التأهب للسفر
وأخذت أستعد للسفر إلى أمريكا في شهر يناير من عام ١٩٤٣م، واستُخْرِجَ جواز سفري فعلًا في شهر يوليو من تلك السنة، وشعرت في هذه الشهور الستة كأني حشرة نادرة على طرف دبوس في معمل ضخم، ومن حولها جيوش من علماء الحشرات والحيوان والكيميائيين ومن إليهم من العلماء، يدرسونها من كل ناحية ويقلبونها على كل وجه، فقد أصبحت موضع الاهتمام والبحث لمعرفة ما في من عيوب خافية عن الأنظار، وكأن قوى الدولة العظيمة كلها قد حُشدت لغرض واحد، هو الكشف عن شخصي الضعيف وأبعاده الزمنية والمكانية، ومعرفة أهله وأصهاره ورفاقه، أيًّا كان مركزهم وأيًّا كانت درجتهم.
وذهبت هذه الدولة الباحثة الفاحصة إلى أقصى حد في ارتيابها فقضت الأسبوع تلو الأسبوع وهي تفحص عن عقلي وأعصابي كي تستطيع أن تكشف بهذا الفحص عن خبيئة نفسي، ومن أعجب الأشياء أن هذين الفحص والاستقصاء قد انتهيا إلى غير نتيجة، وظل سري الرهيب — وهو اعتزامي الفرار من اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية — مستكنًّا في قرارة نفسي لم يطَّلع عليه أحد سواي.
وبدأ الفحص العظيم عن فكتور كرافتشنكو ابن أحد أفراد الشعب الروسي المغمورين، وعضو الحزب الشيوعي، والمهندس السوفيتي في مكتب إدارة المستخدمين التابعة لوزارة الشئون التجارية الخارجية، وكان المشرف عليه هو الرفيق شتوب، وهو رجل بيروقراطي ضئيل الجسم غريب الشكل يلبس على عينيه منظارين سميكين، مؤدب في لقائه ولكنه لا يفرق قط بين أقدار الرجال الذين يتحرى عنهم، فكلهم لديه سواء، كل ما يهمه من عمله أن يثبت ما يصل إليه من المعلومات ويصنفها، أما ما بين حشراته من فروق دقيقة فيحددها ويفحص عنها غيره من الخبراء المختصين.
واستقصى الرفيق شتوب سيرتي من يوم مولدي، ثم انتقل منها إلى سيرة أبوي وجدي وإخوتي وأقاربي وأبناء أعمامي وفروع شجرة نسبي من أقاربي وأصهاري، ووضع كل طائفة منهم في مكانها الخاص، وتقصِّي تاريخ هؤلاء وأولئك تقصيًا دقيقًا، ثم أكمل الصورة التي رسمها لشخصي الضعيف وتاريخي الطويل بأسئلة عن أصدقائي ورفاقي في عملي خلال السنين الطوال التي قضيتها في العمل.
لقد اجتزت هذا الاختبار التاريخي الطويل عدة مرات فيما مضى من الأيام، وقد سجلت كل دقائق سيرتي في سجلات الحزب، وسجلات القوى المسلحة والهيئات السياسية العليا، وفي سجلات التطهير العادية وغير العادية، وهل ثمة حادثة من حوادث حياتي الماضية غفل عنها رجال القسم السياسي فلم يضعوها في مكانها من ملفاتهم الضخمة؟
لكن هذا كله لم يفد قط في تقصير المراسم الطويلة المعتادة، بله الاستغناء عنها، وسار الرفيق شتوب في عمله مفترضًا أن هذه أول مرة تتعرف فيها الحكومة إلى أحد رعاياها، وبلغ منه أنه لم يسجل اسمي ولقبي وسني دون بحث ومراجعة، وأصبح لهذا العمل العجيب وهو الإمعان في الفحص عن المواطنين السوفيت، والتعمق في بحث أسرار حياتهم من حين إلى حين، والكشف عما خفي من أسرارهم وآرائهم السياسية؛ أصبح لهذا العمل العجيب في نفسه أهمية رمزية كسبها على مر السنين، لقد أضحى هذا العمل في حد ذاته من المراسم التي يراد بها إذلال الفرد للإعلاء من شأن المجموع، وإظهار الإنسان الخاضع المسكين الذليل الحقير أمام عظمة الدولة وأبهتها، وكان إخفاء أي سر عنها مهما يكن تافهًا ضئيلًا يعد كفرًا بالدولة وتدنيسًا لقدسيتها.
وكان هذا الاستقصاء محفوفًا بأعظم الأخطار، فالأجوبة لا بد أن تكون متناسقة متفقة بعضها مع بعض ومع ما أُعْطِيَ منها في المرات السابقة، والدولة الشرطية لا تطيق تملصًا من الإجابة ولا خلطًا فيها، فإذا خانت المستجوب ذاكرته أو ناقض نفسه تناقضًا أيًّا كان تافهًا صغيرًا أثار ذلك أشد ضروب الارتياب والغضب، وكم من مواطن سوفيتي قضى على مستقبله اختلاف قليل في التواريخ، أو خلط في الأقارب ناشئ من ضعف في ذاكرته!
وبعد أن تأكد شتوب القصير النظر ذو المنظار الضخم أن فيرا خالة زوجة أخي — والتي لم تكن لي بها معرفة شخصية — ليست خطرًا يهدد كيان اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، انتقل الرجل إلى النقطة الثانية من نقاط بحثه فقدم إليَّ طائفة من الأسئلة المكتوبة لآخذها معي في منزلي وأردها إليه مكتوبة الأجوبة في اليوم الثاني، وحذرني من أن أغير فيما أكتبه أو أرمجه أو أمحو شيئًا منه؛ لأن هذا كله دليل على التردد، والتردد دليل على الإجرام، والباحثون شديدو الاهتمام بالدقة والأناقة واحترام الأصول المرعية.
وصدعت بما أُمِرْت ولم أَحِدْ عنه قيد شعرة، وجئت بالصور المطلوبة من الإجابات ووضعتها حيث طلب إليَّ أن أضعها، وبعد بضعة أيام من وضعها تلقيت الرسالة التالية: «استمر في عملك الحالي، وإذا دعت الحاجة إلى إرسالك خارج البلاد فسنرسل في طلبك»، ومعنى هذا في لغة السوفيت ذات المعنيين أني أبحث الآن بحثًا دقيقًا، فإذا اجتزت هذا الاختبار فسأبحث مرة أخرى.
ومرت ثلاثة أشهر أو نحوها وكدت أفقد الأمل في المنصب الجديد، وظننت وأنا مكتئب حزين أن ولاة الأمور قد وجدوا نقطة سوداء في سيرتي أو في سيرة أحد أفراد أسرتي أفسدت عليَّ أمري، ثم جئت إلى منزلي في إحدى ليالي شهر أبريل المطيرة بعد عمل مضن دام أربع عشرة ساعة، منهوك القوى من شدة التعب، فوجدت رسالة غريبة في انتظاري، وقد أمرت فيها أن أطلب رقمًا خاصًّا من أرقام التليفون، وكان ما في هذه الرسالة من غرابة متفقًا كل الاتفاق مع مراسم الاستقصاء السالفة الذكر، فقد كانت هذه الطريقة تهيئ للإنسان بضع دقائق يخفق فيها قلبه ويتناوبه فيها الخوف والأمل، فقد يختلف معناها ما بين متاعب رجال الشرطة وبين الرقي إلى أعلى مناصب الدولة.
