الذعر في موسكو
وعُيِّنت منظمًا للحزب في بلشيفو فأصبحت بفضل هذا المنصب ذا مركز سياسي رئيسي بين الضباط الذين كانوا زملاء لي في المدرسة، وكنت في جميع الأعمال الحربية أتلقى أوامري بطبيعة الحال من أمير الألاي فافاركين ومساعدين، وألفت بين قلوبنا المأساة المروعة التي كانت تجتازها بلادنا، وكان لدينا جماعة من الأولاد في العقد الثاني من عمرهم يتلقون منهجًا دراسيًّا، لكن الغرفة التي أشرف عليها كانت تتألف من رجال ناضجين ضرستهم التجارب القاسية في الأعمال الصناعية والسياسية السوفيتية، رجال لا تؤثر فيهم الأوهام، ولم أدخر جهدًا في مواساة رفاقي جميعهم وتخفيف المصائب عنهم.
وكنت في خبيئة نفسي عدو نظام الحكم الألد، أمقت وحشيته، وزاد من مقتي إياه ما كان يتجمع حولي وقتئذٍ من دلائل عجزه، وكان من هذه الدلائل تلك الصفقة التي عقدها ستالين مع هتلر والتي نخجل كلنا من ذكراها حتى أشد الناس تعصبًا لستالين، ولكنني رغم هذا كنت أحب بلادي، وأعطف أشد العطف على بني وطني، وأعرف الكثيرين ممن يشعرون بنفس هذا الشعور، وكنا جميعًا نكظم غيظنا من ولاة أمورنا، ولا يتردد واحد منا في أن يضحي بحياته لتخرج بلادنا من هذه الحرب منتصرة.
وكان تدريبنا العسكري في بلشيفو تدريبًا ضعيفًا لا يليق بأمة من الدرجة الثالثة، فما بالك بدولة عظيمة قضت عشرين عامًا تبذل كل جهودها لتصنيع بلادها؟! وكانت العدد التي سُلِّمت لنا لبناء القناطر وحظائر الطائرات من طراز بدائي ولا تكاد تزيد على فأس ومجرف، ولم نكن ندري أين ذهبت المهارة الصناعية التي طالما تغنى بها الخطباء الشيوعيون، وطالما استمعت إلى ألفاظ السخرية اللاذعة واللوم الصريح.
من ذلك ما قاله أحد الضباط المدربين وهو يسخر: «يجب أن نعتز بتلك العدد التي أعطيت لنا لنبث بها الألغام اعتزازنا بآثارنا القومية فقد ورثناها من الماضي السحيق.»
وقلت أنا بعد أن استمعت إلى محاضرة وانفردت بالمحاضر: «ألن يصيدنا الألمان صيد الطيور ونحن ننشئ أمثال هذا الجسر العوام الثقيل؟»
فأجابني المحاضر وهو يتحسر: «يؤسفني يا رفيق كرافتشنكو أن أقول إن هذا صحيح، ولكن ماذا نفعل وليس لدينا من العدد إلا ما رأيت؟»
ومن سوء الحظ أيضًا أن المعلمين أنفسهم كانوا من البساطة كما كانت العدد التي يعملون بها، فقد كان «القائم مقام» الذي يحاضر في إنشاء الطرق ممن يصح أن يتلقوا دروسًا من أي رئيس لطائفة من الفعلة يقومون بهذا العمل ويفيد من هذه الدروس أكبر فائدة، ولكن حسبه أنه كان شيوعيًّا موثوقًا به، فكان يقضي كل وقته في أن يعيد على مسامعنا ما قام به من أعمال مجيدة في أيام الحرب الأهلية، يضاف إلى هذا أننا بوصفنا ضباطًا كان مفروضًا علينا أن نقضي كثيرًا من الوقت في قراءة الكتب المختارة من مؤلفات لينين وستالين ومناقشة ما نقرؤه منها، كأن ولاة أمورنا يفترضون أننا لا نستطيع بث الألغام أو إقامة الجسور من غير أن نلم بشرح ستالين المشوه لمبادئ لينين.
ولم نتوانَ عن الدراسة بجد رغم ما يعترضنا من عراقيل وما يحيط بنا من مضايقات، فقد كنا جميعًا ندرك خطر هذه الدراسة وهذا التدريب، ونشعر في أعماق أنفسنا بأنا سنكون مسئولين عن حياة الجنود الذين سوف تعهد لنا قيادتهم، وعن حل كثير من المشاكل الحربية الشائكة العظيمة الخطر.
وكنت بحكم منصبي — منصب منظم الحزب — على اتصال دائم بالشئون الهامة في وحدتنا الهندسية وفي العاصمة أيضًا، أشهد جميع اجتماعات لجنة الحزب في المدرسة مع كبار الضباط، وكنا بذلك نستمع إلى التقارير السرية، وكلها تقارير متشائمة، فتحز في نفوسنا بحق أكثر مما تحز في نفوس الضباط من غير أعضاء الحزب.
وكنت كثير التردد على موسكو نفسها، فكنت لذلك معرضًا لموجة اليأس التي تغطي عليها، ولما جد ولاة الأمور في إخلاء المدينة لاقتراب الألمان منها سادها الاضطراب والذعر، وكلما زاد الاضطراب والذعر زاد ضغط الشرطة وعسفها، وكان هذا العسف نفسه سببًا في انتشار الذعر، فأصبحنا بذلك في دائرة مفرغة من العسف والاضطراب والذعر والنهب حرص المسئولون على إخفائها عن العالم الخارجي، وما كاد شهر سبتمبر يقترب من نهايته حتى أوشك الخوف والاضطراب أن يؤديا إلى الانفجار، فقد غلت مراجل الغيظ في قلوب أهل موسكو لما صحب عمليات الإخلاء من محاباة صارخة، فأصبحت أسمع لأول مرة منذ عشرين عامًا اللعنات تصب على الموظفين الرسميين، وأخذ كل مكتب من مكاتب الإدارة الحكومية يعد كشوفًا بأسماء من يحق لهم أن يستخدموا القطر الحديدية للسفر إلى كوبيبشف وسفردلوفسك وغيرهما من مدن اللاجئين، وكان أساس الاختيار نظريًّا إمكان «الاستغناء» عن الناس أو عدم الاستغناء عنهم، أما في الواقع فقد كانت القرابة والصلات السياسية هي الحكم الأخير.
واستطاع كل من له صلة بذوي السلطان والمتطفلون عليهم أن يحصلوا على أماكن لأثاث منازلهم، وخزائن ملابسهم، وعشيقاتهم وأقاربهم، على حين أن آلافًا من الأسر التعسة بقيت معسكرة بين حقائبها ومتاعها المحزوم في محطات السكك الحديدية ترجو عبثًا أن تجد مواضع لأقدامها في أي قطار متجه نحو الشر، وكانت هذه الأسر نفسها أسعد حظًّا من سواها، فهي التي أذن لها بالهجرة، وكان ثمة آلاف من الأسر فرت من وجه الأعداء سيرًا على الأقدام.
وكان كل يوم يمر يزيد في عدد الفارين المجتمعين حول محطات السكك الحديدية وفي ذعرهم وجلبتهم، وامتلأت المدينة بأقذارهم وفضلاتهم، وشهدت عدة لجان لبحث هذه المشكلة المنذرة بأوخم العواقب، ولو أن هؤلاء السكان كانوا حيوانات لا بشرًا لعنينا على الأقل بأمر طعامهم في سفرهم الطويل، ولكن أحدًا من المسئولين لم يفكر في إثارة موضوع توفير الطعام للفارين أو في الطريقة التي يصلون بها إلى الملاجئ التي يقصدونها، وكيف يعيشون بعد أن يصلوا إليها.
ولما زادت الجموع المكدسة حول محطات السكك الحديدية وتعذرت السيطرة عليها، جيء لها بعربات الحيوانات وعربات الفحم غير المغطاة، وحُشِرَ فيها المواطنون السوفيت دون أن يعني أحد بتطهيرها، وبدأنا رحلتنا البطيئة الرهيبة بين البكاء والعويل، وكم من طفل ضل عن ذويه، وكم من أسر تشتت أفرادها، وكم من الناس اضطروا إلى ترك متاعهم العزيز عليهم، وكثيرًا ما كانت مشاعر هؤلاء تضطرب حتى تصل إلى حد الجنون حين تنقض عليهم طائرات العدو؛ ذلك أن محطات السكك الحديدية كانت من أحب الأهداف إلى النازيين.
وكأنما كان ولاة الأمور يسخرون عن قصد بهؤلاء الفارين، فقد كانت قوافل من السيارات الرسمية المريحة تخرج من موسكو محمَّلة بأسر الصفوة المختارة وبأمتعة بيوتها، كأن الحرب وأخطارها قد وسعت ما بين الطبقات من هوة وزادتها بشاعةً على بشاعتها.
وبدت العاصمة في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر وكأنها قد فقدت جميع نشاطها وحيويتها؛ ذلك أن المدن كالأفراد تتحطم أعصابها في بعض الأحيان، فكانت مركبات الترام والسيارات العامة لا تعمل إلا في فترات متقطعة غير منتظمة والحوانيت خالية، ولكن الناس الجياع كانوا يقفون صفوفًا في كل مكان ولو لم يكن فيها ما يطلبون، وحتى «إيرينا» نفسها كانت لا تجد الطعام أحيانًا مع أنها كانت لها صلات أحسن مما لغيرها، ولديها من المال أكثر مما لدى معظم الناس، وكانت المنازل ومكاتب الموظفين لا تدفأ، والماء والكهرباء لا يصلان إليها إلا في فترات متقطعة لا يركن إليها.
أما منازل رجال القسم السياسي والمحكمة العليا ووزارة الشئون الخارجية وعدة معاهد أخرى، ومركز القيادة العامة للحزب، أما هذه الأماكن كلها فلم يكن الدخان ينقطع منها ليلًا أو نهارًا، وبادر زعماؤنا إلى إتلاف السجلات ومحو كل ما يستدل منه على جرائمهم الرسمية التي دامت عشرات السنين، وأكبر الظن أن الحكومة تلقت أوامر من الجهات العليا بأن تمحو آثار هذه الجرائم حتى اسودت الثلوج التي تساقطت في شهر أكتوبر من رماد الأوراق المحترقة.
وحدث في إحدى الليالي أن فتح رجال القسم السياسي التابوت المحتوي على الآنية التي كانت فيها جثة لينين المحنطة في الميدان الأحمر، واستخرجوا منه هذه الجثة سرًّا وحملوها على عربة يد ثم وضعوها في سيارة خاصة سارت بها إلى مدينة تيومين في سيبريا حيث بقيت إلى نهاية الحرب بعد أربع سنين من ذلك الوقت.
ونُقِلَت كذلك إلى داخل البلاد أثمن كنوز الكرملن ودور الآثار؛ وذلك لأن الغارات الجوية على موسكو أخذت تزداد عددًا وهولًا، وإن لم تبلغ من التدمير ما كنا نتوقع.
وفي الثاني عشر من شهر أكتوبر أمطر الألمان منطقة بلشيفو منشورات مطبوعة، وسرت على رأس فرقة موثوق بها من الضباط الشيوعيين لجمع تلك المنشورات الألمانية، وكانت الأوامر الصادرة إلينا تأمرنا ألا نقرأها بطبيعة الحال، وكان كل إنسان يعثر معه على منشور منها عرضة للاعتقال على الفور، ولكننا رغم هذا حاولنا أن نقرأها سرًّا في أثناء عملنا، ولم يكن لها فينا أثر ما اللهم إلا احتقارنا للأعداء، فقد بدت لي الدعاوة الألمانية غاية في الغباوة، وكان ما تفيض به من كبرياء وغطرسة مما تشمئز منه النفوس، ومن أكبر الأدلة على غباوتها أنها خلطت بين حب البلاد وحب ستالين.
