بحث عن العدالة
طُلب إليَّ أن أتكلم في اجتماع عمال المصنع تكريمًا لذكرى «أورزنكدز»، فكانت هذه أول مرة أبعث فيها الكلام من سويداء قلبي في اجتماع سوفيتي، فلقد مضت سبعة أعوام مذ اختارني «أورزنكدز» للتدريب على أن أكون أحد «الصفوة المختارة من رجال الهندسة الصناعية في بلادنا»، ولبث خلال هذه الأعوام السبعة يشجعني ويحميني بعطف يدنو من عطف الوالد على ولده، وأُتيح لي بطبيعة الحال أن أعرف أنني واحد من ألوف الرجال الذين وضعهم في حمايته واستخدمهم في صوالح الوطن.
ولا بد أن أكون قد نقلت إلى نفوس السامعين ما يضطرب في نفسي أنا من شعور بفداحة الخسارة؛ لأن عشرات منهم أخذوا يبكون في غير إخفاء، وإذن فهذه الجموع من غمار الناس، التي شهدت الجلسات الرسمية الصورية التي وُوفِقَ فيها على محاكمات أُرِيقَت فيها الدماء، وعلى دستور وهمي، أقول: إن تلك الجموع من غمار الناس التي شهدت تلك الجلسات في عبوس وتجهم، لم تكن تخلو من شعور شريف، وإذن فالينابيع الأولى التي كانت معينًا تدفَّق منه الشعور الروسي لم تكن قد نضبت بعد.
ونشرت الجرائد رثاءً طويلًا ذكرت فيه مناقب الوزير الفقيد، ووقَّعه ستالين ومعه تسعة عشر آخرون من علية القادة، وعينت الهيئة السياسية العليا لجنة من سبعة أعضاء كلهم من رجال الصناعة ورجال الحكومة الممتازين لينظموا جنازة رسمية، وشهد أربعة من كبار الأطباء بأن موت الفقيد يرجع إلى «شلل في القلب»، ولقد رسخت في ذهني هذه الأرقام لما تنطوي عليه من إشارة إلى ما ساد ذلك العصر من مرِّ الحوادث؛ ذلك لأنه قبل أن ينقضي عام واحد، لم يكن قد بقي من العشرين الذين وقَّعوا الرثاء في الصحف متمتعًا بحياته أو بحريته إلا تسعة، وأما الآخرون فقد قُضِيَ على حياتهم رميًا بالرصاص، أو أزهقوا أرواحهم بأيديهم، أو زج بهم في السجون حيث ينحدرون إلى الفناء رويدًا، وكذلك لم يبقَ حيًّا أو طليقًا إلا رجلان من السبعة الأعضاء الذين طُلِبَ إليهم إعداد الجنازة، وأما الباقون فثلاثة منهم أُعْدِمُوا، وانتحر رابع ودُفِنَ الخامس حيًّا في إحدى مناطق الأشغال الشاقة، وكذلك لم يبقَ من الأطباء الأربعة إلا واحد أخذ ينفق أيامه في فزع لا ينقضي مما عساه أن يصيبه في حركة التطهير.
لماذا لزمت شهادة الأطباء بما فيها من تفصيل عن موت الوزير؟ لأن الشعب الروسي — وأعضاء الحزب بصفة خاصة — لم يعودوا يصدقون أن أصحاب المناصب العليا في الحكومة يموتون ميتات طبيعية، إذ كان من أثر الحوادث الغريبة التي وقعت أن أخذ كثير من الناس ينظرون نظرة المرتاب لما يجري من أمور، ومما يجدر ذكره في هذا الصدد موت زوجة ستالين قبل ذلك ببضع سنوات، إذ كانت لا تزال شابة صغيرة، وهي «نادزدا أَلِلويفا».
فلقد بُذِلَت مجهودات ضخمة إذ ذاك لإخفاء موتها المفاجئ، ومع ذلك فقد شاع في الناس كثير من الحقائق التي تثير المشاعر، أو هي على الأقل شاعت في الدوائر العليا من رجال الحكم.
كانت «أللويفا» ابنة رجل من رجال الثورة فيما قبل عام ١٩١٧م، ويظهر أنها قد ورثت عن أبيها بعض ميوله الإنسانية التي ذهب زمانها والتي تقشعر من الأعمال الإرهابية التي تنزل بالناس على نطاق واسع، فلم تحتمل الحركة الوحشية التي أدى إليها إنشاء المزارع الجماعية، لم تحتمل تلك الوحشية حتى من رجل هو والد طفليها، ولم تقصر التعبير عن جزعها على محيط الأسرة، بل ما فتئت تهاجم سياسة زوجها في اجتماعات الحزب التي كانت تنعقد في المعهد العلمي الذي كانت تتلقى فيه بعض الدروس في الهندسة الصناعية.
إن مجرد الإشارة إلى هذه الحقائق كان وحده كفيلًا أن يلقي بالمذنب إلى أعماق السجون، ومع ذلك فقد أخذت تتقطر أنباؤها في المحيط الأعلى من أصحاب السلطان، حيث الفضائح والدسائس والحوادث المثيرة تملأ الجو بمثل ما كانت تملؤه أيام بلاط «رومانوف» الغابرة، فلما أُعلن عن موت «أللويفا» إبان ثورتها التي قامت بها وحدها كان الشك الوحيد الذي اختلج في الرءوس هو هل قتلت نفسها بيدها أو دس لها السم بإشارة من ستالين.
لهذا أخذت الشكوك حول موت «أورزنكدز» تشيع في الناس على الرغم من بيان الأطباء الأربعة، ومن المصادفات أني أعلم الصدق فيما يتصل ببعض ما أحاط بالأمر من ظروف، لكن الوقت لم يحن بعد للكشف عن مصادر علمي؛ لأن إعلان الأسماء معناه الفتك بأصحابها والقضاء على حياتهم، لكن لما كانت الأعوام الأخيرة من حياة هذا الوزير الفقيد مرتبطة بحياتي ارتباطًا وثيقًا، فإني أشعر أن من واجبي أن أسجل هنا في إيجاز بعض الحقائق.
لبث «أورزنكدز» أمدًا طويلًا يعاني من أزمة صدرية حادة ومن عطب في الكلية اليمنى، ولطالما جعل من أمراضه موضوعًا لفكاهته، وحدث لي أكثر من مرة أن رأيته وقد أنهك نفسه بالعمل إنهاكًا أسقطه من الإعياء بعد يوم مليء بالمجهود المتصل رغم ما يحسه من ألم شديد، ولما بدأت حركة التطهير الأعظم سنة ١٩٣٦م تكتسح بموجتها ألوفًا من أصدقائه الأقربين وزملائه في الحزب وفي الصناعات الثقيلة، رفع احتجاجه لستالين وأثار العواصف الحامية في اجتماعات الهيئة السياسية العليا، وقاتل رجال القسم السياسي قتال النمر فساءت صحته، ثم أعقبت ذلك صدمة القبض على «بياتاكوف» أقرب زملائه إلى نفسه، فأرقدته مريضًا لا يُرْجَى شفاؤه.
كان صديق من أصدقائي في مكتب الوزير لما جاءه رسول يحمل نبأ القبض على مهندس ممتاز كان رئيسًا لإحدى الجماعات الصناعية الكبرى التي تقع تحت إشرافه، فاحمرَّ وجه الوزير من الغضب وانتفخت عيناه وأخذ يرغي ويزبد بمقدار ما يبيح لنفسه رجل عاطفي من جورجيا أن يرغي وأن يزبد، وكان «ياجودا» رئيس القسم السياسي وأهم عامل في تنظيم حركة التطهير الأولى وما جرى فيها من محاكمات قد أُعْدِمَ قبل ذاك، وحل محله «يزوف» في رياسة محاكم التفتيش السوفيتية، وهو رجل ممقوت كريه، فتلفن «أورزنكدز» إلى «يزوف» وأرسل لنفسه العنان في حديثه معه مطالبًا بمعرفة السبب الذي دعا إلى القبض على المهندس دون أن يُستأذن في أمره.
وسمع صديقي الوزير وهو يصيح قائلًا: «كيف استبحت لنفسك أيها القذر الحقير أن تفعل ما فعلته؟ إني أطالبك بإرسال وثائق هذه القضية، أرسلها كلها بغير إبطاء!»
ثم تلفن إلى ستالين بالخط المباشر الذي يربط رجال القيادة في تلك الحكومة الدكتاتورية بعضهم ببعض، وعندئذٍ كانت يداه ترتعشان وعيناه محمرتين، وأخذ يضغط بيده ذلك الموضع من ظهره الذي جعل يحس فيه وجع الكلية المعطوبة.
– «كوبا! لماذا تأذن لرجال الشرطة السياسية أن تقبض على رجالي دون أن أحيط بالأمر علمًا؟»
هكذا سُمِعَ صديقي الوزير يقول في صوت عالٍ في حديثه التليفوني إلى ستالين، و«كوبا» هو الاسم الخاص الذي ينادى به ستالين من خلصائه.
وساد الصمت مدة طويلة كان ستالين يتكلم خلالها من الطرف الآخر، ثم قاطعه «أورزنكدز» قائلًا: «إني أطالبكم بوقف هذا التحكم، فأنا ما زلت عضوًا في الهيئة السياسية العليا! كوبا! إنني سأثيرها حربًا شعواء حتى ولو أدى ذلك إلى موتي!»
وأنزل «أورزنكدز» السماعة بضربة قوية، وجلس إلى مكتبه في حالة من اضطراب الغضب الذي لا يجدي.
أمثال هذه المواقف كانت تحدث كل يوم حتى امتصت من ذلك الرجل عصارة حياته، ولقد كان هذه المرة عند تهديده فأثار الفضائح في اجتماع الهيئة السياسية العليا، وكان «كرسيور» و«رودزتاك» و«شوبار» و«أنتيبوف» يناصرونه عادة، ولقد أُلْقِيَ القبض على أربعتهم واختفوا عن الأنظار خلال أيام التطهير، ثم ما هو إلا أن أعجز المرض «أورزنكدز» عن حضور الجلسات، لكنه لبث من غرفة مرضه يبعث بالرسائل التليفونية الثائرة بسَوْرَة الغضب التي ما انفك يطالب بها أن ترد الحرية أو الحياة لرجاله الذين كانوا يعملون تحت إشرافه وكانوا منه موضع ثقته.
لم يسمح لزوجة «أورزنكدز» — واسمها «زنيدا» — أن تزوره إبان مرضه الأخير، وقد كان يضمر لها أعمق الحب، فرجال الشرطة السياسية الذين تظاهروا بحمايته، كانوا في الحقيقة يحولون بين أصدقائه وبينه وهو في سرير المرض، ولم يؤذن لأحد بزيارته إلا ﻟ «ميكويان» و«فوروشيلوف» وكلاهما عضو في الهيئة السياسية العليا، ولقد حاولا عدة مرات أن يحملاه على مهادنة ستالين بأن يعترف له بضرورة التطهير الأعظم، لكن هذه الزيارات كانت دائمًا تنتهي بمعارك حامية.