واتضح أن صاحب الرقم لم يكن إلا موظفًا كبيرًا من موظفي وزارة الشئون التجارية الخارجية، ولست أعرف أي فائدة عادت على مرسل هذه الرسالة من عدم ذكر اسمه فيها، وأكبر الظن أني لن أعرف هذه الفائدة في المستقبل، وأُمِرْت أن أوافيه من فوري على الرغم من تأخر الوقت، وقيل لي: إن جوازًا للمرور سيكون في انتظاري في إحدى النوافذ، وهرولت إلى وزارة الشئون التجارية الخارجية وقد أذهبت عني الخوف موجة الأمل الجديد، وبعد انتظار طويل اضطربت فيه أعصابي ألفيت نفسي في حجرة أخرى أتلقى طائفة من الأسئلة من موظف أكثر ذكاءً وأعظم شأنًا من شتوب، وإن كان فيما عدا هذا شبيهًا به من سائر الوجوه.
وظللنا ثلاث ساعات نضرب في بيداء ماضيَّ، ونعرج بين الفينة والفينة على مزاجي السياسي وآرائي السياسية، تارةً يقودني وتارةً يطاردني، أو يحتال عليَّ ببعض الأسئلة الماكرة لأزلَّ فأكبو، أو يضللني فأفصح عما عسى أن أكون قد حاولت إخفاءه، أو يعود فجأة فيلقي عليَّ سؤالًا سأله من قبل لعله يأخذني على غرة.
والحق أن سائلي كان رجلًا ماكرًا واسع الحيلة كثير التجربة خبيرًا بعمله، ولكنه كان في هذه المرة ينازل شخصًا لا يقل عنه تجربة، ويمتاز عليه بشدة الحيطة والحذر، وما أعظم ما أفدته من الليالي التي تتلمذت فيها للأستاذين: جرشورن ودروجان وأمثالهما، وما أن وافت الساعة الثانية صباحًا حتى كان السائل والمسئول قد أضناهما العمل حتى عجزا عن الاستمرار فيه، فانصرفت بعد أن طلب إليَّ أن أعود بعد بضعة أيام لملء استمارات خاصة.
وألفيت نفسي بعد بضعة أيام من ذلك الوقت أجيب بالكتابة عن طائفة من الأسئلة هي أكثر ما رأيت في حياتي كلها مداجاة ومواربة، لقد كانت هذه وثيقة ساخرة في فروضها، دقيقة محيرة في أسئلتها، إلى حد بدت معه جميع الاختبارات الماضية بريئة تافهة إذا قيست إليها، فهي وثيقة تبدأ بالافتراض أن كل مواطن روسي كاذب مخادع، ثم تمضي بروح الاحتقار لكل ما هو إنساني، فلم يحن وقت توقيعي إياها وكتابة رقم بطاقتي الحزبية فيها، حتى كان العرق يتصبب من جميع جسمي وحتى ذلت نفسي وهانت عليَّ.
فلما فرغت من الأسئلة أُمِرت أن أخطو الخطوة الثانية في هذه الطقوس العجيبة، وهي أن أجمع كل ما أستطيع جمعه من الرسائل الدالة على شخصيتي وكفايتي ونشاطي في السياسة وفي الأعمال الصناعية والتجارية من جميع منظمات الحزب التي عملت فيها، والمشروعات الصناعية التي كنت أشتغل فيها أخيرًا، نعم إن هذه المكاتب والمصانع لم يكن في وسعها أن تضيف شيئًا إلى ما تحتويه سجلات القسم السياسي من تقارير جاءتها من مصادر رسمية ومن جواسيس غير رسميين، ولكن هذه الوثيقة المقدسة لم يكن من المستطاع التجاوز عنها، واستلزم هذا العمل الاتصال بطائفة كبيرة من الموظفين والهيئات الذين اختلفت معهم في يوم من الأيام، والذين كان في وسعهم أن يقضوا عليَّ إذا ما سولت لهم أنفسهم ذلك.
وتقدمت أولًا إلى الرفيق ميتوروف رئيس لجنة الحزب في مجلس وزراء الجمهورية الروسية الاتحادية السوفيتية الاشتراكية، واتفقت معه تليفونيًّا على موعد اللقاء، ووصلت إلى باب البناء الذي يعمل فيه في الموعد المحدد، وأطلعت الحراس على وثائقي الحزبية وجواز مروري الداخلي ففسحوا عنها، وأُعْطِيت جوازًا بالمرور واجتزت فناءً، وصلت بعده إلى الدار التي تشغلها لجنة الحزب، وهنا فحص عن جواز سفري فحصًا دقيقًا، وضُوهِيَت ملامح وجهي بالصورة الشمسية الملصقة على الوثائق الرسمية، ولما وصلت إلى الطابق الذي تشغله اللجنة التقيت بحارس من رجال القسم السياسي متجهم الوجه أخذ يدرس هو الآخر أوراقي وملامح وجهي دراسة أدق من كل ما عرفته من قبل، فلما فرغ من هذه الدراسة طلب إلي أن أذهب إلى الحجرة رقم ٥٠٣.
لقد كنت قبل بضعة أشهر من هذا الوقت لا أكثر أشغل منصبًا خطيرًا في هذه الهيئة نفسها، ولقد رآني هؤلاء الحراس مئات المرات، ولكنهم لم يكن من حقهم أن يتراخوا قيد شعره عن الرقابة المفروضة، خشية أن أكون قد غيرت لوني السياسي منذ ذلك الوقت، ومررت في الدهليز الموصل إلى الحجرة برجال ونساء اشتغلوا معي وتحت رياستي، وقابلني عدد قليل منهم مقابلة ودية، ولكن معظمهم كانوا متحفظين أشد التحفظ في لقائي؛ ذلك أني لم أعد أعمل في مجلس الوزراء، وليس منهم من يعرف لِمَ غادرت هذا المنصب، ولم يكن يسعهم حينئذٍ أن يعرضوا أنفسهم للخطر بالترحيب بي.
وجاملني الرفيق ميتوروف بعض المجاملة، ولكنه لم يتعد الواجبات الرسمية الشديدة، وكان كل ما أظهره من دلائل الود القديم أن سألني عن سبب ما يبدو علي من حيرة وشحوب، فصارحته بأني لا أجد كفايتي من الطعام مذ تركت منصبي في مجلس الوزراء، فتبسم ابتسامة الرضا عن هذا الاعتراف الضمني بأن «مجلسه» هو المكان الممتاز لأصحاب الجدارة من الزعماء، ووافقني على أن الحرب قد خلقت كثيرًا من الصعاب في أمور التموين، ثم طلب إليَّ أن نتحدث في العمل الذي جئت من أجله.
