والقتال ناشب في أوروبا
إن معاهدة الصداقة بين أدولف هتلر وجوزيف ستالين، تلك المعاهدة التي عجَّلت بالحرب في أوروبا ستظل إلى الأبد مرتبطة في ذهني بالبلد السيبيري الخانق الذي كنت أعمل فيه إذ ذاك، فقد كنت في كمروفو حين رأيت التعاقد يلمع ضوءُه فجأة عبر سمائنا ويقحم نفسه إقحامًا سريعًا في عقول أعضاء الحزب وضمائرهم، فكنا جميعًا إزاءه كالمدهوشين المبهوتين المترنحين من شدة ما نرتاب في صدق ما نسمع.
وكان الصيف القصير المغبَّر بالتراب في سيبيريا يدنو من ختامه بأخلاط من إشاعات عن مصادمات مع اليابان عند الحدود، ولم تكن نذر الحرب التي هدأها اتفاق ميونخ في العام السابق قد صمت صوتها صمتًا تامًّا، بل إن كل من أدار في ذهنه هذه المسائل لم يسعه إلا أن يدرك العوامل التي تهدد بالحرب في الجانبين معًا، أما أن تقوم الصداقة الحقيقية بين ألمانيا الفاشية والاتحاد السوفيتي وأن تنصرف جهود السوفيت العسكرية وجهة أخرى تبعًا لتلك الصداقة، فذلك ما لم يخطر ببال روسي واحد؛ لأننا لبثنا أمدًا طويلًا نسلم تسليمًا لا يقبل الجدل بأن للنازيين لهم عدوًّا حقيقيًّا واحدًا هو النظام السوفيتي.
لكن الكرملن كان في رأيي قادرًا على الخروج على الأوضاع مهما تكن صورته، إذ لم تكن أساليبه عندئذٍ — فيما بدا لي — تختلف كثيرًا عن أساليب النازيين، خصوصًا في معاملته لشعبه وفي تنظيمه لقوته، حتى لقد كنت أسأل نفسي كلما قرأت أو سمعت دعاوة ضد هتلر: «أين يا ترى الفرق بين أساليب هتلر وبين فظائعنا السوفيتية؟» وعلى كل حال لم أصدق ما سمعته من أخبار التعاهد السوفيتي الذي أطلق الحرية لهتلر في إعلان الحرب على بولندا وغيرها من بلاد أوروبا، وقلت لنفسي: إنه لا بد أن يكون في الأمر خطأ ما، وكان كل من حولي يرتاب مثل ريبتي.
ولا عجب فقد بُثَّت فينا كراهية النازية على مر الأعوام، فرأينا قادة قواد جيشنا — ومن بينهم توخاتشفسكي — يُعْدَمون بالرصاص لمؤامرة قيل: إنهم يدبرونها مع هتلر وحكومته، ومحاكمات الخيانة العظمى التي قضت على أصدق أصدقاء لينين إنما ارتكزت على أساس أن ألمانيا النازية وحلفاءها من دول المحور — إيطاليا واليابان — كانت تعد العدة لمهاجمتنا، ولم تكن هذه الأمم في رأينا إلا بمثابة سنان الرمح الذي يستتبع وراءه اتحادًا عالميًّا من دول الرأسمالية غايته تحطيم وطننا الاشتراكي؛ ولذلك كان أقوى ما يبرر حركة التطهير الأعظم وما تضمنته من أعمال وحشية، هو الهجوم الوشيك الوقوع علينا بقيادة النازيين.
هكذا سادت بلادنا عقيدة لها قوة العقائد الدينية، بأن فجور هتلر حقيقة لا تحتمل شكًّا ولا ريبة، كما أن نقاء سريرة ستالين حقيقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وكنت ترى صبيان السوفيت يلعبون حربًا «بين الفاشيين والشيوعيين»، وكانوا دائمًا يطلقون على الفريق الفاشي منهم أسماء ألمانية، وهو الفريق الذي يُمْنَى بالهزيمة في كل مرة يلعب فيها الصبيان هذه اللعبة، ثم يأخذ الفريق الظافر في نشيد «ترنيمة الرائد الصغير» «كن مستعدًّا دائمًا»، وكذلك كانت الأهداف في ملاعب الرماية في معظم الحالات صورًا لنازيين في قمصانهم البنية اللون وعلى صدورهم شارة الصليب المعقوف.
كنا قد استمعنا قبل إمضاء التعاقد بأسابيع قليلة إلى محاضرة عن الموقف العالمي في اجتماع من اجتماعات الحزب، ولم يكن فيها إلا الحدث المألوف المملول، فصوَّر المحاضر هتلر — كما هي العادة دائمًا — في صورة شيخ المجرمين، الذي اتخذته البلوتوقراطية العالمية لها صنيعة وأداة، فأخذ يعد العدة لضربتنا، ولما قال الخطيب: إن هتلر وحزبه طغاة مستبدون، وإن الفوهرر وعصابته يُنْزلون أنفسهم منازل الأرباب، وإن ألمانيا النازية لا تعرف حرية الكلام ولا حرية الصحافة، وإن كل إنسان في ألمانيا يعيش في خوف ورعب، لما قال الخطيب ذلك لم يسع كثيرين منا أن يتساءلوا: أليس الخطيب بهذا القول يصور نظامنا نحن تصويرًا دقيقًا؟
وكانت دار السينما في شارع كمروفو الرئيسي لا تزال تعرض شريطًا قديمًا يناهض النازية، واسمه «الأستاذ مملوك»، يصور هتلر وحكومته في صورة القساة الغلاظ اللصوص الذين استولت عليهم فكرة لا ينثنون عنها وهي كراهية الاتحاد السوفيتي.
ولم نصدق المستحيل إلا حين رأينا في أشرطة الأخبار في السينما، وفي الصور التي تنشرها الصحف، رأينا ستالين في ابتسامته يصافح فون ريبنتروب، ورفرفت في موسكو أعلام الصليب المعقوف وأعلام المطرقة والمنجل جنبًا إلى جنب! وسرعان ما أخذ مولوتوف يشرح لنا الموقف قائلًا: إن أمر الفاشية على حقيقته لا يزيد على كونه «مسألة ذوق وميل»! وجعل ستالين يحيي زميله في الدكتاتورية بكلمات حارة تصف ما بينهما من «صداقة عليها خاتم من دماء»!
وإذا أردت أن تعرف مدى دهشتنا لهذا الانقلاب، فينبغي أن تعلم ما كانت تقوله الشيوعية الرسمية عن النازية والفاشية بصفة عامة حتى جاء هذا التعاقد، فقد أفهمونا أن الفاشية لا تختلف عن الرأسمالية في النوع، وإنما تختلف في الدرجة وحدها، فهي رأسمالية لا أكثر ولا أقل، تنتهي إلى ما تنتهي إليه الرأسمالية من خنق وموت، وهي رأسمالية ليس لها ما للرأسمالية من قناع «الديمقراطية» و«الخدعة البرلمانية»، نعم أفهمونا من قبل أن النظام في إيطاليا وألمانيا رأسمالية اضطرت اضطرارًا إلى خلع «قناعها الديمقراطي»، هي رأسمالية تركت ذئابها تنهش العمال علانية، فاختلفت بذلك عن الرأسمالية في أمريكا وإنجلترا وغيرهما في أن الإرهاب لم يعد يتخفى وراء أستار، ولا بد — في الواقع — من أن يحدث على مر الزمن أن يصطدم العالم الرأسمالي كله على صخرة خطاياه، فيخلع هو الآخر قناع الديمقراطية الخادع ويتردى في مهوى الفاشية.
لقد علمونا أن الهتلرية إنْ هي إلا اليد الحديدية للعالم الاستعماري الاستبدادي كله، وإذن فالحرب بين ألمانيا النازية وبين رعاتها من الدول الرأسمالية لا يقبلها عقل؛ لأنها لا تتفق والمنطق، أما وقد نشبت بالفعل هذه الحرب التي استبعدوها بالعقل والمنطق، فقد ظنناها ضربًا من الجنون، لكنه لا يقل جنونًا عن اتفاق ودي يُبْرَم بين الاتحاد السوفيتي وألمانيا، ذلك الاتفاق الذي يجب أن يسمى بأسماء ستالين وأعضاء هيئته الرسمية العليا لا باسم الاتحاد السوفيتي، إذ لم يؤخذ فيه رأي الحزب ولا رأي الشعب، لكن الحكومة التي سيطرت على الصحافة سيطرة تامة، كما سيطرت على الإذاعة والمدارس والمنابر، وفرضت بقوة شرطتها على الناس إجماعًا في الرأي، مثل هذه الحكومة لا يستحيل عليها أن ترتكب أية فضيحة منطقية كائنة ما كانت، فسرعان ما تمضي الأيام ويخف على الناس وقْع الصدمة، فيقبلوا بصفة عامة ما اتخذته الروابط العالمية من أوضاع جديدة، وعلى ذلك أخذنا إذ ذاك نقول ونعيد ونكرر أن أنصار الاستعمار من الفرنسيين والبريطانيين، تؤيدهم النزعة الاستغلالية التجارية الكبرى لدى الأمريكان، وكبار الملاك الزراعيين من البولنديين، نهضوا يقاتلون الألمان ليكبحوا نزعتهم الاستعمارية، ونتيجة هذا الصراع لا تهمنا باعتبارنا الأمة «الاشتراكية» الوحيدة في العالم، وكان منا من أخذته الوساوس بصدق هذه الصورة التي صوروا العالم بها، لكننا كتمنا شكوكنا في أعماق صدورنا حتى لا يستطلعها المخبرون، وإنهم ليموجون حولنا زرافات زرافات.
وتوارت عن شاشات السينما أفلام الدعاوة ضد النازية مثل «الأستاذ المملوك» وغيره، كما طهروا المكاتب من المطبوعات التي تحارب الفاشية، وتراءت لجمعية «الروابط الثقافية بالبلاد الأجنبية» بين عشية وضحاها أعاجيب في «الثقافة» الألمانية، وتصادف أن زرتُ موسكو في شأن عملي إذ ذاك، فعلمت أن قد أقيم بها معارض للفن النازي وللمجهودات الاقتصادية النازية، وللمجد العسكري النازي، وأن غيرها من المعارض في طريق الإعداد.
وأخذت مسارح العاصمة تزداد إقبالًا على المسرحية الألمانية، والواقع أن الجو قد امتلأ بكل ما هو ألماني، وجعلت الدعاوة تعرض صورة وحشية لإنجلترا في هيئة «جون بُل» ولأمريكا في صورة «العم سام» وقد أجلستهما على أكياس الذهب، أما النازيين فلم يُصِبْهم عندئذٍ شيء من هذه الدعاوة الساخرة، وأصبحنا نرى مئات من الألمان عسكريين وتجاريين في فنادق موسكو ومتاجرها، مشغولين ببرنامج ضخم مؤداه أن تقدم الروسيا معونة اقتصادية إلى هتلر يستعين بها في حملته على «الديمقراطيات المتهافتة».
إن جماعة السوفيت لا تحتاج إلى حجج قوية تتقدم بها إذا ما أرادت أن تفرض رأيًا يراه الحزب، وإنما وسيلتهم في ذلك أن يحركوا في الناس غريزة حب البقاء، فلكي يجتنب الإنسان الخطر تراه لا يكتفي بالإيمان، بل يؤمن إيمانًا عميقًا حارًّا بكل الأباطيل التي تهبط عليه من علٍ، إن ستالين العظيم لا يخبط خبط الأعشى بل إنه ليهتدي في سيره بغاية يعرفها ويقصد إليها، هذا هو ما يستجيب به الحزب في النهاية كلما جدَّ في الأمر جديد.