ولقد كان من العلة بحيث تستحيل عليه الحركة، إلا أن مرضه مع ذلك لم يبلغ به حافة الموت، فلم يكن ثمة ما يمنع أن يظل مُقْعَدًا عدة أعوام، وأخذ وهو في سريره يملي الرسائل للجنة المركزية والهيئة السياسية العليا يتهم فيها ستالين ويطالب بعقد جمعية عمومية للجنة المركزية للنظر في حالة البلاد وإيقاف هذا التيار الجارف من حوادث القتل والتخريب، فكان يملي رسائله تلك بعاطفة وإيمان، ولو سلمت تلك الرسائل من التلف لوجد مؤرخو العصور المقبلة اتهامًا مفصلًا للثورة المضادة التي أثارها ستالين، نطق به الرجل الذي قام بتنفيذ مشروعات السنوات الخمس في أول دور لها.
فما انقضى بعد ذلك يومان حتى مات «أورزنكدز» على غير توقع من أسرته ومن الأطباء الذين يشرفون عليه، وهناك من الناس من يرجح أنه جرع السم في لحظة من لحظات يأسه، ويعتقد آخرون أن دكتور «لفين» هو الذي أماته مسمومًا، ولفين هو الطبيب الذي اعترف فيما بعد بأنه دس السم ﻟ «مكسيم جوركي»، فليس ثمة من سبيل إلى الشك — فيما أعلم — أنه مات غيلة، وأن نهايته لم تكن «طبيعية».
فلو صدق هذا الزعم، لكانت جنازته الحافلة، ونشر رثائه في طول البلاد وعرضها لذكر مناقبه، جزءًا من مهزلة يمجها الذوق السليم، ونشرت صور للجنازة وقفت فيها أرملة الفقيد إلى جانب ستالين، وهي التي حُرِمَت رؤية زوجها إبان مرضه، ثم أخذوا خلال الأعوام القليلة التالية يدفعون إلى النسيان اسم «أورزنكدز» شيئًا فشيئًا، حتى جاء وقت لا يكاد يذكره فيه ذاكر، وجعلوا يغيرون أسماء المدن والشوارع والمصانع التي كانت تحمل اسمه، حتى إن صغار الشباب الشيوعي اليوم يوشك ألا يعرف من هو «أورزنكدز».
وخلف «أورزنكدز» في رياسة الصناعة «فاليرين مزلاوك»، ولشد ما دهشت حين أرسل إليَّ رسالة خاصة يطلبني إلى موسكو، فالظاهر أن «مزلاوك» كان يجمع حوله مَنْ أمكنه أن يجمعهم من المهندسين الفنيين الذين أنقص التطهير عددهم بشكل ظاهر، وذلك حين وكل إليه أن يمسك بزمام الصناعة الثقيلة في البلاد.
كان قوي البنية وسيم الطلعة، عاش بعض وقته خارج البلاد، فكان له مظهر الرجل الأوروبي وأخلاقه على السواء، وعلى الرغم من قدرته في الإدارة، لم يكن له من القوة أو النفوذ السياسي إلا قليل، فلعل ستالين أراد ألا يقترف الخطأ مرة أخرى بأن يجعل رئيسًا آخر «حر الرأي» في منصب رفيع.
قال: «إني أفكر في تعيينك رئيسًا لمصنع من أكبر مصانعنا يا رفيقي «كرافتشنكو»؛ فصحيفتك في «نيقوبول» تبرر ذلك، فماذا ترى؟»
– «اسمح لي أن أسألك يا رفيقي الرئيس من ذا الذي رشحني لهذا؟»
– «ولماذا تريد أن تعرف ذلك؟»
– «لأني محوط بكثير من المتاعب السياسية في نيقوبول، فلقد وُجِّهَت إليَّ تهمة الإتلاف المتعمد وغيرها من الذنوب، فلعله من المفيد أن تعلم عني هذا قبل أن ترقيني إلى منصب أهم من منصبي الحالي.»
وأخبرته في شيء من التفصيل عما صادفته حديثًا من متاعب.
فهز «مزلاوك» كتفيه وقال: «هذا غريب، غريب أنهم لم يخبروني بذلك، إني أعلم أن «أورزنكدز» كان لك شديد التقدير، وقد تكون مصيبًا في رأيك، فلنترك الأمر كما هو الآن مؤقتًا.»
ولقد حدث فيما بعدُ ما جعلني أحمد نجمي السعيد الذي وُلِدت تحت سمائه، فما هو إلا أن أُلْقِيَ القبض على «مزلاوك» فاختفى كأنما ابتلعته أمنا الأرض في جوفها، ثم سرعان ما أعقبه أخوه «إيفان»، فلو أنه نصَّبني في مكان هام لدفعتُ بغير شك ثمن هذا الفضل غاليًا.
وفي الأيام الأولى من مارس ألقى ستالين خطابًا ضافيًا في اجتماع اللجنة المركزية، ونشر الخطاب كاملًا، ثم أخذ مأجورو الحزب — كما هي العادة — يلوكون كلماته في اجتماعات حزبية وشعبية لا نهاية لعددها، وجعلت الصحف والإذاعة تقتبس من الخطاب نُتَفًا تذيعها كل ساعة بلهجة الإعجاب، لكن هذه التغطية كلها لم تستطع أن تخفي عن الأنظار لب الخطاب، فلب رسالته هو أن التطهير — على بشاعة ما ظهر منه — لم يكن حتى الآن إلا بداية، وأن البلاء منه ما هو أشد وأفظع.
قال ستالين: «إن الإتلاف والتهاون قد شملا، أو كادا يشملان، كل نواحي العمل في بلادنا على اختلاف في الدرجة هنا وهناك.» ثم أخذ يؤنب الحزب قائلًا: «إنه قد نسي أن سلطان السوفيت لم يغز من العالم إلا سدسه، وأن خمسة أسداسه لا تزال في أيدي الرأسماليين … وطالما بقيت بلادنا مطوقة بالرأسمالية، فلن ينقطع من بيننا المتلفون والمتهاونون والجواسيس …»
فكاد هذا الخطاب ألا يخفي ما وراءه من عزم، وهو إعلان الحرب على كل منظمات البلاد، وعلى كل من حدثته النفس اليوم أو غدًا أن يعارض كلمته المطلقة، فالجد في العمل، بل النبوغ فيه لا يجوز أن يُقْبَلا دفاعًا — هكذا أنذر ستالين في خطابه — عن متهم أعوزه الإيمان، «إن المتلف الحقيقي لا بد حينًا بعد حين أن يبدي علائم النجاح في عمله؛ لأن مثل هذا النجاح هو السبيل الوحيدة التي يستطيع بها أن يتابع إتلافه وراء ستار … لا بد لنا أن نجتث هؤلاء الناس من جذورهم، وأن نسحقهم سحقًا بغير إبطاء ويغير مداورة؛ لأنهم أعداء الطبقة العاملة، إنهم خائنون للوطن.»
فكان هذا التلميح بمثابة الإشارة لغلاظ القلوب ومشتعلي الصدور بالحماسة في كل مجتمع من أهل البلاد أن يبدءوا نشاطهم، وبهذا شُقَّ الطريق أمام القسوة لتبدأ سيرها، وأحسسنا بنتائج ذلك فورًا في جماعتنا، فبعد أن أذاع ستالين خطابه بأيام عدة أُلْقِيَ القبض على مدير مصنع كبير للآلات الزراعية، كما قُبِضَ على كل إخوانه، وقُضِيَ على الكثرة الغالبة من رجال الإدارة والهندسة في مناجم المنجنيز في نيقوبول، وفي كل مشروع آخر من مشروعات تلك المنطقة.
ولما ذهبت إلى المصنع ذات صباح وجدت «براتشكو» في انتظاري وقد أخذ منه الهلع.
قال في صوت حزين: «فكتور أندريفتش»، لقد قُبِضَ على أمين سر اللجنة المحلية الرفيق «فيلين» أثناء الليل.»
وخلال ذلك اليوم نفسه، ناداني الرفيق «لوس» ولم يكد يستطيع أن يخفي رنَّة النصر في حديثه.
قال لي مغتبطًا: «لا بد لنا من عرض قضيتك من جديد أمام اللجنة المحلية، فأنت تعلم أنك نجوت في المرة الماضية بمعونة «فيلين»، وإنه لمن أعداء الشعب، ولكنك الآن تحت رعايتنا فلا تخف!»
وإذن فمحاكمتي التي حسبتها قد انتهت، لم تكن إلا بادئة.
لم يمضِ وقت طويل حتى دُعِيت إلى «الحديث القصير» الذي وعدني إياه «جرشجورن»، فلما وصلت بناء القسم السياسي في الساعة الحادية عشرة مساءً كما أُمِرْت، لم يكن هو قد جاء بعد، فانتظرته في غرفة الاستقبال التي ازدحمت بالزائرين، يضطرب رأسي بشتى الآراء الهوجاء، فأي فخ شيطاني قد نصبوه لإيقاعي يا تُرَى؟ أيكتب لي أن أغادر هذه الدار التي امتلأت بالمفازع؟
اقتربت الساعة من الواحدة حين جاء «جرشجورن» آخر الأمر بصدغيه السمينين وقد حلقهما و«بدَّرهما» لتوه، وبرأسه الأصلع المستدير في احديداب يلمع بالضوء، جاء منتعشًا نشيطًا مستعدًّا «للعمل»، فتبعته إلى مكتبه الفسيح الخالي من الأثاث، الذي كنت قد ألفته لكثرة ما اختلفت إليه، لم يكن في هذا المكتب من أثاث سوى نضد من خشب الكابلي المصقول وقليل من مقاعد وخزانة ضخمة وأريكة، فكان عري المكان من الأثاث ونظافته يوحيان إليك — على نحو ما — أنك في حجرة طبيب جراح.
بدأ الحديث رئيس القسم الاقتصادي وكان يتكلف المرح فقال: «استمع إليَّ يا «كرافتشنكو»، أنا أثق فيك وأود لو تفاهمنا في غير عناء، لقد استطعت حتى الآن أن تخلص بنفسك عند الحزب من مشكلتك بتلك القصاصات السخيفة التي قدمتها، لكن هذا الخلط والتهويش لا يجديان فتيلًا في القسم السياسي، فسوف نغوص في الأمر حتى نصل إلى أعماقه فنعلم كل ما يتعلق بمسألة الآلات المخزونة ومبدأ أبيك المنشفي وعلاقاتك بأفراد نعرف عنهم أنهم أعداء الشعب.»
في هذه الليلة الأولى التي أعقبتها ليالٍ كثيرة، استعرض «جرشجورن» كثيرًا من النقط التي كانت قد استُعْرِضَت في المحاكمة العلنية، وأشار في حديثه إلى ملف أوراق مليء بالتقارير التي كتبها عني وكلاؤه الذين يحيطون بي أينما سرت، فأعاد ذكر حوادث كانت قد وقعت في المصنع، كما أعاد ذكر حالات لم نكن فيها موفقين في إنتاجنا بحيث نسد ما طُلِبَ إلينا، وكان كلما ذكر عني شيئًا، وخصوصًا فيما يمس علاقاتي ببعض أفراد أُلْقِيَ عليهم القبض أو قُضِيَ في أمرهم على نحو ما، أقول: إنه كان كلما ذكر عني شيئًا يحاول أن يشتمَّ منه رائحة اتهامي بمحاولة الإتلاف، ثم يحاول في دهاء أن يوقعني في متناقضات واعترافات.