وجاءت في خلال هذا الحديث امرأة ضئيلة الجسم تحمل صفحة كبيرة مثقلة بالخبز الأبيض الهش، ولحم الخنزير والبيض، واللحم المحفوظ والزبد والشاي المحلى بالسكر.
وقال وهو يلتهم الطعام: «كل هذا من أمريكا وهو من ثمار الإعارة والتأجير كما تعلم.»
وقال لي آخر الأمر: «أتريد مني خطاب توصية؟ سأتحدث في هذا الأمر مع الرفيق أتكين؛ ذلك لأن من واجب الإنسان أن يفكر كثيرًا في تلك الأمور، وعليك أن تمر عليَّ غدًا حوالي الظهر.»
وجئت في اليوم الثاني وحدث معي مثل ما حدث في أمسه من بحث متعدد في أوراقي، وانتظرت في حجرة الاستقبال كالعادة حتى أذن لي رسميًّا بالمثول في حضرة الرفيق ميرونوف، وحصلت على خطاب طيب يثني على مواهبي السياسية والمعملية وجرت الأمور على ما أشتهي، وحصلت في الأسابيع التالية على خطابات توصية أخرى من رئيس الإدارة العامة للمصانع التي كنت أعمل بها ومن أمين شعبة الحزب فيها، وقُرِئت هذه الوثائق مرارًا وتكرارًا، وبُحِثَت ملامح وجهي وأعيد بحثها، وسُبِرَت عقيدتي السياسية مئات المرات، ولم يكن خافيًا عليَّ أن وراء هذا البحث الظاهر كله عملًا أبعد منه غورًا يجري من ورائي وتُبْحَث فيه تفاصيل حياتي وعقليتي على يد الإدارة المختصة التابعة لوزارة الداخلية.
وجاءني آخر الأمر الدليل القاطع على أني اجتزت الاختبار، فقد تلقيت الأمر بأن أقدم نفسي للعيادة الطبية التابعة لوزارة الشئون التجارية الخارجية، ليُكْشَفَ عليَّ طبيًّا، ثم أذهب بعدئذٍ لمصور هذه الوزارة لاستخراج صورة رسمية لوجهي، وبعد يومين من ذلك الوقت كلفت أن أقابل الرفيق لبدف وكيل الوزارة ومن أكبر أعوان الرفيق ميكويان نفسه.
وكان يحيط بلبدف مساعدان: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وكانا يكتبان مذكرات ويقدمان له أوراقًا في أثناء زيارتي الأولى له، وكان يجلس خلف مكتب مزخرف قاتم لسبب لا أعلمه في وسطه حجرته الكبيرة بين الطنافس الشرقية ذات الألوان المتماوجة، وتطل عليه من جدران الحجرة صور ستالين ومولوتوف ومكويان وغيرهم من كبار الزعماء، ورأيت أمامه ملفًّا ضخمًا لم أكن أشك في أنه يحتوي صورًا من أوراق الأسئلة التي يخطئها الحصر والتي وُجِّهَت إليَّ، ومن التقارير الخاصة التي أُرْسِلَت من مصادر خفية لا أعرفها.
وحياني لبدف التحية الرسمية ثم أخذ يوجه إلي الأسئلة من جديد، فسألني عن اسمي ومسقط رأسي وتاريخ انضمامي للحزب، ولم يكن ثمة شك في أنه ليس في وسعه أن يوجه إليَّ سؤالًا لم أجب عنه عشرات المرات، ولكن وكلاء الوزارات أنفسهم لم يكن في مقدورهم أن يخرجوا على الخطط المقدسة المرسومة، وأجبته بجد وحماسة كأني قد راعتني جدة الأسئلة وأذهلتني دقة صياغتها، ثم انتظرت حتى قلب ملف الأوراق التي أمامه أو ألقى نظرة على فقرة في هذا المكان وأخرى في ذاك، وتبسم تارةً وقطَّب وعبس تارةً أخرى، ومساعداه في هذه الأثناء يجلسان في صمت ووقار لا ينبسان ببنت شفة، وكان يملي عليهما من حين إلى حين عبارات قصيرة ستكون من غير شك المحور الذي يدور عليه تقريره لرئيسه.
وكان لبدف رجلًا ممتلئ الجسم، عريض المنكبين، ذا عنق ضخم له طيتان، حسن المعارف، لا يستنكف الإنسان أن يصف وجهه بالجمال، لطيفًا إلى حد لا يتفق مطلقًا مع عباراته وعاداته الرسمية الجافة، وأيقنت أن الرجل غير ذي فطنة عظيمة، وعجبت كيف وصل إلى هذا المنصب السامي، ثم وقع نظري على يديه، وأبصرت أصابعه الغليظة المكتنزة المكسوة بالشعر الكثيف، ولاح لي أن هاتين اليدين يدان قاسيتان قادرتان على أعمال العنف.
وقال آخر الأمر في جد ووقار: «هل تقدر يا رفيق كرافتشنكو التبعات الخطيرة الملقاة على من يُعْهَد إليه عمل في خارج البلاد؟»
– «نعم أقدرها، وقد فكرت في ذلك طويلًا.»
– «عليك أن تثبت أنك خليق بالثقة التي وضعها فيك الحزب.»
فأجبته في تواضع وحماسة: «سأحاول ذلك يا رفيق لبدف.»
– «سنبلغك ما يستقر عليه الرأي، وأرجو أن نلتقي مرةً أخرى قريبًا!»
وبعد خمسة أيام من ذلك الوقت علمت من مصدر سري عن طريق صديق لي في وزارة الشئون التجارية الخارجية أن أنستاس إيفانوفتش ميكويان، عضو الهيئة السياسية العليا ونائب رئيس مجلس الوزراء، وعضو لجنة الدفاع عن الدولة، ووزير شئون التجارة الخارجية، قد وقَّع بيده خطابًا إلى لجنة الحزب المركزية يوصي فيه بإرسالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظللت مع ذلك أصرف عملي في إدارة المصانع ولكن أفكاري اتجهت من ذلك الحين وجهة أخرى، وجاءتني بعد قليل رسالة من الإدارة السرية التابعة للمكتب الرئيسي في مواثقتنا تأمرني بأن أطلب رقمًا خاصًّا من أرقام التليفون، وتبين لي مرة أخرى أنه لم يكن ثمة ما يدعو إلى هذه السرية فقد ردت عليَّ إحدى الموظفات في وزارة الشئون التجارية الخارجية وطلبت إليَّ أن أذهب إلى ذلك المكان في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم الثاني.
وقالت لي: «وليكن معك بطاقة الحزب وجواز المرور ودفتر النقابة والوثائق الحربية، وستذهب إلى مكان آخر في الساعة الثانية عشرة تمامًا.»
