أكذوبة سيبيريا
أعلنت صحيفة «في سبيل التصنيع» بموسكو في اليوم الثامن عشر من شهر فبراير سنة ١٩٣٩م تقول: «قرر الرئيس الأعلى لصناعة تعدين الحديد أن يكون الرفيق «ف. أ. كرافتشنكو» مديرًا لمصنع التعدين الذي تقرر إنشاؤه في مدينة ستالنسك.»
وكان المقصود بذلك هو المشروع الجديد في ستالنسك بسيبيريا الذي وضعت خطته على أساس أن ينتج مائة وسبعين ألفًا من أطنان أنابيب الصلب كل عام، والمشروع من الضخامة بحيث أشار إليه مولوتوف نفسه إشارة تستلفت النظر في خطابه الذي أعده للمؤتمر الثامن عشر الذي سيعقده الحزب الشيوعي، والذي قال فيه: إن إنشاء ذلك المشروع سيبدأ بعد قريب وستبدأ أول أقسامه في عملية الإنتاج عام ١٩٤١م.
ولأن يُذْكَر اسمي مقرونًا بهذا المصنع الجبار الذي اختصه مولوتوف بالإشارة — وإذا قلنا مولوتوف فقد قلنا كذلك ستالين — فذلك أحاطني بهالة من المجد بين عشية وضحاها، وأعلن تعييني على الناس باعتباره جزءًا من المشروع الذي سيقدم لهيئة «المؤتمر»، وذلك الإعلان في ذاته أهم من المنصب نفسه؛ لأن معناه أني قد «وصلت» وأصبحت في المراتب العليا من أرستقراطية الاقتصاد والسياسة، وسرعان ما تذكر أصدقائي ومعارفي الذين كانوا يجتنبونني أيام محنة التطهير، سرعان ما تذكروا أنهم كانوا يعرفونني فتسابقوا إلى التعبير لي عن زهوهم بنجاحي، وكان أمامي عمل كثير أنجزه في موسكو استعدادًا للعمل في سيبيريا، فخُصِّصت لي غرفة جميلة في موسكو بفندق متروبول على نفقة الحكومة، وصُرِفَ لي مبلغ كبير من المال، وكان في وسعي أن أظفر بما شئت أن أظفر به، الله! ما أعظم أن يكون الإنسان مقربًا لدى اللجنة المركزية العليا! الحق أن أوضاع الدكتاتورية كلها تبدو لعينك في صورة مغايرة، إذ تبدو أقل كآبة وأقل طغيانًا إذا ما نظرت إليها من مكان تختاره إلى جانب القمة.
لا شك أن هذه هي الفكرة التي كانت تطوف برأس والدي حين حذرني جادًّا بعض الشيء ساخرًا بعض الشيء ألا أفقد الصلة بغمار الشعب ما دمت قد أصبحت واحدًا من «العلية أصحاب النفوذ»، إذ قال لي في خطابه: «لا تدعهم يشترونك بالألقاب والأوسمة»، فكان مما أدخل الطمأنينة إلى نفسي أن أرى هذا البرهان قائمًا على أن الأيام لم تضعف من موقفه إزاء أصحاب النفوذ، ولو أنه غيَّر موقفه لأن ابنه قد بات واحدًا منهم لأيأسني ذلك من أبي.
ولما نشرت الصحف المحلية في بلدي خبر تعييني، عرفت أمي معرفة اليقين أن محنة اضطهادي قد أدبرت عني إلى غير عودة.
وكتبت إليَّ تقول: «أدعو الله يا ولدي العزيز أن يهبك العافية وحسن الحظ والتوفيق، وحاول أن تنسى ما قد صادفته من إساءة، أرسل ناظريك أمامك، وابذل وسعك يا ولدي العزيز في سبيل وطننا المحبوب وبني وطننا، أما نحن فنعيش كما عهدتنا دائمًا، ولا تؤاخذني إن طلبت إليك — إذا ما شاءت الصدفة أن تجيئنا زائرًا — أن تحضر لنا معك ما استطعت إحضاره من موسكو من المواد الدهنية والسكر والشاي والسمك … ليس هنا شيء من ذلك وا أسفاه! وما كنت لأذكر هذه الحقيقة لولا ما وصلت إليه الحالة من سوء بشع فظيع.»
وجاء خطاب أبي مؤيدًا لخطابها، فقال في عرض حديثه كأنما يقول عرضًا: «لقد قيل لنا يا بني إننا قد خلقنا لأنفسنا «حياة سعيدة»، ولكن لا تضللنَّك هذه الأقاويل بحيث تتردد في إحضار زوج من الأحذية لأمك إن وجدت، فلعل «الحياة السعيدة» قد أخطأت دنيبروبتروفسك.»
على أن منزلتي الجديدة بوصفي موظفًا وثقت به الدولة، لم تنجني طبعًا من الإجراءات المألوفة التي يقوم بها رجال الشرطة السياسية، فما أكثر ما أرى عند عودتي للفندق علامات تدل على أن حقائبي وخزانة ملابسي قد فُتِّشت تفتيشًا دقيقًا مرةً أخرى، ولقد حاول معارفي الجدد — كما هي الحال دائمًا — أن يورطوني في مناقشات سياسية خطرة، لكن لحسن حظي كنت قد تعلمت كيف أشم رائحة الخطر، وهي حاسة سادسة نشأت في طبيعتي خلال الجلسات الليلية التي عانيتها في نيقوبول، وأصبحت هداية لي تجعلني أزم شفتيَّ عن الحديث إذا ما بدت على الناس شدة الرغبة في فتح آذانهم.
كذلك تعلمت أن أصون عزوبتي من أنظار النساء اللائي يقمن في الفنادق الغالية واللائي أطلقنا عليهن «سيدات ليوبيانكا» — وليوبيانكا هو اسم مقر الشرطة السياسية في العاصمة — فهؤلاء الغانيات قد اختارهن خبراء بأجسام النساء، ووُضِعْنَ هناك في ثياب أنيقة، منها معاطف الفراء الفاخرة، على حساب أفراد الشعب الذين لا يرتدون إلا هلاهيل، ومَنْ كانت تستطيع من هؤلاء النساء أن تتمتم ببعض اللغات الأجنبية تخصصت في غواية الأجانب من ساسة ومهندسين أمريكان وألمان ومراسلي صحف، وأما الأخريات فقد كُنَّ يسقطن على من يرونه وحيدًا من رجال الحكم الذين بلغت بهم المنزلة العالية حدًّا يسمح لهم بالسكنى في الفنادق الكبرى.
ولأضرب لك مثلًا ليلة كنت قد أويت فيها إلى غرفتي لأقرأ صحيفة صناعية، فدق التليفون وكان المتكلم صوت امرأة تعاتب: «يا بيوتر إيفانوفتش، لماذا لم تحيِّني عند انصرافك؟ أنا في غاية الشوق إليك يا حبيبي.»
فأجبتها في برود: «آسف لأن هذا الاسم الذي تذكرينه ليس في هذه الغرفة.»
– «كفى مزاحًا يا بتيا، كأنني لم أعرف صوتك!»
– «لست أنا «بتيا» الذي تقصدين، عني نشدتك الله.»
– «صحيح! لا بد أن تكون في صحبة فتاة سواي، وإذن فسأحضر إليك لأرى بنفسي.»
وطرق الباب طارق بعد عشرين دقيقة، وإذا بي أرى عند الباب غانية ممشوقة ضامرة شقراء تستوقف النظر بلونها الأشقر، وكانت تلمع قطرات الثلج على قبعتها الفرائية المغرية، ولما رأتني تظاهرت بالدهشة لكنها ابتسمت ابتسامة حلوة وقالت: «هل عاد بيوتر إيفانوفتش إلى بلده؟»
– «اسمعي يا زغلولتي، إني أسكن ها هنا وليس في المكان من يُدْعَى بيوتر إيفانوفتش فهلا تركتني؟»
– «لكن فيمَ هذه القحة يا عزيزي؟ إن رجلًا وسيم الطلعة مثلك يجب أن يكون أكثر أدبًا في حديثه مع امرأة جذابة مثلي.»
– «أنا مشغول فاعذريني، ولا بد لي من أن أقول لك اذهبي مع سلامة الله.»
– «أعوذ بالله! ما أكثر ما تخدع المظاهر … إنك لتبدو بمظهر السيد الرقيق الأصيل ومع ذلك فلا تكلف نفسك العناء بحيث تقدم لسيدة مقعدًا.»
– «اذهبي مع السلامة.» قلت لها ذلك في حزم وأنا أقفل الباب، ثم لم أملك سوى أن أقول لها: «إن أساليبك لم تبلغ بعد حد الإتقان ويلزمك كثير من مران.»
وأتيح لي أن أزور أسرتي في دنيبروبتروفسك على حساب الحكومة؛ لأني اضطررت إلى الذهاب إلى هناك للتشاور مع بعض موظفي صناعة التعدين في ذلك البلد، وحجز لي ديوان خاص في عربة الدرجة الأولى، وهي ما يسمونها بالعربات «الدولية»، وكنت حسن الهندام أتمتع في سفري بما يتمتع به رجال الطبقة الممتازة من وسائل الراحة، فيستحيل أن يراني أحد من أهل بلادنا إلا ويدرك من لمحة واحدة أنني بيروقراطي ذو منصب رفيع، ولهذا وقف مني فارز التذاكر موقف الذليل الضارع، فضاق صدري لذلك إذ رأيت نفسي رمزًا للتفاوت بين الناس، وهو نفس الشيء الذي كنت أمقته وأزدريه.