ودام استجوابي على هذا النحو حتى الساعة الرابعة صباحًا، وكان معظم ما دار حوله الحديث شئون أفراد غيري ممن يشتغلون في صناعة التعدين، فلقد أراد القسم السياسي أن يعلم مني شيئًا مما يصح أن يقوِّي وجهة نظره في اتهام هؤلاء الموظفين الذين كانوا تحت قبضتهم، كما أنه بغير شك كان لا يدخر وسعًا في جمع معلومات وآراء عني تمكنه من تأييد اتهامي.
ولو كان أيٌّ من هؤلاء الناس الذين ساء حظهم قد جعل الإتلاف همه حقيقة، لرأيت منه ما يدل على ذلك؛ لأن ما رسموه من خطط وما أنتجوه وما أنجزوه وما اقترفوه من خطأ، كل ذلك كان منعكسًا في مصنعي، لكني لم أشهد قط علامة واحدة من علامات الإتلاف المتعمد، نعم كان هناك دلائل كثيرة تنم عن عجز في القدرة واضطراب وتعطيل، لكن هذه كلها لم تكن سوى أمراض لا بد منها لصناعة وليدة كتلك الأمراض التي يتعرض لها الأطفال بحكم تكوين أجسادهم، ولم يكن في وسعي مهما بذلت من جهد أن ألوي الحقائق بحيث تظهر في صورة البراهين التي تدل على تخريب مقصود.
وضاق «جرشجورن» صدرًا لما رآه من «عنادي»، وكنا كلما تقدمت بنا ساعات الليل، ازداد هو قلقًا وازداد سخطًا، وتبدَّل الأدب الظاهري الذي بدأ به في أول الليل وقاحة وإهانة صريحتين تدريجًا، عطَّرهما بتوابل من الشتائم الروسية الخالصة، إذ خُيِّل إليه أنه من قبيل الإهانة الشخصية له أن تبلغ بي الجرأة حدًّا أقاوم معه كل ما بثَّه في حديثه من تلميحات، وأفسد له كل ما بناه لنفسه من نظريات غريبة، لا بل إنه تصرف على نحو أراد به أن يبين أنه هو الضحية، وأنني أستغل طيبة قلبه بحيث أضطره اضطرارًا إلى هذا الموقف الذي جعله يتندى بالعرق وينطق بالشتائم بسبب عنادي في رفض «التعاون معه».
تركت بناء القسم السياسي عند فلق صبح جديد، وكان سطح الماء في نهر دنيبر رخيًّا ناعمًا بموجاته الصغيرة كأنه الدمقس المتثني، فلماذا لا أغوص في جوفه فأتزمَّل إلى الأبد بدثار من النسيان؟ فقد كان يستحيل عليَّ أن أغادر بناء القسم السياسي الكئيب مرة واحدة دون أن أحسَّ في نفسي شوقًا إلى أنعم الموت، «لماذا لا يَدَعونني وشأني؟ لست أريد إلا العمل وإلا أن أعطي خير ما أستطيع، لماذا لا يدعونني وشأني؟» هكذا كانت خواطري تترنح كما كان جسدي، فلم تستطع أن تطَّرد في خط مستقيم من التفكير، ولا إخال من رآني من الناس — وهم عدة — إذ كنت ماشيًا في الطريق ذلك الصباح البارد ذا الضباب الكثيف، لا إخال هؤلاء إلا موقنين بأنني كنت إذ ذاك مخمورًا.
ذهبت إلى عملي في المصنع ذلك النهار بعد نعاس قليل، فذهبت في غفوة النعسان، تكاد جبهتي تنشق عند جانبيها من الألم، وجعلت أرقب قدوم الليل لأجد فيه راحتي من عنائي، لكن العصر لم يتقدم بنا قليلًا حتى دق التليفون من مكتب «جرشجورن»، وطُلِبْت للذهاب مرة أخرى في الساعة الحادية عشرة لنستأنف «حديثنا» القصير، وذهبت هناك كما أُمِرْت، ذهبت متعبًا مضطرب الأعصاب ممرور النفس، ودام استجوابي على هذا النحو شهرًا كاملًا لم ينقطع إلا فترة قصيرة، فكان ذلك بداية محنة أصابتني من عدم النوم، وهي محنة يستحيل على إنسان أن يتصور مدى فداحتها إلا إذا أصيب بمثلها في جسده وأعصابه.
وعَوَتْ ذئاب نيقوبول تنشد دمي — وما ذئاب نيقوبول إلا «دوروجان» و«جرشجورن» و«لوس» ومَن إلى هؤلاء — واشتد بهم القلق يريدون تمزيقي إربًا إربًا، فكنت تكاد ترى بعينيك لعابهم وهو يسيل من جوانب أفواههم اشتياقًا للوليمة المرتقبة، لماذا؟ لماذا؟ ماذا يحرك نفوسهم ضدي ولم أسئ إلى أشخاصهم على أي وجه من الوجوه؟
كان لهذه الأسئلة ردود منطقية، فما داموا قد قضوا على عشرات من الناس في مصنعنا وغيره ممن كانت مناشطهم تتدخل في مناشطي تدخلًا وثيقًا، فالاطراد المنطقي يقتضي المطالبة بحياتي، فما دمت حرًّا طليقًا فستظل صورة التطهير في المنطقة الخاضعة لإشرافهم شائهة؛ لأن «غمار الناس» سيعتورهم شك شديد في صدق ما وُجِّه إلى هؤلاء الضحايا من اتهام، وسيزدهر هذا الشك في نفوسهم ولن يهدأ إلا إذا سُدَّت هذه الثغرة الباقية في البناء الذي ركبوا أجزاءه بعضها إلى بعض، وفضلًا عن ذلك فإنهم قد بدءوا قضيتي وأعلنوا عنها، وإذن فمن سوء السياسة أن يجعلوا لي طريقًا أفلت منه؛ لأن ذلك مما «يزعزع نفوذهم» على حد التعبير السوفيتي الذي كان شائعًا.
بيد أن الردود المنطقية تقف من الأمر عند ظاهره ولا تغوص إلى الأعماق لتجد الأسباب الحقيقية لهذا الاتهام المقصود في الحمأة الدنيئة الوطيئة من فطرة الإنسان التي تنحرف به عن جادة المنطق، فلقد انقلب الأمر إلى صيد يشوق النفس، ولن يطيب الصائد نفسًا حتى تقع الفريسة بين يديه، ولا شك أنهم بدءوا بغير أن يكون في صدورهم عاطفة معينة إزائي، كائنة ما كانت، لكنهم لما أخذتهم حرارة التعقب لفريستهم، وفي اللحظات التي كانوا يصابون في صيدهم بالفشل، أخذت تتولد في نفوسهم كراهيتي، لقد أرادوا أن يكلل سعيهم بالنصر، بحيث يضيفون جلدي إلى سواه مما جمعوه من علائم النصر في كومة تسيل بالدماء.
ويظهر أن الصائدين أرادوا في الوقت نفسه أن يستمسكوا بقواعد الصيد على الأقل في الظاهر، وهي رغبة تدل أيضًا على انحراف الفطرة البشرية، فإذا هم قبضوا عليَّ ورموني بالرصاص في إحدى حجيراتهم الزلقة، ظهروا في أعين «نيقوبول» بمظهر يثير السخرية، ولقد أصبحت قضيتي من تلك القضايا التي لا بد فيها من صيد الفريسة علنًا وعلى مرأًى من الناس بحيث يعترف المجرم بجريمته فيسمع الجميع اعترافه.
لبثت عدة أسابيع لم يتح لي فيها أن أذوق للنوم طعمًا، ألاقي في غضونها من ألوان التعذيب والإهانة ما ألاقي في الجلسات السرية، وفي الوقت نفسه مضوا في إجراءاتهم العلنية في اتهامي، وأعادوا كل الخطوات التي اتخذوها حينما قضوا بفصلي أول مرة، كأنه شريط ملفوف يعودون إلى حله من جديد، فمن جديد ألفوا لجانًا للتحقيق، ومن جديد أخذوا يجمعون الحزب للتداول وينشرون تجريحي في الصحف، ولقد جعلت أتلقى هذه الخطوات المتتابعة لا يؤرقني إلا شوق شديد للنوم والراحة، فأحيانًا كنت أحس كأنما مُلِئ جسدي بالرصاص الثقيل الذي يقعدني عن الحركة بثقله الجسيم، وفجأة أحس به خفيفًا كالريشة ويخيَّل إليَّ أنه وشيك السبح في الهواء، وأخذت موجات من الحرارة والبرودة تنتابني على التوالي، وأضافوا إلى قائمة اتهاماتي القديمة اتهامات جديدة، وسَّعوا في تهمة الإتلاف وعمموها إذ وجدوا أن حصرها في أنواع معينة ييسر دفعها، وكذلك غيروا نسبة اهتمامهم بالتهم المختلفة في القائمة الجديدة عما كانت عليه أولًا، فمروا سراعًا على التهم الخاصة بأفعالي الشخصية، لكنهم أطالوا الوقوف عند تهاوني مع رجال ثبتت عليهم بالفعل تهمة الإتلاف، وإذا لم يكن ذلك تهاونًا مني، فهو على الأقل تسامح غادر ونقص في يقظتي، وبالطبع كلما ازدادت التهم تعميمًا بغير تخصيص، ازداد دفعها عسرًا.
فلما طال أمد تعقبي على هذا النحو، أُنْسِيت بالفعل سبب هذا التعقب، ولم أعد أشعر بشيء أبدًا سوى ما بي من تعب وبؤس ودوار وحيرة، ودفعني اليأس إلى اعتزام البحث عن العدالة في مكان آخر، لعلي بهذا على الأقل أغيِّر مجرى الاتهام الرتيب الممل، أو لعلي على الأقل أنجو ولو إلى أمد قصير من هذه الجلسات الليلية مع «جرشجورن»؛ فعرضت خطتي على المدير براتشكو.
قلت: «لقد أنهكني التعب إنهاكًا مميتًا يا «بيوتر بتروفتش»، إن رأسي يدور وأعصابي تكاد تتمزق، فلا أنا أستطيع عملًا ولا طعامًا ولا نومًا، ولا بد أن يكون ثمة مكان آخر أجد فيه أثرًا باقيًا من الصدق والعدل الخالص، وفي نيتي أن أحاول البحث عنه، فسألجأ إلى اللجنة الإقليمية، وإلى اللجنة المركزية العليا، وإلى أفراد معينين من الرفقاء، وسأقص مأساتي على كل من يعيرني أذنًا مصغية، فقد أجد إنسانًا واحدًا في مكان ما يعينني بنصحه ومساعدته، فأنا رغم كل اتهاماتهم لي لم أقترف ذنبًا، فلماذا يتعقبونني كما يتعقبون مجرمًا؟ لماذا يدفعون بي خلال هذه المفازع مرة ثانية فثالثة إذا كانت براءتي قد ثبتت في المرة الأولى؟ نعم، إني مصمم على البحث عن جواب لهذه الأسئلة.»