وأخذنا نتحدث عن الانقلاب الجديد في مجرى الحوادث، نتحدث عنه في اجتماعات رسمية لهيئات الحزب المختلفة، ونتحدث عنه حديثًا خاصًّا في بيوتنا ومكاتبنا، وكنت تسمعنا نقول في غضون الحديث صراحةً أو ما معناه: كيف يتاح لنا نحن الذين نقيم في كمروفو أن نفهم مثل هذه الأمور الخطيرة، إن مهمتنا هي أن نبني المصانع ونديرها، وأن نسير بعمال تلك المصانع في طريق يأمنون فيها على عقيدتهم بأن «زعيمنا المحبوب» لا يخطئ، وإذن فلم يفكر في الأمر إلا أقلية ثائرة النفوس، أما بقية الناس فسرعان ما طرحوا المسألة من حسابهم لا يأبهون لها، شأنهم في ذلك شأن أهل البلاد جميعًا، فمن المستحيل أن يكون في البلاد رأي عام بمعنى الكلمة الصحيح، بعد أن خضعت للحكم الدكتاتوري اثنين وعشرين عامًا.
على أن ما علمناه يومئذٍ علم اليقين هو أن بلادنا قد جنبت نفسها حربًا دموية كانت تحطم بقية أنحاء أوروبا تحطيمًا، وكان ذلك حسبنا فضلًا نعترف به ونشكر عليه، هذا إلى أننا كنا نكسب جانبًا من أسلاب الحرب — نصف بولندا وبسارابيا وبعدئذٍ كسبنا دول البلطي الثلاث — مكافأة على ما أبداه الكرملن من مهارة سياسية في موقف الحياد.
وقل منا من تنبأ بأن الروسيا ستُدْفَع آخر الأمر إلى الحرب دفعًا، بله أنها ستصاب بخسائر في الأرواح والأموال أكثر مما تصاب به سائر الأمم مجتمعة، إذ آمنا إيمانًا لا يقبل الجدل بأن البلاد المتحاربة سيُفني بعضها بعضًا ويبقى الاتحاد السوفيتي سيدًا حقيقيًّا على أوروبا، وإذا وضعتَ هذا القول في صيغة سياسية قلتَ: إنه بينما يعاني الرأسماليون حر القتال، سنعكف نحن على تقوية أنفسنا وتكديس أدوات القتال مستفيدين بتجارب الحرب عند الآخرين، حتى إذا ما أضعفت الرأسمالية والفاشية إحداهما الأخرى ألقينا في وجه التاريخ بعشرين مليونًا من رجالنا المدججين بسلاحهم، وفي نفس الوقت تكون الثورات في كثير من أقطار أوروبا قد جاوزت مرحلتها النظرية وبدأت شوطها العملي.
وأطلق زعماؤنا اسم «الواقعية البلشفية» على هذه النظرة المتشائمة السوداء، التي رأى فيها بعضنا ما يتنافى مع الكرامة والطمأنينة، فليس من خلقنا الفطري أن نلعب دور العُقاب الذي يعيش على أشلاء قارة صريعة، وكنا نؤثر على ذلك أن نحيي في أنفسنا شيئًا من النخوة التي أبديناها في أعوام الثورة الماضية، وأخذ كثيرون منا يطمئنون أنفسهم بأنه إذا ما سارت الحرب بعض شوطها، فسيثور العمال على مستغليهم، ويومئذٍ تنقلب الحرب الاستعمارية إلى حرب أهلية، وتثور أوروبا كلها ثورة واحدة قد تعيد لنا روح الثورة والشوق إلى المثل العليا الذي عُرِفَت به بلادنا.
وعلى الرغم من أن الناس جميعًا تقبلوا صداقتنا الجديدة مع النازيين، كما تقبلوا ما يبلغهم من الهجمات العنيفة على البلاد الأوروبية الأخرى، فإني أشهد أن لم يكن بين هؤلاء الناس أحد يحس حماسة نحو هذه الأمور، وكل ما ساد الناس إزاءها شعور حاد بحيرتهم، حتى لقد كانت اجتماعاتنا السياسية التي كان خطباؤها يجيئون إليها موفدين من الهيئة المركزية لشرح الموقف تتصف بالتوتر والقلق، وخاصة بعد ما غزت الروسيا فنلندا في آخر نوفمبر، فإذا ما قاتل «داود» «جالوت» — أي إذا ما قاتل القزم عملاقًا — فإنك قد تجد بين أنصار جالوت أنفسهم من يعطف على داود الضئيل في بسالته، فكيف يمكن لأشد عمالنا سذاجة أن يصدق الحكاية الخرافية التي أذاعوها على أنها تصف الحقيقة، وهي أن فنلندا الضئيلة قد هاجمت جارتها القوية دون أن تستثير تلك الجارة غضبها؟ ثم زاد الناس سخطًا على هذه المغامرة أن قد دفعت فيها الروسيا مئات الآلاف من أرواح أُزْهِقَت وأجساد جُرِحَت أو عضَّها الصقيع وأفراد وقعوا في الأسر، وكل ذلك من أجل شريحة من الأرض الفنلندية كلها مستنقعات.
ولو حكمنا على الأمور في ضوء ما تمخضت عنه الحوادث من نتائج لتبينا في وضوح أن ستالين كان جادًّا حين تعاقد مع هتلر، فلو كان الكرملين يعتقد أننا لا بد محاربون ألمانيا في نهاية الأمر مهما تكن الظروف، لحاولوا أن يحتفظوا ببعض كراهية الناس نحو الألمان، ولما نفضوا أيديهم نفضًا تامًّا من الدعاوة ضد الفاشية، ولتحولوا إلى الدعاوة ضد الاستعمار (وعبارة «ضد الاستعمار» معناها ضد البريطانيين والأمريكان)، أو على الأقل لظل موظفو الحزب الموثوق بهم في الكرملن نفسه، والذين عرفت منهم كثيرين معرفة وثيقة، يتلقون تعليمات تدل على أن الخطر النازي ما زال قائمًا.
لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، بل حدث عكس ذلك تمامًا، فقد كانت كل همسة ضد ألمانيا وكل كلمة تدل على عطف القائل على ضحايا هتلر، تعد ضربًا جديدًا من ضروب مناهضة آثار الثورة، وفي الوقت نفسه كان السباب يكال كيلًا «لتجار الحروب» من فرنسيين وبريطانيين ونرويجيين.
وإذن فالنظرية القائلة بأن ستالين إنما كان «يلعب لعبة يكسب بها مهلة من الزمن»، وبأنه كان في الواقع يسلح نفسه تسليحًا جنونيًّا ليتأهب لقتال النازيين، هذه النظرية اخترعوها اختراعًا في زمن متأخر ليعالجوا بها الغلطة الشنيعة التي تعثر فيها الكرملن حين وثق في ألمانيا وعاهدها، وكان التلفيق هنا تلفيقًا «مكشوفًا» حتى لقد سكت الناس عن الخوض فيه داخل الروسيا إلا قليلًا، ولم يتبين لي أبدًا أن مثل هذه الفكرة قد تقال في سبيل الجد بحيث تصادف عند الناس تصديقًا إلا حين خرجت من الروسيا إلى حيث العالم الحر، وإنها لفكرة يتجاهل الآخذ بها أهم جوانب الاتفاق الذي تم بين ستالين وهتلر، وأعني به ما تعهدت به الروسيا من معونة اقتصادية ضخمة استنزفت من الاتحاد السوفيتي محصولاته ومواده الخامة وكفايته الإنتاجية التي كان في أمسِّ الحاجة إليها في استعداده للدفاع عن نفسه.
والحقيقة الواقعة هي أن النظام السوفيتي لم يستغل تلك الفترة في تسليح نفسه تسليحًا ذا أثر فعَّال، ولقد كنت وثيق الصلة بالصناعات المتعلقة بالدفاع بحيث يتاح لي أن أعلم ما حدث من تراخٍ في المجهود الحربي بعد الاتفاق، وكان الشعور العام الذي ساد أعلى الدوائر الرسمية هو أننا قد نجونا من الخطر بفضل المهارة السياسية التي أبداها ستالين، ولم يدخل الريب نفوس الناس في هذا الصدد إلا بعد أن سقطت فرنسا، ويومئذٍ فقط ارتفع منسوب الجهد الحربي من جديد.
خُصِّصَ لعملي في كمروفو عام ١٩٤٠م مبلغ قيمته سبعة وأربعون روبلًا، ذلك أنه في ختام ١٩٣٩م كنا قد فرغنا من الاستعدادات الرئيسية بحيث لم يعد ما يمنع البدء في إقامة المباني الرئيسية لمصنعنا الذي وضعت خطته.
ووكل أمر البناء نفسه — حسب الإجراء المتبع في روسيا السوفيتية — إلى موثقة خاصة تعاقدوا معها على إقامته، وكانت الموثقة في هذه المرة هي موثقة «كمروفوستروي»، وكانت هذه الجماعة مسئولة كذلك عن جمع العمال، لكنني بطبيعة الحال اشتركت في كل ما دار من مفاوضات بشأن حشد العمال؛ لأنني كنت المكلف بسرعة إنجاز العمل وبالإشراف على جودته.
وتعهَّد رجال القسم السياسي بالنيابة عن رؤسائهم في ذلك الإقليم بأن يمدونا بألفي عامل من المسجونين بادئ ذي بدء، وأن يزيدوا هذا العدد في الربيع، حين تتهيأ الظروف للعمل في نطاق أوسع، وتم الاتفاق على التفصيلات في عدة جلسات عقدت في مكاتب المقاولين وفي مقر رياسة القسم السياسي، وكثرت المساومة إبان تلك الجلسات عن أوصاف العمال الأرقاء التي يشترط توفرها فيمن يقومون بالعمل وفي الأجور التي تُدْفَع لهم، وكانت مساومة لا تعرف لهؤلاء العمال قيمة إنسانية على الإطلاق، حتى لو دخل أجنبي أثناء المناقشة لما تبادر إلى ذهنه قط أنها كانت تدور على رجال ونساء، ولما تطرَّق إليه شك في أن موضوع المساومة جماعة من خيل وبِغال.
أصغيت في الاجتماع الأول ولم أتكلم إلا قليلًا، ولم يسعني إلا أن أدير في رأسي هذا الخاطر: إذن فهذه هي الاشتراكية في صورتها العملية وفي مجتمع الحياة السعيدة التي لا تعرف التفاوت بين الطبقات … إذن فهذه هي الحياة الجديدة التي نحاول أن نفرضها بالقوة على فنلندا في هذه اللحظة عينها … واعترتني رجفة لا بد أن تكون قد هزتني هزًّا، فقد تخاذلت قواي، ونظر إليَّ سفروف تعلوه علامات الدهشة وقال: «ألست موفور الصحة يا فكتور أندريفتش؟»
– «بلى، فليس بي من مرض أشكوه … كل ما في الأمر أني لم أنم نومًا كافيًا خلال هذا الأسبوع.»
وشرح مندوب القسم السياسي حقيقة الموقف فقال: إن عدد المسجونين موفور، بما في ذلك النسبة المطلوبة من العمال الفنيين ورؤساء العمال، وأن في مقدوره أن يمدنا بخمسة آلاف أو عشرة آلاف أو أي عدد شئنا، وكان في صوته إذ هو يقول هذا رنة الفخر بأداء مهمته على الوجه الصحيح، كأنه تاجر جياد يفاخر بإصطبله المليء بصنوف الخيل، ولا يجد صعوبة إلا في أن يجد لهم مكانًا ينصرفون إليه، فمعسكرات الاعتقال الكثيرة في إقليم كمروفو المجاور كانت تحتوي على ما يقرب من خمسة عشر ألفًا والمنتظر أن تفد إليها جموع أخرى.
ودار النقاش هل نبني معسكرًا جديدًا ثم نسارع إلى ملئه بالمعتقلين بحيث نوفي بأغراضنا أو هل الأفضل أن نقيم ثكنات جديدة في المعسكرات القائمة؟ وأخيرًا انتهينا إلى قرار وهو أن نخبر حظيرة هي من أوسع الحظائر المحلية مساحة، قبل أن نحسم في الأمر بكلمة نهائية.