وكانت العربات «الناشفة» أو عربات الدرجة الثالثة في الطرف الآخر من القطار، فيما وراء عربة الأكل «الدولية» التي كنا بها، مزدحمة بأجساد بشرية تكتلت على مقاعد الخشب، ودفعني حب الاستطلاع إلى السير خلال تلك العربات، فرأيت في أعين الناس نظرات التقريع، بل نظرات الكراهية لما ترى فيَّ من علامات الاحترام، وكلما وقف القطار في محطة على الطريق، وخرجت أريح ساقي، خُيِّل إليَّ أني ألمح نظرات الكراهية عينها من الفلاحين المهلهلين الذين كانوا يبيعون الخضر والسمك المقدد واللبن.
وما مضى طويل وقت حتى دخلنا أوكرانيا وهي موطني، فخُيِّل إليَّ أن سهول الأرض نفسها كانت أحنى قلبًا من أقاليم الروسيا في الشمال، لكن قلبي كان يتقلص من الألم كلما وقعت عيني على مشاهد البؤس والفقر بادية في كل مكان.
ولما دخلنا محطة بعد خاركوف كنت في عربة الأكل إذ ذاك فأفزعني أن أرى وجوهًا صغيرة كثيرة تسترق النظر خلال النافذة بأعين حاسدة جائعة حزينة، وإن كانت تلك الوجوه لأبناء السبيل من أولاد وبنات في خرقهم البالية المرقعة، تنظر محدجة في أحد «أعمامهم الاشتراكيين»، إذ هو مطمئن في بحبوحة السادة مستظل بدكتاتورية الشعب.
هذا يحدث في أوكرانيا، التي كانت في ماضي السنين لا تكفي أهلها بطعامها فحسب، بل كانت ترسل الطعام إلى شطر عظيم من أوروبا! فدفعت حسابي مضطربًا، إذ اشتملني غم مفاجئ، وأسرعت خارجًا من عربة الأكل، فما أبعد الهوة بين الروسيا كما تصورها الدعاوة وأرقام الإحصاء، والروسيا كما هي لحمًا ودمًا! ما أغرب العقل البشري من آلة في مقدورها أن تقيم بينها وبين الواقع سدًّا منيعًا من انتصارات مكتوبة على الورق وعبارات خالية من المعنى!
وخرجت مرة أخرى في محطة سنلنكوفو لأمشي قليلًا في البرد الذي يبعث القوة والنشاط، فلاحظت عند باب غرفة انتظار الدرجة الأولى شرطيًّا يقذف منها أسرة ريفية، الرجل وزوجته وبضعة أطفال، وكلهم مثقل بحمل من المتاع المحزوم، قائلًا لهم: «مكانكم هناك أيها المواطنون، في غرفة انتظار الدرجة الثالثة.» فساروا عن المكان في خضوع الأذلاء، فما خطر ببالهم، ولا خطر ببال الشرطي، إن ناسًا كهؤلاء الذين يراهم العمل قد يجوز لهم أن يقتحموا حرم الدرجة الأولى، في مجتمعنا هذا الذي «لا يعرف الطبقات».
وجاء عدد من الفتيات في طليعة الشباب، عليهنَّ ملامح الريف وجماله، يغطي وجوههن النضرة شيلان ملونة، جئن ليقابلن القطار، فلا شك أن مرور القطار كان من غرائب الحياة التي تهز النفس في بلد ريفي مثل سنلنكوفو، فأخذت الفتيات في اضطراب المشدوهات تتطلعن خلال نوافذ الدرجة الأولى، تتضاحكن وتتغامزن، فربما كان يطوف برءوسهن أحلام بأن أميرًا جذابًا من ركاب الدرجة الأولى ذوي المكانة الممتازة قد تقع عيناه على إحداهن، فيقع في غرامها من فوره، فيخطفها إلى موسكو أرض الأحلام.
كانت محطة دنيبروبتروفسك نظيفة مرتبة، وكان في انتظاري على الرصيف المزدحم الصاخب أخي قنسطنطين وزوجته، ولم أكن قد رأيتها — وإنها لعضو أضيف حديثًا إلى أسرتنا — لأني غبت عن البلد فترة تزيد على عام كامل، فضممتهما وقبَّلتهما، وقد ساعداني في حمل اللفائف الكبيرة التي جئت بها من العاصمة بما تحتوي عليه من طعام وثياب، وسرعان ما كنا في طريقنا إلى الدار، المتاع في عربة، وثلاثتنا في عربة أخرى، فما أحلى أن تقع عيناي من جديد على ما ألفنا من شوارع المدينة وميادينها ومبانيها وقد غطتها طبقات من الثلج، وسأظل إلى الأبد أذكرها في هذه الصورة.
وضحك قنسطنطين وقال: «ما شاء الله يا فيتيا، إنك لتبدو في مظهر نسر حقيقي من موسكو، مظهر ستالين صغير التزم الدقة ليبدو في مظهر مقصود، ألم أقل لك يا «كلافا» إن أخي رجل له أهميته وسطوته؟»
وخُيِّلَ إليَّ أني ألمح نغمة الجد وراء هذا المزاح، فقد كان أخي كلما تقدمت به السنون يزداد شبهًا بأبي؛ إذ كان له مظهره الوسيم الجميل القسمات الضامر الجسد، كما كانت له طريقته في السخرية.
– «فيمَ قولك هذا يا كوتيا؟»
– «لا يسيئنَّ قولي إليك يا أخي الصغير، فأنت تبدو في مظهر فاخر باهر في عينيَّ الريفيتين، أو ماذا أقول؟ ربما كان ما أراه نظرة الطمأنينة التي تبدو على زعماء الشعب بعد أن ينفقوا أعوامهم في إنكارهم لذواتهم …»
وهنا قاطعته زوجته قائلة: «كفى يا كوتيا، إنك تنتظر قدوم فكتور أندريفتش كأنك ترتقب بقدومه حبيبة فؤادك، حتى إذا ما جاء كان أول ما تصنعه إزاءه أن تهاجمه.»
– «اذكري أي حبيبتي كلافا أن هذه أول مرة، وقد تكون آخر مرة، تتاح لي فيها فرصة الهجوم على ستالين صغير على مسمع منه!»
وضحكنا جميعًا، ولما كنت أعرف أخي بطنًا لظهر فلم أستخف بمزاحه كما استخفت به زوجته، وقد كنت أعلم أنه يحبني حبًّا عميقًا، فنظر إليَّ وكأنه قرأ ما يدور في رأسي من خواطر، فضغط على ذراعي ضغطة الحب كما كان يفعل حين كنا في مدارج الطفولة، ولم تكن سخريته المرة مسددة نحوي أنا، بل نحو فصيلة البيروقراطيين التي تشعر بعلو مكانتها وتستمتع بالحياة المترفة ولا تسمح لشعاع من عاطفة أن يتسلل إلى قلوبها الباردة، وإنه ليُخَيَّل إليَّ أن أخي إنما كان يردد روح التشاؤم الساخر الذي تغلغل في حياة الطبقات العاملة.
كان قنسطنطين في ثباته الرزين يمثِّل من وجوه كثيرة الرجل الروسي المثقف، فقد قاوم كل ما لقيه من ضروب الضغط التي كانت تغريه بالانضمام للحزب، لكنه كان عميق الحب للوطن وبنيه، حتى لقد أصر بعد ذلك بأعوام حين هاجم الألمان بلادنا، أن يكون في طليعة من يذهبون إلى ميدان القتال، وانتهى به الأمر — وهو في رتبة الضابط — أن يسلم روحه دفاعًا عن روسيا، فلتقل الصحف ما شاءت من بسالة أمثال هؤلاء الرجال، ولكني كنت على يقين — حين سمعت بالخبر وأنا في موسكو — أن أخي لم يقاتل ولم يسلم الروح في سبيل ستالين ونظامه، بل في سبيل أمته وبلاده ما قاتل وما أسلم الروح.
ترى هل كان يتنبأ بما كُتب له وللملايين في لوح القدر؟ لقد قال لي إذ نحن نتحدث أثناء زيارتي تلك: «إن الوطن يا «فيتيا» شيء، وما يسوده من نظام سياسي شيء آخر … فلا يخلطنَّ أحد بين هاتين الحقيقتين.» ولم آبه إلا قليلًا بقوله هذا حين قاله — ولو أنه قول فيه تعبير عما كنت أحسه أنا أيضًا — لكن هذا القول أخذ يعاودني بعدئذٍ آنًا بعد آن ولم ينقطع عني.
وجدت والدي كليهما قد بَدَتْ عليهما الكهولة مذ رأيتهما آخر مرة، ولقد كانا أحسن حالًا من جيرانهما؛ لأن ثلاثة أبناء يمدونهما بالمعونة المالية، ومع ذلك فقد تعذر عليهما العيش، إذ استحال عليهما — حتى مع وجود المال — أن يحصلا على نوع الغذاء الذي يصلح لهما في سن الشيخوخة، أضف إلى ذلك أن أبي كان يحس الألم في بدنه وأعصابه كلما سمع بضربة من الضربات التي أخذت تتوالى على العمال: دفاتر العمال، ومرسوم التأخير، والمعايير التي ارتفع منسوبها، وازدياد السخرة في العمل، فقد ظل أبي طوال حياته يدمج نفسه في غمار الشعب دمجًا تامًّا بحيث إذا ما أصاب صفوف الشعب أي إذلال أحس الألم هو كذلك في صميمه، على الرغم من أنه كان بمنجاة من الخطر.
