حين كنت في لننجراد.»
وكان «لمانسكي» المسكين عندئذٍ قد انتهت به الحال إلى رعشة كأنه محموم يعاني أعنف ضروب الحمى، إنه رجل إذا ما تركته على فطرته ألفيته ذرب اللسان واثقًا بنفسه، لكنه فجأة لم يكد يجد في نفسه القدرة على متابعة الحوادث، فأخذ يتلعثم وينعرج بالحديث في سيرة حياته، فيذكر حقيقة من هنا وحقيقة من هناك، ثم يعود من حيث بدأ، فكان في اضطرابه هذا يذكر من الوقائع ما ليس له علاقة بالموضوع، ومن قبيل ذلك أنه أشار إلى زواجه، فاشتد قلق الغريب.
قال الغريب: «ليس يعنينا من أمور حياتك الخاصة شيء، إننا نريد أن نسمع عن ماضيك السياسي.»
– «ليس ماضيَّ السياسي بسر مكتوم يا رفاقي … فقد بسطته مائة مرة … أما عن لننجراد فقد كنت عندئذٍ على شيء من التردد … لقد اعترتني ذبذبة واختلطت ببعض أنصار تروتسكي، ليس ذلك سرًّا، وقد تفضل الحزب عليَّ وعفا عني، نعم، لقد وثق فيَّ الحزب وكان لي بعد ذلك صفحة مجيدة، ولكم أن تسألوا في ذلك من شئتم من الحاضرين، وفضلًا عن ذلك يا رفاقي فقد وقع هذا كله منذ أمد بعيد …»
فقال «لنسكي» في نغمة الساخر: «منذ أمد بعيد! كذلك كان الدنس الذي اقترفه «زينوفيف» و«تروتسكي» وغيرهما من وحشي الكلاب، كان هذا كله منذ أمد بعيد، مثل هذا الدفاع لن يفلح بعد اليوم في نجاة أعداء الشعب، خبرني يا «لمانسكي»، ألم يحدث أبدًا أن هاجمت في كلامك اللجنة المركزية وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين؟»
– «كلا، بالطبع لم أفعل مثل ذلك.»
وهنا أشار «لنسكي» بأصبعه إلى الشرطي فأخذ هذا يهدر كالرعد قائلًا: «أيها المواطن لمانسكي، إنك تخدع الحزب خداعًا جريئًا، ألم تنطلق بلسانك مهاجمًا لبعض العاملين من رجال الحزب في اجتماع عقدوه في إقليم «ن» … في أغسطس؟»
كانت مخاطبته بكلمة «مواطن» بدل «رفيق» مما ينذر بسوء.
وتمتم «لمانسكي» في جوابه قائلًا: «نعم، إني لآخذ في التذكر الآن.» قال ذلك ممسكًا بكرسي ليثبت جسده في وقفته.
– «خير لك أن تتذكر ما هو أكثر من ذلك، فمن ذا عرفت في لننجراد ممن كانوا مثلك قد «اعترتهم ذبذبة» و«كانوا على شيء من التردد»؟»
– «من الصعب أن أتذكر هذا … بعد أن انقضت أعوام طوال، ولكن انتظر فلعلي أتذكر شيئًا.» وهنا ذكر ما يقرب من ستة أسماء.
– «وأين هؤلاء الأجلاء اليوم؟»
– «لا أعلم عنهم شيئًا … أظنهم يعملون.»
– «إذن فسأنبئك بأمرهم، إن كل من ذكرت مقبوض عليهم، وأريد أن أسألك هذا السؤال قبل أن أنساه: هل وقَّعت معهم عريضة تعارضون بها الحكومة؟»
– «كلا … أريد أن أقول: إنني لا أظن أني فعلت ذلك.»
– «إذن فاسمح لي بأن أجدد لك ما ضاع من ذاكرتك، فها هنا صورة شمسية، تعالَ فانظر إليها، ربما تعرف هذا، أليس هذا توقيعك أنت؟»
نظر «لمانسكي» إلى الورقة ثم عاد إلى مقعده يتعثر في مشيته كأنه أعمى.
– «لكنك لا تتذكر، ألم تقل ذلك؟ إن ذهنك مشغول بأنباء زواجك وأخبار رحلتك إلى برلين بحيث لا تستطيع أن تتذكر، أليس كذلك؟»
– «لقد كانت هذه عريضة خاصة، ولم تكن سياسية بأي معنًى من معاني الكلمة، وحدثت منذ أمد بعيد …»
دام استجواب المتهم حول نصف الساعة، ولما كان «لمانسكي» قد ضعفت روحه المعنوية أثناء الاستجواب، فقد أنكر بعض الحقائق التافهة دون أن يكون هنالك ما يضطره إلى الإنكار، ثم عاد إلى إثباتها حين وُوجِهَ بالبراهين، فعلى الرغم من أن كل ما ذكر من مفردات كان في ذاته تافهًا، فإن المفردات حين تجمع بعضها إلى بعض، وحين قرأها الشرطي بالنغمة التي تهول من أمرها ثم تبعه «لنسكي» في ذلك، تكوَّن من مجموعها في نهاية الأمر شيء ذو خطر. وأعقبت ذلك مناقشة من النظارة كان فيها شيء من التكلف، فقد نهض أفراد يدافعون عن المتهم، كما نهض أفراد أكثر من هؤلاء عددًا يكيلون له التهم، وأخيرًا أصدرت اللجنة المجتمعة حكمها بإجماع أعضائها ومؤداه أن يُطْرَد المتهم من الحزب وأن يُطْلَب إلى اللجنة المحلية أن تؤيد الحكم، وغادرنا المكان دون أن ينبس منا أحد ببنت شفة، بل اجتنبنا النظر بعضنا إلى بعض.
ولما كنت في طريقي إلى داري رأيت ضوءًا خلال نافذة مكتب «لمانسكي» فحفزني حافز أن أدخل دون أن أطرق الباب، فوجدته جالسًا إلى مكتبه وقد غمس وجهه في راحتيه وأخذت كتفاه العريضتان تهتزان بفعل العبرات التي حبسها دون السكوب، لقد كان منذ ساعة واحدة موظفًا له سطوته وثقته بنفسه، ولم يكن يخلو من مسحة خفيفة من عنجهية الحاكمين، فإذا هو ينقلب بغتة إنسانًا محطمًا يدعو إلى الإشفاق.
نظر إليَّ في دهشة وقال: «فكتور أندريفتش؟ أشكر لك دخولك الآن، هذه هي النهاية! طرد ثم حبس، ثم ماذا؟ زوجتي … أواه يا رباه! إنه لخير لي أن أزهق روحي بغدارتي.»
لم يُجْدِ معه عزاء، وهو في ذلك مصيب، فسرعان ما أيدت اللجنة المحلية الحكم عليه بالطرد، ثم ما هو إلا أن نُقِلَ إلى منصب صغير في مصنع بخاركوف، ولم يمضِ بعد ذلك طويل وقت حتى أُلْقِيَ القبض عليه، ولم يعلم أحد في «نيقوبول» بعد ذلك ماذا كان مصيره.
وحدث بعد ذلك أسبوع أو أسبوعين من ذلك الوقت أن كان لي عمل مع مساعد «براتشكو» وهو رجل من رجال الحزب يُدْعَى «ألكسي سوخين»، فدخلت بخطًى سريعة في غرفة استقباله وكنت على وشك أن أدخل مكتبه، لولا أن أوقفتني أمينة سره.
– «أرجوك الانتظار أيها الرفيق «كرافتشنكو»؛ لأن الرفيق «سوخين» جد مشغول.»
