بداية محنتي
فتحتُ جريدة «نيقوبول» في صباح اليوم التالي لأجدني موضعًا للتشهير، وكأنما أرادت الصحف المحلية أن تمحو ما كان يوجَّه إليَّ من ثناء حينًا بعد حين، فأخذت تهاجمني في نفس المكان من أنهرها الذي اعتادت أن تذكرني فيه بالثناء، وذكرت عني أشنع ما وُجِّه إليَّ من التهم في الليلة السالفة، ثم أضافت إليه ملاحظات تسوِّد بها اسمي، كما أضافت كل ما كان يدور على ألسنة السوفيت من أنواع الشتائم المحفوظة، وكان مما قالته عني: «علمنا من مصدر موثوق بصحته أن هذا الرجل «كرافتشنكو» قد نجح خلال هذه الأعوام كلها في أن يخفي عنا أن أباه كان فيما مضى من أصحاب الأملاك الواسعة وأنه كان يستغل الأيدي العاملة.» وقالت عنى في موضع آخر إنني من «البيض»، وإنني اتخذت من نفسي مدى زمن طويل «تابعًا» لأعداء الشعب، وإنني احتضنت بعض العناصر المعادية للحزب وعملت على حمايتهم، وإنني مشتغل بتدبيرات تؤدي إلى التخريب والإتلاف.
فشممت رائحة الإيحاء إلى الصحف من جهات خارجية، شممت ذلك في الاستهتار البادي فيما تروي عني من أخطاء، وفي كثرة ما كالته إليَّ من ألوان التُّهَم.
كان مَنْ خلف «برودسكي» في اللجنة المحلية رجلًا اسمه «فيلين»، ولقد أدهشني أن يدق على التليفون ذات صباح وأنا آكل طعام إفطاري أكلة العجلان.
قال لي: «لدينا تقرير وافٍ عن اجتماع الأمس، وقرأنا جرائد الصباح، لكني أرجوك ألا تهتم بشيء من هذا أيها الرفيق «كرافتشنكو» فامضِ في عملك ودبِّر أمرك بحيث تساير في إنتاجك ما وضعناه من خطط، فلن يمسَّك أحد بسوء في الوقت الراهن.»
فأزاح عن صدري هذا الحديث كابوسًا جاثمًا، وشكرته لذلك، فأنا بمنجًى من الخطر فترة من الزمن على الأقل، فهذا الرجل «فيلين» لم يكن ليجرؤ أن يطمئنني على هذا النحو إذا لم يكن هو ومن حوله يرون أن «القضية» التي اتُّهِمْتُ فيها قضية خاسرة.
فلما ذهبت إلى المصنع وجدت هناك لجنة التحقيق التي أمر «فيلين» بتشكيلها قد أخذت تؤدي مهمتها، وكان بين أعضائها «لوس» الذي كان وجوده فيها علامة لا تطمئن، لكن كان كذلك بين أعضائها «براتشكو» مما استبشرت به خيرًا، كما كان بين أعضائها أيضًا «فشنف» كبير المهندسين، وكان هؤلاء جميعًا في غرفة المعرض يختبرون الآلات «المخزونة» هناك.
حيَّاني «لوس» تحية الصباح في برود مصطنعًا في حديثه معي نغمة النائب العام إذ هو يوجِّه اتهامًا لمتهم: «عم صباحًا، هيا نأخذ سبيل العمل من فورنا، أأنت الرجل الذي يطلب آلات لهذا المصنع؟»
– «نعم.»
– «إذن فلست بمنكر أنك قد طلبت هذه الآلات المكدسة ها هنا؟»
– «بالطبع لست بمنكر هذا.»
– «ومَنْ ذا الذي اعتمد لك هذا الطلب من رجال المصنع؟ مَنْ ذا الذي وقَّع معك الأوراق بالموافقة؟»
– «الرفيق فشنف باعتباره كبيرًا للمهندسين.»
هنا فزع «فشنف» فزعًا ظاهرًا للعيان.
قال فشنف في اضطراب عصبي: «كلا، كلا، فلا أذكر أنني صنعت ذلك، وإذا كنت قد صنعته فلا بد أن قد كان بمقتضى أمر من الوزارة.»
– «مَن الذي أعد القائمة الأولى للآلات التي ينبغي طلبها؟»
– «أعدها المهندس الميكانيكي كرافتشنكو مستأذنًا الرفيق فشنف.»
فاضطرب «فشنف» مرة أخرى، وأخذه الهمُّ أكثر مما أخذني، وراح ينكر مؤكدًا أنه لا يذكر أن قد صنع في الأمر شيئًا.
قال براتشكو: «إذن فسبيلنا إلى معرفة الحقائق هي الأوراق نفسها.»
فقلت واعدًا: «سأحاول أن أجد هذه الأوراق، ولكنني لا أظنني واجدًا في الملفات إلا الصور المنسوخة عن الأصول، وأما الأصول نفسها فربما وجدتها في موسكو.»
وشغلني البحث عن هذه الأوراق أسابيع بعد أسابيع بحيث كان ذلك البحث في طليعة ما أهتم له من عمل، وكأنما استحالت هذه الأوراق أشباح شياطين لا أكاد أظنها قد تبدت حتى تعود فتفلت، فلو قد استطعت إمساكها لشددت عليها قبضتي وبيَّنت بها أن الآلات — وخصوصًا شحنة كبيرة جاءتنا من أمريكا ولم يُسْتَخدم منها شيء قط — كانت في رأينا ضرورية لإنجاز ما أمرت موسكو بصناعته، وأن المقادير المطلوبة حُسِبَت حسابًا دقيقًا بالقياس إلى مقادير الأنابيب التي طُلِبَ إلينا صناعتها.
لم أجد الصور المنسوخة عن الأصول، والتي كانت محفوظة في ملفات المكتب، ولم يكن لديَّ سبيل أعلم بها، هل ضاعت تلك الصور كما تضيع الأشياء بفعل الحوادث الجارية أو امتدت إليها يد الشر لتخفيها عن عمد، وأذن لي «براتشكو» و«فيلين» فسافرت في ذلك اليوم نفسه إلى «خاركوف»، كما أذنا لي أن أسافر إلى «موسكو» إن دعت الضرورة إلى ذلك، بحثًا عن البراهين التي تدل على أن شراء هذه الآلات المختلفة الثمينة لم يكن عملًا شيطانيًّا أريد به مجرد الإتلاف.
إنه اتهام لا يسيغه عقل، وإنها لرحلة لا يبررها منطق، لكن السخافات إذا ما نُظِرَ إليها معكوسة على مرايا ذلك اليوم المحموم، وهي مرابا تهوِّش ما تعكسه من صور، وجدت لها منطقًا خاصًّا بها، فلئن جاز لهم أن يقولوا عن «تروتسكي» إذ هو ينظم الجيش الأحمر إنه «جاسوس ألماني»، ولئن جاز لهم كذلك أن يقولوا عن العمالقة الذين أثاروا الثورة جنبًا إلى جنب مع «لينين» إنهم في حقيقتهم «كلاب متوحشة» مأجورة لدى الرجعية الأجنبية، فلماذا لا يقولون عن «كرافتشنكو» وهو ها هنا في ركن من نيقوبول إنه يحاول أن يقوض البناء السوفيتي بشرائه آلات لا ضرورة لها لصنع الأنابيب، بحيث أضاع في شرائها مليون روبل؟ إن من يستخف بمثل هذا الفرض إنما هو عدو للشعب!
لم يكن لي في حيرتي ما يبعث شيئًا من الطمأنينة في نفسي إلا ما كان يظهر لي «فيلين» من علامات الود، ولقد أخبرته قبل سفري أنني سألبث قليلًا في «دنيبروبتروفسك»؛ لأجمع أدلة تبرهن على أن أبي لم يكن أبدًا من أنصار المنشفية.
ولم أتردد هذه المرة في أن أثق بأفراد أسرتي ثقة لا تحفُّظ فيها ولا شروط، وزال ما كان بيني وبين أبي من توتر نفسي باعد بيننا زمنًا، وسُدَّت الفجوة التي كانت تفصلني عنه، بحيث هيَّأت بين نفسينا السبل للاتصال من جديد، وأصبحت منذ ذلك الحين أجد العزاء في صميم محنتي، وكان عزائي هو أن ما كان بيني وبين أبي من جفاء قد زال آخر الأمر، وما هو إلا أن أحسست نفسي قريبًا من والديَّ لاصقًا بهما كأنني عدت طفلًا صغيرًا من جديد، فلم أعد ما كنته من «بلشفي مكين».
ولما نقلت لهما أنباء نيقوبول وجدت لديهما أخبارًا تكافئها فداحة مما حدث في بلدي، ذلك أن جنون التطهير قد طاح في ليلة واحدة بثلاثة رءوس لثلاث أسرات من جيراننا، وكانوا جميعًا ممن لا ينتمون إلى الحزب، عرفناهم أعوامًا طوالًا، وشاركناهم في العمل في ظروف مختلفة، شاركهم أبي وإخوتي كما شاركتهم أنا.
فأما أحدهم فرجل يُدعى «زرافين» كان رئيسًا للعمال في أحد المصانع، وكان أحد ولديه جرَّاحًا والآخر مهندسًا في التعدين، ولم يعلم ولداه ولا زوجته فيمَ أُلْقِيَ القبض على رأس أسرتهم الذي تقدمت به السن، فقد جاءه رجل القسم السياسي فدفعه إلى «عربة الأفعى السوداء» إذ هو يترنح في نعاسه ولا يكسو جسده إلا بنصف ثيابه، دفعه دفعًا وهو يصيح في وجهه «أسرِع يا قذر»، وكانت هذه العبارة منه بمثابة ما قدمه من تصريح رسمي بالقبض على «زرافين»، بل كانت كذلك بمثابة الاتهام وبمثابة التبرير الذي يبين سبب إلقاء القبض على الرجل، إذ لا تعلم أسرة «زرافين» غير هذه العبارة التي سمعوها، لا تعرف سواها تصريحًا بالقبض، ولا تبريرًا ولا اتهامًا، فهي كل ما عرفوه من الأمر.
وثاني هؤلاء رجل بولندي اسمه «كاشلسكي»، وهو رجل سهل المعاشرة نشيط محبوب لدى جيرانه، وكان ابنه عضوًا في لجان الشيوعية الفرعية، ولقد صادفته اتفاقًا في زيارتي تلك.
