بينما يدوَّن التاريخ
حين أعود بذاكرتي إلى مدة إقامتي في الأورال — بما يتخللها من ذكريات كريهة على نفسي — أجد بينها حادثة برزت بين سائر الحوادث حتى طغت عليها.
وخلاصة القصة أنها خدعة ضللوا بها الرأي العام الروسي، هي خدعة كبرى اشترك في حبكتها صغار الموظفين وكبارهم في موسكو وبرفورالسك على السواء حتى يخدعوا بها الناس، ولقد حبكوها حبكًا محكمًا وركبوا الأكاذيب في بناء واحد متسق على نحو لا يستطيعه إلا خبراء، وذهبوا في هذه البراعة حدًّا مكنهم حتى هذا اليوم من ذكر «النجاح العظيم الذي أصابه مصنع الأنابيب الجديدة» على أنه مثال للمعجزات التي تتم بفضل «الحماسة الاشتراكية».
وبدأت القصة بقدوم كتيبة من أعوان الحزب المتحمسين من موسكو إلى حيث كنا، وهو مكان يقع في مدخل الأورال، ويمتد على مساحة واسعة في غير نظام، جاءت تلك الكتيبة من موسكو مزودة بالتعليمات أن تبث في مصنعنا القائم بخراطة الأنابيب معايير الإنتاج الإستاخانوفية، فقد كنا عندئذٍ ننتج خمسة وثمانين في المائة من ذلك المعيار، وإذن فلا بد لنا — في رأيهم — من دفعة تأتينا من موسكو لعلنا نصعد إلى قمة الإنتاج بحيث ننتج مائة في المائة من ذلك المعيار المثالي أو نزيد عليه، فإذا ما صحَّت العزيمة وجدت سبيل الوصول إلى الغاية المنشودة، وليس لدينا نحن البلاشفة ما يستحيل أداؤه، فالمستحيل يتم مع التعاون، فاعملوا معًا يا رفاق في سبيل زعيمنا ورائدنا.
وقبل أن تغادر هذه الكتيبة الملهبة للحماسة في العمال، قبل أن تغادر موسكو، ذهب أفرادها فقابلوا «لازار كاجانوفتش» بحضور ممثلي الصحف، وجاءوا إلى برفورالسك مسلحين بقوة عظيمة، مزهوين بأنفسهم في جهل تام بمشكلاتنا، وما هو إلا أن تحطم نظام الإنتاج الذي كدحتُ كدحًا حتى هيأتُ أسبابه، فقد جمعت تلك الكتيبة اجتماعات حضرها العمال، والمهندسون الفنيون، وأخذوا يصبُّون في أسماعنا خطبًا طويلة كلها تهريج، وكنت ترى جدران مصانعنا ومكاتبنا كلها، وجدران المطاعم وقاعات الجلوس في أوقات الراحة، مليئة بعبارات حمراء من عبارات الدعاوة، وبغتة سكت الجميع عن الكلام، وطفق الجميع يصيحون.
فهز العمال أكتافهم وأغلقوا نوافذ رءوسهم حتى لا يهوشها ذلك الصياح، أما المهندسون والموظفون الإداريون فقد اكتسحتهم تلك الموجة إلى حد الجنون، لقد هنأونا بالأمس القريب على بلوغنا خمسة وثمانين في المائة من معيار الإنتاج المثالي، ثم جاءت عوامل الضغط الخارجي اليوم تلهبنا لنبلغ مائة في المائة، وبلغ الألم أعماق نفوسنا لهذا العبث، وأخذ المدير «أوسادشي» يطوف أرجاء المكان بوجه عابس.
قال لي وهو يتحسر: «لا بد لنا من عمل جريء يا فكتور أندريفتش، إن الصحف في موسكو تطنطن بهذا التهريج الذي يقومون به ليبلغوا بالإنتاج إلى المعيار الإستاخانوفي، ولا أحسبنا مستطيعين أن نقصر دون ذلك المعيار، إن حياتي — وحياتك أيضًا — مصيرها إلى العدم في حالة التقصير.»
كان «أوسادشي» مثلًا من مديري المصانع الشائع جدًّا في بلادنا، وأعني به ذلك النمط الذي بطبيعة تكوينه العقلي يقدم الجانب السياسي منه على الجانب الهندسي الفني، ويهمه الثناء الرسمي أكثر مما يهمه الإنتاج الحقيقي، إنه يُعْنَى بالأرقام الإنتاجية أكثر مما يعنى بجودة الإنتاج، فقد كان يعوض نقصه في المعرفة الفنية «باتصالاته الهامة» بكبار القوم خير العوض، وكان مما يميزه ميل قليل نحو الإسراف في اشتهاء النساء، وكانت له جاذبية يقنص بها غواني سفردلوفسك.
فقلت له ردًّا على كلامه: «لكن ماذا في وسعنا أن نصنعه؟ إنك تعلم كما أعلم أنا أننا لا نستطيع أن نعتصر المصنع اعتصارًا ينتج لنا أكثر مما ينتجه الآن، فالخطابة الفصيحة لا تغني شيئًا عن الآلات والمعادن.»
لكن «أوسادشي» كان قد أغرق نفسه بالفعل إلى عنقه في مشروع يخلب العين ببريقه، فطلب إليَّ أن أزوده بقائمة مفصلة من الأنابيب التي تم صنعها والتي كانت مخزونة في مخازن المصنع، وقد كانت كمية تلك الأنابيب فيما يظهر عظيمة، إذ كان هناك مقادير منها أُنْتِجَت في العام السالف دون أن يكون لأحد بها حاجة، فزودته بالأرقام التي أراد.
ولم أعلم إلا بعد ذلك بأيام لماذا طلب تلك الأرقام، فلما علمت السبب جزعت له، فقد تآمر «أوسادشي» مع أعضاء الكتيبة وأرسل من لدنه رسولًا خاصًّا إلى موسكو، اتفق سرًّا مع «كوزفنكوف» الذي كان عندئذٍ رئيسًا لصناعة الأنابيب، وكان من نتائج ذلك الاتفاق السري أن دبَّر «كوزفنكوف» أمورًا مع الإدارة المركزية التي من شأنها تزويد الصناعات بما تحتاج إليه من معادن، وعاد رسولنا إلى برفورالسك ومعه حزمة من الطلبات التي تأمر بصناعة أنواع مختلفة من الأنابيب ترسل إلى مخازن الأنابيب في طول البلاد وعرضها.
وجاءت الطلبات مطابقة تطابقًا عجيبًا للأنابيب المخزونة عندنا مقدارًا ونوعًا، وما علينا سوى أن ننظفها ونزينها ونرصها في صناديق، ثم نسجلها في قائمة الإنتاج الجاري! وبشيء من تلفيق الدفاتر تلفيقًا بارعًا أمكن إنقاذ الموقف شهرًا كاملًا.
وكانت هذه أكذوبة عارية مكشوفة، ومع ذلك فكنت ترى «أوسادشي» واللجنة المحلية واللجنة الإقليمية، بل كنت ترى كل إنسان فرحًا بها، وأغضى كل إنسان عن هذا الاحتيال، إلا رجال الشرطة السرية فقد شمَّروا عن سواعدهم؛ إذ علموا أن هذا الخداع يتيح لهم سوطًا يسلطونه على طائفة أخرى من صفوة رجال الصناعة في إقليمهم، بهذا كله كان النصر في متناول أيدينا، ولا أقصد النصر بالحصول على إنتاج مائة في المائة فحسب بل بالحصول على أية نسبة مئوية أردنا.
وبدأ الشهر الأعظم شهر يونيو، وأخذت أرقام الإنتاج تظهر كل يوم على المعيار «الإستاخانوفي» الخلاب، وجاءت لي الرسائل من موسكو تستحثني قائلة: «حافظ على هذا المستوى بغير هبوط»، لكن أحدًا لم ينبس ببنت شفة عن الحقيقة الواقعة وهي أننا في بعض الأيام كنا نضيف خمسة وعشرين في المائة إلى إنتاجنا المزعوم من الأنابيب المخزونة عندنا، وبالطبع لم تجز هذه الخدعة على العمال ورؤسائهم، فكانوا يقرءون الأرقام التي تحصي إنتاجنا كل يوم وكل أسبوع … لكنهم كانوا يعرفون الحقيقة.
وكلما تقدم الشهر أخذت غبطة المتآمرين يمازجها شيء من القلق إذ دب في نفوسهم قليل من الخوف مما صنعت أيديهم، خاصة وأن «نجاحهم» قد أحدث ضجة عظمى في الصحف والإذاعة، وتبينوا أن حيلتهم قد ينكشف عنها الغطاء يومًا فترتد إلى نحورهم اتهامًا «بأنهم خدعوا الحكومة والحزب» فوحد بينهم جميعًا — كتيبة موسكو والموظفين المحليين — شعورهم بالاشتراك في جريمة واحدة وفي الاستهداف لخطر واحد.
ورفضت رفضًا قاطعًا أن أُسَاق إلى عصاباتهم، وانتهيت مع نفسي إلى قرار هو أنني — إذا ما وضعت في اعتباري كل الظروف — آمن جانبًا إذا لم أساهم في هذه الحركات البهلوانية التي تتلاعب بالأرقام، وبخاصة لأني كنت أعلم أن هذه الأرقام المصطنعة عن شهر يونيو ستضع لي معيارًا يستحيل عليَّ تنفيذه في الأشهر المقبلة.
لذلك لما دنا الشهر الإستاخانوفي من ختامه، جمعت الوثائق الهامة وكتبت عن هذه الأرقام القياسية تقريرًا وافيًا أكشف فيه عن الخدعة، وأرسلته إلى الرئيس الأعلى كاجانوفتش وإلى «كوزفنكوف» في رياسة صناعة الأنابيب، وإلى «أوسادشي» وإلى الرفيق «دُفنبكو» أمين اللجنة المحلية في برفورالسك، كما اختزنت من التقرير نسخًا تحوطًا مني لما عسى أن تأتي به الأيام.
ودب دبيب الخوف في «أوسادشي» و«دفبنكو» فتلفنا من فورهما — فيما علمت — لشركائهما في موسكو من رجال رياسة صناعة الأنابيب، ولما طمأنهما ما سمعاه من تلك الرءوس العليا استدعياني للجنة المحلية.
فانفجر دفبنكو صارخًا: «هل جن جنونك يا كرافتشنكو؟ إن كل شيء يسير على خير ما يُرْجَى، و«كاجانوفتش» في أشد الغبطة لسيرنا في العمل، وها أنت ذا تريد أن تلقي في عملنا ما يسيء سمعته، ماذا علينا لو اصطنعنا حيلة أو حيلتين إذا كانت غايتنا المنشودة هي رفع الروح المعنوية بين صفوف العمال؟ أليس لديك من ضميرك ما يحفزك على أداء واجبك؟»
وكان إذ ذاك يذرع أرض مكتبه غاضبًا، وأما «أوسادشي» فقد لبث يعض شفتيه ليكبت في نفسه ثورة غضبه.