وركبنا سيارة فاخرة في صباح يوم شديد الريح قارس البرد؛ لنفحص عن المكان، وكنا أربعة: موظفًا من القسم السياسي ومندوب جماعة المقاولين وكاتم سر اللجنة المحلية وأنا، وسرنا بالسيارة الهوينا نشق طريقنا في الثلوج، لكننا بلغنا غايتنا بعد فترة لا تزيد على عشرين دقيقة.
كان المعسكر قائمًا على نشز من الأرض يطل على مجرى ماء يتفرع من نهر توم، وكاد أن يكون مربعًا في شكله يحيط به سور عال تمتد على حافته العليا أسلاك شائكة، وفي أركانه الأربعة أبراج للحراسة، وعند مدخله مقصورة خشبية للخفراء، وها هنا نزلنا من سيارتنا، وكانت الثكنات الخشبية تمتد موازية لجدران الحظيرة، وتكون مربعًا في وسطه فناء يشبه أن يكون أرضًا خُصِّصَت ليصطف فيها الجنود ساعة التمرين، وكان هذا الفناء في مرمى المدافع الرشاشة التي ركبت على قمم الأبراج، بحيث إذا ما حدث ما يدعو إلى استخدام تلك المدافع أطلقت نيرانها على الفور، وتقوم بالقرب من المدخل عدة دور جميلة البناء، فيها مكاتب الإدارة ومنازل الحراس.
كان القائمون على الأمر هناك في انتظارنا، فما أن وصلنا حتى أدخلونا فورًا إلى المكتب الرئيسي حيث استقبلنا رئيس المعسكر، فلم ألمح فيه علائم الود الصادق فحسب، بل رأيت فيه كذلك ما ينم على خضوع، وهو رجل قصير بدين أشقر، ملامحه أمْيَل إلى الوسامة قد تأثرت من فعل الجو، ولم يكن ليخفى على أحد أنه وقف إزاءنا يرتعد خوفًا من مندوب اللجنة المحلية وموظف القسم السياسي الذي كان بمثابة الرئيس لجماعتنا، ثم تبين لي سبب ذلك فيما بعد، وهو أن هذا الرجل كان شيوعيًّا معروفًا ونُفِيَ من موسكو، فعلى الرغم من أنه عُيِّنَ هنا رئيسًا للمعسكر، فقد كان هو نفسه في حكم المنفي الذي وُضِعَ في مكانه ذاك ليكون ولاؤه السياسي تحت رقابة دائمة، وإذن فموظف الحزب وموظف القسم السياسي في كمروفو كانا يراقبانه ويقدمان عنه التقارير في فترات منتظمة، يصفون فيها سلوكه في إدارة المعسكر.
لقد حدث لي مرات عدة أن دخلت معسكرات الاعتقال، لكني لم أكن قد أَلِفْتُ الإحساس بها بعدُ، وما زلت مدفوعًا بحب استطلاع عجيب أن أُلِمَّ بكل تفصيلات الحياة في المعسكر، ويستحيل على إنسان أن يفهم هذا الإحساس الذي كان يعتورني، إلا إذا كان مثلي يفحص عن سجن ويتوقع أن يكون فيه ذات يوم سجينًا.
نظرت من النافذة فرأيت ما يقرب من خمس عشرة امرأة من المسجونات قد تزملن بالخرق البالية ليتقين لذعة البرد، وأخذن يكومن حطبًا بالقرب من أحد الأبنية المقامة بالطوب المحروق، إحداهن غطت رأسها بكيس من الخيش، ولفَّت الأخريات أيديهن في أسمال بالية بدل القفازات، وما هي إلا أن جاء أربع نساء أخريات يحملن دلاء يصعد منها سحاب من بخار.
فسألت الرئيس: «ماذا يصنعن؟»
فقال: «إنهن يطعمن الخنازير والطيور.» ثم أضاف في زهو: «إننا هنا نربي الحيوان والطير لننتج طعامًا من اللحم بأنفسنا.»
– «تنتجون اللحم للمسجونين جميعًا؟»
– «المسجونون!» وضحك كأنه قال فكاهة تثير الضحك. «هل تحسبنا نطعم أعداء الشعب لحمًا؟ ليس هذا مصحة أو مطعمًا، ومع ذلك فصدقني إن قلت: إن مشكلة طعامنا نحن وطعام الحراس ليست بالمشكلة الهينة.»
– «ومن هؤلاء الرجال الثلاثة الكهول؟»
وأشرت بإصبعي إلى ثلاثة رجال ملتحين يرتدون معاطف بالية ويلفون رءوسهم بلفاعات، كانوا يشتغلون على كومة من الحجر.
– «هم قسيسان وحَبر من أحبار اليهود، لا تسعفهم قواهم أن يمشوا ثمانية كيلومترات حتى يبلغوا مصانع كمروفو، فكُلِّفوا ببعض الأعمال هنا في المعسكر ليكسبوا بها القوت.»
فقال مندوب شركة المقاولين الذي جاء معنا: «هذا عجيب، فما أيسر على القساوسة والأحبار أن يمتزج بعضهم ببعض إذا ما اجتمعوا وراء الأسلاك الشائكة لمناهضتهم الثورة، لقد لحظت هذه الظاهرة في معسكرات كثيرة.»
فوافقه رئيس المعسكر قائلًا: «هذا صحيح، وقد استوقف نظري كذلك.»
جلسنا بعدئذٍ في المكتب وأخذنا نناقش ما جئنا من أجله، وقال رئيس المعسكر: إنه على الرغم من أن المكان يحتوي الآن على ثلاثة آلاف سجين تقريبًا، يزحمونه فوق طاقته، فإن من الممكن أن نقبل ألفًا رابعًا، ولو أن ذلك ليس باليسير، وبيَّن لنا أن بعض الثكنات يستخدم بالفعل استخدامًا مضاعفًا، فينام فريق في الوقت الذي يعمل فيه فريق آخر، ثم يتبادل الفريقان النوم والعمل، ولم يكن هذا الترتيب لسوء الحظ ممكنًا في جميع الحالات؛ لأنه يعتمد على نوع العمل الذي تم التعاقد على أن يقوم به المسجونون، وكان من رأيه أن من الحلول الممكنة أن يبنى صف ثالث من «الأسرَّة».
– «نعم، إن هذا الصف الثالث سيزحم المكان بعض الشيء، لكن الصف الأوسط سيكون أكثر دفئًا على أقل تقدير.» وضحك مرةً أخرى.
ولكي يوضح لنا فكرته، دعانا إلى زيارة بعض الثكنات، فلبسنا قبعاتنا ومعاطفنا وتبعناه.
رأينا في طريقنا جنود الحراسة شاكي البنادق شاهري السلاح، ووقفوا على مسافات متساوية، وكانت الثكنات مصنوعة من ألواح خشبية غير مطلية بدهان، سدَّت فتحاتها بنشارة الخشب، وغُلِّقت أبوابها بالمزاليج والمفاتيح من خارجها.
سألت الرئيس قائلًا: «كم تسع كل ثكنة من هذه الثكنات؟»
– «يختلف العدد باختلاف الظروف، والمتوسط يقع بين ثلاثمائة وثلاثمائة وخمسين.»
ثم قال رئيس المعسكر، والحارس يفتح باب واحدة منها: «هذه الثكنة تئوي ثلاثمائة وعشر من النساء.»
– «وقوفًا!» صاح الحارس بهذه الكلمة في القاعة الطويلة المعتمة ذات السقف الوطيء، فلبت المسجونات النداء في خفة، ومَنْ كن منهن على الرفوف العليا هبطن إلى الأرض مسرعات في خوف وفزع، ولم يبق على الأسرة إلا ثلاث أو أربع، والظاهر أنهن كن مريضات لا يستطعن النهوض، وكان النساء اللائي رأيت هناك من شتى الأعمار، وكن خليطًا من قوميات مختلفة، ومنهن العجائز والفتيات الشواب، ولم يتفقن جميعًا إلا في الخرق التي ارتدينها وفي التعب البادي على وجوههن، وتقززت بعض الشيء لرائحة العرق الكثيفة المنتنة ورائحة حشرات البق المفقوع، ولم يكن يتسلل خلال النوافذ القذرة ذوات القضبان إلا قليل جدًّا من ضوء النهار، ورأيت بضعة مصابيح كهربائية صغيرة مدلاة من السقف، لكنها لم تكن موقدة حينئذٍ.
كانت الثكنة من البرودة بحيث رأينا أنفاسنا عالقة في الهواء، ومع ذلك فكثيرات من المسجونات لم تكن تغطي الثياب إلا أنصافهن، وقد لحظت واحدة هنا وواحدة هناك أخذتها زيارتنا على غرة وراحت في ربكة تحاول أن تغطي ثدييها بقطعة من ثياب، أما كثرتهن الغالبة فلم يأبهن للأمر وعلاهن الوجوم، فقد استنزفت منهن آخر قطرة من قطرات الحياء الطبيعي، وكان بين النساء بضع فتيات صغيرات السن جدًّا، وبضع عجائز تغضنت وجوههن، وأما أغلبهن فتتراوح أعمارهن بين العشرين والثلاثين، ولم يتعذر عليَّ الحكم على كثيرات منهن بملامح وجوههن وبأسمال ثيابهن بأنهن من المثقفات، فلا تزال آثار الثقافة والتعليم بادية على وجوههن بالرغم مما كن فيه من قذارة وإعياء.
كانت «الأسرَّة» ألواحًا خشبية عارية، عرض الواحد منها يقرب من أربع أقدام، ورُكِّبَت على قوائم غليظة في صفين أحدهما فوق الآخر، لا شيء سوى صفين من الرفوف الخشبية لا يغطيها أي شيء من الفراش، وعلى هذه الرفوف كانت تنام المسجونات، كل منهن على رف من هاتيك الرفوف، لا تغطيهن إلا ثيابهن، وتحت رءوسهن وسادات من بعض أسمالهن لففتها ووضعتها هناك مكان الوسائد، وفي وسط القاعة رأيت موقدًا صغيرًا من الخشب المحترق، لا يسعك إذ ترى صغره بالنسبة إلى حجم المكان سوى أن يأخذك العجب والإشفاق، ولو استثنيت قليلًا من دلاء وضعت قرب الباب ليقضي النساء فيها حاجاتهن الطبيعية، لما وجدت شيئًا من وسائل الحياة، فلا مقاعد ولا مناضد ولا شيئًا على الإطلاق.
كان المسجونون إذا ما وصلوا إلى المعسكر يجرَّدون مما يحملونه معهم من خطابات وصور شمسية لأقاربهم وأصدقائهم وكل ما عساه أن يذكرهم بالعالم الحر خارج أسوار السجن، وكذلك تؤخذ منهم أغطية الفراش، بل تؤخذ منهم أيضًا حتى البسائط التوافه من أدوات العيش مثل فراجين الأسنان والمقصات، ثم يعطي كل منهم كوبًا معدنيًّا وقدحًا معدنيًّا كذلك، وملعقة من خشب، فكانوا يضعون هذه الأشياء على أسرتهم أو يعلقونها بجوارهم على الجدران، ولا يؤذون لهم قط بقراءة كتاب أو باستخدام أوراق وأقلام، وبالطبع لم يكن هناك أجهزة لاسلكية للإذاعة، وهكذا كان تراسلهم مع ذويهم محرمًا عليهم من جهة ومستحيلًا من جهة أخرى.
لكني نسيت أن أذكر أن قد كان إلى جانب جدار من الجدران الوطيئة حوض من حديد فوقه حوض للغسل رُكِّبَت عليه أنابيب تقطر الماء، وأشار دليلنا إلى هذا الحوض قائلًا: إنه «معدات الغسل»، ثم راح يشرح لنا فكرته بأنه من الممكن أن يضاف صف آخر من الرفوف بين الصفين، وبهذا يمكن أن يزداد العدد مائة أخرى في تلك القاعة وحدها، كان يتكلم كأنه يدير الكلام على ماشية، لا يأبه مطلقًا لشعور المسجونات اللاتي وقفن هناك صامتات مصغيات إلى حديثنا، وقد لمحت وقتئذٍ على أحد الجدران قطعة من راية حمراء كُتِبَت عليها بالدهان الأبيض عبارة من عباراتهم التي يصوغونها في صيغ الحكم: العمل، إنه طريق العودة إلى الحياة الحرة.