قال لي في حيرة نفسية: «ولكن كيف يمكن لأبي أن يكون «جاسوسًا بولنديًّا» أيها الرفيق كرافتشنكو؟ إنه رجل من البساطة والصراحة بمكان معروف، وإنه لمن الجنون أن يُظنَّ به هذا الظن، لقد كنتُ وثيق الصلة بأبي، ولو كان في سلوكه ما يدعو إلى الريبة في أمره فكيف كانت تخطئه عيناي؟»
وثالث الثلاثة الذين قُبِضَ عليهم في تلك الليلة الواحدة من جيراننا الأقربين بل وأكثر هؤلاء الثلاثة تحريكًا للأسى في النفس هو «بلينوف»، لقد كان في «ورشتي» أيام اشتغالي في مصنع «بتروفسكي-لينين»، وهو رجل طويل وسيم غاية في المهارة، وينزل من قلوب زملائه العمال منزلة الاحترام، ولما كان هو وزوجته لم يُنجبا، فقد تبنَّيا يتيمة صغيرة أفقدتها المجاعة أبويها، فوهبا هذه الطفلة حياتهما.
فلما ساقه رجال الشرطة السياسية في تلك الليلة أخذت زوجته تصيح حتى أيقظ صياحها الجيران، وخرجت في ثوب نومها حافية القدمين صارخة خلف العربة المقفلة المشئومة، وأخذت تلاحقها في الثلج الكثيف حتى توارت عن بصرها، وبعدئذٍ عادت إلى غرفتها وشنقت نفسها، وأما الطفلة المتبناة التي يتَّمتها المجاعة التي خلقها الإنسان بسوء صنيعه، فقد تيتَّمت مرة أخرى بفعل عاصفة هوجاء أثارها الإنسان بسوء صنيعه أيضًا.
ولما كان أبي وأمي يعيشان وسط هذه المآسي وأمثالها، تتكرر أمام أبصارهم مئات المرات ليلة بعد ليلة، فقد كان من الطبيعي أن ينظرا إلى حالي نظرة متشائمة سوداء، ولم يكن أبي حينئذٍ عاملًا، بل كان يتقاضى معاشًا يتقاضى مثله من خدم عددًا من السنين كالتي خدمها أبي، لكنه ظل على صلات الود مع زملائه في «الورشة» وعن طريقهم كان يجيئه المعلم بمدى ما يقع من إرهاب بين موظفي مصنعه الإداريين منهم والفنيين، فأبلغوه أن مجرد الاتهام كان معناه في تسع وتسعين حالة من كل مائة رهانًا قائمًا على الإدانة، ومع ذلك فقد دفعنا اليأس أن نتعلق بخيط ضئيل من أمل، وهو أنني ربما شاءت لي المعجزات أن أكون أنا الحالة المائة التي تنجو من الإدانة.
كان نومى لمامًا فَزِعًا بما فيه من أحلام مزعجة، ولقد حدث ذات مرة أن أزحت عن صدري كابوسًا مؤلمًا صحوت بعده فرأيت ضوءًا في غرفة أمي، وقصدت إليها ماشيًا على أطراف أصابعي لأستطلع الخبر، فرأيت أمي جاثية على ركبتيها أمام «الأيقونة» تدعو ربها مقفلة العينين دافعة برأسها إلى الوراء، وكانت قطرات من العبرات منسابة على خديها، لكن وجهها رغم ذلك بَدَا هادئًا مشرقًا بضوء انبعث فيه من داخل، وسمعتها تتمتم باسمي، فقفلت راجعًا إلى غرفتي على أطراف أصابعي، وأويت من جديد إلى مخدعي حيث استغرقت في نعاس مطمئن هادئ لأول مرة منذ شهور.
وتحدثت مع أبي في الصباح حديثًا طويلًا كاد خلاله يتميز من الغيظ.
وأخذ والدي يقول مرة بعد مرة: «إذا كنت قد أخطأت في شيء فلماذا لم يمسكوا بي؟ لماذا يصبون وزري على عاتق ولدي؟ أيكون الابن مسئولًا عن فعل أبيه؟ يا لها من وحشية وحماقة! إنني حين كنت أقاتل في الثورة وقبض عليَّ رجال الشرطة لم يتعذب من أجل ذلك إلاي، ولم يدُرْ في أذهان الشرطة القيصرية أن تعذب أبي أو أخي أو أسرتي، أما الآن — يا لها من قحة! — فالآباء والأبناء والزوجات كل منهم يحمل وزر الآخر، صدقني إن كل ما أبداه القيصر من ألوان التعذيب كان رحمة بالإنسان إذا قيس إلى ما يفعله رجال القسم السياسي في أيامنا هذه!»
– «إن غضبتك يا أبت لن تعين أحدًا على شيء، والذي علينا أن نصنعه الآن هو أن نجمع الأدلة التي تثبت أنك لم تكن من أنصار المنشفية.»
قال: «كأنما الانتساب للمنشفية جرم من الجرائم! إن نفرًا من أشجع شجعان الثورة كانوا من أنصارها.»
وأخذ أبي في ذلك اليوم يطوف بكثير من مشاهير الشيوعيين القدامى الذين كانوا من أبناء جيله والذين كانوا يذكرون له مناشطه، فكتب له كل من هؤلاء إقرارًا اعتمدته الهيئة الرسمية، ضمنه ما يعرفه عن «كرافتشنكو» الوالد، وشهد فيه أن الرجل لم يكن يومًا عضوًا في حزب من الأحزاب، وبعد ذلك صحبته في زيارة لأرملة الدكتور «كارافايف».
كانت عجوزًا طويلة رفيعة ذكية شيباء، وكان زوجها عضوًا في مجلس «الدوما» وهو الذي أعدَّ مشروعًا لقانون الإصلاح الزراعي، وقد قُتِلَ اغتيالًا بأيدي أعوان القيصر، إذ هو في منزله، وكانت هذه السيدة تعيش على راتب يجريه عليها السوفيت، ولها من الأصدقاء عدد لا بأس به من كبار البلاشفة أخذت تذكرهم لنا، ولقد كانت تعرف أبي منذ أكثر من ثلاثين عامًا وحيَّته بفرحة قلبية خالصة، فكل رجال الثورة الذين كانوا يؤلفون صحبة زوجها الأكرم كانوا يبدون في عينيها وحولهم هالات من النور، كأنما هؤلاء الرجال جميعًا سوَّاهم الله من طينة الآلهة.
ضمته إلى صدرها وقبَّلت وجنتيه قائلة: «ما أجمل أن أراك من جديد! ألا ما أجمل ذلك! وهذا ابنك الصغير «فِتينكا» قد شبَّ رجلًا واشتغل مهندسًا.»
وعلى الرغم من كل أصدقائها من رجال الطبقة العليا، فقد كانت تعيش هي في عالم يأفل نجمه معزولة عن دنيا الواقع، فلم تصدِّق قط بادئ الأمر أننا نريد منها «دليلًا» على أن أبي لم يكن ينتمي للمنشفية.
قالت: «هذا سخف ما بعده سخف! فالانتساب للمنشفية في تلك الأيام كان يتطلب صلابة الأبطال، كان معناه أنك تخاطر بحياتك كل يوم، أظنني قد هرمت بحيث لم يعد في مستطاعي أن أفهم ما يجري هذه الأيام وما يصيب عقول القوم، لا بد لي أن أتحدث في هذا الأمر مع «كروبسكايا» إذا ما ذهبت إلى موسكو!»
لكنها جلست وكتبت لنا خطابًا مستفيضًا وجهته إلى اللجنة المحلية في «نيقوبول»، وذكرت فيه ما أبداه أبي أيام الثورة من براعة وشهدت بأنه كان طوال سنيه «رمحًا طليقًا» يأبى أن يخضع لقيود حزب من الأحزاب.
وفي ذلك الوقت نفسه كنت أمي تنفق الساعات في قسم المحفوظات من أوراق الحزب في «دنيبروبتروفسك»، وأخذت تضرع إلى الموظفين أن يبحثوا لها في سجلات الشرطة القيصرية عما لاقاه أبي في تلك الأيام من قبض وسجن، فسيتبين بالطبع من هذه السجلات أن أبي لم يكن ملحقًا بحزب معين من الأحزاب، لكن الموظفين توجسوا خيفة من مثل هذا البحث بغير أن يجيئهم بذلك طلب من الحزب، فاضطررت أن أُتَلفن إلى «فيلين» الذي تلفن بدوره إلى رجال الحزب في «دنيبروبتروفسك»، وبعدئذٍ وافقوا على البحث عن السجلات الهامة التي ننشدها.
– «وهكذا نستعين بالشرطة القيصرية على إنقاذ ولدي من الشرطة الاشتراكية.» هكذا قال أبي وعلى وجهه ابتسامة صفراء، والحق أن في قوله هذا لفكاهة حزينة.
كانت بضعة الأيام التي مكثتها في بلدي عاملًا على تعميق إحساسي بالفزع، فزع العيش في عالم قوامه الأحلام وأساسه الغرابة والتعذيب، وظل هذا الفزع الذي أحسست به عميقًا إذ ذاك يلازمني أعوامًا طوالًا، وزرت مصنعي القديم لأجد أن كثيرين من أصدقائي قد اختفوا لغير عودة، وسألت عنهم مَن هناك فأخذوا يجيبون إجابات ملتوية أدركت منها ما أصابهم.
ولم يكن قد قُبِضَ على مدير المصنع «ستيفان برمان»؛ لأن رجال الشرطة السياسية حين ذهبوا إليه وجدوه غارقًا في بركة من دمائه، فقد قطع عروقه لينجو من التطهير.
كان «برمان» مجريًّا اعتلى منصب الوزارة في حكومة شيوعية قامت في وطنه تحت رياسة «بيلاكون» ولم تدم إلا قليلًا، ولقد كان وسيمًا ذكيًّا مخلصًا لعمله، تولى سلسلة من أهم المناصب الحكومية والصناعية في الروسيا التي اتخذها لنفسه وطنًا بعد وطنه الأول، وعلى هذا النحو عاش سيرة جليلة بأعمالها، أخذت تقفز به وثبة بعد وثبة حتى انتهت به إلى الانتحار.
وقبل أن يقطع عروقه في رسغه، كتب خطابًا وجهه إلى اللجنة المركزية العليا، هاجم فيه هجومًا عنيفًا ما كان يقترفه ستالين من ضروب الوحشية، ولم يكن هذا أول خطاب من نوعه كتبه كاتب، بل إن من هذا القبيل ألوفًا أو عشرات الألوف، وكان الناس يتبادلون سرًّا بعض هذه الخطابات فيتناولونها بأيدٍ راجفة كأنما يتناولون مفرقعات على وشك أن تنفجر، لكن غمار الشعب لم يسمع بخطاب واحد من تلك الخطابات.