قلت: «يؤسفني أن أختلف وإياك في الرأي، إنني لم أساهم في الموضوع، ولن أحمل شيئًا من تبعته، وإني لأنذركم أننا بعد أن تتلاشى أصداء هذه الضجة سنعود إلى نسبة الإنتاج القديمة، وسيلوموننا على التقصير بالقياس إلى شهر يونيو.»
فقال دفبنكو: «ألا لعنة الله! إننا إذا ما وصلنا إلى هذا الموقف المشكل فسنعرف كيف نجتازه، إنك يا كرافتشنكو تسير على أرض خطرة وتسبق بأفكارك أفكار سواك، إنك تحط من شأن الكتيبة التي أرسلها رئيسنا الأعلى، وهو عضو في هيئة الحكم العليا! إنك بهذا تلعب بالنار.»
وتدخل أوسادشي فقال: «إن الإسراف في الإخلاص أحيانًا معناه إسراف في الغباء، فيلزمنا قليل من حكمة تنفع في هذه الحياة الدنيا.»
لكني رفضت سحب تقريري.
نهنئك على نصرك العظيم، ونشاطرك السرور به، ونخوِّل لك صرف مكافآت للعمال، ويقيننا هو أن الخطة ستوفَّى بما يزيد على تمامها من الآن فصاعدًا.
وقدم إلينا مراسلو الصحف طائرين من موسكو وراكبين سياراتهم من سفردلوفسك ليصفوا معجزة الإنتاج على المعيار الإستخانوفي، فمصنع الأنابيب الجديدة الذي كانت مؤامرات الإتلاف قد انحطت بإنتاجه إلى ٣٥ في المائة أو أربعين منذ أشهر قلائل، قد صعد الآن فخورًا بنفسه إلى ١١٤ في المائة بإشراف رئيسه البلشفي الجديد الأمين الرفيق كرافتشنكو، وجاءت وفود من مصانع برفورالسك الأخرى لتهنئ رفاقهم الظافرين.
كان الفرح يرفرف في كل مكان إلا قلبي فقد ساده اليأس؛ لأني جُعِلْت — كارهًا — جزءًا من تدليس مدبر، ودُفِعْت دفعًا إلى قبول الشكر والمكافآت المالية على ما قمت به من نجاح، لكني أخذت من وراء ستار وبمعونة مساعديَّ الثلاثة ورئيس الحسابات، أحسب الإنتاج الحقيقي إبان ذلك الشهر، فوجدته بعد طرح الإنتاج المزيف الذي أخذناه من المصنوعات المخزونة، قد بلغ سبعة وثمانين في المائة، وهو مقدار أكثر بقليل جدًّا من الإنتاج المعتاد، وأثناء قيامي بهذه العملية الحسابية التي أحزنت قلبي، دعيت ست مرات لأتلقى تهنئات من موسكو، وأخذت برقيات الثناء تتراكم، وبينها برقية من «كاجانوفتش» نفسه.
وبدأت تلك الليلة في إعداد تقرير دقيق مفصل جدًّا عن التدليس الذي حدث، ورفعته إلى «كاجانوفتش».
وفي الوقت نفسه دُعِيَ العمال جميعًا إلى اجتماع ليحتفلوا بنجاحهم العظيم، وأقيمت منصة ملفوفة بالقماش الأحمر في فناء المصنع، وزُيِّنَت بصور ضخمة لزعماء الكرملن، وطفقت فرقة موسيقية تعزف في مزاميرها النحاسية بغير انقطاع، وحشدت ألوف من العمال والموظفين — وكثير منهم كان على علم بالخدعة — أمام المنصة، ولا أحسبني مخطئًا إذا قلت: إنهم كانوا يسخرون سخرية مقصودة إذ صفقوا تصفيقًا حارًّا وهتفوا هتافات عالية «لأوسادشي» و«دفبنكو» وممثلي الحزب الإقليمي وأعضاء الكتيبة التي جاءتنا من موسكو حين ألقوا خطبهم على هذا التعاقب.
وقرأ «أوسادشي» بعض رسائل التهنئة، وقال: إن العمال بما أظهروه هذا الشهر من نجاح قد أخرسوا ألسنة المتشككين والمهاجمين، وأجابوا إجابة مدوية على أفعال المتلافين المناجيس والمنشقين على الحزب، وها هنا صرخ هاتفًا: «ليحي حزبنا وليحي زعيمه المحبوب، ليحي رائدنا ووالدنا ورفيقنا ستالين! صيحوا بالهتاف يا رفاق.»
فهتفت ألوف الحناجر وعزفت الموسيقى نشيد الشيوعية الدولية.
ووقفت على المنصة مهنئًا نفسي على الخلاص من محنة إلقاء خطبة في تلك الظروف، لكن يظهر أن «دفبنكو» أراد متعمدًا أن يورطني علنًا في الاشتراك في «النصر» فأعلن قائلًا: «والآن نريد أن نسمع كلمة الرفيق الذي كان لرياسته الفضل في بلوغ الغاية المظفرة وهي إنتاج ١١٤ في المائة، الرفيق كرافتشنكو!»
نهضتُ ولم أشر أبدًا إلى إنتاج يونيو، بل جعلت أتحدث عن المشكلات التي تنتظرنا في طريقنا، وضرورة بذل المجهود المنظم المطرد، وشكرت العمال على ما صنعوه، وأكدت أن فورة واحدة من فورات المجهود لا تكفي؛ لأن الإنتاج لا بد له من الاستمرار، وقوبلت بتصفيق حاد وتركت المنصة شاعرًا بأن بعض المستمعين — على الأقل — قد أدرك ما أردت أن أقول.
وخُتم الاجتماع بأن قدم ممثل الحزب في الإقليم راية حمراء لمصنعي تقديرًا له، وتسلمت منه الراية بغير ابتسام، ولما عاد أعضاء الكتيبة إلى موسكو، قابلوا الرئيس على مرأى من مندوبي الصحف هذه المرة أيضًا، وقد ظفر هؤلاء الأعضاء بأوسمة وامتلأت جيوبهم بالمكافآت المالية، وخصصت صحيفة «في سبيل التصنيع» صفحة كاملة لمعجزة مصنع الأنابيب الجديدة، وكتبت صحف أخرى في افتتاحياتها عبارات المدح والثناء، وكانت برقيات الثناء لا تزال تنهال عليَّ حين قذفت في البريد بتقريري إلى «لازار كاجانوفتش».
ومضت أسابيع قلائل بعد ذلك، فانتحلت عذرًا للذهاب إلى موسكو آملًا أن أجتذب إلى جانبي رياسة صناعة الأنابيب فيما خشيتُ أن ينفجر دويُّه في البلاد من فضيحة وطنية، فأما «كوزفنكوف» فلم يخفِ استياءه مني؛ لأن سيرته في منصبه كانت في خطر بوصفه عضوًا من مدبري المؤامرة.
قلت له راجيًا: «حاول أن تفهم وجهة نظري، كيف أستطيع مواجهة العمال وهيئة المهندسين إذا ما عرفوا جميعًا أو إذا ما داخلهم الريب أن النصر العظيم لم يكن إلا أكذوبة كبرى؟ إنك على يقين أننا في الأشهر القادمة لن نستطيع أن نساير هذا الرقم القياسي المصطنع، إذن فلن يفيد العمال شيئًا، فما معنى هذه الحركة كلها؟»
فأجابني في برود: «هوِّن على نفسك يا فكتور أندريفتش، إن موقفك هذا — اسمح لي أن أقول — غاية في السذاجة، فينبغي في مثل هذه الأمور أن ترمي ببصرك إلى بعيد، إن الحزب إذا ما رأى ضرورة الترويج لضرب معين من ضروب النشاط — وهذا الضرب هو في هذه الحالة الحركة الإستاخانوفية — أصبح من الضرورات السياسية أن يتم هذا الترويح الذي تبرر الغاية فيه كل وسيلة، فجزعك الآن لا معنى له.»
فأكدت له قائلًا: «لقد أخطأت، فيستحيل أن نبني على أساس الأكاذيب؛ لأنها قمينة أن ترتد إلى نحورنا.»
هنا كاد كوزفنكوف يفقد زمام صبره.
– «سأسدي إليك نصحًا يا رفيقي كرافتشنكو، أمسك عن الكلام في هذا الموضوع وإلا أوذيت في سبيلك.»
عندئذٍ قصدت إلى محرر «في سبيل التصنيع» الذي تظاهر بالجزع حين بسطت أمامه حقائق التدليس الذي حدث، واستحثني على كتابة مقال قبل مغادرتي موسكو، ففعلت ما أراد، وأرسلت نسخة من المقال إلى صحيفة برفدا، لكني لم أسمع قط شيئًا من هذه الصحيفة أو تلك، كما لم أسمع كلمة من كاجانوفتش.
ولما عدت إلى المصنع وجدت العمال ورؤساءهم والطبقة الدنيا من المهندسين في حالة امتعاض شديد، ودار بينهم نقاش كثير حول المكافآت التي صرفت، فهؤلاء الناس كانت تُدْفَع لهم أجورهم على أساس الكمية التي أنتجوها وفقًا لما تقرره القواعد الرسمية لذلك، ولما كانوا لم ينتجوا في الواقع إبان ذلك الشهر أكثر من إنتاجهم العادي، فقد كان جزاؤهم الوحيد قسطًا من الضجيج وشطرًا من الراية الحمراء، أما الموظفون الإداريون بما في ذلك «أوسادشي» وأنا نفسي، فقد تقاضوا مكافآت لا بأس بها، إذ تقاضى كل منا مائة وخمسين في المائة من مرتباتنا الأساسية، فلو أضفت هذه المكافأة إلى مرتبي عن شهر يونيو، كان مجموع ما تقاضيته عن ذلك الشهر أربعة آلاف روبل، وهو جزاء طيب لأكذوبة كنت أحاول عبثًا أن أكشف عن سرها.
وتردد في جنبات برفورالسك صدى ما بذلت في موسكو من مجهودات، فثارت نفوس أولي الأمر هناك بالغضب الشديد، فاتهموني في اللجنة المحلية بحضور بارشين ضابط القسم السياسي، ولهذا ما له من مغزى؛ اتهموني أمام تلك اللجنة «بالإساءة إلى سمعتهم» وإلا فلماذا أحاول خلق مشكلات لهم جميعًا؟ لماذا أحاول «أن أشعل نارًا قد خمد بالفعل أوارها؟»
ومضت شهور قبل أن ينسى هؤلاء الموظفون وقبل أن ينسى زملائي في المصنع ما قدمت إزاءهم من «خيانة» بحيث عادوا فابتسموا لي من جديد، لكني لم آسف قط لما فعلت، فمهما يكن من أمر ما حدث، فقد كانت صحيفتي بيضاء، والواقع الذي لا تشوبه شوائب الهوى، هو أنه لم يحدث شيء، إذ اشترك في هذه الفعلة التهريجية عدد كبير جدًّا من كبار الموظفين ذوي النفوذ، وأصبح «النصر العظيم» تاريخًا يروى رواية الحق الصحيح.