أخذ الهم «براتشكو» لما علمه من موقفي ومن نيتي، فلم يكن لديه أدنى علم بهذا التحقيق الذي يجري معي كل مساء، فلقد أخذوا عليَّ تعهدًا بالكتمان لقاء عقاب شديد، لكنه أحس مما قلته له أن ثمة ما يبرر يأسي هذا أكثر من هذه الأسباب الظاهرة.
فأكد لي قائلًا: «إن هذا الذي تنشده سخيف ولا يجديك نفعًا، فضلًا عن أني لا أكاد أرى شيئًا من الحكمة في سفرك الآن من نيقوبول؛ لأنهم سيستغلون غيابك استغلالًا يفيدهم، ولكني أراك من ناحية أخرى متعبًا إلى حد لا يحتمل، وربما كان الأفضل أن تخرج من هذا البلد بعض حين، فإذا أردت ذلك فسأدبر لك عملًا تكلَّف بالقيام به في مكان ما.»
وهكذا بدأت رحلتي باحثًا عن العدالة بحثًا تحطم له فؤادي، فقد كان لزامًا عليَّ أن أقابل عشرات من الأفراد والهيئات، ولم يكن أحد من هؤلاء يعرف مكان إقامتي.
بدأت بمسقط رأسي في «دنيبروبتروفسك» حيث كان أحد زملائي في الدراسة أمينًا ثانيًا للجنة الإقليمية، ومعنى ذلك أنه رجل له وزنه السياسي وهو «سوشنيكوف»، وكان من بين مرءوسيه زميلان لي أيام معهد الهندسة: أحدهما يُدْعَى «سوفوروف» الذي كان أيام الدراسة فقيرًا إلى حد يستدر الإشفاق، ولطالما أخذته معي إلى دارنا لتطعمه أمي وتصلح له ثيابه المهلهلة، وأما الآخر فهو «بولاسفتش» الذي لم تهيئه الطبيعة للدراسة، فكنت مع غيري من الأصدقاء أجلس معه الساعات لأفهمه ما صعب عليه من الدروس.
كان هؤلاء الثلاثة جميعًا يعملون في بناء الحزب الذي قصدت إليه، يفرغون حكمتهم إلى «السوقة»، إذن فقد يكون من المفيد أن آخذ إقرارات من مثل هذا الثالوث الذي يحتل مثل هذه المكانة العالية، حيث يشهدون لي باستقامة سيرتي في الحزب.
كان «سوشنيكوف» قد سمن وترهل في الفترة التي غبت فيها عنه، وجدته جالسًا إلى مكتب ضخم في حجرة فسيحة مؤثثة بفاخر الأثاث ومفروشة بوثير البسط، وعلق فوق رأسه صورة باسمة للزعيم، ولبث دقيقة كاملة لا يرفع إليَّ عينيه مما كانتا تنظران إليه من أوراق أمامه، وهي علامة معهودة مألوفة لمن أراد من الموظفين أن يثبت أهميته وخطر مكانته، وأخيرًا نظر إليَّ وقال في برود: «أهو أنت يا رفيق كرافتشنكو، ماذا تريدني أن أصنع لكم؟» واستعمل كلمة «لكم» بدل الكلمة المألوفة «لك».
– «منذ متى قد أسقطت من حديثك كلمة «لك» إذ تُحَدِّث زملاءك في المعهد؟ بالله نبئني لماذا تتحدث على هذا النحو كأنك من السادة الأعلين؟»
ارتبك «سوشنيكوف» واعتذر بكثرة العمل وفداحة التبعات، فقررت أن أدخل في الموضوع بغير مقدمات.
قلت: «إنني في إشكال.»
– «هكذا سمعت …»
– «قل لي في صراحة: هل شهدت مني علامة من علامات الإتلاف والتخريب أيام أن كنا معًا في المعهد؟»
– «كلا بالطبع، ما هذا الهراء؟»
– «إذن فأحب أن تقرر لي هذا في إقرار مكتوب للجنة نيقوبول، توقِّعه أنت و«سوفوروف» و«يولاسفتش».
فتلوى في جلسته وعدَّل من أوضاع جسده السمين، ومسح ما تندى به من عرق جديد وحاول أن يغير الموضوع، وأخيرًا دق الجرس يطلب زميليه الآخرين، والظاهر أنهما كذلك قد سمعا عن متاعبي، فكانت تحيتهما لي على شيء من الود لكنها تحية الحذر، الحذر الشديد، فاستمددت من حرجهم لونًا من المتعة المُرَّة، وبعد مداورات طرأت لهم فكرة أخرى وهي أنه لا بد لي من الصعود إلى طبقات أعلى منهم فألجأ إلى معونتها، وأنه ليس مما يليق برجال متواضعين في مثل منزلتهم أن يتدخلوا في أمور عظيمة تمس حياة الأمة وسلامتها.
– «أشكر لكم نصيحتكم، وأعتقد أنكم واثقون مما أنتم عليه الآن من جبن وخسة.» قلت لهم ذلك وخرجت بغير توديع.
ولا شك أن هذا الثالوث قد عرف كيف يصون حياته من الخطر، إذ حدث فيما بعد أن عُيِّنَ «سوشنيكوف» رئيسًا للقسم السياسي في إقليم «إتشليابنسك» وعُيِّن «يولاسفتش» أمين لجنة محلية في أوكرانيا الغربية، كما رقي «سوفوروف» إلى منصب أعلى من منصبه.
وبينما كنت في البهو أبحث عن مكتب الأمين الجديد الرفيق «مارجولين» إذ سمعت اسمي ينادَى.
– «فكتور أندريفتش» أهلًا يا رجل! كيف حالك؟ ما أجمل أن أراك مرة أخرى!»
فدُرْتُ ببصري وإذا المتكلم «إيفان زولكين» الذي زاملته في العمل في مصنع «بتروفسكي-لينين»، فكان مما سرَّني أن ألتقي بزميل من زملاء تلك الأعوام الماضية، حين كان الشباب وكانت بساطة الحياة، وقبل أن أصبح مهندسًا وعاملًا «مسئولًا» ويخيَّل إليَّ أنه اغتبط حقيقة لرؤيتي.
سألني: «كيف دنياك يا فيتيا؟ لماذا أراك شاحب اللون أعجف الوجه؟ هل كانت بك علة أو ما إلى ذلك؟»
فابتسمت قائلًا: «كانت بي علة بمعنى من معانيها، إذ مسني الوباء القومي. تهمة الإتلاف وما إليها.»
– «أواه يا عزيزى «فيتيا» ما أبشع ما تقول! يا له من موقف تشمئز منه النفوس! على كل حال، مع السلامة، فلا بد لي من الإسراع لأني على موعد، فأرجوك قبول المعذرة.»
واندفع مسرعًا حتى غاب عني، ولقد حدث لي أن التقيت به بعد ثلاثة أعوام كاملة في الكرملن، فلم أدهش لذلك لأن هذا اللقاء القصير في البهو في «دنيبروبتروفسك» لم يدع لي مجالًا للشك في أن «إيفان زولكين» سيشق طريقه بعيدًا في بلادنا المباركة، وآخر ما عرفته عنه هو أنه رئيس قسم هام في اللجنة المركزية العليا للحزب، ولعله لا زال يتولى هذا المنصب حتى اليوم.
كان الحراس في حللهم الرسمية وغير الرسمية يحرسون غرفة الاستقبال العظيمة التي يشغلها الأمين «مارجولين»، وكان هؤلاء الحراس يرقبون الناس في جيئتهم وذهابهم، ولقد سألوني قبل الدخول هل أحمل معي سلاحًا، وأخذوا يصعِّدون أبصارهم المدربة ويصوِّبونها ليروا هل في جسدي انبعاج يدل على شيء خبيء يدعو إلى الريبة. إن الموظفين السوفيت تقوم عليهم حراسة قوية — على الأقل قبل أن يُلْقَى عليهم القبض — فقتل هؤلاء الموظفين السوفيت احتكار للقسم السياسي، وهو احتكار لا يقبل فيه رجال هذا القسم منافسًا.
وبينما كنت جالسًا أنتظر في غرفة كانت فيما مضى غرفة الانتظار للقاء «هاتايفتش» تذكرت أن «هاتايفتش» كان هو الآخر محروسًا بهذه العناية الكبيرة لما رأيته آخر مرة في اجتماع الحزب في «نيقوبول» فأين هو الآن؟ إني أعلم أنه حينئذٍ كان مقبوضًا عليه، لكن ألا يزال حيًّا يا ترى؟ لقد كنت أعرف الكثرة الغالبة من موظفي مكتبه، لكني لم أرَ واحدًا منهم بين موظفي المكتب الآن، فلا شك أنهم عانوا ما عاناه رئيسهم من قضاء.
لم أكن أعلم شيئًا قط عمن خلف «هاتايفتش» في منصبه، ولم أكن قد رأيته قط من قبل، ومهما يكن من أمر فقد هيَّأت أعصابي لصدٍّ جديد بعد الذي لقيته من صدود، ولشد ما دهشت حين وجدت «مارجولين» يلقاني لقاء إنسان لإنسان، ولم يكفِه أن يحسن الإصغاء إلى حديثي حتى نهايته، بل زاد على ذلك أن عبر لي عن عطفه صريحًا.
قلت راجيًا: «أريد معونتك يا رفيقي «مارجولين»، لماذا يعيدون النظر في قضيتي لا لسبب سوى أن «فيلين» قد أُلْقِيَ عليه القبض؟ ما علاقتي به؟ لقد بُرِّئْتُ أول مرة على أساس من وثائق.»
فأجابني «مارجولين» في صوت خفيض: «اصبر يا رفيقي، فما يحدث لك إذا ما فكرت فيه وجدته هيِّنًا، فنحن في مرحلة انتقال دقيقة من مراحل الثورة، وواجبنا أن نساعد الحزب لا أن نتوجَّه إليه بالنقد، ومع ذلك فسأرسل تعليمات خاصة بقضيتك للجنة المحلية.»
– «أشكرك، وسأحفظ لك الجميل إذا ما كنت عند وعدك.»
– «لا تشكرني يا رفيقي، فليس يعلم أحد منا أين يكون غدًا.»
قال العبارة الأخيرة في ملاطفة تنمُّ عن سخرية بالحوادث، لكني نظرت إلى عينيه ولم أجد فيهما أثرًا من آثار الفكاهة، ولما عدت إلى «نيقوبول» وجدت أن «مارجولين» كان عند وعده وأنه أرسل رسالة يوصي بها أن يراعى في شأني العدل والإنصاف، لكني ما كدت أصل إلى «نيقوبول» حتى كان قد قُبِضَ عليه، وإذن فتدخله في قضيتي سيكون عقبة في سبيلي أمدًا طويلًا، وسيتخذونه «برهانًا» آخر خطيرًا على اتصالي الوثيق بأعداء الشعب!
فجعلت «خاركوف» مرحلة ثانية في سبيل بحثي عن العدالة، واعتمدت اعتمادًا كبيرًا على معونة «إيفانتشنكو» إذ كان أحد النفر القليل البارز الذي يتولى قيادة الصناعة في البلاد، وقد كان على قسوته وشدته وعدم تهاونه في المطالبة بجودة العمل وفي معاقبة الجهل والتراخي، رجلًا مرهف الحس طيب القلب، وكنت أعرف فيه هذا الجانب، كما كنت أعرف أنه لن يتردد في مؤازرة مرءوسيه إذا ما كان الحق إلى جانبهم.