لقد بلغني فيما بلغني أن قد كان بين «هؤلاء المساكين» رجل يُدْعَى «يوسف ماناينكوف» وهو عضو نابه في السوفيت الأوكراني، أحبه العمال لما بذله في سبيل إصلاح حالهم من جهود، وكانت زوجته شيوعية عاملة لها قيمتها بغض النظر عن قيمة زوجها، ولم تكن قد مضت بضعة شهور مذ ترددت جوانب «دنيبروبتروفسك» بأصداء ما ظفرت به هذه السيدة من شرف ومجد، حتى لقد صُوِّرَت في الكرملن واقفة إلى جانب ستالين مباشرة! هذه المرأة أيضًا تناولتها يد القبض، كما تناولت المهندس «زرانوف» على الرغم من أنه كان منذ قريب جدًّا قد ظفر بأوسمة الشرف لما بذله نحو مشروعات السنوات الخمس.
وكنت أينما سرت في مصانع المدينة سمعت القصة عينها، فلقد قُبِضَ على «فلنكوفسكي» و«كنزالوف» و«سوشان» و«بوستوفويتزف» ومئات غير هؤلاء سمعت أسماءهم وهي أسماء لم تكن تعني شيئًا للناس، أما بالنسبة إليَّ — وقد اشتغلت معهم ودرست معهم وجلست معهم في اجتماعات الحزب — فقد كانت «تصفيتهم» من قائمة الحياة العاملة مما وسَّع دائرة الخلاء حولي وزادها عمقًا، ولم يبقَ واحد من قادة الاقتصاد والهندسة والسياسة في بلدي «دنيبروبتروفسك» ممن شاءت لي المصادفة أن أتصل بهم اتصالًا شخصيًّا، لم يبقَ واحد من هؤلاء بمنجًى من الأذى، وكان بالطبع كثير من هؤلاء لا ينتمون إلى الحزب.
سافرت إلى خاركوف وودعتني أمي على المحطة، فقالت وهي تودع: «املك زمام نفسك، ولِنْ حيث ينبغي أن تلين، فمهما يكن من أمرهم فهم ناس من الناس، ولا بد لهم أن يعلموا …»
كانت الفوضى وكان الذعر في رياسة مصنع الأنابيب في خاركوف باديين لا يخطئهما النظر، وتخدرت أعصاب الناس — فيما يظهر — بفعل الإرهاب، إذ لم تكن تصادف بين الناس أحدًا يعلم عن نفسه في يقين هل كان يومه آخر أيامه في مكتبه، أو آخر أيامه طليقًا في حريته، ولقد رغب كثير من الموظفين الذين تتبعوا عملي مدى أعوام في معاونتي معاونة مخلصة على البحث عما أريد من وثائق، ولكنهم لم يجدوا منها شيئًا، وتلفنوا في هذا الأمر بلادًا بعيدة بغير جدوى، ولما تلفن أحد هؤلاء الموظفين إلى موسكو مستعلمًا، أجابوه بأن الرجل الوحيد الذي ربما أعان في ذلك هو الوزير أورزنكدز الذي بلغت به العلة حدًّا لا يسمح لأحد بالحديث معه، فدفعني اليأس أن أتصل ﺑ «براتشكو» في «نيقوبول».
قلت له: «لم أجد شيئًا يا «بيوتر بتروفتش» فإن ما عهدناه في الأمور من فوضى قد زاد وفاض بفعل حركة التطهير، فهل أستأنف السفر إلى موسكو لعلي واجد هناك شيئًا؟»
فأجاب: «كلا، كلا، بل عد إلينا فورًا.»
– «وفيمَ العجلة؟ ماذا حدث؟»
– «لا أستطيع الدخول في تفصيلات الأمر خلال المسرة فارجع مسرعًا ما وسعك الإسراع، الأمر خطير.»
وفي صباح اليوم التالي كنت في مصنعي.
كان هنالك ما يبرر الفزع الذي أبداه رفيقي «براتشكو» فلقد استغل المتهوسون والوصوليون وأعدائي الشخصيون فرصة غيابي.
فأولًا كان القسم السياسي قد «طهر» أعواني من الموظفين إذ قبض على «دوبنسكي» و«شبانشسكي» والمهندس «باكو» وكثيرين غير هؤلاء حتى لقد بُهِتَ العمال مما رأوا، أضف إلى ذلك أن أمين الشعبة الحزبية التي كنت أنا عضوًا فيها، وهو رجل اسمه «ياسينيف»، قد أغراه نفر من ذوي السلطة العليا بأن يحمل طائفة من عمالي على أن يهاجموني، وكان أساس خطته في مهاجمتي هو العبارة التي سهل تداولها وهي «تكديس الآلات والمواد».
وجاءني رجال كل على حدة، وكلهم ممن أنفقوا في المصنع زمنًا طويلًا، جاءوني فرادى واعترفوا لي والخجل والأسف باديان على وجوههم بأنهم وقَّعوا عرائض في شكواي، وإنها لعرائض نُسِجَت كلها من تلفيقات وأكاذيب، وإنما حملهم على التوقيع دائمًا ما تهددوهم به من «عواقب وخيمة»، ثم سمعت فضلًا عن هذا أن «لوس» الذي لا يهده الكلل قد أرسل الرسل إلى «دنيبروبتروفسك» ليجمعوا «مادة اتهام» عني وعن أبي، وكان الذي يرمي إليه بصفة خاصة هو أن يبين أني كنت على قدم المساواة مع «كاتس» و«برتسكوي» و«برلين» و«رشتر» و«بوريسوف» وغيرهم ممن كانوا طلابًا في معهد المهندسين، والذين هم الآن في قبضة الشرطة السياسية، وما داموا كذلك فهم أعداء الشعب؛ لأن «قبضة الشرطة السياسية» لا تعني إلا هذا.
كان «لوس» يدفع اضطهاده لي دفعًا سريعًا لا يسيغه إلا مَنْ مَسَّه الجنون، فلا بد له — فيما رأى — أن ينجز قضية «كرافتشنكو» في أقصر وقت مستطاع، ولم تكن إدانتي ليقتصر أمرها على شخصي، بل كان العزم أن تُتَّخذ مِشجبًا يُستَند إليه في توجيه اتهامات إلى جماعة من الناس كانوا على اتصال بي بوجه من الوجوه؛ لهذا راد «لوس» وأصدقاؤه أن «يأتوا عليَّ» دون أن تعترض سبيلهم عقبات تعكر عليهم صفوهم، فذلك في رأيهم أمر متعلق بشرفهم، كما أنه ضرورة سياسية ليس عنها محيص، فلم تمضِ أيام قلائل حتى عقدوا اجتماعًا خاصًّا سريًّا من لجنة الحزب التي تختص بشئون المصنع، وطلبوا إليها أن تستأنف البحث في قضيتي، عندئذٍ أحسست كأنني صيد حصرته الكلاب النابحة، وأخذت دائرة الحصار تضيق، ونباح الكلاب يدنو مني شيئًا فشيئًا.
وكان الاجتماع هذه المرة أيضًا في قاعة المسرح التابعة لندوة المصنع، وجلس الموظفون صفًّا على عتبة المسرح تعلوهم البيارق وصور زعماء الحزب، وتلقي عليهم المصابيح السفلى الضوء وهاجًا، فكان هذا المنظر عاملًا يؤكد ما قد يطوف بالوهم من أن رواية مسرحية — رواية عجيبة سوفيتية مما يسمى في الفن المسرحي بالرواية الأخلاقية — كانت على وشك الظهور. كان الجو السائد مما يجمد الدم في العروق، فعلى الرغم مما أخذت نفسي به أن أتماسك وأن أحتفظ بوقاري، فقد أخذتني رجفة وشعرت بهزة في كل أعضائي، ولاحظت أن مَنْ كانوا منذ أسابيع قليلة يتوددون إليَّ، أخذوا الآن يتجاهلون رؤيتي، فلم أبدأ أحدًا بتحية خشية ألا ترد التحية بمثلها، وجلست في آخر الصفوف معتزلًا بائسًا.
ولم يجرؤ على الدنو مني إلا زميلان هما: «سيلينين» و«جوشين» وكلاهما من صفوف العمال الدنيا وممن أنفقوا في عملهم زمنًا، والظاهر أن كهولتهما كانت لهما درعًا واقية من الإسراف معهما في وسائل التربية التي تأخذ الناس «بالحزم البلشفي».
وأمسك «جوشين» بيدي في قبضته وقال: «لا يأخذنك الهم يا رفيقي كرافتشنكو، فإذا هم اتهموك ها هنا فإن اللجنة المحلية سترد إليك اعتبارك المفقود، وإلا فستفعل ذلك اللجنة الإقليمية، على شرط، بالطبع …» وهنا تلعثم في الحديث.
فسألته ولو أني كنت أعرف الجواب: «على شرط ماذا؟»
– «على شرط ألا يُلْقَى عليك القبض قبل ذاك.»
كان «لوس» هذه المرة قد حَبَكَ خطته بحيث يتجنب التدخل الذي قد يعرقل ما صمم عليه في جنون، وهو أن يسحق عاملًا آخر من عوامل «الإتلاف»، وكان قد أعدَّ لكل فرد من هؤلاء الممثلين الجالسين على المسرح ما يقوله من كلمات وما يتنبه إليه من رموز، وكذلك أقاموا في البهو مقصفًا قصد إليه كثيرون من كبار الممثلين قبل بداية الرواية وعبُّوا الشراب عبًّا حتى أصبحوا في حالة نفسية تزين لهم القتال، فذلك أدى إلى أن يمثلوا أدوارهم في حماسة أحمى، وبينا أنا أدور في المكان ببصري إذا عيناي تلتقيان بعينَي «براتشكو» فابتسم لي مشجعًا وأشار إليَّ إشارة معناها: «شُدَّ حولك فلا يزال الأمل هناك».