كان نشر «تاريخ جديد للحزب الشيوعي» عام ١٩٣٨ بمثابة إسدال الستار على حركة التطهير الأعظم.
ولست أقصد بهذا أن الإرهاب قد امتنع، وأن عربات الأفاعي السود قد بطل استخدامها، فالقبض «العادي» على ألوف الناس، والإعدام بغير محاكمة، والنفي التعسفي «للعناصر البغيضة» الذين كانوا بحاجة إلى عملهم في الأقاليم النائية المهجورة، وألوان التعذيب ومحاكمات التفتيش، كل ذلك ظل قائمًا كما كان، بل تضاعف عدد معسكرات الاعتقال وجماعات السخرة على نحو لم نعهده قط من قبل، فكنت تسمع من الشيوعيين المتصلين بعرش الكرملن همسًا بأن عدد من يسخرون كالعبيد قد زاد على خمسة عشر مليونًا، وسيبلغ العدد عشرين مليونًا في السنوات القليلة القادمة.
إنما الذي قصدته بقولي هو أن الحملة الخاصة التي شنوها لتطهير الحزب وهيئة الحكم عقب اغتيال «كيروف» قد أوشكت على نهايتها، فما كنت لترى مكتبًا واحدًا أو مشروعًا واحدًا، وما كنت لتصادف هيئة ثقافية أو اقتصادية واحدة، وما كنت لتجد قسمًا واحدًا من أقسام الحكومة أو الجيش أو الحزب، إلا وجدت زمامه قد ألقي في أيدٍ تكاد أن تكون كلها مستحدثة، فلو فرضنا أن غازيًا أجنبيًّا تسلم مقاليد الحياة السوفيتية ونصب أعوانه في مراكز الإدارة كلها، لما كان التغيير الناشئ عن مثل هذا الانقلاب أشمل ولا أقسى من التغيير الذي أحدثته حركة التطهير.
إن العالم الخارجي لم يدرك قط مدى ما عانته البلاد من فزع، بل ربما كان ذلك الفزع أوسع مدى من أن يتاح للعالم إدراكه بأية وسيلة من الوسائل، فقد كانت الروسيا حومة بعثرت في أرجائها جثث القتلى، وانتثرت في أنحائها حظائر حبس فيها الملايين ممن ساء حظهم من «سجناء الحرب» فأخذوا يشقون هناك بعملهم ويعانون الآلام ويلاقون الحتوف، ولكن أيمكن لعين الخيال أن تمتد لترى كل هذا المدى الفسيح؟ إن كل ما يستطيعه الإنسان هو أن يرسل بصره إلى هذا الركن أو ذاك، ثم يعمم الحكم بناءً على هذه الأجزاء، ولقد استطعت أن أظفر من الكرملن على أرقام رسمية قليلة لا تصور الواقع كله، لكنها تدل بعض الدلالة على مدى ما امتد إليه ذلك الواقع ومقدار فداحته.
لم يبقَ من أعضاء مجلس «وزراء» الشعب إلا «مولوتوف»، وأما الباقون فقد أصابهم القتل أو السجن أو الطرد، واللجنة المركزية للحزب — التي تعد نظريًّا قلب الهيئة الحاكمة ورأسها المفكر، والتي تتألف من مائة وثمانية وثلاثين عضوًا — لم يبقَ من هؤلاء إلا نحو عشرين عضوًا بعد أن تمت حركة التطهير الأعظم، وأما اللجنة التنفيذية المركزية التي يصفونها في الخارج أحيانًا بقولهم: إنها «برلمان» الروسيا، والتي قوامها سبعمائة وسبعة وخمسون عضوًا، فلم يبقَ من أعضائها بعد العاصفة إلا بضع عشرات من الأعضاء.
ثم كان الخراب أعمق فداحة فيما يسمونه «بالجمهوريات» المستقلة أو الأقاليم القائمة على حكم نفسها بنفسها، فتستطيع أن تقول بغير استثناء: إن رجال الحكومة وأعضاء الهيئات الحزبية قد انمحوا على بكرة أبيهم بأوامر موسكو، وذلك دليل كافٍ على مدى استقلالها المزعوم، وقل مثل ذلك في الصناعة والهيئات الهندسية الفنية، والفنون والتعليم والصحافة وقوات الجيش، فكل هاتيك الجوانب قُلبت رأسًا على عقب وقُتل زعماؤها وخيرة رجالها الموهوبين رميًا بالرصاص، أو زجوا في السجون أو طُوِّح بهم في مطارح النفي، أو جُرِّدوا من نفوذهم على أحسن تقدير.
إن المستعرض للحوادث ليغريه أن ينظر بين أكداس الأهوال إلى الضحايا البارزين ذوي المكانة الممتازة، مع أن الذبائح قد امتد نطاقها بحيث شملت سكان البلاد جميعًا، فالحزب الحاكم طُرِدَ من أعضائه وطالبي العضوية فيه مليون وثمانمائة ألف، أي أكثر من نصف المجموع، وكان الطرد في معظم الحالات معناه معسكر اعتقال أو ما هو أسوأ من ذلك حالًا، وقُضِيَ في أمر ثمانية ملايين على الأقل غير هؤلاء، من أعضاء هيئات الشباب الشيوعية ومن غير المنتمين للحزب؛ فكلٌّ من هؤلاء قد أصابه موت أو نفي أو طرد من منصبه.
وهذه الأرقام على جسامتها لا تلخص المأساة تلخيصًا وافيًا، فهي أرقام جسيمة حقًّا، لكنها أرقام باردة، بل إن جسامتها في ذاتها تخلع عليها شيئًا من الخيال غير الواقع، فعليك أن تفكر في هؤلاء الضحايا بغير لغة الأرقام التي لا تعني ناسًا من البشر، بل على أنهم أفراد، وعليك أن تتذكر أن كل فرد من هؤلاء الأفراد الكثيرين له أقاربه وأصدقاؤه وأبناؤه ممن كانوا يشاطرونه آلامه، وأن لكل فرد منهم آماله وأمانيه وأعماله التي يصيبها الهدم والتحطيم، هذه إحصاءات لمؤرخ الغد وللعالم الاجتماعي اليوم، أما بالنسبة لي — أنا الذي عاش في غمرتها — فهذه الأرقام لها عندي أبدان وعقول وأرواح، كلٌّ منها أصيب بالأذى أو بالاعتداء أو بالإذلال.
بل إني لأعلم فوق ذلك أن ملايين ممن تخلصوا من التطهير قد أصاب عقولهم خلل ونفوسهم أذى لما صادفهم من مخاوف ومفازع وحشية عاشوا خلالها، ولست أعلم في التاريخ البشري كله ما يقرب في مداه ما بلغه هذا الاضطهاد العنيف المدبر الذي اكتوى بناره عشرات الملايين من الروس بطريق مباشر أو غير مباشر، إن جنكيز خان لم يكن بالقياس إلى ستالين إلا بمثابة الهاوي إذا قيس إلى المحترف، أو المبتدئ اللاهي إذا قورن إلى مَن مهر في صناعته، إن عصابة الكرملن قد أثارتها حربًا شعواء على بلادها وعلى بني وطنها.
كان ظهور هذا التاريخ الجديد دالًّا على ختام تلك الحرب الطويلة، وإن هذا التاريخ لوثيقة قد لا يكون لها مثيل سابق، فقد روجع فيه نصف قرن من تاريخ الروسيا مراجعة جريئة لا تعرف الحياء، بل لا تكلف نفسها عناء التعليل لما تقول، ولست أريد بهذا أن أقول: إنه تاريخ كل ما فيه من عيب هو أنه زيَّف بعض الحقائق أو أنه فسر الحوادث تفسيرًا جديدًا، بل أريد أن أقول إنه قلب التاريخ رأسًا على عقب، وحذف حوادث حذفًا وأضاف أخرى اخترعها اختراعًا، وحرف الماضي القريب — وهو ماضٍ لا يزال حيًّا في ذاكرات الملايين — بحيث صبه في صورة جديدة مهوشة ليتفق مع تفسير الحوادث كما ظهر في محاكمات التطهير الدموي، وفي الدعاية التي سايرت تلك المحاكمات.
جاء هذا التاريخ بمثابة القصة الخيالية الجريئة في خيالها التي لم يكن للضمير أو الحقائق ذرة من اعتبار عند كاتبيها، ولا شك أن فيها ما يروع ويبهر وهو ما يشيع فيها من روح السخرية ومن تحدٍّ لسلامة إدراك الشعب الروسي، ففي هذه القصة شاهت أعمال الزعماء البارزين أو مُحِيَت محوًا واختلقوا لهم مكانها أعمالًا أخرى، فهذا «ليون تروتسكي» الذي كان أحد المنشئين للجيش الأحمر، صوروه في صورة الخائن المنجوس الذي أخذ يعين الرأسمالية الأجنبية، وجاهد في سبيل بيع بلاده، وكان معه في ذلك «رايكوف» و«بخارين» و«زينوفيف» و«كامنيف» و«ببنوف» و«كرستنسكي» و«بياتاكوف»، وإن شئت فقل كل آباء الثورة البلشفية، وبالطبع خلصوا إلى نتيجة أن «جوزيف ستالين» كان هو الزعيم الأوحد في الروسيا قبل الثورة، وأنه الرجل الوحيد الذي صادق لينين صداقة حميمة جعلته موضع ثقته بعد الثورة، واختفت من البلاد كلها كافة الكتب والمقالات والوثائق ومعروضات المتاحف التي كان من شأنها أن تناقض هذا الخيال الشاطح العجيب الذي نحلوه وقالوا: إنه التاريخ، ومعنى ذلك أن اختفى معظم المطبوعات والوثائق التاريخية والسياسية.
ثم حدث ما هو أكثر من هذا، وذاك أن أزيل من الوجود كل الشهود الأحياء.
فأزيل أصحاب الرأي والتدبير في معهد «ماركس» و«إنجلز» و«لينين» في موسكو، وهم الذين اختزنت رءوسهم نظريات الثورة على حقيقتها، ثم أخذوا أبرزهم وسجنوهم أو قتلوهم رميًا بالرصاص، وكذلك حدث شيء كهذا في فروع المعهد في كافة أنحاء البلاد، ولقد شاءت لي المصادفة أن أعلم علم اليقين قصة واحد من أعلامهم البارزين في المعهد، وهو الأستاذ «سورين» وهي قصة يخيَّل إليَّ أنها تلخص كل هذا العهد القذر المفجع، عهد الأكاذيب والأباطيل.