وبدا الهزال على أمي أكثر مما بدا على أبي حتى لقد تحطم قلبي من أجلها؛ لأن طيبة قلبها كادت تبرز حتى تلمسها الأيدي، ولقد أشرق وجهها بطيبة قلبها، وازداد جمالًا بها على نحو يستحيل على الألفاظ أن تعبر عنه، ولطالما راقبتها بغير ملل وهي مشتغلة بإعداد طعامنا أو معنية بأفراخ عشها وكلهم رجال راشدون، وكم سرَّني أن أرى المصابيح لم تزل مضيئة تحت ما علقته على جدرانها من رموز دينية؛ لأني ما فتئت محتفظًا بذكرياتها منذ الطفولة، فكأنما تنهض تلك المصابيح المضيئة دليلًا على أن أمي لها مصدر عزاء لا ينضب معينه، لقد كانت شديدة الإيمان بأن دعواتها هي التي أنقذتني من التطهير الأعظم ولم أشأ أن أنقض لها رأيها.
وصل مع المساء أخي يوجين وزوجته، فكان التئام شملنا جديرًا بأن يظل مذكورًا على الدهر، وأما أبي الذي لم تعلمه الأيام أبدًا أن يسترخي للراحة استرخاءً تامًّا ناسيًا الدنيا ومتاعبها، فقد حاول مرة بعد مرة أن يحدثنا في السياسة، لكن أبناءه الثلاثة الأصلاب استطاعوا أن يكبحوا فيه هذا الاتجاه يومئذٍ، وكانوا في ذلك على حق؛ لأن ما يستحق الحديث غير السياسة كثير، فزوجة قنسطنطين مهندسة وزوجة يوجين معلمة، وهكذا كنا جميعًا نمس الحياة اليومية الغليظة عن كثب.
وفي اليوم التالي ذهبت لقضاء عملي في مصنع لينين، فوجدت هيئة الموظفين الإداريين فيه جديدة كلها، ولم أكن من الغفلة بحيث أذكر «بيرمان» أو «إيفانتشنكو» أو غيرهما ممن كانوا في الماضي على رأس هذا المشروع الصناعي العظيم، لا بل إن «بتروفسكي» الذي كان اسمه مرتبطًا باسم لينين في تسمية هذا المصنع، قد أصبح اليوم اسمًا لا يجوز ذكره، لكني وجدت بين عمال المصنع رجالًا عرفوني من عشر سنوات أو خمس عشرة سنة، فحيوني تحية الود وتجمعوا حولي.
قال لي أحدهم: «لقد خلَّفت لنفسك اسمًا يا فكتور أندريفتش، وإني لفرح لك من كل قلبي.»
وضحك آخر وقال: «نعم، إن ابن كرافتشنكو الكبير سيظل يرقى حتى يصبح وزيرًا للشعب مع الزمن.»
لكني قبل أن أغادر المكان تحدث إليَّ رجلان ممن تقدمت بهم السن في لهجة الجد؛ لأنهما لم يكونا مغمومين بالقوانين الجديدة فحسب، بل أحسا إهانة شخصية عميقة الأثر.
وتنهد أحدهما «لارين» وقال: «إننا اليوم مغلولون إلى آلاتنا كما كان أجدادنا مغلولين إلى الأرض في ظل عبودية النظام الإقطاعي، إن الحياة مُرَّة يا فيتيا، وهي سائرة في كل يوم إلى ما هو أسوأ.»
– «نعم قل لنا — وقد أصبحت اليوم من علية القوم — متى نبدأ آخر الأمر في العيش كما يعيش البشر؟ لقد طال بنا الانتظار الآن مدى اثنين وعشرين عامًا.»
فماذا كان في وسعي أن أصنعه لهم سوى أن أكرر العبارات المكرورة التي تنشرها الصحف في افتتاحياتها كل يوم؟ على أنه من حسن حظي أن هؤلاء الناس لم يكونوا يسألونني لأجيب؛ لأنهم كانوا يعلمون أنني مكتوف اليدين مثلهم، فلم أكن سوى ترس آخر في الآلة نفسها التي هم من تروسها، والفرق هو أني ترس أكلف الدولة مالًا أكثر.
ولما عدت إلى الدار وجدت أبي في انتظاري، فما كان ليرضى أن يحرم نفسه متعة حديث جدي نظري مع ابنه الذي ورث دون سائر أبنائه قليلًا من حماسته للسياسة، وفضلًا عن ذلك فأظن أنه اعتبره واجبًا أبويًّا مقدسًا أن يهديني سواء السبيل، فقد كان خوفه الأكبر أن تستهويني السلطة بإغرائها كما استهوت سواي، بحيث أخون الطبقة التي نشأت منها لأغذي بلحوم أبنائها أجواف الدكتاتورية.
فطمأنته في هذا الصدد، وأخذنا نتحدث ساعات؛ لأنه كان في حقيقة الأمر واحدًا من عدد قليل جدًّا من الناس أستطيع أن أنقض لهم جملة نفسي الجريحة دون أن أخشى الوشاية، كان شعور أبي إزاء الحوادث التي أخذ يرقب مجراها شعور من خاب رجاؤه، أما أنا فقد جاوزت ذلك الحد بشعوري؛ لأن ريبتي قد تبلورت في كراهية عميقة للحكام الجدد، وازدراء شديد لما يثرثرون به من أحاديث الاشتراكية، وخوف من آلات إرهابهم التي يصبون بها ميلهم إلى إيقاع الأذى.
– «ولست وحدي أشعر هذا الشعور يا أبت، إن حركات التطهير التي قام بها ستالين لم تكسبه شيئًا، نعم إن فئة كبيرة من الطامحين قد اندفعوا إليه يقسمون بين يديه الولاء والإخلاص؛ كي يملئوا المقاعد الوثيرة التي خلت بموت من مات وسجن من سجن، وإذن فهم مدينون بمناصبهم هذه إلى حركات التطهير، لكن أعداء ستالين لا يزالون كثرة بين أعضاء الحزب، نعم، حتى لتراهم منبثين في كل مكتب وكل مصنع بل في الكرملن نفسه؛ لأنك يستحيل أن تقتل كل هذا العدد من الناس دون أن تترك أثرًا داميًا يدعو إلى الكراهية ويحفز على الرغبة الشديدة في الانتقام.
ولا شك كذلك أن حول ستالين الآن جيلًا جديدًا من الشيوعيين الذين يعتقدون حقًّا أن كل أسلافهم كانوا خونة وأعداء للحزب؛ لأنهم لا يعرفون إلا هذا، ولا يجرؤ أحد أن يصحح لهم ما يعلمون، هؤلاء هم الذين يحبونه ويثقون فيه ولا يترددون في المغامرة بأنفسهم في الأهوال من أجله، إنهم قوة ستالين، لكنهم مأساة الروسيا.»
وهنا عادت الذكريات بأبي إلى شبابه الثائر، وتساءل: ماذا جرى للشعب الروسي؟ ألم يعد في الروسيا شباب تلتهب صدورهم بالمثل العليا وتدفعهم الشجاعة إلى الاحتجاج؟
فقلت له: «إن منا لعددًا كبيرًا يود لو استطاع أن يفصح عما في نفسه ويصيح للعالم بما يدور في رأسه، لكننا نعلم أن ذلك مستحيل؛ لأن الموت يسارع إلى من يحاول ذلك فلا يمهله حتى ينجز ما يريد، ولا يستطيع أن يقول الحق إلا القليلون الذين يفرون إلى خارج البلاد، أما هنا في بلادنا فالإرهاب شامل كامل بحيث لا يدع ثغرة لمثل هذه المحاولة.»
وهنا وقفت عن الكلام برهة ونظرت إلى عيني أبي، ثم قلت: «إذا كتب الله لي أن أغادر البلاد يومًا يا أبت، وصممت على التعبير عما يجيش في نفسي بأعلى صوتي، فهل تعلم ماذا يحدث لك ولأمي؟»
كان حلم الفرار يتزايد في عقلي وقلبي.
لقد تاقت نفسي إلى اطِّراح النير عن عاتقي، لا من أجل نفسي فحسب، بل كذلك في سبيل الوطن الذي أحببت وفي سبيل بنيه، أإذا استطعت أن أنبئ العالم الخارجي بالحقيقة المخيفة كاملة، أيمتنع عن الإنصات إلى ما أقوله واستيعابه؟ إني لأشك في أن حلمي قد اتخذ صورته المحدودة في تلك اللحظة، ومع ذلك فهذا السؤال الذي ألقيته على أبي يدل على أن الأمر كان لا يزال يتخمر في أعماق نفسي.
وأجابني والدي: «لا يأخذنك الهمُّ إشفاقًا علينا، إننا شيخان قد عاشا ما كُتِبَ لهما من حياة، فاعمل دائمًا ما تراه واجبًا يا فيتيا، ولا شيء غير هذا ينبغي أن يكون له عندك حساب، إن من التوافه أن تحس أنت الألم، فآلم منه أن تعلم أنك سبب في إيلام الناس الذين يقعون من قلبك موقع الحب، وإني على ما أقول يا بني لشهيد، وإلا فهل تظن أن قد كان هينًا عليَّ أن أذهب إلى السجن تاركًا ورائي زوجة عزيزة وأطفالًا يعبث بهم الجوع؟»
ولما غادرت دنيبروبتروفسك صحبتني أمي إلى موسكو، ولم توافق على صحبتي هذه إلا بعد نقاش طويل ومحاولة الأسرة كلها إقناعها بالرحلة، إنها لم تر العاصمة قط، وقد سرني جد السرور أن يتاح لي مرافقتها في زيارة العاصمة زيارة الوجهاء، وكذلك قصدت باصطحابها أن أهيئ لها عطلة تستريح فيها من واجباتها في الدار، وعلى الرغم من تأكيدي لها أننا واجدان في عربة الأكل بالدرجة الأولى وفرة من طعام، فقد شحنت حقيبة ملابسها بمئونة من زاد للرحلة.