ونفذت هذه الأوامر حرفيًّا، وبعد أن أجاز مروري أربعة حراس أو خمسة، وقابلني موظف تابع للقسم السياسي أمرت أن أتجه إلى مكاتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العام، وكان هذا هو «المكان الآخر» الذي تطلبت كرامته هذا التخفي الزائد وتلك الإجراءات الرسمية العقيمة، وأعطيت جواز المرور، وسرت إلى البناء الذي تشغله لجنة الحزب، وهناك بحثت أوراقي مرة أخرى ثم صعدت من فوري درجًا واسعةً من الرخام.
وكان على البسطة الأولى من الدرج تمثال لستالين، مصنوع من الرخام، قائم على قاعدة من الرخام أيضًا، وكانت نظراته النابليونية في هذه العزلة مما يدعو إلى السخرية، وأطل عليَّ من البسطة الثانية تمثال آخر لستالين لا يقل عن الأول عزلة وإثارة للسخرية، وانتظرت هنا لحظة أُدْخِلْت بعدها إلى حجرة مفروشة بالبسط، رأيت فيها ستالينًا ثالثًا، ولكنه في هذه المرة معلق على الحائط، وبقيت في صحبته حتى أقبل الموظف المختص، وما من شك في أن المثَّالين والمصورين السوفيت لا يعدمون المواقف المتعددة لصورهم وتماثيلهم، وجلس الموظف خلف مكتبه الكبير وأحدق فيَّ دقيقة كاملة ثم قال لي: «حدثني عن نفسك، وأرجوك ألا تعيد ما أعرفه عنك من إجاباتك المدونة في أوراقك، فإن الذي يهمني هو نظرتك إلى الحياة ومزاجك السياسي.»
وأخذت أتحدث وألقي أقوالي خبط عشواء، وأبحث في عقلي عن حقائق أو أفكار لم تُقْتَل بحثًا وتنقيبًا في الأسئلة السابقة والأوراق المكتوبة، فقاطعني الرجل ووجه الحديث إلى الناحية المقصودة وسألني: «هل ارتبت يومًا ما في حسن السياسية التي يسير عليها الحزب؟»
فأجبته من فوري: «لم يحدث هذا قط.» وذلك لأني لم أشأ أن أسبب لنفسي متاعب لا حاجة لي بها.
– «حتى في أوقات تنظيم المزارع الجماعية وفي أوقات التطهير حين أصابك أنت بعض الأذى؟ ألم تشك أنت في سياسة الحزب العامة حتى في ذلك الوقت؟»
– «لا، لم أشك قط في سياسة الحزب العامة.»
– «ولكنك لاقيت بعض العنت في نيقوبول في عامي ١٩٣٦م، ١٩٣٧م فقد روقبت، وسئلت وما إلى ذلك، فماذا كان موقفك وقتئذٍ؟»
– «لقد حيرني ذلك بطبيعة الحال، وغضبت غضبًا ليس بالقليل، فقد كنت أعرف أني بريء وتألمت لذلك بعض الألم.»
– «هذا مما لا يصعب فهمه، وليس في وسع إنسان أن يلومك على هذا، فقد كان ثمة شيء من التطرف والتغالي وقتئذٍ، ولقد استؤصل أعداء رجال الدولة المسئولين، وهل بقي لديك الآن يا رفيق كرافتشنكو شيء من ذينك الألم والغضب؟»
وابتسمت حين أُلْقِيَ عليَّ هذا السؤال غير المعقول، وأجبت من فوري: «كلا، لم يبق منهما شيء»، وحمدت وقتئذٍ لجرشجورن ودرجان وأمثالهما ما لحقني منهم من إذلال ومهانة.
ودامت هذه المهزلة الساخرة المحزنة ساعتين من الزمان، وما من شك في أن الأسئلة التي كانت توجَّه إليَّ في أثنائها هي الأسئلة الخطيرة المتعلقة بآرائي السياسية التي تحتمها المراسم الموضوعة، كأن ثمة مكانًا للصراحة في الحياة السوفيتية، أو كأن في وسع رفيقين إذا التقيا لأول مرة أن يجرؤ أحدهما على أن يبوح إلى الآخر بأكثر من ألفاظ الرياء والخداع التي مرن عليها أهل البلاد! وكلما طال «الحديث» بيني وبين هذا الموظف، ازددت ثقة بنفسي وأظهرت ما أتقنته من مظاهر التصنع والمخادعة، وازددت رضًا عن نفسي؛ لأني استطعت أن أتغلب على كل خططه المرسومة، وكنت في كل هذا الوقت أحيط بأطراف المنظر الذي أمامي وأقول لنفسي: «سأهرب! سأتحرر عما قليل من هذا الخداع الرهيب، وهذا الفزع الذي لا يطاق! وسيكون في وسعي أن أتحدث وأن أكافح.»
واتضح أن حديثي كان له أثر قوي في سائلي، وأكبر الظن أنه قد استقر رأيه على أن عقلي من الطراز المطلوب، وأنه خالٍ من الشكوك غير المرغوب فيها، ومن الأفكار الشاذة المنفرة، ولعله اعتقد أني رجل ليس في عقله إلا قليل من الأفكار، ولكنها أفكار جديرة بالتقدير يمكن الاعتماد عليها وإن لم تكن من الأفكار النيرة، وشعرت حين ضغط على يدي بيده الثقيلة أنه راضٍ عني.
«طاب يومك، وأظنك ستعرف ما استقر عليه رأي اللجنة المركزية بعد أربعة أيام أو خمسة.»
وكان القرار في مصلحتي، فقد تلقت الإدارة العامة لمصانع الأنابيب المعدنية أمرًا بإخلاء طرفي إجابة لطلب وزارة الشئون التجارية الخارجية، وعرضت نفسي في اليوم الثاني على الإدارة العامة لاستيراد المواد الغفل التابعة لوزارة التجارة الخارجية في بلاد الاتحاد جميعها، وأسلمتني هذه الإدارة مجلدات ضخمة من الأوراق السرية تحتوي على تقارير وأوامر لأقرأها وأدرسها كي أكون على علم بأعمال الإعارة والتأجير، وبأحوال الصناعة الأمريكية، وبجميع التفاصيل الخاصة بمصانع المعادن التي سأتصل بها وأتعامل معها في تلك البلاد.
ثم استُدْعِيت مرة أخرى إلى المركز العام للجنة المركزية، وأُعْطِيت في هذه المرة نشرتين سريتين، وأُمِرْت أن أقرأهما من فوري بدقة وعناية ثم أعيدهما، وأوقع وثيقة أقر فيها بأني مُلِمٌّ بما يحتويانه، وترسم النشرتان قواعد السلوك التي يجب أن يسير عليها أعضاء الحزب في خارج البلاد، وتنصان بوجه خاص على ما يترتب على مخالفتها من جزاء، وستبقى خلاصة ما قرأت فيهما في عقلي أبد الدهر، ولن تُمْحَى منه الصورة التي تتخيلها الحكومة السوفيتية لأحوال العالم غير السوفيتي.