كان «سورين» قد وُجِّه إليه اتهام علني من ستالين؛ لأنه لم يخشَ أن يكتب قائلًا: إن «دكتاتورية الشعب» لم تكن في الروسيا سوى «دكتاتورية الحزب»، ثم «اعترف» المجرم «بأخطائه»، فنصبه ستالين واحدًا من أعوانه في انتحال الأكاذيب عن نظرية ماركس، وجعل يطبخ له الخطب والمقالات التي يذيلها ستالين باسمه، ثم جعله مساعدًا لمدير معهد «ماركس-إنجلز-لينين» حيث أخذ يبحث في نشاط عن الوثائق والشواهد التي تؤيد أية سياسة شاء ستالين أن يفرضها على البلاد، وبهذا عاش «سورين» هانئًا سعيدًا فيما يظهر.
لكن بلغ الأمر حدًّا لم يعد «سورين» المذعن بعده يصبر على إذعانه، نعم، إنه لم يمانع أن يجد لهم ما شاءوا من نصوص، لكنه فرَّق بين «تلفيق» النصوص وبين «تزييفها»؛ لذلك جاءت إحدى عربات القسم السياسي ذات ليل من ليالي الشتاء إلى مسكن الأستاذ سورين، وكان مسكنًا جميلًا، وحملته إلى حيث لم يعد، ولم يبقَ له أثر، وأُخرجت زوجته وابنه من البيت حيث تُركا ليلتمسا سبيلًا إلى مسكن آخر، وشحنت كل كتب الأستاذ ووثائقه ومذكراته في عربة إلى مركز القسم السياسي.
وكذلك سجنوا غير «سورين» من أساتذة المعهد الذين كانوا أدق علمًا بتاريخ الشيوعية وآرائها النظرية من أن يغضوا عن الشروح الخاطئة لتلك الآراء، وكان بين من سجن رئيس إدارة المعهد «أدوراتسكي»، كما قُبِضَ على «ستتسكي» مدير قسم الدعاوة في الحزب وألوف غير هؤلاء من «جبهة» المؤرخين ورجال السياسة والأدب، قُضِيَ عليهم بأن يسيروا في الطريق الواحدة التي تنتهي بصاحبها إلى النسيان الأبدي، وهكذا أزيلت عن الطريق كل عقبة عساها أن تعرقل تزييف الحقائق تزييفًا لا يقف عند حد، وبذلك أصبح «التاريخ» الجديد في أعين الناس صورة جائزة الوقوع.
ولكي يغوصوا بهذه الوصمة إلى أعماق عقولنا، جعلوا «دراسة» هذا التاريخ في صورته الجديدة فرضًا لازمًا على كل مسئول من أعضاء الحزب، فكانت دروس التاريخ تُلْقَى كل ليلة تقريبًا من ليالي ذلك العهد، وكان يأتي إلى مدينتنا محاضرون من سفردلوفسك ليعينوا على غرس هذه الأكاذيب في نفوس السامعين، بينما كانت كثرتنا الغالبة تغلي من الغيظ، هكذا أذلوا كل ما عسى أن يكون قد بقي في نفوسنا من آثار الكرامة الإنسانية، وإن أضخم أكذوبة لقمينة أن تمتد بجذورها في العقول إذا ما اطرد تكرارها، هذه حقيقة أدركها ستالين قبل أن تنكشف لهتلر، ونظرت فإذا بأبشع الأباطيل تفرض على الناس بادئ ذي بدء بتأثير الضغط والقوة، ثم تصبح «حقائق» لا يأتيها الباطل، وخاصة بالنسبة للناشئين الذين لم يكن في تجارب حياتهم ما ينقض لهم صواب هذه الحقائق فينغص عليهم هدوء العيش.
وإن ما يعني العالم الخارجي بصفة خاصة من هذا التاريخ الزائف لهو الإرشاد الذي ذكروه في مقدمة الكتاب، والذي جاء فيه: «إن دراسة تاريخ الحزب الشيوعي من شأنها أن تقوي يقيننا بالنصر النهائي الذي سيكلل مجهودات حزب «لينين-ستالين» وهو نصر للشيوعية في العالم كله»، فعلى الرغم من الاتجاه الجديد الذي يتجهونه نحو القومية الروسية، فهذه المقدمة التي تعلن الأمل في الشيوعية العالمية لا تزال في صدر الكتاب، بل إنهم حين زعموا أن «الشيوعية العالمية» قد أقلع عنها إقلاعًا تامًّا، لم يشاءوا أن يراجعوا أو يتخلوا عن رأيهم في ثورة ستالينية عالمية، وإذن فهذا التاريخ لا يزال تاريخًا رسميًّا، لا بالنسبة للشيوعيين في الروسيا وحدها بل كذلك بالنسبة للشيوعيين في أمريكا وإنجلترا والصين وغيرها من بلاد الأرض.
ولقد كلفوني ذات مرة أن أُلْقِيَ «محاضرة» في إحدى مراحل هذا التاريخ الذي يؤرخ للحزب، على أعضاء الحزب المسئولين في إقليم برفورالسك، وبالطبع لعبت دوري في هذه المهزلة؛ لأن الأمر صدر لي من اللجنة المحلية فلم أملك رفضه، وكان موضوع محاضرتي هو «الحزب الشيوعي في نضاله نحو تحويل الزراعة إلى جماعات اشتراكية»، فحظفت عن ظهر قلب عبارات تلائم الموضوع اقتبستها من التاريخ الرسمي، وقرأت خطب ستالين في الموضوع، ثم وقفت في قاعة مليئة بالناس وجعلت ألقي عليهم أكاذيب مدة تزيد على ساعة تنفيذًا للأمر.
كانت كل أكذوبة نطقت بها تفتق الجروح التي لم تكن قد اندملت بعدُ، الجروح التي أُثخنتها في حياتي الماضية إبان حملة «المزارع الجماعية» وما أعقبها من مجاعة، لقد طاف برأسي خاطر وأنا ألقي تلك الأكاذيب، وهو أنني إنما أسخر من أولئك الأطفال ذوي البطون المنتفخة الذين كنت أراهم حولي أيام أن كنت أعمل في الريف، وأنني أهزأ بالجثث التي رأيتها مكدسة أكوامًا في القرى، ولم يخامرني شك إذ كنت ألقي خطبتي أن الحاضرين كانوا يعلمون كذلك أني أفتري كذبًا، فكانت كلماتي وتصفيقهم زيفًا في زيف، وكنا جميعًا ممثلين يلعبون أدوارهم المقررة لهم في المهزلة السياسية المفجعة.
فلماذا استسلمت واستسلم الحاضرون لهذه المهانة؟ للسبب عينه الذي يجعلك تناول كيس نقودك إلى قاطع الطريق الذي يصوب نحوك غدارته، فيا أيها الناس خارج البلاد الروسية، يا من تنعمون بحقوقكم البشرية، حذار من ازدراء الروس إذا ما سمعتم أنهم يضطرون إلى «المحاضرة» كما فعلت أنا، أو أنهم يضطرون إلى التصفيق كما فعل من كانوا يستمعون إلى محاضرتي.
كان الدعاة الرسميون يعتمدون في نشر دعاوتهم على «تربية» الحزبيين وغير الحزبيين بما يتفق مع هذا التاريخ الملفق المنحول، كما كانوا يعتمدون إلى جانب ذلك على ناحيتين أجنبيتين لهما كل الأثر: أولاهما وصف مشوه ناقص للحياة في البلاد الرأسمالية وبخاصة في الولايات المتحدة وإنجلترا، فكنت ترى المحاضر يعرض على مستمعيه صورًا مجذوذة من الصحف تبين العمال المضربين ورجال الشرطة يضربونهم بالهراوات، أو تبين المتظاهرين من المتعطلين وقد صُوِّبَت عليهم خراطيم الحريق تغرقهم بمائها، أو تبين جماعات الشعب وقد أُلْقِيَت عليهم قنابل مسيلة للدموع، وكانت هذه الصور التي تُعْرَض على الناس على أنها صورة دقيقة كاملة للرأسمالية، تترك في النفوس أعمق الأثر؛ لأنها كانت توهم بأنها مستندة إلى مصادر وثيقة، معتمدة على شواهد ثابتة، صحيحة لا يأتيها الباطل.
وثانيتهما ذكر هجمات الأعداء الأجانب على اتحاد السوفيت، هجمات يكيلون فيها الإهانة والاحتقار للشعب الروسي، فهذه الهجمات النقدية لا يفرق أصحابها بين الشعب الروسي وبين النظام السوفيتي؛ ولذلك كانت تثور في صدور الناس كرامتهم الإنسانية وعزتهم القومية في آنٍ معًا.
ومما يستحق الذكر كذلك من نتائج التطهير الأعظم، أن كل شيوعي كان يحمل تذكرة الحزب التي تكون له بمثابة جواز المرور أو شهادة بحقه السياسي، وكان ذلك الدفتر الصغير يحتوي على معلومات شخصية عن حامله كما يحمل على غلافه إمضاءات موظفي اللجنة المحلية للحزب الذين أصدروه، فلما كان معظم القادة من موظفي الحزب قد أصابهم التطهير، قيل: إن معظم الشيوعيين يستندون في عزة موقفهم على شهادة أعداء الشعب، ولم يحتمل الكرملن أن يسمع هذه الإشاعة بما فيها من سخرية لاذعة، فصدرت الأوامر أن يعاد تسجيل الشيوعيين في أواخر عام ١٩٣٨م بغية القضاء على كتابة هؤلاء الذين لاقوا حتوفهم أو زجوا في السجون، والقضاء على ما لهم من ذكرى، فصدرت تذكرات جديدة لمن كانت تذكراتهم موقعًا عليها من «أعداء الشعب» الذين تناولهم التطهير.
وسرعان ما تحولت هذه العملية إلى تطهير جديد، وإن يكن تطهيرًا أصغر؛ لأن كل شيوعي كان عليه أن يظهر أمام لجنة مكونة من ثلاثة أعضاء، لتستجوبه في شئونه استجوابًا دقيقًا، أضف إلى ذلك أن التذكرات الجديدة لم تعد بالبساطة التي كانت عليها من قبل، إذ تطلبوا هذه المرة صورًا شمسية، وفضلًا عن ذلك فقد أعد لكل شيوعي دفتر صغير من نسختين يحتوي على معلومات عن سيرة حياته وعن أوجه نشاطه وما نال من جزاء أو عقاب، وكانت إحدى النسختين تحفظ في اللجنة المحلية التي يتبعها العضو، والأخرى ترسل إلى موسكو لحفظها في اللجنة المركزية، وبهذا اتخذ الوضع في جملته شكل وثائق التحقيق التي تستخدمها الشرطة أكثر منه تسجيلًا لأعضاء هيئة سياسية، فقد أسقطوا من حسابهم كل ما يدل ولو ظاهرًا على أننا أعضاء جمعية واحدة من الرفقاء اجتمعوا بمحض اختيارهم.