لكنني حين ذهبت إلى رياسة صناعة الأنابيب وجدت روح الفزع سائدة، وكان «إيفانتشنكو» قد دُعِيَ إلى موسكو في شأن عمل رسمي فيما زعموا، و«إيفانتشنكو» هذا هو بطل من أبطال الثورة، ظفر بكل ما يستطيع الكرملن أن يهبه للناس من أوسمة وأنواط، ولبث عاملًا في الحكومة أعوامًا طوالًا، فلما وصل إلى موسكو، رأى في استقباله شرذمة من رجال القسم السياسي خطفته خطفًا إلى السجن، وإنما جعلوا قبضه في موسكو؛ لأنه كان مرموقًا من أهل «نيقوبول» بأعين الاحترام الزائد، وفي نفس الوقت الذي أمسكوا به فيه، قُبِضَ على زملائه الرئيسيين في المكتب الرئيسي لصناعة الأنابيب: «شبتلي» و«ستربتوف» و«سيرنج» وغيرهم، وكلهم من غير رجال الحزب.
لم أجد من الصحبة التي أستطيع معها الكلام إلا عددًا قليلًا، أما معظم المناصب فقد احتلها ناس جدد تلمح الخوف في نظراتهم، ومع ذلك فقد قصصت قصتي على مهندس عطوف، أنصت إليَّ ثم هز رأسه مؤنبًا: «اسمع يا «كرافتشنكو»، إنك تظن أنك في عناء! فهل جاءك نبأ الذي جرى ﻟ «قنسطنطين تشبلي» أو لصاحبنا الكهل «سبرنج»؟»
كان «تشبلي» و«سبرنج» مهندسَين ممتازَين، ولقد قرأت مؤلفاتهما ودرستها، وكان اسماهما محاطَين بالسحر في مسامع رجال الصناعة الناشئين من السوفيت، وها أنا ذا قد علمت أنباء القبض عليهما، كيف انتُزِعَا انتزاعًا من مخدعيهما، وكيف أساء إليهما رجال الشرطة في وقاحتهم، وقذفوا بهما قذفًا بين حمولة بشرية حملتها العربات إلى السجون، فغادرت رياسة صناعة الأنابيب كما يخرج الإنسان من فناء المقبرة … مقبرة لا تزال بعض الجثث تتحرك في أرجائها زاعمة لنفسها الحياة.
ولما كنت في طريقي إلى رياسة اللجنة الإقليمية، مررت ببناء كأنه الخلية يموج بالطلاب الذين اتخذوه مسكنًا، والذي كنت فيه ذات يوم شخصية يشار إليها بالبنان، فقررت أن أمرَّ بداخله مرورًا عابرًا، فجست خلال قيعانه ونظرت إلى الغرفة التي سكنت فيها أيام الطلب، فلم أجد من النظافة والنظام اللذين كنت أعمل عليهما وأجاهد في سبيلهما إلا قليلًا. كان المكان لا يزال على عهدي به منذ سبع سنوات، يموج بالطلاب الذين لا يختلفون كثيرًا عما كانوا عليه في أيامنا، لم يحسن غذاؤهم وكساؤهم، لكنهم كانوا مع ذلك — بنين وبنات — مشغوفين بالعمل تلمع أعينهم ببريق الإيمان والطموح.
وذكرت «جوليا» لأول مرة منذ أعوام طوال، «جوليا» الفاتنة الذكية التي كانت فيما مضى حبيبة فؤادي، أين هي الآن؟ أهي حية بين الأحياء؟ أهي تذكر من حين إلى حين ذلك الشاب الشيوعي الذي عرفته في مسكن الطلاب؟
ولما اقتربت من رياسة اللجنة الإقليمية سمعت صوتًا أَلِفْتُ رنينه.
– «فيتيا! فيتيا! قف يا رجل، إلى أين أنت ذاهب؟» وكان المتحدث هو «سينيا فولجن»، «سينيا» بعينه الذي أخذ منذ أعوام كثيرة مضت، يجادل أبي بعد زيارة «راكفسكي» للمصنع، والذي كان يشاركني في تحرير جريدة المصنع، والذي وجهت إليه اللوم مرة في الجريدة لإقامته حفلًا للشراب في أماكن السكن.
– ««سينيا»! ما أشد غبطتي أن أراك بعد هذا الزمن الطويل!»
فألقى ذراعَيه حول عنقي وقال: «إني لشديد الغبطة يا فيتيا، يا صديقي العزيز، دعني أقبِّلك!»
– «حذارِ يا «سينيا» فقد تأسف على هذه القبلة، فأنا الآن ذو عَدْوى، إذ سارت أموري في طريق المتاعب …»
– «ماذا تقول يا أخي؟! لا بد أن تقص عليَّ قصتك بكل تفصيل، فلست من هؤلاء الذين يفزعون فيهربون، اسمع! أتذكر ماذا كان يسميني أبوك؟ «كتكوت الربيع» الذي لا يستطيع أن يعلِّم دجاجة عجوزًا مثله كيف تجري السياسة! ووالله لقد أصاب!»
جلسنا على دكة في متنزه كان يسمى «متنزه بوستشف» حتى أسابيع قليلة مضت، أما الآن ﻓ «بوستشف» مقبوض عليه؛ ولهذا بات المتنزه بغير اسم. كان «سينيا» مرتديًا حلة عسكرية، وفي يده حقيبة أوراق يدل منظرها على ارتفاع قدر صاحبها، وقد كان «سينيا» عندئذٍ قد شاب في عارضيه، ولم تكن الطُّهم الرسمية لتلائمه؛ إذ لم يزل ضئيلًا ساذجًا متواضعًا.
أخذ كل منا يصور ما حدث له خلال الأعوام التي انقضت مذ كنا معًا آخر مرة، ولقد علمت أن «سينيا» كان يشغل عندئذٍ منصبًا رفيعًا في اللجنة الإقليمية.
– «نعم يا «فيتيا»، إنك تجالس الآن زعيمًا شعبيًّا ممتازًا … إنك تجالس رجلًا يناصر ستالين بكل قلبه، هلا رأيت الذبائح عالقة في دكان جزار؟ وهلا رأيت على أفخاذها بصمات بهذه العبارة: «مفحوص وقابل للأكل»؟ هذا هو أنا يا «فيتيا»، فأنا مفحوص وقابل للأكل، أما هل يأتي الآكلون بالفعل، ومتى يأتون، فلست أدري.»
فقلت له: «ليس هذا وقت النكات يا «سينيا» لكنه وقت البكاء.»
– «لقد بكيت أكثر من نصيبي في البكاء حتى لم تعد في مقلتيَّ دموع، فهذا صديق آخر قد لقي قضاءه، ثم هذا ثالث يتلوه … ثم هذا دوري آتٍ بعد حين قليل … ليس لي ما أزهى به عليك، إلا أن لي ملاذًا للعزاء أركن إليه واثقًا، وذلك هو زجاجات الشراب، نعم هذا حق، فقد أمعنت في الشراب حتى أسرفت، لكن صدقني إن قلت لك: إنني أشفق عليكم أيها الممتنعون عن شراب الخمر في هذه الأيام السود.»
وأخذنا معًا نتذاكر معارفنا ونقارن ما يعلمه عنهم وما أعلم، فوجدنا أن كثرتهم الغالبة مقبوض عليها.
– «وماذا نحن صانعون يا «فيتيا»؟ أنبكي؟ كلا، فلا خير في بكاء، تذكر الأغنية القائلة: «إن ما مضى فات ولن يعود، كما انقضى الصيف لغير رجعة»؟ أتذكر «جريشا» ذا الشعر الأحمر إذ كان ينشدنا هذه الأغنية؟ كان يغسل ثيابه التحتية بنفسه في النزل، فماذا يصنع إلى أن تجفَّ سوى أن يغني إذ هو يرقب جفافها؟ كان يلبس معطفًا ويجلس على مقعد وطيء وينقر على قيثارته ويغني، لقد أُلْقِيَ القبض على «جيشا» هذا المسكين منذ أسابيع قلائل، وأما أنت وأما أنا فلا نزال في مرحلة الانتظار، فليكن لدينا من سلامة العقل ما يتيح لنا الغناء.»
وافترقنا بعد أن تعاهدنا تعاهدًا مخلصًا على عودة اللقاء بعد حين قريب، لكن هذا اللقاء قد استحال إذ أمسك رجال القسم السياسي ﺑ «سينيا» بعد ذلك بنحو شهرين، ولقد أنبأتني أسرته أنه كان غارقًا في سكره حين جاءته الشرطة السياسية لتقبض عليه، وكان يغني بأعلى صوته في جوف الليل، فأردت أن أعلم أية أغنية كان يغني إذ ذاك، فكان جوابهم أنها أغنية قديمة محببة إليه وهي: «إن ما مضى فات ولن يعود …»
لم يكن القطار إلى موسكو ليقوم قبل ساعة متأخرة من ذلك المساء، وكنت قد اشتريت التذاكر، فعنَّ لي أن أبحث عن «إلينا» لأرى هل ما زالت تسكن المدينة، فتلفنت دارها، وأجابت هي بنفسها، وأعجب ما عجبتُ له أن صوتها لم يحركني كما توقعت له أن يفعل، فالظاهر أن آلامي وما يجيش في صدري من يأس قد قضى على المشاعر الرقيقة من نفسي، فسألت نفسي جزعًا على نفسي: أيكون هؤلاء الأوغاد قد أتوا على كل ما كان يعمر قلبك من مشاعر قديمة؟ أيكونون قد محوا فيك ذلك الخيط الرفيع من أحلام الخيال وقد كان جزءًا من فطرتك؟
قابلتني «إلينا» في فندق، فوجدتها لم تزل على جمالها ورشاقتها المتناغمة العجيبة التي كانت تنفذ إلى قلبي كأنها السكين الماضية، لكن ترقيم السنين قد بدا عليها، وظهرت في عينيها أمارات الحزن أعمق مما عهدتها في أي وقت مضى، وأنبأتني أن زوجها قد قُبِضَ عليه وأُرْسِلَ إلى معسكر اعتقال للمرة الثانية، وأنها تسكن مع أمها، وتشغل منصبًا متواضعًا في مكتب للهندسة المعمارية، فلم أسألها هل لا تزال تابعة للقسم السياسي.
وتنهدت قائلة: «آه يا «فيتيا»، لقد ساءت أموري ولم تسر بي الأيام إلى ما هو أحسن، وإني لأعلم ما أنت فيه من متاعب، فلعلك لا تدري أنني حيثما ذهبت إلى «دنيبروبتروفسك» — وذلك لا يحدث إلا نادرًا — حاولت أن أرى أصدقاءك وأصدقائي، فلقد نسيتني ولكنهم لم ينسوني، فما أعجب أن ترى ناسًا يقيمون على سلامة نفوسهم فلا يصيبها دنس في هذه السنين السود التي نعانيها، حقًّا إنها لمعجزة.»
ولما جاءت تودعني على محطة السكة الحديدية تواعدنا على عودة اللقاء، لكننا كنا على يقين أن مثل هذا الوعد لا سبيل إلى الوفاء به.