وفي تلك الليلة نفسها صحونا من نومنا على أصوات الإنذار، وما هي إلا نصف ساعة حتى سيقت ثلاث فرق من الضباط الشبان الذين لم يتم تدريبهم بعد بكامل أسلحتهم إلى أطراف موسكو الغربية، وبعد ثمانٍ وأربعين ساعة من إرسالهم رجع ثلثهم مثخنين بالجراح، يرتجفون من البرد ويكادون يهلكون من الجوع، وقد استولى عليهم الجزع وضعفت روحهم المعنوية، أما بقيته فلم تعد إلينا أبدًا، وكان معظم هؤلاء الضباط من لجان الشباب التابعة للحزب ومن أشد الشبان تحمسًا وتعصبًا، وقد ذهبوا إلى الميدان وهم ينادون: «من أجل ستالين، ومن أجل الحزب.»
وظللنا جميعًا منذ ١٣ أكتوبر معسكرين وسط الثلوج في غابات بلشيفو نحرس قطاعًا من الطرق الموصلة إلى العاصمة من تلك الجهة التي ظن ولاة الأمور أن الجنود الألمان سيهبطون فيه من طائراتهم، وكانت ملابسي الداخلية هي ملابس الصيف، وكان في قدمي حذاءان من الخيش الخفيف، وعلى رأسي قلنسوة صيفية، وفوق ملابسي معطف عسكري مهلهل، وذلك كله في جو درجة حرارته أقل كثيرًا من درجة الصفر، أما أسلحتي فلم تكن تزيد على بندقية من بنادق التدريب وثلاث طلقات، ومع أننا كنا جميعًا ضباطًا فلم يكن فينا إلا عدد قليل لهم من الملابس التي تقيهم البرد أحسن من ملابسي، وكان أسعدنا حظًّا من أعطوا خمس طلقات؛ ذلك أن ما وعدتنا به القيادة العامة من الذخائر الحربية لم يصل إلينا شيء منه، وكان مع الكثيرين منا بطبيعة الحال ملابس مدنية مدفئة، فقد كان لديَّ أنا مثلًا حذاءان جيدان وملابس داخلية من الصوف وغيرها من الحاجيات، ولكننا أُمِرْنا ألا نستخدم شيئًا من هذه الملابس، وهكذا تجمدت أطرافنا من البرد وقاسينا الأمرَّين لكي نرفع إلى ذروة المجد رياستنا العسكرية الغبية.
وستظل ذكرى تلك الأيام والليالي التي قضيناها بين الثلوج، والتي خرج منها كثيرون من رفاقي متجمدي الأطراف محمومين، منقوشةً أبد الدهر في مخيلتي، على أن حاجتنا إلى الملابس الصالحة والعدد والذخائر الحربية لم تحزنا بقدر ما أحزننا منظر السيارات المملوءة بالطفيليين وأمتعتهم تجري بأقصى سرعتها من موسكو، وصاح ضابط كان يرقد إلى جانبي في خندق يملؤه الثلج: «إذا رأيت سيارة أخرى يركب فيها أولئك البيروقراطيون فسأطلق الرصاص على هؤلاء الأوغاد وأمزق جلودهم.»
فأجبته قائلًا: «خير لك أن تدخر رصاصاتك الثلاث لتطلقها على الألمان.»
وعدنا من بلشيفو بعد ليلة قضيناها في العراء متعبين جياعًا متجمدي الأطراف ونحن نغني هذه الأغنية الموضوعة لنا:
ولم يكن قلبي ينطوي على شيء من الحب لستالين في تلك الأوقات، ولم تكن حوافر الخيل هي التي تضرب الأرض في فصل الشتاء بل كان يضربها حذائي المصنوع من الخيش والذي كان ينزلق بي على الأرض، ولكنني رغم هذا كنت أغني مع المغنين، ولم تكن ألفاظ هذه الأناشيد الحربية تتناغم على الدوام مع العواطف التي تنطوي عليها قلوبنا.
وأُرْسِلَت في مساء اليوم الخامس عشر من ذلك الشهر فرقتان من المهندسين أصحاب المؤهلات العلمية في مهمة سرية إلى موسكو، وأُبْلِغت أنا حقيقة هذه المهمة بوصفي منظمًا للحزب، على أن تكون هذه الأخبار سرًّا لا تصح إذاعته، واتفق على أن تتبع هاتين الفرقتين فرق أخرى من الوحدات الهندسية التابعة للقسم السياسي، وكانت المهمة الموكولة إلى هذه الفرق جميعها هي بث الألغام في مدينة موسكو، وبناءً على هذه الأوامر السرية وُضِعَت الألغام تحت طرق المدينة والمباني الرئيسية في الكرملن ومحطة توليد الكهرباء ومحطة المياه ومحطات السكك الحديدية والمتاحف والملاهي ومباني المصالح الحكومية الرئيسية ووسائل الاتصال والمواقع المحصنة، وقصارى القول: إن كل شيء قد أُعِدَّ لنسف العاصمة، ولو تم هذا لقُضِيَ على حياة عدد كبير من الألمان، وعلى حياة عدد أعظم منهم من الروس، ولم تُرْفَع هذه الألغام إلا في صيف عام ١٩٤٢م.
وأرسلني أمير الألاي فارفاركين إلى موسكو في صباح اليوم السادس عشر من ذلك الشهر، فلما وصلت إلى المدينة وجدتها في أشد حالات الذعر والاضطراب تملأ جوها الشائعات المروعة، فقيل مثلًا: إن انقلابًا سياسيًّا مفاجئًا قد حدث في الكرملن، وأن ستالين قد قُبِضَ عليه، وأن الألمان وصلوا فعلًا إلى فيلي في أحد أطراف المدينة، وأكد بعض من ذهب الروع بلبهم أنهم أبصروا الألمان ينزلون بالهابطات في الميدان الأحمر، وقال بعضهم للبعض الآخر: إن الألمان كانوا بيننا في زي رجال الجيش الأحمر، وأخذت الجموع تموج من شارع إلى شارع ثم تعود إلى الجهات التي بدأت منها وهي في أشد حالات الفزع.
وبدأت وقتئذٍ الاضطرابات وأعمال السلب والنهب، وأخذ الغوغاء يهاجمون الحوانيت والمخازن وهم في أشد حالات الجنون، وانتشرت في المدينة شائعة تقول: إن المدينة قد خلت من الحكومة، وإن ملايين من أهل موسكو قد تُرِكُوا وشأنهم من غير طعام ولا وقود ولا سلاح، وقصارى القول: إن النظام أخذ ينهار.
واكتظت فنادق سافوي ومتروبول وغيرها من فنادق الطبقات الراقية بالنساء اللاتي تملكهن الرعب وبالعاهرات، وأخذن جميعهن يحرضن على الفسق كبار الموظفين الذين لم يغادروا المدينة بعد، وجرى النبيذ والفودكا من غير حساب، ولعل أخبار هذا التهتك كان مبالغًا فيها ولكنها في حد ذاتها دليل على ما أصاب الناس وقتئذٍ من انحلال.
ولقد تبين لي مما عرفته من الأخبار المفصلة أن بعض ما كان يذاع وقتئذٍ على الأقل كان صحيحًا، مثال ذلك أن كبار الموظفين في مقر مجلس الوزراء القائم على طريق سدفايا-كرتنايا أحاطوا بالفتيات الموظفات وأسكروهن وظلوا يستعمون بهن عدة ساعات، وسلك غيرهم من الموظفين في مئات من مكاتب الحكومة وفي مساكنهن الخاصة مسلك من يعتقد أن الساعة قد أزفت، وزادت الشائعات والغارات الجوية الشديد من ذعر الأهلين حتى استحال هذا الذعر جنونًا.
واستطعت أن أعود إلى بلشيفو في أثناء الليل، فوجدت طائفة كبيرة من الرعاع الصاخبين خارجة من دارنا، وكان النهب قد بدأ بعيد خروجي واستمر عدة ساعات، وسرعان ما انضم إلى أهل المدينة كثيرون من القرويين أقبلوا من القرى القريبة، وفر الضباط القواد، وما أن اقتحم القوم المخازن العسكرية حتى انضم إلى الفرق النهابة كثيرون من الضباط لكي يحصلوا من هذه المخازن على بعض ما يلزمهم من الملابس الثقيلة، وسرعان ما اختطف الغوغاء النهابون كل ما وجدوه أمامهم من بطاطين وأغطية الفراش وحلل عسكرية وأحذية وأغذية، وبدا المكان كأنه مجزر، وتناثر على الثلوج المحيطة به ما لم يعن الناس بانتهابه.
وأمكنني أن أصل إلى أمير الألاي فارفاركين بعد وقت قصير، وما من شك في أنه قد وصلت إليه طائفة كبيرة من التقارير، وأنه كان عاجزًا عن تدارك الشر، واستمع إلى ما قصصته عليه في ضجر وغضب، وكان هو نفسه يمثل ما في العاصمة من ذعر، ويعتقد أن بلشيفو ستخلى بطريقة ما، وأن الأفضل في هذه الحال أن ينهب الأهالي ما فيها بدل أن تترك غنيمة للنازيين … وما أن انتصف الليل حتى عاد هو وغيره من الضباط بعد أن ترك الناهبون المدينة وعاد إليها شيء من النظام، ولم يمض إلا القليل حتى كنا نجثو فوق الثلج في الغابة المجاورة ونحن موقنون أن ليس لدينا من القوة ولا من الإيمان ما يعيننا على مقاومة الألمان إذا أقبلوا من هذه الجهة.
وفي هذا الوقت عينه كانت جموع الخلائق من رجال ونساء وأطفال تموج في موسكو مضطربة حائرة تنتقل في الشوارع وتحاصر محطات السكك الحديدية، وفي السابع من أكتوبر عاد الغوغاء إلى اقتحام المخازن والأسواق والحوانيت طلبًا للقوت، ووقف رجال الشرطة مغلولي الأيدي، وهجمت الجموع على محال بيع اللحوم في ملكويان فلم يبقوا فيها رطلًا من اللحم الطازج أو المحفوظ، واقتحم الخلائق الجياع الذين تركتهم الحكومة وشأنهم مصانع الحلوى في ميدان ميكوفسكي واقتسموا فيما بينهم أطنانًا من الحلوى والسكر والزبد وغيرها من المواد غير المصنوعة، وحدث هذا بعينه في عشرات من المنشآت الأخرى.
ودام الاضطراب طول الليل وطول اليوم الثامن عشر من أكتوبر، واعتقد آلاف من الشيوعيين أنهم قد سدت في وجوههم سبل النجاة من هذه المدينة الموشكة على السقوط، فأتلفوا ما لديهم من بطاقات الحزب والمطبوعات السياسية، وصور ستالين وغيره من الزعماء، وفي وسعي أن أقرر هنا حقيقة رهيبة أكدها لي فيما بعد مئات المرات رجال من المطلعين على خفايا الأمور.
لقد كان في وسع الألمان أن يستولوا على المدينة في ذلك اليوم دون أن يلقوا فيها أي مقاومة، ولو أنهم أنزلوا فيها فرقتين أو ثلاث فرق بالهابطات لسقطت المدينة في أيديهم.
ولم تكن فيالق العمال التي جُنِّدت على عجل والتي انتشرت في أطراف المدينة حسنة التدريب أو جيدة التسليح، وكان ولاة الأمور داخل العاصمة عاجزين لا حول لهم ولا طول، ولم تلقَ طلائع الدبابات الألمانية التي وصلت إلى همكي مقاومة تستحق الذكر، ولا يعرف أحد سبب ارتداد الألمان عن العاصمة فذلك سر لن يعرفه التاريخ إلا من الألمان أنفسهم، ولعلهم قد قدروا منعة حصون موسكو فوق قدرها، فقرروا أن ينتظروا حتى يأتيهم المدد في الربيع، ولا يبعد أنهم حسبوا أن ضعف وسائل الدفاع عن موسكو إن هو إلا شَرَك نصبه لهم الروس ليوقعوهم فيه، ثم ينقضوا عليهم كالصواعق، تلك كلها أمور لا تعرف حقيقتها، وكل ما نعرفه يقينًا أنهم لم يدر بخلدهم أن العاصمة تكاد تكون خالية من وسائل الدفاع، وأنها من الوجهة النفسية قد استسلمت لهم.