وخشية أن يكون الوهم لا يزال يزين لأحد ما ليس بواقع في هذا الصدد، صدر قانون جديد يحتم على العضو الذي يريد أن يغادر مدينة أو إقليمًا ليقيم في مدينة أخرى أو إقليم آخر — حتى لو كان الانتقال بأمر من هيئة عليا — أن ينتظر أولًا حتى تتخذ اللجنة المحلية قرارًا رسميًّا يبيح له هذا الانتقال، وإذن فقد أصبح الحزب الحاكم في حقيقة الأمر سجنًا آخر، سجنًا زُوِّدَ بوسائل الراحة وبآلاف المزايا التي لا يتمتع بها نزلاء السجن الأكبر الذي يسمى الروسيا، لكنه مع ذلك سجن بكل ما يعنيه هذا اللفظ.
وحدث ذات يوم شعرنا فيه بأول أنفاس الشتاء في الأورال، أن أنبأني كاتم السر دفبنكو بأنني سيكون لي شرف القيام بمهمة كبرى في «الانتخابات» القادمة لمجلس السوفيت الأعلى؛ ذلك أن اللجنة المركزية للحزب قد انتخبت الرفيق «كوزمين» ليكون مرشحًا في الانتخاب عن إقليم برفورالسك لعضوية السوفيت الأعلى، وإنه لحسن حظي قد وكِل إليَّ أن «أرشح» هذا الرجل بصفة رسمية في اجتماع عام للناخبين.
فسألته: «ولكن لماذا أرشح كوزمين؟ إنه لم يقم قط في هذا الإقليم ولا يعرفه أحد، إنه بحكم كونه نائبًا لرئيس الصناعات الثقيلة يقيم ويعمل في موسكو، أضف إلى ذلك أني لا أكاد أعرفه.»
لكن اعتراضاتي صادفت أُذنًا صماء، فما دام مصنعي يحتل الآن مكانًا من انتباه الرأي العام لظفره بالراية الحمراء، إذن فأنا الرجل المناسب لتقديم «كوزمين» للناخبين أصحاب السيادة، وبالطبع لن يكون في الإقليم مرشح سواه، فليس مما يجول قط بخاطر إنسان كائنًا من كان أن يكون للمعارضة مرشح ينافس مرشح الحزب، فذلك أمر لم يسمع به قط أبناء الجيل الجديد.
وزودوني بملف أوراق فيه معلومات عن الرجل الذي سيكون مرشحي أنا، فعكفت عدة ليالٍ على دراسته لأعد خطبة الترشيح التي أثنيت فيها على كوزمين بعبارات التهريج السوفيتي المكرورة المعادة، فقلت: إنه «ابن حقيقي للحزب وللشعب» لما قدمه من خدمات للثورة وما أبداه من الولاء للزعيم، وقرأ «دفبنكو» وزملاؤه مخطوط الخطبة وأجروا فيها بعض تعديلات، ثم أعربوا بعدئذٍ عن قبولهم إياها.
وبعد ذلك بأيام وصل رتل من السيارات الأنيقة أمام مصنعنا، وخرج من سيارته «مرشحي» الذي لم أكن قد سمعت بوجوده إلا على صورة غامضة قبل ذلك الأسبوع، وكان يحيط به حراسة من رجال الشرطة السرية وأتباعه من رجال الحزب، كان «كوزمين» يستوقف النظر بمظهره، فهو قوي البنية ولم يحلق لحيته ذلك اليوم، وملابسه رثة خَلِقة، وكان في قميصه الروسي المرقع عند الرقبة، وعلى رأسه طاقية العمال وفي قدميه حذاء الجيش الأحمر، واختصارًا فقد جاءنا متنكرًا في قناع رجل من غمار الشعب!
فاستنكرت منه هذا التقنع الهازل واحمرَّ وجهي خجلًا حين طاف في رأسي أنني شريك في هذا الخداع، ولما بلغت الساعة الرابعة، التأم اجتماع الناخبين في الميدان الرئيسي في برفورالسك، وجاءت وفود من كل المصانع المجاورة، يحملون راياتهم في أيديهم، وأقبلت كتائب من الشباب الشيوعي ينشدون بأصواتهم الشابة أناشيد حماسية، نُشر فوق المنبر قماش أحمر، وزُيِّنت المنصة بصور «ستالين» و«مولوتوف» و«كالنين» و«فورشنوف» وغيرهم، وجلست أنا على المنصة مع «دفبنكو» و«أوسادشي» و«كوزمين» وغيرهم من علية القوم، وعزفت فرقة موسيقية نشيد الشيوعية الدولية وغيره من الترانيم.
ولما آن الوقت المضروب ألقيت الخطبة التي أعددتها ومدحت «كوزمين» قائلًا: إنه «صفوة الصفوة»، فهتف الشعب وعزفت الموسيقى عزفًا قويًّا لتدل على القبول، وقام بعدي آخرون وألقوا خطبًا مما تعودتها الأسماع، وأخيرًا نهض «كوزمين» وخطا إلى الأمام خطوة ليشكر الناس على «ثقتهم» به ويؤكد لهم إخلاصه في خدمتهم «إذا هم انتخبوه».
وختم كلامه قائلًا: «ليحي رأس الحزب وقلبه وقوته، ليحي رأس الشعوب السوفيتية وقلبها وقوتها، زعيمنا ورائدنا المحبوب الرفيق ستالين!» وهنا عُزِفَت الموسيقى مرةً أخرى لتضيف إلى التصفيق قوة على قوة.
وبينا نحن نغادر المنصة في طريقنا إلى العشاء الرسمي الذي أُعِدَّ لكبار الموظفين، أمسك «كوزمين» بيدي وقال: «لقد أجدت في كلمتك يا رفيقي كرافتشنكو، فشكرًا ثم شكرًا، لا بد أن تزورني إذا ما جئت إلى موسكو، وسيسرني دائمًا أن أقدم لك بعض المعونة.»
ولم يسعني أن أتغافل عن ملاحظة أظفاره وأنا أصافحه، فقد كانت مزينة أجمل الزينة.
وسرعان بعد ذلك ما ألجأتني ظروف العمل إلى الذهاب إلى موسكو، وكان في وسع «كوزمين» أن يعاونني في مهمتي إذا أراد، وذهبت إليه لأجد مكتبه ذا غرف فسيحة فاخرة الأثاث، ولم أستطع لقاءه إلا بعد طول انتظار مما أثار دهشتي، حتى إذا ما دخلت غرفة مكتبه آخر الأمر، رأيت رجلًا لا يكاد يشبه في شيء ذلك الصعلوك الذي رأيته واقفًا على المنصة في برفورالسك، فكان يرتدي حلة أوروبية ورباط رقبة ناصع اللون، ولم أجد أقل أثر يدل على إهمال في ثيابه ينم على تبعيته لغمار الناس، كلا لم أجد أقل أثر من ذلك في هذا السياسي الذي أسمنه حسن الغذاء، والذي عني بتمشيط شعره وتجميل وجهه مما جعله نموذجًا للسياسي في بلادنا.
– «ماذا تريد يا رفيقي؟ من أين جئت؟» قال لي ذلك بصدر ضيق إذ هو ينظر إليَّ نظرات باردة.
فتبينت وقتئذٍ — والدهشة ملء نفسي — أنه قد نسي نسيانًا تامًّا الرجل الذي أيده وقدمه إلى «دائرته الانتخابية»، فكان ذلك عندي بمثابة اللمسة الأخيرة التي لمستها أنامل الفنان في صياغة المهزلة، مهزلة الحزب الواحد والمرشح الواحد في الانتخابات التي تتم في ظل «أكثر دساتير العالم إيغالًا في الروح الديمقراطية».
لم أذكر لك إلا قليلًا عن حياتي الخاصة في الأورال، وقبل ذلك في تاجانرج ونيقوبول، وأحس هذا النقص في نفسي أنا، فكأني بالقارئ يسأل: «أيكون مديرو الصناعة من السوفيت — إذن — مجرد آلات وليس لهم حياة خاصة بهم؟»
ولو أني أجبتك بالإيجاب لكنت مسرفًا، فنحن الروس شعب يحب الاجتماع وتملأ العواطف قلوب أفراده، وهم يثرثرون بالحديث، وسرعان ما تشتعل في نفوسهم روح الود والصداقة حتى لكأننا نضع قلوبنا على أكمامنا، ولست ممن لا تنطبق عليهم هذه القاعدة.
والحق أني صادقت عشرات الناس بل مئاتهم إبان تلك السنين، ولا يغيبن عن ذهن قارئي أني كنت شخصًا له منزلته؛ لأني كنت من صفوة رجال الحزب، فكان في قدرتي أن أنفع، كما كان في بيتي وفرة من الطعام ووسائل الراحة مما كان يتحرق له الناس كلهم شوقًا — إذا استثنيت نفرًا قليلًا — نعم إن مستوى معيشتي كان متواضعًا بل خشنًا غليظًا إذا ما قورن إلى من هم في مثل منصبي في أمريكا، لكني مع ذلك كنت في نيقوبول وتاجانرج وبرفورالسك بل وفي موسكو من الارتفاع في مستوى العيش عن طبقة العمال بحيث خُيِّل إليَّ أني أعيش في عالم وحدي، وما أقل بين هؤلاء الذين كانوا يحسدون سادتهم الجدد الذين يتقاضون أجورًا كبيرة، أو الذين تتاح لهم نظرة سريعة يعلمون منها ما نحن فيه من عيش فاخر كئيب، أقول: ما أقل بين هؤلاء من كان يعلم فداحة الخوف وانعدام الحرية الشخصية والاستقلال المهني الذي كنا نعانيه، وعدم الاستقرار فيما نحن فيه من حياتنا التي يرونها ممتعة.
نعم، كوَّنت لنفسي أصدقاء، بل كان العشق يتردد على داري آنًا بعد آن مجازفًا بالخطر، لكني إذ أستعيد هذه الأشياء بالذاكرة، أراها من الضآلة بحيث تستثير الإشفاق بضآلتها، إن الروابط الإنسانية في هذا العهد لرجل في مثل منصبي، ليس لها إلا أتفه القيمة إذ يطغى عليها فيغرقها طنين العمل المتواصل وعواء كلاب السياسة التي لا تسكت عن نباحها، إن الشرر الضئيل الذي يشعله الغرام لا يمكنه أن يظل على اشتعاله في عاصفة الخوف، ولم يكن منا مَن يشعر بالاستقرار وثبات القدمين إلا قليلون، وتبدَّت لنا أيامنا مسرعة كأنها ظلال عابرة، تبدت لنا أيامنا كأنها محطات في الطريق إلى تكليف بعمل جديد أو إلى زوال مفاجئ، فإذا ما ارتبط الواحد منا بروابط الصداقة مع صديق، فإنه يحس اليأس الذي يحسه المسافرون يتلاقون لحظة قصيرة على رصيف المحطة قبل أن يستقلوا قُطُرهم إلى وجهات مضادة.