وبينا نحن خارجون سألت قائلًا: «أكل هؤلاء المسجونات مجرمات؟»
فأجاب رئيس المعسكر: «كلا، هؤلاء هن المعتقلات السياسيات ممن يناهضن شيوعية الأرض الزراعية أو يقاومن تعاليم الثورة، في ثكنات الرجال وضعنا كل الأصناف معًا، أما في ثكنات النساء فقد رأينا من الأفضل أن نفصل المجرمات والعاهرات عن السياسيات، إن حفظ النظام مشكلة أعقد بين النساء منها بين الرجال.»
ثم أدخلنا الشرطي الحارس ثكنة أخرى، أصغر من الأولى قليلًا، وكان نساء هذه الثكنة جميعًا من المجرمات، وبعضهن من العاهرات، كما أنبأني رئيس المعسكر الذي أخذ يزودني بالمعلومات عن معسكره لما تبين أني أكثر اهتمامًا بها مني بأمر المفاوضات التي جئنا من أجلها.
وحدث هنا ما حدث في الثكنة الأولى إذ وقفت المسجونات احترامًا للقادمين، ولا أظن أن في الدنيا منظرًا أفظع في عيني الرجل السوي من منظر بضع مئات من النساء القذرات العليلات الممزقات الثياب؛ لأن مثل هذا المنظر يستثير نخوة الرجل إزاء المرأة، وإنها لنخوة عميقة الجذور في جبلَّته.
وأمر رئيس المعسكر إحداهن قائلًا: «ستاروستا، تعالي هنا.»
وخَطَتْ إلى الأمام «ستاروستا» — ومعناها ملاحظة الثكنة — وكانت تبدو بين الثلاثين والأربعين من عمرها، ترتدي ثوبًا ممزقًا مرقعًا، كان ذات يوم فيما مضى ثوبًا أنيقًا، كما دلت قسماتها على أنها كانت ذات يوم فيما سلف امرأة وديعة، وقفت أمامنا مستقيمة، ويداها إلى خلفها.
قالت في صوت واضح النبرات، لكنه بغير روح: «كل شيء على ما يرام هنا يا حضرة الرئيس، امرأة واحدة مريضة وأما الباقيات فمستعدات لوجبة الطعام ومتأهبات للعمل.»
– «هذا جميل، انصرفي.»
ولمحتُ بعيني لوحةً سُمِّرَت إلى الجدار بالقرب من الباب الذي وقفنا إلى جواره، وقرأتها فإذا هي قائمة مطبوعة تشتمل على القواعد التي يجب أن تراعى بصدد النظافة والطاعة العمياء، وقرأت في ختامها ما كُتِبَ بالخط العريض من ألوان العقاب: فأولًا يومان بغير قوت، فإن تكرر خروج السجينة على القواعد حُبِسَت في زنزانة حبسًا منفردًا مدة لا تقل عن أسبوع، فإن اقترفت ذنبًا ثالثًا، مدَّ أجل السجن بما يتراءى لأولي الأمر، أو حُكِمَ عليها «بأقصى الإجراءات لحماية المجتمع»، وهي الصيغة السوفيتية التي يعبرون بها عن الإعدام رميًا بالرصاص.
ولما غادرنا هذه الثكنة سألت رئيس المعسكر هل اضطر ذات مرة إلى تنفيذ حكم الإعدام في سجينة؟
– «لم أضطر إلى ذلك منذ ثورة العام الماضي.» أجابني الرئيس بهذا القول ظنًّا منه أنني لا بد أن أكون عالمًا بالحادثة التي يشير إليها ما دمت موظفًا في كمروفو.
واستصحبنا بعدئذٍ إلى ثكنات الرجال التي كانت شبيهة أتم شبه بثكنات النساء، هذه في جانب، وتلك في جانب آخر، ولما كنت قد ألفت المناظر والروائح، فقد أتيح لي الآن أن أدرس المسجونين أنفسهم دراسة أدق، كان معظم المسجونين من الروس، لكن بعضهم كان من جنسيات أخرى، فمنهم الأزابكة والأتراك والتتار والأرمن واليهود والبولنديون بل والصينيون أيضًا، وعلى الرغم من أنهم جميعًا لم يكونوا حليقي الوجوه، وأنهم كانوا في حالة يستحيل وصفها من العلة والتمزيق، فقد استطعت مع ذلك أن أتعرف بينهم إلى بعض الوجوه التي نمت عن ذكاء وامتياز، وقلت لنفسي: لعلهم مهندسون وأساتذة وأدباء وزعماء حزبيون أصابهم الحظ المنكود، ولحظت بينهم رجلًا طويلًا عريض الكتفين مستقيم الوقفة، نظر محدقًا في عيني، فأيقنت أنه لا بد أن يكون عسكريًّا، ولم ينقص من يقيني ذاك أنه لم يكن في بزته العسكرية، لكن الكثرة الغالبة كانت — طبعًا — من سواد الفلاحين والعمال.
كان الملاحظ في إحدى الثكنات رجلًا قوي البنية أجدع الأنف ذا عينين صغيرتين لامعتين بالدهاء.
قال رئيس المعسكر مشيرًا إليه: «هذا هو كاسر البندق.»
فسألته: «وفيمَ تسميته بكاسر البندق؟»
– «مشهور بكسر الخزائن، وقد عُرِفَ بهذا اللقب في كثير من الأقاليم.» وضحك الرئيس ثم قال: «المجرمون أمهر في ملاحظة الثكنات من السياسيين؛ لأنهم لا يضعفون كما يضعف السياسيون.»
وقال رجل الشرطة السياسية مبتسمًا: «إن معظم المجرمين من السجناء يحتقرون المعتقلين السياسيين، إن هؤلاء المجرمين ليسوا من أعداء الشعب … إنهم لا يزيدون على كونهم أوغادًا خرجوا على طاعة القانون.»
وسأل منا سائل: «ما نسبة المجرمين إلى السياسيين؟»
– «المجرمون في هذا المعسكر لا تزيد نسبتهم في العادة على رقم يتراوح بين عشرة وخمسة عشر في كل مائة، وهذا العدد يشمل العاهرات، لكننا بالطبع لا نفرق بينهم في المعاملة.»
ولما كنا في طريقنا عائدين، جمعت معلومات أوفى من ضابط الشرطة السياسية، إذ علمت منه أن المسجونين لا يسمح لهم بالتدخين في الثكنات، وفي العادة لا يعرف أقارب المسجون في أي معسكر يكون، والقاعدة الجارية هي أن يوضع الذين صدر عليهم الحكم بمدة قصيرة في السجون أو يحشرون في زمرة الجماعات العاملة بالسخرة بحيث تخصص المعسكرات — إلى حد كبير — لمن صدرت عليهم أحكام بخمس سنوات أو ثمان أو عشر أو أكثر، ومن صدر عليهم الحكم بالسجن المؤبد.
والواقع أن طول مدة السجن التي حُكِمَ بها على السجين لا أهمية لها؛ لأن الذين يُطْلَق سراحهم منهم قليلون جدًّا، فليس يطلق سراحهم عند نهاية المدة باعتبار ذلك إجراءً طبيعيًّا، بل لا بد من استصدار أمر خاص في كل حالة من رياسة القسم السياسي في موسكو، وهذا القسم في العادة يزيد من مدة الحكم على غير أساس أو مبرر إلا أنه يريد أن يحتفظ بعدد العمال المسخرين كاملًا، وحتى من أطلق سراحهم قلما يسمح لهم بالعودة إلى بلادهم الأصلية — إن سمح بذلك لأحد منهم على الإطلاق — بل كانوا يؤمرون أمرًا أن يستقروا في أقاليم تعين لهم تعيينًا في الأجزاء النائية من سيبيريا في معظم الحالات في الشرق الأقصى أو الشمال الأقصى؛ ولذلك ترى مجتمعات بأسرها يكاد يتكون أفرادها الكثيرون كلهم من خريجي السجون.
ففي أشد المعسكرات سوءًا من حيث سمعتها — أعني معسكرات الشمال الأقصى والشرق الأقصى وفي أعماق سيبيريا — كان يحتوي كل معسكر على ثلاثين ألفًا أو أربعين ألفًا من المسجونين، ولما كانت نسبة الوفيات هناك عالية إلى حد مخيف فقد خُصِّصَ في تلك المعسكرات من بين المسجونين أنفسهم فرق لا عمل لها سوى دفن الموتى تقضي فيه اثنتي عشرة أو أربع عشرة ساعة كل يوم.
كانت كمية الخبز التي تُصْرَف للمسجونين في المعسكر الذي زرناه لتونا — والخبز هو طعامهم الرئيسي — تتراوح بين ثلاثمائة أو ثمانمائة جرام (أي من إحدى عشرة أوقية إلى ثلاثين) كل يوم، وإنما تزيد الكمية أو تقل تبعًا لنوع العمل الذي يكلف المسجون بأدائه ولنوع الجريمة التي اقترفها ولمقادير الإنتاج التي أنتجها، ثم كان يُصْرَف لهم فوق ذلك حساء رقيق من البطاطس أو الخضر مرتين في اليوم، وكذلك طبق من البليلة، كما كان يُصْرَف لهم سمك مقدد آنًا بعد آن، فإذا ما عجز المسجون عن إنتاج المقدار الذي طلب إليه إنتاجه، عوقب بتخفيض هذه الكميات؛ لذلك شاعت في المعسكرات الأمراض التي تنشأ عن قلة الغذاء مثل الإسقربوط والدوسنتاريا وغيرهما، كما شاع تآكل الأجساد بالصقيع، ولم يكن بين من شهدت من المسجونين إلا عدد قليل خلا من القروح الدامية والعيون الملتهبة وغير ذلك من الأدلة الظاهرة على الصحة المتدهورة، إنه إذا ساد بلدًا من البلاد نظام الرق على صورته الحقيقية، كالذي ساد الولايات المتحدة — مثلًا — قبل الحرب الأهلية، فإن العبيد في هذه الحالة يمثلون نظامًا اقتصاديًّا؛ ولذلك يكون لهم على الأقل حق في كل شيء من الرعاية والحماية اللتين لا نبخل بهما على الحيوان الذي يعيننا في العمل، أما الرقيق السوفيت فأسوأ من ذلك حالًا بدرجة لا تقاس، فموردهم يكاد لا ينفد، ومالكهم — وهو الدولة السوفيتية — يفضل من الوجهة الاقتصادية — فيما يظهر — أن يلقي بهم إلى الموت زرافات على أن يتكلف نفقات غذائهم وكسائهم.
سألتُ: «ما هذه الثورة التي ذكرها؟»
فتطوع بالجواب كاتم سر الحزب وقال: «تلك الثورة حدثت في أواخر عام ١٩٣٨م حين رفض بعض المسجونين أن يخرجوا من معسكرهم للعمل … وكانت شكواهم من سوء الطعام، فوقفت الإدارة منهم بالطبع موقف الحزم الشديد، ورُمِيَ بالرصاص أربعة عشر من زعماء الحركة، منهم اثنا عشر رجلًا وامرأتان، وتم القتل في المعسكر على مرأى من جميع المسجونين الذين صفوا ليشهدوا، ثم اختير من كل ثكنة من الثكنات من يمثلها في حفر المقابر لهؤلاء ملاصقة لسور الأسلاك الشائكة من خارجه، وليس هنالك احتمال بوقوع فتنة أخرى ما دامت ذكرى تلك الحادثة حية في الأذهان، وطبيعي أن يخول رئيس المعسكر حق إعدام من شاء من مسجونيه، فلسنا في زمن يسمح بأي قدر من التهاون السمج في معاملة أعداء الشعب.»