واحتوت النشرتان أوامر مشددة، توجب طاعة الرؤساء في كل ما يأمرون به، ثم انتقلنا من ذلك إلى التحذير بما تتعرض له الحياة في البلاد الرأسمالية من إغراء وغواية وتضليل، ورسمتا صورة مخيفة ومغرية معًا للحياة في تلك البلاد، فصورتاها حياة معادية منحطة داعرة، كل همها أن تحتال على المواطنين السوفيت وتحصل منهم على أسرار بلادهم، ولا غرض لحكومات تلك البلاد إلا أن تقضي على ما يكنه زائروها الشيوعيون من ولاء لحكومة بلادهم.
واحتوت النشرتان فوق هذا أوامر مشددة لمن يوشكون أن يندفعوا في تيار الرذائل السياسية، ويتصلوا برجال الأعمال الفاسقين والعاهرات الساحرات، تحذرهم من أن يتحدثوا إلى أولئك الكفرة من غير ضرورة في أي موضوع من الموضوعات، وألا يناقشوهم في الشئون السياسية بحال من الأحوال، فإذا ما تقدم إلينا بعضهم وعرضوا أن يبيعونا «وثائق» أو نحوها من الأسرار، وجب علينا أن نحيل هؤلاء العارضين إلى أقرب قنصلية سوفيتية، وإذا سألنا سائل عن الحياة في بلاد الاتحاد السوفيتي فلنعتقد أن هذا السائل المنقب إن هو إلا جاسوس في خدمة أعداء البلاد.
وتشدد علينا النشرتان بنوع خاص ألا نتصل بحال من الأحوال بالروس الفارين من البلاد، وألا نقرأ الكتابات «المعادية» لبلادنا، ويجب أن نبتعد كل البعد عن الكتابات التي يذيعها في خارج البلاد المهاجرون المعادون للثورة الروسية؛ ذلك أن الشياطين المعادين للسوفيت لا يخلو منهم مكان، يذيعون الخطب «المعادية» على متن الهواء، وينشرون الصور المعادية على الشاشة البيضاء، ومن واجبنا أن نفرَّ من هؤلاء، وإلا ساءت حالنا وتزعزع إيماننا.
وتقول هذه القواعد المطبوعة: إن الرأسمالية نظام فاسد في حقيقته، ولكنه جذاب مُغْرٍ في ظاهره، ومن أجل هذا فإن فضائلنا السوفيتية معرضة في كل آن للهجمات الشديدة، والواجب علينا إذن أن نصمَّ آذاننا فلا نستمع لأقوال المترفين الرأسماليين، وليست خير الفنادق الرأسمالية إلا ما خورات مقنعة يكمن فيها الفساد الطليق في انتظار رجال السوفيت الأبرياء، ويجب علينا ونحن مسافرون إلى خارج البلاد أن نبتعد من فورنا عن منطقة الخطر إذا جاءت إلى غرفتنا أو قمرتنا امرأة جميلة، فإذا حاولت امرأة ولا سيما إذا كانت تتكلم الروسية أن تتحدث إلينا وجب علينا أن نفرَّ منها لساعتنا.
وقيل عن الخمر: إنها تأتي في المرتبة الثانية بعد النساء من المغريات التي يتعرض لها المواطنون السوفيت في خارج بلادهم؛ ولذلك ينبغي لنا ألا ندخل حانة أو ناديًا ليليًّا أو ما شابههما من أماكن الفساد حيث تقدم الخمور التي تحل عقدة اللسان، إلا إذا كان لا بد من دخولنا فيها لعمل معين وبإذن من الرؤساء الكبار، وإذا ما اضطر المبعوث السوفيتي الصالح إلى حضور مأدبة خاصة أو عامة وجب عليه أن يكون شديد الحذر حتى لا يبوح بسر من الأسرار.
تُرى ما هي تلك الأسرار الرهيبة التي يجب علينا أن نحتفظ بها في حنايا صدورنا، والتي ينصب العالم الخارجي شباكه لاصطيادها منا؟ إن القواعد المكتوبة لا تذكر شيئًا منها، ولكن جواب هذا السؤال بدا واضحًا كل الوضوح، إن أخوف ما يخافه سادة الكرملن أن يصدر منا ما يؤيد «الدعاوة المعادية للسوفيت»، والتي ينشرها أعداء البلاد من الكتاب والخطباء والناشرين، أما «الأسرار» التي تشير إليها القواعد التي طلب إليَّ قراءتها فهي الحقائق المتصلة بمعسكرات الاعتقال والسخرة، والظلم العام الشامل، والفساد الخلقي المنتشر في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، وكل ما من شأنه أن يشوه الصورة التي تصورها الدعاوة السوفيتية، والحق أن هاتين النشرتين لتعدَّان شهادة من الحكام السوفيت أنفسهم على ما ينطوي عليه حكمهم من فساد.
وهما فضلًا عن هذا تتهمان الحكومات الأجنبية بكل أساليب الخداع التي يلجأ إليها القسم السياسي وغيره من الهيئات السوفيتية في معاملتها للأجانب الوافدين إلى البلاد، فهما تنذراننا بأن أمتعتنا ستفتش في أمريكا، وأن جوازات سفرنا ستُسْرَق منا ليُسْتَعان بها على التجسس علينا، وأن محادثاتنا التليفونية سيُسْتَمع لها، وأن النساء الفاتنات سيدسسن علينا ويمكرن بنا، ولا تخفي هذه القواعد أننا في أمريكا سنقيم في بلاد معادية لنا وإن تظاهرت تلك البلاد بأنها صديقة، فإذا لم نكن شديدي الحذر في كل خطوة نخطوها، فسنغرق إلى آذاننا في الأوحال الرأسمالية التي ينبت فيها الطمع والترف والحقد على الوطن الاشتراكي.
وبعد أن قررت بأني فهمت كل ما حوته النشرتان من إنذار وتحذير كان عليَّ أن أصدع رأسي بالاستماع إلى خطبة أخرى يلقيها عليَّ موظف آخر من موظفي اللجنة المركزية في مكتبه الفسيح، وكان الرجل صارمًا أشد الصرامة في لهجته: «يا رفيق كرافتشنكو، ستُعْهَد إليك بعد قليل مهمة في بلاد أجنبية، وستُصرف أمورنا التجارية في جو غير جو بلادنا، بين الرأسماليين الذين نحتقرهم بحق ولا نثق بهم، ونحن واثقون من أنك لن يخدعك ما تراه من كثرة البضائع التي يستهلكها الأمريكيون، ومن مغريات ذلك المجتمع الذي بلغ المرحلة الأخيرة من مراحل الانحلال، ولا تنس قط رسالتك التاريخية وهي أنك تمثل الحضارة السوفيتية الجديدة.
نعم، إن أمريكا تمد لنا الآن يد المعونة، ولكننا يجب ألا ننسى قط أنها تقدم لنا هذه المعونة وهي مرغمة، تضطرها إليها حاجتها الملحَّة، ولسنا ننكر أن بعض أهدافنا الحربية تتفق في هذه اللحظة مع أهدافها، ولكن عالمنا وعالم الأمريكيين سيظلان مختلفين لا يمكن التوفيق بينهما بحال، وعليك أن تستمسك بعقيدتك الثابتة وهي أن مبادئك الشيوعية تحتِّم عليك أن تكون العدو الألد للمجتمع الرأسمالي الذي يتركز الآن في أمريكا، وأن الشيوعية والرأسمالية عدوان لا يتفقان!»