وكادت تصعق أمي لما في العربة «الدولية» من ألوان الترف، وللغرف الأنيقة التي حجزت لنا في فندق موسكفا، ومكثنا قرابة أسبوعين، جعلت خلالهما أنظر إلى موسكو بعيني أمي اللتين لم تفسدهما العادة، فرأينا مسرح الفن في موسكو ومسرح مالي، والغناء والرقص، ومشاهد الرياضة في ملعب دينامو، ومعارض الفنون، ومتنزه الثقافة والاستجمام وكانت «إيرينا» تصاحبنا عادة، وهي سيدة عرفتها منذ شهور.
وسألتني أمي بغير مناسبة ذات مساء إذ نحن جالسان في مطعم الفندق: «لماذا أصررت على إحضاري معك إلى موسكو يا فيتيا؟»
– «يا له من سؤال يا أمي! إنها منحة مني إليك أردت بها أن أبين لك مقدار حبي إياك.»
– «طبعًا، طبعًا، لكن ربما …» — ونظرت إليَّ بابتسامة لها ما وراءها من معانٍ — «ربما جئت بي كذلك؛ لأنك أردت أن تريني إيرينا، لا، لا، لا تحمرَّ خجلًا يا فتينكا، فأستطيع أن أرى الحب في عينيك.»
– «أعترف لك يا أماه أنك على صواب، ولكني لست على درجة الجنون في حبي لها وكل ما في الأمر أني أشعر بوحشة شديدة وأجد لإيرينا في نفسي إعجابًا قويًّا.»
– «كل ما أقوله لك هو أنك تدل بذلك على ذوق جميل، فهل سجلت زواجك؟»
– «لا، لم أسجل بعد، فإيرينا لديها عمل لا تستطيع تركه وأنا مسرور لذلك؛ لأني لا أحب أن أبدأ حياة الزوجية في بلاد سيبيريا النائية.»
كانت إيرينا طويلة وسيمة لها عينان زرقاوان نجلاوان وشعر بني فاتح، وهي ابنة لوالد فرنسي وأم روسية، وتكسب عيشها من ترجمة كتب أدبية من الألمانية والفرنسية لبعض الهيئات في موسكو، وقد قابلتها في حفلة خاصة غص فيها منزل المضيف بالزائرين، وإنما ذهبت هناك بصحبة صديق ذي مكانة عالية، فلما رأيت إيرينا تأثرت لرؤيتها أثرًا عميقًا، وقد يكون ذلك لحلاوة عبارتها أو لنبرة صوتها أو لمشيتها الهادئة الطبيعية، وقلما تبادلت معها الحديث تلك الليلة، لكني كنت شاعرًا طول الوقت بوجودها، حتى أنني حين عرضت عليها أن أرعاها إلى دارها لم تدهش لهذا الغرض، كأنما كانت تتوقع ذلك منذ اللحظة الأولى.
ولم يكن في لقائي لها من المظاهر المسرحية قليل أو كثير، فلم يكن هناك شيء من التوتر المحموم، ولا شيء من التفاني في التعبير بعبارات متلاحقة عن ثقتي بها، كالذي حدث لي حين التقيت بجوليا أو بإلينا منذ أعوام طوال، ومع ذلك لم يمض إلا أسابيع قلائل حتى تبين لنا أن حياتينا سترتبطان في وحدة، إذ كانت علاقتنا عميقة الغور بغير اضطراب على السطح، ولقد شاهدتها وهي تلتقي بأمي لأول مرة في غير ارتباك، واثقة أنهما سيتبادلان الإعجاب والتقدير، وخُيِّلَ إليَّ أن إيرينا جاءت من نفس الأرومة التي جاءت منها أمي، على الرغم من اختلافهما الشديد في البطانة الثقافية والتعليم والتكوين العقلي، فيظهر أن ما كان مشتركًا بينهما طيبة قلبية لا شعورية ومتفانية في التضحية، أضافت مجالًا روحيًّا إلى كل كلمة نطقتا بها أو كل فعل قامتا به.
كانت أمي بادئ الأمر مهتزة النفس لرؤية موسكو كما تهتز نفس الفتاة الصغيرة، لكنها ما لبثت أن ازدادت عمقًا في تفكيرها، بل ازدادت كآبة في نفسها، إذ بدا لها أنه من الإجحاف أن ننفق — كما ينفق آخرون — مئات الروبلات أجرًا لغرف الفندق وللأكلات الفاخرة وألوان الفسحة، مع أن غيرنا كثيرون لا يجدون ما يأكلونه بحيث يشبعون، ولقد اشتريت الثلاث التذاكر «للأمير إيجور» من «سمسار»، فلما أنبأت أمي بثمنها قالت في دهشة: «مائة وعشرين روبلًا! إن هذا المبلغ هو ما تتقاضاه امرأة محصلة في سيارة عمومية في دنيبروبتروفسك مدة شهر كامل، ليس هذا عدلًا يا بني، كلا، ليس هذا عدلًا، ثم انظر إلى النظارة، إني ما رأيت جماعة أفرطت في ثيابها وسمنت من إفراط غذائها بلغت كل هذا العدد في مكان واحد منذ أيام الثورة، لقد كنت أتوهَّم طوال هذه السنين أن قد قامت في بلادنا ثورة.»
فتأتأت إيرينا وقالت: «كفى يا أمي حديثًا في السياسة واستمتعي بالأوبرا.»
– «لكن تدفعان مائة وعشرين روبلًا!»
وأخذتها ذات أصيل إلى المعرض الزراعي، فجعلت تفحص عن كل شيء بشغف شديد: الآلات الزراعية، والجياد الأصيلة والفصائل الفائزة بجوائز المعرض من الأبقار والخنازير، ورفعت منظارها ذا الإطار المعدني عن أنفها الصغير لتقرأ العبارات والإحصاءات التي ألصقتها الدعاوة على كل جدار.
ثم سألتها إذ نحن في السيارة عائدين إلى الفندق: «ما رأيك فيما شهدناه يا أمي؟ لماذا تجلسين صامتة؟»
– «فيتيا، سمني امرأة عجوزًا بلهاء إذا أردت، لكني لست أرى في كل ما شهدته إلا خداعًا مقنعًا، من ذا الذي يستفيد بشيء من هذا؟ إذا كان في البلاد كل هذا العدد من الأبقار، فلماذا انعدم اللحم من دنيبروبتروفسك؟ وإذا كان هناك كل هذا المقدار من القطن، فلماذا يتعذر عليَّ شراء قميص لأبيك؟ إنه خداع مقنع يا فيتيا، وهؤلاء الذين تنكروا بهذا القناع يجب أن يخجلوا من أنفسهم.»
فسكتُّ ولم أحر جوابًا.
ثم استأنفت أمي حديثها: «لولا أن مجيئي إلى موسكو كان فرصة رأيت فيها إيرينا، لقلت: إنه ربما كان من الخير أن أثوى في قبري قبل أن أرى موسكو، إنها مدينة ذات وجهين، ففيها عدة من الفنادق الفخمة والمسارح والمتاحف والمطاعم، لكن اترك الشوارع الرئيسية تر فقرًا كالذي تراه في الريف، نعم لها وجهان! فمن أبراج الكرملن تصيحون بالثورة العالمية، حتى إذا ما بعدتم عنه بضعة أمتار كان الناس بغير حقوق ويحيون حياة الحرمان.»
– «أماه، لقد ازددتِ علمًا بالسياسة في أسبوعين … لا تقولي هذا لأبي؛ لأنه يصدم نفسه صدمة قوية، فأنا أعتقد حقيقة أنه يحيك فوق كل شيء؛ لأنك في السياسة قديمة التفكير ساذجة النظر.»
الإقليم الغربي من سيبيريا حيوي للدفاع الوطني، لأنه بحكم موقعه إما أن يساعد روسيا الأوروبية أو روسيا الأسيوية إذا ما نشبت الحرب في هذه الجبهة أو تلك؛ ولذلك فقد قامت وزارة الحرب بدور لا يقل عن الدور الذي قامت به وزارة الصناعة في سبيل العناية بتقدم ذلك الإقليم، واعتبرت ستالنسك مركزًا هامًّا تدور حوله الخطة المرسومة للدفاع، فكنت ترى سبل التصنيع الجديد بمختلف أنواعه قد انعقدت في سيبيريا الغربية: صناعة الآلات، والمحركات والصناعة الخاصة بفنون الطيران والكيمياء والتعدين.
ولما كانت الرموز في روسيا الحاضرة أهم بكثير من دلالاتها، فقد كان من الحوادث الهامة جدًّا أن يتغير اسم المدينة المركزية القديمة في سيبيريا الغربية «كوزانتسك» الواقعة على نهر توم ليصبح ستالنسك، فيستحيل أن يتبرك الناس عبثًا باسم ذلك الإله القوي الجورجي (من إقليم جورجيا) وهو في سمائه الكرملينية، فتسمية مكان بذلك الاسم معناها أن ذلك المكان قد اختصته العناية الربانية بالمجد، والحق أن العمل القليل في ستالنسك كان أحيانًا يرنُّ صداه في الدعاوة القومية رنينًا أوسع نطاقًا من الأعمال الكبرى في مكان آخر.
لهذا رأوها زندقة مني أن أطالب بفحص المكان الذي اختاروه في خطتهم الموضوعة ليكون مصنعًا لخراطة الأنابيب في ستالنسك قبل أن أتولى إنشاءه، فقد أغضب هذا الطلب رفيقنا «كوزفنكوف» الذي كان وقتئذٍ رئيس صناعة الأنابيب، فدفعني دفعًا إلى الرفيق «مركلوف» الذي أصبح رئيسًا أعلى لصناعة تعدين الحديد.