افتتح «لوس» الجلسة بكلمة كانت آية في خطابة التلميح واستثارة السوقة، فقال: إن جريمتي قد نهض عليها البرهان «أو كاد»، وإن أبي كان في «حالة عداء مع السوفيت»، وإنه كان منشفيًّا عاملًا «ليس في ذلك شك»، وإن تفصيلات تهمتي بالإتلاف ستحدد ﺑ «وسائل أخرى» وفي «أماكن أخرى»، ولكن أليس من المصادفات التي تستوقف النظر أن يكون سيف الثورة المسلط، أعني سيف القسم السياسي وشرطته، قد أجهز على كثير من زملائي في العمل وأصدقائي في المصنع وفي معهد المهندسين وفي جماعتنا الصناعية؟
قال في نغمة تدل على أن الحقائق نفسها ليست مما يأتيه الشك، وأن الدليل على صحتها أمر مرهون بالزمن، قال: «لم نظفر بعدُ بالحقائق التفصيلية التي تبرهن على أن «كرافتشنكو» كان شريكهم في السوء! لقد جاءتنا عرائض لا عدد لها تتلخص كلها في أن «كرافتشنكو» عدو للشعب قد أجاد التخفي عن عيون الراصدين، لكنه عدو يناهض الشيوعية ويحيط نفسه بأعداء الشعب، فهل يريد أحدكم الكلام؟»
ارتفعت أيدٍ كثيرة، وكان من المتكلمين «ماكاروف» و«شايكفتش» و«يودافين» وقد أحكموا سياق قصصهم هذه المرة، ثم انضم إليهم «ياسينيف»، وكذلك انضم إليهم مندوب النقابة في مصنعي وهو «بالابين» الذي لم ينسَ لي قط ما «خربته» له من «تربية سياسية»، وأخذ يروي للسامعين في صوت مخيف كيف أني نزعت عن الجدران في مصنعي لافتات كان هو قد علقها هناك، وأنني إذ نزعت اللافتات كنت بذلك أقي أعداء الحركة «الإستاخانوفية» التي تقصد إلى سرعة الإنتاج، وكان يتوسط خطب الخطباء صياح كصياح الجوقة في المسرحية اليونانية، صياح يرتفع من جمهور الحاضرين قائلًا: «هذا حق! أبعدوه! اطردوه!»
سأل «لوس» قائلًا: «هل يريد أحد أن يتكلم في جانب كرافتشنكو؟» ولم يكن بحاجة إلى أن يضيف إلى ذلك نذيره «إذا تكلم أحد في جانبه فإنما يعرض نفسه للخطر.» فهذا النذير كان باديًا في نغمة حديثه، ولم يكن به حاجة إلى التعبير عنه في كلمات صريحة.
– «أريد الكلام في جانبه.» قال ذلك «جوشين» ووقف فاستدارت الأبصار كلها لتقع عليه في دهشة وغضب وإعجاب.
– «أريد الكلام في صالحه؛ لأن التهمة كلها التي وُجِّهَت إلى هذا الرفيق الشاب القدير إن هي إلا باطل لفَّقه رأس فيه تخليط، إن «كرافتشنكو» ابن عامل وثائر قديم، وكل ما يقال غير ذلك عن أبيه افتراء بالكذب ونسيجٌ خيوطه من ماء، هذا فضلًا عن كونه في ذاته رشيدًا مسئولًا عن نفسه، لكني أريد أن أشير إلى غير هذا، أريد أن أنبئكم أيها الرفاق أن «ياسينيف» ناداني إلى مكتبه وطلب إليَّ أن أكتب عريضة أتهم بها «كرافتشنكو»، فلما أبيت ذلك تهدد وتوعد، وهذا يدلكم على مبلغ القيمة التي يجوز أن تزنوا بها أمثال هذه الاتهامات!»
فزأر «ياسينيف» قائلًا: «هذا كذب!»
ثم ردد الصدى «ماكاروف» وعصبته: «أكاذيب! يا لك من ضليل صفيق!»
– «كلا بل هو الحق يا رفاق، إنكم لتعلمون أني من الكهولة ومن رسوخ القدم في البلشفية بحيث لا ألفق مثل هذا القول تلفيقًا، أنا عامل يؤيد الحزب، لكني أقول: إن مناهضة رجل من أقدر المديرين وأشرفهم عار أي عار.»
وهنا انفجر المكان في هرج ومرج كأنه بيمارستان، وراح الناس رجالًا ونساءً يصرخون بآرائهم صراخًا، وخرجت من الصدور نفثات الزجاجات التي عبَّها الشاربون في المقصف، ومن صور عُلِّقَت على الجدران فوق الرءوس وبقَّعها الذباب، أطل «ستالين» و«مولوتوف» و«كالينين» على الحضور وهم عبوس، وهكذا انقلبت المسرحية الأخلاقية رأسًا على عقب بأن تدخل رجل جموح من النظارة في جماعة الممثلين على المسرح.
ولما استتب النظام من جديد، طلب «براتشكو» الكلام وأخذ يدفع عني تهمة الإتلاف، قائلًا: «كل الآلات الموجودة في مصنعي قد طُلِبَت لأن الحاجة كانت مسَّت إليها، ولئن ظل بعضها بغير استعمال فما ذاك إلا بسبب تغير طرأ على خطط الإنتاج ولم أكن مسئولًا عن ذلك التغير.»
– فقاطعه «لوس» قائلًا: «نريد الحقائق! أين هذه الوثائق التي رددتم ذكرها؟»
– «نعم، ليست الوثائق معي الآن لكني واثق أننا واجدوها، ولئن اعتبرتم «كرافتشنكو» مذنبًا، كنت أنا معه مذنبًا كذلك باعتباري رئيسًا له، وكان أيضًا «فشنف» مذنبًا؛ لأنه كبير المهندسين، بل كانت الرياسة في خاركوف، والرياسة الشعبية في موسكو مذنبة معنا؛ لأنها مسئولة عن عملنا.
إني لأنظر إليكم يا رفاقي والخجل يملؤني، ما هذا الذي أرى؟ أهو اجتماع للحزب أم هي سوقة اجتمعت عطشى للدماء؟ أنحن أتباع «لينين» أم نحن جماعة من غلاظ القلوب القساة؟ ومَن ذا الذي أذن ببيع الخمر هذه الليلة واجتماع الحزب قائم؟ إني لأرجوكم أيها الرفاق أن تفيقوا لأنفسكم، فليس ذلك مهرجانًا لمجرد المرح، بل إن الأمر ليمس رفيقًا من الرفاق في حياته أو موته!»
وها هنا انفجر صوت عريض في طرف القاعة الخلفي، فأغرق في موجاته هذا الدفاع العاطفي الذي كان يوجهه «براتشكو» وأسكت كل صوت في القاعة، فاستدار كل إنسان على مقعده ليرى من ذلك المتكلم، وإذا هو «دوروجان» رئيس القسم السياسي في نيقوبول يقف عند الباب، وهو رجل ضخم مربرب اللحم غليظ القسمات كبيرها، عيناه باردتان لا تعبران عن شيء، ووقف هناك كأنه تمثال ضخم أريد به أن يكون صورة رمزية، وقف مفصول الساقين مرتكزًا على عقبيه، ويترنح يمينًا ويسارًا في بطء كأنه طوق النجاة يتأرجح في النسيم، وقف هناك ويسراه على غدارته ويمناه ممسكة بلفيفة تبغ على شفتيه، كان «دوروجان» يبتسم ابتسامته التي لا فكاهة فيها، وينظر نظرات الازدراء.
ثم قال في صوت عالٍ: «أتحتكم إلى العواطف يا رفيقي براتشكو؟ جميلة والله هذه اللحظة التي اخترتها لهذا الهراء تقوله!»
قال ذلك وأخذ يرسل بصره خلال الحضور في بطء، فختم «براتشكو» كلمته مسرعًا بحيث جاءت مبتورة بعض الشيء، وأخذ «لوس» يتعجل ختام المهرجان، فشأنه شأن كل إنسان آخر ممن كانوا في القاعة، في أنه لم يشك في أن «دوروجان» إنما جاء ليلقي عليَّ القبض بعد الفراغ من هذه «المهزلة المسرحية».
– «هذا يكفي، فلنختم هذه المهزلة بطرد هذا العدو.»
هكذا صاح صوت، هو صوت «ماكاروف» فيما ظننت.
لكن «لوس» أعلن قائلًا: «كلا يا رفاقي بل إن من حق «كرافتشنكو» أن يتكلم كلمة أخيرة إذا أراد، فله خمس دقائق.»
فمشيت إلى المسرح، وكنت في خواطري قد أعددت نفسي لهذه اللحظة، لكني لم أتوقع أبدًا أن تكون فرصتي بهذا القصر، ولم يسعني سوى أن أضغط حججي في حيز صغير، فأضعفتها بغير شك وشعرت أني لم أكن أستغل هذه الفرصة استغلالًا يبلغ حده الأقصى، وكنت أثناء حديثي أنظر إلى «دوروجان» لا أستطيع أن أتحول عنه، ولم يزل واقفًا يهتز في ازدراء، وكنت على يقين أن كل سامع بين الحضور وكل جالس على المسرح لم ينصت إلى كلماتي بقدر ما كان مشغولًا بهذا الرمز الحي الذي وقف هناك يمثل الدولة التي أمسكت الشرطة بزمامها.
ختمت حديثي قائلًا: «إنني لا يأخذني استحياء من أبي، بل إني به لفخور، وليس لديَّ ما أقوله اعتذارًا عما سميتموه آلات «مخزونة»، فقد تكون هذه الآلات دليل العجز الفني — منسوبًا إليَّ أو إلى سواي — لكنها لا تدل على نية الإتلاف، ولو كنت مذنبًا، إذن فكل جماعتنا الصناعية مذنبة، وكل الرياسة العليا مذنبة؛ لأنهم هم الذين يقررون كم ننتج، ولكن اسمحوا لي أن أختم لكم الحديث بهذا القول، ليس الأمر مقصورًا على «كرافتشنكو» فلبُّ الموضوع هو أنكم تهدمون ناسًا أبرياء، إني أعلن أني لست بمذنب، أمهلوني عشرة أيام أخرى لا تزيد، أجمع لكم عددًا أكبر من أدلة الإثبات.»
وأُخِذت الأصوات إذ كنت سائرًا في الممشى في طريق الرجوع، وعيناي تحدقان في «دوروجان» الذي كان مجرد وجوده عاملًا يبعث الإرهاب في النفوس، فلم يصوِّت ضد طردي إلا ستة، أهملهم «لوس».
وأعلن «لوس» قائلًا: «إن هذا الاجتماع ليوصي اللجنة المحلية بإجماع الأصوات أن تفصل «فكتور أندريفتش كرافتشنكو».»
فسألني «دوروجان» حين دنوت منه: «أفي عزمك أن تستأنف الحكم؟»
فأجبته: «نعم، ليس في ذلك ريب، سأبرق الأمر إلى الرفيق «أورزنكدز» وسأرفع احتجاجات إلى خاركوف وموسكو، وسأستأنف الحكم غدًا لدى اللجنة المحلية.»
– «كرافتشنكو.» نطق باسمي يريد الكلام لكنه نفخ دخان لفيفته من فمه نفخًا بطيئًا قبل أن يعود إلى خطابي، ثم قال: «صدقني إنه لمما يؤسف له أن تقلق كل هؤلاء الناس، نعم إنه شيء يؤسف له.»