وبدلت ملامح وجهي ونظراتي لكي توائم هذا الظرف الخطير، لقد كان من أسخف الأشياء أن يُلْقي هذا الدرس البدائي على رجل من رجال الحزب المضرسين، ولكنه إنما كان يفعل هذا اتباعًا للمراسم المقررة والخطط الموضوعة، فهو واجبه الذي يؤجر عليه، وما من شك في أنه ألقى هذه الخطبة نفسها على غيري من الناس في ذلك اليوم.
«وستظل بعد وصولك إلى أمريكا عاملًا نشيطًا تقوم بما يجب عليك للحزب الذي تنتمي إليه، ولكن لا تنس أنك في علاقاتك بولاة الأمور الأمريكيين لم تكن ولن تكون في يوم من الأيام عضوًا في ذلك الحزب، بل يجب أن تصر في كل مناسبة على أنك لا تهتم قط بالأمور السياسية، واعلم أن الهيئات التابعة للحزب الشيوعي السوفيتي تعمل في الخفاء، ولن يُسْمَح لك بأخذ بطاقتك الحزبية معك إلى أمريكا، ولكن الرجال المختصين في تلك البلاد سيعلمون أنك من أعضاء الحزب، أما فيما عدا دوائر الحزب فلن تكون إلا مهندسًا فحسب، فهل تفهم هذا حق الفهم؟»
– «نعم، أفهمه.»
وعدت في اليوم الثاني آخر يوم من شهر يونيو إلى مركز القيادة العامة للحزب بعد أن «طُهِّرَت ثم طهرت» كما يقول الروس، وكان ينتظرني في ذلك اليوم موظف آخر أعظم خطرًا وأشد إرهابًا من الموظف السابق، وكان يجلس إلى جانبه رجلان آخران: أحدهما من رجال الشرطة بلا شك، وكان الموظف رجلًا ممتلئ الجسم يرتدي حلة أجنبية أنيقة، وعلى معصمه ساعة من طراز أجنبي، وفي جيب سترته قلم من أقلام الحبر الأجنبية، يشهد بأنه قد عاد حديثًا من مجاهل البلاد الرأسمالية، ولعله قد عاد من لندن أو واشنجتن.
وخاطبني وهو مقطب الوجه: «لقد وافقت اللجنة المركزية على تعيينك يا رفيق كرافتشنكو في الولايات المتحدة الأمريكية، فهل تدرك كل المعاني التي ينطوي عليها ما وضعته فيك من الثقة؟»
فأجبته: «نعم أدركها.»
– «وهل قرأت التعليمات؟ وهل تعرف ما يترتب على أخطائك أو سوء سلوكك من عواقب؟»
– «نعم، أعرف ذلك ولا أنساه.»
– «إن خير ما يقيك الخطأ هو اليقظة البلشفية والولاء التام لحزبنا المحبوب والإخلاص القلبي له.»
– «إني أدرك ذلك كله بطبيعة الحال.»
– «إنك مسافر إلى بلد بلغت فيه الرأسمالية أَوْجَهَا، ووصلت أقصى حد من الاعتداء على الأموال والأرزاق، ونظام التجسس فيها دقيق لا يفلت منه إنسان، وقد يعرض عليك أن تخون بلادك، ولن يترك الرأسماليون الأمريكيون ولا المهاجرون الروس وسيلة لإغرائك والإيقاع بك إلا اتبعوها، وستحاول الصحف الرأسمالية المعادية للثورة وبخاصة صحف هرست ومك كومك بكل ما لديها من وسائل أن تزعزع عقائدك.
وحذار أن تثق بمن يدَّعون أنهم أصدقاء بلادنا، بل ثق أن معظم هؤلاء أشد خطرًا من الأعداء الظاهرين، ولقد أصبح من عادة بعض المهاجرين في هذه الأيام الأخيرة أن يتذللوا ويخروا سُجَّدًا لنا، وليس هؤلاء من اليساريين وحدهم بل إن منهم طائفة كبيرة من الملكيين، فلا تثق بهم، واعلم أن الذي يغير مبادئه مرة لن يثبت قط على مبدأ، وإن هذا يصدق أيضًا على أصحاب المصارف ودور الصناعة وغيرهم من الرأسماليين الذين يسايرون الآن التيار الحديث، تيار الإعجاب باتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، ولكن إعجابهم هذا لا يساوي شروى نقير، وقد يتبدل إلى خيانة سافرة بين عشية وضحاها.»
ونطقت بكلمات قصيرة دالة على أني أفهم ما يقول وأوافق عليه، وكنت في أثناء ذلك أفكر متى تنتهي هذه المهزلة، ولكن الخطبة لم تكن قد وصلت بعدُ إلى نهايتها؛ ذلك أن الخطيب بعد أن فرغ من الكلام على أعداء الحكومة من الجواسيس والمهاجرين والمذبذبين والمرائين الرأسماليين، أخذ يتحدث عن الأخطار البالغة الأهمية له هو، فشرع يحذرني في صوت ثائر متهدج عن أحابيل الرأسماليين، من أضواء براقة ونوادٍ ليلية ونساء لينات المغمز غير محصنات.
«وتلك كلها أدلة على ما يدب في حياة البلاد الرأسمالية من فساد وانحلال يا رفيق كرافتشنكو، ولكنها رغم ذلك من أشد أنواع الإغراء.» ثم أبرقت عيناه وعلا صوته وقال: «إني أعرف أن صنائع الرأسمالية سيحاولون أن يصلوا إليك بكل ما لديهم من وسائل.»
وما كدت أفرغ من هذا حتى تسلمني خطيب ثالث، واتضح لي من خطبته أن إدارته أكثر صلة بالفن، وأنها تهتم بما عليَّ من التزامات، وما أمامي من فرص بوصفي مهندسًا أكثر مما تهتم بما أتعرض له من أخطار بوصفي فردًا من أفراد الناس، وقال لي إن من أهم ما يجب عليَّ أن أجمع كل ما يعترضني من المعلومات ذات الصبغة الاقتصادية والحربية إن أمكنني هذا، وأن أتدرب على ملاحظة التفاصيل الفنية، ونظام المصانع في كل بلدة أزورها، ووسائل الإنتاج وما يدخل على الآلات من تجديد وتعديل، وجميع الأساليب الفنية الصناعية وكل ما لا علم لنا به.
– «وستكون أنت عيوننا المبصرة، وآذاننا المصغية في أمريكا، فإذا وصلت إليها فأرسل تقريرًا إلى الرفيق سيرف وأعطه الإيصال الذي يُعْطَى لك حين ترد بطاقة الحزب التي لديك، فهو يعرف كل شيء عنك، أتفهم ما أقول؟»
– «هذا واضح كل الوضوح.»