قال مركلوف: «ماذا تبغي وراء ذلك يا فكتور أندريفتش؟ هل تريد أن تراجع بنفسك قرارًا أقرته الوزارة، ولجنة التصميمات الرسمية ومعهد مشروعات التعدين ووزارة الحرب واللجنة المركزية للحزب والهيئة السياسية العليا؟ هل أنت محتفظ بقواك العقلية؟»
والحقيقة أن اقتراحي حين وُضع في هذه الصورة بدا اقتراحًا مسرفًا في الحمق، لكن التجربة علمتني درسًا في الحرص، وهو أن المدير الصناعي في الروسيا إذا ما قبل التبعة قبولًا أعمى كان يقذف نفسه بذلك في أقصر الطرق إلى دماره، ولو فعل ذلك إنسان في بلد رأسمالي لكان كل ما يقامر به هو ماله ومنصبه، أما في ظل السوفيت فقد كنت أخاطر بحياتي.
فقلت دفاعًا عن نفسي: «ما دمتم قد عهدتم إليَّ إنشاء مشروع يكلف مائة وخمسين مليونًا من الروبلات، فلا أقل من أن تسمحوا لي بفحص المكان الذي سيقام عليه المشروع وسهولة الحصول على العمال والمواد، وبالاختصار أريد أن أفحص الحالة التي سيتم فيها بناء المشروع بوجه عام.»
– «لقد أعددنا ما يلزم المصنع من أموال، ولبث معهد المشروعات في لننجراد عاكفًا على دراسة التصميم عدة شهور، ولكن ما دام الأمر لا خطر فيه، فسآذن لك بالرحلة التي تريد، على شرط أن تنسى يا فكتور أندريفتش أننا لا نستطيع أن نستخفَّ بقرار اتخذه الحزب.»
وصلت إلى ستالنسك بعد رحلة استغرقت أربعة أيام في القطار، وكان يصحبني فيها كبير مهندسي «جراردف»، فما وجدت في محطتها القذرة الصغيرة ما يجعلها تتناسب مع سمعة البلد التي ملأت الآذان، والواقع أن القذارة والفوضى كانتا فيما يظهر متأصلتين في طبيعة هذه المدينة التي هي في مدخل سيبيريا، وجعلت أسير حول المدينة أميالًا بعد أميال، حيث رأيت كثيرًا من المنشآت التي كانت على درجات متفاوتة فيما وصلت إليه من تمام، وكما هي العادة في سائر الأجزاء، بدءوا العمل هناك في مشروعات صناعية كبرى دون أن يفكروا إلا قليلًا — إن كانوا قد فكروا إطلاقًا — في إعداد العدة للعمال حتى يعيشوا عيشًا على شيء من اللياقة.
وجدت مائة وخمسين ألفًا من العمال قد احتشدوا في مدينة لم تسع قبل ذلك بسنوات قلائل سوى ثلاثين ألفًا، أضف إلى ذلك أن «ستالنسك» اعتمدت إلى حد كبير على السخرة، فكانت تستعين بثمانية آلاف عبد يستدعونهم من معسكر قريب، ورأيت بعض المباني الجديدة التي أقاموها للإدارة ولسكنى الطبقة العالية من العمال أخذت بالفعل تتشقق؛ لأنهم استخدموا فيها السجناء واستحثوا بناءها فأقيمت في وقت جد قصير، وكنت ترى كل بيت وكل حجر في المدينة القديمة يموج بالأجسام البشرية، فوراء الأبنية الفخمة التي أُعِدَّت للإدارة ووراء البيوت الجديدة التي أُقِيمَت للعمال ذوي المؤهلات، مباءات تفوح بالروائح الكريهة، لم تكن في قذارتها وفي امتلائها بسكانها خيرًا من أسوأ بلد شرقي مما يتكدس فيه الناس كما يتكدس النمل في أعشاشه.
وأخذت تظهر الثكنات الجديدة ظهورًا سريعًا في حواشي المدينة القديمة، وأما بقية السكان وهي تتألف من ألوف الأسر فقد عاشت في جحور رطبة تحت الأرض، وكانت هذه الجحور الغليظة المحفورة في الأرض والمسقوفة بأسقف مصنوعة بالأيدي، منظرًا مألوفًا حول المشروعات الجديدة التي ينشئها اتحاد السوفيت، حيث يستحيل على بناء المنازل أن يساير في سرعته زيادة السكان، والجحر الواحد من هاتيك الجحور طوله في العادة ثماني عشرة قدمًا وعرضه ثماني أقدام أو عشر، وعمقه ست أقدام أو ثمان؛ وبهذا يتسع لنوم شخصين، وكانت الأسقف تُصْنَع من عوارض خشبية تشدها بعضها إلى بعض غصون الشجر وأعواد القش والطين المحروق وغير ذلك من مواد مما عسى أن يقع في متناول الأيدي، وقد يتاح للمحدودين من سكان تلك الجحور أن يظفروا ببعض الألواح الخشبية يقيمونها على طول الجدار من الداخل فيمنعوا بها تساقط التراب، ويغطون بها الأرض اللزجة بما يشبه الوحل.
والطريقة المتبعة عند السوفيت هي أن يبنوا المصانع ودور الإدارة أولًا، وألا يقيموا منازل العمال إلا آخرًا، فقلت لنفسي إذ كنت أجوس خلال ستالنسك: ما أبعد الفرق بين هذه الجحور البشرية، هذه «البيوت» الطينية، وبين ما تنشره الدعاوة من صور في أشرطة السينما وفي المجلات! وما أقل الشبه بين ما تدعيه الدوائر الرسمية وبين ما تعلنه الحقيقة غير الرسمية!
استقبلنا شيوخ مدينة ستالنسك استقبالًا وديًّا بلغ حد الحماسة، فقد كانوا يزهون بمدينتهم «المزدهرة» ويسرهم أن يروا وحدة صناعية جديدة تضاف إليها، لكني منذ اللحظات الأولى، حين أخذت في مقابلة من أردت أن أقابل، لاحظت علامات القلق لما ناقشت تفصيلات المنشآت التي كنت مكلفًا بالإشراف عليها، وسرعان ما تبين لي ولجراروف أن هذه الربكة البادية على من كنا نناقشهم لها ما يبررها.
كانت الظروف التي تحيط بمشروع خراطة الأنابيب في تلك المدينة مما يجعل التنفيذ مستحيلًا، ولا أقول صعبًا أو متعذرًا، فالمصانع التي كانت تُبْنَى بالفعل هناك، قد تعطلت لنقص في الخشب والأسمنت والطوب والوقود، وعلى الرغم من العمال الذين جاءوا من معسكرات الاعتقال، لم يكن عدد العمال كافيًا ولا كان هناك مكان يسكن فيه العمال، وكان أولو الأمر هناك يتخذون أقوى الإجراءات ليمنعوا مديري الأعمال المختلفة من سرقة العمال بعضهم من بعض، وإذن فلم تكن الأيدي العاملة الموجودة لتكفي المنشآت القائمة بالفعل، فكيف تكون الحال إذا ما أضفنا المشروعات التي وضعوا الخطة لإنشائها؟
وما أشد فزعنا حين وقعت أبصارنا على المكان الذي أُعِدَّ لبناء مصنعنا، فقد كان مكانًا فسيحًا عاريًا يغطيه الوحل على شاطئ النهر، ويبعد مسافة طويلة عن المدينة، فلا خطوط للكهرباء أو الغاز، ولا قضبان للقطارات ولا طريق للسيارات العامة، بل لم يكن هناك طريق يمكن السير فيه، فكان الأمر أقرب إلى بناء مصنع في الصحراء، منه إلى إضافة مصنع جديد إلى منطقة صناعية، وإذن فلم يكن في حدود الإمكان أن ننجز المنشأة بما خصصوه لها من مال ولا فيما خصصوه لها من زمن.
وشر من هذا كله أن الأرض لم تكن تصلح قط لمنشأة يراد بها صناعة التعدين، فلم يكن بك حاجة إلى أن تكون مهندسًا للمباني لتدرك أن الأرض لا تحتمل البناء الضخم ولا الآلات الثقيلة التي تتطلبها صناعة خراطة الأنابيب، فنظرت إلى جراردف ونظر إليَّ، وهزَّ كلٌّ منا كتفيه هزة الشك والريبة، كيف أمكن لهذا العدد الكبير من المهندسين واللجان أن توافق على هذا الموقع، وعلى هذه الخطط؟ من ذا الذي غشي على أبصار الوزارة واللجنة المركزية؟ من ذا الذي أذن لملايين الروبلات أن تنفق مقدمًا في سبيل مشروع مصيره إلى فشل محتوم؟
ولم نعرف كيف نجيب عن هذه الأسئلة، لكن الذي أيقنا من صحته هو أن قبولنا لهذا المشروع معناه الانتحار، فلما زرنا بناء معهد كان قائمًا على مقربة منا وعلى نوع الأرض الذي أريد لنا أن نقيم مصنعنا عليه، تبدد كل شك في احتمال خطئنا، إذ وجدنا الحجيرات السفلى في ذلك المعهد مليئة بالماء، وجدرانه مرطبة إلى حد التشبع، وكان البناء كله آيلًا للسقوط مع أنه بُنِيَ منذ عامين.