خرجت من القاعة في ظلمة الليل، ولقد كانت ليلة بردها قارس، ومع ذلك فقد شغلني همي حتى عن زَرِّ معطفي، ويظهر أني فقدت القدرة على الإحساس البدني، وتلفتُّ حولي متوقعًا في غير شك أن أجد عربة من عربات القسم السياسي في انتظاري، وأسرع من القاعة نفر كثير ليرى مقبضي، ولقد بدا عليهم شيء من الاضطراب بل من خيبة الأمل حين لم يروا شيئًا من هذا، وأخذت سمتي ماشيًا نحو داري، فإذا أنا فجأة أشهد رجلين واقفين إلى جوار عمود مصباح، ولم أستطع أن أتبين وجهيهما، أيكون هذان الرجلان واقفين ليسوقاني إلى حيث أوضع تحت الرقابة؟ فوقفت في طريقي تعلوني دهشة غامضة.
قال أحد الرجلين: «فكتور أندريفتش، نحن ها هنا، إننا صديقاك.» وكان الرجلان هما «جوشين» و«سيلينين».
– «شكرًا لكما، فلا شك أنكما صديقان ما دمتما تنتظرانني في لحظة كهذه.»
رافقاني بعض الطريق، يعبران لي عن شعورهما نحوي ويحاولان تهدئة ثائرة نفسي، ولما وصلت الدار أخذت أطوف بغرفها الكثيرة كأني سأجد سلواي في إحدى هذه الغرف، وكتبت برقية إلى «أورزنكدز» ثم عدت فمزقتها، ليحدث ما عساه أن يحدث فما أنا إلا واحد من ملايين، ففيمَ اختلاف حالتي عن حالاتهم؟ ماذا عساي أن أقول لرجل من أعضاء الهيئة السياسية العليا التي تحيط بستالين مما لا يعلمه؟ وعندئذٍ أخذت أقلب أوراق مكتبي كما فعلت مائة مرة من قبل لعلي واجد قصاصة يصح أن أقدمها «برهانًا مكتوبًا»، لكن علامَ أريد إقامة البرهان؟ ألقيت هذا السؤال على نفسي فلم أحر جوابًا.
وأخيرًا هدَّني التعب فارتميت على سريري ولم أنزع ثيابي، ففيمَ أنضو ثيابي وأنا أتوقع ألا يمضي طويل وقت حتى أراني مضطرًّا إلى ارتدائها من جديد لأسير متبوعًا بشرطي إلى قضائي المحتوم؟ لم يأخذني نعاس في رقادي، أو إن شئت فقل: إن جسدي قد أخذه النعاس، أما عقلي فقد ظل يقظان واعيًا شديد النشاط، يحلل فكرة واحدة من نواحيها جميعًا، هي فكرة واحدة أخذ عقلي يلعب بها لعبًا كاد يقرب من اللعب العطوف الذي يكون أحيانًا بين اللاعب ولعبته، وبدأ يغمرني شيء هو أقرب ما يكون إلى مرح جنوني، وأما الفكرة فهي أن أهشِّم رأسي بالرصاص، ولا أزال حتى يومي هذا أعتقد أنه لولا ما أصاب جسدي من شلل بسبب ما كنت فيه إذ ذاك من نعاس يقظان، لولا ما كان لجسدي إذ ذاك من إرادة خاصة به — إن صح هذا التعبير — لأزهقت روحي بيدي ذاك المساء.
لم يكن لي قبل ذلك عهد بهذا الانفصال العجيب بين العقل والجسد بحيث يظل كلٌّ منهما مستقلًّا بإرادته الخاصة به، كأنما سدَّت عليهما حظيرة ليقتتلا من أجل السيادة اقتتالًا عنيفًا، لكني أَلِفْتُ هذا الجانب من نفسي بعد ذلك، وكنت أقف لأرقب القتال بينهما كأنني متفرج، أو كأنني حكم ثالث بين لاعبين لا يميل بهواه نحو هذا أو ذاك، ولا يأبه بمن عساه أن يكون كاسب المباراة، أما في هذه اللحظة التي أحدثك الآن عنها، فقد كنت مستلقيًا على سريري، كامل الثياب، وكان عقلي يهدهد الفكرة التي ما زالت تتبدى له لتغريه فكأنما يقول لنفسه: اضغط على زناد مسدسك تخلص من كل شيء، حرك إصبعك حركة واحدة خفيفة تقضِ على «دوروجان» والقسم السياسي والهيئة السياسية العليا في موسكو جميعًا، إنهم يصبحون ولا حول لهم ولا حيلة، وتتحول فيهم هذه العجرفة كلها إلى فكاهة تبعث على الضحك لو أنك بإصبعك الوسطى من كفك اليمنى ضغطت ضغطة خفيفة على قوس معدني صغير.
وبينا كنت أدير في رأسي هذا الحلم الذي امتزجت مرارته بحلاوته، سمعت نقرة على نافذتي، سمعتها من فوري على الرغم من ضآلة صوتها؛ لأني كنت أتوقعها مذ عدت إلى داري، فاستجاب لها جسدي استجابة من يكيد لعقلي وينتصر عليه في المعركة الحامية التي نشبت بينهما من أجل السيادة.
ها هم أولاء قد جاءوا إليَّ وانتهى الأمر … ومشيت نحو الباب في يقظة تامة، بل في عزم مصمم، وفتحت الباب في عنف، فلم أرَ رجل الشرطة السرية في حلته الرسمية كما توقعت، بل رأيت العامل «كيريوشكين»، وهو الرجل الذي يعبر عن نفسه تعبيرًا مختصرًا مباشرًا، والذي كان فيما سبق فلاحًا كما كان جنديًّا في الجيش الأحمر، وهو الذي بلغت به الجرأة ألا يرفع يده عندما أخذوا الأصوات على «المعايير» الجديدة في مقادير الإنتاج.
فصِحْتُ به صيحة من أخذته هزة بالغة من الفرح: «ادخل، ادخل يا رفيقي «كيريوشكين» ماذا أتى بك ها هنا في منتصف الليل؟»
قال: «يحسن فيما أظن ألا أدخل لأنني سأتلف البساط لو فعلت، فلقد جئت لتوِّي من العمل، وجئت ماشيًا، وإنها لليلة ليلاء.»
– «إلى الجحيم بالبساط، ادخل، هاتِ معطفك، ماذا تقول في كوب من الشاي؟ كيف عرفت داري؟»
– «ليس من العسير أن أعرف طريقك يا «فكتور أندريفتش»، إنما يكون العسر عليك أنت لو أردت أن تعرف طريق مسكني في الثكنات، على كل حال، سأدخل.»
– «لا تقل كلامًا كهذا، لما كنت أشتغل في المناجم، سكنت في ثكنات أسوأ حالًا من التي تسكنها أنت الآن، زِدْ على ذلك أني لن ألبث أن أغادر هذا المسكن إلى سواه، إلى حجيرة رشيقة في السجن.»
– «وهذا هو ما جاء بي إلى هنا يا «فكتور أندريفتش»؛ فلقد شاعت بين العمال القائمين بدور العمل في الليل أنباء متاعبك التي تعانيها، فأحدثت الهم في نفوسهم جميعًا؛ لأنهم يحترمونك ويأسفون لك، أما أنا — ماذا أقول؟ — إنك لتملأ في حياتي جانبًا كبيرًا، وليس ذلك للترقية التي نلتها على يديك ولو أني أحسن عيشًا الآن مما كنت، أرجو أن تصدقني فيما أنا قائل، بل التعليل الصحيح هو أنك جعلتني أشعر بنفسي شعور الإنسان بإنسانيته في نفس اللحظة التي غصت فيها إلى أبعد أغوار الهموم، إنني يا «فكتور أندريفتش» لم أنل قسطًا من التعليم، لكني أفهم بمقدار لا بأس به؛ لأن لي عقلًا يدرك، فأحيانًا أفكر في الثورة وفي الخطب وما إلى ذلك فيؤذيني أن أرى كل هذا النفاق في الحياة، ثم أفكر في الطريقة التي عاملتني أنت بها فيزول عني بعض الشعور المؤلم؛ إذ أقول لنفسي: ليس الأمر كله هشيمًا، بل إن في الهشيم لبعض الغلال.»
صببت الشاي وقدمته مع سكر وليمون، فأخذ «كيريوشكين» يتحسَّاه على مهل.
قال: «أتدري أن هذه أول مرة أشرب فيها الشاي بالليمون خلال الأربع السنوات الماضية؟ ولكن لماذا جئتك الآن؟ على كل حال فأنا رجل تقدمت به السن وأصغر من أن يستوقف النظر، وليس لديَّ ما أفقده فليس لديَّ ما أخشاه، أو كيف تعبرون عنها أيها الشيوعيون، ليس لديَّ ما أفقده إلا ما يكبلني من الأغلال، إن الفأر ليستطيع أحيانًا أن يفعل ما لا يقوى على فعله الأسد، على كل حال، لقد جاء دوري الآن لأساعدك كما ساعدتني من قبل يا «فكتور أندريفتش»، وها أنا ذا مستعد لمعاونتك بكل ما أستطيع.
لقد فكرت لنفسي قائلًا: ربما كان الآن في حاجة إلى صديق مخلص إلى جانبه، ولست أدَّعي أنني بطل مغوار، لكنني مستعد أن أخاطر إذا دعت الحال إلى مخاطراتي، فربما أردت أن تخفي شيئًا أو أن ترسل إلى أحد شيئًا من الوثائق أو من الرسائل التي قد ينبعث عنها خطر، وإني وإن كنت لا أفهم نظريات السياسة، فإني أعرف أمورها العملية، وها أنا ذا رهن إشارتك، ولك أن تثق فيَّ.»
فضحكت رغم ما أعانيه من همٍّ، فكم كان في هذا العامل الساذج المتواضع من خير ومن حساسية! فلقد افترض على نحو ساذج يتفق وبساطة نفسه أنني ربما كان لديَّ ما أريد أن أخفيه، وأنني قد أحتاج إلى شريك في المؤامرة.
– «استمع إليَّ يا «كيريوشكين» وصدِّق ما أقوله، لست متلافًا وليس لديَّ ما أخفيه، وليأتِ رجال الشرطة السياسية فلن يجدوا شيئًا مما يؤخذ عليَّ، لا في دارى ولا في ضميري.»
– «وهل قلت عنك إنك متلاف؟ لكن ربما …»
– «أحب أن تعلم يا «كيريوشكين» أنك الآن قد تفضلت عليَّ فضلًا كبيرًا، وسأظل أذكرك ما حييت، وستكون زيارتك هذه أغلى ما أحمله معي من نيقوبول.»
وأراد الخروج لكني استبقيته وأخذت أحادثه في حياته وفي زملائه من العمال مدة أربت على ساعة، دق التليفون خلالها مرات عدة، وكان المتكلمون لا يفصحون عن أشخاصهم لكنهم رجال من المصنع أرادوا أن يستفسروني شعوري وأن يسألوا هل لا أزال في داري، ولم أكن أسأل المتكلمين ما أسماؤهم، فالطريقة المألوفة حين تريد أن تسأل عن شخص يهمك لتعلم هل وقع في أيدي الخطر أو لم يقع بعد، هي ألا تعلن عن نفسك، وخرج «كيريوشكين» ففكرت في أمره مليًّا، إن بين أهل الروسيا التي أحبها الملايين بل عشرات الملايين من أمثال «كيريوشكين»، وهؤلاء جميعًا لا يضمرون من الحب أكثر مما أضمره أنا نحو رجال من طراز «دوروجان» و«جرشجورن» والرؤساء في موسكو، لكنهم يرقبون الفرصة التي تتيح لهم أن يستولوا على حقوقهم فليسوا من الغفلة بحيث جازت عليهم الخديعة، كلا ليسوا من الغفلة في شيء.
لقد أنعشني الحديث الطويل مع «كيريوشكين» وما عرضه عليَّ من استعداد غريب لمواجهة الخطر في سبيلي، وإنه لخطر كالذي تجري بذكره الأساطير، واعتزمت أن أبحث في داري من جديد، لتكون آخر مرة أجري فيها بحثًا عن الوثائق المنحوسة التي كنت أنشدها، فكأنني هذه المرة قد اهتديت بقوة خفية من نفسي، إذ قصدت من فوري إلى حجيرة تكدست فيها المهملات تكديسًا في غير ترتيب، فرأيت في أعلى كومة المهملات حقيبة أوراق، كنت قد استعملتها لآخر مرة منذ بضعة شهور في رحلة قمت بها إلى العاصمة، فلما عدت أفرغتها وألقيت بها جانبًا، ففتحتها في غير قصد معلوم؛ لأني أردت ألا أدع مكانًا من الدار لا أنظر فيه، ووجدتها فارغة فأقفلتها من جديد وكنت على وشك أن ألقي بها في الحجيرة كما كانت.
ثم ترددت لغير سبب معقول، وفتحتها مرة أخرى، ونظرت هذه المرة في كيسها الداخلي، فرأيت — إنها لمعجزة المعجزات! — رأيت مسودات الخطابات التي طلبنا بها الآلات والصور الكربونية التي كنت أنشدها، فحدجت النظر ذاهلًا في هذه الأنصاف من «فروخ» الورق التي تثنَّت على شكل أذن الكلب وأصابها الوسخ والتلف، فعرفت عندئذٍ كيف تكون مشاعر الرجل حين يربح النمرة الأولى في أوراق اليانصيب الكبير.
وكان بين الأوراق نسخ تحتوى على عمليات حسابية قام بها أولو الأمر في رياسة صناعة البترول، على أساس خطط وضعوها بادئ ذي بدء ثم أنقصوا مداها، فهذه العمليات الحسابية برهان قائم لكل ذي عقل سليم على أن الأجزاء البديلة والآلات الخاصة التي كنا طلبناها يبررها أوفى تبرير ما في هذه الأوراق من مواصفات وُضِعَت أول الأمر قبل أن ينالها شيء من التعديل، وكانت الطلبات الأصلية معتمدة بإمضاء «فيشنف» كما رجحت، وبهذا الذي وجدته تحطمت المأساة كلها التي نشأت عن اتهامي.
لم أستطع بعد ذلك نعاسًا لشدة ما أرَّقني من رغبة في حمل هذا النبأ السار إلى «براتشكو» ثم إلى «فيشنف» بصفة خاصة، وهو الذي ارتبط مصيره بمصيري في أرجح الظن، وجعلت زيارتي الأولى إلى مكتب «براتشكو» وألقيت بالأوراق على مكتبه متظاهرًا بأني إنما زرته بطريق الاتفاق.
قلت: «وبعد، فهاك هذه الأوراق يا «بيوتر بتروفتش».»
– «ماذا؟ أهي الوثائق؟»
– «نعم، هي الوثائق عليها لعنة الله.»
نظر المدير إلى الوثائق التي قدمتها إليه فأطال النظر، وأخذ يلمع وجهه لمعة الإشراق كلما مضى في قراءتها، وأخيرًا ابتسم ابتسامة النشوان.
– «إنك أسعد الناس حظًّا يا «فكتور أندريفتش»! لا بد أن قد جاء مولدك تحت نجم ذي سعود، لا بد أن نحمل النبأ فورًا إلى «فيشنف» المسكين، فإنه يكاد يجن جنونه، إني لشديد الغبطة من أجلك ومن أجل «فيشنف» ومن أجل نفسي.»
ولما ذهبت إلى «ورش» المصنع أخذ العمال يحملقون فيَّ بنظرات الدهشة الصريحة، إذ انتشرت شائعة عني أثناء الليل خلال المدينة كلها أن الشرطة قد أمسكت بي، فابتسم إليَّ كثيرون ابتسامة التشجيع، وانتهز كثيرون هذه الفرصة أو تلك ليعبروا لي عن إخلاصهم وودهم وأنا في طريقي أمرُّ أمام أنضاد العمل.
صورت تلك الوثائق الثمينة وأرسلت مجموعة منها إلى «براتشكو» وأخرى إلى «فيشنف»، وأعطيت ثالثة إلى صديق حميم وأرفقت بها إقرارًا عنيت بإنشائه فبينت فيه بإيجاز التُّهَم التي وُجِّهَت إليَّ وكيف جاء الرد عليها في هذه الوثائق على نحو يقوِّضها من أساسها، وطلبت إلى ذلك الصديق أن يقدم أدلة براءتي تلك إلى اللجنة المركزية العليا في موسكو إذا ما حدث أن أُلْقِيَ عليَّ القبض.
وكتبت إلى الوزير «أورزنكدز» أنبئه بموقفي، كما أرسلت إلى «أيفانتشنكو» رئيس مجموعة الأنابيب لأبلغه كيف لُفِّقَت التهم عليَّ تلفيقًا جزافًا، وبعدئذٍ قدمت استئنافًا رسميًّا إلى اللجنة المحلية لتنقض ما قضت به عليَّ لجنة المصنع، فدعا الرفيق «فيلين» إلى اجتماع من أعضاء اللجنة المحلية بغير إبطاء.
وكانت قضية «كرافتشنكو» قد شاع أمرها في نيقوبول، وكان من بين العوامل التي عملت على شيوعها أهمية منصبي باعتباري مديرًا لأكبر مجموعة صناعية تقوم بصناعة الأنابيب، لكن عاملًا آخر أهم من ذلك ساعد على جريان قضيتي في الأفواه، وهو عامل اكتسب أهميته من ندرة وقوعه، وأعني به ما أبديته في الدفاع عن نفسي من شدة وعنف.
وإني لأميل إلى الاعتقاد بأني مدين لهذا الشيوع الذي اكتسبته قضيتي بنجاتي التي ظفرت بها آخر الأمر، بل أنا مدين له بحياتي نفسها؛ ذلك لأنه لما كان اتهامي قد بدأ على ملأ من الناس، فقد بات مخزيًا لرجال الشرطة ورجال الحزب أن يستأنفوا مراحل الاتهام تحت طي الكتمان، فقد كانت نية أولي الأمر أن يفتكوا بي علنًا فتكًا يقرهم عليه القانون، ظنًّا منهم أنهم قد أمسكوا بي متلبسًا بالجريمة، جريمة أن يكون لي والد منشفي المبدأ، وجريمة أن يكون لديَّ ثروة مخزونة من أجزاء الآلات والعدد، وجريمة أن يكون تحت جناحي «جماعة من أعداء الشعب»، ولقد جاء ذلك منهم خطأً شنيعًا في إحكام خططهم الحربية نحوي، وهو خطأ لم يسع «دوروجان» و«لوس» وأعوانهما إلا أن يعترفوا لي بأنهم آسفون لوقوعهم في مثله أسفًا شديدًا.
ومهما يكن من أمر فقد اجتمع كافة أعضاء مكتب اللجنة المحلية في بناء الحزب الواقع في الشارع الرئيسي من نيقوبول على شاطئ نهر دنيبر، وكان الأعضاء كلهم جددًا ما عدا «دوروجان» و«براتشكو»، ففي أقل من شهرين، قضى التطهير على أعضاء أعلى هيئة للحزب في منطقة صناعية على جانب عظيم من الخطر.
قام «لوس» يعرض قضية اتهامي بادئًا — بالطبع — بوالدي واعتناقه للمبدأ المنشفي، واستمع إليه «فيلين» حتى فرغ من حديث الاتهام، وعندئذٍ قرأ الخطابات والإقرارات التي كان والدي قد جمعها.
قال: «هذه إقرارات كتبها شيوعيون مخلصون لا يتفقون مع «كرافتشنكو» الوالد في وجهات نظره السياسية، مما يزيد من قيمة شهادتهم في صالحه، ولكني يا رفاقي من أعضاء المكتب، قد تسلمت كذلك في بريد اليوم بعض المخطوطات المحفوظة التي تثير الاهتمام، إذ جاءتني نسخ من تقارير كان كتبها رجال الشرطة السرية أيام القيصر، ومدونات من مدونات السجن خاصة بما قام به والد رفيقنا هذا من أعمال ثورية، وها هي ذي تلك المخطوطات لمن أراد أن يطالعها، ولقد درستها درسًا دقيقًا، فأيقنت يقينًا لا يأتيه شك بأننا من هذا الرجل إزاء بطل عظيم من أبطال الثورة، لا إزاء تابع من أتباع المبدأ المنشفي.»
فعبس «دوروجان» وزفر زفرة غاضبة، ترى ماذا كان يدور في رأسه من خواطر وخطط؟ هذا سؤال لم يبرح طوال الاجتماع قائمًا في ذهني، إن اتهامي من أوله إلى آخره لم يكن لتجتمع عناصره بعضها إلى بعض بغير اشتراك القسم السياسي ورجاله، ليس في ذلك أدنى شك، أفيرضى «دوروجان» لنفسه أن تفلت فريسته من يديه؟
بعدئذٍ اتجه «لوس» بعنايته إلى الاتهام الرئيسي فقال: إن «كرافتشنكو» و«براتشكو» كليهما قد حدَّثانا عن وثائق تنفي عن المتهم تهمة التخريب والإتلاف، لكنه مجرد كلام لا تسنده الوثائق نفسها.