وواضح أن العبارة الأخيرة كان الغرض منها أن يؤمن القائل على سلامته من الوجهة السياسية، نعم، إن ضابط الشرطة السياسية الذي كان يصحبنا صديقي حميم لكاتم سر الحزب، لكن فيمَ التعرض للخطر؟
وقبل أن نصل إلى حل لمشكلة تهيئة المساكن لعمالنا العبيد وعددهم ألفان، أرجئ المشروع كله أو «حُفِظَ» بلغة رجال الدواوين.
لم أكن أظن أن كل ما بذلتُ من مجهود في «كمروفو» قد طُوِّح به في كومة القمامة؛ لذلك سرني أن تجيئني دعوة مفاجئة إلى موسكو في آخر ديسمبر؛ لأن ذلك من شأنه أن يتيح لي فرصة الاحتفال برأس السنة الجديدة مع «إيرينا»، نعم كنت أظن أن خطورة الأمر لا تعدو مشاورة نهائية في مشروعاتنا لعام ١٩٤٠م، لكني وجدت الرفيق كوزفينكوف شديد التجهم!
قال لي: «عندي لك خبر يا فكتور أندريفتش، وهو أن قرارًا أصدرته اللجنة المركزية العليا يأمر بوقف العمل مؤقتًا في مشروع صناعة خراطة الأنابيب في «كمروفو»، فقد اكتفوا بمليون روبل تُنْفَق على ذلك المشروع، وهو مبلغ لا يكفي أكثر من الاحتفاظ بما أتممناه منه.»
فنظرت إليه نظرة المبهوت.
– «هذا مستحيل، لقد بذلنا جهد الجبابرة حتى بلغنا بالأمر حدًّا يستثير الإعجاب بكل شيء، كيف يمكن لهذا القرار أن ينفذ؟»
– «لا تسلني، فلست إلا رئيسًا للهيئة العليا لصناعة الأنابيب، ولم تُطْلَب مشورتي، اكتفوا بتبليغي فحوى قرارهم، بيني وبينك، إنني لست أقل حيرة منك.»
فاستأنفت حديثي قائلًا: «لقد أنفقت ملايين الروبلات في الإعداد، وهناك كميات هائلة من مواد البناء معدة للعمل، وكل من له إلمام بالصناعة في سيبريا يعلم أن المشروع لا غنى عنه، فماذا يا ترى وراء هذا كله؟»
– «كل ما أستطيع زعمه أن الباعث إلى ذلك هو الموقف الدولي الجديد، فما دمنا قد أصبحنا الآن على صداقة مع ألمانيا، فليس ما يدعو إلى العجلة في مشروع الدفاع؛ لأننا نستطيع أن نؤجلها مؤقتًا.»
– «لكن ألم يكن مشروع «كمروفو» متصلًا قبل كل شيء بأخطار الشرق الأقصى؟ إن اليابان لا تزال هناك.»
– «نعم، لكن هذه أمور تتعلق بالسياسة العليا، وخير لنا ألا نخوض فيها، وظني هو أن التعاهد الألماني السوفيتي يجعل الخطر الياباني كذلك ليس قريب الوقوع.»
– «وما مصيري أنا يا رفيقي كوزفنكوف؟ فمهما يكن من أمر فأنا المدير المسئول، ولقد أنفقت ملايين الروبلات في أعمال التحضير، أليس من واجبي أن أبلغ الحزب رأيي في قرارهم؟»
إن حركة التطهير الأعظم قد علمتني أن أتحسس مواضع الخطر، وكنت أعلم أنه من أسهل الأمور أن يقع في الفخ موظف بريء فتنصب عليه اللائمة على الأخطاء الفاحشة التي يزل فيها أولو الأمر من رجال الدوائر الحكومية العليا، ووقف العمل في «كمروفو» يبدو لعيني غلطة من أفحش الغلطات.
– «أقترح عليك الصمت يا فكتور أندريفتش، كل ما تعمله هو أن تنهي أعمالك في «كمروفو» وتعود إلى هنا، ولقد أمرت هيئة المقاولين في «كمروفو» بالفعل أن نقف العمل.»
ترى هل أستمع إلى نصحه بقبولي القرار صامتًا؟ ظللت أعترك مع نفسي في هذه المشكلة أسابيع عدة، فلو عبرت عن رأيي لعد ذلك إساءة إلى أولي الأمر في الدوائر العليا الذين اتخذوا القرار، ولأثرت بذلك العداوة ضدي، ولكني من جهة أخرى إذا وقفت موقفًا سلبيًّا إزاء هذا الأمر، قد أواجه بموقفي في تطهير قادم على أنه دليل استهتاري وبرودة حماستي تجاه البلشفية، فمهما يكن من أمر هذا المشروع، فإن له لأهمية عسكرية عظمى، وكان من حقي أن أخاف تغير الموقف الدولي، فيبحثون حينئذٍ عمن يصبون النقمة على رءوسهم تنفيسًا عما يصيبهم من خسار في تركهم الاستعداد والتأهب، وينزلون العذاب بهذه الطائفة الجديدة من «أعداء الشعب»، وحينئذٍ لا تلام الهيئة المركزية العليا ولا رجال الحكم في الدوائر العليا؛ لأنهم بحكم التعريف لا يخطئون، إنما يلام أمثالي ممن يقفون في براءة يشاهدون، أضف إلى هذا كله أن تفكيري في الموضوع كان مصطبغًا بصبغة عاطفتي الشخصية إذ ذاك، إذ كنت أحس خيبة الرجاء في وقف المشروع.
إن الإنسان ليميل بطبعه إلى أن يدمج نفسه في عمله، حتى في ظل النظام المميت الذي يتجاهل طبائع الإنسان ويضع الحياة تحت تصرف الدولة ونظامها؛ لذلك قذفت بكل ما في نفسي في مشروع «كمروفو»؛ لأنني اهتممت به اهتمامًا كبيرًا لجسامته أولًا ولعظيم خطره بالنسبة لمستقبل سيبيريا ثانيًا، فكنت تراني أجاهد وأضع التصميمات وأعارك كل صنوف الموظفين في سبيل هاتيك الآلات الشامخة التي رأيتها بعين الخيال ناهضة في ذلك المكان، ولم يعد يسيرًا عليَّ أن أعلم أن كل ذلك الجهد قد ذهب أدراج الرياح.
وما عدت إلى «كمروفو» حتى انجابت عني الوساوس فيما يختص بالطريق الذي ينبغي أن أسلكه؛ ذلك أني وجدت شيوخ المدينة في حالة من الغم للانقلاب الذي حدث، وأعدت اللجنة المحلية واللجنة الإقليمية في نوفوسيبرك تقريرين رسميين اعتزمتا إرسالهما إلى موسكو تتوسلان بهما إعادة النظر في القرار الذي اتُّخِذَ، وذكرتا في تقريرهما أن المشروع قد خطا خطوات فسيحة، وأن هنالك عددًا كبيرًا من المصانع الحيوية قد رسم خطته على أساس هذا المصدر الجديد الذي يمدهم بأنابيب الصلب، ثم امتدح التقريران إدارة المشروع واختصاني بالثناء على الأسلوب الذي أدرته به.
فوجدت ألا سبيل أمامي سوى أن أؤيد اللجنتين فيما طلبتا، ولقد تبين بعدئذٍ أنني بذلك أخطأت خطأً لازمتني لعنته أمدًا طويلًا؛ ذلك أني رفعت تقريرًا إلى اللجنة المركزية للحزب وإلى الرفيق «مركلوف» وزير صناعة تعدين الحديد، ألتمس فيه الاستمرار في منشأة كمروفو.
ولما عدت إلى موسكو، لم ألبث أن وجدت أن تصرفي قد أثار عليَّ من السخط ما لم أتوقعه، فكل هيئة سوفيتية إنْ هي إلا ميدان للحزازات الشخصية وللطوائف المتنافسة وللغيرة المتقدة، وتوشك أن تكون هذه الحالة نتيجة محتومة إذا ما كان للمهارة السياسية والنفوذ السياسي الكلمة في تقرير الأمور، فهذا «كوزفنكوف» قد ثارت ثورته؛ لأني لم آخذ بنصيحته، وهذا مساعده «جولوفاننكو» الذي عارضته في كثير من المسائل الهندسية كان فيما يظهر يضمر لي العداء منذ زمن طويل، وها هو ذا قد وجد المتنفس الذي يخرج فيه كل مشاعر غيظه نحوي.
والظاهر أن رئيسنا الأعلى «مركلوف» كان هو الرجل الوحيد الذي يتفق معي في وجهة النظر، لكنه لم يكن في الموقف الذي يتيح له أن يؤيدني، أو كاد ألا يكون، ولقد أنبأني سرًّا أن صناعة المعادن كلها كانت موضع البحث أمام لجنة خاصة شكلتها اللجنة المركزية للحزب، وعلى رأسها «مالنكوف»، وكان بين أعضائها «إيفان تيفوسيان» وهو أرمني يحظى بالثقة الشديدة لدى ستالين، وقال لي «مركلوف»: إنه لا يشك في أنه قد اتجهت النية إلى اتخاذه ضحية لما تراكم في صناعة التعدين من سيئات، وذلك ما حدث، إذ لم يلبث أن نقل من منصبه ليحل محله «تيفوسيان».
ومضى أكثر من شهر دون أن يبلغني شيء عما رأته اللجنة المركزية إزاء تقريري، فأخذني القلق، ونصحني أصدقاء ممن يتصفون بالحذر في الأمور السياسية أن أرسل نسخة من تقريري ذاك إلى مكتب ستالين الشخصي، على أن هذا الإجراء إذا كان من شأنه أن يقيني شر العقوبة المباشرة التي قد تهبط عليَّ من رجال وزارة صناعة التعدين إذا كانوا قد رأوا في تصرفي إهانة لهم أو مصدرًا من مصادر الخطر، فلا شك أن من شأنه كذلك أن يزيد من شناعة جريمتي في أعينهم.
وقد انتقموا مني انتقامًا مضاعفًا دفعهم إليه صالحهم الخاص؛ ذلك أنهم لفقوا عليَّ قضية عجيبة — سأتناولها بالتعليق فيما بعد — وبذلك نجحوا في شغلي مدى عامين كاملين بأمور قضائية تثير الضحك لغرابة تفصيلاتها، ومع أنهم لم يوفقوا إلى سجني؛ لأني ظفرت ببراءة تامة في المحكمة العليا آخر الأمر، فقد وُفِّقُوا إلى أن يبعثوا القلق في نفسي شهورًا عدة، وأن يتيحوا لي فرصة أكبر مما يشتهي أي إنسان للاتصال الوثيق بدقائق التشريع السوفيتي.
لبثت أتقاضى مرتبي من رياسة صناعة الأنابيب في الفترة التي قضيتها منتظرًا تعييني في منصب جديد، وما كان أحلى الفراغ الذي لم أتعوده، فاصطحبت «إيرينا» كل مساء إلى المسرح وحفلات الموسيقى والأوبرا والمرقص، وإني لأحب موسكو أكثر ما أحبها — شأني في ذلك شأن الكثرة الغالبة من الروس — حين يسودها جو من الصمت أيام الشتاء حيث يقصر النهار ويلمع الليل كأنه البلور، حين تكتنف الحياة فيها أطباق فوق أطباق من الثلج.
كانت موسكو إبان الأشهر الأولى من عام ١٩٤٠م إحدى العواصم الأوروبية القليلة التي لم تضرب الحرب عليها حصارًا، ولطالما أعلنوا هذه الحقيقة وأعادوها برهانًا على ما أوتي زعيمنا ورائدنا المحبوب من حكمة بالغة، وكانوا لا ينشرون أخبار الحرب إلا بالخط الصغير في الصفحات الأخيرة من الجرائد كأنما هي أخبار لا تعنينا في شيء، ومع ذلك فقد كان الناس يبدءُون قراءة الصحف بقراءة تلك الأخبار، وكانوا يقرءُونها في تفهُّم، واهتدوا بغريزتهم إلى الشك في صدق ما تزعمه الدوائر الرسمية بأن بلادنا يمكنها أن تظل إلى النهاية بمنجاة من ذلك الوبال المنتشر، ومن يدري؟! فلعل الشعور بأن حالة السكينة لن يطول بنا أمدها هو الذي أكسب الحياة الاجتماعية والحياة الفنية في العاصمة لونًا خاصًّا ذلك الشتاء؛ إذ أكسبها حيوية لم تهدأ لها حركة.