– «بقي شيء واحد أقوله لك: لا تذع أنك مسافر إلى خارج البلاد، ولا تُفْضِ بهذا النبأ إلا للأصدقاء الذين تثق بهم من الناحية السياسية.»
ولم أكن أعرف وقتئذٍ لِمَ يكون إرسال مندوب للمشتريات من الأمور السرية، ولكني بطبيعة الحال لم أتطفل بشيء من الأسئلة، وقبل أن أغادر المكان أسلمت بطاقتي وأخذت بها إيصالًا، وشعرت بعد ذلك كأني من غير أهل البلاد أو كأني قد جرت من ثيابي، ولقد بدا لي في يوم من الأيام أن حقي في الحصول على بطاقة الحزب حلم لذيذ، أما الآن فقد أسلمتها دون أسف أو ندم، فقد أصبحت لا أتأثر مطلقًا بالرموز السياسية، وذهبت من فوري إلى وزارة الحربية وهناك أُخِذَت مني أوراقي العسكرية وأُعْفِيت من جميع الالتزامات الحربية، وأعطتني وزارة التجارة الخارجية مبلغًا كبيرًا من العملية السوفيتية وأذونًا تبيح لي شراء ما أحتاجه من الملابس في العالم الرأسمالي المنحل الفاسد، وأُعْطِيت فوق ذلك شيئًا من العملة الأمريكية تكفي لوصولي إلى واشنجتن.
وبعد أن فرغت من هذه الأمور التمهيدية ذهبت مرة أخرى إلى الرفيق لبدف، والتقيت عنده بعدة أشخاص يستعدون هم أيضًا للسفر إلى أمريكا، وكلهم من أعضاء الحزب، والآن وقد اجتزنا كل الحواجز، وسرت في نفوسنا كل المواعظ، رأينا لبدف يبتسم لنا ويبش في وجوهنا.
وقال لنا: «لن أطيل عليكم الحديث أيها الرفاق، إنكم جميعًا من الملمِّين بالشئون السياسية فاسمحوا لي أن أضرب لكم مثلًا صغيرًا.»
وأخذ الرجل يقص علينا وهو بادي الانشراح قصة طويلة عن مبعوث سوفيتي أُرْسِلَ إلى مهمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه لم يؤت من الحذر والحيطة مثل ما يرجو هو أن نؤتى كلنا، وكان من سوء حظ هذا الرجل أن سمح لصنائع الأمريكيين أن يؤثروا فيه، على أنه لحسن الحظ كان له من العقل ما جعله يفضي بأسراره إلى القنصلية السوفيتية، وبذلك نجا من الخطر في الوقت المناسب.
وهززنا جميعًا رءوسنا دلالةً على أننا نفهم ما يرمي إليه، وأننا سنتقي خطر ما تنصبه لنا الشرطة الأمريكية السرية من شراك.
«بقيت كلمة تحذير واحدة أقولها لكم قبل أن أنتهي من حديثي معكم أيها الرفاق: إن منكم من سيسافرون بغير أزواجهم، وستجدون في أمريكا الطعام والشراب موفورين، وأنتم تعرفون أن ذلك رخاء الحرب الزائف، وسيعقبه الكساد في القريب العاجل كما حدث من قبل، وأنتم تعلمون ما يطلبه جواد السباق بعد أن يملأ معدته بالطعام، ثم أشار بعينه إشارة ماكرة وضحكنا كلنا ضحكة الخضوع والامتثال، وإن كان الكثيرون منا قد أدركوا ما في عباراته من سخرية واستهزاء.
حسن، لقد أدركتم ما أرمي إليه، إنه يبدأ في الصهيل … فاحذروا من سيقان البنات الأمريكيات.» وهز أصبعه هزة التحذير، ثم واصل حديثه قائلًا: «فإذا تورطتم في الاتصال بنساء الرأسماليين، فاذكروا أني حذرتكم منهن.»
ثم استبدل بلهجة المزاح لهجة التهديد الشديد، وقال: إن أمريكا ليست إلا حليفًا مؤقتًا، وإن علينا أن نصطنع في معاملتها أشد الفطنة والحذر، وستنتهي هذه الصداقة القصيرة الزائفة في يوم من الأيام، وتعود الحقائق سيرتها الأولى: «فلا تتركوا فيها شيئًا إلا عرفتموه، ولاحظوا كل ما في وسعكم أن تلاحظوه، ولا تعطوهم في نظير ذلك شيئًا.»
وعدت إلى منزلي أحمل معي كتابي الأحمر الصغير وهو جواز السفر السوفيتي إلى خارج البلاد، وقد شاءت الظروف أن يكون هذا الجواز أثمن قطعة من الورق تتجه إليها مطامعي، وظللت طوال الوقت أتحسسه بيدي لأتأكد من أنه حقيقة واقعة وليس سرابًا بقيعة، ولما وصلت المنزل وجدت إيرينا في انتظاري، وأدركت لساعتها من منظري أن كل شيء قد انتهى على خير حال، وتبينت أنها تحاول أن تغالب الدموع التي توشك أن تنحدر من عينيها، وكانت تجهل كل الجهل ذلك السر الرهيب الذي أكنُّه في صدري، فقد كنت أوقن أن خير ما أقدمه لها من رعاية وأن خير ما أستطيع أن أجزيها به عن حبها لي هو ألا أبوح لها بشيء عما أنتويه، وأن تبقى جاهلة هذا السر كل الجهل.
وقلت لها وقد غصصت بريقي: «إنها مهمة قصيرة الأجل لن تستغرق أكثر من أشهر قليلة، وإنها مهما طالت لن تدوم أكثر من سنة واحدة.»
وكنت أحس في أعماق قلبي أني قد لا أرى بلدي وأهل وطني، فكنت في الأيام التي قضيتها قبل سفري أنظر إليهم نظرة فيها كثير من الحنين المنذر بالشر المستطير، وحاولت جهدي أن أثبت صورتهم في أعماق عقلي.
وكان لي بطبيعة الحال عشرات من الأصدقاء أحب أن أراهم قبل أن أغادر البلاد، ولكن الستار الكثيف الذي أُلْقِيَ على رحلتي جعل رؤيتي إياهم مستحيلة، على أنني رغم هذا خاطرت بنفسي فزرت الرفيق ميشا وغيره من الأصدقاء القريبين مني لأودعهم، وحاولت أن أجعل وداعي إياهم وداعًا عاديًّا ليس من ورائه شيء، حتى لا تحدثهم أنفسهم بشيء مما اعتزمته؛ ولذلك فإنهم ذهلوا حين أطلعتهم على جواز سفري؛ ذلك أن الخروج من البلاد والتحرر — ولو إلى فترة قصير — من «الحياة السعيدة» التي نحياها في ظل ستالين كانا أصعب منالًا من مناط النجم، ومن ثم كانا أعظم ما يطمح إليه الإنسان.