ما قضيت حينًا في موسكو حتى أحببتها، وليست هي بالمدينة الجميلة أو الرشيقة، فهي لا تزال «أكبر قرية في الروسيا» على الرغم مما استجدَّ بها من «ناطحات السحاب» وما اتسع من شوارعها، ويخيَّل إليَّ أن نهر موسكوفا الذي يتثنى مجراه خلال المدينة قد فرض ما فيه من صفة التثني على المدينة بأسرها بكل ما فيها من حارات ضيقة ملتوية، وميادين عليها طابع الريف، وما يفاجئك بها حينًا بعد حين من لمحات بيزنطية، كلا، ليست موسكو بالمدينة الجميلة في مرأى العين، لكن جمالها يتبدى للروسي من خلال قلبه.
إن ما مس قلبي وما يمس قلب الروسي كائنًا من كان إذ هو في موسكو هو هذا الذي تراه باديًا فيها من أدلة عجيبة على قِدَمها واستمرار وجودها، لقد كانت قائمة قبل أسرة رومانوف، ولبثت قائمة بعد زوال تلك الأسرة، وكانت قائمة قبل الشيوعيين، وستظل قائمة بعدهم أمدًا طويلًا بالغ الطول، فإن لها لخصيصة يعز منالها على السياسة بل يعز منالها على ما يضعونه لها من تمدن حديث، ولست أدري كيف تتضاءل من الإنسان همومه الشخصية وتصغر أحزانه حتى لتكاد تمحى، إذا ما ألفى نفسه بين جنبات هذه المدينة الخالدة.
لم أشأ أن أسجِّل اسمي في فندق من فنادقها، فذلك أشد ما يكون شبهًا بوضع نفسي في إناء من آنية السمك على رف رخامي في غرفة القسم السياسي، وآثرت أن أطلب إلى رفيقي «ميشا» وزوجته أن يستضيفاني في دارهما بضعة أيام.
كان «ميشا» من رجال الثورة القدامى المعروفين، وكان عمله عندئذٍ متصلًا بجمعية تعنى بالمسجونين السياسيين في العهد القيصري القديم، ولقد هيَّأت له الحكومة مسكنًا مريحًا وأجرت عليه راتبًا يكفيه هو وزوجته في شيخوختهما، وكان قد حارب في الحصون مع أبي جنبًا إلى جنب، وقضى في سجن «إسكندروفسك» أكثر من عشر سنوات مغلولًا بالأصفاد حتى جاءته الثورة ففكت عنه أغلاله، ولطالما عاملني هو وزوجته معاملة الوالدَين، واغتبطا أشد الغبطة لضيافتي، ولو أن شحوبي وهزالي الباديين قد أثارا في نفسَيهما الفزع.
– «وكيف حال صديقي «أندراي»؟ ألا يزال يسعى كعهدي به؟»
– «نعم، إن أبي بصحة جيدة، تراه ناقمًا على الحياة وأوضاعها كما كان دائمًا.»
– «إن جيلنا هذا جيل طويل العمر، ليتني أراه من جديد لنتذاكر العهد الذي مضى.»
ولما كان على مائدة العشاء أخذت أنبئه بما جاء بي إلى موسكو، ولم أُخْفِ عنه شيئًا، فالرفيق «ميشا» قد عرف «لينين» و«بخارين» وغيرهما من عمالقة الثورة معرفة شخصية، وكان لا ينادي زعماء العصر الحاضر من ستالين فنازلًا إلا بأسمائهم الخاصة دليل ارتفاع الكلفة، وكثيرًا ما كان يلتقي بأرملة «لينين»: «كروبسكايا»، وهكذا كان السادة الجدد يعاملونه كما يعاملون فردًا منهم، على الأقل كان ذلك قبل التطهير الأعظم.
فلما قصصت قصتي، وبخاصة ما يتعلق منها بالتهم الموجهة إلى أبي، أخذ الغضب في صدر زميله الذي حارب معه في الحصون، وأعني «ميشا» الذي تقدمت به السنون، أخذ الغضب في صدره يزداد شيئًا فشيئًا، فدفع كرسيه إلى الوراء ساخطًا، وخطا خطوة فسيحة صوب حجيرة هناك وجذب منها سلسلة ثقيلة صدئة، ورفعها وهي تجلجل بحلقاتها، رفعها بيديه فوق رأسه الأشيب وأخذ يهزها في غضب أفلت منه زمامه.
ثم صاح قائلًا: «لقد كُبِّلت بهذه الأغلال عشر سنين لأني آمنت بالحق والعدل ورجوت للناس حياة أسعد! وها هم أولاء الأوغاد — الذين يسمون أنفسهم رجال الثورة — يعذبون أبناءنا! لعنة الله عليهم! لعنة الله على هؤلاء القساة الذين يثخنون بلادنا الروسيا بالجراح.»
كان «ميشا» طويلًا نحيلًا عليلًا، ألا ما كان أفظع منظره وهو واقف هناك رافعًا بيديه أغلاله الصدئة، حتى لقد تعاونتُ مع زوجته على تهدئة نفسه.
ثم قلت له بعدئذٍ: «الذي لا أفهمه يا رفيقي «ميشا» هو لماذا يلزمهم كل هذا الإرهاب؟ يستحيل أن نكون جميعًا جواسيس ومتلافين، أتكون البلاد كلها من جواسيس ومتلافين؟ أتكون كل البلاد على هذا النحو إلا أعضاء الهيئة السياسية العليا؟»
– «كلام فارغ، ليس لك أن تستثني أحدًا، فكثير من أعضاء الهيئة السياسية العليا قد قُبِضَ عليهم، وفُصِلَ أكثر من ثلاثة أرباع أعضاء اللجنة المركزية العليا، فلقد أُلْقِيَ القبض على «كوسيور» و«زوروتاك» و«شوبار» و«بوستشف»، وقُضِيَ على كثيرين ممن كانوا على اتصال وثيق بالهيئة السياسية العليا: «أنتيبوف» و«مزلاوك» و«بوبنوف» وكثير جدًّا غير هؤلاء، وكذلك لحق هذا القضاء ﺑ «ياكوفلف» و«ستستكي» وغيرهما من خيرة أعضاء اللجنة المركزية، فالمذبحة تريق من دماء الطبقة العالية بمقدار ما تريقه من دماء الطبقات السفلى.
إن ستالين وعصبته يريدون حزبًا لا رأي له، فهو يريد لجنة مركزية تطيع الأوامر طاعة عمياء، كما يريد هيئة سياسية عليا تتفق معه في الرأي دائمًا، وهو مستطيع أن يجد ما يريد، فهو يعالج الأمر على النحو الذي كان يعالجه به بطرس الأكبر، أعني بجذ الرءوس.»
وجلسنا فترة المساء نتبادل الرأي فيمن عسانا نلجأ إليه ليتدخل في صالحي، بالطبع لا ينبغي أن نلجأ إلى «كروبسكايا»؛ لأنها لم تنجُ من القبض إلا لأنها أرملة «لينين»، وكرهها لستالين وأساليبه معروف للجميع، بحيث إذا قالت لأحد كلمة طيبة، كان عليه الوبال جزاءً وفاقًا لما سمع، وكذلك كان بعض أصدقاء «ميشا» الحميمين في مواقف لا يُرْكَن إليها لقلقلتها، ثم ما هو إلا أن هبط عليه شيء كأنه الوحي.
فقد صاح قائلًا: «يارسلافسكي! نعم فإذا لم يكن أميليان قد لحقه الفساد فسيصغي إلى شكاتنا.»
كان «يارسلافسكي» هذا أحد البلاشفة القدامى الذين ما زالوا ذوي نفوذ — وهم قلائل — وكان يعد الفقيه الرسمي للحزب، وينظر إليه ستالين نظرته إلى قسيس رفيع المكانة، وكان رئيسًا لجمعية الملحدين، وله مقالات عميقة يشرح بها ويبرر الغضبات التي يثور بها ستالين كلما غضب؛ ولذلك لم أكن كبير الرجاء في اتجاهنا إليه، لكن الرفيق «ميشا» كان يتكلم بلهجة المتفائل الذي يرجو من وراء ذلك شيئًا عظيمًا، ألم يكن على صلة الصداقة بيارسلافسكي أعوامًا طوالًا؟ ألم يقاتلا القيصر جنبًا إلى جنب؟ ثم ألم يُزَجَّ بهما معًا في سجن واحد؟
وعلى ذلك تلفن إليه في الصباح الرفيق «ميشا» وحدد معه موعدًا للقاء، وذلك في ذاته يعتبر نتيجة باهرة، فلما ذهبنا إلى مقر اللجنة المركزية كانت جوازات المرور تنتظرنا على الأبواب، ودخلنا فوجدت «يارسلافسكي» مرتديًا قميصًا روسيًّا، واستقبل الرفيق «ميشا» معانقًا ومقبلًا، وصافحني مصافحة ودية، لهذا تحرك في نفسي الأمل لحظة، فها هنا رجل صديق من الطابع القديم، ها هنا رجل من جيل أبي الذي استمسك رجاله بالمثل العليا.
لكن الرفيق «ميشا» لم يكد يفصح له عن الغاية من زيارتنا، حتى علت علائم الفزع وجه «يارسلافسكي» وجمدت هناك، وأخذ يعَض بأسنانه شعرات شاربيه المتفرقات اللائي قد اصطبغن بصبغة التبغ، مدفوعًا إلى ذلك بقلق عصبي أخذ يزداد معه شيئًا فشيئًا.
واختتم الرفيق «ميشا» حديثه قائلًا: «هذه هي قضيتنا كاملة يا «أميليان»، فإذا مددت لنا يد المعونة أحببتك حبي لأخي الشقيق، أما إذا أحجمت عن المعونة فسأعلم أنك يا «أميليان» — حتى أنت — قد نال منك الفساد …»
فأجابه «يارسلافسكي» في صوت أصحاب المناصب الرسمية: «اسمح لي يا ميشا أن أقول: إنك إذا جئت إليَّ كما يجيء صديق إلى صديق فهذا شيء، أما إذا جئتني باعتباري زعيمًا مسئولًا عن قيادة الحزب فذلك شيء آخر يختلف عن ذاك، إن واجبي هو حماية الحزب وزعيمه من الأعداء، فليس ثمة من سبيل إلى صداقة أو مراعاة للخواطر، إننا لا نستطيع أن نمسك بزمام الأمر لو ضعفنا، هل تفهم ما أقول؟»
– «نعم أفهمه، ولكن فيمَ هذه الخطابة كلها؟ لست أنا في اجتماع شعبي انعقد بين يديك، ولا أنا ساذج غر، أنا أسألك سؤالًا أريد عنه جوابًا صريحًا، أأنت معيننا فيما جئنا من أجله أم لستَ بالمعين؟»
– «لا يأخذنك اضطراب يا صديقي العزيز، هل لك يا رفيقي «كرافتشنكو» في تركنا لحظة لأستطيع الكلام في حرية أكثر؟»
فصاح الرفيق «ميشا» قائلًا: «لا، لا، بل يبقى معنا يا «أميليان» فلن أفسح صدري لشيء من أسراركم ودسائسكم التي ابتدعتموها حديثًا، أنحن رفقاء أم لسنا كذلك؟»
فهز «يارسلافسكي» كتفيه قائلًا: «إذن فافعل ما بدا لك.»