زادت الحفلات يعقدها الناس في البيوت عما ألفنا في الأعوام الماضية، وخُيِّلَ إليَّ أن أضواء الطريق واللافتات الكهربائية القليلة ازدادت توهجًا، واصطبغ المنظر بصبغة عسكرية لوجود الموظفين والضباط الألمان في العاصمة، وبخاصة في كبريات الفنادق والمطاعم.
وكذلك ظهرت بوادر الحرب في هذه العاصمة المحايدة على صورة أخرى؛ وذلك أن ما يسمونه بالمتاجر المفتوحة — حيث تبيع الدولة سلعًا معينة لمن كان في وسعه أن يؤدي أثمانها التي لم تحدد لها الحكومة حدودًا قصوى — قد غصت فجأة بصنوف السلع الأجنبية التي لم نألف رؤيتها: حلل وأثواب وأحذية وسجاير وشكولاته وجبن وطعام محفوظ، ومئات غير هذه من السلع التي لا ريب في استيرادها من غير بلاد السوفيت، فاضت علينا هذه السلع من مناطق الحدود التي احتلها الجيش الأحمر، وكانت هذه الكماليات تأتينا بادئ الأمر من الأراضي البولندية والفنلندية، ثم لما تقدم العام، بدأنا نعرض الغنائم التي غنمناها في دول البلطي ثم في بسارابيا.
ولو أخذنا بما كانت تقوله الدعاوة، لقلنا: إننا كنا «نحرر» هذه الأراضي من استغلال الرأسماليين ومن براثن الفقر، أما من الوجهة العملية الواقعية فقد اهتزت نفوس أهالي موسكو حين رأوا هذه الأعاجيب التي تنتجها البلاد الرأسمالية في متناول أيديهم داخل بلدهم «الاشتراكي»، وكنت ترى ألوف الموظفين السوفيت وقد ازدانوا بهذه الرشاقة المسلوبة، كما أخذت أعجب الحكايات التي كانت تسرف في المبالغة أحيانًا بغير شك، والتي تقص عن الأشياء الفاخرة التي كان يستولى عليها المحررون السوفيت من المناطق التي يغزونها، أقول: أخذت أعجب الحكايات عن مثل هذه الأشياء تدور على الأفواه في أنحاء العاصمة.
كانت رياسة صناعة الأنابيب تبحث لي عن منصب ملائم، والمواطن السوفيتي كائنًا من كان ليس في وسعه بالطبع أن يرفض أي عمل يكلف به في أي مكان يعينونه له جزافًا وبغير سابق إنذار، ولكنهم مع ذلك يشاورون صاحب الأمر بقدر المستطاع إذا ما كان المنصب ذا مسئولية خطيرة؛ لأن رضاه عن عمله شيء تقتضيه الحكمة، وقد عرضت عليَّ الوزارة أن يكون لي الإشراف التام على مصنع من مصانع التعدين في منطقة ما وراء بيكال في شرق سيبيريا، وكذلك استشاروني في منصب كبير المهندسين في مصنع بأورال، وحدث أيضًا أن فكروا في تعييني مديرًا لمصنع للتعدين في منطقة جوركي، لكن شيئًا من هذا كله لم يجد سبيله إلى التنفيذ.
أما إن سألتني عما أردته لنفسي، فقد سئمت الأيام التي أنفقتها متجولًا وتحرقت شوقًا من أعماق نفسي إلى حياة عائلية مستقرة، كنت أتمنى لو بقيت في موسكو؛ لأنها بدت أمام عيني جنة بالقياس إلى سائر أنحاء البلاد، ولقد اقتضاني السعي إلى تحقيق هذه الغاية بعض مناورات لبقة وشيئًا من نفوذ سياسي استخدمت فيه «أندريف» عضو الهيئة السياسية العليا، حتى تهيأ لي آخر الأمر أن أعيَّنَ في منصب بموسكو، في مصنع تعديني في «فيلي» وهي في ضواحي العاصمة، وكان منصبًا متواضعًا يقع أدنى بدرجتين من المناصب التي شغلتها من قبل، لكني رضيت به لأنه كان في العاصمة.
كان هذا المصنع مما أنشئ قبل الثورة، لكنهم وسعوه وأدخلوا فيه الأساليب الحديثة في السنوات الأخيرة، وبه نحو ألف عامل، وهو يسمى بنفس الاسم الذي يُطْلَق على الاتحاد الصناعي كله «جلافنر بستال» — أي رياسة صناعة الأنابيب — وأهم ما يصنع فيه شرائط وأنابيب من الصلب، ولما كان منصبي فيه مساعدًا لكبير المهندسين، فقد وقعت على عاتقي تبعة الإنتاج فعلًا.
كان كبار الموظفين الإداريين يعملون معًا في هذا المصنع، ولبثوا في صحبتهم هذه أمدًا طويلًا؛ ولذلك تكونت منهم عصبة وثيقة العرى، أما مدير هذا المصنع فهو «مانتروف»، وهو رجل طويل أحمر الشعر قد انتثر وجهه كله بالبقع الجلدية، قوي البنية غليظها، علم نفسه بنفسه، وهو يميل إلى إخفاء جهله التام بكل ما يتصل بالجانب الفني من العمل، يميل إلى إخفاء جهله هذا بما يثيره من ضجة وعجيج، وكانت له بعض الشهوة اكتسبها في قتاله إبان الحرب الأهلية، ولم يزل يعيش على هذا الرصيد السياسي، فعلى الرغم من أنه قام برياسة مشروعات صناعية مدى أعوام طوال، فقد لبثت هذه المشروعات وكيفية سيرها لغزًا لا يفهمه، بل كان أحيانًا يرفض المهندسين الذين تكون لهم دراية بدقائق مثل هذه الأعمال.
كان صديقه الحميم وسنده الأول هو الرفيق «يجوروف» الذي كان أمين سر الحزب فيما يمس المصنع من شئون، كما كان رئيسًا للقسم المخصوص بذلك المصنع، وهو رجل قصير مليء في منتصف عمره، له حاجبان كبيران منفوشان، يعتز بمكانته لاتصاله بالقسم الاقتصادي من الشرطة السياسية، فإذا ما اختال في مشيته خلال أجزاء المصنع ومكاتبه، مبديًا ما استطاع أن يبديه من علامات النفوذ، تهامس العمال وراء ظهره قائلين: «ستالين الصغير»، أنفقت في جواره عامًا كان لحاجبيه الهائشين خلاله أثر سيئ في قتل روحي كأنما ألقيا عليَّ ظلًّا أطفأ سراج نفسي، وثالث أعضاء هذه العصبة الداخلية هو رئيس قسم النقابة، الرفيق «بابا شفيلي» وهو من أهالي جورجيا، قاتم اللون، في جبلَّته ميل نحو حبْك الدسائس، أضف إلى هؤلاء الثلاثة محرر صحيفة المصنع ونفرًا من أنصار الشيوعية العاملين، كل هذه الطائفة كانت تلعب معًا، وتكون ما يشبه أفراد الأسرة الواحدة.
وفي عهد الوزير الجديد، «تفوسيان» صديق ستالين، بُذِلَت جهود جبارة لزيادة الإنتاج، فكانت تصرف علاوات كبيرة جزاء على الوفاء بما يطلب صناعته في الموعد المطلوب، ثم تصرف مكافآت مالية زيادة على ذلك لمن بيدهم الإدارة على كل نسبة مئوية يزيدون بها على الإنتاج المطلوب، ولما كانت العصبة الداخلية في مصنعنا لا تستطيع أن تقرر لنفسها مكافآت دون أن يمتد نطاق تلك المكافآت بحيث تشمل كبار الموظفين الفنيين، فقد زودوني بوفرة من المال، حتى مرت شهور بلغ فيها مرتبي مضافًا إليه العلاوات ما يزيد على أربعة آلاف وخمسمائة روبل، وعلى ذلك كانت مكاسبنا في الشهور الرابحة يساوي دخل العامل العادي عشرين مرة أو خمسًا وعشرين.
لكن رغم هذه الثروة، كانت «الشقة» التي نسكنها تتألف من غرفتين صغيرتين في الطابق الأعلى من بناء ذي طوابق ثلاثة يقع في قلب المدينة، وهو رقم ٥ شارع روز درفنكا الذي كان ذات يوم فندقًا، وكانت طائفة من الأسر تحتل البهو بأثاثها وخدمها ومشاكلها المختلفة، فمن جيراني راقصة سابقة وابنتها وهي في سن الشباب، ورئيس عمال في مصنع وزوجته، وأرملة تاجر سابق وهي مترهلة الجسم ممرورة النفس، إذ لم يبقَ لها من ثياب سوى هلاهيل أثوابها الفاخرة فيما مضى، وموظف رفيع المنصب في إحدى الوزارات، وكان لبعض الأسر خدم، أما نحن فلم يكن لنا سوى خادمة لا تقيم معنا، لكنها تجيء لخدمتنا كل يوم.
وعلى الرغم من إقامتنا في جيرة ملاصقة لهذه المجموعة المتنوعة من أهل موسكو أعوامًا عدة، إذا اشتد التلاصق بيننا حتى ما فتئنا نشتبك ونضايق بعضنا بعضًا؛ على الرغم من هذه الجيرة الملاصقة أعوامًا عدة لم نستطع التغلغل في نفوس هؤلاء الناس بحيث نعرفهم حق المعرفة، فقد كانت تكتنفنا موجة الريبة التي كانت تكتنف كل جماعة من هذا القبيل، اضطرت اضطرارًا أن تعيش في مثل هذا التلاصق الذي يحرج الصدور، فمن كان يوهمه خياله أن الاشتراك في الشدائد يجذب قلوب الناس بعضهم إلى بعض، فإنه لم يعش قط في شقة في موسكو بالاشتراك مع سواه اشتراك الشيوع، بحيث يسكن المكان عدد أكبر مما يسعه المكان، كنا جميعًا على كثرة أفرادنا نقتسم مطبخين وحمامًا واحدًا ودورة مياه واحدة، كما كان لنا تليفون واحد في البهو المشترك، فكنا نصم آذاننا عن المشاجرات التي تنشب وعن أحاديث الغزل التي تدور وعن المناقشات التي ما فتئت قائمة حولنا، إذا ما دق التلفون سارع كل منا إليه، ولك أن تضيف إلى كل هذا ما ساورنا من شك في أن يكون بين هؤلاء الجيران مخبرون.
ولقد تبين لي بعدئذٍ بزمن طويل إبان الحرب، أن مخبر القسم السياسي في شقتنا هو أبعد السكان عن ريبتنا، فقد كان ذلك المخبر هو «سلينا» أرملة التاجر، فكانت تنصت إلى محادثاتنا التليفونية وتتسمع إلى كلامنا عند أبواب الغرف، ثم تقدم تقريرها بانتظام إلى القسم السياسي، ولا شك في أن ما دفعها إلى هذه الحرفة هو خوفها من أن يبعدوها إلى مكان قصي باعتبارها «معادية للشيوعية»، وكثيرًا ما تساءلنا كيف يتاح لها أن تظفر بكميات إضافية من مواد التموين، لكن هذا التساؤل عرف جوابه حين عرفت فيما بعد مهمتها في مجتمعنا الذي كان يعيش في بهو واحد.
ولو استثنيت هذه المرأة، ووجدنا رغم كل المصاعب جماعة تربطها روابط الجيرة، فكنا سرعان ما ننسى خصوماتنا العابرة، شأننا في ذلك شأن أهل الروسيا الصميمين، وإذا ما هبط على أحدنا شيء من أسباب النكد، كنا جميعًا على استعداد لمعونته.