على أن هذا لا يروي لك القصة كلها، فلئن بَدَت تلك الأعوام فارغة رغم ما يملؤها من الحوادث الصخَّابة؛ فذلك لأني عشت في خلاء روحي، ولم يعد لي ما تتعلق به آمالي بعد أن فقدت إيماني في «التجربة العظمى»، لم يعد أمامي سوى العمل والأمل الغامض البعيد التحقيق، أعني الأمل في الفرار، فكيف يستطيع إنسان أن يحتفظ لنفسه بكرامة نفسه إذا كان المزاج المتقلب لغر في موسكو، أو هوس موظف في مكتب الحزب أو مكتب الشرطة التابعين للإقليم، يكفي للقضاء على أي إنسان كائنًا من كان بغير إهماله دقيقة واحدة؟ كيف تستطيع أن تتعهد في نفسك الشعور بالكرامة حين ترى ألوف الأعين يترصدك بها الجواسيس الغلاظ الذين كثيرًا ما يكونون ذوي أنفس شريرة؟
لقد مرت بي لحظات غبطت فيها الحياة الزوجية التي كان يحياها بعض زملائي، وتساءلت ألا تكون حياتي أسعد مع زوجة وأبناء، لكن سرعان ما كان يزيل عني ذلك الحسد لغيري تصوري لما لا بد أن يسببه القبض من فزع مخيف للزوج والولد، وكنت في فراغ وقتي القليل أذهب إلى سفردلوفسك حيث الأوبرا والمسرح، وكذلك كنت أقرأ في بعض الفراغ، أقرأ الأدب لمتعة نفسي، كما أقرأ المؤلفات السياسية الاقتصادية؛ لأنها فرض واجب أمام الحزب، فليس لإنسان أن يقصر في متابعة العلم بمبادئ لينين وستالين وماركس وإنجلز.
كانت أسرة «كولبوفسكي» وقوامها قنسطنطين ميخايلوفتش الذي كان في مصنعنا كبير المهندسين، وزوجته الجميلة فيرا وابنتهما نينوتشكا وعمرها سبعة أعوام؛ كانت تلك الأسرة مما يثير في نفسي الحنين إلى حياة زوجية عادية، لأنهم كانوا — فيما يظهر — أسرة متماسكة الأفراد تماسكًا طبيعيًا ليس فيه الحب العنيف، حتى إنه ليستحيل عليك أن تفكر في واحد منهم دون أن يثب إلى ذهنك الآخران، وكنت أزورهم آنًا بعد آن، وأصبحت أُدْعَى عند نينوتشكا الصغيرة بالعم فيتيا، بما يتبع هذه العمومة العاطفية من حقوق وواجبات.
ولما ذهب «كولبوفسكي» إلى موسكو في شأن عمله قرب نهاية الصيف، طلب إليَّ أن أرعى له أسرته، وفي الليلة السابقة ليوم عودته كانت فيرا وابنتها في منزلي يشربان الشاي ويتسليان بأكل «الزاكوسكي»، وكان قنسطنطين ميخايلوفتش قد غاب ما يقرب من أسبوعين فلم تستطع أسرته إخفاء الغبطة والسرور بالتئام الشمل في غد، ولم يدر الحديث إلا في هذا.
وكنت قد دعوت المدير «أوسادشي» ليمر علينا حينًا قصيرًا، فوصلنا بعد قليل، وحيا زوجة كولبوفسكي والابنة الصغيرة تحية بدا فيها اضطرابه العصبي بعض الشيء، بل بدا فيها شيء من النفور، كأنما وجودهما قد أثار في نفسه قلقًا، ولم أهتم بحالته النفسية تلك وحسبتها أمرًا تافهًا ربما نتج عن متاعب العمل، لكنه سرعان ما انتحل عذرًا وانفرد بي في الشرفة، وكانت الليلة لطيفة الجو يعبق في هوائها عطر الصنوبر القوي الذي يفوح من الغابات المحيطة بنا.
فسألني بصوت منخفض فيه حدة: «لماذا لم تنبئني أن أسرة كولبوفسكي ستكون في دارك؟»
– «يا له من سؤال عجيب! وما أهمية ذلك؟»
– «أنت لا تعرف حقيقة الأمر يا فكتور أندريفتش، فالموقف فيه ما يشبه الشذوذ، لأن كولبين قال لي في تكتم شديد …»
– «قال لك ماذا؟»
– «إن أنبأتك فلا تُفْشِ السر لأحد، وقد يكون من المستحسن أن أحيطك بالأمر علمًا، فسيذهب كولبين وعدة من رجال الشرطة السياسية في سفردلوفسك ليلاقوا القطار السريع القادم من موسكو إلى سفردلوفسك غدًا، إذ صدرت لهم الأوامر أن يقبضوا على كولبوفسكي.»
– «هذا مستحيل! مسكينة يا فيرا، مسكينة يا نينوتشكا، لكن ما السبب؟ ما السبب؟»
– «أما عن السبب فلست أعلم عنه ما لا تعلمه أنت، فأنت تعرف كيف تسير الأمور … ويحسن بنا أن نعود إليهما الآن خشية أن يظنا بالأمر سوءًا.»
ولم تمضِ إلا لحظات وتمتم أوسادشي ببعض العذر وانصرف، ولبثت فيرا ونينوتشكا بعده ساعة، وكانتا زائطتين فرحتين قلقتين في انتظارهما للغد، تعدان العدة لرحلتهما بالسيارة إلى سفردلوفسك.
وقالت فيرا ضاحكة: «إن قنسطنطين ليتظاهر لنا دائمًا بأنه لم يتوقع مقابلتنا وأنه دهش أشد الدهشة للمفاجأة.»
وقالت نينوتشكا وهي تضمني من فرط سرورها: «وهل تدري يا عمي فيتيا أن أبي سيحضر لي معه بلا شك عروسة جميلة وكتبًا مصورة وحلوى وغير ذلك من أشياء كثيرة؟ إنه خير أب في هذه الدنيا وسأهيئ له طاقة من زهرات الحقول، أنتقيها بنفسي.»
فحاولت أن أحتفظ بتماسكي وتظاهرت بمشاركتي لهما في سرورهما، حتى استنفد ذلك المجهود كل قوتي، حتى إذا ما غادراني ارتميت في مقعدي مجهدًا؛ لأنني تصورت ما ينتظرهما في الغد، فأحسست بالطعنة حادة في فؤادي، ولم أكن لأفيدها شيئًا بإنذاري لهما بما هو واقع لهما في غد، بل ربما عاد ذلك بالضر على أوسادشي وعليهما وعليَّ جميعًا.
ودق لي التليفون حول منتصف الليل: «فكتور أندريفتش، هذا كولبين يحدثك، هلا أعرتني سيارتك الفورد غدًا؟ لا بد لي من الذهاب إلى سفردلوفسك لأمر عاجل.»
– «آسف يا كولبين لأني أريدها لنفسي.» أجبته بهذا الجواب في غير مجاملة؛ لأنني لم أرد أن تستخدم سيارتي لمثل هذه الغاية البغيضة.
– «لكن لك سيارة أخرى جديدة، أرجوك لا تخلق في الأمر إشكالًا، وعلى كل حال فهذا الاتصال التليفوني بك من قبيل المجاملات؛ لأني استأذنت في ذلك أوسادشي.»
فكان علمي بأن سيارتي قد نقلت ضابطًا من الضباط الذين سيقبضون على صديق في المحطة، مما زادني حسرة على حسرة في صباح اليوم التالي، ولم أستطع أن أبعد عن خيالي ذلك المنظر الحزين حتى وأنا منهمك في العمل، ولم يكن خيالي قد شطح بعيدًا عن الواقع؛ لأن كولبين نفسه أخذ يصف لي ما وقع وصفًا لم يُخفِ فيه غبطته.
وصل القطار إذ كانت الأم وابنتها منتظرتين، وكانتا ترتديان خير ما لديهما من ثياب، تبتسمان في فرح، وتحملان في يديهما طاقات الزهور.
– «هذا هو أبي!» صاحت نينوتشكا بهذه العبارة، ثم أسرعت مع أمها للقاء كولبوفسكي ساعة نزوله من القطار يحمل حقيبتيه، وكان رجلًا وسيم المحيَّا عريض الكتفين ذا شعر كثيف أسود، ولمع وجهه بابتسامة الفرح حين رأى «فتاتيه» — كما كان يسميهما دائمًا — تقتربان منه.
لكن توسط بين الرجل و«فتاتيه» ثلاثة رجال من الشرطة السرية في ملابسهم العسكرية ومسدساتهم في أيديهم، وأبلغوا المهندس أنه مقبوض عليه، فبهت الرجل لما سمع، وأخذوا منه حقيبتيه وعجَّلوا به إلى عربة مغلقة كانت في انتظاره، ولم يمهلاه حتى يحيي ويقبِّل زوجته وابنته، فبكت الزوجة وبكت الطفلة بكاءً بلغ بهما حد الجنون، وصاحبهما في السيارة رجل من الشرطة السياسية ليفتش الدار قبل أن تتمكن «فيرا» من تغيير المعالم.
ولم يجرؤ أحد بعد ذلك على مخالطة زوجة «كولبوفسكي»، وجعل زملاء نينوتشكا يعيرونها بالقسوة المعهودة في الأطفال، قائلين لها: «إن أباك عدو الشعب ولن نلعب معك بعد الآن» في صوت غنائي جمعي، وإني لأذكر والألم يحز في نفسي حين كان الصغار في أيام مضت منذ أمد طويل، يعاكسونني إذ كنت طفلًا في «يكاترينوسلاف»؛ لأن أبي كان سجينًا، وبالطبع أخرجت أسرة كولبوفسكي بعد ذلك من مسكن المصنع.
كان لخبر القبض على رئيس المهندسين أثر عميق في هيئة الموظفين الفنيين جميعًا، وأخذت تشيع الشائعات بشتى ضروبها في أنحاء المصنع كلها، فلأني وثيق الصلة في العمل بكولبوفسكي فقد توقعوا القبض عليَّ بعد قليل، والحق أني لأعجب كيف نجوت، ولست أدري حتى يومنا هذا ماذا وجهوه إليه من تهم، فعمله كان يجمع بين الإتقان والإخلاص، وكان مهندسًا قبل كل شيء، فعلى الرغم من أنه كان عضوًا في الحزب، فقد كان لا يأبه للسياسة.