فجمعنا ما أردنا جمعه من صور شمسية وخرائط وغيرها من المستندات، وعدنا إلى موسكو، فما كان أشده على النفس من موقف ذلك الذي وقفته عند عودتي، وهو أن أخيب رجاء الحكومة في مشروع روجت له ترويجًا واسع النطاق، وظفر بموافقة الطبقة العليا من أولي الأمر، ومس سمعة كثيرين جدًّا من الموظفين كبارهم وصغارهم، بل ربما أدى إلى هدم حياتهم، أولئك الموظفين الذين كان استهتارهم البيروقراطي أو جهلهم الفني هو أساس هذا المشروع الفج.
فكان لتقريري الذي رفعتُه إلى مركلوف وهيئة موظفيه — وبينهم كوزفتكوف — رجة كأنها الزلزال، فنظر كل منهم كأنما مسته صاعقة، وخُيِّل إليَّ أنهم جميعًا لم يفكروا إلا في طريقة يخلصون بها أنفسهم من مشكلة قد تضخم حتى تصبح كارثة سياسية؛ لأني رسمت لهم صورة من الوضوح ومن دقة التفصيلات بحيث يستحيل الإغضاء عنها، أضف إلى ذلك أنه سرعان ما تبين أن فئة معينة كانت قد رفعت صوتها منذرة بسوء المشروع، لكن أصواتها كُتِمَت بعوامل الخوف، ونظر إليَّ الموظفون المسئولون نظرات الغضب والاتهام، كأن ما اكتشفته من دقائق الموقف — لا جهلهم — هو السبب في هذا الإشكال.
وأعقب ذلك عدة أسابيع انعقدت فيها اجتماعات عاصفة، تهددوني في غضونها سرًّا — مرة بعد مرة — أن موتي محقق إذا أكثرت من الحديث في هذا الأمر، لكني قاومت كل ضغط أريد به أن أقوم بتنفيذ المشروع رغم ما قد يضيع فيه من ملايين الروبلات، وما يضيع فيه من مجهود، وأخيرًا وصلوا إلى حل يمثل لك العقلية السوفيتية أصدق تمثيل، فهو حل يستر الموظفين من الفضيحة، ويخفي معالم تلك الغلطة الشنيعة بحيث لا يتسع مداها.
وذلك أن مركزًا صناعيًّا آخر له أهميته، كان في طريق التكوين في مدينة «كمروفو» التي تبعد مائة وستين ميلًا عن ستالنسك، والتي تقع كذلك على نهر «توم»، وكان مشروع ذلك المركز الصناعي وقتئذٍ قد وُضِعَت تصميماته، وذكر على أنه مكان يليق أيضًا لصناعة خراطة الأنابيب، فما هو إلا أن رأيت الخوف قد دب دبيبه في الآلة الحكومية بحيث أسرعت في دوران عجلاتها، ناقلةً بؤرة حماستها من ستالنسك إلى «كمروفو».
وراح من بيدهم الأمر جميعًا: مكاتب التصميمات والعلماء وموظفو الحزب وأولو الأمر من الفنيين، راح هؤلاء يعلنون فجأة أن «كمروفو» يجب أن تكون لها الأفضلية على ستالنسك، وزعموا أن «الموقف السياسي» في الخارج — وهو عبارة كان معناها عندنا علاقاتنا المتوترة مع اليابان — ومصلحة تصنيع سيبيريا بصفة عامة، يقتضيان أن تكون لكمروفو الأفضلية، وأما ستالنسك فيمكن أن يرجأ مشروعها، وهذا الإرجاء لا أشك قط في أنه إرجاء إلى الأبد، ولو أنه ليس بينهم رجل واحد وَجَدَ الشجاعة التي يعلن بها ذلك على الملأ.
وهكذا شاع في الناس — في الاضطراب الذي لا محيص عنه فيما يظهر إذا ما كان تصميم المشروعات يجري على مثل هذا النطاق الواسع — شاع أن تعييني في ستالنسك قد قذف بي إلى «كمروفو»، وطلبت هذه المرة أيضًا أن أفحص عن الموقع الذي تقوم عليه المنشأة، فلم يمتعض من طلبي هذه المرة رجال الوزارة ولا رجال الرياسة في صناعة الأنابيب.
ولحسن الحظ وجدت «كمروفو» ملائمة كل الملاءمة، وهي مدينة سكانها نحو مائة وخمسة وعشرين ألفًا، شوارعها واسعة ومتنزهاتها فسيحة، وبها عمارات ضخمة للسكن، ومبان جميلة للموظفين ورجال الإدارة، نعم كان هنالك ما تعودنا رؤيته من ثكنات قبيحة في طرف المدينة، بل كان هنالك ما هو شر من ذلك من مباءات للبؤس، لكن الحالة بصفة عامة كانت طيبة إلى درجة تعلو على المستوى المألوف، فلم أر إلا منزلًا واحدًا من المنازل التي يصح أن نقرنها إلى مساكن الشرق، وكنت ترى في الأسواق — حيث يحضر فلاحو المزارع الجماعية نتاج حدائقهم الخاصة — كنت ترى وفرة من الخضر الطازجة واللحم واللبن والزبد والطيور، والأسعار أقل منها في موسكو كثيرًا، فإذا قارنت الحالة هنا بالحالة في الأورال؛ وجدت هذا المكان بشيرًا بالفردوس.
ولا بد أن قد كان الموقع الذي اقترحوه مكانًا لمصنعنا مخصصًا لمشروع آخر صرفوا عنه الآن النظر، فوجدنا بعض المباني التي تم بناؤها، وسلسلة أخرى من المباني تم وضع أسسها، كما وجدنا خطًّا حديدًا وأنابيب وأسلاكًا للغاز والكهرباء والماء وغيرها من الإعدادات التي من شأنها أن تيسر العمل تيسيرًا عظيمًا، وفضلًا من ذلك فقد كنا في داخل المدينة ذاتها، وهذا يجعل مشكلات السكن والنقل لعمالنا أيسر كثيرًا؛ لهذا كله اغتبطت واغتبط «جرادوف» غبطة شديدة.
وأبدى موظفو كمروفو استعدادهم للمساعدة؛ لأن مجيئنا إلى بلدهم معناه أن مائة وخمسين مليونًا من الروبلات ستُنْفَق في المدينة، وصرخت الصحافة المحلية هناك صراخًا عالميًّا معلنة عن زهوها بما هو مقبل عليها من منشآت، وعلى الرغم من أن كمروفو كان بها مصنع للفحم ومناجم له، ومصانع لمعدات الحرب، فإن شهرتها الأساسية (إذا استثنينا ما اكتسبته من سمعة سيئة بسبب المحاكمات الدموية التي جرت في موسكو والتي سأشير إليها فيما بعدُ) أقول: إن شهرتها الأساسية كانت بصناعتها الكيميائية، ولم يكن سرًّا أن الجماعة الصناعية الكيميائية هناك — وهي من أكبر مثيلاتها في العالم — إنما كانت الغاية منها أن تنتج ما يلزم للضرورات الحربية.
استقبلنا الرفيق سفوروف استقبالًا حارًّا، وهو مهندس لكنه يشتغل الآن أمينًا لسر اللجنة المحلية للحزب، وكان موظفو القسم السياسي حاضرين في استقبالنا، متظاهرين بأن حضورهم جاء مصادفة بحتة، لكني عرفت من أسئلتهم أنهم يلمُّون إلمامًا دقيقًا بالفضيحة المكتومة التي تكمن وراء انتقالنا المفاجئ بمنشآتنا من ستالنسك إلى مدينتهم، وسواءً عرف مركلوف وكوزفنكوف وغيرهما أنهم كانوا محاطين بأعين الشرطة وآذانها طوال الوقت أو لم يعرفوا، فهذه هي الحقيقة الواقعة، وقدمت تقريرًا لمكتب اللجنة المحلية في كمروفو بإنشاء مشروعنا في بلدهم فوافق على ذلك.
عدت إلى موسكو وبعدئذٍ ذهبت إلى لننجراد حيث أنفقت عدة أسابع أتعاون في العمل مع معهد المشروعات التعدينية الذي غض النظر عن مشروع ستالنسك وجعل يواصل العمل بسرعة ليفرغ من تصميمات مشروع كمروفو، ووُضِعَت في بنك كمروفو مبالغ كبيرة من المال لحسابنا، وأخذت سمعتي صوب منصبي الجديد ترافقني هيئة الموظفين الجديدة التي ستكون في معونتي.
وجاءت إيرينا إلى محطة موسكو لوداعي، وكان مما خفف حزننا على فراقنا أننا كنا عالمين بأن طبيعة عملي ستقتضي ذهابي إلى العاصمة على فترات قصار.
العمل المتصل هو الدواء المسكن لخيبة الرجاء، أو قل أن الأمر كان كذلك في حالتي على الأقل، فقد انهمكت في المهمة الشاقة التي كلفت بها في كمروفو انهماكًا شديدًا كان مرده — إلى حد كبير — ما كان يخامرني إذ ذاك من يأس، وكلما قسوت على بدني في العمل نهارًا، أسرع النعاس إلي بالليل، وهكذا نجحت في محو الخواطر المزعجة التي كانت تجثم على ذهني فيما يختص بالبؤس الشامل الذي خيم على بلادنا، نجحت في محو هذه الخواطر الخطيرة بشغل رأسي بما هو أقل منها خطرًا من هموم عملي المباشر وما يتبعه من تفصيلات، والحق أني كلما ازددت مقتًا لنظام الإرهاب السائد في بلادنا، ازددت إخلاصًا في تركيز جهودي في العمل الذي أباشره.