وبدأت الأمور تتحسن ابتداءً من اليوم التاسع عشر، فقد أخذت طلائع جيوش سيبيريا وجيوش الشرق الأقصى الحسنة التدريب تصل إلى المدينة، ونفض رجال الشرطة ورجال القسم السياسي غبار الكسل والتراخي عن أبدانهم، وأصدر ستالين في ذلك اليوم أمرًا وقَّعه بإمضائه، وأرسل إلى جميع الموظفين، ونفذ لساعته وإن لم ينشر على الجمهور إلا بعد يومين، وتدل لهجة هذه الوثيقة على أن الزعيم يعلم أن موسكو كانت تخوض غمار ثورة غير منظمة.
واستهل الأمر بالصيغة الآتية: «رغبةً في تأمين الدفاع عن موسكو من خلفها، وتقوية مؤخرة الجيوش المدافعة عنها، ووضع حد للأعمال المخربة التي يقوم بها الجواسيس والمنشقون وغيرهم من دعاة الفاشية الألمانية.» ثم أخذ يعدد أنواع العقاب العاجل الصارم الذي يحل بمختلف الطوائف، وقال: إن «مثيري الفتن والجواسيس وغيرهم من عمال الأعداء الذين يعتقلون لمخالفة القانون والنظام سيُعْدَمون في الحال رميًا بالرصاص.»
وكانت الأوامر موجهة إلى سينيلوف قائد حامية موسكو وجاء فيها أن «سيكون تحت تصرفه جميع جنود الدفاع الداخلي من فرق القسم السياسي، والرديف وفرق العمال المتطوعين.» والعبارة الأخيرة لفظ كان يطلق على رجال الحزب الشيوعي، وقد رأى ستالين ألا يعهد هذه الأعمال إلى رجال الجيش الأحمر، فقد كان يخشى أن يرفض الجنود النظاميون أن يطلقوا النار على مواطنيهم، كما حدث منذ خمس وعشرين سنة، وفضل أن يعتمد على الرعب الذي يقذفه في قلوب الأهلين اسم رجال القسم السياسي، كما احتمى مستشارو القيصر في العهود الماضية بفرق القوزاق المروعة ورجال الدرك.
وكانت المحاكم العسكرية جادة وقتئذٍ في عملها لا تنقطع عنه لحظة، واعتُقِلَ آلاف من أهل المدينة وأُعْدِموا، ولكن الرعب الذي كانت تقذفه هذه المحاكم في القلوب لم يكن الذي قضى على الذعر، بل الذي قضى عليه هو ما وصل إلى الأهلين من أخبار ارتداد الألمان تحت الضربات التي كان يكيلها لهم الجنود الجدد القادمون من سيبيريا والشرق الأقصى، ومن أنهم يعتزمون إعادة تنظيم قواتهم وحشدها لحصار المدينة في فصل الشتاء المقبل.
هذا ما كان يحدث في موسكو، أما في بلشيفو فقد تلقينا أمرًا بإخلاء المدينة، ونفذنا ما أمرتنا به القيادة العليا من إحراق الأوراق السياسية والبطاقات العسكرية والمحفوظات، ولم نكد نعد العدة للرحيل حتى تلقينا أوامر مضادة للأوامر السابقة، ثم تجدد الأمر بالانسحاب إلى الشرق بعد بضعة أيام، وكانت هذه الأوامر الأخيرة في هذه المرة أوامر جدية.
وزاد من متاعبي الشخصية أن أصبت وقتئذٍ بألم شديد في أسناني، وعالجني طبيب حدث من أطباء المستشفى العسكري، فحشى لي أحد الأضراس بقطن غمسه في دواء ما وغطاه بالأسمنت، وظن الطبيب أن هذا الحشو سيبقى حتى أصل إلى المكان الذي أنا مرسل إليه والذي لم يكن أحد منا يعرفه، لكنني قضيت الشهر التالي في آلام مبرحة كادت في بعض الأحيان أن تذهب بعقلي، وقد قضيت من هذا الشهر سبعة عشر يومًا مسافرًا في عربة من عربات البضائع مزدحمة بالجنود، أعقبتها رحلة دامت ستة أيام مشيًا على الأقدام، في حذاءين من الخيش لهما نعلان من المطاط، وأخذ خدي في كل يوم يزداد تورمًا والألم يزداد شدة كادت تتحطم منها أعصابي.
أخذت جيوش الشرق الأقصى التي ضرَّسها قتال اليابانيين على الحدود الشرقية، وجيوش سيبيريا التي تعودت القتال في زمهرير الشتاء، أخذت هذه وتلك تتدفقان إلى غرب القارة لتصد المغيرين، وأخذت فصائل أخرى أقل من الفرق الأولى عددًا تنتقل انتقالًا بطيئًا في اتجاه مضاد للاتجاه الأول، فاخترقت إقليم الفلجا وجبال أورال لتتدرب على القتال، وكانت معظم هذه الفصائل من مجندين جدد، ولكنها كانت تحتوي أيضًا على جنود نجوا من القتل في الهزائم الساحقة التي مُنِيَت بها القوات الروسية في سائر الميادين، وضرَّستهم النكبات، وأرسل هؤلاء كلهم ليدربوا تدريبًا جديدًا ويسلحوا تسليحًا جديدًا، وكان هذا العمل بداية الاستعداد الصحيح لمقاومة الأعداء.
وتكشفت هذه الصورة عن بطء في الاستعداد الحربي يُعَد في واقع الأمر كارثة من أشد الكوارث، واستطاع هتلر بسببه أن يجتاح من أراضي الروسيا أكثر مما اجتاحه نابليون أو غيره من الغزاة القادمين من الغرب، ويزهق أرواح الملايين، ويشوه أجسام ملايين غيرهم من الروس، وكان الثمن الذي دفعناه نظير أخطاء سادتنا وانهماكهم في مسراتهم ثمنًا باهظًا تنوء البلاد بعبئه، ولكن القوات التي سيعاد تنظيمها ستصد فيما بعدُ تيار الحرب المتدفق، وسيكون من سخريات التاريخ أن يحظى المخطئون الذين كانوا سببًا في هذه الكوارث بالشرف والتقدير.
وكانت الوحدة الهندسية التي أنا تابع لها من الفرق التي سُيِّرَت إلى الشرق بعيدة عن مناطق الخطر لتنال قسطها من التدريب، ولقد كان منظر القطر الحديدية الكثيرة العدد في كل يوم بل كل ساعة تقريبًا مما يقوي الأمل في النفوس، ويبعث فيها الثقة بالنصر النهائي، ولكنها كانت إلى جانب هذا تبعث فينا الحسرة والأسى؛ لأن معظمنا كان يخالجه شعور بالإجرام لا يستند في الواقع إلى أساس صحيح، ولكنه كان مع ذلك مؤلمًا للنفس ومعذبًا لها، فقد بدا لنا أن من العار أن نبتعد عن نيران القتال المتأججة وإن كنا لم نبتعد عنها إلا إطاعة لأوامر عسكرية، وكنت أنا فعلًا قد طلبت أن أرسل إلى جبهة القتال، وحذا حذوي معظم رفاقي.
وأرسلت سرية من الضباط إلى محطة السكك الحديدية لتتفقد القطار المخصص للجلاء، فوجدت أنه قد أُعِدَّت لنا خمسون مركبة من مركبات النقل، وأن هذه المركبات كلها تقريبًا قد مُلِئت إلى سقفها بملفات ضخمة من ورق الصحف، وكانت نتيجة هذا أن قضى عدد من المهندسين الفنيين الذين يحملون ألقابًا عسكرية كبيرة الليل كله حتى صباح اليوم الثاني يلقون بهذه الأوراق على الثلوج، ولما تم لنا هذا تفرقنا جماعات لنستولي على كل ما عسى أن نجده من المواقد والمصابيح والألواح والمناضد الخشبية مما يعيننا على احتمال مشاق سفرنا، وعهد إلى بعضنا خرق ثقوب في أسقف العربات ليخرج منها الدخان، وأخذ بعضنا يعاون الحمالين على وضع أدواتنا في الأماكن المعدة لهذا الغرض.
وأقبلت في المساء أمهاتنا وزوجاتنا وأطفالنا لوداعنا، وشهدت المحطة المناظر المألوفة في مثل هذه الظروف، ولكنها مناظر يذوب منها القلب حسرة، وشغلت «إيرينا» بورم خدي وملابسي غير الصالحة فألهاها ذلك عن البكاء.
وكانت عربات السكك الحديدية السوفيتية تتسع حسب نظم أوقات الحرب إلى أربعة وعشرين راكبًا، لكن عرباتنا حملت خمسين راكبًا أو أكثر حتى لم نجد فيها متسعًا للجلوس بله التمدد في وقت واحد، ولم يكن فيها أسرة للنوم ولا مناضد ولا أجهزة للغسيل ولا قضاء الحاجة، وكنا ننام فيها بالتناوب.
وكان في عربتي موقد صغير يشع حرارة ضئيلة على ما حوله مباشرةً، فأخذنا نتبادل الجلوس حوله لندفئ أجسامنا، وكانت العربة خالية من وسائل الإضاءة، وكان بعضنا قد استولى على فانوس من كوخ في بلشيفو، ولكن الشمعة التي كانت موقدة فيه ما لبثت أن انطفأت، ولم تمض إلا بضعة أيام حتى كان نصف عدد رجالنا قد أصيبوا بنزلات البرد الحادة، والاضطرابات المعدية والمعوية، وغيرها من الأمراض، وظلت حال فكي تزداد سوءًا يومًا بعد يوم.
وعلى هذه الحال قضينا في سفرنا سبعة عشر يومًا اجتزنا منها مرحلة تقطعها قطر الركاب العادية فيما لا يزيد على أربع وعشرين ساعة، وكنا نتحول إلى خطوط جانبية عدة مرات في اليوم لنفسح الطريق لقطر الجنود والعتاد الحربي المسافرة إلى جبهة القتال، أو إلى قطر المدنيين الفخمة الغاصة بالموظفين الذاهبين إلى ملاجئ أمينة على نهر الفلجا أو ما وراءه من الأقاليم.
ولم يكن أحد يعرف مستقرنا إلا كبار الضباط والوزراء، وكنت أنا ممن يعرفون ذلك المستقر، كنت أعرف أننا ذاهبون إلى بلدة منزلنسك الصغيرة في جمهورية التتار، وعاصمة هذه الجمهورية هي مدينة قازان القديمة، وتقع منزلنسك هذه على نهر كاما أحد روافد الفلجا الشرقية.
وكنا نطعم كل يوم مرتين وثلاث مرات في بعض الأحيان في المحطات الكبيرة، ومع أن قطارنا كان يقف فترات طويلة في المحطات الصغيرة وبين المحطات أحيانًا فإنا لم يكن يسمح لنا مطلقًا بأن نخرج من العربات إلا بإذن صريح من رئيس العربة، وقلما كان يؤذن لنا بالخروج إذا طلبنا هذا الإذن، وقد سبَّب لنا هذا التعنت الذي لا معنى له بل قل هذا التعنت المهين كثيرًا من الآلام، وولَّد في نفوسنا أشد الحقد؛ ذلك أننا لم نجد قط ما يدعو إلى وضع الضباط المسافرين إلى داخل البلاد تحت هذه الحراسة الشديدة، ومن أجل هذا أخذ غضبنا يزداد كلما طالت الرحلة.
وطلب صديقي الضابط نومدوف أن يؤذن له بالخروج من عربة في إحدى المحطات الصغيرة، فلما رُفِضَ طلبه قال في غضب مكبوت: «ليس هذا قطارًا يقل ضباطًا سوفيت بل هو سجن!» ولم يسمعه قائد العربة، ولكن عددًا قليلًا من الضباط الآخرين سمعوه ويقيني أن واحدًا من الأوغاد الذين معنا — وأظنه أحد الشيوعيين الذين كانوا يطمعون في منصبي وهو منصب الوكيل السياسي — نقل الخبر إلى كبار ولاة الأمور من غير أن يكشف عن شخصية «المجرم» الذي نطق بذلك القول، وما من شك في أن التهمة أُلْصِقَت بي بوصفي أحد منظمي الحزب بدل أن تُلْصَقَ بنومدوف، ومهما يكن من شيء فقد استُدعيت في المحطة التالية إلى المثول أمام الرئيس الكبير «ﻟ…».
وصرخ في وجهي قائلًا: «لقد حدثت في عربتك مظاهرة مضادة للثورة، فلِمَ لم تبلغ عنها، وهذا من واجبك بوصفك منظمًا للحزب؟»
فأجبته: «إني لا أعلم أن مظاهرة ما قد حدثت.»
– «إن غيرك يعلمون بحدوثها، وإن عليك أن تبلغ عن العدو الذي قال: إننا نسافر كما يسافر المذنبون.»
– «إني لا أعرف القائل، وفضلًا عن هذا فلسنا إلا بشرًا، وقد يتفوه الإنسان في ساعة غضبه بعبارات دون أن يقصد بها إيذاء أحد.»
– «إنك يا كرافتشنكو رجل رقيق القلب أكثر مما يجب، إننا في حرب وكلما عجلت بفهم هذا الموقف كان ذلك خيرًا لك، هيا بنا إلى العربة ودعنا نتعرف على هذا الوغد.»
وصار الرفيق «ﻟ…» إلى عربتي وعليه سيماء الرغبة الشديدة في الانتقام، وخطب فيها خطبة غاضبة وطلب أن يبلغ فورًا عن «الجاسوس الألماني»، وألقيت نظرة على نومودوف بينا كان الرئيس يغلي من الغضب ويتوعد، فرأيته ممتقع اللون وعضلات وجهه ترتجف، وخشيت أن يعترف على نفسه، وكنت أعرف قصته بطريق الصدفة، فقد كانت له زوجة وطفلان يحبهم حبًا يقرب من العبادة، وقد وقعوا أسرى في يد الألمان، وكان يبغض المغيرين أشد البغض، وها هو ذا الآن معرض لخطر الإعدام رميًا بالرصاص بتهمة أنه «عدو الشعب»، وأنه «جاسوس ألماني»؛ لأنه جرؤ على انتقاد قاعدة سخيفة، وكان من حسن حظه أن أحدًا لم يبح باسمه.
وتكررت هذه الحادثة نفسها في اليوم الثاني، وكانت في هذه المرة أوخم عاقبة منها في المرة السابقة؛ ذلك أن ملازمًا شابًّا في عربتنا من الذين عادوا منذ قليل من جبهة القتال ثار غاضبًا حين مُنِعَ من الخروج لقضاء بعض حاجته، ولم يتمالك نفسه من شدة الغيظ فصاح بصوت عال: «هذا ظلم صارخ! لقد كنت في الميدان أؤتمن على قيادة كتيبة لقتال الألمان، أما هنا فإني لا أؤتمن على الخروج لقضاء حاجتي!»
فلما وصلنا إلى المحطة الثانية أقبل علينا القائم مقام سرجيف — وكان قد بُلِّغَ عن هذا «التمرد» — ليعاقب المذنب، وقُبِضَ على الضابط وكان شابًّا نحيل الجسم وسيم الوجه أشقر الشعر، وانتُزِعَت منه شارة رتبته وحزامه، وحُكِمَ عليه بأن يقف تحت الحراسة في مكان مكشوف عشرة أيام كاملة، فلما صدر هذا الحكم سرى الغضب في نفوس جميع الضباط الذين كانوا معنا.
وأُرْغِمَ الضابط على الوقوف في عربة مكشوفة في قطار مسافر في شتاء روسيا القارس من الساعة الخامسة صباحًا حتى منتصف الليل، وكان حراسه يتغيرون في كل محطة، وكان إذا عاد إلى عربتنا ليقضي فيها فترة الراحة القصيرة في أثناء الليل بادرنا إلى إظهار عطفنا عليه بتدليك أطرافه المتجمدة، وتقديم الطعام له، ولفه بأثقل ما عندنا من الملابس وأكثرها تدفئة له، وأنذرنا حراسه فضلًا عن هذا بأنهم إذا شاءوا أن ينجوا بحياتهم فإن عليهم أن يسمحوا له بأن يدخن ويلتف بالمشمع ليتقي به البرد بين المحطات حين يكون بعيدًا عن عين الضابط الكبير.
فلما مضى يومان على هذا المنظر الوحشي، لم أستطع أن أمسك لساني عن الكلام وسرت إلى الرفيق ل. وطلبت إليه أن يتدخل في الأمر.
وقلت له: «إنا جميعًا ندرك قيمة النظام الدقيق، ولكن أليس من واجبنا جميعًا أن نحكم عقولنا بعض الشيء؟ وسيطلب إلينا في يوم ما أن نقود الجنود في ميدان، وسنكون وقتئذٍ في حاجة إلى السلطة وإلى احترام النفس، إذن فما معنى هذه الحراسة الشديدة التي يخل إلينا معها أننا نتحين الفرص للفرار من الجندية؟ إن غدًا هو اليوم السابع من نوفمبر، وهو عيد الثورة، ولست أشك في أن كل رجل في وحدتنا سيعد العفو عن هذا الضابط الصغير هدية شخصية تقدم له في هذا العيد.»
وبعد هذا الإلحاح الشديد رضي الرفيق «ﻟ…» أن يقابل سرجيف، ثم عاد وأبلغني أن الحكم قد أجل حتى نصل إلى المكان الذي نحن ذاهبون إليه، ثم قال لي: «ولكني أرجوك ألا تزج بي في مثل هذه الشئون بعد الآن، إننا في حرب ولسنا في نزهة.»
وكان الضابط المؤمر علينا يرى أن من واجبنا لكي نحتفظ بأجسامنا قوية نشيطة أن نمارس ضروبًا من الألعاب الرياضية في كل صباح، حين يقف بنا القطار، وكان يفضل أن يكون ذلك قبل شروق الشمس، وأن نعري النصف الأعلى من أجسامنا رغم البرد القطبي الشديد، وإطاعة لهذا الأمر نادانا النفير إلى الرياضة البدنية عند أول محطة، فخرجنا من عرباتنا ونحن نرتجف من شدة البرد ولم نفق بعد من النوم، وحتى المرضى منا لم يعفوا من هذا الواجب، ولم تنقطع هذه الألعاب حتى في الأيام التي كانت تعصف فيها الريح فتحيل البرد وابلًا من الإبريدوم في الجو ويضرب أجسامنا، وما من شك في أننا قد ورثنا فكرتنا عن النظام من قياصرة العصور الوسطى.
وحاول من كان معهم نقود منا أن يبتاعوا ما يحتاجونه من الفلاحين الجائلين في المحطات التي كنا نطعم فيها، ولكننا وجدنا مع الأسف الشديد أن أثمان الحاجيات التي كانت من قبل مرتفعة قد بلغت في أشهر الحرب القلائل حدًّا لا يمكن تصوره، فقد بلغ ثمن الزجاجة من أردأ أنواع الدخان أربعين روبلًا، والزجاجة هي المقياس الذي يبيع به الفلاحون الدخان، وبلغ ثمن كوب اللبن خمسة وعشرين روبلًا، والفرخة الصغيرة ١٢٠٠ روبل أو ما يعادل مرتب الضابط منا شهرين كاملين، أما الجندي البسيط الذي يتراوح مرتبه بين ثمانية روبلات واثني عشر روبلًا في الشهر فكان عليه أن يعمل تسع سنين حتى يستطيع شراء دجاجة صغيرة بثمن السوق في شهر نوفمبر سنة ١٩٤١م.
وسُمِحَ لنا أن نلين أرجلنا حين وقف القطار بنا في ملتقى الخطوط الحديدية قبل قازان ليمر صف طويل من عربات الجند الذاهبين إلى ميدان القتال، وذهبت مع بعض رفاقي الضباط إلى غابة قريبة لأرى أشجارها تُقْطَع، فلما وصلناها خُيِّلَ إلينا أن من يعملون فيها من رجال ونساء — وكانوا في حال يُرْثَى لها — لم يكونوا من الروس؛ ذلك لأن جميع ملابسهم عدا أحذيتهم الروسية المصنوعة من الألياف، كانت تبدو غير روسية في مظهرها، وإن كانت قد تلطخت كلها بالأقذار، وتمزقت كأحسن ما تتمزق الملابس السوفيتية، وخُيِّلَ إلينا كذلك أن هؤلاء القوم لم يتعودوا العمل القاسي في زمهرير الشتاء الروسي.
وسألنا في هذا أحد رجال الشرطة المكلفين بحراستهم، فعلمنا منه أنهم في واقع الأمر من غير الروس، وأنهم من أهل لتفيا ولتوانيا وإستونيا وبولندا ومن اليهود، وأنهم نماذج من أعداء «الطبقة العاملة» «وغير المرغوب فيهم» الذين يعدون بالملايين، والذين رحلوا من الأقاليم التي اغتصبها الاتحاد السوفيتي تحت ستار ميثاق موسكو-برلين ليقوموا بأشق الأعمال، وعدنا إلى القطار صامتين واجمين، فقد كان كل ما يذكرنا بهذه الصفقة النازية يحز في نفوسنا ويجرح العزة الروسية القومية.
وكانت طائفة من الأطفال المشردين قد تجمعت في غيبتنا حول عرباتنا، وقد جاء هؤلاء الأطفال القذرون ذوو الثياب المهلهلة، والأجسام المتجمدة من شدة البرد، والأعين الغائرة الذابلة قبل الأوان في وجوه صغيرة كالحة، جاءوا ليطلبوا الخبز وهم ينشدون نشيدهم المحزن، وقد بدا هؤلاء أسلس قيادًا وأكثر حزنًا وأقل سلفًا من الأجيال السالفة من المشردين، ولعل منشأ هذا أنهم حديثو العهد بهذه الحياة التي لم تتأصل بعدُ في طباعهم.
وتجمعت طائفة أخرى من يتامى الحرب المساكين حول جذوة نار من قاطرة واقفة، وكانوا هؤلاء يغنون غنية الأطفال المشردين التي ألفنا سماعها في أيام الحرب الأهلية منذ عشرين عامًا، والتي أخذ يعيدها على أسماعنا أولئك الأطفال الذين يتمتهم الحرب.
وأعطينا هؤلاء البائسين ما استطعنا أن نستغني عنه، ولم يكن هذا بالشيء الكثير، وكان من حسن الحظ أن كان لدينا الشيء الكثير من الخبر، ولم يكن أحد من الروس يقسو على هذه الطوائف الأفاقة المشردة وإن ألجأها الجوع إلى التلصص والإثم؛ لأنها لا تجد سبيلًا للارتزاق غير هذه السبيل الضالة، وقد كان وجود هؤلاء الأطفال الضالين دليلًا حيًّا ينطق بقسوة الكبار من بني الإنسان.
وكانت آخر المرحلة الأولى من سفرنا محطة تُدْعَى أجريز وصلناها في اليوم السابع عشر من هذا السفر، وقضينا الليلة في حجرات قذرة غير مدفأة في مدرسة مهجورة، وأُمِرْنا في الصباح أن نبلغ عن أنفسنا في منزلنسك قبل مضي ستة أيام، ولكن كيف السبيل إلى الوصول إلى هذا البلد؟ لقد تُرِكَ لنا نحن تدبير هذا الأمر، وكل ما أُمِرْنَا به أن نصل إليه سيرًا على الأقدام بعد ستة أيام، وقيل لنا: إننا إذا واتانا الحظ قد يعيننا بعض الفلاحين الخيرين فيقدمون إلينا دواب نقطع عليها بعض الطريق، فتفرقنا جماعات يشرف على كل جماعة منا رئيس.
أما كبار القواد فقد سبقونا في سياراتهم، وما من شك في أنهم لم يروا شيئًا من التناقض يبين التضييق علينا في القطار فيما مضى من الأيام وبين تركنا وشأننا في بلاد التتار القارسة البرد المكسوة بالثلوج.
وسار اثنا عشر رجلًا منا وأسرعوا في مشيهم ليدفئ المشي أجسامهم، وكنا نحمل حاجتنا من العتاد والطعام الذي يكفينا ستة أيام، وكان هذا عبثًا يزداد ثقله يومًا بعد يوم، وكان في قدمي حذاءان من الخيش لهما نعلان من المطاط لا يصلحان للسير على الثلج والجليد، فلم ألبث إلا قليلًا حتى كانت كل خطوة أخطوها تزيد آلام أسناني، ثم أخذ بعضهم يغني أغنية شعبية حزينة روسية في نغمتها خففت قليلًا من تعبي وآلامي.
وأبصرنا في سيرنا حقولًا واسعة من القمح لم تحصد بعد، وأكداسًا عظيمة من القمح المحصود يغطيها الثلج، فكان ذلك مثارًا لدهشتنا حتى أخبرنا فلاح بحقيقة الأمر فقال: إن جميع الرجال الصالحين للعمل قد جُنِّدوا للخدمة في الجيش، وإن جميع الخيول قد سيقت إلى جبهة القتال فلم يبق «سوى النساء والأطفال والأبقار»، ومن أجل ذلك ظلت كميات كبيرة من المحصول لا تجد من يحصدها أو ينقلها من أماكنها.
وأدركتنا بعد وقت ما مزلجتان من مزالج الفلاحين لم تتسعا لأكثر من عشرة منا، وأصررت أنا على السير راجلًا بوصفي من رجال الحزب العاملين، وتطوع بمصاحبتي دمتريني وهو رجل في بداية العقد الرابع من عمره صادقته في بلشيفو، وقضينا على هذه الحال يومًا أغبر مقبضًا نسير فوق أرض تتباين مناظرها ولكنها كلها يكسوها الثلج، ولا يخفف من وحشتها وعزلتنا إلا نفخة من دخان بعيد، أو نباح كلب تحمله الريح من عالم الأحياء.
وأخذنا ونحن نسير سيرًا وئيدًا في أواخر النهار نتحدث عن الحرب وأهوالها، وكنت قد بدا لي وأنا في بلشيفو أن دمتري كان ساخطًا على سياسة الحكومة بقدر ما أنا ساخط عليها.
وكان مما قاله لي: «إني أقول لنفسي كل يوم يا فكتور أندريفتش بأني أخوض غمار هذه الحرب من أجل الشعب الروسي الصالح الساذج، الطيب القلب البريء، لا من أجل ستالين، وأقسم لك أنه لولا هذا لضقت ذرعًا بالحرب، وما من شك في أن سادة الكرملن يعلمون ذلك حق العلم، وإلا كانوا أشد الناس غباوةً، فهل يعتقد هؤلاء بحق أن أبناءنا مستعدون للموت دفاعًا عن ستالين وبريا وغيرهم من وحوش القسم السياسي؟»
فأجبته: «ليس هذا أوان الشكوى والضجر، إن الحزب والقسم السياسي ووطننا قد امتزجت كلها بعضها ببعض سواء أردنا ذلك أو لم نرد، وليس ثمة وسيلة لفصل أحد هذه العناصر عن الآخر حتى يطرد النازيون من البلاد، هل قرأت يا دمتري كتاب تولستوى عن «الحرب والسلم»؟»
– «نعم، قرأته بطبيعة الحال.»
– «ولكن ستالين لا يبالي قط بحياة الروس.»
– «نعم، إنه لا يبالي بحياتهم، ولو أن التاريخ قد عزا انتصار الروس مرةً أخرى إلى ستالين لكان هذا من سخرياته.»
ووصلنا في المساء إلى قرية من القرى الساكنة المزدحمة، ونحن منهوكو القوى من فرط التعب، فطرقنا باب أول بيت في الطريق، وفتحه فلاح ملتحٍ، وبدا الرجل في حال من البؤس الشديد، ولكنه خشي على ما يظهر أن نتهمه بالبخل، فقال إن أطفاله مرضى، ودلنا على كوخ قائم إلى جانب الطريق، وأكد لنا أن من فيه سيرحبون بنا، وأننا سنستمتع فيه بالراحة ونجد حاجتنا من الطعام الطيب.
ولم يكن الرجل مبالغًا فيما قال، فقد كان البيت المكون من حجرتين دفيئًا مريحًا، تغطي نوافذه ستر ملونة، وعلى أعتابها أصص من الأزهار، واستقبلنا فلاح نحيل الجسم نظيف الثياب وزوجته شمطاء الشعر أحسن استقبال كأنهما كانا ينتظران قدومنا من زمن طويل، وكانت بقية الأسرة مكونة من ابن لهما لعله في الثانية والعشرين من عمره، وابن آخر في الخامسة عشرة تقريبًا، وابنة حيية في العاشرة ذات غدائر طويلة، وأسرعت الأسرة كلها لتعنى بالضيفين، ولما خلع أكبر الولدين سترته رأينا أن إحدى ذراعيه مقطوعة.
وقال الأب وهو يتحسر: «لقد قُطِعَت ذراع فانيا بالقرب من كيف.»
وأعاننا الولد الثاني وأخته على خلع حذاءينا المثقلين بالجليد، وأخذ الرجل وزوجته يدفئان الماء، ثم أتيا لنا بحوض كبير من خشب، واغتسلنا لأول مرة منذ ثلاثة أسابيع، وبينا كان كلانا يغسل جسم صاحبه بالصابون اطلعنا من الباب المفتوح بعضه فأبصرنا المرأة تغير غطاء المائدة وتعد لنا ملابس ابنها النظيفة، ثم أخذت البنت الصغيرة تضع طعام العشاء على المائدة.
وهمس دمتري في أذني قائلًا: «هذا ما أعنيه بقولي، وهؤلاء هم القوم الذين أرضي أن أموت وأنا أحارب الألمان دفاعًا عنهم.»
وكان مذاق حساء الكرنب وإن خلا من اللحم كأنه الرحيق بعد سيرنا الطويل، وخيل إلي أن فطير الذرة مع العسل أشهى ما طعمت في حياتي، أما الخبز فقد قطع قطعًا صغيرة رقيقة، وهذا التقطيع عند الفلاحين دليل على الحاجة الشديدة، وأخرجت أنا ودمتري مما معنا رغيفًا أسمر وسمكة مجففة وشايًا وسكرًا، وقابلت الزوجة عملنا هذا بأن أحضرت خيارًا وفلفلًا، ولم يشأ زوجها أن يكون أقل منها كرمًا فجاء بزجاجة صغيرة من الفدكا لندفئ بها جسمنا، وكانت هذه وليمة لم ننسها أمدًا طويلًا.
ورفعت مضيفتنا كأسها وقالت: «اشرب هذا وأرجو أن يُرْسَل على هتلر الطاعون لا قدر الله.»
وسألتها: «ولِمَ تقولين لا قدر الله يا أماه؟»
– «إني أقول هذا بحكم العادة.»
وقال الرجل الكبير: «لا يا أماه، إن هذا الكلب لا ينال جزاءه الحق إذا مات بالطاعون، إني أريد أن أمسك به حيًّا، وأضعه في قفص، وأعرضه على العالم كله، وأدعو الناس أن ينظروا إلى هذا اللعين.» ثم قرب كرسيه من المائدة وأخذ يخاطب ضيفيه قائلًا: «إن الذي يهمني هو هذا: ماذا تظنون أننا نحارب في سبيله أيها الضباط الطيبون؟»
فأجابه دمتري بقوله: «من أجل بلادنا، من أجل روسيا بطبيعة الحال.»
– «من أجل بلادنا الروسيا بطبيعة الحال … إذن سأرسل ولدي المقطوع الذراع إلى الميدان مرة أخرى، وسأذهب أنا نفسي لأدافع عن الروسيا، ولكن أي روسيا؟ أهي الروسيا التي سلبتنا أرضنا وجوَّعت أطفالنا، أم هي روسيا جديدة؟»
فقلت له لأشجعه على أن يزيدني من حديثه: «إني لا أفهم ما تقول يا والدي.»
– «أي شيء تريد أن تفهمه؟ لقد كنت أنا نفسي في الميدان في الحرب العالمية الأولى مع الألمان، وحاربت وجُرِحْت، وأكلني القمل حيًّا، ثم قامت الثورة، وقالوا: إنها الحرية، وقالوا: إن الأرض للفلاحين، ورفع كل إنسان عقيرته وقال: إننا سنكون ملاك الأرض لأن بأيدينا بنادق، ومرت بعدئذٍ اثنتان وعشرون سنة ولم نجد حرية ولا أرضًا وكل الذي وجدناه حرب جديدة، وها هم أولاء يتملقوننا من جديد ويتحدثون إلينا بألفاظ معسولة.»
فقاطعه فانيا قائلًا: «لكنها الآن قوتنا لا قوة القيصرية.»
فنظر إليه والده نظرة أسكتته، ولم نجد نحن صعوبة في أن نعرف من هو المسيطر على البيت.
– «لا تقاطعني بألفاظك الجوفاء يا فانيا، لقد أمسكت لساني سنين طوالًا، أتقول: إنها قوتنا؟ إذن من هم الذين أخذوا الخبز من أيدينا بمختلف الأساليب وبالنهب الصريح؟ قوتنا! ومن هم الذين قضوا على أسرة من كل خمس أسر في قريتنا ونفوها إلى سيبيريا في أثناء حركة المزارع الجماعية؟ إن كل ما أريد أن أعرفه هو هذا: أنحن آدميون أم غير آدميين؟ أريد أن أعيش كما أحب لا كما يأمرونني أن أعيش.»
– «هذا صحيح يا والدي، وأنت محق في شكواك، ولكن كيف كنت تعيش قبل الثورة؟»
فالتفت إليَّ مسرعًا وقال: «خير من هذه المعيشة ألف مرة، إن الحقائق لا تخفى على إنسان، لقد كان لي قطعة من الأرض وكنت أملك جوادًا طيبًا، ومهرة وبقرة وعجلًا وخنزيرًا وإوزًا، وكنت أربي النحل، ولا تنس أننا كنا من فقراء الفلاحين، ولكنا كنا نجد على الدوام ما نأكل وما نلبس، ومن أجل هذا أسألك في سبيل أي روسيا بُتِرَت ذراع فانيا؟ وفي سبيل أي روسيا تذهبان أيها الرجلان الوسيمان الذكيان لتقتلا الناس وتُقْتَلا لا قدر الله؟ إذا كان ذلك في سبيل روسيا نفسها التي نشاهدها في هذه السنين الأخيرة فذلك ما لا خير فيه، إني رجل طاعن في السن كثير الكلام، ولكن من الخير أن يروح الإنسان عن نفسه بأن ينطق بالحق أحيانًا.»
وقال الولد المبتور الذراع الذي كان ينصت إلى والده: «إنك يا أبت تتحدث عن الماضي كأنك تريد أن يعود كبار الملاك ليستغلونا نحن الفلاحين كما كانوا يستغلوننا من قبل.»
– «لا، ليس هذا ما أريد يا فانيا، إنك من لجان الشباب الشيوعيين، ولا علم لك بالحياة الماضية، وأنا لا أريد أن يعود كبار الملاك، ولكنني لا أريد أيضًا أن أسعى لأدنى معيشة بالعمل في المزارع الجماعية، ولمَ يكون لنا سادة جدد يرهقوننا ويستبدون بنا؟ فلتبق المزارع الجماعية التي تحسن العمل وتستطيع البقاء، ولكن يجب ألا يرغم الناس على الانضمام إليها، فليس من حق أحد أن يرغمهم على هذا.»
وطال بنا الحديث وقال مضيفنا أكثر من مرة أن كل ما يطمع فيه هو أن «يعيش كما يعيش الآدميون»، وإنه لم يعد يطيق الحياة في ظل الكبت والقسر، وكانت ربة الدار قد ظلت صامتة شأن الزوجات الصالحات، فلما وصل بنا الحديث إلى هذه المرحلة لم تستطع السكوت فقالت: «ولِمَ أُخِذَت منا الكنائس قوة واقتدارًا وحُوِّلَت إلى مخازن؟»
فأجابها دمتري بقوله: «لست أعرف يا أماه، ولكني أعتقد أن هذا لن يحدث بعد الآن.»
– «لو أنني كنت واثقة من هذا لدعوت إلى ستالين ست مرات في كل يوم، ثم قل لي لمَ يريد أن يدخل كل إنسان في دينه؟»
وضحكنا كلنا من هذا القول وبخاصة ابنها الأكبر.
وقال الأب محتدًّا: «اسكت يا فانيا، إن حكمة أمك أعظم من حكمتك، ولو أنها لم تدع لك كل يوم لما فقدت ذراعك بل لفقدت رأسك، وأظنك تقول: إن الشباب الشيوعي كان يدعو لك.»
فأجابه دمتري قائلًا: «ولكن ما مضى فات يا والدي، وليس في مقدورنا أن نرجع الأيام الماضية.»
– «لست أريد أن أرجع الماضي اللعين يا أبنائي، ولست في حاجة إلى القيصر، ولكني مع ذلك لا أريد قياصرة جددًا، بل أرغب في أن أعيش إنسانًا حرًّا أعمل في أرضي وأعبد ربي، إن إلهكم السوفيتي بعيد عني بين جدران الكرملن من وراء أقفال كثيرة وحراس.»
ونمنا نومًا عميقًا هادئًا في تلك الليلة كأننا ننام في بيوتنا وفوق فراشنا، وإن كنت قد حلمت أنني عدت إلى ألكسندروفسك، وأنني أسبح في نهر الدنيبر وأستمع إلى جدي وهو يقص عليَّ قصصًا عن الأتراك والأكراد، وعد لنا في الصباح فطور ساخن، وعرفنا أن المرأة العجوز ظلت طوال الليل مستيقظة تغسل ملابسنا وتنظفها وتصلحها، لقد غسلت قمصاننا ومناديلنا وكوتها ورقعت جواربي، وأثرت فيَّ هذه العناية حتى كدت أبكي من فرط التأثر، فعانقت المرأة وربت على شعرها الأشمط وقبلت خديها.
وقلت لها: «شكرًا لك يا أماه، أمد الله في عمرك ومتعك بالسعادة.»
ولم يكن دمتري أقل مني اعترافًا بجميلها، ونزل مضيفنا من فوق الفرن وصاح وهو يتكلف الغضب: «ويحكم لا تطلقوا العنان لعواطفكم مع زوجتي العجوز.»
وحاولنا جهدنا أن نعطي مضيفينا بعض المال ولكنهما رفضا ذلك بتاتًا، وكل الذي رضيا أن يأخذاه هو قطعة من الصابون وبكرة من الخيط، وخرجت الأسرة كلها لتودعنا وأحسسنا وقتئذٍ كأننا نفارق أهلنا.
وقال دمتري وقد ثارت عواطفه وهو يقبِّل أصدقاءنا واحدًا بعد واحد: «لن آسف إذا مت في ميدان القتال دفاعًا عن أمثالكم، إنكم قطعة مما أسميه روسيا، وأنتم قطعة صالحة، جد صالحة.»
واتخذنا أماكننا في مزلجة أعدها فانيا ورحلنا في الصباح الباكر، وظلت المرأة العجوز ترسم علامة الصليب في اتجاهنا بيمناها وتمسح الدموع في عينها بيسراها، حتى وصلنا إلى منحنى في الطريق وغابت عن أنظارنا، فلما صرنا على بعد عشرة كيلو مترات من المدينة أقنعنا فانيا بأن يعود، وأعطيناه شارة مهندسي الجيش المكونة من المفتاح والمطرقة، وكانت عيناه لا تنفكان تنظران إليها مذ حللنا بداره وطلبنا إليه أن ينوب عنا في شكر أسرته.
وصلنا في مساء اليوم الثالث إلى بلدة كرزني بور الصغيرة القائمة على نهر كاما، وقالت لنا الأسرة التي حللنا بدارها في تلك الليلة — وكانت أسرة من الصيادين — إن هذه البلدة كانت تسمى قبل الثورة «بياني بور» أي «الغابة السكرى»، أما الآن فهي «كرزني بور» أي «الغابة الحمراء»، ولكن سواء أكانت سكرى أم حمراء فإن الحياة فيها ليست خيرًا مما كانت، واستطاع دمتري أن يتحمل مشاق السفر، أما أنا فقد ساءت حالي كثيرًا إذ تجمدت أصابع قدمي من شدة البرد وامتلأت قدماي بالفقاقيع، ولم أعد أطيق آلام جسمي وبرح بي ألم أسناني.
ولم يطرق النوم عيني في تلك الليلة، فلما طلع النهار سرت وسط عاصفة ثلجية إلى صيدلية المركز على بُعْدِ ثلاثة أميال من كرزني بور.
وتكشفت تلك الصيدلية — رغم اسمها الطنان الرنان — عن طائفة من البيوت الخشبية الحقيرة تشرف عليها طبيبة كهلة من أهل موسكو، وأظنها قد جاءت منفية إلى هذا الإقليم، وسرها لهذا السبب أن ترى إنسانًا قادمًا من العاصمة، وكانت تتلهف على سماع أخبارها، وساءها في الوقت نفسه أنها عاجزة عن أن تفعل لي شيئًا يخفف عني ألم أسناني.
وقالت بعد أن فحصت عن أسناني فحصًا دقيقًا: «إنك تشكو التهابًا في عظام الفك، وقد انتقل المرض من السن إلى عظم الفك كله، وعليك أن تذهب إلى منزلنسك بأسرع ما تستطيع، وتتصل بالمستشفى لتعالج فيه، إذ ليس في مقدوري أن أفعل لك هنا شيئًا.»
وقلت لها: «ولكن في وسعك أن تخلعي لي السن المريضة.»
– «لا، ليس عندي مخدر، والحقن التي وجدتها في هذا المكان قد مضى عليها عشر سنوات على الأقل، ولست أشك في أنها عديمة النفع، وفوق هذا فليست لديَّ إبر أضعها في المحقن.»
ولكني رغم هذا ظللت ألح عليها حتى رضيت بأن تخلع سني، وقد فعلت هذا بأن شقت اللحم الملتهب، وخلعتها بكلَّابة قديمة رديئة، وظللت خمس عشرة دقيقة في آلام مبرحة لا أجد من الألفاظ ما أستطيع وصفها بها، ثم استلقيت على الفراش نحو ساعة تناولت في أثنائها جرعة من النبيذ ردت إليَّ بعض قواي، فعدت ماشيًا إلى كرزني بور، وأحسست بعد أن خلع الضرس الذي كان يؤلمني أن الضغط الواقع على أعصابي قد خف قليلًا، وأشار عليَّ دمتري أن أستريح في ذلك اليوم في بيت الصيادين ففعلت، وفي اليوم التالي وهو اليوم الخامس مذ غادرنا القطار عبرنا نهر كاما المتجمد، والتقينا بعدة مجموعات أخرى من ضباط وحدتنا، ووصلنا في اليوم السادس إلى منزلنسك.
وكانت هذه البلدة نموذجًا للطراز التتاري، ذات أزقة ضيقة ملتوية تفوح منها الروائح التي تمتاز بها المدن الشرقية، وأوينا إلى مدرسة قديمة لا ماء فيها ولا نور، وصودرت عدة مواقد حديدية من أهل البلدة، ولكنها لم تفد كثيرًا في تخفيف حدة البرد، وكانت أقدامنا جميعًا متجمدة من البرد مجلة من طول المشي، ينزف منها الدم أحيانًا، وقد أعياني المشي والألم فلم أستطع حراكًا، وأمكن دمتري أن يحصل لي على حشية ومخدة من القش، فلما استلقيت عليهما خُيِّلَ إليَّ من فرط الألم أن جسمي قد ثقل حتى أصبح كالجبل، وسمعت وأنا أحس بهذه الآلام المبرحة مَنْ كان حولي من الناس يسبون ما يقدم لهم من الطعام والمأوى وما صارت إليه حالهم بوجه عام، واستولى عليهم الغم والكآبة حين شعروا بما ستئول إليه حالهم في منزلنسك، وكان الضباط الكبار في هذه المرة أحكم من أن يعتقلوا الساخطين، وظلوا بعيدين عن المعركة.
وبقيت يومين كاملين في فراشي أتلوى من شدة الألم، ثم نقلت في اليوم الثالث إلى مستشفى منزلنسك الحربي، وقد أصابتني حمى شديدة، ثم خفت حدة الألم، واستطعت أن أدرك ما حولي فرأيت طبيبة وسيمة الوجه رقيقة القلب تقيس درجة حرارتي.
وتبسمت لي وقالت بلهجة الواثقة: «ستشفى يا رفيق كرافنشنكو، ولا بد لك من العودة إلى موسكو لتعالج فيها حين تقوى على تحمل متاعب السفر، وإلى أن تستطيع ذلك سنبذل نحن كل ما في وسعنا في سبيل راحتك.»
وعادت إليَّ قواي ببطء، وكان دمتري ونومدوف وغيرهما من رفاقي يأتون لي بالطعام الشهي؛ ذلك بأن المستشفى نفسه لم يكن يقدم للمرضى إلا قطعًا من الخبز الأسود اللزج، والشاي من غير سكر، والحساء والذرة المطبوخة مرتين في كل يوم، وكنا نفترش حشيات من القش، ونغطى بأغطية من أغطية الجيش الخشنة، ولكن يوجينيا فلاديميرفنا طبيبة القسم الذي كنت فيه كانت تعوض بعطفها وذكائها ما نرزح تحته من أعباء، وكان الذين يشغلون الرواق الذي أنا فيه خليطًا عجيبًا من مختلف الطبقات، كان منا جندي قروي طاعن في السن، وضابط سياسي برتبة أميرالاي، وعدد من الجنود العاديين، وكنا نقتل الوقت نناقش كل ما يمكن تصوره من الموضوعات، ولم يكن منا من يختلف عن زملائه حبًّا للطبيبة وإخلاصًا لها.
وكنا كلنا في أحط درجات اليأس، فقد كان هذا في شهر ديسمبر حين كان مصير موسكو في كفة القدر، ولم يكن في المستشفى جرائد ولا مذياع، ولكني أنا والضابط الكبير كنا نعرف الأخبار ممن يزورنا من الأصدقاء، حتى صار رواقنا وكأنه مركز الاستعلامات في المستشفى بأكمله.
وبعد أن مضت عليَّ بضعة أسابيع في المستشفى جاء خادم إلى رواقنا قبيل منتصف الليل يحمل مصباحًا، ثم أقبلت الطبيبة بعد بضع دقائق من مجيئه في ملابس مدنية وتبدو عليها مظاهر الرشاقة، وقد عقصت شعرها عاليًا فوق رأسها على أحدث طراز، مع أنها فيما مضى كانت تعقصه وراء عنقها، واتكأ المرضى على مرافقهم وحدَّقوا جميعًا في وجهها وهم مندهشون، ولم يكن ملبسها وحده هو سبب دهشتنا، بل إنني شممت رائحة ذكية تنتشر حولها وهي تضع أمامنا أطباق اللحم والفاكهة المحفوظة.
وخاطبتنا قائلة: «كل عام وأنتم بخير، كل عام وأنتم بخير.» ولما رأت الدهشة بادية في وجوهنا، قالت وهي مرتبكة بعض الشيء: «لقد بدا لي أنكم قد تحبون أن تروا في أحد أيامكم امرأة تزين كما يزين النساء، وأقصد أنه لما كانت هذه الليلة هي ليلة رأس السنة … فقد يذكركم مظهري هذا ببيوتكم وأهليكم.»
وقال الضابط الكبير في صوت خافت وتأثر شديد: «وما أحسنها وأعجبها من هدية تهدى إلينا في عيد رأس السنة!»
وقال الجندي القروي الشيخ: «إن امرأتي التي تركتها في القرية لم تزين في يوم من الأيام بهذه الزينة، ولكني أشكرك كل الشكر يا يوجينيا فلاديمرفنا، وكل عام وأنت بخير.»
وحيَّتنا الطبيبة واحدًا بعد واحد ووزَّعت الطعام على كل قادر على أكله، ثم انتقلت إلى الرواق الثاني، وستبقى في ذاكرتي أبد الدهر صورة تلك المرأة الروسية تتنقل في الليلة الأولى من عام ١٩٤٢م بين الأروقة المختلفة في مستشفى حقير في بلاد التتار قليل العدد والموظفين، وتقدم الهدايا لمن فيه من المرضى الذين يحنون إلى أوطانهم.
وقبل أن ينتهي شهر يناير قررت لجنة من إدارة المستشفيات العسكرية أن أعود إلى موسكو لأتمَّ فيها علاجي، فلما جئت العاصمة لم أنزل في مستشفى من مستشفياتها، بل اكتفيت بالتردد في كل يوم على إحدى العيادات الخارجية، وظللت طوال مدة العلاج أتناول وجبتين من الطعام في البيت المركزي لضباط الجيش الأحمر، وأخذت صحتي تتحسن بسرعة بفضل عناية إيرينا وعطفها عليَّ، فالتأم جرح فكِّي، وشُفِيَ جسمي، وانقطعت عن العيادة الخارجية بعد أن أوصيت بأن أستريح فترة من الوقت أستعيد فيها قوتي، وتوجهت إلى اللجنة المختصة لأتلقى منها أوامرها ففحصتني فحصًا لم يدُمْ أكثر من دقيقتين، وقررت أني صالح للخدمة، وكتبت على أوراقي أنه يجب إرسالي إلى جبهة القتال.
وودعت إيرينا وأنا أتوقع ألا أراها — إذا قُدِّر لي أن أراها — إلا بعد زمن طويل، فلما ذهبت إلى وزارة الحربية قيل لي: إن قرارًا جديدًا صدر مضمونه أن الذين تلقوا تعليمًا فنيًّا عاليًا سيعفون من الخدمة العسكرية لشدة الحاجة إليهم في داخل البلاد، وكان هذا قرارًا معقولًا لا غبار عليه، ولكني حسبت أني قد حُرِمْتُ فرصة المخاطرة بحياتي؛ دفاعًا عن يوجينيا فلاديمرفنا وعن الفلاحين والصيادين والعمال وزملائي المهندسين الذين اجتمعت بهم في الأشهر الأخيرة، لقد كنت أشعر بحق أن هؤلاء بنو وطني، وأن بلادهم بلادي، وكان شعوري هذا شعورًا لا ترقى إليه السياسة ولا يصل إليه الإنسان بإعمال الفكر.
وكان هذا الشتاء أسوأ شتاء مر على موسكو مذ أطلَّ نابليون على خرباتها المحترقة قبل ذلك الوقت بمائة وثلاثين عامًا، وعجز الأعداء المغيرون عن الاستيلاء على المدينة، وتلقفتهم سهوب الروسيا المتجمدة، فأنهكت قواهم وحصدت أرواحهم، وكانت حالهم في تلك البلاد أسوأ منها في كل بلد استولوا عليه، لقد كان في وسعهم أن يجدوا في بلاد البلقان الفقيرة المتأخرة ما يقوم بأودهم إلى حد ما، أما في أراضي الروسيا المقفرة فإن المغيرين لم يجدوا شيئًا ينتهبونه، على أن ما أصاب الغزاة المحاصرين من بؤس لم يخفف من آلام المحاصَرين.
وكانت المدينة المطفأة الأنوار التي عدت إليها وقتئذٍ جائعة يلفها الصقيع وتنتشر فيها آثار قنابل العدو، وخُيِّلَ إلينا أنها فقدت روحها المعنوية، وعجزت حتى عن اليأس، يتكدس أهلها في النفق والسراديب والأقبية وملاجئ الغارات الرديئة التهوية والتي ارتُجِلَت ارتجالًا، ويظلون على هذه الحال حتى تطلق الصفارات المؤذنة بانتهاء الغارات، ثم يذهبون متثاقلين من بيوتهم الباردة ليعملوا ساعات طوالًا في المصانع والمكاتب التي لا تقل زمهريرًا عن بيوتهم، وأُخْلِيَ عدد كبير من مصانع المدينة، وفُرِضَ على ما بقي منها أن تواصل العمل بالليل والنهار بأقصى طاقتها، وقامت صعاب شديدة في سبيل الحصول على المادة الغفل للأعمال الصناعية المعتادة، بعد أن خسرت البلاد أغنى الأقاليم الصناعية في أوكرانيا وروسيا الغربية، وبسبب الضغط الشديد على وسائل النقل، على أن العاصمة رغم هذا كله قد استحالت دار صناعة ضخمة تعمل بجد للوفاء بحاجات جبهة القتال.
وكانت الكميات المقررة من الطعام دون الكفاف، ومع هذا فإن الحوانيت لم يكن فيها ما يفي بهذا القدر الضئيل، وكان الجوع والبرد يهددان الأهلين أكثر مما تهددهم الجيوش الألمانية، ومع أن الحرب لم يمضِ عليها إلا ثمانية أشهر أو تسعة فقد كان سكان المدينة، وهي عاصمة دولة عظيمة، يطعمون خبزًا مخلوطًا بدقيق البطاطس، ويأكلون لحم كلابهم وقططهم وما يستطيعون اصطياده من البقر، ألا ما أعظم استعداد ولاة الأمور للحرب!
وحدث في هذا الوقت مثل ما حدث في أسوأ أيام الثورة، فقد حطم أهل المدينة أثاث بيوتهم، وخلعوا أسوارها الخشبية في سعيهم اليائس للحصول على ما يدفئ أجسامهم، وأخذت نسبة الوفيات في المدينة تزداد زيادة مطردة، وتضاعف عدد الموتى بمن قضت بإعدامهم المحاكم العسكرية ورجال القسم السياسي من الخونة وناشري الذعر في البلاد الحقيقيين منهم والخياليين.
وهزل جسم «إيرينا»، وكانت تقتسم جرايتها مع من كانوا أقل منها حظًّا من جيرانها؛ لأنها كانت تتناول كل يوم وجبة في المكتب الذي تعمل فيه، وكانت الشقة التي تسكنها خالية من وسائل التدفئة، وكنا حتى في داخل البيوت نلبس معاطف ثقيلة ولفافات من الصوف وقفازات، ولم نكن نجد في معظم الوقت ضوءًا كهربائيًّا، وكثيرًا ما انقطعت عنا المياه، وتجمدت في أنابيب المراحيض.
وكانت الحياة شاقة كثيرة العناء، وموسكو تكفر في تلك الأيام عما قام فيها من حكم بيروقراطي مضطرب وظلم سياسي دام مائة عام كاملة.
وكان نصف العمال في مصنع الأنابيب قد أجلوا عنه، أما النصف الآخر فكان يعمل ليلًا ونهارًا في صنع الألغام والقنابل، وزيد موظفوه زيادة كبيرة، لكن منتوروف ويجوروف لم يوافقا على عودتي لهذا المصنع، ورفعت الأمر إلى لجنة الحزب الإقليمية فتدخلت في الأمر، وعُيِّنت بفضل تدخلها كبيرًا لمهندسي برمترست وهي مواثقة تشرف على تسعة مصانع مختلفة يعمل معظمها في صنع الذخائر الحربية.
وسرني هذا التعيين كل السرور وإن لم يكن هذا العمل في ذاته مما أرغب فيه كثيرًا، وكان سبب هذا السرور أنه يشعرني بأني أشترك عن قرب في أعمال القتال، ولم يكن يقل أهمية عن هذا التعيين أني حصلت بوصفي عاملًا مسئولًا على ميزة تناول الطعام في المطعم المخصص لأعضاء لجنة الحزب المركزية، وكانت بعض المصانع التي أشرف عليها تقوم بصنع القنابل اليدوية والألغام وغيرها من أصناف الذخائر الحربية، وتخصص عددًا منها لإصلاح الأجهزة الهندسية، وكنت على الدوام أتلقى أوامر عسكرية بمضاعفة الجهود، فكنت أواصل العمل بجد أنا ومَنْ كان معي من الموظفين، والحق أني شعرت بأني كنت أعمل وراء «خط النار»، وحاولت أن أشعر بهذا كل من حولي.
وكان العمال الذين أشرف عليهم جياعًا مهزولين يفت في عضدهم علمهم بأن أسرهم تلاقي العذاب ألوانًا، ولكنهم رغم علمهم هذا كانوا يعملون صامتين مخلصين من عشر ساعات إلى ست عشرة ساعة في الأسبوع، وكثيرًا ما كانوا يقضون أيامًا كثيرًا في المصنع لا يبرحونه أبدًا، ولا ينامون إلا غرارًا في حجرات المصنع نفسه، وذلك إذا ما وصلتنا أوامر عاجلة، ولقد أدهشني بحق جَلَد هؤلاء الرجال السذج والنساء والأطفال، فقد كان من كل مكان بنون وبنات بين الثانية عشرة والخامسة عشرة من العمر يقومون بعمل الكبار، وأنا أراقبهم يعملون في أحد الحوانيت حين يكون الحانوت المجاور له قد استحال جحيمًا متقدًا بفعل قنبلة محرقة أُلْقِيَت عليه، وأنا أعرف الآن أن هؤلاء السذج هم الأبطال الحقيقيون والقوة الحقة في الحرب الروسية، ولم يكونوا بحاجة إلى نداءات تقوي روحهم المعنوية، فقد كانوا يكدحون ليقدموا كل ما يستطيعون تقديمه من عون لأبنائهم وأخوتهم وآبائهم في جبهات القتال، وقد يعزو العالم الخارجي — لما على أبصاره من غشاوات — الفضل فيما أحرزناه من نصر لطغاة السوفيت، ولكن الفضل كل الفضل إنما يعود إلى ضحايا ذلك الطغيان، ويعود إليهم أحيانًا رغم ما يتصف به هذا الطغيان من جهل وغباوة.
وأصبحت بحكم مركزي على اتصال وثيق بكبار موظفي الحكومة والإدارة العسكرية المعنيين بمشاكل العتاد الحربي، وكان اتصالي بهم مستمرًّا لا يكاد ينقطع يومًا واحدًا، وكانت تتاح لي الفرص لأن أعمل أحيانًا مع كبار الموظفين في مجلس الوزراء الذي يستمد سلطانه من مجلس السوفيت الأعلى، فكان لذلك من الوجهة النظرية على الأقل الأداة التنفيذية المشرفة على لجنة الدفاع عن الدولة، وبذلك استطعت لأول مرة في حياتي أن أشترك في عدة مؤتمرات عاجلة خطيرة لبحث شئون الإنتاج داخل أسوار الكرملن الحصينة.
ووجدت على مكتبي في أحد الأيام رسالة تطلب إليَّ أن أخاطب على الفور أحد الأرقام بالتليفون، فطلبت الرقم وذكرت اسمي: «الرفيق كرافتشنكو، نرجو أن تحضر إلى مجلس وزراء (جمهورية السوفيت الروسية الاشتراكية الاتحادية) في الساعة الثانية عشرة تمامًا، وستجد جواز المرور في انتظارك.»
وهذه الجمهورية هي أكبر «الجمهوريات» التي تتكون منها الدولة السوفيتية، فهي في واقع الأمر أكبر من الجمهوريات الأخرى مجتمعة، وخير ما يمكن أن يوصف به الاستقلال الذاتي الذي تتمتع به هذه الجمهوريات — كما يسمونها — أنه ستار مهلهل خداع؛ ذلك أن ما لها من السلطان المستقل أضعف كثيرًا مما للولايات التي تتألف منها جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية، فهي في جوهرها أقسام إدارية أُنْشِئَت لتيسير حكم بلاد ضخمة كالبلاد الروسية، ولكنها تسيطر عليها الحكومة المركزية أتم السيطرة.
على أن هذا الستار الخدَّاع نفسه لا يكاد يوجد في هذه الجمهورية السالفة الذكر، وليس مجلس وزرائها إلا جزءًا من مجلس وزراء الاتحاد العام، وعاصمة الجمهورية موسكو، ونشاطها مرتبط أشد الارتباط بنشاط أداة الحكم بأجمعها، وليس لهذه الجمهورية وزارة لشئونها الداخلية خاصة بها كما لسائر الجمهوريات السوفيتية، وليس لها كذلك لجنة حزب مركزية، وعلى هذا فإنها من الوجهة العملية — إن لم تكن من الوجهة النظرية — شاملة لاتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية بأجمعها، وهي الوحدة السياسية ذات السلطة العليا في الاتحاد السوفيتي، وفيها تركز جميع قوة النظام الحكومي، ولا يفرق المواطن السوفيتي العادي بين مجلس الوزراء الأعلى للاتحاد ومجلس وزراء هذه الجمهورية، وقد دلتني تجاربي على أن هذا الاعتقاد صحيح.
ولقد جئت إلى هذا البناء مرارًا من قبل، وكنت لذلك على علم بالاحتياطات الشديدة التي تتخذ لحماية موظفيه، فلما أقبلت عليه هذه المرة أبرزت جواز مروري وأذن لي بالدخول، فصرت أتنقل من حارس إلى حارس حتى وجدت نفسي آخر الأمر في دهليز واسع ساكن، فُرِشَت أرضه بالبسط الثقيلة، على جانبيه أبواب ضخمة من خشب البلوط، ووقف خارج هذه الأبواب الضخمة ضباط من القسم السياسي، ولم أكن أظن حتى هذه الساعة أن أحد هذه المكاتب سيخصَّص لي، وأني سأصبح من الشخصيات العظيمة يحيط بي حرس يدفع عني الأخطار الوهمية.
وانتظرت قليلًا في حجرة الاستقبال، ثم جاءتني إحدى أمينات السر وأدخلتني إلى الحجرة الرحبة التي يعمل فيها الرفيق أندراي إيفانوفتش أنكين نائب رئيس مجلس وزراء جمهورية الروسيا الاشتراكية السوفيتية الاتحادية، ورأيت هذا الرجل يجلس في كرسي كبير خلف مكتب ضخم، ومن خلفه صورة زيتية عظيمة لستالين تضاءل الرجل بالقياس إليها في نظري، وإن كان في واقع الأمر ربعة من الرجال متين البنية كبير البطن ذا هيبة ووقار.
وأشار إليَّ بالجلوس وقال: «كيف تسير الأمور معك يا رفيق كرافتشنكو؟»
– «لا أعرف بالضبط ما أجيب به عن هذا السؤال؛ لأني لا علم لي بما طُلِبْت من أجله.»
– «أقصد كيف تسير الأمور بوجه عام، كيف حال عملك؟ وكيف تعاون الحزب والبلاد في هذه الحرب؟»
وحدثته عن نشاطي في الشئون التي عهدت إلي، وشرحت له بعض المشاكل التي واجهتها في المصانع التسعة التي كنت أشرف عليها، ووقعت عيني وأنا أتحدث إليه على ثبت من الأسئلة ألصقت عليه صورتي، وكنت قد أجبت عنها حين عينت كبير المهندسين في المواثقة.
وقاطعني الرفيق أتكين حين كنت أجيبه عن أحد الأسئلة وقال: «إنك تتحدث إلى الحكومة ولا محل في هذا الحديث للكذب أو لإخفاء الحقائق والآراء عنها.»
– «هذا أمر طبيعي، هذا أمر طبيعي.»
ووجه إليَّ أسئلة وأجبت عنها بعدة خطب، ذلك أننا في ظلال النظام السوفيتي قد مَرَنَّا كلنا على الأسلوب الخطابي إذا ما تحدثنا عن أنفسنا، وتحدثت كما لو كنت أتحدث عن شخص غيري، كأني أصف شخصًا أعرفه كل ما لي به من صلة أنني أهتم بشئونه، وبعد أن قضيت مع أتكين نحو ثلاث ساعات رفع رأسه ونظر إليَّ نظرة فاحصة بعينيه الضيقتين الخبيثتين ووجه إليَّ سؤاله الأخير: «ما رأيك في أن تعمل في خدمة مجلس وزراء الجمهورية؟»
– «هذا يتوقف على نوع العمل.»
– «إننا في حاجة إلى مهندس من أعضاء الحزب ليرأس الإدارة الهندسية للأسلحة الحربية، وأرى أنك تليق لهذا المنصب، وليس معنى هذا أن أمر تعيينك سيقرر في هذا اليوم، بل كل ما في الأمر أني أريد أن أعرف رأيك قبل أن أتخذ الخطوة الأولى لتعيينك في هذا المنصب.»
فأجبته قائلًا: «لست واثقًا من أنني أستطيع القيام بواجبات هذا المنصب الخطير.»
– «وأنا أرى خلاف هذا وأعتقد أنك ستقوم بهذه الواجبات على خير وجه؛ ذلك أن لديك من التجارب ما يؤهلك للقيام بها، وقد كنا نراقب أعمالك في المواثقة.»
– «إذا كان هذا رأيك فليس يسعني إلا القبول بطبيعة الحال.»
– «في هذه الحال أودعك مؤقتًا، وأرجو أن تقدم نفسك إلى إدارة المستخدمين في الطابق الأسفل.»
وذهبت إلى حيث أُمِرْت، وهناك ملأت عدة استمارات، ومضت على ذلك بضعة أيام، ثم طلب إليَّ أن أقابل قنسطنطين بمفيلوف رئيس أتكين ورئيس مجلس وزراء جمهورية روسيا السوفيتية الاشتراكية الاتحادية، ومن أكبر الشخصيات المقربة من ستالين، وكانت حجرته الواسعة وكرسيه الكبير، وصورة ستالين الزيتية المعلقة فوق رأسه، كانت هذه كلها أكبر قليلًا من نظائرها التي رأيتها حين قابلت أتكين، كما كان أثاث الحجرة أفخم وأكثر ترفًا من أثاث حجرة أتكين.
وكان بمفيلوف نفسه طويل القامة في منتصف العقد الخامس من عمره، عريض المنكبين عظيم الهيبة، حليق الرأس والوجه، يلتمع رأسه كأنه كرة بليارد، وكان يرتدي ملابس أجنبية، واستقبلني خلف مكتبه الضخم، وهو يضع إحدى قدميه على الكرسي ويتكئ برأسه على مرفقه، وعرفت في الشهور التي تلت هذا اللقاء أن هذه هي وقفته الطبيعية في أثناء عمله ولو لم يكن في حجرته أحد، ووجدت أتكين في حجرة رئيسه حين دخلتها، وقد بدا أصغر من حقيقته في حضرة رئيسه.
وأُلْقِيَت عليَّ مرة أخرى أسئلة وأجبت عنها، وكانت أسئلتي السابقة وإجاباتي عنها والتقارير الخاصة بي كلها على المكتب.
وأخيرًا خاطبني رئيس المجلس بقوله: «لقد شغلت مناصب ذات تبعات خطيرة يا رفيق كرافتشنكو، ولكن العمل في الحكومة مسألة تختلف عن هذه المناصب كلها، فنحن خدام الحزب، والعمل في الحكومة هو عمل الحزب قبل كل شيء، فالحزب هو الذي يحكم البلاد.»
وأكدت له في وداعة أنني أفهم هذا كله.
والتفت بمفيلوف إلى مساعده وسأله: «هل جاء الرد يا رفيق أتكين؟»
– «لم يأتِ بعدُ يا رفيق بمفيلوف.»
ورفع بمفيلوف إحدى سماعات المسرات الكثيرة المصفوفة على مائدة صغيرة من خلفه وطلب أحد الأرقام: «أنا بمفيلوف، ماذا تم في مسألة كرافتشنكو؟»
وانتظر دقيقتين أو ثلاث دقائق ضايقني في خلالها سكون الحجرة الرهيب، وأحسست أن شيئًا كان يراجع حيث تكلم بمفيلوف.
وقال بمفيلوف آخر الأمر: «نعم … نعم … أليست هناك موانع؟ حسن جدًّا!»
ثم ألقى السماعة من يده، ولم أشك وقتئذٍ في أنه كان يخاطب الإدارة السابعة في وزارة الداخلية وهي الإدارة التي لا يمكن أن يعين إنسان في منصب من المناصب الحكومية الهامة إلا إذا وافقت على هذا التعيين، ورأيت بعيني فيما بعد دليلًا قاطعًا على صدق ما حدثتني به نفسي، فقد عثرت مصادفة على الوثيقة التي تثبت موافقتها على تعيني في مجلس الوزراء، وأيقنت أن الحزب هو الذي يسيطر على البلاد وعلى حكومتها، ولكن المناصب الرئيسية في الحزب والحكومة لا يتم التعيين فيها إلا بعد بحث دقيق تقوم به الشرطة السرية التابعة للإدارة السابعة وموافقتها على هذا التعيين.
– «والآن يا رفيق كرافتشنكو، لا أريد أن أستبقيك أكثر مما استبقيتك، وسندعوك حين ننتهي من إعداد ما يلزم لتعيينك.»
ووافقت اللجنة المركزية للحزب على تعييني في منصبي بعد زمن قليل، فلم تمض إلا بضعة أيام حتى أعدت لي حجرة مجاورة لحجرة أتكين بعد أن أمضيت عهدًا كتابيًّا للإدارة الخاصة التابعة لمجلس الوزراء بألا أبوح بشيء عن نظام هذه الهيئة مهما تكن الظروف، وكانت صورة ستالين التي علقت وراء ظهري أصغر بطبيعة الحال من الصورة المعلقة في الحجرة المجاورة لي، ووقف في الدهليز الساكن الهادئ ضابط من ضباط القسم السياسي ليحرسني بعد أن أصبح لي شأن خطير في البلاد، وعُيِّنَ لي أمينان يجلسان في حجرة الاستقبال، وها أنا ذا أصبح من رجال الحكم بكل ما تحمل هذه اللفظة من معنى فني خطير، أحمل البطاقة الحمراء الخاصة، وعليها الحروف الذهبية، وهي ذلك الكتيب السحري رمز القوة والسلطان.
وكان هذا في آخر شهر مايو من عام ١٩٤٢م حين بدأ الهجومي الألماني يجتاح البلاد، ويبتلع ما بقي من أوكرانيا مواطن آبائي، ويتوغل في القفقاس، ويصل إلى نهر الفلجا عند مكان يُدْعَى ستالينجراد.