وخرجنا من مكتبه برأسين مطأطئين وقلبين كسيرين، وغشيت عينا الرفيق «ميشا» بالدموع حتى لقد اضطر أن يمسك بإحدى ذراعيَّ لأهديه الطريق.
– «وإذن فحتى «أميليان» قد مات، وإنما أردت «أميليان» الصريح الجريء الذي كان ذات يوم رفيقي، إني أعوذ بالله يا «فيتيا»، لشد ما يسرني أنني شيخ كهل فلن يكون لي من أعوامي أمد طويل أرى فيه كثيرًا من هذه البشاعة.»
ولقد أبدى «يارسلافسكي» علامة واحدة من علامات الصداقة، وتلك أنه أمدني بأسماء طائفة من كبار موظفي اللجنة المركزية وأرقام تليفوناتهم، كما أذن لي أن أستغل اسمه لأظفر بالدخول إليهم، فأنفقت الأيام القليلة التالية في مقابلة هؤلاء الناس، وقد استنتجت من الطريقة الرسمية التي قابلوني بها — فقد قابلوني جميعًا مقابلة ودية باسمة لكنها مقابلة رسمية صارمة — استنتجت أن «يارسلافسكي» لا بد أن يكون قد اتصل بهم وأوصاهم أن يحسنوا لقائي دون أن يعملوا في أمري شيئًا، فحتى هؤلاء الرجال الذين كانوا أشد ما يكون الناس صلة بستالين، لم يكن في مستطاعهم — فيما يظهر — أن يقدموا «للمتلاف» معونة أو طمأنينة.
وراجعت قائمة العنوانات التي كانت معي لمن أعرفهم بموسكو، أيكون بين هؤلاء شخص يجب أن ألجأ إليه؟ وقرأت الأسماء وأخذت أستبعد كثيرًا منها، فهذا مات، وهذا انتحر، وهؤلاء الآخرون في السجن، وأخيرًا انتهيت إلى اسم وقفت عنده وقفة قصيرة.
قلت لنفسي: «لازارف! سأذهب للقائه، فهو الرجل الذي قد يعدُّ من العوامل التي دفعتني في طريق حياتي التي انتهت بي إلى هذه الخاتمة المغلقة، ألم يكن هو الذي شجعني — حين كنت لا أزال عاملًا بمناجم الفحم في حوض الدونتز — على الالتحاق بهيئات الشباب الشيوعي؟»
دققت جرس بابه فجاء يفتح الباب امرأتان عجوزان، فما سألتهما عن «لازارف» حتى حدَّجا نظراتهما فيَّ جازعتين، وطفقت إحداهما تبكي.
– «لقد مات ولدي المسكين … مات منذ عام تقريبًا … ألم يبلغك ذلك؟ قالوا عنه: إنه عدو الشعب، هؤلاء الكفرة، هؤلاء الفجار.»
وهكذا عرفتُ أن أول مَن أدخلني في الحركة الشيوعية قد حُشِرَ هو أيضًا في زمرة الخوارج، فلعله كان بذلك يدفع ثمن ظهور جانب منه في صورة تولستوي التي رُسِمها جنبًا إلى جنب مع «لينين» و«كارل ماركس».
ولما أنهكني ما صادفته في تلك الأيام من الأسى وخيبة الأمل، وجدتني مضطرًّا إلى زيارة أسرة «أ»، وكنت دائما أثق في «زوجة أ» وأركن إليها هي وابنتها الفاتنة «تانيا» في قضاء ساعة أو ساعتين تبعثان السرور في نفسي، وذلك أنهما على الرغم مما أصابهما من مآسٍ كثيرة قد لبثتا محتفظتين بقليل من متعة الحياة الطبيعية بالنسبة إليهما، فالرفيق «أ» كان قد فر مع زوجته وابن صغير إلى أمريكا بعد ١٩٠٥م لينجو من الشرطة القيصرية، فوُلِدَ لهما أبناء آخرون في الولايات المتحدة، إذ أنجبا ولدًا وابنتين نشئوا كما ينشأ صغار الأمريكيين.
ثم عادت الأسرة إلى الروسيا بعد الثورة، ورحب بها «لينين» نفسه، وقام «أ» بدور هام في الحروب الأهلية، وبينما كان يقود كتيبة من المواطنين الحمر في وجه البيض واليابانيين في الشرق الأقصى، وقع أسيرًا في أيدي الأعداء، وقُطِّعَ جسده إربًا إربًا وأُلْقِيَ به في النار على مرأًى من الأسرى جميعًا، فلما وضعت الحرب الأهلية أوزارها انتقلت الأسرة الكسيرة إلى موسكو، حيث خصص لها «لينين» مسكنًا وأجرى عليها راتبًا اعترافًا منه بخدمات «أ» التي شهدت ببطولته، وتخرج ابنهم الأكبر مهندسًا، وعن طريقه عرفت العائلة، لكنه منذ أعوام مضت أرسِلَ إلى معسكر اعتقال، وبقي الجانب النسائي من الأسرة وحده.
فقصدتُ دارهم خالي الذهن، وكانت دارًا على جدرانها آثار البلى، فوجدت بابها مغلقًا ومختومًا بالشمع، واستطعت أن أتبين على الختم هذه الأحرف المخيفة التي تدل على القسم السياسي، وعندئذٍ أطلت جارة برأسها لترى مَن الزائر؟
– «أواه أيها الشاب، كان الله في عوننا، إن مواطنتي «أ» هي وابنتها قد ألُقِيَ عليهما القبض وأُرْسِلَتا إلى المنفى!»
وأسرعت إلى إغلاق بابها خشية أن تكون قد أفرطت معي في الحديث، فتركتُ مكان الدار وأنا أرتجف ارتجافًا، فما سرت بضع خطوات حتى تبينت أن متعقبًا يقتفيني، فنظرت نظرة إلى حذائه عرفت منها في يقين أنه من رجال الشرطة السياسية على الرغم من المعطف المدني الذي كان يرتديه، وإذن فالقطرة الواحدة التي بقيت لي بحيث تُتْرع كأس أحزاني، هي أن يُرفع عني تقرير بأني جئت لزيارة أسرة قضت الحكومة في أمرها!
ولحسن حظي مرت بي في تلك اللحظة سيارة خربة من سيارات الأجرة، فوثبت فيها ورجوت السائق أن يسرع بي إلى محطة السكة الحديدية زاعمًا أني تأخرت عن موعد القطار، فلما بلغنا المحطة دفعت له أجره واستأجرت عربة أخرى نقلتني إلى مكان يبعد عن بيت الرفيق «ميشا» بضع مبانٍ، فلما أنبأت مضيفيَّ الشفوقين نبأ الحادثة، طار عن عمي «ميشا» صوابه من جديد.
فصاح قائلًا وهو يذرع الغرفة من قلق: «يا لهؤلاء الأوغاد! لسنا أحسن حالًا من عصر القيصر، لا بل لقد ساءت حالنا عن عهد القيصر، ساءت حالنا ألف مرة عما كانت عليه إذ ذاك، فقد كان لنا في تلك الأيام الحق في المحاكمات واستخدام المحامين والدفاع عن أنفسنا في سبيل النجاة، وإذا ما أحاطت بنا في عهد القيصر مشكلات سياسية لم يجد أصدقاؤنا في أنفسهم دافعًا لاجتنابنا، بل الأمر على عكس ذلك، فقد كان أصدقاؤنا يزوروننا ويملئون الدنيا صياحًا من أجلنا، وكان الناس يجتمعون للاحتجاج، وتُرْفَع الاستئنافات للحكومة وللصحف، وتُلْقَى الخطب في مجلس «الدوما»، أما الآن فلن تجد أنَّى سرتَ إلا صمتًا فظيعًا وخوفًا وجبنًا.
وأمر آخر يا «فيتيا»، كان العالم كله فيما يخيل إليَّ في صفنا عندئذٍ، كان أنصار الديمقراطية والحرية في إنجلترا وفرنسا وأمريكا يهاجمون بأقوالهم الطغيان، وكانوا بذلك يبعثون في نفوسنا شيئًا من الطمأنينة المعنوية، أما اليوم فقد سُدَّت دوننا الأبواب كأننا في السجن، إن العالم الخارجي — فيما يظهر — لا يعرف ماذا يجري ها هنا، إن نفس الأشخاص الذين كنا نتوقع أن يكونوا في جانبنا، غالبًا ما تراهم يناصرون جانب الطغاة القساة، ويشاء القدر الساخر يا ولدي أن يسمي هؤلاء الأشخاص أنفسهم أصدقاء الاتحاد السوفيتي.»
فقلت: «لو أطلق هؤلاء الحمقى على أنفسهم اسم أنصار الاستبداد لكان ذلك أدنى إلى الصواب.»
– «إني لأصادف أحيانًا يا «فيتيا» صحفًا فرنسية وإنجليزية في مكتبتنا الخاصة، وبالطبع هم لا يبيحون الدخول إلا لما يريدون له الدخول من تلك الصحف، فهل تصدق أن هذه الصحف تتحدث عن «الديمقراطية» و«الحياة الجديدة الرائعة» في الروسيا؟! أنا لا أقول لك هذا بقصد الفكاهة، لقد صادفني مرة كتاب أمريكي عن بلادنا، فقرأت منه صفحات ثم لم أصدق ما تراه عيناي، إن المؤلف المأفون جاء إلى الروسيا لكنه لم يرَ منها شيئًا ولم يفهم عنها شيئًا، فجعل يصف بلادنا التي تدمى من جراحها كأنما يصف فردوسًا على الأرض، هؤلاء الحمقى! هؤلاء المهرجون!»
– «لكن يستحيل أي عمي «ميشا» أن يكون العالم كله جاهلًا حقيقة بهذا الذي يجري في بلادنا، إنه يستحيل أن يكون العالم كله قد جُنَّ جنونه.»
– «نعم، إن ذلك من غير المعقول، لكني إذا فرضت أن في العالم الخارجي شخصًا واحدًا يفهم الحقيقة عنا، فلا بد لي أن أرى الدليل الناهض على صدق هذا الفرض، لقد حدث لي أن ساهمت في لجان كثيرة جدًّا مما كانت تشكله الحكومة لاستقبال الزائرين الأجانب، ومنهم الوفود عن العمال وعن رجال التربية وعن الطلاب، فكان يتضح لي من حماستهم ومن أسئلتهم الساذجة أنهم لا يعرفون شيئًا عن الفظائع التي يعانيها الشعب الروسي، إنهم لا يعرفون شيئًا عن رد الفعل المتمثل فيمن قبضوا على زمام أمرنا، «فيتيا» إن الأمر ليشيع الفزع في الصدور …»
قال ذلك وجلس، ثم أدار وجهه عني وأخذ ينهنه بالبكاء.