ولا يتوهمن قارئ أننا — على الرغم مما أسلفتُ له — كنا نعيش عيشة الضيق بالقياس إلى ظروف الحياة في المدن الروسية، فقد كانت «إيرينا» مجدودة إذ ظفرت بمثل هذه الشقة في حي ممتاز بموسكو، وقاسمتها ذلك الحظ الجميل، حتى أوفق إلى مسكن في أحد المنشآت التي كانت إذ ذاك في طريق البناء، فكنت لا أنقطع عن الرجاء مرة والتحايل مرة لعلي أصيب ذلك التوفيق، وكان لنا في شقتنا تلك بيان وأثاث من خشب الكابلي الجيد وبسط ثمينة وبضع صور زيتية، فكان إذا ما زارنا من أصدقائنا من لم يسعدهم مثل حظنا، أخذوا يغبطوننا غبطة صادرة من قلوبهم على ما نحن فيه من حياة رغدة.
أقمت في هذا المكان ما يزيد على ثلاثة أعوام، استثنِ منها المدة التي قضيتها في الجيش الأحمر، فكانت هذه الأعوام الثلاثة أقرب ما عشته من أيام في حياتي العملية إلى الحياة العائلية المستقرة، كنت أشتغل في مصنع الأنابيب في «فيلي» ساعات طويلة من النهار، فكنت أشتغل من منتصف الساعة الثامن صباحًا إلى العاشرة أو الثانية عشرة مساءً، لكني في أيام العطلة، وفي الأمسيات التي أعود من العمل فيها في ساعة مبكرة نوعًا ما، كنت أشعر مع «إيرينا» أننا قد ظفرنا آخر الأمر بحياة عائلية سعيدة.
وكنا نستقبل أضيافنا آنًا بعد آن، أما أصدقائي فمعظمهم من أعضاء الحزب ومن موظفي الكرملن واللجنة المركزية العليا، ومن الأخصائيين الفنيين، بينما كان أصدقاء «إيرينا» من الدوائر الفنية والأدبية في موسكو، فلم يكن من اليسير على طائفة أصدقائي وطائفة أصدقائها أن تمتزجا امتزاجًا تامًّا؛ لذلك باعدنا بينهما ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا، وربما كانت هذه المباعدة بين الطائفتين رمزًا يدل على زواجنا الذي لم يؤد قط إلى اندماج تام عميق بيننا، حتى لقد تبين لي أن الفردين من الناس يستطيعان أن يتبادلا كل حب واحترام دون أن تندمج حياتهما في حياة واحدة.
وكانت مناشطي في المصنع وعملي في الحزب ومحاضراتي السياسية واجتماعاتي واهتماماتي الهندسية، كل هذه الأشياء كانت مما لم تألفه «إيرينا» في نوع حياتها واهتماماتها، فكانت دنياي ودنياها تتماسان لكنهما قلما تدخلتا، أضف إلى ذلك أن الموظفين السوفيت — حرصًا على سلامتهم — يميلون إلى إبعاد زوجاتهم عن شئونهم الخارجية، مهنيةً كانت أو سياسية، إذ علمتهم التجربة أنه كلما قل علم الأسرة بعمل عائلها ومشاكله، كان ذلك آمن لسلامتهم في نهاية الأمر، فالموظفون في الدولة المطلقة السلطان، وسيوف التطهير والسجن مسلطة دائمًا على رقابهم، يحاولون أن يؤمِّنوا من يحبون، بألا يطلعوهم إلا على قليل من شئونهم، ذلك إن صارحوهم بشيء منها إطلاقًا.
ومهما يكن من أمر، فالواقع هو أني قلما تحدثت إلى «إيرينا» في شئون عملي الصناعي، ولم أحدثها قط عن شيء من خواطري ووساوسي السياسية، على الرغم من أنها امرأة ذكية متقدة العواطف، وما أكثر ما كنت أتوق إلى التخفيف من عبء متاعبي بالحديث فيها، كنت أتوق إلى «إفراغ ما يضطرب في فؤادي كلامًا»، لكن خوفي من أن تشاطرني خواطري السياسية «الخطرة» كان دائمًا يلجم لساني عن الحديث.
وكثيرًا ما كانت تتوسل إليَّ قائلة: «قل لي يا عزيزي فيتيا، ما همومك الجاثمة على صدرك؟ ما الذي يشقيك؟ أيشقيك خطأ اقترفته أنا؟ أليس في وسعي أن أعينك على همومك؟ نشدتك الله إلا ما أنبأتني!»
– «كلا يا حبيبتي، ليس لك في الأمر يد ولا إصبع، كل ما في الأمر أني أجهد نفسي في العمل فوق ما أطيق، فليس ثمة ما يدعو إلى القلق …»
كيف يمكن لإنسان أن يطمع في حياة منزلية سوية في ظل ما تلقيه الحكومة المستبدة من عوامل الإرهاب في الرءوس؟
تسلمت ذات يوم في شهر يونيو خطابًا من رياسة صناعة الأنابيب يستفسرني بعض المبالغ التي صرفها مساعدي للشئون التجارية أيام أن كنت في كمروفو، فاحترت في أمر هذا الخطاب، لكني لم أفزع له بادئ ذي بدء؛ لأني لم أدرك للوهلة الأولى أن هذا الخطاب كان نتيجة مؤامرة محبوكة للانتقام مني، دبرها «جولوفاننكو» وآخرون ممن أسأت إليهم إساءة لم أراعِ فيها شيئًا من اللباقة.
إنه بمقتضى القانون السوفيتي، يخول لطوائف معينة ممن يشغلون مناصب عالية في أجزاء نائية من البلاد مثل الشرق الأقصى وسيبيريا، أن يتقاضوا مبالغ إضافية كبيرة عند تعيينهم في مناصبهم، لقاء ما يتكلفونه من نفقات الانتقال وغيرها، وإنما تتحدد مقادير هذه المبالغ وفق اتفاقات شخصية رسمية بين كل فرد على حدة وبين إدارة المشروع الذي يستخدمه، ولقد حدث في حالات كثيرة أنه لم يكن هناك مثل هذه العقود لتحديد المبالغ التي اقتضتها الأعمال في مصنعي.
ولذلك رأى مساعدي كما رأى كبير المحاسبين أن هذه العقود لم تكن ضرورة، فحسبنا — في رأيهما — قانون ممهور بتوقيع «كوزفنكوف»، والواقع أنني — شخصيًّا — لم أستخدم هؤلاء الناس الذين أثير حولهم السؤال، ولم أصرح لهم بصرف شيء من المال، ولكن ذلك لم يكن لينجيني من التبعة، فباعتباري رئيسًا للمشروع، عدوني مسئولًا من الوجهة الفنية عن هذا السهو، واتهموني بصرف مبالغ من الرصيد لا يقرها القانون، وتلك جريمة عقابها ثلاثة أعوام كاملة تقضي في غيابة السجون.
وظاهر أن المؤامرة التي حُبِكَت لإيقاعي في هذا الاتهام الذي لا يسيغه عقل سليم، قد دُبِّرَت بغير علم من «كوزفنكوف»؛ لأنني حين أسرعت إليه بالخطاب بدت عليه علائم الارتباك والدهشة، وقال لي: إن الاتهام لا يستند على أساس، ولا ينبغي أن يكون له في نفسي صدى، لكنه أحس أنه إذا ما تدخل في الأمر كان بمثابة من يتصدى للدفاع عن إهمال في العمل وقع في الهيئة التي يشرف عليها.
واقترح عليَّ قائلًا: «لا تزد على أن ترد على الخطاب بما استطعت من حيطة، ولا تفكر في الأمر بعد ذلك، فلست أتصور أن الأمر سيخطو بعد ذلك خطوة، لأنه أوهى أساسًا من أن يفعل.»
لكنه أخطأ الظن، فقد مضى شهر وحسبتُ أن «الجرائم» التي وُجِّهَت إليَّ قد أُهْمِلَت، غير أني ما لبثت أن جاءني إعلان بأن وزارة التعدين قد رفعت أمري — باسم إيفان تفوسيان نفسه — إلى محكمة الشعب، وهكذا وجدت نفسي متهمًا في قضية جنائية خطيرة في المحاكم المدنية العادية، وتهمتي هي «جريمة» لم تكن لي بها أدنى صلة على الإطلاق، إلا إن كانت صلتي بها قد وقعت بغير علم مني، وكان شريكي في هذه التهمة هو «مانفيف» كبير المحاسبين في مشروع كمروفو، ولم يكن بين المتهمَين مساعدي للشئون التجارية الذي قام فعلًا بصرف تلك المبالغ.
وحاولت أن أصل إلى كثير من الموظفين في المحكمة لعلي أبطل القضية من أساسها، وكانوا جميعًا يتفقون معي على أن القضية ظاهرة البطلان، لكن مهما يكن من أمر بطلانها فهي اتهام آت من «تفوسيان» نفسه، الذي لم يكن وزيرًا من وزراء الشعب فحسب، بل كان ما هو أهم من ذلك، إذ كان نجمه صاعدًا في سماء ستالين، وإذن فيستحيل على عجلة «العدالة» أن تقف، ولا بد لي من السير في إجراءات المحاكمة كلها، لا بل أن كل من علم بالموقف تشاءم بنتيجته؛ لأنه إذا ما اتهم مواطن مواطنًا آخر فله أن يؤمل في محاكمة حقيقية في المحاكم السوفيتية، أما إن كانت الحكومة هي التي تتهم فردًا من الأفراد، فالأغلب ألا تكون أمامه فرصة كبيرة للنجاة، إذا لم تكن الغاية الأساسية التي يرمي إليها التشريع السوفيتي هي بتحقيق العدالة المجردة، بل غايته «الدفاع عن الدكتاتورية الشعبية» وهي عبارة معناها الدفاع عن نظام الحكم القائم.
بدأت المحاكمة بسلسلة من التحقيقات كانوا خلالها يستحثونني على الاعتراف بجريمتي.
قال لي مرة أحد رجال النيابة التابعين للقسم السياسي: «لا تكن أحمق يا رفيقي كرافتشنكو، تجنب المحاكمة وعالج الأمر بنفسك، فذلك قمين أن يخفف عنك العقوبة كثيرًا.»
– «ولكن كيف أعترف بجريمة لم أكن أعلم عنها شيئًا؟ يستحيل عليَّ أن أسجل على نفسي جريمة بسبب إجراءات سخيفة، إن المبالغ صُرِفَت بموافقة رسمية موقَّع عليها من رياسة صناعة الأنابيب.»
لم يكن ليدور بخلدي أن التحقيق في مثل هذه القضية يتم على أيدي رجال الشرطة السياسية لا قاضي المحكمة، إذ لم يكن في الاتهام شيء يتعلق بالسياسة، لكنه حيثما يكون في البلاد حزب هو الذي يسن القانون وهو الذي يقوم على تنفيذه أيضًا، فتوقع كل شيء ولا تعجب لشيء.
– «إذن ففي هذه الحالة لا بد لك أن تواجه المحاكمة.»
وقبل موعد المحاكمة بأربعة أيام، طلبت من «هيئة محامي الدفاع الرسمية» محاميًا؛ لأنه ليس في بلادنا نظام قضائي فردي خاص، فعليك أن تخاطب هيئة المحامين الرسمية المختصة بالإقليم الذي تقيم فيه، وهي التي تعين لك محاميًا لا بد أن تقبله، ثم تدفع له الرسوم التي تقررها هيئة المحامين، وبالطبع ما دام المحامي لا يؤجر كل شهر إلا راتبًا ضئيلًا، فالذي يحدث هو أن تدفع له من عندك جزاء إذا استطعت أن تصل إليه في هذا الصدد، على ألا يعلم أحد بذلك الأمر بينكما.
قابلت في هذا الشأن امرأة أخذ منها الملل كل مأخذ، تثاءبت في وجهي وأصغت إلى طلبي إصغاءً ما أظنها فهمت به مما أقوله كثيرًا.
ثم صاحت عبر الغرفة إلى رجل دفين في أكداس من أوراق: «بتروف! هذه قضية تقع تحت بند ١٠٩، والمحاكمة بعد أربعة أيام، فهل تستطيع الاضطلاع بها؟»
فصاح بتروف مجيبًا: «كلا، لا فراغ عندي لها.»
فقالت: «لا بأس فسأبحث عن محامٍ آخر.»
وأخيرًا عينت لي محاميًا، لم أكد أتصل به حتى أحسست بخيبة الرجاء، كان لا بأس بأدبه، ضئيل الجسم، له عينان زائغتان وخدان غائران، كسير النفس يعتذر إذا ما بدرت هفوة منه، فما أن سمع أن التهم وُجِّهت إليَّ من «تفوسيان» حتى تغيرت ملامح وجهه في تعبيرها، فرأيت فيها معنى اليأس بعد أن كنت ألمح شيئًا من الفلق؛ ذلك لأن المحامي عند السوفيت لا مندوحة له إذا ما أراد أن يكون بنجوة من الخطر عن مناصرة الحزب والدولة على موكله؛ لهذا لم يطمئن محاميَّ الضئيل الفزع لما كُلِّفَ به من معارضته وزيرًا من وزراء الشعب، لا بل صمم ألا يلعب هذا الدور الخطير.
اجتمعت محكمة الشعب في غرفة مشعثة رديئة التهوية، تقع في الطابع الثاني من بناء كان من قبل — فيما يظهر — مدرسة، وعلى جدرانها ذات الطلاء الأصفر الشاحب انتثر الذباب إلا حيث تقشر الطلاء، وبالطبع امتلأت الغرفة في كل أرجائها بصور لستالين وغيره من الزعماء، انتظرت وإلى جانبي «مانفيف» ومحاميانا، وكان معنا نيِّف وعشرون شخصًا كانت قضاياهم مسجلة في جدول المحاكمات ذلك اليوم.
وصاح حاجب بأعلى صوته: «المحكمة آتية، وقوفًا.»
ووقفنا لما دخل رجلان وامرأة من الباب الخلفي وجلسوا إلى منضدة ملفوفة بغطاء أحمر قائمة على منصة عالية، ولبثت عدة ساعات أرقب إجراءات المحكمة في قضايا من سبقوني إلى المحاكمة، فالقاضي — وهو رئيس الجلسة — موظف قضائي دائم، وهو الذي يقوم بتوجيه معظم الأسئلة، وأما الاثنان الآخران «فيمثلان الشعب»، وهو نظام شبيه بنظام المحلفين في الأقطار الأنجلو سكسونية، وفي هذه الحالة بالذات كان ممثلا الشعب عاملًا شابًّا قلقًا في جلسته شديد الإحساس بنفسه لما أُلْقِيَ عليه من شرف حمله فادح لقواه، وامرأة تقدمت بها السن رجحت أن تكون كاتمة سر في أحد المكاتب، ولم ينبس أي منهما ببنت شفة.
وبعد أن يفرغ القاضي الرئيس من استجواب المتهم، يأخذ وكيل النيابة ومحامي الدفاع في إلقاء خطب مشتعلة بالحماسة العاطفية — فالخطابة العاطفية من تقاليد القضاء السوفيتي — وبعدئذٍ ينسحب القضاة الثلاثة، ثم يعودون بعد لحظات قصار لينطقوا بالحكم.
ولما جاء دوري ودور «مانفيف» في الاستجواب، وجدت أن استجوابنا يسير في نفس الاتجاه الذي سار فيه التحقيق المبدئي، وكنت قبل ذلك لا أصدق أبدًا أنه من الجائز أن يزج بي في السجن فعلًا على مثل هذا الأساس الواهي، لكني لما رأيت مجرى المحاكمة هوى قلبي إلى أعماق جوفي، إذ وجدت أن عقيدتي في براءة نفسي ليس لها بجوهر الأمر شأن كثير أو قليل، فالوضع كما يبدو لعين المحقق هو أني «بددت أموال الحكومة»، هذا ما يقوله الوزير وما يظهر من كل ظروف القضية.
ولما فرغ القاضي من توجيه الأسئلة إليَّ، أحسست كأنما أطبقت عليَّ جدران السجن، ثم تناولني وكيل النيابة، وكان رجلًا بدينًا ذا شعر كث على رأسه، فشعرت أنه ينظر نظرة المقت لشخصي إذ رآني مرتب الهندام، كأنني مسئول بوجه من الوجوه عن كونه مطالبًا بإعالة أسرة براتب قدره ستمائة روبل كل شهر.
سألني في عرض حديثه: «كم كنت تتقاضى في كمروفو؟»
– «كان متوسط راتبي في الشهر ألفين وخمسمائة روبل، وقد أزيد أحيانًا.»
فهز رأسه المشعثة هزة من عثر على دليل قوي يؤيد اتهامه لي، ونظر إلى القضاة نظرة لها معنى: «وكم تتقاضى الآن؟»
– «ثلاثة آلاف أو أربعة، بل قد تبلغ خمسة آلاف … الأمر يختلف.»
فهز وكيل النيابة رأسه مرة ثانية ليدل على أن كلامي قد بلغ صميم نفسه، وزم شفتيه ساخرًا متهمًا، ويخيل إليَّ أنه اشتم في ذلك أساسًا غامضًا يبني عليه اتهامه، مع أنه أساس يتصل بحالته المريرة بسبب فقره، ولا يتصل أبدًا بالقضية التي بين يديه.
– «انظروا يا حضرات القضاة في أي رغد يعيش!»
هنا لم أستطع أن أظل على كتمان ما بنفسي، فسألته: «لكن ما علاقة هذا بالتهم، إنني أدير مصنعًا كبيرًا وأتقاضى مرتبي وفق القانون.»
– فأمرني القاضي الرئيس قائلًا: «أرجو من المتهم ألا يقاطع المتكلم، إننا نثق بوزارة الشعب التي توجه الاتهام — كما قال وكيل النيابة — أكثر مما نثق بك.»
كانت كلمة وكيل النيابة عالية الصوت شديدة الركون إلى الهوى، وكان المتكلم يحرك جسده مع الكلام حركات عنيفة، ولقد نقب في صفحات الأدب تنقيبًا، كما بحث في خطب «الزعيم» ليستخرج الأصباغ القاتمة التي يلطخ بها هذين «الوحشين» اللذين «بددا أموال الشعب»، ولو سمع الذي قيل أجنبي لا علم له بالحقائق لما تردد في افتراض أن «مانفف» المسكين وأنا قد نهبنا الملايين ثم ختمنا الجريمة باغتيال المنهوب، وطلب الخطيب من المحكمة أن تعاقبنا بالسجن ثلاثة أعوام ونصف عام، ولم يبين لماذا تكون المدة ثلاثة أعوام ونصف عام، لماذا لا تكون خمسة أعوام؟ بل لماذا لا تكون العقوبة إعدامًا؟ كان الموقف كله عندي بمثابة حلم مخيف، ولم أدر متى أستيقظ منه.
والحق أن محاميَّ قد بذل في الدفاع عني جهدًا جبارًا، إذا تذكرنا ما تقتضيه منه عضويته للحزب من واجبات، ومع ذلك فما كان يسعك إلا أن تحس إحساسه، وهو إحساس بالهزيمة قبل أن يبدأ المعركة، وأنه إنما يتناول الأمر إتمامًا للصورة الشكلية، لم يناقش نقطة الاتهام — فحتى محامي قد سلم بصحته تسليمًا — لكنه التمس تخفيف العقوبة نظرًا لحسن نيتي فيما صنعت يداي!
غاب القضاة نحو عشر دقائق ثم عادوا بالحكم: السجن سنتان مع حق الاستئناف خلال سبعة أيام، وهكذا حكم عليَّ «بالإجرام»؛ لأن شخصًا ما في مكان ما من ديوان صناعة الأنابيب في موسكو قد عقَّد إجراءات العمل! وزير وقَّع على قطعة من الورق وضعها على مكتبه مرءوس متحمس، وبعدئذٍ تتابعت فصول الملهاة تتابعًا آليًّا من تلقاء نفسها، إني لعلى يقين من بشاعة هذه الصورة التي أرسمها، لكنها وا أسفاه صورة الواقع كما جرى، كان القاضي الرئيس ووكيل النيابة قبل كل شيء عضوين في الحزب، ثم كانا فوق ذلك يعالجان اتهامًا لم يقدمه وزير فحسب، بل هو كذلك عضو في لجنة الحزب المركزية، فأين ملاذ العدالة في مثل هذه الظروف؟
وقدم محامي استئنافًا نيابة عني، وبهذا أُرْجِئَ القبض عليَّ، ولبثت بضعة شهور أُسْتَدعى للتحقيق حينًا بعد حين أمام هيئات قضائية مختلفة، حتى إذا ما جاءت أوائل الربيع من عام ١٩٤١م عُقِدَت جلسة في محكمة المدينة الرئيسية، وللمرة الثانية أبيت أن أعترف بجريمتي، وتداولت المحكمة في قضيتي، وبعد ثلاثين دقيقة أعلنت حكمها وهو يقضي بتخفيض الحكم الأول إلى عام واحد «أقضيه في عمل بالسخرة في المنصب الذي أعمل فيه الآن».
هذا ابتكار قضائي سوفيتي فريد، ومؤداه أن يظل المتهم الذي ثبتت إدانته طليقًا في حياته وعمله، وكل ما في الأمر أن يقتطع من كسبه عشرة إلى عشرين في المائة تصبح من حق القسم السياسي، وقد حدد ما يقتطع مني بعشرة في المائة، وهكذا يضطر عشرات الألوف من الروس بهذه الحيلة العجيبة أن يدفعوا شطرًا من دخلهم جزية للشرطة السرية تحت ستار العقاب على جريمة.
وجاء إعلان بحالتي الجديدة إلى قسم الحسابات في المصنع، فأخذوا يقتطعون من راتبي وعلاواتي عشرة في المائة كل شهر، يضيفونها إلى خزانة القسم السياسي، وظلوا كذلك منذ ذلك التاريخ حتى قضت المحكمة العليا ببطلان القضية من أساسها.
وأريد الآن أن أغضَّ الطرف عن تتابع الحوادث؛ لأختم قصتي في الفترة التي كنت فيها «مجرمًا»، ذلك أني استأنفت فورًا إلى المحكمة العليا، ولو أنه لما حان حين النظر في قضيتي كانت الحرب قد ظللتنا وأصبحت موسكو هدفًا للمدافع النازية، وانتقلت المحكمة إلى جبال أورال، فأدى هذا الانتقال إلى اضطراب الأوراق المحفوظة في المحكمة اضطرابًا كان من نتائجه أن ضاع استئنافي ولم يعثروا له على أثر.
وحدث أن التحقت بالجيش الأحمر في رتبة اليوزباشي بإحدى الوحدات الهندسية، مع قيامي في الوقت نفسه بعمل سياسي رئيسي، لكن «إيرينا» تولت أمر قضيتي، ولم تكن العشرة في المائة هي التي تحفزنا للعمل، بل حافزنا هو أن نمحو هذه الوصمة من صحيفتي، ولم ألبث بعد تركي خدمة الجيش في الجزء الأول من عام ١٩٤٢م أن راجعت المحكمة العليا قضية كرافتشنكو، ونقضت أحكام المحكمتين الأوليين، وقضت ببراءتي التامة، وبهذا أُسْدِلَ الستار نهائيًّا على قضيتي.
ولولا هذه البراءة لكان من الجائز ألا يؤذن لي قط بالعمل ممثلًا لمجلس وزراء الشعب، ولكان من المحتم ألا يُسْمَحَ لي بترك البلاد، ومضت الأيام ونسيت العداوة التي كانت مبعثًا لتوجيه تهمة «الإجرام» إليَّ، حتى لقد صادفت «جولوفاننكو» في ديوان صناعة الأنابيب، فكاد ألا يذكر أنه غضب مني ذات يوم، لكن الشر لما فُكَّ عقاله، مضى في طريقه مدفوعًا بغير دافع من خارجه، حتى أوشك أن يقوض من حياتي بنيانها.