وعلى الرغم من أني كنت موضع ثقتهم في مشروع سيكلف في النهاية ملايين كثيرة من أموال الحكومة، فإني لم أؤتمن على اختيار الموظفين الإداريين الذين سيعملون تحت إشرافي، فقامت وزارة الصناعة ورئيس صناعة الأنابيب في موسكو بتعيين كبار الموظفين عندي دون استشارتي على الأقل، ومن شأن هذا النظام أن يتجسس الموظفون بعضهم على بعض وألا يثق أحد في أحد ممن اجتمعوا للتعاون على أداء عمل واحد، بيد أن حسن الحظ قد شاء لي أن يكون كبير مهندسي جرادوف كفئًا في عمله ومحببًا في عشرته في آن معًا، لكننا — أنا وهو — كان ينغص علينا ويعرقل سيرنا ناس لا هم أكفاء في عملهم ولا هم ممن يخف وقعهم على النفس باعتبارهم الإنساني المحض، وكان مما لا يخفى أن بعض من عينوهم من أهل البلد إنما عينوهم لا لشيء سوى أن يكونوا عيونًا مرصودة تعمل لحساب اللجنة الإقليمية في نوفوسيبرسك، وحساب اللجنة المحلية في كمروفو، وحساب القسم الاقتصادي من الشرطة السياسية، وحساب الرياسة العليا لصناعة الأنابيب.
ومن أول خطوة من خطواتنا في العمل أخذت الإجراءات الرسمية والحماقة الحكومية تقف في سبيلنا أحجارًا نتعثر عليها، كان العمل يقتضي أن أعد أكداسًا من المواد والأدوات وأن أهيئ لها سبيل النقل والخزن، وكان لا بد لي من آلاف العمال الفنيين وغير الفنيين، وبالتالي لزم أن تعد لهؤلاء العمال مساكنهم وضروراتهم الأولية، ولو كانت الظروف سوية لما كان أداء هذه المهمات مما يستحيل إنجازه، أما في ظل النظام السوفيتي، فقد كانت كل خطوة تحتاج إلى موافقات صورية لسلسلة من المكاتب لا ينتهي عددها، كل منها حريص ألا ينتقص من حقوقه شيء، وكل منها يخاف أفزع الخوف من تحمل التبعة في قرار جديد؛ لذلك كنت ترانا حينًا بعد حين وقد قيدتنا هذه الصعوبات الصغيرة المتكررة حتى أعجزتنا عن الحركة بفداحة أغلالها التي لا يمكن حلها إلا بأوامر تأتي من موسكو، فقد كنا نعيش ونعمل فيما يشبه الغابة الكثيفة التي قوامها استجوابات واستمارات وتقارير تكتب من سبع نسخات.
وسأوفر على القارئ عناء التفصيلات الفنية، لكني سأكتفي بأمثلة قليلة أسوقها لأصور له روح العمل على غير خطة موضوعة، ذلك العمل المتخبط الذي يسمونه بعبارة سهلة على الأفواه، إذ يسمونه «بالاقتصاد الذي رُسِمَت له الخطط».
كنا في مسيس الحاجة إلى طوب، فكانوا يسوقون مئات المسجونين من معسكراتهم البعيدة ليعملوا أربع عشرة ساعة كل يوم ليسدوا حاجة الجهات المختلفة في كمروفو لهذه المادة، ومع ذلك فقد كان هناك محرقان للطوب كبيران كاملا الإعداد، لم يشتغلا لأنهما تابعان لوزارة أخرى احتفظت بهما من أجل حاجتها التي ربما دعت إليها الظروف في المستقبل، وما هذه الظروف المستقبلة إلا خيال في خيال، فرجوت رجاءً، ثم تهددت بالشر، ثم أرسلت الرسل إلى موسكو محاولًا أن أحرك هذه الأفران الجامدة، لكن الإجراءات الحكومية انتصرت آخر الأمر على الإدراك الفطري، ولبث الفرنان ميتين طول إقامتي في المدينة.
وفي الوقت الذي كنا نبذل فيه جهد الجبابرة لإعداد المساكن لعمالنا كانت هناك عمارة كبيرة كأنما أُقِيمَت لتحرك الغيظ في النفوس، فظلت قائمة في ضاحية المدينة لا يتممون بناءها ولا يعود على أحد منها نفع، فالظاهر أن الاعتماد المالي الذي تقرر لهذه العمارة قد نفد قبل تمامها، وكان عندي مال يكفي لإتمامها فتستفيد بمساكنها، لكني لم أوفَّق قط إلى تحطيم أغلال الإجراءات الحكومية، فالهيئة التي بدأت البناء كانت على استعداد للنزول عنه، بل لم يكن هناك شخص واحد يمانع في هذا، وكان يبدو دائمًا أن التصريح الرسمي بهذا يوشك على الصدور والنفاذ، وكل ما في الأمر أنه لا صدر ولا وجد سبيله إلى التنفيذ.
وكان خلال منطقتنا من المدينة خط للترام عظيم الأهمية أوشك على التمام، يكفي لإتمامه بضعة عشرات من آلاف الروبلات، وكان هذا الرصيد موجودًا، لكن أولي الأمر في المدينة لم يستطيعوا التصرف في ذلك الرصيد بغير استئذان هيئة أعلى؛ لأن الأمر كان يكتنفه صعوبات إجرائية في الميزانية، فتدخلت في الأمر وأرسلت عشرات الخطابات المستعجلة أستحث أولي الأمر فيها أن يتمموا المشروع، فكانت تجتمع لذلك لجنة الحزب المحلية ولجنة كمروفو السوفيتية فيدور بين الأعضاء نقاش حاد حول الموضوع، دون أن ينجزوا عملًا واحدًا على مر الشهور شهرًا في إثر شهر في الوقت الذي كان ألوف العمال والعاملات المتعبين يضيعون فيه من وقتهم ساعتين أو ثلاثًا كل يوم في سيرهم المضني إلى العمل ومن العمل.
هذه المنغصات وأمثالها كانت لا تقع تحت الحصر، يتراكم بعضها على بعض، حتى لقد حولت كل عمل صغير إلى مشكلة كبيرة، وعطلت مئات الموظفين عن أداء عمل مفيد، لاشتغالهم بهذا العبث، فكانوا بمثابة مَنْ أجرتهم الدولة ليوسعوا من نطاق الاضطراب والفوضى، أضف إلى هذه المضايقات والحوائل الإجرائية، ما زاد الطين بلة من جاسوسية حامية الوطيس وعرائض اتهام وتحقيقات.
والحق أني لم أستطع أن أعلل هذه المتاعب والعراقيل بما يكمن في النفوس من حقد، ولو أنني كنت أشاهد اشتغال المتناقشين في مهاجمة بعضهم بعضًا وفي سب بعضهم بعضًا، فالتعليل الصحيح لهذا كله هو الخوف الضارب بجذوره في النفوس مما شلَّ الناس أفرادًا وهيئات.
وشاءت المصادفة لمدينة كمروفو أن تعاني من حركة التطهير أكثر مما كان ينتظر لمدينة في حجمها؛ ولذلك كانت أبطأ سيرًا في استعادة نشاطها، فقليلون من كبار رجالها الفنيين والإداريين هم الذين استطاعوا عندئذٍ أن يتخلصوا مما ألم بهم من جزع بسبب ما أريق من دماء؛ ذلك أن هذه المدينة كان لها مكان بارز في محاكمات موسكو؛ لأنه قيل: إن مصانعها الكيميائية ومناجم فحمها كانت أهدافًا رئيسية لنشاط المخربين، وقيل كذلك أن «مطبعة سرية» أُقِيمت في كمروفو ليستخدمها زعماء المعارضة.
وكان في طليعة «المتآمرين» في هذه المدينة — فيما زعموا — الرفيق نوركين الذي كان أحد المتهمين في محاكمة بياتاكوف والذي أُعْدِمَ لذلك بعد المحاكمة بساعات قلائل، وكان نوركين في مدينة كمروفو ممثلًا لوزارة الصناعة الثقيلة، فكُتِبَ عليَّ الآن أن أجلس في نفس المكتب الذي كان نوركين يدبر فيه جرائمه — إذا أخذنا باعترافه الذي يستحيل على عقل سليم أن يؤمن بصحته — ولذلك كنت على صلة دائمة ببعض الموظفين الذين عاونوه في العمل، وبكثيرين ممن شهدوا عليه في المحاكمة.
فلما توثقت أواصر المعرفة بيني وبين هؤلاء الناس، كان من الطبيعي أن يرد اسم نوركين في محادثاتنا آنًا بعد آن، فكانوا كلما جاء ذكر اسمه أخذتهم الحيرة وغلبهم — فيما خُيِّل إليَّ — شعور عميق بالخجل، ولم تكن بهم حاجة أن ينبئوني — ولو أن أحدهم على الأقل قد أنبأني صراحةً — بأنهم افتروا على رئيسهم كذبًا تحت ضغط من رجال الشرطة السياسية إنقاذًا لأرواحهم، وكثيرًا ما كانت ضمائرهم تسيطر عليهم فتتغلب فيهم على ما تمليه الحكمة من وجوب الخلاص بأنفسهم.