وعلمت بعدئذٍ أن «كولبوفسكي» قد رُدَّ له اعتباره، بعد أن قضى في السجن بضعة أشهر، بل أعيد إلى عضوية الحزب، وارتقى في مهنته رقيًّا عظيمًا حتى لقد أنعمت عليه الحكومة بالأوسمة حين آن الأوان لذلك، غير أن فترة العذاب التي مر بها قد هدت منه العافية، ولم تعد له حيويته القديمة كما لم يعد له فرحه السابق بالحياة.
إن الأجنبي خارج بلادنا إذا ما أراد أن يجسم سيرة الحياة الشخصية لموظف سوفيتي بحيث يكسبها مظهر الحقيقة البارزة، لا بد له أن يتصور بطانة تلك الحياة في غير غموض ولا خوف، وإنما قصدت البطانة التي قوامها شعب نصف جائع تكسوه الأسمال ويعاني مر العذاب ومرارة الازدراء، شعب حُرِمَ حرياته الأولية سياسية واقتصادية.
قلما يمضي يوم دون أن يأتي إليَّ عامل أو زوجته يشكو لي فقرًا أو مرضًا، وكنت أبذل في ذلك وسعي وإنه لضئيل ضآلة تدعو إلى الإشفاق، فكنت أوفق أحيانًا إلى تحطيم الإجراءات الرسمية لأظفر بزوج من الأحذية أو بحلة من ثياب العمل فأعطيها لمن يستحقها بشكل لا يحتمل إبطاء، كما كنت بين آونة وأخرى أحرك رجال المستشفى تحريكًا إذا ما كانت حياة طفل معرضة للخطر، لكن الشرور كانت أكثر عددًا وأعمق أثرًا من أن يحد منها — ولا أقول يمحوها — موظفون ذوو قدرة محدودة هنا وهناك، وإني إذا ما استعدت صورة الماضي، وجدت أن أسوأ هذه الشرور هو أن آلام الناس كانت أمرًا مفروضًا كأنه ختم مكتوب ليس إلى اجتنابه من سبيل، فهو في ذلك أشبه مثلًا بالطين والبرد القارس اللذين يتبعان المناخ في الأورال.
وعلى الرغم من الإجراءات الرسمية التي كانت تُتَّخذ لربط العمال بأعمالهم حتى لا تضطرب فقد كان ما يحدث من قلقلة في هذا الصدد أكبر من أن يتصوره خيال، ففي مصانعي كان يختفي في كل شهر من العمال البالغين نحو ألف وسبعمائة عدد يتراوح بين مائتين وثلاثمائة، ولست بحاجة إلى ذكر ما كان يحدثه ذلك في استمرار عمليات الإنتاج وكفايتها من الوجهة الفنية.
ولم يكن ليحل المشكلة إلا تحسن حقيقي في ظروف العيش، فليس يدفع العامل إلى حزم متاعه القليل والضرب في مناكب الأرض ليجد عملًا آخر في مكان آخر إلا اليأس، فربما قال له قائل: إن أسرته في مكان ما غير هذا تستطيع أن تظفر بأجر أعلى وقسط من الطعام أوفر، ومسكن أنظف تقيم فيه، لكن سادتنا الجدد آثروا أن يغضُّوا الطرف عن الأسباب في معالجتهم للمسببات، وكانت الدعاوة الحكومية تقذف بالشتائم هؤلاء المواطنين الذين يبحثون لأنفسهم عن حياة خير من حياتهم، فكانت تدعوهم بالنفسيين الهاربين من جبهة العمل، وتقول عنهم: إنهم عناصر قلق واضطراب، والعلاج عندها هو مضاعفة الجرعة من الدواء السوفيتي الذي لا دواء سواه لكافة العلل الاجتماعية: القوة.
واتخذ العلاج صورة «دفتر للعمال» جديد نشروه بين العمال جميعًا، وبدءُوا في توزيعه قبل منتصف يناير سنة ١٩٣٩م بعدة أسابيع، ولو أن قائمة المطبوعات الرسمية قد حددت لتوزيعه هذا التاريخ، وطنطنت الصحف بهذا الدفتر وعدته دليلًا على «نمو الطبقة العاملة ونجاحها وإخلاصها للوطن الاشتراكي الذي ينتمون إليه»، وقد كانت الهيئة السياسية العليا هي التي قررت هذا الدفتر وفرضته على صفوف العمال فرضًا، هؤلاء العمال الذين لم يروا فيه إلا غلًا جديدًا يضيق عليهم سجون حياتهم، ومع ذلك فقد صوروه على أنه سهم شهره العمال أنفسهم ليقاتلوا به «هؤلاء الكسالى الذين يعرقلون مجرى الإنتاج».
وأصبح دفتر العمال للعامل من الصفوف الدنيا بمنزلة تذكرة الحزب لأعضاء الشيوعية، إذ لم يعد له حق ترك وظيفته دون أن يكتب له في دفتره هذا ما يخول له تركها، بحيث لا يكون له الحق في عمل آخر إلا إذا تبين من دفتره إخلاء طرفه من عمله السابق، أضف إلى ذلك أن دفتر العامل كان يحتوي على ما أصاب صاحبه من لوم أو عقاب أو تأخير أو أخطاء في الإنتاج أو غير ذلك من ضروب الخطايا، وبهذا قُضِيَ على العامل أن يحمل معه وزر ماضيه أينما ذهب، فلا أمل له بعدئذٍ في بداية جديدة في مدينة أخرى أو صناعة غير صناعته.
ولقد تحدثت إلى عشرات من العمال والعاملات في مصنع الأنابيب الجديدة أيام توزيع هذه الدفاتر الجديدة، فوجدتهم يمقتونها بإجماع الآراء، وأكثر العمال سذاجة وقلة شأن كان ينظر إلى هذا الدفتر على أنه أحبولة نصبتها لهم الحكومة، فحتى الذين لم يكن لهم نية ترك أعمالهم أخذهم الآن إحساس من وقع في فخ منصوب.
فكنت تسمعهم يقولون لي: «من الذي يفكر في ترك مصنعه إذا وجد حياته على شيء من الراحة؟ ماذا يفرق بيننا الآن وبين عمال الاعتقال الذين يعسكرون ها هنا على مقربة منا؟»
لكن أساليب السوفيت المألوفة لم يكفها أن تفرض هذه الأغلال الجديدة بحيث يتكلف العمال «قبولها عن طيب خاطر»، بل كان لا بد لهم من «التحمس لها»، لم يكفها أن يعاني العمال ضربات السياط، بل كان لا بد لهم من تقبيل السوط قبل أن يهوى عليهم وأن يصيحوا له بالهتاف مهللين، وقامت نقابات العمال «بحملة تعليمية» تبين للناس جمال هذا «النظام» الجديد، فكان رجالها يجمعون العمال ويطلبون إلى من يختارونهم من بين عمال المصنع الذين ينتمون للحزب أن يمدحوا حسنات النظام الجديد، فترتفع أصوات صارخة بالقبول، أصوات أعدتها اللجنة المحلية بالروح التي أملتها عليها موسكو، فيوافق ذلك قبولًا إجماعيًّا لدى الحاضرين.
وقدمت إلى مصنعنا لجنة تفتيشية لتستوثق من أن توزيع دفاتر العمال الجديدة التي أمر بها ستالين قد تم على الوجه المطلوب، فوجدت بين أعضائها رجلًا كان يزاملني في الدراسة أيام المعهد، ودعوته للعشاء في منزلي الخاص، وبينا نحن نتحدث على مائدة العشاء، عرجنا بالحديث على دفاتر العمال، فوجدت زميلي متأثرًا أعمق الأثر لما لمسه في مصانع كثيرة زارها من شعور النفور بين العمال.
قال لي في حسرة: «نعم، إني أخطب خطبًا من نار عن هذه الآية السوفيتية الجديدة، لكني يا فيتيا لا أخرج الكلام من صميم قلبي، فقد بدأ الأمر بتذاكر بوليسية تصرف لأعضاء الحزب، وها هم أولاء يعقبون عليها بتذاكر صفراء للعمال!»
والعجيب أني سمعت هذا الوصف نفسه من رجل آخر، إذ جاءني في المكتب مساعد من مساعدي ليقضي شأنًا من شئون العمال، فقال لي وهو يبتسم: «تستطيع يا فكتور أندريفتش أن تهنئني، فقد تسلمت الآن تذكرتي الصفراء كأني عاهرة من العاهرات …»
ولما وثقت الحكومة الآن من أن أفراد الشعب لم يعد في مقدورهم الفرار، اتخذت خطوة أخرى تجاه «الاشتراكية»، إذ أمرت بمراجعة عامة شاملة للبلاد كلها فيما يختص بمعايير العمل والإنتاج، وكلفت نقابات العمال هذه المرة أيضًا بإثارة الحماسة في النفوس، وبالطبع كان معنى المراجعة في كل الحالات الارتفاع بأرقام الإنتاج، فاجتمع عمال الأقسام المختلفة من جديد، ومن جديد اتخذوا قرارات «بمحض اختيارهم» أن يزيدوا من مقادير إنتاجهم، ولم يكن معنى ذلك سوى انخفاض أجورهم، وراحت الصحف في برفورالسك تتغنَّى بوصف الحماسة العظيمة في هذا الاجتماع، مع أن الحاضرين لم يروا فيه إلا رفعًا آليًّا للأيدي في أخذ الأصوات، وتصفيقًا آليًّا للقرارات.
أما وقد فرغنا من ربط العمال إلى آلاتهم وابتززنا منهم عملًا أكثر لقاء الأجور نفسها، فقد تأهبنا لبرهان آخر هو أكثر الخطوات إذلالًا للنفس ودليلًا على ما وصلت إليه كرامة العمال في ظل الدكتاتورية الشعبية، فقد ثارت عاصفة الدعاوة أول ما ثارت على النفعيين والمتأخرين من العمال، فأعدت محاكمات تأديبية لمحاكمة «النفعيين»، ولو قد هبط من المريخ إنسان في ذلك المكان وذلك الزمان، لما خامره الشك في أننا نحن الروس أمة من المهرجين الكسالى، نظل في مخادعنا الوثيرة حتى ترتفع الشمس عالية في قبة السماء، ولأيقن أن هذا التهريج الذي نبديه فيه تعليل النقائص كلها الضاربة في أحشاء البلاد.
ثم عقبت الدعاوة على ذلك بمرسوم آخر بشأن «تقوية أواصر النظام بين العمال الاشتراكيين»، وأحب أن يدرس هذا المرسوم أولئك الذين يتوهمون أن في الروسيا «ديمقراطية اقتصادية» و«مجتمعًا عماليًّا»، أحب أن يسألوا أنفسهم هل يمكن لعمالهم المظلومين في بلادهم المظلمة أن يحتملوا مثل هذه المعاملة التي جاء بها ذلك المرسوم.
جاء في القانون الجديد أنه إذا تأخر كائن من كان عن عمله أكثر من عشرين دقيقة فإنه يقدم إلى النيابة المحلية بغض النظر عن أي ظرف، ثم يحاكم حتى إذا تبينت إدانته حكم عليه بالسجن أو السخرة، وخشية أن يتهاون الموظفون «الطيبون» و«أحرار البرجوازية الفاسدون» ممن يتولون الأمر في المحاكم المحلية، فقد نص المرسوم على عقوبة بالسجن والتعذيب للموظفين وغيرهم الذين لا يبلغون عن العمال المجرمين، أو الذين يتسترون على «مجرمي» التأخير! ولم يكن من الأعذار ما يقبلونه لغياب العامل إلا مرضه الخطير الذي يشهد عليه أطباء المصنع، أو موت أحد أفراد أسرة العامل، أما أن يكون العامل قد تأخر في نومه، أو عطلته وسائل المواصلات، فليس ذلك من الأعذار المقبولة.
ألا ما أكثر المصائب التي رأيتها تهوي على رءوس العمال التعساء في الأعوام التي اشتغلت فيها بإدارة الصناعة، لكني ما رأيت واحدة منها قد بلغت ما بلغته هذه الضربة من مجاوزة للمعقول ومن إثارة للدهشة العميقة، حتى لقد ظن الناس بادئ ذي بدئ أن هذا المرسوم يبلغ من الجرأة في فظاعة الإجراءات ما يستحيل معه أن ينفذ، لكن سرعان ما رأينا أن ستالين لم يكن هازلًا، وأن عشرين دقيقة كانت هي الحد الفاصل بين عبودية محدودة يعيش فيها العمال «أحرارًا» وبين عبودية كاملة يحشر فيها العامل في زمرة المسخرين.
فكنت أجد على مكتبي كل صباح قائمة بأسماء المتأخرين مع ذكر عدد الدقائق التي تأخرها كل منهم، وكانت ترسل نسخ من هذه القائمة إلى مكاتب الحزب ومكاتب نقابة العمال الكائنة في المصنع، فلم يكن بُدٌّ إذًا من أن أوقع القائمة وأبعث بها إلى المدير الذي يرسلها إلى وكيل النيابة، وما هو إلا أن يُسْتَدْعَى «المجرمون» إلى التحقيق في المحكمة، ولقد تعذر علينا أول الأمر أن نصدق أن الرجل يكون عماد أسرته يكسب لها قوتها، فيحكم عليه بسنة أو أكثر يقضيها في السخرة بعيدًا عن أسرته من أجل هذه الأسباب التافهة، لكننا كنا على خطأ شنيع، فعلاوة على التحذير الذي تضمنه القانون نفسه موجهًا لرجال المحاكم، جاءتهم تعليمات شديدة ألا يعرفوا للرحمة سبيلًا، وقام هؤلاء بواجبهم، ولو أنه لم يستطع إلا قليلون من هؤلاء القضاة ورجال النيابة أن يخفوا شعورهم بعار ما يصنعون.
وكان عدد مَنْ حُكِمَ عليهم في الروسيا إبان الثلاثة الأشهر الأولى نحو مليون من العمال والموظفين، حُكِمَ عليهم بتهمة النفعية أو بتهمة مجاوزة الدقائق العشرين في تأخرهم عن العمل، فكان الآباء والأمهات يُنْتَزَعون انتزاعًا من منازلهم تاركين وراءهم رضعًا يموتون جوعًا أو يعيشون في ملاجئ الأيتام، وكل الجريمة أن العامل قد تأخر في نومه أو أن الطبيب لم يوافق على أن مرضه من الشدة بحيث يعوقه عن العمل، وعلى هذا النحو كان عشرات من العمال في مصنعي يحكم عليهم كل يوم، حتى لقد ارتفعت صرخة عالية من أنين الأسى واليأس، ارتفعت من الثكنات والمنازل التي احتواها الغم، لكنها لم تبلغ من ارتفاع صراخها حدًّا تصل به آذان الهيئة السياسية العليا في موسكو، بل إنها لم تصل بعدُ آذان هؤلاء الحمقى الذين يسعون جهدهم لنشر النعيم الذي تقتضيه هذه «الديمقراطية الاقتصادية» بحيث يشمل بلادًا أخرى وشعوبًا أخرى.
جاءني عامل خراط تقدمت به السنون، وكنت أعلم أنه عامل كفء نشيط، جاءني باكيًا فعرفت شكواه قبل أن ينطق بكلمة واحدة، إذ كنت قد رأيت اسمه في القائمة الحزينة اليومية.
قال لي معترفًا: «تأخرت ثلاثين دقيقة لكني رجل كهل، لقد عملت هاتان اليدان أربعين عامًا، فما مصير زوجتي وأبنائي؟ العون العون يا رفيقي المدير!»
– «ولماذا تأخرت؟»
– «كان بي وجع شديد في أسناني سهَّدني طول الليل، ولم أنم إلا قرب الصبح، فلم أستيقظ في الموعد المضروب، وهرولت إلى المصنع لم أكد أتم ارتداء ثيابي كأنما الشياطين كلها تتعقبني لتمسك بي، ومع ذلك فقد أخطأت الموعد!»
– «أنا أصدقك فيما تقول يا رفيق، لكن ليس لي في الأمر خيار؛ لأني إذا ما حذفت اسمك من القائمة، كان عقابي السجن، وكل ما أستطيعه أن أبعث بمذكرة للطبيب لعله يعينك.»
وكتبت المذكرة للطبيب، لكن الطبيب بالطبع لم يشأ أن يلقي بنفسه في التهلكة؛ ولهذا أرسل العامل الكهل إلى المحكمة.
وجاءت عاملة ودفعت أمين السر من طريقها واندفعت داخل مكتبي وهي تبكي على نحو ما يبكي نساء الريف في صوت مرتفع.
فقلت لها محسنًا لقاءها: «اجلسي واملكي زمام نفسك.» وتبين أنها تأخرت نحو ساعة كاملة وأنها استُدْعِيَت بالفعل إلى المحكمة، وكانت أرملة تعول طفلين: ابنة عمرها أحد عشر عامًا، وأخرى عمرها عامان، تعولهما بعملها في المصنع، وكانت كبرى الابنتين مريضة كما روت لنا، واستدعت لها الطبيب، فما فرغ الطبيب من فحص المريضة إلا وقد فات موعد العمل.
فوعدتها أن أتصل بالطبيب في هذا الشأن، لكن الطبيب لسوء الحظ لم يكن رأيه أن البنت كانت من حدة المرض بما توهمته أم تحب ابنتها؛ ولذلك لم يكن في وسعه أن يشهد مخلصًا أن مرض الابنة يبرر تأخير الأم عن العمل، وصدر الحكم على الأم بأن تظل عاملة في مصنعنا، لكن على أساس السخرة.
وفي حالة أخرى قال العامل مدافعًا عن نفسه أنه لا يملك ساعة منبهة، وأنه يستيقظ في العادة على ضوء الشمس، ولما كان اليوم شاذًّا في ظلمته وكثافة سحابه فقد انتهى به الأمر إلى زلته، لكن هذا الكلام لم ينجه من جريمته.
ولم يخامرني شك في أن مقاومة التأخر عن العمل لم تكن سوى غاية واحدة من الغايات التي يرمى إليها المرسوم الجديد، أما غايته الأخرى التي ربما كانت أهم وأخطر، فهي أن يزيدوا من العاملين بالسخرة، فكانت لدى المحاكم تعليمات خاصة، وأخذت عجلة «العدالة» تدور في نشاط لا يفتر، بحيث كان يدخل العمال الأحرار ساحاتها من طرف، يدخلونها بعشرات الألوف ومئاتها، ثم يخرجون من طرفها الآخر وقد وُسِمُوا بميسم السخرة.
وشاءت الأقدار أن تجيء هذه الإجراءات التنظيمية القاسية التي اتخذوها إزاء أفراد الشعب فحطموا بها آخر أثر بقي لهم من كرامتهم الإنسانية، شاءت الأقدار أن تجيء هذه الإجراءات القاسية في شتاء بلغت قسوة زمهريره حدًّا جاوز المألوف، وجعل العمال العبيد التابعون لجماعات الشرطة السياسية في إقليم أورال يعملون في العراء رغم هذا البرد الشديد، يأكلهم الصقيع، وتفري العلة أجسامهم، وينالهم ما ينالهم من تشويه، وكثيرًا ما لاقى الرجال والنساء في معسكرات الاعتقال القريبة منا حتوفهم بفعل البرد إذ هم يعملون في الغابات أو يقيمون في ثكناتهم أو أكواخهم الطينية وراء الأسوار الشائكة، وهي ثكنات وأكواخ ليس فيها من عوامل التدفئة شيء، ولقد بلغ العذاب في ثكناتنا مبلغًا شديدًا، وعلى وجه الجملة لم تكن برفورالسك بالمكان الذي تبدو فيه علائم البشر بما نزهى به من «عمل اشتراكي».
لذلك رحبتُ بما علمته من نية أولى الأمر في موسكو أنهم ربما نقلوني إلى مهمة أخرى، فلم يكن يفارق الإنسان وهمه بأن الحالة في غير مكانه — إن لم تكن أحسن — قد تكون أقل حلوكة وسوادًا.
لبثت صناعة التعدين عدة أشهر ترتجُّ ارتجاجًا بما يجيئها من تقارير عن مشروع ضخم لخراطة الأنابيب يقام في سيبيريا — وعلى وجه التحديد في ستالنسك (التي كانت تسمى كوزنتسك) — حيث كانت بالفعل بعض المشروعات الجديدة الضخمة قد بدأت عملها، وهذا المشروع الجديد قد يكلف مبلغًا يزيد على مائة مليون روبل، وكما هي العادة في السوفيت أخذت أبواق الدعاوة تملأ الدنيا ضجيجًا عن المشروعات قبل إنشائها بزمن طويل، ولقد تصادف أني سمعت بتلك التقارير وقرأت بعض ما تقوله الدعاوة، لكني كنت أسمع وأقرأ دون أن أهتم للأمر اهتمامًا شخصيًّا، ثم ما هو إلا أن تركز الأمر كله في بؤرة تمس شخصي من قريب؛ ذلك أن رياسة الصناعة العليا في موسكو واللجنة المركزية للحزب قد وقع اختيارهما عليَّ — بغير استشارتي فيما أحب وما لا أحب — لأتولى إدارة المنشآت الجديدة كلها للمصنع الذي سيقيمونه في ستالنسك.