فقاطعه «براتشكو» قائلًا: «لا، لا، يا رفيقي «لوس» لدينا وثائق الإثبات، هذه هي!»
ففزع «دوروجان» لذلك فزعًا حتى وثب على قدميه، ولعله بعدئذٍ قد استعاد صوابه فجلس ثانية، أما «لوس» فقد لبث مفتوح الشفتين دون أن ينطق بكلمة، ونشر «براتشكو» الصور الكربونية على المنضدة وبيَّن في إيجاز كيف تهدم تلك الأوراق ما وُجِّهَ إليَّ من تهم، وبالتالي ما وُجِّه إليَّ «فيشنف» كذلك.
ولم يُخْفِ «فيلين» علائم ارتياحه ورضاه.
قال: «في رأيي أن الأمر جلي واضح، فهذه الأوراق تبرئ كرافتشنكو.»
ظل الاجتماع قائمًا عدة ساعات، إذ أخذ «لوس» يقرأ قائمة طويلة من أسماء مهندسين وفنيين وموظفين قُبِضَ عليهم، وكانوا أصدقائي فيما قال وأكد، لقد بلغت حماسة هذا الرجل في محاولة إدانتي من الشدة والغلظة حدًّا جعل «دوروجان» يحس كأنما جُرِحَت كبرياؤه المهنية، فتمتم قائلًا: «ما هذا يا «لوس» إنك بمثابة من ينتزع اللقمة من فمي.»
وضحك الحاضرون جميعًا إلا «لوس» الذي احمرَّ وجهه خجلًا، فها هو ذا أبعد مشروعاته «البوليسية» طموحًا، قد بدت عليه علامات الانهيار، فأشقاه ذلك الفشل شقاءً ظاهرًا، فإذا كان قد رسم خطته هذه ليرفع بها سوقه في الحزب وفي القسم السياسي بأن يمسك لهم بسمكة كبيرة في ماء التطهير العكر، فهو في طريقه إلى الفشل الذريع.
أما وقد قدمنا «دليل الإثبات» فقد أخذ كثير من أعضاء المكتب يدلون بآرائهم في الموضوع، وكانت كثرتهم الغالبة في صالحي وترى «رد اعتباري»، لكن الحقيقة المؤلمة هي أن تلك الوثائق التي تبرهن على براءتي، وتفاهة التهم الموجهة إليَّ، لم تكن هي العوامل التي حملت الأعضاء على تغيير رأيهم في قضيتي، بقدر ما أثر فيهم موقف «فيلين» حين نوَّه بكلماته عن براءتي فتبعه الباقون، وأخيرًا نوديت لأقول كلمتي.
قلت: «ليس لديَّ ما أضيفه إلا قليلًا يا رفاقي، نعم إن عددًا كبيرًا جدًّا ممن كانوا يشتغلون معي وبالقرب مني قد أُلْقِيَ عليهم القبض، ولكني رغم ذلك لا أزجر الناس ولا أطردهم إلا بما عملت أيديهم، وليس في وسعي أن أراجع ماضيهم السياسي، فأنا في ذلك أعتمد على المختصين، أي رفيقي «دوروجان»، لينجزوا ما يلزم من أمور لا تمس ما نكله إلى هؤلاء الناس من عمل.
لكني أحب أن أتخذ مثلًا من قضيتي، فماذا لو لم أجد هذه الوثائق؟ ماذا لو كانت محفوظات العهد القيصري قد أصابها التلف؟ إذن للقيت عقابي حتى وإن كنت بريئًا، إني لآمل أن نكون أكثر من ذلك حذرًا، وأشد من ذلك تحفظًا، إذا ما أردنا أن نلقي بالتهم الخطيرة جزافًا لتصيب أهدافها من رفاقنا.»
فأبدى «دوروجان» علامة استياء.
واقترح «براتشكو» في صورة رسمية أن يُحكم بنقض القرار الذي اتخذته لجنة المصنع بشأن فصلي، فوافق الأعضاء إلا «دوروجان» و«لوس» فلم يصوِّتا، وهنا قدَّم عضو آخر اقتراحًا آخر، وهو أن يوجه اللوم إلى كرافتشنكو، فعلى الرغم من أن التهم الخطيرة قد سقطت عني — هكذا قال — فقد جاوزتُ حدود اللياقة في مخاطبة موظفي الحزب ونقابة العمال، ولا بد من تأديبي، كان هذا الكلام نفاقًا واضحًا أريدَ به ترضية «دوروجان» لما أصابه من جرح في كرامته.
فلشد ما دهشت أن أرى حتى «فيلين» يصوِّت تأييدًا لاقتراح تأنيبي، ولم أستطع تعليل ذلك إلا بما رأيته على وجه «دوروجان» الغليظ من عبوس أخذ يزداد تجهمًا، ولما كان «فيلين» شيوعيًّا محنكًا، فقد رأى أنه ما دام قد أيدني في قضيتي، فواجبه الآن أن يسترضي رجال القسم السياسي، واحتججت على التأنيب، لكن بغير جدوى.
ركبت أنا و«براتشكو» سيارة معًا في طريقنا إلى الدار، وكان سرورنا عظيمًا بالنتيجة التي انتهينا إليها، لكن التأنيب عكر من صفونا بعض الشيء، فهو وصمة في صحيفتي قد لا يكون من اليسير محوها.
قال لي «براتشكو»: «نشدتك الله يا «فكتور» أن تهمل الأمر كله إهمال المزدري، لقد نجوت بحياتك وهذه هي النقطة الهامة، الحمد لله على أنك ما زلت حيًّا طليقًا!»
وجلست في ساعة متأخرة من الليل أكتب الرسائل لأصدقائي وأهلي ورؤسائي في خاركوف وموسكو أنبئهم «بحسن حظي»، لكني لم أكن قط مفرطًا في تفاؤلي، فإنه لإيغال في الوهم أن تتوقع من القسم السياسي أن يخلِّيني وشأني آمنًا مطمئنًّا.
هذا الانحراف الذي عرج بقضيتي إلى النجاح يُعَد شذوذًا، إذ كانت حركة التطهير في طول الروسيا وعرضها لا تزال تجمع لنارها وقودًا، وكانت المحاكمات الصورية قائمة في موسكو بالنسبة لرجال أمثال «رادك» و«سروكولنيكوف» و«بياتاكوف» وغير هؤلاء من البلاشفة القدامى، ولبثت الصحف سبعة أيام تنشر صفحات بأسرها تفصِّل فيها «اعترافات» هؤلاء الناس التي تثير الفزع في النفوس، ثم أعقب ذلك ما لا بد منه، وهو الحكم بالإدانة فالإعدام.
وحدث في مصنعنا — كما حدث في كل مؤسسة ومنشأة أخرى في البلاد كلها — أن دعونا العمال جميعًا إلى اجتماع ليحتفلوا بإعدام هؤلاء المخربين الجواسيس، هؤلاء «الكلاب المتوحشة»، وقدم «لوس» قرارًا بلسان المجتمعين كان قد أعده قبل الاجتماع.
وكان نص القرار ما يلي: «نحن عمال مصنع التعدين في نيقوبول ومهندسيه ومستخدميه نؤيد قرارات المحكمة السوفيتية التي اتخذتها في شأن أعداء الشعب، إن يقظة الحزب والحكومة قد اجتثت الجواسيس والخوارج وأعوان الرأسمالية الذين كانوا يتهدَّدون حياة شعبنا السعيدة في ظل دستور ستالين، فليحي زعيمنا ورائدنا المحبوب الرفيق ستالين.»
ورفع مئات الحاضرين من رجال ونساء أيديهم بالموافقة خانعين، وعزفت الفرقة الموسيقية «النشيد الدولي»، وكانت البيارق الحمراء حول جدران القاعة تعبر عن أمجاد «الحياة السعيدة» لهؤلاء العمال الذين أضناهم العمل وشفَّهم الجوع فراحوا لا يأبهون لشيء، لهؤلاء العمال الذين باتوا أجسادًا بغير أرواح، فأخذ بعضهم يتثاءب، واستغرق بعضهم في نعاسه بينما كان الخطباء يرددون في خطبهم ما ملأت به صحف الصباح مقالاتها الافتتاحية، وهذه الصحف نفسها كانت قد رددت في مقالاتها تلك ما كانت صحف موسكو قد كتبته في مقالاتها الافتتاحية، وأخيرًا انتهى الاجتماع الصوري الذي أشبهت أوضاعه شعائر العقيدة، وعاد الناس إلى دورهم أو إلى مصانعهم، دون أن يقتنعوا بصدق ما قيل، أو يحسوا لأنفسهم بمصلحة خاصة في الأمر يهتمون لها.
لو كان هنالك إنسان واحد في الروسيا قد آمن بصدق ما جاء في «الاعترافات» العجيبة، فأنا — على الأقل — لم أصادفه، ولم أعلم إلا بعد ذلك بسنوات كثيرة حين سافرت إلى خارج الروسيا، أن الأجانب — وبخاصة الأمريكيين «الأحرار» — قد تقبلوا في سذاجة هذه الأضحوكة السوداء، فصدقوا كل ما جاء فيها، وأن شركة سينمائية رأسمالية كانت قد أخرجت بالفعل شريطًا ينطوي على جهل وبلادة ذهن، وتقوم قصته على افتراض صدق الحكايات الخرافية التي رواها لهم القسم السياسي في الروسيا!
كان أقرب المتهمين في محاكمات موسكو الأخيرة صلة بي، هو «بياتاكوف»؛ لأنه كان يشتغل مساعدًا أول ﻟ «أورزنكدز»، ولطالما زرته شخصيًّا في شأن من شئون العمل، واشتركت في اجتماعات كان يرأسها، فهو طويل القامة ذو وقار، وله لحية طويلة مستقيمة، وجبهة محدبة كجباه المفكرين، وكان دائمًا جادًّا أمينًا فيما يتخذ من قرارات، سواء اتخذها بعد مداولة خاصة أو بعد اجتماع عام، وكان لا يكتفي أبدًا بما يقال له عن الأمور الفنية من آراء، بل كنت تراه يتناول مسطرته الحاسبة ويأخذ في العد والحساب والمراجعة في عناية شديدة قبل أن يأذن بعمل أو بصرف شيء من المال.