– «وأنا مشغول كذلك.» قلت ذلك في غضب واقتحمت المكتب داخلًا.
لكني وقفت فجأة عند عتبة الباب؛ إذ رأيت «سوخين» جالسًا إلى مكتبه وإلى جانبه «جرشجورن» البدين وهو يتندى من العرق، وأخذ يلوي شفتيه في سخرية، وهي حركة كثيرًا ما تلازمه، ثم رأيت عن يمينهما وشمالهما صفًّا من المهندسين، يقرب عددهم من عشرة أو اثني عشر، ولم يكن بينهم من أعضاء الحزب إلا قليلون، هنا أخذني الارتباك فألقيت تحيتي على الجميع، لكن لم يرد التحية إلا «سوخين»، وبعدئذٍ لحظت أربعة من رجال القسم السياسي في حُللهم الرسمية واقفين في حراسة المهندسين.
انسحبت في ارتباك وأخذت سمتي فورًا إلى مكتب «براتشكو».
فسألته: «ما الخبر يا بيوتر بتروفتش؟»
– «لم أعد أفهم شيئًا عن شيء، اثنا عشر رجلًا في يوم واحد! وثمانية أمس! فإن صار الأمر على هذا المنوال … إن رأسي يدور يا فكتور أندريفتش.»
ولقد كان يبدو على «براتشكو» وكأنه اكتهل بين عشية وضحاها، فاتسعت عيناه على نحو شاذ وترنَّح من قلة النوم.
غادرت مكتبه وذهبت إلى قسم السجلات لأبحث عن أرقام كنت بحاجة إلى معرفتها، ولبثت في ذلك القسم عشر دقائق، ثم حدث فجأة أن صاح كاتب كان يجلس بجوار النافذة صيحة مذعورة: «يا إلهي! انظر إلى ذاك!» فاندفعنا جميعًا إلى النوافذ وإذا إحدى عربات القسم السياسي القاتمة المغلقة واقفة أمام البناء، وهي عربة مما يسميه الناس «بالأفاعي السود»، ورأيت المهندسين والفنيين الذين كانوا يملئون مكتب «سوخين» رأيتهم عندئذٍ يتقاطرون خلال الباب إلى الخارج، فأخذ رجال الشرطة السياسية يقذفون بهم في جوف العربة واحدًا في إثر واحد، وهم شاهرون مسدساتهم.
وبينا نحن وقوف نشاهد، سمعنا صرخة جنونية تنبعث من امرأة، ثم ساد السكون من جديد، وكان الذي حدث هو أن زوجة أحد هؤلاء الرجال، وهي عاملة في المصنع أيضًا، ذهبت إلى النافذة لتنظر مع الناظرين دون أن يدور بخلدها قط أنها سترى زوجها بين المسجونين، فكان اقترابها من النافذة في نفس اللحظة التي يُلْقَى فيها زوجها في جوف «الأفعى السوداء» فصرخت ثم سقطت مغشيًّا عليها.
ولما تمت تعبئة العربة بالمهندسين، أُغلق بابها إغلاقًا كان له صوت مسموع، ثم سارت، وركب «جرشجورن» وزملاؤه في عربة أنيقة من عربات السياحة، وساروا بها في إثر عربة المسجونين، ووقف عشرات من الناس بجوار نوافذ المكتب ينظرون في دهشة إلى آثار العجلات التي تخلفها السيارتان وراءهما على سطح الأرض المثلوج.
وكان بين عمال مصنعي يهودي ألماني شيوعي لاذ بالفرار إلى الروسيا بعد اعتلاء هتلر مقعد الحكم، وهو رجل ضئيل نحيل شاحب اللون يسمى «زلمان»، وكانت تذكرته الحزبية قد استردها منه — لسبب ما — المكتب الشيوعي الدولي في موسكو؛ إذ الشيوعيون الأجانب قلما يوثق بهم في مقر الشيوعية، وإخلاصهم لستالين دائمًا موضع شك. وكان «زلمان» هذا هادئًا منطويًا على نفسه وكأنما كان في ذعر متصل، تزوج من فتاة سوفيتية وبدت عليه علائم الرضى عن حياته في «نيقوبول»، وقد كان موضع ثقتي الكبرى في تعليم العمال الجدد؛ لأني وجدت فيه رئيسًا للعمال على درجة من المهارة نادرة المثال.
ونودي «زلمان» ذات يوم إلى مقابلة رجال القسم السياسي، فلما عاد بعد ساعات كان مصفر الوجه اصفرارًا شديدًا كمن يرتعشون من خوف، واستحال فيه الحياء المألوف إلى فزع مميت، وأنبأني في روسيته الضعيفة أن قد صدرت له الأوامر أن يغادر البلاد من فوره عائدًا إلى ألمانيا!
– «ساعدني أيها الرفيق كرافتشنكو، هل تعلم ما معنى أن أؤمر بالعودة إلى ألمانيا؟ فلست يهوديًّا فحسب، بل إني شيوعي كذلك، ولست شيوعيًّا فحسب بل إني يهودي كذلك، قل لهم يرسلوني إلى سيبيريا أو إلى السجن، لكن لا يرسلوني إلى ألمانيا، لا يرسلوني إلى ألمانيا!»
لم يعد «زلمان» إلى العمل بعد ذلك اليوم، وتقصيت الأخبار فلم أجد من يعلم شيئًا علم اليقين سوى أن اللاجئ الألماني وزوجته قد أُبْعِدَا عن «نيقوبول».
إن ذاكرتي لتنوء تحت حملها إذا ما تذكرت الأشهر الأخيرة من عام ١٩٣٦م قبل أن يدفع بنا إلى التيار الجارف من عوامل الكبت التي ألمَّت بنا، وها أنا ذا أروي لك حكايات قليلة أستخرجها كما اتفق من مجموعة ما حدث إذ ذاك عن تداخل حوادث ذلك العهد واضطرابها، ها أنا ذا أعرض نُتَفًا من أنقاض عالم فقد توازنه وخُيِّل إلينا أنه ينحل ويتهافت حين أرسلنا إليه البصر في فزع شديد.
لست أدري لماذا ترسخ على صفحة ذهني ذكرى المهندس «ستسفتش»، ثم لا أذكره أبدًا دون أن أذكر معه أمه، وهي تلك المرأة العجوز النحيلة الحلوة القسمات، وقد كان «ستسفتش» وأمه وزوجته الجميلة من أصل بولندي، ولما كان هذا المهندس تقوم في وجهه عقبات قد لا يقوم مثلها في وجه غيره، وهي أنه لم يكن من أعضاء الحزب، ثم كان من أصل بولندي، فقد اجتنب السياسة وأخلص لعمله فأحسنه وأتقنه، ولم يخالط زملاءه إلا قليلًا.
وجاءني ذات يوم رجل من رجال «جرشجورن» يسألني عن عمل «ستسفتش»، فعرفت أن الرجل في خطر، ولم أجد ما أقوله عنه إلا الثناء، لا يحدوني في ذلك إلا كل إخلاص، وقد كانت هذه نقطة أخرى سوداء في صحيفتي عند القسم السياسي، فَرَفْضُ «التعاون» معهم في الحملة التي شنوها على «المخربين» كان هو التهمة الأساسية الرئيسية التي أخذوها عليَّ، ولم يلبثوا بعد ذلك أن قبضوا على البولندي، وأخرجوا أمه وزوجته من مقر سكناهم.
وكنت ذات مساء في طريقي إلى «نيقوبول» في سيارتي، فرأيت أمامي في الطريق، على بُعْد ثلاثة كيلومترات من المدينة، امرأة عجوزًا احدودب ظهرها وأخذت تدب في سيرها خطوة وراء خطوة، وتحمل في يدها حزمة، فلما حاذيتها بسيارتي تبينت أنها أم «ستسفتش»، فأوقفت السيارة ودعوتها للركوب، على الرغم من علمي بما يتهددني من خطر إذا ما أبديت شيئًا من الرحمة إزاء من حكم عليه قانون البلاد، فهذه امرأة والدة رجل «أخرجه القانون» فضلًا عن أنه كان منهما بالتجسس لبولندا، لكنني لم أبالِ بذلك كله حينئذٍ، فلم يكن يسعني إلا معاونتها على الطريق بسيارتي حتى لو كان عقاب ذلك هو الموت.
قالت: «شكرًا، شكرًا، يا «فكتور أندريفتش» لا أرى الله أمك من العذاب ما ألاقيه، ولا حكم عليك الله أن تعاني ما يعانيه الآن ولدي، أنا الآن في طريقي إلى القسم السياسي، وسأظل هناك واقفة أنتظر، فقد يأذنون لي بإرسال هذه الحزمة إلى ابني، إن النساء الأخريات قد أخبرنني أنه سيكون بين طائفة سيشحنونها في سفينة إلى «دنيبروبتروفسك اليوم».
فلما وصلنا المدينة ألحفت في طلبها أن تنزل عن سيارتي حتى لا تكون سببًا في متاعبي، فالتفت إليَّ السائق وقال: «أيها الرفيق الرئيس، قد أكون كلبًا دنيئًا لا يمسك في نفسه شيئًا يراه أو يسمعه إلا بلَّغه، أما الآن فصدق أو لا تصدق، ها أنا ذا أقسم لك بأمي أنني لن أبلغ عنك هذه المرة، إن أمي امرأة ساذجة وليست هي بالسيدة الأنيقة مثل هذه السيدة لكني أحبها، وعلى كل حال فإني أشكرك يا «فكتور أندريفتش»، أشكرك شكر روسي لروسي.»
ولما أقبلت أعوام محنتي لم تؤخذ عليَّ هذه الحادثة قط، ولو أنني وُوجِهْت بما هو أقل منها خطرًا مما اقترفت من «جرائم»، فقد يظهر أن السائق كان هذه المرة عند وعده.
كان كلما مضى يوم ازداد الجو في المصنع الجماعي بنيقوبول إجحافًا على إجحاف، فقد «نُقل» كوزلوف — أمين الحزب — إلى مدينة «كريفوارج»، ولم نلبث أن سمعنا بأن القبض قد أُلْقِي عليه هناك، وأخذ يختفي عنا موظف إداري بعد آخر، فلا يظهرون في مقار مناصبهم بحجة «المرض»، وهذا المرض المزعوم كان يتبين لنا مع الأيام أنه مرض لا يزول.
وكان غمار العمال بادئ ذي بدء يتخذون موقف من ينظر إلى هذه الأعمال الغريبة على أنها ليست تدخل في نطاق اهتماماته، لكن موقفهم تغير حين أخذ يختفي عن أبصارهم رجال ونساء ممن يتصلون بهم اتصالًا وثيقًا، ممن يشتغلون معهم في سلك واحد هو سلك العمال، تغير موقفهم لأن الأمر لم يعد الآن كما كان، وأخذ الفزع يضرب بجذوره عميقًا حتى كان له أكبر الأثر في كميات الإنتاج، إذ تحطمت الروح المعنوية في المصنع تحطمًا ملحوظًا.
فلما انعقدت جمعية خاصة من أعوان الحزب في نيقوبول، ذهبنا إلى الاجتماع بقلوب يائسة، وهناك فُحِصَت أوراقنا عند الباب فحصًا دقيقًا، مع أننا كنا نعرف بعضنا بعضًا معرفة الصداقة، لكن معنى الزمالة القديم لم يعد له وجود في مثل تلك الاجتماعات، ولو حدث مثل هذا الاجتماع قبل ذلك ببضعة أشهر لسمعت صيحات الترحيب عالية «أهلًا أهلًا بالرفيق كرافتشنكو!» «يا مرحبًا بزميل الحرب القديم!» ولرأيت كذلك الزملاء يتبادلون في ود الأصدقاء ما يعرفون من إشاعات وحكايات وأخبار العمل وسياسة الحزب، أما الآن فلم تشهد على الوجوه إلا رزانة قلقة، وأخذنا نبعد أحدنا عن الآخر كأنما يجتنب كل منا عدوى المرض من زميله، وإنك لتكاد تسمع الخواطر تدور في رأس كل منا قائلة له: «انجُ بنفسك! انجُ بنفسك! اجتنب جيرانك!»
رأيت الرفيق «برودسكي» — أمين اللجنة المحلية — وهو من عهدته حاسمًا جم النشاط، فوجدته اليوم يبدو كأنه لم يذق طعم النوم أمدًا طويلًا، فعيناه منتفختان، ويداه مرتعشتان، وصوته متهدج أجوف كأنه يتكلم خلال مزمار، ولم يشك منا إلا قليلون بأن ذلك الاجتماع سيكون آخر اجتماع يشهده «برودسكي»، وأن هذا الرجل القوي الفوار لن يطول به العهد قبل أن يرمي نفسه في «زنزانة» القسم السياسي، ومعه معظم هؤلاء الذين يجلسون معه الآن على منصة الرياسة.
وأعلن «برودسكي» أننا قد دُعِينا لهذا الاجتماع لنسمع خطابًا سريًّا من اللجنة المركزية في موسكو، وقرأه على مهل قراءة فيها عاطفة يبين فيها ما أراد بقوة أن يبينه من موافقته التامة على ما جاء بالخطاب، موافقته التي لا قِبَل له بنقضها، وكان ذلك قبل الحكم على «زينوفيف» و«كامانيف» وسائر إخوانهما فإعدامهم جميعًا، وإذن فالظاهر أن هذه الرسالة التي جاءتنا من موسكو إنما أريد بها أن تهيئ أعصاب رجال الحزب لهذه الصدمة، وأن تبثَّ الخوف في كل قلب قد يدفع صاحبه إلى القلق والشك.
وجاء في الخطاب المذكور أنه «قد نهض البرهان» على أن الشياطين من أنصار «تروتسكي» و«زينوفيف» قد اتحدوا في عراكهم ضد السلطة السوفيتية مع الجواسيس الأجانب كما اتحدوا مع مثيري القلاقل وأصحاب الأملاك القدماء والمنشقين والبيض والمخربين وأعوان الرأسمالية؛ ولهذا وجب على كل أعضاء الحزب أن يدركوا تمام الإدراك ما نحن بحاجة إليه من يقظة قصوى … ثم ورد في الخطاب كذلك أن برهان البلشفي الصادق في عقيدته سيكون منذ الآن قدرته على استخراج أعداء الشعب الذين يتخفون وراء تذكرات الحزب ثم التشهير بأمرهم في غير رحمة … لم يعد لدينا مجال ﻟ «التسامح الكريه» أو ﻟ «الرقة البرجوازية».
وهكذا كان مضمون الرسالة جليًّا واضحًا، فسَرَتْ في الحاضرين رعشة الفزع، فكما كنا فيما مضى نبحث عن «الأعداء» بين صفوف الشعب، وجب علينا اليوم أن نبحث عنهم بصفة خاصة بين صفوفنا نحن! وسيكون مقياس الجدارة بعد اليوم هو عدد مَنْ توجه إليهم التهمة من زملائك الأقربين.
أما الضعفاء الرعاديد الذين يقدِّمون صداقاتهم الخاصة على مصلحة الحزب فسيلقون جزاء هذا التذبذب.
وأخذ «برودسكي» يتحدث في تفصيل شديد عن أهمية الأوامر السرية، وراح يكيل لستالين الصفات كأن حياته نفسها كانت تتوقف على عدد الصفات التي يمكن خلعها على ستالين وعلى فخامة مدلولها، فجعل يمدح ستالين العبقري، شمس وطننا الاشتراكي، الزعيم الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فغرزت أظفاري في راحتيَّ لأجتذب لهما دمًا.
وطلب بعض الحاضرين الكلام ليتهموا أنفسهم وحزب نيقوبول ﺑ «التقصير في اليقظة الواجبة» وﺑ «التراخي إزاء الخطر الداهم»، وعم الهرج بسبب الرفقاء الذين تحرقوا شوقًا للإعلان عن أنفسهم وللحط من قدر أنفسهم، لكي ينقذوا أنفسهم، وبينا نحن في معمعان هذا الفيض الدافق من وحل الخطابة المفحشة، إذا حركة عند الباب؛ فلوينا أعناقنا جميعًا لنرى.
وصل «الرفيق هاتايفتش» أمين اللجنة الإقليمية، وعضو اللجنة المركزية الرئيسية التي تضم أجزاء الاتحاد جميعًا، وكان يخطو في الممشى سائرًا نحو المنصة، ويحيط به رجال من الشرطة لحراسته، فكان هذا جانبًا جديدًا، بل لعله أشد الجوانب تحريكًا للفزع في النفوس، حراس ومسدسات في اجتماعات الشيوعيين العاملين! حراس ومسدسات تحمي الزعماء من «صفوة الصفوة» من أبناء الأمة!
كان الإجهاد يبدو على «هاتايفتش»، فكان وجهه رخوًا تظهر عليه خطوط عميقة، وصوته يُخيَّل إلى سامعه أنه آتٍ من مكان بعيد، خطب فينا خطبة تساير النقط الأساسية الواردة في خطاب موسكو، لكنه لم يستطع إخفاء ما يحس به من غم، ولقد ذكرت — إذ أنا أستمع إليه — ذلك الموقف في حقول القمح أثناء حملتنا على المزارع الجماعية، حين شكرني هذا الرجل «هاتايفتش» بنفسه على إنجاز الخطة المرسومة قبل الموعد المحدد لإنجازها، وحين استحثني على فهم حاجة البلاد إلى سياسات «قوية»، ذكرت ذلك كما ذكرت اجتماعاتنا به في اللجنة الإقليمية، فقد كان حينئذٍ قوي البنية واثقًا بنفسه.
أصبح من عوامل «الشرف» — منذ ذلك اليوم — أن تتهم «الأعداء المتنكرين» بين رجال الحزب وأن تشهِّر بهم، فلم يعد يجرؤ أحد أن يتحدث إلى أقرب أصدقائه إليه، فما الذي يمنع أن يكون هؤلاء الأقربون مصابين بهذا الوباء السياسي، الذي يجتاح البلاد كلها، أو أن يكونوا من حملة جراثيمه؟ ونسي الإنسان أن قد جاء على الناس عهد فيما مضى كانوا يعرفون فيه معنى صلابة الخلق والوفاء والصداقة.
كان إذا ما سقط عن مكانته زعيم أو موظف كبير، استتبع سقوطه هذا أن يتناول التطهير كل معارفه والمحسوبين عليه، فبعد القبض على «برودسكي» أخذت عربات «الأفاعي السود» والسيارات المقفلة التابعة للقسم السياسي، تجمع أعوانه وأصدقاءه رجالًا ونساءً ممن كان هو السبب في تعيينهم في مناصبهم في «نيقوبول» بكافة أنحائها، فسقط في وفاض الصائد قائد حامية نيقوبول، ثم تبعه النائب العام للمدينة وكل من حوله من موظفين قضائيين، وأخيرًا سقط رئيس السوفيت في «نيقوبول» نفسه، وتناولت أيدي «التنظيف» المصرف المحلي والصحيفة اليومية وكل المنشآت التجارية، فكنت ترى أشخاصًا جددًا يتولون المناصب أينما وجهت النظر، ثم لا يمضي بعدئذٍ أسبوع أو شهر حتى يحدث في معظم الأحيان أن يقع هؤلاء أنفسهم في شبكة الصياد.
وراح الناس يتهامسون الأنباء عن اعتقال رئيس السوفيت وهو أعلى موظف مدني في نيقوبول، وقد كان هذا الرئيس فيما مضى عاملًا في المناجم وله صحيفة تشرفه عما قام به في الحرب الأهلية، ذهبوا فأيقظوه في منتصف الليل، وفزعت لذلك زوجته وأبناؤه فجعلوا يصيحون صياحًا أيقظ الجيران.
صاح الرئيس في وجه الرجال الذين جاءوه في حللهم الرسمية قائلًا: «إنني أمثل السلطة السوفيتية في نيقوبول، فليس لكم الحق في القبض عليَّ! أروني ما معكم من أمر يبيح لكم هذا!»
– «هيا معنا أيها الكلب القذر! سنريك من له الحق في هذا أو ذاك.» بهذه العبارة زمجر الضابط الذي ألقى القبض على الرئيس ودفعه خارج الباب دفعًا.
وبعد طرد الرئيس من منصبه، دارت الدوائر على معظم كبار الموظفين في المدينة، وكان بينهم مدير الإدارة الاشتراكية ورئيس المطافئ ورئيس معهد الادخار، بل كان بينهم كذلك رئيس الشئون الصحية. من هؤلاء فريق قُبِضَ عليه في منازله في ظلمة الليل، وفريق آخر قُبِضَ عليه في مكاتبه علنًا.
وجاءنا رجل اسمه «لوس» ليحلَّ محل «كوزلوف» ولم يكن قبل من رجال مصنعنا، كان بليد الذهن ضيق الأفق، قويًّا فجًّا كما يكون شراب الفودكا إذا عُتِّقَ تعتيقًا «بيتيًّا»، وراح «لوس» هذا يتصيد المذنبين تصيدًا متحمسًا حارًّا بحيث تبخرت في حرارته آخر قطرات بقيت من شعور الود بين الزملاء، فكنا نحن الموظفين الفنيين أو رجال الحزب إذا ما التقينا في فناء المصنع أو أبهائه نظر بعضنا إلى بعض نظرة المبهوت «أما زلت حيًّا بين الأحياء؟» كان هذا هو السؤال الذي تنطق به نظراتنا.
كانت رياسة القسم السياسي — وهي كائنة في أحد الشوارع الرئيسية — تسطع تلك الأيام بأضوائها طول الليل وفي كل ليلة، فهذا القسم السياسي يشتغل في كل يوم أربعة وعشرين ساعة، وكانت سوقها عندئذٍ نافقة منتعشة، وكان «دوروجان» و«جرشجورن» وأعوانهما في جاه عريض، ينال منهم الإعياء لكن ينفخهم الزهو، فهم بمثابة القادة في معركة حربية تسير إلى نصر مظفر، ولم يكن المقبوض عليهم ليظلوا تحت القبض أمدًا طويلًا، إذ لم تكن «نيقوبول» على كل حال إلا فرعًا ثانويًّا بالقياس إلى المكاتب الرئيسية القائمة بهذا العمل؛ لهذا كان المقبوض عليهم سرعان ما يشحنون شحنًا إلى «دنيبروبتروفسك» ومنها إلى «خاركوف» أو غيرها من المراكز الرئيسية ليفسحوا المجال لغيرهم ثم غيرهم.
ولم تكن «نيقوبول» إلا جزءًا ضئيلًا من طريق أخذ يضرب فيه منجل التطهير الأعظم فيتسع مداه شيئًا فشيئًا، وأخذت تجيئنا التعليمات من رياسة مصنعنا ومن الرياسة العليا في موسكو، موقَّعة بأسماء لم تألفها آذاننا، وأخذت هذه الأسماء الجديدة تزداد مع الأيام عددًا؛ ذلك لأن منجل التطهير قد حصد طائفة كبيرة من الموظفين القدامى، وقبض على «هاتايفتش» وفئة من زملائه رجال اللجنة الإقليمية، وكان ﻟ «هاتايفتش» من أهمية المكانة ما جعل الصحف المحلية تفرد لسبه نصف عمود من أنهارها، وهكذا مضى الأمر يومًا بعد يوم حتى ليتعذر عليك أن تساير هذا الفيضان الدافق من مثيرات الشعور والمآسي ومر المفاجآت، ولتسبح الإشاعات بخيالها ما شاءت فلن تكون شيئًا بالقياس إلى الحقيقة الواقعة.
ووقف العالم الخارجي يرقب المحاكمات المتعددة التي تريق دماء التطهير، والتي اتخذت مكانها في قاعة كانت فيما مضى «قاعة الأشراف» في موسكو، ولم يكن ذلك العالم الخارجي ليُعْلَم، بل إنه لا يُعْلَم حتى هذا اليوم، أن محاكمات موسكو لم تكن إلا صورة ظاهرة، أو معرضًا في واجهة دكان، تتكدس وراء ستارها أكداس من المفازع الحقيقية التي تبلغ في ارتفاعها سامق الجبال، فلئن كانت المحاكمات العلنية قد تناولت عشرات قليلة من الضحايا الذين أُحْسِنَ اختيارهم وأجيد التدريب على مجرى محاكمتهم قبل وقوعها علنًا، فإن حركة التطهير قد تناولت مئات الألوف، إذ بلغ العدد في النهاية ما يقرب من عشرة ملايين أُخْرِجُوا من صفوف الناس وأُبْعِدوا في غير إبطاء، فهؤلاء يُزَجُّ بهم في السجن، وهؤلاء يطوَّح بهم إلى النفي، وهؤلاء يُبْعَث بهم إلى أعمال السخرة، وهؤلاء يُعْدَمون.
واحتشدت جماهير من النساء والأطفال حول المبنى الذي يقيم فيه القسم السياسي في «نيقوبول» بحيث كنت تراهم في كل ساعة من ساعات اليوم رغم البرد الشديد، فكان رجال القسم السياسي يفرقونهم، لكنهم لا يلبثون أن يعودوا إلى حيث كانوا باكين صارخين منادين بأسماء آبائهم أو أزواجهم أو إخوتهم، وكان كثير من هؤلاء النساء من سكان «نيقوبول» نفسها، لكن كثيرين آخرين جاءوا من القرى المجاورة حيث كان منجل التطهير يطيح برؤساء اللجان السوفيتية الريفية، وبأمناء الحزب في القرى وزعماء الشبيبة الشيوعية ورؤساء المزارع الجماعية. ولن أنسى أبد الدهر هذا الذي رأيته خارج مبنى القسم السياسي، فلو أراد نابغ من أعظم نوابغ الأدب المسرحي أن يصور اليأس وقد طفت موجته على جماهير الناس، والأسى وقد اتسع نطاقه واسودت غمامته، لما استطاع بخياله أن يصور شيئًا أشد إثارة للفزع في نفس الرائي من هذا الذي كان.
ووسط هذه العاصفة وبين عويل المصابين وألم المعذبين، أخذ المذياع وأخذت الصحف تنشر التصديق الرسمي على «أعظم ما شهده العالم من الدساتير الديمقراطية» في نوفمبر عام ١٩٣٦م.
بلغ هذا الهوس حدًّا كان يضطر معه رجال الحزب أن يأووا إلى فراشهم مرتدين ثيابهم «إذ من يدري؟» وأعددت كما أعد معظم الناس حقيبة صغيرة ملأتها بما قد أحتاج إليه في السجن، فوضعت مقدارًا زائدًا من الملابس التحتية والجوارب والمناديل و«بطانية».
سألتني «باشا» سؤالًا بريئًا حين وجدت الحقيبة تحت مخدعي: «أذاهب أنت إلى مكان ما؟»
فتنهدت قائلًا: «من يدري يا «باشا» من يدري؟»
وكان الرفيق «براتشكو» قد زار دنيبروبتروفسك ليقضي شأنًا، فعاد مثقلًا بمروِّع الأنباء، ففي تلك المدينة التي هي موطني، بلغ الفزع حدًّا لم يبلغه في «نيقوبول» لو كان في الإمكان أن تسوء الحالة عما كانت عليه في «نيقوبول»، فقد سمع «براتشكو» أن عدد مَنْ قُبِضَ عليهم هناك من رجال مصنعي القديم زاد على خمسمائة، وكانت «عربات الأفاعي السود» لا تزال فاغرة أفواهها لمزيد، وكثير من زملائي في الدراسة في معهد المهندسين أمثال «برتزكوي» و«كاتس» و«رشتر» وآخرين لا يحصيهم العدد، اختُطفوا اختطافًا أثناء أدائهم لأعمالهم الهندسية، وكانت عربات الماشية تغادر كل يوم مدينة دنيبروبتروفسك مثقلة بحمولتها البشرية، وقد أغلقت من دونهم أبوابها وخُتِمَ على أقفالها من خارج، أمثال هذه التعبئات البشرية التي تحرك في النفوس أعمق الأسى، كانت منذ أربعة أعوام تتألف من فلاحين، أما الآن فقد علا صنفها وباتت تتألف من شيوعيين وكبار رجال الحكومة والجيش والأعمال الفنية والموظفين الذين لا ينتسبون للحزب، «ماذا عسى أن تكون النية التي عقدها في هذا الصدد «ستالين» وأعضاء الهيئة السياسية العليا؟ إن الأمر ليبدو ضربًا من الجنون المتصل.» هكذا قال لي «براتشكو» ثم أسف على قوله ذاك كما تبين لي من نظراته الفازعة.
ماذا عسى أن تكون النية التي عقدها «ستالين» وأعضاء الهيئة السياسية العليا؟ هذا بالضبط هو السؤال الذي كان لا يني يتردد على ذهني، ثم هممت بعمل كان دليلًا على حماقتي، وذلك أني صممت أن أرسل خطابًا إلى عضو الهيئة السياسية العليا الذي كنت أعرفه لأستفسره معنى ما نشاهد من أحداث متلاحقة، فأخذت أنفق شطرًا طويلًا من الليل لعدة ليالٍ متتابعات في إنشاء هذا الخطاب إلى الوزير «أورزنكدز».
جعلت أقص في هدوء — كأني أنشئ تقريرًا فنيًّا — قصة الحوادث التي كانت تقع في «نيقوبول» و«دنيبروبتروفسك» و«كريفوارج» وغيرها من بلدان إقليمنا، وأخذت أذكر أسماء معينة وأدافع عن ولاء أفراد اختُطفوا اختطافًا أثناء قيامهم بمهام أعمالهم، وأنذرته أن مثل هذه الحوادث لو لبثت تجري مجراها لما وجدنا بيننا بعد قليل من الزمن رجلًا واحدًا قادرًا على إدارة الصناعة في إقليمنا، فالإنتاج قد تحلَّلت عراه بالفعل، ولم يعد أحد يجرؤ على ابتكار الجديد، أو يجازف باتخاذ قرارات حاسمة في شئون عمله.
أرسلت الخطاب عن طريق خاص وعرفت في يقين أنه وصل إلى يد الوزير، لكنني لم أظفر منه بجواب، ولما جاء دور محاكمتي في حركة التطهير لم يوجَّه إليَّ سؤال بشأن هذا الخطاب، فعرفت شاكرًا أن «أورزنكدز» لم يرسله إلى رجال الشرطة، فكل فقرة من فقرات «عريضتي» كانت كفيلة وحدها أن تنتهي بي إلى موت سريع.
جاء دوري في نوفمبر عام ١٩٣٦م.
وكان في مفاجأته شبيهًا بمحاكمة «لمانسكي»، لكن الميزة النفسية التي ظفرت بها من دونه هي أني توقعت الضربة وأني مرنت عدة مرات على ما ينبغي أن أقوله مستفيدًا بغيري من الرفقاء الذين كانت في أيديهم أهم الأعمال، وقد حدثت نفسي قائلًا: إن أهم ما يجب أن أراعيه هو ألا يسقط من يدي زمام قواي العقلية، وأنفقت عددًا لا ينتهي من الليالي لا أذوق فيها طعم النوم، أدير في رأسي كل التهم التي يمكن توجيهها إليَّ، وأفكر فيما عسى أن تكون «جرائمي»، أتكون شيئًا مما قلت أو فعلت منذ عام واحد أو خمسة؟ أتكون شيئًا مما يتصل بعملي في المصنع؟
ولو أبعدت ما يدور في رأسي من شك وما يعتلج فؤادي من همٍّ لما وجدت جريمة واحدة اقترفتها ضد الدولة السوفيتية، فلما أزيح الستار عن ذنوبي وجدتها تختلف كل الاختلاف عما قدَّرت لها أن تكون.
عقدنا اجتماعًا حزبيًّا في المسرح التابع لندوة المصنع، وكانت الليلة قاسية في بردها وثلجها، فغُطِّيَت الأرض في مكان الاجتماع بالوحل حتى باتت زلقة مما تساقط عليها من أحذيتنا، وعلقت في هواء القاعة سحائب زرقاء من دخان التبغ المتصاعد، ولا أحسبني سأنسى قط تلك القاعة ولا تلك الليلة بما شابها من قذر؛ لأن هذه الأشياء كلها كثيرًا ما عاودتني آنًا بعد آن في أحلامي المفزعة، وهي التي لوَّنت نظرتي إلى العالم فيما تلا ذلك من حياتي، كما تلوِّن الفاتحة في مسرحية «فاجنر» كل ما يلحقها من فصول.
وكان كثير من الأعضاء قد جاء على اتهام، والذي شق هذا الطريق — طريق اتهام الأعضاء أنفسهم — هو الأقسام الشيوعية المحلية التي أظهرت ما لها من «أصالة وابتكار» ومن «يقظة بلشفية» بأن ناهضت أعضاءها فبادرتهم بالاتهام قبل أن يسمع بهم رجال الشرطة، فكأنما كانت بمثابة الطلائع الكشافة للقسم السياسي. ولقد قرر المجتمعون في حالات ثلاث مما عرض عليهم من القضايا طرد المتهمين، وبهذا أوشك الاجتماع على فض جلسته فيما دلت الظواهر.
لكن «لوس» وقف فجأة يطلب الكلام، وكنت في تلك اللحظة أفكر في شيء أبعد ما تكون الأشياء عن هذا الاجتماع القبيح، فإذا فحوى كلام المتكلم ينزل عليَّ نزول الصاعقة، لقد دقت الساعة.
بدأ «لوس» الحديث قائلًا: «أيها الرفاق، أقترح أن نطرح على بساط البحث قضية مدير قسم خراطة الأنابيب، أعني العضو الشيوعي «فكتور أندريفتش كرافتشنكو»، فلدينا تقارير هي غاية في الخطورة من حيث ما توجِّه من الاتهامات إلى هذا الزميل في مناشطه الماضية والحاضرة.»
وصاح صوت من الصفوف الخلفية في القاعة قائلًا: «قل للمتَّهِمين يدلوا باتهاماتهم فنسمع.»
فقال «لوس»: «طبعًا، فيستطيع المهندس «جرجوري ماكاروف» أن يتحدث الآن.»
فلما كان «ماكاروف» في طريقه إلى المنصة، وقف الزميل الذي كان يجلس إلى يميني وغادر المكان وهو يتمتم بعض الكلمات التي أراد بها أن يقول «إنه خارج ليدخن لفافة»، وكذلك غادر مكانه الزميل الجالس إلى يساري، وهكذا تحولت في أعينهم مجذومًا وأحاطني الخلاء من كل النواحي.
لقد عرفت «ماكاروف» منذ أيام الدراسة في معهد الهندسة، فعرفت فيه رجلًا عاجزًا ضعيف الحيلة يعيش على استغلال ما يستدره من عطف زملائه، ولما كنت أنا الذي عينه في منصبه في «نيقوبول» وهيأ له مكانًا للسكن، فقد فرضت دائمًا فرضًا لم أشك في صحته أنه لا بد معترف لي بهذا الجميل، لكن هذا الافتراض مني كان أساسه سذاجتي.
أخذ يقول: «لقد عرفت «كرافتشنكو» من سنوات كثيرة، كان عضوًا في مكتب اللجنة الحزبية في معهد التعدين، ولقد قُبِضَ على أكثر من كانوا يلازمونه في تلك الهيئة، أخص بالذكر منهم «برتسكوي» الذي كان له صديقًا و«كاتس»، وإني لأتساءل أيها الرفاق: أيكون ذلك من قبيل المصادفات؟ إن «كرافتشنكو» هذا له أصدقاء كثيرون و«معارف» في موسكو، حتى لقد دخل المعهد بتوصية من الرفيق «أورزنكدز» نفسه، واسمحوا لي أن أقول خلال الحديث: إن بعض هؤلاء «المعارف» في موسكو قد افتضح أمرهم وظهر أنهم أعداء الشعب.
ولكن هذا كله عَرَضٌ أذكره عابرًا أيها الرفاق، أما ما أردت أن أقوله فهو أن «كرافتشنكو» خلال هذه الأعوام كلها التي كان فيها عضوًا في الحزب، قد افترى على الحزب كذبًا؛ ذلك أنه أخفى عن الحزب حقيقة غاية في الخطورة، أخفى عنه ماضي أبيه في السياسة! لماذا لم يعترف للحزب أن أباه كان «منشفيًّا» عاملًا قبل الثورة، وأنه حرك العمال اللاحزبيين على سياسة «زعيمنا المحبوب»، ولم يزل محركًا إياهم منذ ذلك الحين؟»
فقال قائل مقاطع: «تكلم عن «كرافتشنكو» لا عن أبيه.»
فصاح «لوس» في وجه القائل: «إن التفاحة لا تتدحرج بعيدًا عن شجرتها، امضِ في حديثك أيها الرفيق ماكاروف.»
فواصل «ماكاروف» الحديث قائلًا: «لقد أصاب، إن التفاحة لا تتدحرج بعيدًا عن شجرتها، فليس «كرافتشنكو» خيرًا من أبيه، إنه يحيط نفسه بعناصر أجنبية، أتظن أنه من قبيل المصادفات أنه جمع حوله هذا العدد الكبير من اللاحزبيين في قسم المصنع الذي يقع تحت إشرافه؟ مَن مساعدوه؟ مَن هم رؤساء العمال لديه؟ مَن يكون «رونبسكي» المنشفي الذي قُبِضَ عليه؟ مَن يكون الفاشي الألماني الذي قُبِضَ عليه، أعني «زلمان»؟ إن في وسعي أن أذكر كثيرين غير هؤلاء وكلهم من اللاحزبيين أو من الأعداء الحقيقيين الذين كشف القسم السياسي عما يقترفونه من إثم في عرقلة الإنتاج.»
فقلت لنفسي، وأنا إذ ذاك في محنتي: إذن فهذا هو الذي يحز في نفسه، أنني لم أرفعه إلى منصب مساعد!
قال عامل يقاطع المتكلم: «أيها الرفاق، إن «زلمان» يهودي وشيوعي ألماني، فكيف تسمونه فاشيًّا؟»
فقال ماكاروف: «هذا جد جميل، إنك تقول: إنه يهودي وشيوعي، ألم يرسل هتلر إلى هذه البلاد ألوفًا من المضللين والجواسيس؟ فأين عساه أن يجد خيرًا من هذا قناعًا لهؤلاء، أعني أن يرسل لمثل هذه المهمة يهوديًّا وشيوعيًّا؟ وأين عساه أن يجد درعًا لوقاية هذه القذارة خيرًا من رجل مثل «كرافتشنكو» بما له من «معارف» ذوي منزلة عالية في موسكو؟»
هنا تكلم الرفيق براتشكو: «أيها الرفيق «لوس» أقترح أن يلتزم المتحدث حدود الوقائع وألا يخبط في قذارة ولغو باطل.»
– «سأقدم لك وقائع أيها الرفيق «براتشكو»، سأقدم لك منها عددًا وفيرًا، ارجع بذاكرتك إلى الوقت الذي وضعت فيه معايير الإنتاج الجديدة بحيث تتمشى مع الحركة الإستاخانوفية المجيدة في سرعة الإنتاج، ألم يكن واضحًا لنا جميعًا أن «كرافتشنكو» يناهض الإصلاح؟ إن الجحود لم يبلغ حد مهاجمة المعايير الإنتاجية الجديدة إلا مع عامل واحد، هو «كيريوشكين» فماذا صنع إزاء ذلك «كرافتشنكو» هذا القلب الإنساني الكبير؟ لقد كافأ «كيريوشكين» على جحوده بترقيته إلى منصب أعلى! نعم إني أتهمه بحماية العناصر المعادية للسوفيت المنبثة بيننا، ثم أتهمه فوق ذلك بخداع حزبنا المجيد في إخفاء مبدأ أبيه المنشفي.»
فلما غادر المنصة سمعت صيحات «صدقت! أحسنت!» وصيحات أخرى «أكاذيب! كلها أكاذيب! كلام فارغ!»
وأعلن «لوس» قائلًا: «المهندس «شايكفتش» عضو الحزب له الكلمة الآن.»
كان «شايكفتش» رجلًا ضئيل الجسم له وجه متغضن صغير كوجه القرد وعينان صغيرتان حادتان.
قال بصوت رفيع مسحوب كأنه السلك: «أيها الرفاق، أنا كذلك بعثت باتهام الرفيق كرافتشنكو، لقد ظللت أرقبه عن كثب مدة طويلة، نعم إن الصحف والمذياع قد رفعته بما أثنت عليه حتى بلغت به أوج السماء، فكم من مرة نُشرت صورته في الصحف! ولكن ماذا أنتم قائلون لو تبينتم أن كل هاتيك الخدمات لأمته لم تكن إلا ستارًا يخفي هذا الرجل وراءه ما يقوم به من عمل دنيء؟»
فصاح براتشكو: «نريد الحقائق، لا مجرد البلاغة في الكلام.»
فأغاظ الخطيبَ ما قوطع به من اعتراض، فرفع صوته المتسلخ فزاده تسلخًا على تسلخ وقال: «إن كرافتشنكو لممن تطوف برءوسهم الوساوس والشكوك، فلما كان في المعهد أخذ ينقد نظام المزارع الجماعية، وكلنا يعرف عنه ذلك، وكذلك كان أمره في المصنع، تراه دائمًا متجهمًا عابسًا، لا يعجبه العجب! بل إن أمه في زيارتها له، جاءت متجسسة في منطقة المصنع تتلقى الشكاوى، فيمَ هذه المنزلة كلها التي أنزلتموه فيها؟ لأن له أصدقاء في موسكو وخاركوف! ليس السر في قدرة يمتاز بها، إنما السر فيما له من معارف!»
فصاح «براتشكو» من جديد قائلًا: «هذا كذب يا رفاق! إن كرافتشنكو عُيِّنَ في منصبه برأي الرفيق «إيفانتشنكو» بعد استشارتي في الأمر، إنه من أقدر المهندسين في جماعة صناعة الأنابيب، ولطالما عهد إليه الوزير نفسه مشروعات خاصة كانت غاية في الخطورة.»
فدوى الصوت المتسلخ في نغمة الظافر: «لكنك لا تستطيع أن تنكر أيها الرفيق «براتشكو» أنه من أب يعادي السوفيت وأنه أخفى عنا ذلك! لقد حرم الترقية على كل شيوعي مخلص في ولائه للشيوعية ممن يعملون في قسمه من المصنع …»
وها هنا تذكرت أني كنت أعطف على هذا المخلوق الضئيل «شايكفتش» الذي تحطمت آماله وخانه التوفيق، ولكم حاولت أن أستر له أغلاطه، لكني في نهاية الأمر لم أملك — بعد بحث الموضوع مع «براتشكو» — سوى أن أنقله إلى قسم آخر لا يتطلب العمل فيه ما كان يتطلبه عمله الأول مما لا يتكافأ مع علمه المحدود.
ووقف «يودافين» — بعد أن فرغ «شايكفتش» — ليلخص الاتهام، فتكلم بصوت الواثق من صدق ما يقول، وهو صوت تعرفه في رجال القسم السياسي، ولقد كنت أعلم عن «يودافين» هذا أنه من أعوان الشرطة ولذلك اجتنبته، وها هو ذا يرد لي اللطمة يدفعه الهوى.
قال: «أيها الرفاق، إني لا أكتفي بتأييد من سبقوني إلى الكلام فيما انتهوا إليه من نتائج، بل إني لأضيف نقطة هي أخطر ما يكون الاتهام، وتلك هي أن «كرافتشنكو» عامل على التخريب!»
فانفجرت هذه اللفظة المخوفة كأنها المدفع المدوِّي، وجمد الحاضرون صامتين، وأما أنا فقد ملكت زمام نفسي حتى ذلك الحين، أما وقد سمعت هذه الكلمة فقد تصببت عرقًا، وأخذ قلبي يدق دقات سريعة عالية الصوت حتى لقد حسبت أنها تغطي على صوت «يودافين»، ترى إلام يشير حين قال هذه الكلمة عني؟ ترى ماذا كان هذا الشرطي المتنكر يلفق لي من الاتهام مع سيده «جرشجورن»؟
– «نعم، إنه عامل على التخريب! إن هذا الرجل «كرافتشنكو» قد جمَّد عامدًا ما قيمته مليون روبل من العملة الروسية، وكيف صنع ذلك؟ طريقة بسيطة، هي غاية في البساطة! لقد أرسل يطلب صنوفًا شتى من الآلات الغالية ثم كدَّسها في مصنعه، حتى لترى قسمه الآن غاصًّا بأجزاء الآلات الثمينة ولم يستعمل جزءًا واحدًا منها، بل إن بعضها لم يفض غلافه بعدُ! وإني لأتهمه بأن ذلك كله متعمد وأنه دبر إيقاع الأذى بالحكومة والبلاد!»