وحدث ذات يوم على إثر حادثة خطيرة وقعت في المصانع الكيميائية، أن وجدت نفسي في خلوة مع شيوعي نابه موظف هناك، وبعد أن حدثني ببعض تفصيلات الحادث، قال فجأة بصدر ضيق: «وهذا على وجه الدقة مثل من أمثلة ما أعدم من أجله نوركين وكثيرون غيره! إن «المتلافين» و«المخربين» قد قضوا، لكن ها هي ذي الحوادث ما زالت تقع للآلات فتعطلها، من يدري، لعلهم يدبرون هذا التخريب من قبورهم التي لا يعرف لها مكان …»
– «ولكن ما رأيك في اعتراف نوركين نفسه على نفسه يا رفيقي ﻟ…»
– «لا تكن ساذجًا يا فكتور أندريفتش، لو أراد هؤلاء المهندسون حقًّا أن يحدثوا في العمل اضطرابًا لاستطاعوا أن يدمروا المصنع كله من أساسه فيتطاير في الهواء رمادًا، لماذا يحصرون أنفسهم في نطاق الذوق وحسن اللياقة فلا يحدثون إلا تلفًا تافهًا أو عرقلة مؤقتة لمجرى الإنتاج؟ لماذا يسممون العمال؟ اعترافات! يا لها من حكايات خرافية ينسجونها نسجًا للأجانب المغفلين!»
لم يَخفَ على مهندس كائنًا من كان أن المصانع الكيميائية — شأنها في ذلك شأن كثير جدًّا من المشروعات السوفيتية الصناعية الجديدة — كانت تعمل في ظروف مليئة بضروب العراقيل، فإنشاء المؤسسات الصناعية يتم على صورة شائهة، وفي كثير من الحالات لا يتم أبدًا، والإعداد ناقص والعمال لم يكمل تدريبهم، فالحق الصراح هو أن عدم الخبرة والأخطاء التي لا تنطوي على نية شريرة هي أساس ما كان يحدث هناك من حوادث قبل حركة التطهير، وما زالت تسبب الحوادث بعد أن أزهقت أرواح «أعداء الشعب».
قال لي الرفيق «ﻟ…»: «إن ملفات الأوراق في وزارة الصناعة الثقيلة مفعمة بالتقارير التي تصف هذه الحالة التي قد تؤدي إلى وقوع الحوادث، وكثير من هذه التقارير رفعها بعض هؤلاء الذين اعترفوا على أنفسهم فيما بعد بأعمال التخريب، أمن المعقول أن يحذر المهندسون أولي الأمر من كوارث هم الذين يدبرون وقوعها؟»
– «لا أظن ذلك.»
– «ثم ضع في اعتبارك هذه النقطة الآتية: ماذا يكون وقْع الأمر على الرأي العام لو أن الحكومة كشفت عن هذه التقارير في المحكمة؟ يا الله! خير لي أن أمسك عن الكلام، إن القلب إذا أفعم فاض بما فيه.»
وما كان يصدق على المشروعات الكيميائية، يصدق كذلك على مناجم الفحم، ولقد دعاني أمين السر سفروف ذات يوم إلى مكتبه في لجنة الحزب؛ لأنه حدث ذلك الصباح أن فاض الماء فأغرق منجمًا، وشاع النبأ في المدينة بحيث اضطرب له سفروف اضطرابًا شديدًا.
قال لي: «لا بد لنا يا رفيقي كرافتشنكو من بضع مئات من أزواج الأحذية المصنوعة من المطاط ليلبسها العمال في تفريغهم الماء الذي فاض على المنجم، وقد قيل لي: إن لديك كمية مخزونة من هذه الأحذية وأريد منك التعاون.»
فوافقت بالطبع على إعارته الأحذية، ثم جذبته جذبًا إلى مناقشة حول حادثة فيضان الماء في المنجم، وسألته هل هي الأخرى مؤامرة على المخربين، فأجابني سفروف قائلًا: «لا داعي للتسرع إلى مثل هذا الاستنتاج، أرني منجمًا للفحم أنى شئت من جهات الأرض، في بلادنا أو خارج بلادنا، لا يتعرض حينًا بعد حين للانفجار أو الهدم أو فيضان الماء، إن ذلك جزء لا يتجزأ من طبيعة العمل نفسها، خاصةً هنا؛ لأن معداتنا لا تزال بدائية إلى حد كبير.»
فأعدت الرأي قائلًا: «ومع ذلك فقد سمعنا من مجرى المحاكمات والاعترافات أن مناجم كمروفو ينبث في أنحائها المخربون.»
فنظر إليَّ أمين السر وأطال النظر، ثم ابتسم ابتسامة ماكرة وغيَّر موضوع الحديث.
وحدث بعد ذلك بأيام أن اجتمعتُ للتشاور مع موظف ربطتني به أواصر الود، في مكاتب الرياسة المحلية لاستخراج الفحم، وقد طالت المفاوضة بيني وبينه حتى جاوزت مواعيد العمل اليومي، وسرعان ما وجدنا أنفسنا وحيدين في المكان، فما هو إلا أن نهض لغير غرض مقصود، وذهب إلى خزانة حُفِظَت بها ملفات الأوراق، وجذب منها ملفًّا متين الغلاف، ناوله إليَّ وهو صامت، ففتحت الملف وأخذت أقرأ — كلما اتفق — نسخات كربونية من تقارير رُفِعَت إلى إدارة الفحم في موسكو.
رُفِعَت هذه التقارير قبل حدوث الانفجارات وغيرها من الحوادث التي سميت فيما بعد بأعمال التخريب بزمن طويل، وكانت هذه التقارير تستحث أولي الأمر، استحثاثًا صُبَّ أحيانًا في عبارة اليائس، منذرة بوجوب اتخاذ الإجراءات الوقائية بغير إبطاء إذا ما أريد اجتناب الخسارة في الأرواح والأموال، ومغزى هذه الإنذارات واضح، وهو أن أعوان التخريب لا يعقل أبدًا أن يتوسلوا بكل هذه القوة إلى أولي الأمر أن يتخذوا من الإجراءات ما عساه أن يعوق تنفيذ جرائمهم التي دبروها.
لقد تأيد اعتراف نوركين بوجود مطبعة سرية بما قاله أثناء المحاكمات التي جرت في «كمروفو» و«نوفو سيبرسك» معتقلون آخرون، ثم ازداد تأييدًا بصورة شمسية للمطبعة، ونسخات من المنشورات التي أخرجتها المطبعة لمحاربة السوفيت؛ لهذا كان اعتراف نوركين من الاعترافات القليلة التي ظهرت مؤيدة بالوثائق التي تثبت صحتها، حتى لقد خدعتني القصة أول ما سمعتها وظننت بها الصدق؛ لذلك انتهزت كل فرصة سنحت لي إذ أنا في المكان الذي وقعت فيه حوادثها لعلي أعرف الأمر على حقيقته.
أقمت في كمروفو ما يقرب من عام، استطعت خلاله أن أرسم لنفسي صورة للحقيقة كما وقعت، حتى إذا ما تكاملت صورتها في ذهني لم أجد فيها قط ما يحمل على الاتهام، وليس في وسعي أن أكشف عن السبيل التي سلكتها في الحصول على معلومات جزءًا جزءًا خلال مدة طويلة، خشية أن أضر بذلك ناسًا كرام النفوس، وسأقتصر على بسط الحقيقة المروعة بسطًا موجزًا صادقًا، وإنها لحقيقة بلغت من فظاعتها أني لم أصدقها أبدًا حتى ثبتت لي صحتها بالدليل القاطع.
كان هنالك بالفعل مؤسسة سرية للطباعة، فقد دخلت مكانها السري عدة مرات، وكنت في كل مرة أرى آثارها لا تزال باقية، وطُبِعَت بالفعل منشورات تهاجم ستالين وتدعو إلى الثورة، لكن الذي أقام المطبعة، والذي كتب تلك المنشورات، هو القسم السياسي نفسه!
ولكي يضمنوا عدم إفشاء هذه الأكذوبة القبيحة، عمل أصحابها على استخدام عمال يستحيل عليهم الإفشاء استحالة مادية، إذ استخدموا طائفة من المسجونين الذين حُكِمَ عليهم بالإعدام وينتظرون الموت، أو حُكِمَ عليهم بالسجن أعوامًا طوالًا، ودُبِّرَت المؤامرة تحت ستار الليل، وأُقِيمت الحراسة بالطبع على المسجونين، وقام بالإرشاد الفني جماعة من الشرطة السرية تخصصت في مثل هذه الأمور.
وسألت رجلًا ممن كانوا يعلمون هذه الحقائق: «وماذا جرى للمنشورات المطبوعة ألم توزع منها ألوف في المدينة كما زعموا؟»
فأجابني قائلًا: «كلام فارغ، فأنت تعلم يقينًا أن من يُضْبَط ومعه مثل هذه المطبوعات يُقْبَض عليه، ومع ذلك فما سمعت بحادثة واحدة قُبِضَ فيها على إنسان واحد بتهمة كهذه، كلا ولا سمع بذلك أي إنسان هنا، فما أظن أحدًا من العمال قد رأى هذه المنشورات المشهورة أو سمع بها حتى علمنا بها من المحاكمات، فربما طبعها المتآمرون لغرض واحد هو أن يتسلوا بها إذا ما أووا إلى مخادعهم.»
ومهما يكن من أمر، فيكفي أن كمروفو — مناجم فحمها ومصانعها الكيميائية وإداراتها التي تشرف على المباني — يكفي أن تكون كمروفو قد شرفت بدور خطير قامت به في المؤامرة، ليخيم عليها جو كثيف من المخاوف، فما كان لإنسان أن يتحرك من مكان إلى مكان دون أن يصرح له بذلك تصريحًا يوقعه ويبصمه بكل ما يضمن الأمان من الخطر ذوو السلطان في نوفوسيبرسك وموسكو، وإني إذا ما استعدت بذاكرتي كل هذا، لا أكاد أصدق أننا استطعنا رغم ذلك أن ننجز ما أنجزناه قبل أن تصدر الأوامر بترك المشروع كله جانبًا لتغير في السياسة لم تعرف أسبابه، ولو ذكرت قصة هذا التغير السياسي في هذا الموضع من الكتاب لسبقت مجرى حوادث قصتي.