لم يكن «بياتاكوف» الذي عرفته يشبه في شيء على الإطلاق ذلك «المجرم» الذي صورته المحاكمة، أو ذلك الهراء الذي قرأته عنه دهشًا في قصة أمريكية عنوانها «بعثة إلى موسكو»، لقد كنت بطبيعة عملي وبسبب اتصالاتي الفنية أقابل مئات ممن لهم صلة وثيقة بالصناعة وبالمصانع المعينة التي زعموا أن «تخريب» «بياتاكوف» قد أصابها، ولم أجد من هؤلاء المئات بطبيعة الحال رجلًا واحدًا يصدق كلمة واحدة مما وُجِّه إلى «بياتاكوف» من التهم، ولو أن كثيرين منهم كانوا يبررون تلك المحاكمات على أسس سياسية.
كان «التخريب» الذي اعترف به «بياتاكوف» عن نفسه يقع في الصناعة الإنشائية بوجه خاص، والموظف الذي يشرف إشرافًا مباشرًا على كل الصناعات الإنشائية تحت رياسة «بياتاكوف» هو رجل يُدْعَى «س. ز. جنزبرج» رئيس الإدارة الرئيسية للعمل الإنشائي في الصناعات الثقيلة، فكانت تُعْرَض على «جنزبرج» هذا كل تفصيلات هذا الضرب من العمل، وإذن فقد كان يستحيل استحالة مادية أن يقع التخريب على النطاق الواسع الذي قرره الأستاذ «فشنسكي» عامًا بعد عام دون أن يكون «جنزبرج» على علم به فيغض عنه النظر.
ومع ذلك لم يقبض على «جنزبرج» ورُوعي ألا يرد اسمه أبدًا في محاضر المحاكمة على الرغم من أن المشروعات التي كان يشرف عليها إشرافًا شخصيًّا هي التي كانت موضع المناقشة المفصلة تفصيلًا لم يترك شاردة ولا واردة، حتى إذا ما انتهت المحاكمة عيَّنه «ستالين» رئيسًا للصناعة الإنشائية، ولما رأيت «جنزبرج» آخر مرة وجدت صدره مثقلًا بحمل من الأوسمة والأنجم والأنواط، وقد كان جميع من يعملون في دائرتنا الصناعية يعلمون علم اليقين أن «جنزبرج» هو الذي قام بأهم دور في توجيه الاتهامات، وأن هذا المنصب الممتاز الذي احتله في صناعة الإنشاء كان نتيجة ما أداه من شهادة في مجرى المحاكمات، فقد كان هذا الرجل هو الذي يحرك الأستاذ «فشنسكي» من خلف الستار.
وبرز في المحاكمات شخص آخر عرفته من أعوام كثيرة خلت، وهو «نيكولاي جوليوبنكو» الذي أُعْدِمَ في «خاركوف» دون أن يلجئوا في ذلك إلى رسميات المحاكمة، إذ أُسْنِدت إليه تهمة هي وليدة الخيال، فاتهموه بأنه يرأس «جماعة إرهابية» أخذت على نفسها أن تغتال رجال الهيئة السياسية العليا، وزعموا عنه بصفة خاصة أنه اعترف عن نفسه بأنه دبر مؤامرة يغتال بها عضوًا من أعضاء تلك الهيئة العليا، وهو «كوسيور»، وأن يغتال كذلك أمين الحزب الشيوعي الأوكراني «بوستيشيف»، ولم يمضِ طويل وقت بعد إعدام «جوليوبنكو» لهذه «الجريمة» حتى قبض رجال القسم السياسي على «كوسيور» و«بوستيشيف»، ولم يستطع رجال الحزب الذين أدهشهم القبض على هذين الرجلين أن يجدوا تعليلًا لهذا سوى أن هذين الصديقين الحميمين لستالين قد تعاونا مع «جوليوبنكو» في إعداد مؤامرة قتلهما.
ظل «جوليوبنكو» حينًا من الدهر مديرًا لمجموعة «بتروفسكى-لينين» الصناعية في «دنيبروبتروفسك»، ولقد التقيت به وتحدثت إليه مرارًا، فوجدت فيه رجلًا جريئًا صريحًا، وجريمته الحقيقية أنه عارض استمرار إراقة الدماء، ولما قابلته آخر مرة — وكان عندئذٍ رئيسًا لجماعة السوفيت في دنيبروبتروفسك — كان قد علم عن نفسه أن القضاء قد حُمُّ فيه وأنه لم يعد أكثر من جثة تتحرك بين الأحياء، ولولا ذلك لما كلمني بالصراحة التي كلمني بها.
قال لي ما ملخصه: إن هذه «المذبحة» التي تجري في الحزب الشيوعي لم تكن سوى خطوة أخيرة للقضاء على كل فكر حر، بل كل شعور حر في بلادنا. ثم أضاف إلى ذلك قوله: إن ستالين كان بأعماله تلك يرمي إلى مناهضة ما قامت به الثورة، إذ أراد أن يمحو ما بقي من سلطة في أيدى لجنة الحزب المركزية، وما بقي من سمعة ومنزلة قومية لأبناء الجيل الذي قام بالثورة، أراد أن يمحو ذلك كله ليكون للهيئة السياسية العليا — وهذه العبارة معناها ستالين نفسه — سلطان الحاكم الدكتاتوري المطلق.
لم يكن «جوليوبنكو» رئيسًا ﻟ «جماعة إرهابية»، ولو كان لمثل هذه الجماعة وجود لارتكبت عملًا واحدًا من أعمال الإرهاب على الأقل، لكنه عارض هذه الحركة المعارضة للثورة واحتقر الحاكم المطلق، وإذن فاغتياله اغتيالًا رسميًّا لم يكن بغير معنى مقصود أو دليلًا على رعونة حمقاء، بل كان عملًا حربيًّا قام به ستالين في حملته الأخيرة الدامية التي شنَّها ليظفر بالسلطان المطلق من القيود.
كان «جوليوبنكو» و«بياتاكوف» وربما جاز لنا أن نضيف إليهما «كوسيور» و«بوستيشيف» «مجرمين» بمعنى واحد، وهو أنهم أبوا أن يذعنوا في خنوع للحكم المطلق الذي أراده ستالين لنفسه، لا بل حتى هذه «الجريمة» لم يستطيعوا إثباتها على ملايين الأنفس التي لا تُعْرَف أسماؤها، ممن كانت لقوم ينتمون للحزب الشيوعي أو لا ينتمون لحزب من الأحزاب، والتي لقيت حتوفها في حركة التطهير الأعظم، ولكمْ روَّعني بعد ذلك بأعوام أن أعلم أن هؤلاء الضحايا قد أسماهم المغفلون والحمقى في خارج الروسيا باسم «الطابور الخامس»، «طابور خامس» قوامه تسعة ملايين أو عشرة، بينهم من ستين إلى ثمانين في كل مائة من طليعة زعماء الحزب وقادة هيئاته الفرعية والقوات المسلحة ورجال الحكومة والصناعة والزراعة والثقافة القومية، إن مجرد ذكر هذا الهراء ليكفي لبيان ما فيه من خطأ فاحش.
وحدث في غضون محاكمة «بياتاكوف» أن اتُّهِمَ رجل يسمى «شستوف» بالتآمر على قتل «ب. إيش» أمين الحزب في سيبيريا، وأُعْدِمَ «شستوف» ثم لم يلبثوا بعد قتله أن قبضوا على مَنْ كانوا جعلوه ضحيته الموهومة، وهو «إيش»، ولقد قام «ماتولفتش» — المساعد النشيط الذي كان يعاون النائب العام فشنسكي — بفعلة تنمُّ عن دهاء وغلظة قلب، حين قام بإعداد المتهمين لقتلهم رميًا بالرصاص، لكن المحاكمة لم تكد تنتهي، حتى قُبِضَ على «ماتولفتش» نفسه، وكانت المحاكمة كلها من طبخ رجل لا يعرف الرحمة، هو «هنري ياجودا» رئيس القسم السياسي، لكن ما أسرع ما جاء دور «ياجودا» نفسه وكبار أعوانه فقُبِضَ عليهم وأُعْدِمُوا، وكان معظم الذين ساهموا في إعداد «دستور ستالين» قد أصابهم الإعدام أو السجن إذ ذاك، ثم لم يلبثوا كذلك أن «حاكموا» أعلام قواد الجيش الأحمر، وبينهم الجنرال «توخاشفسكي» الذي طبقت شهرته آفاق العالم أجمع، حاكموهم في الخفاء وأعدموهم، ولم يمضِ وقت طويل بعدئذٍ حتى حان حين «قضاته» جميعًا فأُعْدِموا، فيظهر أن «الطابور الخامس» كان يشمل أبناء البلاد جميعًا ما عدا «ستالين» و«مولوتوف» و«السفير الأمريكي ديفز».
فعلى الرغم من براءتي في تلك المحاكمات — إذا استثنينا ما وُجِّهَ إليَّ من لوم — فقد عذب نفسي أن أرى هذه الأهوال من حولي، وهذا القبض يُلْقى على الناس، وهذا الإبعاد للرجال الذين يعملون في مصنعي ومكتبي، مما اتصل اتصالًا لا ينقطع، عذب نفسي هذا الذي رأيته حولي فانغمست في العمل انغماسًا، إذ كنت أواصل العمل أحيانًا أربع عشرة ساعة أو ثماني عشرة أو عشرين، حتى أُجنِّبَ نفسي التفكير فيما أرى فأصون صوابي، لم تكن لي إذ ذاك حياة خاصة، ولم أجد الرضى في عملي، ولم يكن لي أمل في مستقبلي أو مستقبل بلادي.
وهكذا أقبل اليوم المشئوم من شهر فبراير سنة ١٩٣٧م، كنت يومئذٍ جالسًا إلى مكتبي أكتب تقريرًا عن إنتاج المصنع لأرفعه إلى «إيفانتشنكو» في «خاركوف» وإلى «أورزنكدز» في موسكو، وإذا مساعد من مساعديَّ يندفع إلى مكتبي والدمع ينهمر من مقلتَيه.
قال في صوت متقطع بالبكاء: «فكتور أندريفتش، لقد مات «سرجو أورزنكدز» يا له من حظ أنكد!»
فجلست لا أتحرك ولا أتكلم كأنما صابني شلل، وانحدرت العَبَرَات على وجنتي، فقد فقدت بفقده صديقًا راعيًا، وفي اليوم التالي بغير إبطاء، تلفن إليَّ «جرشجورن» قائلًا: «يا لها من مأساة! «لقد مات راعيك في موسكو» قد يحسن أن نلتقي سريعًا وأن «نسمر» بالحديث «في هذا وذاك» من الأمور.»
لقد انهدم حائط الخزان واندفعت تيارات الماء الداوية تدور من حولي.