أما وقد أعلن عن موضوع الاتهام فقد انزاح عن صدري ما جثم فوقه من همٍّ ثقيل، فلقد أحسست أن تهمته فيها من التلفيق الواضح بحيث تهدم نفسها بنفسها، ولما كان «لوس» — شأنه في ذلك شأن الحاضرين جميعًا — قد أخذه القلق وأراد أن يفضَّ الجلسة ليعود إلى داره، فقد كفاني ذلك شر اتهامات أخرى، وناداني للتعليق على ما سمعت، فاستجمعت كل مدخر من قوة إرادتي واعتليت المنصة.
قلت: «أيها الرفاق أعضاء الحزب، أريد أن أحدثكم في صراحة مهما تكن نتائج هذا الحديث الصريح، لقد لبثت الآن في الحزب ثماني سنوات وإن صحيفتي لتنطق بنفسها عن نفسها، ولست إلا بشرًا له ضعف البشر، فلي من الأخطاء ما لي، فربما رفعت ناسًا إلى مناصب أعلى لم يكونوا بها جديرين، وربما أقصيت آخرين لم يكن من العدل إقصاؤهم، إن من يُلْقَى في يده بزمام السلطة لا بد أن يتخذ قرارات في شئون عمله، ولما كان صاحب السلطان إنسانًا لا أكثر، فلا بد أن يكون بعض قراراته التي يتخذها خاطئًا، فأنتم تعرفون جميعًا أن «ماكاروف» و«شايكفتش» لديهما أسباب شخصية تدعوهما إلى السخط، فليس ثمة ما يبرر أن ندخل في تفصيلات؛ ذلك لأن كل مَنْ له علم بشئون هذا المصنع يعلم ذلك علمًا لا يشوبه غموض.
إنني أؤكد أنني بغير ذنب! ثم أؤكد ما هو أهم من ذلك، وهو أني لا أخشى شيئًا، ولست ألتمس منكم إلا شيئًا واحدًا وهو أن تمهلوني حتى آتيكم بالأدلة التي تبرهن لكم على أن هذه التهم تلفيقات من رجال السوء، شكِّلوا لجنة تبحث في التهم، فإذا لم أستطع إقناع اللجنة فأنا مستعد لتحمل التبعة.
إن العاصفة كلها قد أثيرت حولي؛ لأن أبي فيما زعموا كان منشفي المذهب، واسمحوا لي أن أوضح لكم موقفي توضيحًا جليًّا، إنني لا أنكر أبي بل إني لأحبه وأقدره، فهو أبي الذي غرس في نفسي تلك المبادئ الشعبية العليا التي انتهت بي إلى منظمات الشبيبة الشيوعية ثم إلى عضوية الحزب، إن أبي لا ينتمي إلى الحزب، لكن خدماته للطبقات العاملة لا يجحدها عليه إنسان، إنه ينزل منزلة عالية من نفوس العمال الذين يعرفونه جيدة، أعني عمال دينبروبتروفسك.
إن الحقيقة المجردة عن الهوى هي أن أبي لم يكن قط في حياته منشفيًّا، بل لم يكن قط في حياته عضوًا في أي حزب آخر، إنه لم يزد على كونه ثائرًا مخلصًا في ثورته ضد القيصر والرأسماليين، لكنه لم يلبس قط لبوس الأحزاب السياسية، لقد حمل السلاح وراء الحصون عام ١٩٠٥م وعمل جنبًا إلى جنب مع المنشفيين، كما عمل جنبًا إلى جنب مع البلاشفة أيضًا، وجاور في السجن كل ضروب المجاهدين من الثائرين، هذا كله أقيم لكم الدليل على صحته لو أمهلتموني وقتًا كافيًا.
أما ما قيل عن كوني عاملًا على التخريب والإتلاف فهراء في هراء. نعم إن في القسم الخاضع لإشرافي من أقسام المصنع كمية كبيرة من الآلات، لكن الوزارة تحيط علمًا بكل ذرة منها، لقد قدمت عنها التقارير المتتابعة في انتظام ووضعتها تحت تصرف المجموعة الصناعية التي نحن أحد أجزائها، وكان في وسعها أن تأخذ منها ما تشاء في أي وقت تشاء، ولم نطلب قط شيئًا من هذه الآلات إلا لنسدَّ به حاجة مست، فكيف حدث أن تجمَّع لديَّ هذا المقدار الكبير من الآلات الثمينة التي لا نستخدم بعضها إلا قليلًا؟ الجواب هو أن قد عهد إليَّ في حالات كثيرة القيام بمهام خاصة تتطلب آلات خاصة، فمثلًا لعلكم تذكرون ما استعجلونا في صناعته من الأنابيب الضرورية لآبار البترول في باكو، ثم حدث أن نقصت الكميات التي كانوا يطلبونها من تلك الأنابيب بادئ ذي بدء، وأحيانًا كان يحدث أن نكلَّف بصناعة شيء معين ثم يُلْغَى هذا التكليف لتغيير يطرأ على الخطط الموضوعة، وعلى هذا النحو تكدست الآلات الثمينة عندي، واحتفظنا بها لأن الحاجة قد تدعو إليها مرة أخرى على وجه من السرعة لا يحتمل إبطاءً، لكن هذا كله كان مكشوفًا على مرأى من الجميع، ولم يتم في الخفاء كما يؤكد المتهمون، هذا كله نتيجة قرارات اتُّخِذَت في موسكو ولم تكن من بنات أفكاري.
فتفسير ذلك على أنه تخريب وإتلاف أمر يثير الضحك يا رفاق، إنني أستطيع إقامة البرهان مستندًا إلى وثائق بحيث أدلكم كيف ومتى ثم لماذا — وهو الأمر المهم — أتينا بكل جزء من الآلات المخزونة، وأما ما قيل عني غير هذا فتافه لا أريد أن أجيب عنه في تفصيل ينفد صبركم، إنني أستأذنكم في التدليل على براءتي هنا في هذه القاعة، لا في أي مكان آخر، ولكن ليكن ما يكون من أمري، كل ما أريدكم أن تذكروه هو أني لم أقترف إثمًا.»
فلما عدت إلى مقعدي، انبعثت أصوات استحسان كان أصحابها قد حبسوها في أنفسهم وأمسكوا عن إخراجها، لكن كان كذلك إلى جانب ذلك صيحات: «اطردوه! إنه منشفي! إنه متلاف! إنه يستند إلى «معارفه»!»
ونهض عامل في نحو الستين من عمره، هو الرفيق «سلينين» لم أعرفه إلا عرضًا، نهض وأعلن عن نفسه وقال: «ما دام الرفيق كرافتشنكو رئيسًا للقسم الذي يشرف عليه من أقسام المصنع، فمن الخطأ أن نقف في سبيل عمله، فهذه قضية يبدو فيها كثير من عوامل الشك، فلماذا نتصرف تصرف العجلان المذعور؟ سيكون لديكم من الوقت أيها الرفاق ما يكفي لطرده واتخاذ الإجراءات الإدارية إزاءه، إن ما اقترحه عليكم «كرافتشنكو» نفسه لرأي صائب، فأقترح أنا كذلك أن نطلب إلى اللجنة المحلية تعيين لجنة التحقيق، وعلى الرفيق أن يقدم لها ما لديه من برهان.»
ووافق الحاضرون على الاقتراح، وكان ممَّنْ صوتوا ضده «يودافين» و«شايكفتش» و«ماكاروف» وغيرهم، ولما خرجنا من قاعة المسرح حيث كان الاجتماع، لم يجرؤ على الدنو مني إلا «براتشكو» و«سلينين»، ومنذ ذلك اليوم حتى ختام محنتي — وهي مدة تربى على ثمانية عشر شهرًا — ظللت «منبوذًا» معزولًا كما تكون الحالة مع من يصاب بالطاعون الأسود.