وكان آخر ما فعلته في بحثي الفاشل عن العدالة، هو أن قصدت إلى رياسة الصناعة الثقيلة، فوجدت الجو الذي يملأ المكان روحًا من البؤس الذي لا حد له، البؤس الذي لم يحاول أحد قط أن يخفيه، فقد وجدت هناك بعض الأحياء ممن كنت أعرفهم، ولما بثثت لهم متاعبي، أحسست أني أكاد أجاوز حدود اللياقة بذلك؛ لأني أفرض همومي على موظفين لم يخفوا أنهم هم أنفسهم إنما يقفون بين الأحياء على أساس متهافت، نعم أحسست أني أكاد أجاوز حدود اللياقة ببث همومي في مكان يضطرب هواؤه بأشباح من طاح بهم التطهير من كبار الموظفين وصغارهم، ومن الشيوعيين وغير الشيوعيين.
ولقد علمت من الموظفين القلائل الذين ما زالت لهم جرأة التحدث إليَّ، علمت من هؤلاء أكثر مما كنت أعلم عن مدى إغارات القسم السياسي على الصناعة السوفيتية، فقد فُصِلَ «م. بارينوف» ومرءوسوه ومساعدوه، وهو الرجل الذي كان له فضل توسيع مصادر البترول عند السوفيت، وكذلك فُصِلَ «البيروفيش» ومساعده «ستبانوف» وكانا يشرفان على صناعة مناضد الآلات، كما فُصِلَ غيرهما كثيرون جدًّا آخرون، وأودع السجن كل أعوان «أورزنكدز» تقريبًا: مثل «إسكندر جورفيش» و«روخيموفيش» و«بافلنوفسكي»، ولقد كان «جورفيش» رئيس صناعة التعدين كلها في البلاد، وعلمت عنه بعدئذٍ أنه أصيب بالعمى في السجن ومات بين جدرانه، كذلك كان ممن قُبِضَ عليهم «أنطون توكنسكي» الذي يعتبر أحد قادة المهندسين الروس، ولم ينجُ من عاصفة الإرهاب إلا نفر قليل من كبار رجال الإدارة ورؤساء الأقسام ومديري الجماعات الصناعية والمعاهد.
ولكي أنقل للقارئ شيئًا مما يدل على مدى المذبحة، أود أن أثبت قائمة بأسماء نفر قليل ممن أصابهم التطهير، وكانت لي بهم صلات شخصية، فأسماؤهم قد لا تعني شيئًا لرجل يعيش خارج الروسيا، أما نحن الذين نشتغل بالصناعة الروسية، فهذه الأسماء معناها عندنا صفوة العقول الفنية في البلاد.
«أ. بندارنكو» مدير مصنع الآلات بخاركوف، «قنسطنطين بوتنكو» رئيس المجموعة الصناعية في «كوزنتش»، «جانشين» الذي أشرف على صناعة استخراج البترول في الشرق، «جواخاريا» مدير مصنع «ماكايف» في حوض الدونتز، «أوسيبوف شمت» رئيس صناعة المطاط الصناعي، «مخايلوف» مساعد مدير سد «دينبروستروي» المشهور، «س. ماكار» المعروف الذي شيد «ماجنيتستروي»، «س. شوارتز» البلشفي القديم الذي هو في طليعة القائمين على صناعة الألواح الحجرية، «جيجل» مدير اتحاد «آزوف» لصناعة الصلب في «ماريوبول»، «أ. كوسيور» وهو شقيق عضو الهيئة السياسية العليا الذي تناوله التطهير هو المسئول عن صناعة الشرق الأقصى كلها، «م. فلاسوف» رئيس مصنع صهر الحديد في «شليا بنسك»، «ج. كرزمنسكي» رئيس صناعات المنجنيز في «نيقوبول»، «نيقولاي رادين» مدير أحد مصانع «ماريوبول» الكبرى، «فيودر لجيوكو» رئيس مصنع «نزنى-دنيبروفسكي»، «زفاين» مدير مصنع «لزفا» في الأورال، «إيزال رد جوشفسكي» مدير مصنع الصلب في «زاباروش»، «نيقولاي دنسكوف» رئيس مصنع الصهر في «شوسوفايا»، «خازانوف» رئيس صناعة الصهر في الأورال كلها، «تراختر» رئيس صناعات التعدين في «كريفوارُج».
إني أختار هذه الأسماء اختيارًا يكاد يكون جزافًا، وأستطيع أن أمضي في قوائم الأسماء صفحات بعد صفحات من الذاكرة، ولكن الأسماء التي أختارها هي الأسماء اللوامع وحدها.
حدث وأنا في القطار عائد من موسكو، أن التقيت مصادفة بصديقي (يعقوب فسنك) الذي كان عندئذٍ مديرًا لصناعة الصهر في «كريفوارج»، فلم آبه لكلماته بما كانت تستحق من عناية، لكنها رسخت في ذاكرتي لسبب لا أدريه، وأخذت تضخم في رأسي وتزداد مغزى كلما مر الزمن، و«فسنك» هذا كان من كبار رجال الثورة كما كان بنَّاءً له أهميته، وهو بلشفي قديم أبى أن يذعن لأساليب الاستبداد الجديدة، وهو ممن كانوا يحملون على صدورهم أعلى أوسمة الجيش الأحمر، فلما أن نقلوه إلى ميدان الصناعة كان وثيق الصلة «بأورزنكدز» و«مولوتوف» وغيرهما من قادة الكرملن، وكثيرًا ما عُهد إليه تمثيل بلادنا في الخارج في مهام اقتصادية خطيرة.
ولقد اغتبط لهذا اللقاء العابر، وتبين أنه كذلك كان في موسكو ليدفع عن نفسه ما كان يتهدده من قبض عليه، وكانت زوجته الجذابة «يوجينيا» التي امتازت هي الأخرى بما لها من صفات، قد رُسمت صورتها وهي مع ستالين في الكرملن، فكان نشر هذه الصورة — فيما خُيِّل للناس — ضمانًا لحمايتها وحماية زوجها، أما «فسنك» فلم يذهب مع الناس في هذه الأوهام.
قال لي: «إني أتوقع أن يقبضوا عليَّ عند عودتي إلى «كريفوارج»، ولقد وجدت أنا كذلك كما وجدت أنت أن موسكو لن تسعفنا فيما نحن فيه من خطر، بل لعل الخطر كله آتٍ من القمة العليا، فنحن رجال «الحرس القدامى» الذين حاربوا تحت قيادة «لينين» نستهدف لهجماتهم بتهمة الخيانة وغيرها من المؤامرات الدولية التي تصورها لهم أوهامهم، فتراهم لا يتورعون عن تسميتنا بالخونة وبأعداء الشعب، ولا يغيبن عنك أن هذه الاتهامات الباطلة إنْ هي إلا ستار يخفون وراءه شيئًا آخر؛ لأن ستالين والحزب لا يستطيعون أن يواجهوا سواد الناس بالحقيقة، وهي أن ثمة شقاقًا بين صفوف الحزب؛ لأن الناس إن عرفوا ذلك انشقُّوا إلى أحزاب تناصر هذا الفريق أو ذاك، وإن ستالين ليخشى أن تظفر الأغلبية بالنصر عليه.»
هكذا مضينا في الحديث مدة طويلة، ولقد ذكر خلال حديثه رحلاته التي ارتحلها خارج البلاد، ثم نظر إليَّ محدِّجًا وقال: «إذا أتيح لك يومًا يا «فكتور أندريفتش» أن تنبئ العالم الخارجي عن الأهوال التي تشهدها بلادنا، فواجبك أن تفعل، ففي مثل المرحلة التي نجتازها، ليس في وسع روسي يحب أهله وبلاده أن يؤدي خدمة أعظم من هذه، ولا ينبغي أن نقف جهادنا في سبيل تحرر الروسيا، ولن نقفه.»
ولقد تحقق ما توقعه لنفسه من قبض عليه، وكذلك قُبض على زوجته، على الرغم من مجدها القصير الأمد، الذي ظفرت به حين ظفرت برسمها في صورة واحدة مع الزعيم، ولقد جاء اليوم الذي وجدت كلمات صديقتي هذه ترن في أذني رنين النبوءة بما يكنُّه الغيب.
كان المساء قد أمسى حين وصلت «نيقوبول» بعد رحلة فاشلة، وأحسست عندئذٍ بخيبة الرجاء، فلما دنوت من بيتي، عجبت لماذا لا يضيء فيه مصباح، أين «باشا» يا ترى؟ لقد كتبت لها منبئًا بقدومي وكان لا بد أن تكون في انتظاري، وأردت فتح الباب لكني وجدته مقفلًا، فطرقته، وأخذت أزيد في طرقه شدة ولا مجيب، وما هي إلا أن أحسست أصابع الرعب قد امتدت إلى حلقي فشدت عليه.
اختنق صوتي حتى أوشكت أن أعجز عن الإفهام بما أردت حين ذهبت إلى بيت جاري — وقد كان موظفًا في المصنع — ونظر إليَّ هذا الجار حين ذهبت إليه، نظر إليَّ في دهشة كأنه ينظر إلى شبح.
قال هامسًا: «فكتور أندريفتش! أحقًّا هو أنت؟ ألا تزال حيًّا؟ ألم يُقْبَض عليك؟ الحمد لله.»
– «ماذا جرى؟ أين «باشا»؟ لقد كنت في موسكو أقضي عملًا رسميًّا لا أكثر ولا أقل.»
– «ألم يبلغك يا فكتور أندريفتش أنك فُصِلْتَ من منصبك، وطُرِدت من دارك، ولست أدري أين متاعك، فقد جاءت عربة ونقلته …»
فاستأذنته أن أتلفن إلى براتشكو.
قال المدير: «كم يسرني أن أسمع بعودتك يا فكتور.»
– «لكن ماذا جرى يا «بيوتر بتروفتش»؟ لماذا طردت من داري؟»
– «لا يأخذنك الهم واملك زمام نفسك، فقد صدر إليَّ أمر اللجنة المحلية بأن أعفيك من مهام منصبك، فأسندت إليك الإشراف على القسم الفني من المصنع، ولعلك تقدر أني في ذلك غير مختار، وأني إزاء ذلك أشعر في قلبي بحسرة.»
– «أنا أعلم ذلك بالطبع يا «بيوتر بتروفتش»، لكن أين أقضي ليلتي؟»
– «لقد حجزت لك غرفة في فندق المصنع بنيقوبول، وليست هي بالغرفة اللائقة لكنها كل ما استطعت الحصول عليه.»
فعدت إلى المدينة حيث وجدت مدير الفندق في انتظاري، ولقد أبدى نحوي عطفه إذ كان يعلم مدى ما أصابني من تدهور بعد دار فاخرة بما لها من مرأب للسيارة وحديقة؛ لذلك جعل يعتذر لي حين أدخلني في الغرفة، بل في الحجيرة التي تشبه «غرف» السجون الضيقة، والتي كان يغطي جدرانها ورق تقشر في كثير من المواضع.
وقُدِّر لتلك الغرفة أن تكون «داري» بقية إقامتي في «نيقوبول»، ولقد أُلْقِي في أركانها بكتبي وسائر متاعي على غير نظام، وكان في الغرفة — عدا السرير — منضدة صغيرة وخزانة للملابس ومرآة صغيرة وصورة كالحة اللون لستالين عُلِّقَت على الحائط، ولم يكن هناك غرفة للغَسْل بل لم يكن هناك حوض لهذا الغرض.
لكنني كنت متعبًا، أنهكني التعب بحيث لم يعد لديَّ من القوة ما أفكر به أو أشعر، فنمت حتى ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي.