الكرملن في أيام الحرب
للروس لفظ يطلقونه على الكرملن هو: فلاست «السلطان» ومعناه الحكومة أو السلطة العليا، ولكنه يعني أيضًا ستالين، والهيئة السياسية العليا، والشرطة السرية، والمقربين من ستالين، سواءً كانوا يشغلون مناصب رسمية أو كانوا من حاشيته الذين لا يحملون ألقابًا، وإذا نطق المواطن العادي بهذا اللفظ حمل إليه فوق المعاني السالفة الذكر معاني الفزع والبغض، وتضمن معنى «سادتنا»، وأوحي إليه بالهوة السحيقة التي تفصل أولئك السادة عن عامة الشعب.
فلما صرت في مجلس الوزراء جلست بقرب أولئك السادة الأعلين، وأصبح في مقدوري للمرة الأولى أن أطلَّ من هذا المركز الممتاز على العالم الذي يدب على الأرض من تحتي، لقد كان في وسعي أن ألاحظ ما يحس به أكابر الحكام، وهو أنهم خُلِقوا من طينة غير التي خُلِقَ منها سائر الناس، وأنهم يتحركون في مجال أوسع مما يتحرك فيه غيرهم، وأنهم لا تنطبق عليهم المقاييس الأخلاقية والإحساسات التي نبذوها من ورائهم؛ لأنها من «أهواء الطبقات الرأسمالية» ومن «مفاسد الحرية»، كان في وسعي أن ألاحظ إحساسهم هذا وإن لم أشاركهم فيه.
كذلك كان في وسعي أن أفهم استخفاف هؤلاء الناس بالحياة البشرية وتصرفهم فيها — نقلًا وخلطًا ومحوًا — كأن الناس في أيديهم مواد غفل جامدة يستخدمونها في خططهم وتجاربهم وأخطائهم، وها أنا ذا قد وجدت نفسي فجاءة بين أناس في مقدورهم أن يأكلوا ملء بطونهم من الطعام الشهي على مرأى من الجياع، وأنهم لا يأكلون وضميرهم راض فحسب، بل يشعرون فوق ذلك بأن من حقهم أن يأكلوا كأنهم يؤدون واجبًا فرضه عليهم التاريخ.
وكان على رأس مجلس الوزراء قنسطنطين بمفيلوف، وهو رجل من الأخصاء المقربين، حتى أنه لما مات بعد عام من دخولي في خدمته حرقت جثته ودفن رماده في سور الكرملن المطل على الميدان الأحمر، وكان أندراي أتكين مساعده الأكبر يشرف على خمس مصالح كبرى أرأس أنا واحدة منها، ومعنى هذا أني لم يكن بيني وبين الرياسة العليا إلا خطوتان، وكانت المصلحة التي أشرف عليها مقسمة إلى عدة إدارات تختص كل منها بعمل من الأعمال ويرأس كلًّا منهما أحد مساعدي.
وإذا ما سجلت هنا تاريخ عظمتي القصير، فإني لا أبغى من هذا تفاخرًا بطبيعة الحال، فقد رفعتني إلى هذا المركز نزوة إنسان، وقد تبعدني عنه إشارة ممن هم أعلى مني مقامًا، وقد يسقط هؤلاء أنفسهم إلى الحضيض إذا ما شاء ذلك رؤساؤهم بلا إنذار سابق لهم، وكم ذا رأيت بمفيلوف أو أتكين يرتعد فَرَقًا في حضرة أحد أعضاء الهيئة السياسية العليا أو أحد المقربين من رئيس الدولة الأعلى، وكم من مرة سمعت ألفاظ السباب توجه إليهم كأنهم خدم صغار يزجرهم سيدهم؛ ذلك أن في الدولة الدكتاتورية توازنًا دقيقًا بين السلطة المطلقة والخوف الذي لا حدَّ له.
واختير النفر القليل الذين يمثلون السلطان في مجلسنا — ولعلنا لم نكن نزيد على ثلاثين — بطرق مختلفة من بين الطبقة الوسطى من الموظفين وممن هم دون هذه الطبقة، وكنا كلنا نقيم في طابق خاص يخيم عليه السكون كأنه كنيسة، ويحرسه رجال من القسم السياسي في مرتبة الضباط، وكانت حجراتنا الخاصة تفصلها عن حجرات الانتظار مجموعتان من الأبواب لا تسمح باستراق السمع، ويقدم لنا على مكاتبنا الفطور والعشاء بلا ثمن، أما الغداء فكان يقدم لنا في حجرات خاصة بأثمان قليلة لا تكاد تُذْكَر، وكان الحلاقون يأتون إلى أعضاء المجلس ممن هم في مقام بمفيلوف وأتكين ليحلقوا لهم لحاهم ويزينوهم في صباح كل يوم، أما أمثالنا الأقل من هؤلاء شأنًا فكانوا يذهبون إلى الحلاقين، ولا يأتي هؤلاء إليهم، وأما من هم دوننا مباشرةً فلم يكن من حقهم أن يتمتعوا بخدمة الحلاقين الرسميين، وكان هذا التسلسل الدقيق يمثل ما بين أصحاب السلطان من فروق، وكان أعظم ما نلته من امتياز ممثلًا في كتيب أحمر صغير يجعل من حقي أن أذهب إلى مستوصف الكرملن، وأن أبتاع الدواء من صيدليته في الوقت الذي عز فيه الأطباء والدواء على عامة الشعب.
بل لقد كانت لنا دورة مياه خاصة يُحَرَّم على غيرنا أن يستخدمها، وينفذ هذا المنع الضباط الواقفون في الدهليز الموصل إلى حجراتنا، وكذلك كان لمن دوننا من الموظفين مرافق خاصة بهم لا تضارع مرافقنا في جمالها ولا فيما تحتويه من وسائل الراحة.
وحدثت مرة في المجلس فضيحة كبرى، وكان منشؤها أن موظفًا حديث العهد بالخدمة لم يألف بعد ما بين الطبقات من فروق في هذا المجال وجد نفسه لسبب ما في الطابق الذي تشغله مكاتبنا واضطر وهو فيه إلى أن يقضي حاجته، وخرج في هذه الأثناء واحد من الرؤساء من دورة المياه، فتسلل هو إليها دون أن يراه الحراس، فلما خرج المجرم قبض عليه الشرطي المهمل وهو في أشد حالات الرعب بسبب هذا الإهمال، وفحص عما معه من الوثائق ورفع أمر هذه الجريمة الشنيعة إلى رؤسائه، وجاء جماعة من رجال القسم السياسي «سيف الثورة المصلت» وفتشوا المرحاض للبحث عما عسى أن يكون فيه من القنابل أو غيرها من أدوات الهلاك، ثم جاءت خادمات يعملن مياومة ومعهن دلاء ومماسح وغسلن المكان المقدس حتى محون منه كل آثار المعتدي الأثيم.
لعلي كنت في حياتي الخاصة إنسانًا مهملًا لا يهتم به أحد، أما في حياتي العامة وأنا عضو في السوفيت الأعلى فقد كانت عليَّ حراسة تحميني من كل سوء؛ لأن حياتي من أثمن ما في الدولة من كنوز، فلم يكن يُسْمَح لأحد من غير رجال المجلس أن يزوروني إلا بإذن خاص مني، فأكتب بنفسي جواز مرور للطالب، وأضع عليه خاتمي، ولا يعطيه حراس الباب الخارجي إلا بعد أن يخاطبوني بالتليفون لأؤكد لهم صدوره مني، ولكي يتأكد مخاطبي من أنني أنا الذي أحدثه كان من واجبي أن أثبت له شخصيتي بكلمة سر لا يعرفها إلا أنا ورجال القسم السياسي، وكانت كلمة السر الخاصة بي هي: «لينا رقم ١٧»، فإذا تسلم الزائر جواز المرور كان عليه أن يجتاز أربع مراحل من التفتيش يثبت فيها جميعًا شخصيته قبل أن يصل إلى حجرة الانتظار الخاصة بي، وكثيرًا ما كنت أخجل من هذا النظام الذي وضعه القسم السياسي، وخاصةً إذا كان الزائر من أصدقائي القدامى الأعزاء.
وكان هذا النظام نفسه يطبق بطبيعة الحال على كل غريب يدخل أبواب مكاتبنا، ولم يكن من حق أحد أقل مني مرتبة أن يصدر جواز مرور مهما تكن أهمية العمل الذي قدم الطالب من أجله، وإذا أراد أحد مساعديَّ أن يدعو إليه إنسانًا من الخارج لعمل من الأعمال، كان عليه أن يعرض المسألة عليَّ، فإذا رأيت أن الزيارة لازمة قمت بما يلزم لها من التمهيد.
ولم يكن هذا كل ما في الأمر، فقد كان لمجلسنا وللكرملن ولجنة الحزب المركزية وأماكن أخرى قليلة نظام يُعْرَف ﺑ «الشخمنكي» — أي لوحة الشطرنج — يرمي إلى خنق كل مؤامرة يدبرها الخونة من الحراس لإدخال أحد القتلة أو الجواسيس أو المنشقين إلى مركز إحدى الهيئات السالفة الذكر، ويتلخص هذا النظام فيما يأتي: كان الحراس من رجال القسم السياسي يبدلون أو يغير وضعهم كما يغير وضع قطع الشطرنج على اللوحة، وكان ذلك يحدث في فترات غير منتظمة قد تكون عشر دقائق وقد تكون أطول منها، ويحدث دون إنذار سابق على نظام دقيق معقد وبإشارة من نقطة إشراف مركزية، وبذلك لم يكن في وسع حارس منهم أن يعرف بالضبط أين يكون مركزه في وقت من الأوقات، وبهذه الطريقة لا يستطيع أربعة حراس أو خمسة أن يتواطئوا على إدخال زائر لم يصرح له بالدخول.
ومبالغة في الاحتياط لم يكن يسمح لسيارات غير سيارات رؤساء مجلس الوزراء أن تمر من الأبواب مهما يكن شأن الراكبين فيها، وحتى الوزراء أنفسهم كانت سياراتهم تنتظر خارج الأبواب، وبذلك يُتَّقَى خطر نسف قدس الأقداس بوضع قنبلة في سيارة تنفجر بعد زمن معين.
على أن رمز مكانتي الجديدة لم يكن في هذه الرقابة الشاملة، ولا في كلمة السر، بل كان هذا الرمز في قطعة من الأثاث لا فرق بينها وبين أية قطعة شبيهة بها في الظاهر، ولكنها ذات شأن خاص في حياة كبار موظفي السوفيت، وكانت هذه القطعة من الأثاث خزانة لا يعرف سر فتحها إلا أنا وحدي؛ أستغفر الله بل يعرفه معي رجال القسم السياسي، وكان أهم شيء في هذا الرمز من رموز السلطان أن أحدًا لا يستطيع أن يعتدي على سريته، فكان لذلك في مقدوري أن أخفي ما أشاء عن جميع الناس حتى عن رؤسائي، ولم يكن لأحد من رجال الدولة خزانات من هذا النوع سوى الذين يؤتمنون على أسرار خطيرة من رؤسائهم الأعلين مباشرةً، ولم يكن في الدولة كلها إلا خزانة واحدة لا يعرف سر فتحها رجال القسم السياسي وتلك هي خزانة ستالين.
ووضعت خزانتي في مكان ظاهر، وكانت تمتاز بفخامتها بين سائر قطع الأثاث الجميل، وكان أتكين وبمفيلوف نفسهما ينظران إليها بعين الإعجاب حين يشرفاني بزيارة بدل أن يستدعيني أحدهما إلى حجرته، ولا يدريان أية مذكرات سجلتها عن أوامرهما وتعليماتهما الشفهية، واحتفظت بها في هذه الخزنة.
ولكن الخزانة كانت لهذا السبب ذاته — أي لأنها ممتنعة على الناس كلهم — مربع الصيد لرجال الإدارة السرية والإدارة الخاصة، فقد كان من حق هؤلاء أن يفحصوا عن أوراقي في أثناء غيابي؛ ولذلك لم يكونوا يعنون أقل عناية بإخفاء آثارهم بعد تفتيش خزانتي وأدراج مكتبي، والحق أن خير طريقة يوجه بها الإنسان تهمة لرؤسائه دون أن يقدم بها تقريرًا مباشرًا لرجال الشرطة هي أن يكتب ما يريده «لنفسه» و«يخفيه» في خزانته الخاصة.
وكان أعظم ما أستمتع به من سلطان هو حقي في أن أعمل باسم الحكومة، فقد كنت أوجه نشاط ولاة الأمور المحليين والوزارات بأجمعها في جمهورية الروسيا السوفيتية الاشتراكية الاتحادية في جميع الشئون التي تشرف عليها إدارتي، فكان من حقي أن أطلب إلى الوزراء في هذه الجمهورية وإلى مساعديهم أن يرفعوا إليَّ تقارير وافية عن أعمالهم، وكان في وسعي أن أصدر إليهم الأوامر بل وأوجِّه إليهم اللوم في كل ما يتصل باختصاصي، وكان في مقدوري أن أستدعيهم إلى مكتبي في كل وقت بالليل أو بالنهار، ولم يكن لهم هم مثل هذا الحق بالنسبة إليَّ.
وكان من حقي وحدي أن أقرر هل أتعاون مع هذا الوزير أو ذاك أو أهمل أمره، وكنت أعرف من المصادر المطلعة رأي الحكومة في الموظفين المختلفين، أيهم يستحق المكافأة وأيهم يستحق «الإعدام»، ولم يمض عليَّ في منصبي إلا قليل من الزمن حتى شعرت بما يشعر به الحكام و«مطابخ» الحزب وما «يطبخ» فيها، وكم من وزير يبدو في أعين الجماهير عظيمًا جليل الشأن ولكنه في أعين المطلعين العارفين بخفايا الأمور إنسان منحط لا قدر له بل إنسان يُرْثَى لحاله.
وإن أنسَ لا أنسَ أول يوم لي في منصبي الجديد، لقد قدمت إلى عملي في الساعة العاشرة صباحًا، فوجدت أمينتي سري ومساعدي قد سبقوني إلى أماكنهم، ووجدت الأوراق التي لا بد من اطلاعي عليها موضوعة بعناية فوق مكتبي، ووقفت عند الباب لألقي نظرة على الحجرة الواسعة الجميلة، وعلى صور الرؤساء المعلقة على جدرانها، وعلى صورة ستالين الزيتية الكبرى المعلقة فوق كرسي الرياسة الذي سأجلس عليه، وما أن وقعت عيناي على هذا كله حتى استعدت في ذاكرتي منظر حجرة قذرة في فندق نيقوبول حيث قُذِفَت بقطعة من صورة مطبوعة لستالين في المرحاض، ولم أكد أجلس تحت صورة ستالين الكبيرة الفنية حتى دق جرس المسرة، وكان السائل ضابطًا من ضباط القسم السياسي يسألني في أدب واحترام هل أستطيع مقابلته ليتحدث إلي بضع دقائق، وكانت هذه أول مرة يطلب إلي فيها ممثل لهذه الهيئة الرهيبة أن آذن له بزيارتي … ودعوته للمجيء.
فلما أقبل قال لي وهو يسلمني خاتمًا من المطاط: «أريد أن أعطيك هذا الخاتم لتبصم به جوازات المرور لزائريك ولغيرها من الأوراق، وأرجو أن تعتني كل العناية بحفظه، وسأسمح لنفسي بأن أرشدك إلى بعض النظم الأخرى لأنك حديث العهد بمنصبك.»
– «تفضل، وسأستمع إليك.»
وبدأ حديثه بشرح قواعد الزيارات وأبلغني كلمة السر الخاصة بي، وشدد عليَّ في أن أحتفظ بها سرًّا لا أطلع عليه غيري، فلا أنطق بها مثلًا على مسمع من أي إنسان مهما يكن شأنه، ثم شرح لي مشكلة آلات التليفون التي على مكتبي، فقال: إن إحداها متصلة بخط الدائرة الحكومية الذي يربط الكرملن واللجنة المركزية والوزارات المختلفة، وهذا الخط مخصص للأعمال الرسمية، ولا يمكن التحدث فيها عن طريق العدد الأخرى العادية.
ثم واصل حديثه قائلًا: «وكل ورقة في مجلس الوزراء تُعَدُّ سرًّا من أسرار الدولة، وستكون أنت شخصيًّا مسئولًا عن كل رسالة أو وثيقة أو صورة بالكربون تتركها على مكتبك معرضة لأن يطلع عليها إنسان، وإذا رأيت أن تهمل وثيقة أو صورة بالكربون لأية ورقة فلا تكتف بإعدامها، بل عليك أن تكتب ما تشاء على هذه الورقة وأن ترسلها إلى الإدارة الخاصة لتحرقها هي.»
وبعد أن فرغ من درسه طلب إليَّ أن أوقع إقرارًا بأني عرفت النظم المتبعة، ثم قام ورفع يده إلى رأسه بالتحية وخرج من مكتبي، وأغلق الباب وراءه في سكون وأدب وبغير الطريقة التي كان جيرشجورن رئيس الدائرة الاقتصادية في القسم السياسي يغلقه بها عليَّ.
وفي الساعة الحادية عشرة تقريبًا دقت الباب أمينة سري وهي امرأة ذكية وسيمة.
وقالت لي: «أتريد الفطور يا فكتور أندريفتش؟»
– «نعم من فضلك، وما شأنك أنت؟ هل أفطرت؟»
فقالت وهي تتحسر: «لا حق لي إلا في قدح من الشاي وقطعة من السكر، أما الخبز فأحضره معي من منزلي، بئست الحرب … ماذا في قدرة الإنسان أن يفعل؟»
وسرعان ما أقبلت خادمة المطعم تحمل صحاف الطعام، وكانت سيدة في منتصف العقد الرابع من عمرها أنيقة في ملبسها، على رأسها قلنسوة بيضاء منشاة، وكانت تؤدي عملها في صمت على خير وجه، وبدأت عملها بأن فرشت غطاءً أبيض على خوان صغير، ووضعت عليه صحاف الطعام، وكان مكونًا من بيضتين ولحم مشوي وخبز أبيض وزبد، وقدح من الشاي الساخن وعدة قطع من السكر وعدد قليل من الكعك، وما من شك في أن كل ما جاءت به — عدا البيض والشاي — كان أمريكي الأصل جاء إلينا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير، وكانت يدا الخادمة نظيفتين وإن كانت آثار الكدح بادية عليهما.
فردت عليَّ بقولها: «هذا طبيعي فأنا أخدم الكبار، هنيئًا مريئًا يا فكتور أندريفتش.»
وكان في ملامحها الضامرة ما جعلني أُبْقِي على شيء من الطعام، فتركت بيضة وقليلًا من اللحم وبعض الخبز وقطعة من السكر مدعيًا أنه أكثر مما أستطيع أكله، ودققت الجرس فجاءت أمينة سري ورفعت بقايا الطعام وذهبت بها، ولما جاءتني بعد قليل ببعض الأوراق لأوقعها تلكأت بجوار مكتبي قليلًا وقالت: «يخجلني أن أصارحك يا فكتور أندريفتش، ولكنك رجل ذكي تفهم ما سأقول حق الفهم: لقد جرؤت على أكل ما بقي من فطورك فأرجوك المعذرة … إن من أصعب الأشياء أن يعيش الإنسان وبطنه خاوٍ.»
– «لقد أحسنت فيما فعلت، بل إني ليسرني أنك فعلت هذا، ولكني أصارحك أني كنت أفكر في خادمة المطعم.»
فقاطعتني قائلة: «ولكنني أنا وليزا متفاهمتان فأنا آخذ بقايا الطعام يومًا وهي تأخذه في اليوم الثاني وهكذا دواليك، إن الجوع كافر يا فكتور أندريفتش وهو يتغلب على الحياء نفسه.»
وهكذا تعودت طوال الأشهر التي أقمتها في المجلس ألا آكل إلا نصف فطوري وأن أترك النصف الآخر منه لليزا ولأمينة سري، ولقد عرفت أن ليزا تأخذ نصيبها منه إلى بيتها لتطعم به طفليها؛ لأن زوجها كان في جبهة القتال، وكانت هاتان المرأتان تعيشان على الطعام المقرر للعاملات في مكاتب الحكومة وهو: ٤٠٠ جرام (١٥ أوقية) من السكر و٥٠٠ جرام (١٨ أوقية) من الحبوب، و٤٠٠ جرام من الدهن في كل شهر و٤٠٠ جرام من الخبز في اليوم، وإذا قدرت ثمن ما لم أطعمه من فطوري في اليوم الأول بثمن ما يباع به غير المقرر من الأطعمة في السوق بلغ مائة روبل على الأقل — فالبيضة مثلًا تباع بأربعين روبلًا — ولم تكن ليزا تكسب أكثر من مائة وخمسين روبلًا في الشهر.
وأقبل عليَّ حوالي الظهر زائر رسمي جديد، وهو الرجل الذي يشرف على الإدارة السرية الخاصة، أعين القسم المخصوص وآذانه في كل هيئة من الهيئات السوفيتية، ورأيته شابًّا في مقتبل العمر وكل ما فيه حتى ملابسه المدنية ينم عن أنه من رجال الشرطة، وكان الرجل منظمًا مرتبًا فضوليًّا بعض الشيء، وكان مسلكه في مكتبي يدل على أنه سيد هذا المكتب.
وقال لي حين دخل: «أحييك يا رفيق كرافتشنكو، ويسرني أن أتعرف بك، وسيرى كلانا الآخر كثيرًا، فأنت حديث العهد هنا، ومن واجبك أن تتعلم بعض القواعد منذ البداية، إننا في حرب كما تعلم، والعدو في كل مكان، ومهما بلغ حرصنا فإنه لن يزيد على الحد الواجب.»
– «هذا طبيعي، هذا طبيعي.»
– «إليك إذن القواعد التي يجب اتباعها للمحافظة على أسرار الدولة، أرجو أن تقرأها بعناية على مهل، ثم تسألني ما تشاء من الأسئلة إن كان بعضها غير واضح.»
وقدم إليَّ إضبارة من عشر أوراق أو اثنتي عشرة ورقة مطبوعة حوت التعليمات الواجب السير عليها في المحافظة على الوثائق السرية العسكرية الخاصة بالدولة وبالحزب، وكيفية حراسة مكتبي وخزانتي وحجرة عملي من أعين الغرباء، وكيفية منع أمينة سري الخاصة نفسها من رؤية بعض أنواع من الأوراق الرسمية، وقد كتبت هذه التعليمات كلها في صيغة الأوامر والتهديدات المألوفة في التعليمات السوفيتية، وأخبرت أن في مجلس وزراء الجمهورية طائفتين من كُتَّاب الاختزال: طائفة للأمور العادية وأخرى للأمور السرية، فأما الرسائل العادية الرتيبة فيمكن إملاؤها على الطائفة الأولى، وأما الشئون السرية فيجب ألا تُعْطَى إلا للمختزلين السريين، وهؤلاء يجب استدعاؤهم عن طريق الإدارة الخاصة، وتنص هذه القواعد في صيغة التأكيد على أن كل أمر يصدر إلي من رؤسائي يجب أن يسجَّل كتابة.
وسألت في هذه النقطة: «وما العمل إذا أصدر إليَّ الرفيق أتكين أو الرفيق بمفيلوف أو أحد رجال الكرملن تعليمات شفوية؟»
– «يجب عليك في هذه الحال أن تدوِّن ألفاظهم في مذكرتك اليومية الخاصة، وهذا ينطبق أيضًا على موضوعات المحادثات التليفونية الهامة، فعليك في هذه الحالات ألا تتوانى عن تسجيل كل شيء، وهذه خير طريقة تقي بها نفسك إذا ما حدثت صعاب في المستقبل، لقد علمنا الرفيق ستالين أن نثق بالناس، ولكنه علمنا أيضًا أن نكون شديدي الحذر.»
ولما انتهيت من قراءة التعليمات أخذ زائري يلقي عليَّ محاضرة طويلة، وكان أهم ما في محاضرته ألا أصدق أحدًا وأن أفترض أن لا أحد يصدقني، وأن تكون لديَّ على الدوام أدلة كتابية ومحاضر مفصلة لكل اجتماع ولكل حديث؛ ذلك أن الريبة المتبادلة ليست من الحقائق المقررة في شئون الحكم السوفيتية فحسب، بل هي أيضًا من الطرق المألوفة المعترف بها والواجب مراعاتها في الحياة العامة، وهي السبيل الوحيدة للمحافظة على الحياة، وفي نهاية الاجتماع وقَّعت ورقة أقر فيها بأني عرفت جميع الأنظمة والعقوبات المترتبة على مخالفتها.
ثم طلب إليَّ آخر الأمر أن أقرأ وثيقة سرية موقَّعًا عليها من ستالين ومولوتوف، وأن أفكر فيها طويلًا، وتبين لي أن هذه الوثيقة قرار من الهيئة السياسية العليا تنص على حقوق مجلس وزراء الجمهورية وواجباته، وهي وثيقة مفصلة غاية التفصيل، لا تترك مجالًا للشك في أن الحكومة الممثلة في هذا المجلس ليست إلا خادمًا ذليلًا للهيئة السياسية العليا، وأداة طيعة في أيديها، ووقَّعت القرار المعتاد الذي عاهدتهم فيه على ألا أبوح بشيء من أسرار الدولة، ومع أن خضوع الحكومة للحزب في كل صغيرة وكبيرة كان أمرًا معروفًا لكل مواطن سوفيتي لديه شيء من الذكاء فقد كان يعد أمرًا سريًّا خطيرًا.
«والآن أودعك يا رفيق كرافتشنكو، وما من شك في أننا سنلتقي كثيرًا كما قلت لك.»
لقد كانت طبقة الموظفين التي أنتمي إليها أقل رجال الحكومة السوفيتية الأعلين حظًّا؛ ذلك أن ما علينا من تبعات كان أكبر مما لنا من سلطان، وكنا نؤدي أشق الأعمال ويُعْزَى الفضل في أدائها إلى الرؤساء، وكانت مناصبنا من العلو بحيث لا نستطيع معها أن نتراخى قليلًا كما يفعل من دوننا من الموظفين، ولكننا لم يكن لنا من السلطان ما نستطيع به أن نلقي العبء واللوم على كاهل غيرنا.
وكان من أعظم متاعبنا عدم قدرتنا على أن نأخذ كفايتنا من النوم، وكنت إذا مر عليَّ أسبوع أحصل فيه على خمس ساعات من النوم في كل يوم عددت هذا من الأسابيع الاستثنائية، وكانت الكثرة الغالبة من موظفي مكاتبنا والأخصائيين فيها تعمل من الساعة التاسعة إلى الخامسة، وكنت أحيانًا أستبقي بعضهم أكثر من هذا الوقت أو آمر بعض مرءوسيَّ بأن يعودوا في المساء، أما عملي أنا فكان يستمر من الساعة العاشرة أو الحادية عشرة صباحًا إلى الساعة الثالثة أو الرابعة من صباح اليوم الثاني، وإلى أكثر من هذا في بعض الأحيان، ولم أكن أختلس بضع ساعات في المساء أقضيها في المنزل مع زوجتي إلا نادرًا، وكنت من حين إلى حين أخاطر بغفوة من النوم غير المريح ساعة أو ساعتين على أريكة في مكتبي، أغلق في أثنائها الباب وأضع سماعة المسرة على أذني، حتى لا أُضْبَط متلبسًا بهذه الجريمة.
والحق أن نظام العمل الخاص بكبار الموظفين في موسكو من أغرب النظم وأكثرها شذوذًا؛ وذلك لأنه مرتبط بأهواء رجل واحد وعاداته هو في العمل، فستالين يبدأ عمله اليومي عادةً حوالي الساعة الحادية عشرة صباحًا، ويواصله بلا انقطاع إلى الساعة الرابعة أو الخامسة، ثم ينقطع عن العمل حتى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة مساءً، حين يعود إليه ويستمر فيه حتى الساعة الرابعة أو الخامسة صباحًا، والفترة المسائية أهم الفترتين.
ويفسر الناس هذا النظام الغريب الذي يجري عليه ستالين تفسيرات مختلفة، فمنهم من يقول: إنه يمكنه من أن يكون على اتصال شخصي بموظفيه في جميع أنحاء دولته الواسعة على الرغم من وجود فارق في الزمن لا يقل عن أربع ساعات بين أقصى مناطقها في الشرق وأقصاها في الغرب، ويقول بعضهم الآخر: إنه يقصد بهذا النظام أن يصون أخلاق كبار موظفيه، وذلك بتقسيم حياتهم إلى نوبات نهارية وليلية متعبة، والحق أن هذا النظام يقلل من الفرص التي تتاح لهم للاستمتاع بالحياة الاجتماعية كما تقلل من مغريات هذه الحياة.
ومهما تكن أسباب هذا النظام الغريب فإن طبقة الموظفين في موسكو تنظم حياتها حسب أهواء ستالين الشاذة الغريبة، وأكثر أوقات كبار الموظفين عملًا هو الوقت الذي يصل فيه الرئيس إلى مكتبه، ولا يقل هذا العمل إلا حين يعود إلى منزله، وهذا النظام بعينه يسود جميع الدوائر الحكومية في سائر أنحاء البلاد؛ لأن هذه الدوائر على اتصال تليفوني دائم بمركز القيادة العليا، وتنعكس عليها أهواء هذه القيادة ونزواتها، فحياة كبار الموظفين في روسيا بأجمعها تسيطر عليها إذن نزوات ذلك الكرجي البدين صاحب الوجه الذي شوهه الجدري، ولا حاجة إلى القول بأن هيئة من هيئات الحكومة لا تنقطع عن العمل طوال ساعات اليوم الأربع والعشرين، وتلك هي القسم السياسي، فهي لا تتقيد بأي نظام من نظم العمل لأنها لا تنام أبدًا.
فإذا كانت الساعة العاشرة صباحًا من أيام العمل الرسمية انطلقت السيارات «البكار» الخضراء اللون التي لا ينفذ فيها الرصاص مخترقة طريق موزايستك وطريق أرباط إلى حصن «السلطة» الحصين، فإذا سمع أهل موسكو صوت الصفارات ورأوا رجال الشرطة يمنعون المرور ليفسحوا الطريق لهذه السيارات السريعة، عرفوا من فورهم أن الرئيس ومولوتوف وبريا وملنكوف وميكويان وكاجانوفتش وأمثالهم من الزعماء يخترقون شوارع العاصمة، وتسبق كل سيارة عربة أخرى وتتبعها عربة ثالثة كلتاهما تحمل عددًا من رجال القسم السياسي المدججين بالسلاح في ملابس مدنية، ولا حاجة إلى القول بأن الزعماء يركبون دائمًا فرادى لا مجتمعين ليقل بذلك تعرضهم للخطر.
ويوزع رجال الفرع الخاص من رجال الشرطة السرية المكلف بحراسة الرؤساء الكبار على طول الطريق، فتراهم في كل شبر منها، وولاة الأمور يعرفون سكان البيوت الممتدة على الطريق وهم يبعدون عنها كل من يشكون فيه، ويقف آلاف من الرجال في ملابس مدنية وعسكرية في ملتقى الطرق وأيديهم اليمنى ممسكة بمسدساتهم مستعدة لإطلاقها، وهم يعلمون أنهم هالكون لا محالة إذا أصاب «الزعماء المحبوبين» مكروه، وأهل موسكو لا يقفون في الطريق ليطلوا على ستالين، ولا ينظرون إلى رفاقه العظام إلا لمامًا، والعقلاء منهم يبتعدون عن طريق حكامهم، وقلما يظهرون فيها أثناء مرورهم.
والموظفون الذين يقلون عن هؤلاء العظماء درجة أو درجتين — أمثال بمفيلوف وأتكين في مجلس وزرائنا — يحرصون على أن يكونوا في مكاتبهم قبل أن يصل ستالين إلى مكتبه، أما أنا فكنت أحرص على أن أكون في مكتبي قبل أن يصل رؤسائي المباشرون إلى أماكنهم، وكنت على الدوام أجد مساعدي في انتظاري حين أصل إلى المجلس، ولم أكن أغادر مكتبي قبل أن يفرغ رؤسائي من نوبتهم الليلية إلا بإذن خاص، وبذلك كنت أقضي في العمل نحو سبع عشرة أو ثماني عشرة ساعة، وكان أتكين وبمفيلوف لا يشكَّان في أنني سأكون بجوار آلة المسرة حين ينادياني، كما كان ستالين ومولوتوف يفترضان أن بمفيلوف سيلبي نداءهما على الدوام إذا ما نادياه، ولعلنا لا نجد أمة عظيمة نظمت أعمالها الرسمية كلها لتوائم نزوات رجل واحد كما نظمت أعمال بلادنا كلها لتوائم نزوات ستالين.
وكان مجلسنا هو الأداة التنفيذية للجنة الدفاع عن الدولة ذات السلطة الواسعة في البلاد، وكانت وظيفته الرئيسية في أثناء الحرب أن يراقب تنفيذ جميع الأوامر الخاصة بالعتاد الحربي في جمهورية الروسيا السوفيتية الاشتراكية الاتحادية، ويحاسب القائمين بتنفيذها، وإذا ذكرنا أن الألمان كانوا يحتلون روسيا البيضاء وأوكرانيا وقسمًا من بلاد القفقاس أدركنا أن الأقاليم التي تحت سلطان هذا المجلس كانت تشمل على وجه التقريب كل ما بقي من بلاد الروسيا المنتجة وسكانها المنتجين، وأننا كنا في واقع الأمر أكبر المسئولين عن الإنتاج الحربي بأجمعه في ذلك الوقت، وكان قسم من هذا العمل الضخم مركزًا في الإدارة التي أسيطر عليها في ذلك الوقت «إدارة التسليح الهندسي الحربي»، وهذه الإدارة تشمل الإشراف على إنتاج العتاد الحربي من الدبابات والمدافع، وأجهزة الطائرات، وطرق المواصلات، وأجهزة الهابطات والتخفي إلى الأقنعة الواقية من الغارات، وبيوت الإبرة وتليفونات الميان، والمجارف وما إليها مما تنتجه مصانع جمهورية السوفيت الروسية الاشتراكية الاتحادية.
ولست أبالغ إذا قلت: إن مئات من الأوامر والنواهي والقرارات والشكاوى التي يوقعها ستالين وأقرب المقربين إليه وبريا ومولوتوف وميكوبان وفزنسنسكي ومليشف وكسجين كانت تمر بي، وكنت على اتصال تليفوني دائم بكل وزير وبكل مصنع ومكتب خاص من مكاتب الصناعات والمكاتب الإقليمية في جميع أنحاء البلاد، ولربما طلب إليَّ في خلال ساعة واحدة أن أتبين سير الإنتاج في مدن متباعدة مثل جوركي وسفردلفسك وفي نوفوسيبرسك وشليابنسك.
وأصبحت حياتي جهادًا شديدًا متواصلًا للبحث عن المواد الغفل والوقود والعمال، ولتعجيل الإنتاج في أوقات معينة، وتحريك الوزارات والمنظمات في كل مكان من موسكو إلى سيبيريا ودفعها إلى العمل، وكنت رغم هذا كله أُلَام وأُعَنَّف وأُشْتَم من رؤسائي ومن رجال لجنة الدفاع عن الدولة، ولعل دوائر الحكومة السوفيتية العليا يصدر فيها من فحش القول أكثر ما يصدر في سائر بلاد العالم مجتمعة، ولعل فحش القول هو أكثر ما يذكر الإنسان بأصل حكامنا، وقد يكون أحيانًا هو وحده الذي يذكرني بأصلهم وأكثر حكامنا فحشًا هو كاجانوفتش، فكان كلما طال حديثه ازدادت ألفاظه فحشًا، ولم يكن مولوتوف وفوروشيلوف وأندريف وغيرهم وستالين نفسه يختلفون عنه كثيرًا في هذا المضمار، على أني أقرر هنا أن الكثرة الغالبة من الزعماء الذين اتصلت بهم كانوا رجالًا قادرين يعرفون عملهم، لا يتوانون عن أدائه ولا يدخرون جهدًا في سبيله.
ومرت عليَّ أسابيع واصلت فيها الليل بالنهار لتنظيم أعمال الإنتاج في صناعات بسيطة كصناعة قاطعات الأسلاك الشائكة والمجارف والفوانيس، وإن أنس لا أنس الليلة التي جاءني فيها في مكتبي قائد من قواد الجيش الأحمر، وأخذ يطلب والدمع يتحدر من عينيه قاطعات للأسلاك الشائكة، وقال لي: إن آلافًا من جنودنا يُقْتَلون من غير داع لنقص هذه الأداة البسيطة، فما كان مني إلا أن استدعيت في أثناء وجوده بعض كبار الرؤساء في موسكو وبعض مديري المصانع في خارجها، ولكن ماذا يجدي غضبي وتهديدي إذا كانت المصانع لا تجد حاجاتها من الصلب أو الأدوات أو الآلات؟
وكنت على اتصال دائم بالمارشال تافيكوف والمارشال فوروبيوف والقائدان سلفنف وفلكف وأمير البحر جلر وعشرات من الزعماء العسكريين، وكثيرًا ما وجدنا لشدة الأسف أن كل ما نستطيع أن نفعله هو أن نندب سوء طالعنا جميعًا لنقص المعدات الحربية على اختلاف أنواعها.
وهل أنسى الساعة التي صادرنا فيها آلافًا من بيوت الإبرة البدائية من المدارس ووزعناها بقدر على جبهات القتال المختلفة؟ ذلك أن أمرًا صدر بتوقيع ستالين يطلب إعداد خمسين ألفًا من بيوت الإبرة العسكرية الصالحة للاستخدام في جبهات القتال، ولكنا لم نجد ما يلزمها من الصلب الممغطس.
وهل أنسى المؤتمرات المتعددة والنداءات التليفونية الجنونية، والتهديدات التي لا حصر لها، وفترات اليأس التي مرت بنا في فصل الصيف أثناء بحثنا عن أحذية الخيل؟ لقد هلكت آلاف الجياد وهلك أحيانًا آلاف الفرسان، لنقص هذه الأداة وحدها بعد أن وقف صنعها لنقص الحديد، وعجز المصنعين اللذين يصنعانها في إقليم الأورال، وكان الذي طلب أحذية الخيل هو المارشال بودني، وقد أتاح لي ذلك فرصة معرفة بطل الثورة العظيم، لقد أبعد هذا القائد من مركز القيادة الذي تولاه فترة من الزمان، ثم اختفى اسمه فلم يعد أحد يذكره، وتناقل الناس إشاعة بأنه قد قُتِلَ، ثم عرفت في هذه الأزمة أنه نُقِلَ إلى مكتب من المكاتب المختصة بمطالب الفرسان.
وكانت الأدلة القاطعة على عجز بلادي عن الاستعداد لهذه الحرب العوان تواجهني في كل يوم، فقد تبين لي مثلًا أن عشرات الآلاف من جنودنا الأبطال قد لاقوا حتفهم لنقص في أبسط الأدوات، وأن أوامر ستالين «وإجراءات بيريا الصارمة» قد عجزت كلها عن انتزاع شيء من المصانع التي تنقصها المواد الغفل، والتي يعمل فيها صناع لا يكادون يجدون من الطعام ما يمسك عليهم حياتهم.
وعرفت أكثر مما عرف القواد الكبار وأمراء البحر العظام ما كان للأسلحة والمواد الغفل والآلات التي جاءتنا من أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير من فضل عظيم فيما أحرزناه من نصر، وقد يكون بعض الأمريكيين في شك من هذه الحقيقة حتى الآن، أما القواد السوفيت فلا يخالجهم فيها أدنى ريب، فهي في اعتقادهم حقيقة مؤكدة، والله يعلم أننا أدينا ثمن هذه المساعدة غاليًا، أدينا ثمنها من أرواح الروس، ولكن هذا لا يغير من الحقيقة نفسها، فلولا ما أمدتنا به أمريكا من طائرات وسيارات للنقل ومسرات وآلاف غيرها من الحاجيات التي كانت تنقصنا لانهارت المقاومة السوفيتية، ولسنا ننكر أن الإنتاج الروسي والبطولة الروسية والتضحية الروسية لها كلها المقام الأول في أسباب النصر، ولسنا ننكر أيضًا أنا أحرزنا النصر في ستالينجراد قبل أن يبدأ سيل الإمداد الأمريكية بمقتضى قانون الإعارة والتأجير، ولكن العون الذي جاءنا بعدئذٍ من أمريكا ومن بلاد الحلفاء كان له أعظم الأثر فيما أحرزناه بعدئذٍ من نصر.
وكثيرًا ما كانت الأوامر التي تصل إليَّ من المصادر العليا أوامر جنونية غير معقولة، فإذا تلقيت أمرًا بطلب جزء لا غنى عنه من دبابة أو طائرة موقع من ستالين وأحد أمناء سره صحب هذا الأمر على الدوام إنذار بتوقيع أقصى العقوبات إذا لم يُجِب الطلب على الفور.
«أبلغ الوزراء أن تنفيذ هذا القرار واجب حربي وسياسي غاية في الخطورة، ويجب أن يبلغ النائب العام في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية أن يشرف بنفسه على تنفيذ هذا الأمر، وأن يوقِّع العقاب على من لا يقومون بتنفيذه مهما تكن منزلتهم.» وقد يصاغ الأمر في الصيغة التالية: «يجب أن يشرف على تنفيذ هذا الأمر الوزير ببفوف، وكل من يرتكب جريمة الإهمال في تنفيذه أيًّا كان مركزه يجب أن يرفع أمره إلينا ليحاسب على إهماله.»
ومعنى محاسبته على إهماله نقله من منصبه ومحاكمته أمام محكمة عسكرية، وقد تختتم الأوامر التي يوقعها بريا الناطق باسم الشرطة السرية بالعبارة الآتية: «أبلغوا الوزراء أن ينفذوا هذا القرار مهما تكن اعتراضاتهم عليه، وأن يرفعوا إليَّ أمر من يهمل في تنفيذه.»
هذا هو أسلوب ستالين المألوف، يحذو حذوه كل بيروقراطي في علاقته بمن هم أقل منه مرتبة من الموظفين، وتلك لغة الخوف والإرهاب السافرة التي يقصد بها صراحةً أن تذكرنا بمعسكرات الاعتقال وفرق الإعدام رميًا بالرصاص، ولم يكن ستالين يتورع عن التهديد بالاعتقال والفصل.
ولم أعمل في وقت من الأوقات عملًا أشق أو أطول أو أصعب في ظروفه مما كنت أعمل وقتئذٍ، وسرعان ما اكتأبت ملامحي، وغارت عيناي، واحمرَّ لونهما، وبدت عليَّ الأعراض الأولية للحمى التي تنشأ من الإجهاد الشديد، وكان كل من حولي من رجال ونساء يكدحون كما أكدح أنا، وما من شك في أن بعضهم كان يحقد على الحكم السوفيتي كما أحقد عليه، ولكن آراءنا السياسية لم تؤثر قط في إخلاصنا لقضية بلادنا وحرصنا على النصر، لقد كانت بلادنا معرضة للخطر، ولم يكن ثمة شيء آخر له قيمة في نظرنا إذا قيس إلى هذا الخطر الشديد.
لقد كنا نعلم أننا إذا أفلحنا في اقتصاد يوم واحد أو ساعة واحدة، أو أرسلنا إلى جبهة القتال شيئًا مما ينقصها من أدوات مهما تكن صغيرة، فقد يؤدي هذا إلى إنقاذ حياة الآلاف من بني وطننا، ولم يكن أحد منا في حاجة إلى دافع للعمل أقوى من هذا الدافع، ومن أجل ذلك لم يكن للتهديد أي أثر فينا، فقد كنا نشعر على الدوام أن جهودنا مرتبطة أشد الارتباط بذلك الكفاح المرير الذي يبذله أبناء وطننا، وإن لم نتحدث إلا قليلًا عن هذا الشعور الذي يملأ نفوسنا؛ ذلك أننا كنا نعالج الصعاب الواضحة الملموسة، فنصنع العتاد الحربي والعدد والآلات في ظروف شاقة لا تترك لنا مجالًا للتحدث عن مشاعرنا وعواطفنا.
وجرف تيار الوطنية الدافق المنبعث من أعماق التاريخ الروسي والروح الروسية جميع العاملين في الأداة الحكومية من بمفيلوف إلى أصغر كاتب في الملفات؛ ولهذا فإن عملاء الدعاوة الحقيرين، الذين يصدعون بأمر ستالين في داخل البلاد وخارجها، والذين يحاولون أن يعللوا ما بذلناه من جهود مضنية بأنه ظاهرة بلشفية حديثة العهد بالبلاد، إن هؤلاء العملاء يظلمون الشعب الروسي أشد الظلم؛ ذلك أنهم بقولهم هذا يحاولون أن يفسروا قوة أساسية أزلية كامنة في طبيعة الروس كأنها ناشئة من آراء ومبادئ حزبية تافهة، لقد كانت المعجزة روسية لا سوفيتية، فإذا ما فكرت في أمري وأنا أكدح كدحًا شريفًا متواصلًا لا أدخر فيه جهدًا بقيادة زعماء أزدريهم ولا أثق بهم، أرى في شخصي رمزًا لروسيا المحاربة.
وكانت الشهور الطوال التي قضيتها أعمل في مجلس وزراء الجمهورية متفقة في الزمن مع أشد مراحل الحرب وأعظمها ضرامًا، فقد كانت تشمل صيف عام ١٩٤٢م الذي توغل فيه الألمان في البلاد، وظفروا فيه بأكبر انتصار لهم فيها، ووصلوا فيه إلى نهر الفلجا، وفيها وقعت الواقعة الرهيبة التي وضعت ستالينجراد في تاريخ البشرية في مصاف مرثون ووترلو، أن في نفوس بعض الأمم عنصرًا أزليًّا شديد الصلابة، لا يلين للأحداث مهما قست، وهذا العنصر هو الذي تكشف للعالم في ستالينجراد، ولم تقض عليه الفواجع والدم المسفوك، ذلك عنصر لا صلة له البتة بكارل ماركس وستالين.
وظلت البلاغات الرسمية تهون من هزائمنا الساحقة، فكانت أشد هذه الهزائم هولًا تمثل لنا على أنها حركات عسكرية فنية، وكان العالم يعلم من أمر الكفاح الطويل المرير في إقليم ستالينجراد أكثر مما يعلمه الشعب الروسي نفسه، ولكن من في طبقتا من الرؤساء في الإدارات الحكومية لم يكن يسعهم أن يخادعوا أنفسهم، ولقد كانت مطالب جبهات القتال للمؤن والطائرات والذخائر والجنود تقذف في قلوبنا الذعر واليأس في بعض الأحيان، ولم يكن في وسعنا أن نغمض أعيننا عن أنهار الدماء المراقة في ميادين القتال.
وكانت خريطة كبيرة للروسيا معلقة على أحد جدران حجرة أتكين، وكانت الدبابيس الدالة على تقدم الألمان في البلاد تتعمق يومًا بعد يوم في داخلها، ويمتد بينها خط في لون الدماء يبين ما نخسره من البلاد، ودخلت على أتكين في أحد الأيام فرأيته يحدق ببصره في الخريطة والقلق الشديد بادٍ في وجهه.
وقلت له بعد أن وضعت على مكتبه بعض الأوراق: «إن لديَّ أعمالًا عاجلة يا أندراي إيفانوفتش.»
– «إن الأوراق لن تطير، تعالَ إليَّ وانظر ما يفعل بنا الألمان الكلاب.»
ورأيت الخط الأحمر مجاورًا لمزهايسك ولا يبعد عن موسكو أكثر من مائة ميل من جهة الغرب، يفصل جميع أوكرانيا عن سائر البلاد ويقترب اقترابًا مروعًا من نهر الفلجا في اتجاه ستالينجراد.
– «وماذا نفعل يا فكتور أندريفتش إذا ما استولوا على ما لدينا من بترول؟»
فأجبته قائلًا: «إن الصورة مروعة، مروعة حقًّا! وكل ما يستطيع الواحد منا أن يعمله هو أن يعمل ويعمل ويعمل، ومن حسن الحظ أن قد بدأ العتاد يصل إلينا سريعًا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير.»
فقال أتكين في انفعال شديد: «الإعارة والتأجير! إن الذي تحتاجه هو أن تفتح جبهة ثانية، ولكن الرأسماليين الكلاب لا يزالون يضيعون الوقت سدى، ولا يبالون كم من أرواح الروس تُزْهَق! إننا نؤدي أبهظ الأثمان نظير قانون الإعارة والتأجير.»
وكانت التعبئة العامة قائمة على قدم وساق من زمن طويل، وبدرجة لا مثيل لها في أية أمة من الأمم المحاربة، وبلغ من شدتها أن انتزع الرجال العاملون من المصانع والمزارع في وقت بلغت فيه الحاجة إلى الإنتاج غايتها القصوى.
وكنت أشغل في الحكومة مركزًا أستطيع أن أبصر فيه هذه الصورة المفجعة بأجلى وضوح، فقد أصدر ستالين أوامر لم تُعْلَن جهرة تقضي بتجنيد جميع الرجال بين السادسة عشرة والسادسة والخمسين، وبإغفال آخر مظهر من مظاهر الكشف الطبي الحقيقي، ومن إعفاء الذين لا تجد أسرهم من يعولهم سواهم، وأعيد إلى جبهة القتال عشرات الآلاف ممن لم تلتئم جراحهم بعدُ، وحُشِدَ الأولاد والبنات وهم لا يزالون بعد في سن الدراسة، كما حُشِدَت الأطفال والأمهات، وانتُزِعَت من المزارع النسوة اللائي فقدن رجالهن، ليعمل هؤلاء كلهم في المصانع.
وأصبح من الضرورات الملحَّة في هذه الأزمة أن يستخدم الأسرى في كثير من الأعمال لتوفير العدد الكافي من الرجال للعمل في جبهات القتال، تلك حقيقة يجب أن نعترف بها مهما ترتب عليها من نتائج غير سارة، لقد كانت المصانع التي جند عمالها والتي أُنْشِئت في سيبيريا وجبال أورال، والوحدات الصناعية التي أُنْشِئت حديثًا في كافة أنحاء البلاد، كانت هذه كلها تخرج عتادًا مطرد الزيادة، ولكن الذين يقومون بالعمل فيها لم يكونوا كلهم مجندين روسًا، ومن أجل هذه فإن الذين يتحدثون في خارج بلادنا عن انتصار الروس، ويتخذون من هذا النصر دليلًا على نجاح النظام السوفيتي يكونون أقرب إلى الحقيقية إذا أثنوا على ما أحرزه من الفوز أولئك الأسرى المجندون.
ولما كانت القوات المسلحة قد استنزفت جميع مَنْ في البلاد من الرجال القادرين على العمل فإن الصناعة أخذت تعتمد اعتمادًا متزايدًا على أسرى الحرب، وقد تضخمت أعدادهم بمن ضم إليهم من المعتقلين، وكانت الدوائر الرسمية تقدِّر عدد هؤلاء العمال بنحو عشرين مليونًا من الرجال، ليس منهم الأولاد والبنات الذين تتراوح أعمارهم بين الرابعة عشرة والسادسة عشرة، والذين انتزعوا من بين والديهم بالقوة وأُرْسِلوا إلى الأقاليم التي اشتدت فيها الحاجة إلى الأيدي العاملة.
وكانت الصناعات الحربية في الروسيا كالصناعات الحربية في ألمانيا تعتمد قبل كل شيء على السخرة، وأهم ما كان بين البلدين من فروق من هذه الناحية أن الألمان كانوا يسخرون أبناء الشعوب الأجنبية المغلوبة، على حين أن الروس كانوا يسخرون مواطنيهم المستعبدين، وليس من الصعب على المرء أن يتصور الأحوال الرهيبة التي كان أولئك المسخرون يعيشون فيها ويعملون، لقد كان هؤلاء بضاعة رخيصة، ولم يكن رجال القسم السياسي يسألون عمن يهلكون منهم.
وكانت وزارتا الأسلحة والذخائر قد وُضِعَتا منذ نشبت الحرب تحت سيطرة بيريا وزير الداخلية، كما كان في الوقت نفسه رئيس مجلس الوزراء في جمهورية الروسيا السوفيتية الاشتراكية وعضوًا في لجنة الدفاع عن الدولة، وكان معنى هذا أن وزارتي الأسلحة والذخائر ومجلس الوزراء كانت تحت رياسة الشرطة، وعرف هذا أوستنوف وفانيكوف المشرفان بالاسم في هاتين الوزارتين، كما عرفه سائر الناس حتى أصغر الموظفين شأنًا، وكان الموت العاجل أحب إليهم من غضب بريا عليهم، وكان هذا الرجل وشرطته يقذفون الرعب في قلوب جميع من في المصانع والمعاهد ذات الصلة القريبة أو البعيدة بصناعة الأسلحة والذخائر.
ولم يكن بيريا من المهندسين ولكنه وُضِعَ على رأس هذه الإدارات ليبعث الرعب في قلوب من يعملون فيها، وطالما سألت نفسي — وما من شك في أن كثيرين غيري قد سألوا أنفسهم سرًّا — لِمَ أقدم ستالين على هذا العمل؟ ولم يكن في وسعي أن أجد لهذا السؤال إلا جوابًا واحدًا معقولًا، وهو أن ستالين كان ضعيف الإيمان بوطنية الشعب الروسي وشرفه القومي؛ ولهذا لم ير مناصًا من أن يجعل أكبر اعتماده على السود، وكان سوطه هو بيريا.
وكان ضعف الإيمان بوطنية الروس وشرفهم القوي يظهر أيضًا في معظم الصناعات الأخرى، وشاهد ذلك أن رؤساءهم المدنيين قد استبدل بهم رؤساء عسكريون أو رجال خلعت عليهم ألقاب عسكرية وسلطات عسكرية، فإدارة النقل بالسكك الحديدية مثلًا وضعت تحت إشراف القائد جروليوف نائب ستالين في وزارة الدفاع، وكان جروليوف هذا يعمل بالاتفاق مع إدارة النقل التابعة لوزارة الداخلية، فأدخل في إدارته النظام العسكري الشامل وأحل الخوف في نظام النقل محل التعاون القائم على حب الوطن والعمل لمصلحته.
وجريًا على هذه السنة رقى ماليشف المهندس الفني ومساعد رئيس الوزراء في جمهورية الروسيا الاشتراكية إلى رتبة قائد وجعل له الإشراف على صناعة الدبابات، وأخضع لأمره رئيسها المدني، وكذلك مُنِحَت ألقاب عسكرية لمديري المصانع وغيرهم من الشخصيات البارزة في هذه الصناعة، وبذلك لم تلبث الإدارات الحكومية كلها أن صُبِغَت بالصبغة العسكرية.
وسرعان ما امتدت يد بيريا وأيدي الإدارات التي يشرف عليها إلى العدد الأكبر من العمال لتسخيرهم في الصناعات الحربية، ولكن بقي من ذلك من هؤلاء من يمكن تسخيرهم في سائر الصناعات المتصلة بالاقتصاد القومي، ولقد عرفت من تجاربي وملاحظاتي الشخصية أنه لا يكاد يوجد مشروع صناعي لا تعمل فيه فرق من العمال المسخرين، وأن عشرات من هذه المشروعات كان جل اعتمادها أو كله على السخرة.
وكنت وأنا في المجلس أسمع الشيء الكثير من المشاكل الخاصة التي تواجه معسكرات الاعتقال والسجون حين تضطر إلى إخلاء الجهات التي تقوم فيها بسبب تقدم الألمان، وكان إجلاء هؤلاء المسجونين والمعتقلين أهم لدى الرؤساء المسئولين من إجلاء السكان الأحرار؛ وذلك لأن قدرتهم على العمل كانت ذات قيمة اقتصادية خليقة بالإنقاذ، على أن أهم من هذا في نظر الرؤساء أن تلك الفئة لا يمكن الوثوق بها، وقد تكون عونًا للألمان، وكان ثمة سبب لا يمكن إغفاله وهو سبب سياسي من غير شك؛ ذلك خوف ولاة الأمور من أن يعرف العالم الخارجي من هؤلاء الأسرى المعتقلين بعض الأسرار الرهيبة عن مدى نظام السخرة السوفيتي وحقيقة أمره.
وكنت حين أستحث الإدارات المختلفة على أن تزيد في إنتاجها تعترضني على الدوام قلة يلحون على بمفيلوف أن يمدَّهم بالأيدي العاملة مما لديه من احتياطي، وكان هو يستحث وزارة الداخلية على أن تمدَّه بما لديها من مسجونين ومعتقلين ليوزعهم على هذا المصنع أو ذاك، وكان في بعض الأحيان يحيل المشكلة إلى فزنسنسكي أو مولوتوف أو بيريا مباشرةً، وكان رئيس الإدارة الرئيسية المشرفة على معسكرات عمال السخرة والمعروفة باسم الجولاج هو القائد ندوسكين أحد مساعدي بيريا، وكانت تصدر الأوامر الخاصة بالعمال المسخرين إلى ندوسكين هذا من لجنة الدفاع عن الدولة، وعليها توقيع مولوتوف وستالين وبيريا وغيرهم من أعضاء الحكومة، وكان عليه أن ينفذها من فوره.
ولا تزال تحضرني مقابلة بيني وبين أحد كبار الرؤساء في الإدارة المركزية للعمال المسخرين اجتمعت به بناءً على أمر أتكين، وقد كلف هذا الرئيس بأن يبعث ببضع مئات من المسجونين إلى إحدى الوزارات لشدة حاجتها إليهم، وكان بمفيلوف يستحثنا للتعجيل بإجابة هذا الطلب، ومما لا شك فيه أنه هو نفسه كان يدفعه رؤساؤه الأعلون، واستدعيت أنا هذا الموظف وكلَّفته بإجابة هذا الطلب.
فقاطعني الرجل قائلًا: «ولكن أرجوك أن تحكم العقل فيما تطلبه يا رفيق كرافتشنكو، إن مجلس وزرائكم ليس هو وحده الذي يلح في طلب العمال، فلجنة الدفاع هي الأخرى تطلبهم، والرفيق ميكويان لا يفتأ ينغص علينا حياتنا بطلباته، وملنكوف وفزنسنسكي في حاجة إليهم، وفرشلوف يطلب عمالًا لإنشاء الطرق، ومن حق كل واحد منهم أن يظن أن عمله أعظم خطرًا من عمل غيره، وماذا نعمل نحن؟ إن الحقيقة التي لا خفاء فيها أنَّا لم ننفذ بعدُ ما وضعناه من خطط للقبض على السجناء والطلب عليهم الآن أكثر من المعروضين منهم.»
خطط للقبض على السجناء! ألا ما أفظع هذا القول الرهيب الذي لا يزال يقشعر منه بدني كلما تذكرته، ومما يزيد في فظاعته أن هذا الموظف الذي كنت أتحدث إليه لم يكن يحس بما في قوله هذا من فظاعة، لقد أصبح القبض على الآدميين واستعبادهم من الأمور المألوفة في حياته، ولم يكن الرجل يقصد بطبيعة الحال أن ثمة خططًا توضع فعلًا للوفاء بما يطلب من العمال، بل كل ما في الأمر أنه كان يعبر عن شكواه — باللهجة السوفيتية المألوفة — من أن ملايين العمال المسخرين لا يكفون ما يتلقى من الطلبات.
وقد كان العدد الضخم من الأحداث الذين يعملون في المصانع الروسية وضخامته مجهولًا في خارجها لسبب ما، بل إن هذا الأمر كان يحيط به في داخل الروسيا نفسها نطاق من السرية ويغشَّى بطبيعة الحال بالرياء وبغلالة من المبادئ والألفاظ المعسولة، فإذا ما جردنا هذا النظام من هذا الغشاء اللفظي الشفاف تكشف عن قسر وإرغام، فقد كان ملايين من الأطفال يخرجون من بيوتهم بالرغم من آبائهم، ويُحْشَرون في المصانع على أساس التعبئة العامة دون أن يستشاروا في نوع العمل الذي يفضلونه عن غيره، ومن الخطأ أن تُعْزَى نشأة هذا النظام إلى الحرب وضروراتها وحدها، فقد نشأ في عام ١٩٤٠م وظل قائمًا مستحكم الحلقات بعد أن وضعت الحرب أوزارها كما تدل على ذلك الرسائل التي تلقيتها في هذه البلاد.
وصدر أول الأمر بتعبئة الأطفال في أكتوبر سنة ١٩٤٠م، وكان يقضي بتجنيد عدد منهم يتراوح بين ٨٠٠٠٠٠ ومليون من أبناء المدن والقرى بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة من عمرهم؛ لتدريبهم على العمل في الصناعات المختلفة، وقد أجاز هذا الأمر قبول من يتطوع من الأطفال زيادةً على العدد المطلوب تجنيده منهم، وكان الذين تقل سنهم عن السادسة عشرة يؤخذون في الغالب ليدربوا على الأعمال التي تحتاج إلى شيء من الدربة الفنية مدى سنتين أو نحوهما، أما الصناعات التي لا تحتاج إلى هذه المهارة فلم تكن مدة التدريب فيها تزيد على ستة أشهر، وكان يؤخذ لهذه الصناعات من تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والسابعة عشرة.
فإن أتموا تدريبهم على هذا النحو أو ذاك وُزِّعوا كما ينص مرسوم التجنيد على المصانع والمناجم ومشروعات البناء وغيرها من الأعمال حسبما تراه إدارة احتياطي العمال، ويظلون في أعمالهم هذه أربع سنين، وكان هذا النظام في حقيقة أمره تجنيدًا عسكريًّا للأطفال رغم ما كان يغشاه من رياء الألفاظ والدعاوة الباطلة المموهة، فقد كان الأطفال ينتزعون من أحضان آبائهم وأمهاتهم «لخيرهم» بطبيعة الحال.
وما وافى عام ١٩٤٣م حتى كان العدد المطلوب تجنيده من الأطفال يبلغ مليونين في كل عام، وأصبح من المناظر المألوفة في بلادنا المنكوبة أن ينتزع الأطفال بقسوة من أحضان آبائهم وهم يبكون ويكافحون، وآباؤهم يعولون وينتحبون، وكان يؤتى لهم بحلل عسكرية، ويأوون في ثكنات حكومية، ويخضعون لنظام قاس لا يفترق في شيء عن الأنظمة العسكرية، وكان وقتهم يوزع بين العمل والدرس والتدريب الرياضي طبقًا لقواعد لا تجعل منهم خدامًا للنظام السوفيتي طائعين فحسب بل متعصبين له أيضًا، ومن أجل هذا كانت التربية السياسية أهم عنصر في تعليمهم.
ولقد رأيت حتى قبل الحرب وأنا لا أزال أعمل في مصانع الأنابيب في موسكو جماعات كثيرة من الأطفال انتُزِعوا من بيوتهم ليعملوا في المصانع، وأُتِيح لي في هذا المصنع أن أعرف النظام كله عن كثب، فرأيت الأطفال يستيقظون من نومهم في منتصف الساعة السادسة صباحًا على صوت النقير أو دق الطبول ليبدءُوا تدريبهم العسكري، فإذا فرغوا منه أفطروا ثم بدءُوا عملهم في الساعة السابعة البنون منهم والبنات طبقًا للقواعد الصارمة الموضوعة لتربيتهم ليصبحوا آلات تسيرها الدولة.
وثمة أمر آخر يجعل هذا النظام خليقًا بالسخرية، وهو وضعه من الناحية السياسية تحت إشراف نيقولاي شفرنيك رئيس نقابات العمال في جميع الدولة السوفيتية، وأحد أعضاء الهيئة السياسية العليا، أما رئيس إدارة احتياطي العمال التي كانت تشرف على تدريب الأطفال المجندين وتوزعهم على الأعمال في مختلف أنحاء البلاد حسب حاجة الدولة إليهم فهو مسكتوف أحد أمناء السر في نقابات الصناع التي يشرف عليها شفرنيك.
وقد جرى تجنيد الأطفال بأمر من الحكومة خمس مرات في أثناء الحرب، وبذلك بلغ عدد المجندين من الأولاد والبنات نحو تسعة ملايين، يضاف إليهم مئات الآلاف من الأولاد الذين لا يتجاوزون الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر والذين حُشِدُوا في مدارس حربية جديدة أُنْشِئَت في تلك الأيام لكي يتخرجوا منها ضباطًا للجيش على النمط الذي كان يدرب عليه الأطفال الأولون ليكونوا صناعًا عاديين.
أما المجندون العسكريون فكانوا في معظم الحالات من المتطوعين، ولكن جموعًا من أيتام الحرب يؤخذ بعضهم من بيوت الأطفال وبعضهم الآخرون من المشردين الذين لا مأوى لهم كانوا يُحْشَدون هم الآخرون في هذه الصفوف، وفضلًا عن هذا فقد كان الآباء الذين يعجزون عن إطعام أبنائهم يرسلونهم إلى المدارس الحربية، وكان هذا في واقع الأمر تطوعًا يدوم مدى الحياة، والآن أصبح التعليم العالي هو والفصول الثلاثة العليا في المدارس الثانوية مقصورًا على من يدفعون الرسوم المدرسية، واتخذ القرار الصادر بفرض هذه الرسوم — إذا صدقنا ما يقوله الكرملن — «لأن مستوى حياة الصناع في البلاد قد ارتفع إلى حد كبير …» ومن أجل هذا يرى كثير من الأسر التي تعجز عن أداء الرسوم المدرسية أن التعليم الحربي هو خير ما يجده أبناؤهم من الفرص للفرار من صفوف طبقة العمال الكادحة المستغلة.
فإذا ما استمر نظام تجنيد الأطفال للعمل في المصانع — ومخايل الأمور تدل على أن هذا النظام سيستمر — فلن يحل عام ١٩٦٠م حتى يكون لدى الحكومة السوفيتية من أربعين إلى خمسين مليونًا من الأطفال المجندين بمقتضى هذا النظام العسكري، وسينشأ من هذا النظام طائفة جديدة من العمال تقل عندهم إلى أقصى حد ذكريات الحياة المنزلية بين الآباء والإخوة، وذكريات الماضي الحر وما فيه من مؤثرات عقلية، كل هذا لن يسمح لهم منه إلا بما يجيزه ولاة الأمور، وستُغْرَس في عقول هؤلاء العمال الجدد المبادئ الشيوعية ونظريات ستالين في الثورة العالمية، وسيكونون خلائق لا عهد لهم بالحرية الشخصية أرادوا ذلك أو لم يريدوه، وسيكون هؤلاء الروس المتلفون أدبيًّا وسياسيًّا قوةً هائلةً في أيدي النظام الحاضر يستخدمهم في داخل البلاد وخارجها.
وسيضم إلى هذا العدد الضخم من المواطنين الذين أُعِدُّوا بهذه الطريقة الخاصة نحو عشرين مليونًا آخرين من سجناء الشرطة السرية المسخرين، وبجيش ضخم من الجنود والضباط المحترفين دُرِّبوا من طفولتهم على مبادئ ستالين، مبادئ الدفاع عن النظام السوفيتي، هذا فضلًا عن المجندين العاديين والجنود الاحتياطيين، ويجب ألا تغفل في هذا الإحصاء عشرات الملايين من الأطفال الآخرين الذين ينشئون في المدارس العادية على المبادئ الشيوعية، حيث يشغل الإخلاص للنظام القائم وأساليبه المكان الأول في البرامج الدراسية.
ولقد كانت هذه الصورة الذهنية صورة الإنسانية المجندة على هذا الأساس الضخم الرهيب تعود إلى مخيلتي كلما طالبت بالأيدي العاملة إجابة لمطالب الوزارات المختلفة لتمد بها المصانع التي تكون في أشد الحاجة إليها، وخُيِّلَ إليَّ أن هذا النظام أقرب النظم البشرية إلى مملكة النمل أو خلايا النحل، وزاد هذه الصورة فظاعةً ورهبةً أنها توشي بحواش من النفاق وتتحدث عن كرامة العمل وخدمة «الاشتراكية» الجماعية، وأنها يديرها ويشرف عليها «زعماء الطبقة العاملة» أمثال النخاس شفرنيك، وما من شك في أن سادة الكرملن يعزون حملتي على هذا النظام إلى «مبادئ الحرية الفاسدة» المتأصلة في نفسي والتي كانت أصولها أعمق من أن يستأصلها طول العهد بالنظام السوفيتي.
وأحسست بنقص العتاد الحربي نقصًا يُرْثَى له من أول يوم شغلت فيه منصبي الجديد، وقد شرحت لي هذه الحقائق في اجتماع عُقِدَ في الكرملن بناءً على دعوة من ألكسي كازجين أحد مساعدي ستالين ومن أشد هؤلاء المساعدين بأسًا، وكانت موضوعات البحث في هذه الجلسة تشمل كثيرًا من الشئون التي تختص بها الإدارة التي أشرف عليها، ومن أجل ذلك أراد أتكين أن أكون فيها إلى جانبه، لكنه أمرني ألا أنطق بكلمة في هذا الاجتماع العظيم إلا إذا وجه الكلام إليَّ شخصيًّا.
وكان كازجين يمثل الهيئة السياسية العليا في الإشراف على خمس من الوزارات كما كان هو المشرف على شئون التسليح الهندسي الحربي، وأقبل خمسة من الوزراء على حجرة الانتظار الكبيرة قبل الاجتماع بزمن طويل، وكان الموعد المحدد له هو الساعة الواحدة صباحًا، وتحللنا بعض الشيء من المظاهر الرسمية في هذا الاجتماع، فقد كان المجتمعون يعرف بعضهم بعضًا حق المعرفة، بل لعلهم كانوا يعرفون بعضهم بعضًا أكثر مما يجب؛ ذلك أن السلطة العليا هيئة وثيقة العرى يسمح أعضاؤها لأنفسهم بالتفكه والتندر والسخرية والثرثرة.
وجلس في ركن من أركان الحجرة الرفيق جنزبرج وزير التعمير وهو رجل بدين قصير القامة أصلع الرأس على عينيه منظاران سميكان، وأخذ يشرب الشاي ويأكل الحلوى في هدوء، وجلس في مكان آخر رجل طويل القامة يلبس تحت سترته قميصًا روسيًّا ملونًا يأكل تفاحًا، هذا هو أكيموف وزير صناعة المنسوجات، وحذوت أنا حذوه فمددت يدي إلى وعاء الفاكهة الكبير، ورآني الرفيق لوكيين وزير الصناعات الخفيفة فأشار إليَّ بطرف عينه وهو مشهور بين زملائه بفكاهته ومزاحه.
ويخاطب لتكين أحد رجال كزجين بقوله: «إلى متى تعذبنا في هذا المكان، إني أريد طعامًا من لحم وبيض مثلًا، ولست أظن أن ثمة ضررًا في شرب زجاجة من الفودكا تساعد على ابتلاع هذا الطعام.»
ويجيبه ذلك الرجل وهو يضحك قائلًا: «نعم، إنك في حاجة إلى ما يقويك في هذه الليلة، فسترسَل إلى الجحيم، وخير لك أن تعدَّ نفسك لها.»
ويشترك في الضحك كل من في الحجرة عدا الرفيق سسنين وزير مواد البناء، وهو رجل طويل القامة ذو وجه مكتئب شاحب اللون، ولا عجب أن يكون وجهه مكتئبًا فهو يقوم بعمل لا ينال عليه شيئًا من الحمد، بل يتلقى تعنيف الرؤساء في كل اجتماع يحضره، وهذا الاكتئاب الذي لا يفارق سسنين يقابله مرح أكويوف وزير صناعة الآلات، وقد كان هذا لرجل من وقت قريب مديرًا لأحد المصانع في إقليم أورال، وها هو ذا أصبح الآن وزيرًا يعرف الناس عنه أنه من أقرب المقربين إلى مكويان، ويعزو الناس هذا الرقي السريع في المناصب الرسمية إلى نجاحه في اختراع مدفع صاروخي يُعْرَف باسم «كاتوشا» لا يزال أمره سرًّا من الأسرار الغامضة، وأكوبوف هذا أرمني ضئيل الجسم، أشمط الشعر، ذو وجه صغير تبدو فيه مخايل المكر والدهاء، وعينين جميلتين.
ثم يقبل المارشال فروبيوف يصحبه القائد كلياجين، وفروبيوف هو مساعد ستالين لشئون فرق المهندسين من الجنود في ميدان القتال وفي شئون التموين، ولما كانت مشاكله هو الآخر تمر في الإدارة التي أشرف عليها فقد أصبحت أعرفه جد المعرفة، وهو يحييني أحسن تحية، فكلانا في حاجة إلى الآخر، وهو وكليمان يعرفان مقدار ما أبذل من جهود للوفاء بطلبات جبهة القتال، وتتجه عقولنا إلى الباب البلوطي الكبير المؤدي إلى حجرة ألكسي كزيجين في الوقت الذي نشرب فيه الشاي ونتجاذب أطراف الحديث، وأخيرًا يفتح هذا الباب.
وينادي أحد أمناء السر: «ألكسي نيقولايفتش يدعوكم إلى الاجتماع.»
ويسود السكون ويظهر كل منا بالمظهر الرسمي؛ لأننا إذا كنا في حضرة كزيجين لا نبعد إلا خطوة واحدة قصيرة عن الزعيم المحبوب نفسه، وهو يجلس في حجرة فسيحة عالية الجدران، بيضية الشكل، عُلِّقَت على جدرانها صور زيتية لجميع أعضاء الهيئة السياسية العليا على أبعاد متساوية بعضها من بعض، ويلفت نظري في هذه الحجرة مذياع كبير مصنوع في خارج البلاد؛ لأن أحدًا من خلق الله العاديين في بلادنا لم يكن يسمح له في أيام الحرب باقتناء مذياع، وكانت منضدة الاجتماع كبيرة تتسع لثلاثين شخصًا يجلسون حولها وعليها غطاء أخضر.
ويجلس كزيجين في صدر المنضدة وعليه حُلَّة مصنوعة في خارج البلاد، وتعلو وجهه نظرات صارمة، وملامحه ناطقة بأنه لم ينل كفايته من النوم، وبأنه لا يقل تعبًا عني، وهو يرد تحيات الوزراء والقواد بإيماءة خفيفة برأسه.
ثم يأمرنا بالجلوس ويقول: إن رئيس الجفيوك سيتحدث إلينا، والجفيوك في اختصار اسم الإدارة التي يشرف عليها المارشال فرينوف، وهو الذي قام ليتحدث إلينا، ولم يغب عن واحد منا المعنى الكامن وراء قول كزيجين أن رئيس الجفيوك سيتحدث إلينا، بدل أن يذكر الرجل باسمه ولقبه، وكنت أنا أكثر الحاضرين علمًا بما تتضمنه هذه العبارة من معان، فهي شاهد على أن كزيجين غاضب وعلى أنها نذير سوء لنا جميعًا.
ويتحدث إلينا المارشال فريبوف نحو خمس عشرة دقيقة يقرأ علينا في أثنائها في إضبارة من الأوراق، ويرسم لنا صورة قاتمة عن نقص المؤن والعتاد، فيقول: إنه لا توجد لدينا سيارات لعبور الأنهار، وإن هذا يكلفنا آلافًا من الأرواح، وأن ليس لدينا جسور مصنوعة أو ألغام لتعطيل تقدم العدو، أو سيارات مجهزة بالعدد اللازمة لإصلاح الآلات، أو عدد أسلاك تليفونية أو مدافئ للخنادق أو فئوس أو مجارف للجنود المشاة.
ولم يكن كزيجين يرفع عينه عن الأوراق التي أمامه، ويكاد طوال الوقت يتميز من شدة الغيظ، فعضلات وجهه ترتجف، أما أنا فكنت في هذه الأثناء أسائل نفسي قائلًا: «لِمَ لم يكن لدينا ما نقاوم به هذا العدو المجهز بأحسن آلات القتال؟ ولِمَ أضعنا هاتين السنتين اللتين كنا ننعم فيهما بالسلام؟» ويواصل كزيجين قراءة ما لديه من إحصاءات، ولكن المارشال لا يستطيع أن يكظم غيظه فينفجر قائلًا: «إن الناس يموتون بالآلاف في جبهة القتال في كل دقيقة! ولِمَ لا نمدهم بحاجتهم من الفئوس والمجارف والعدد لقطع الأسلاك الشائكة؟ إن أبناءنا يصنعون الجسور من أجسامهم الدامية؛ لأنهم تعوزهم العدد التي يقطعون بها الأسلاك، أيها الرفاق تلك كلها أمور تسربلكم العار وأي عار! إنا لا نجد المصابيح بله الأنوار الكاشفة، ليست لدينا مصابيح الكيروسين العادية، وقد كرر الرفيق ستالين نفسه طلب هذه المصابيح ثماني مرات في الأشهر الأخيرة، ولكن شيئًا منها لم يصل إلى جبهة القتال، ولا نزال في حاجة إلى أجهزة التخفي، إني أضرع إليكم أيها الرفاق يا من تتولون أمور الصناعة في البلاد وأستحلفكم باسم الجندي البسيط في الميدان.»
ويقول كزيجين في صوت أجش بعد أن يجلس المارشال: «كل هذا واضح لا خفاء فيه، أي أنواع المصابيح تقصد؟»
ويرفع ضابط كبير يجلس إلى جانب المارشال فانوسًا مستديرًا ساذجًا لا يزيد على إطار معدني وألواح من الزجاج.
ويصيح كزيجين وهو غاضب: «ونحن لا نستطيع أن نصنع هذا الشيء الحقير.»
واتفق أن كنت على علم بهذه المشكلة نفسها فاستأذنت أتكين وقلت: «اسمح لي أن أوضح الأمر يا ألكسي نقولايفتش، إن صنع الفوانيس لا يسير بالسرعة المطلوبة لأنَّا تنقصنا الصفائح والآلات اللازمة لصنعها، والزجاج من النوع والحجم الصالحين، فمصنع الصفائح الكبير الذي أُخْلِيَ في نوفومسكوفسك لم يعد إلى العمل حتى الآن، وليس في وسعنا أن نحصل على الزجاج إلا من كرستويارسك، ولعل في وسع الرفيق سسنين أن يحدثنا عما يمنع حصولنا عليه.»
فصاح كزيجين وهو يدق المنضدة بيده: «يجب أن تصنع الفوانيس، وأنا أقول لكم: إن هذا الإهمال الإجرامي يجب أن يقف عند حدِّه! إن العتاد الحربي يجب أن يُصْنَعَ كما يطلب الرفيق ستالين، ولو تطلب ذلك سلخ جلود أولئك الأوغاد! ماذا تريد أن تقول يا سسنين؟»
ونزل هذا القول على سسنين نزول الصاعقة، فتلعثم وهو يقول: إن الآلات التي في كرستويارسك غير صالحة للعمل، وإن محطة توليد الكهرباء معطلة، وإن الأيدي العاملة غير متوفرة.
ويستدعي كزيجين أكموف وغيره ويدوم الاجتماع ساعات طوالًا وكل تقرير نستمع له يزيد اليأس الذي يسود الاجتماع شدة، ويبدو من خلاله أن العجز في المواد والآلات ووسائل النقل يزداد في كل يوم عن اليوم الذي قبله، ويتحول كزيجين من الحديث ومن الأسئلة إلى الصراخ وإصدار الأوامر، وتحديد الطلبات والمواعيد، دون أن يستشير أحدًا، وترتجف عضلات الوزراء والقواد، وتضطرب أعصابهم كأنهم صبية في مدرسة أمام ناظر غضوب، ونطرق نحن وننظر إلى مواطئ نعالنا حتى لا تقع عين أحدنا على وجه زميله، ونعرف كلنا ويعرف كزيجين أن النقص حقيقة واقعة، وأن ليس فينا من يقوى على الإتيان بالمعجزات.
ويدق جرس المسرة في أثناء نوبة من الغضب على جنزبرج أحد الوزراء العظام، ويتضح أن كزيجين يعلم من يدعوه، وتتبدل لهجته وملامح وجهه، بل تتبدل جلسته نفسها تبدلًا مفاجئًا، ويلين ويخضع ويتذلل ويقول: «نعم باجوزف فيسارينوفتش … بطبيعة الحال باجوزف فيسارينوفتش … سيكون هذا! سأتخذ إجراءات عاجلة»، إنه ستالين! وتسري في أعصاب الجالسين حول المنضدة موجة من الرهبة والاحترام، ونجلس كلنا كأننا خشب مسنَّدة أو تماثيل جامدة، ويضع كزيجين سماعة المسرة في هدوء وحرص شديدين كأنها مصنوعة من الزجاج، ولا يستطيع العودة إلى ما كان يصدره من أوامر، وما كان يلغ فيه لسانه من شتائم، إلا بعد خمس دقائق كاملةً.
ولا ينفض الاجتماع إلا في منتصف الساعة الخامسة صباحًا، وقد حمل كل منا حملًا ثقيلًا من الأوامر: نصف مليون من حلل التخفي، ومليون من المجارف، ومائة ألف لفة من الأسلاك التليفونية للميدان، إلى غير هذه من الأصناف ذات الأرقام المهولة المروعة، وندرك كلنا أن الوفاء بهذه المطالب من رابع المستحيلات، وأننا إذا وفينا بثلاثة أرباعها على الأكثر اغتبط بذلك الرؤساء الكبار، ونلنا العلاوات وأوسمة الشرف، وندرك كلنا فضلًا عن هذا أن تلك الأرقام قد بولغ فيها عن قصد، حتى تستنزف آخر قطرة من دماء الصناع، وأن الحاجة أعظم كثيرًا مما تستطيع الخطط الموضوعة أن تفي به.
وأصل إلى البيت، وأصعد الدرج المظلمة إلى الطابق الأعلى، وأتحسس طريقي في الدهليز الحالك إلى باب شقتنا، وتتحرك إيرينا وتسألني وهي نعسانة عن سبب تأخري، وهل ثمة ما يسوء، فأجيبها بأن الأمور تسير على أذلالها، وأطلب إليها أن تأوي إلى فراشها، وأخبرها أن الأمر لا يعدو أن يكون اجتماعًا آخر، وتلوح تباشير النهار.
وأشهد في الأيام المقبلة عشرات من هذه الاجتماعات تُعْقَد في الكرملن بدعوة من النائبين عن ستالين: فرنيسنسكي وسيروف وغيرهما، ولم يكن الجو الذي يسود هذه الاجتماعات ولا الإجراءات التي تتبع مما يختلف عن جو الاجتماع الذي عقده كزيجين، وعما جرى فيه، فقد كانت أوامر ستالين وتوجيهاته ومطالبه التي لا تبالي بالصعاب وتلح في الحصول على النتائج، كانت هذه هي التي تسود كل هذه الاجتماعات.