وكان أحد هؤلاء الأصدقاء الأوفياء الذين زرتهم، والذين أطلعتهم على معجزتي الصغيرة الحمراء، إخصائيًّا في علم الكيمياء، ويشغل وقتئذٍ منصبًا كبيرًا في الحكومة، وكان ممن اضطهدوا في حركة التطهير الكبرى ثم «رُدَّ إليه اعتباره» وارتقى رقيًّا سريعًا في المناصب الحكومية رغم «اعترافه» بالاشتراك في مؤامرات التخريب التي أدت إلى محاكمات موسكو الدموية، وبلغ من أمره أن أصبح صدره تلمع عليه الأوسمة التي منحها لخدماته الحربية الممتازة.
وهز الرجل يدي بقوة وبدا لي أنه يحسدني على حسن حظي، وظلت يدي مدة طويلة في قبضته.
وقال لي: «أهنيك يا فيتيا! إن الذي نلته لم ينله واحد في كل مائة ألف! ولولا زوجي وأطفالي لانتحلت لنفسي عذرًا أسافر به إلى خارج البلاد … إنك سترى العالم الخارجي الغريب، وهو عالم قلما يسمح لنا بأن نعرف عنه شيئًا.»
وصمت قليلًا وقطَّب حاجبيه كأنه يريد أن يعقد النية على شيء ثم قال في حركة عصبية: «هيا بنا نركب عربة إلى مسكني؛ لأجتمع بك قليلًا قبل سفرك؛ لأني أحس برغبتي الشديدة في التحدث إليك.»
وتحدث الرجل إليَّ فعلًا، ترى هل شجع الرجل خروجي القريب إلى بلاد بعيدة على أن يفضي إليَّ بما أفضى به؟ أو هل أضحى عاجزًا عن أن يكبت في صدره أفكاره الناهكة المضنية؟ ومهما يكن من ذلك الأمر فقد أفضى إليَّ في عصر ذلك اليوم بأشياء لا يجهر بها في بلادنا رجل أوتي ذرة من العقل قال: «يظن أولئك البلهاء يا فيتيا أنهم قد اشتروني بهذه الأوسمة اللامعة، لا يا فيتيا إنهم مخطئون في ظنهم هذا، نعم إني أبذل ما أستطيع من جهد للانتصار على الألمان لأني روسي صميم، ولكني لم أنس سنة العذاب الماضية، ولكن أعفو عمن عذبوني، إنني أرقى في مناصب الدولة؛ لأنهم في حاجة إلى الأكفاء من الرجال، ومن أجل ذلك تراهم يعترفون بكفايتي، رغم أني كنت في يوم من الأيام من نزلاء السجون، ومن يدري فقد أرقى في يوم من الأيام إلى أعلى مناصب الدولة فأصبح وزيرًا، وليس هذا بالأمر المستحيل.
ولكني لم أنسَ قط شيئًا، لم أنس شيئًا قط! بل أذكر كل دقيقة قضيتها معذبًا مهانًا، وأحتفظ بهذه الذكرى ليوم الانتقام، لقد أذاقوني مُرَّ العذاب شهورًا طوالًا قبل أن ينتزعوا مني توقيعي على ذلك الاعتراف الكاذب، لقد أبقوني فترات طويلة سجينًا بمفردي في تلك الأقبية المظلمة الرطبة تشاركني فيها الجرذان الكبار، فهل تعرف يا صديقي كيف كانوا يعذبونني؟ استمع إلى ما سأحدثك عنه.»
فرجوته ألا ينطق بشيء وقلت له: «لا، يا جرجري لا تقل لي شيئًا، فحسبي ما سمعته من غيرك، وماذا تفيد من فتح جراحك القديمة؟»
– «إنها جراح متنسرة يا فيتيا، ولقد منعتها أن تلتئم، وأنا أصحو من نومي وعلى شفتي لعنة أبعث بها إلى أولئك القوم، وأذهب إلى فراشي في كل ليلة وعلى شفتي تلك اللعنة، استمع إليَّ، أُفْضِ إليك بما لم أُفْض به إلى مخلوق سواك؛ إذ ليس في مقدوري بعد الآن أن أحبس في صدري ما مر بي من أهوال.
لقد سمعت عن طريقة التعذيب بالضوء، أما أنا فقد عُذِّبت بهذه الطريقة، فهم يجلسونك في وسط حجرة فيها مصابيح كهربائية قوية، يسلطونها على عينيك ولا يسمحون لك أن تنام، فإذا شرعت تغفو أو تغمض عينيك أيقظك الحراس بضرباتهم، وجلست أنا هذه الجلسة اثنتين وسبعين ساعة كاملة بلا نوم ولا طعام ولا شراب، وجشأت في أثنائها نفسي، واحترقت حدقتا عينيَّ كأنهما قطعتان من فحم ملتهب، وفي آخر هذا العذاب سُلِّطَ عليَّ شخص قوي الجسم مفتول العضلات يواصل تعذيبي ويحقق معي.
آه، ما أعظم مهارة هؤلاء الوحوش الاشتراكيين! إنهم يعرفون كيف ينتزعون منك الاعترافات الاختيارية، ولا يخالجني شك في أننا قد بلغنا الغاية في أساليب التعذيب، وأن الجستابو (شرطة هتلر السرية) لا تستطيع أن تعلمنا منها شيئًا، فهم يسلطون على ضحاياهم أساليب مختلفة من الجوع والعطش والحر والبرد، يتقنها من يقومون بها من أمثال بدروسكي أعظم إتقان، ولقد شاهدت في سجوننا أحد الموظفين يهيئ ضحاياه للتحقيق بالطريقة الآتية: قُدِّمَ لهم أول الأمر طعام كثير الملح كالرنجة، ومُنِعَ عنهم الماء، حتى إذا حان موعد سؤالهم كادت تذهب عقولهم من شدة الظمأ، وأخذ وهو يسألهم يتجرع جرعات طويلة من الماء البارد أو البيرة والسجين المعذب يتطلع إليه.
وأنا أعرف أنباء كثير من الاعترافات انتُزِعَت من أصحابها بعد أن عُلِّقوا من معاصمهم أربعًا وعشرين ساعة كاملة، وأعرف عدة حالات اقتُلِعَ فيها شعر الضحايا من جذوره مع قطع من جلد رءوسهم، آه ما أعظم مهارة هؤلاء السادة المعذبين! فهم يعرفون متى يسلطون علينا الآلام الشديدة، ومتى يلجئون إلى أنواع التعذيب البطيء المحطِّم للأعصاب؟
ولقد ضربوني أيضًا، ولم يضربوني مرة واحدة بل مئات المرات، ثم كان ذلك الفزع الأكبر والعذاب الأليم الذي لم أفض به لأحد غير زوجتي، فقد كان لا بد لها أن تعرفه، لقد أدخلوني ذات مساء في حجرة التعذيب، وأخذوا يضربونني بقطائل طويلة مبتلة، وكان ثلاثة رجال يتناوبون هذا الضرب، وبدءُوا عملهم بأن انتزعوا ملابسي حتى أصبحت كما ولدتني أمي، ثم أخذوا يضربونني على وجهي وفوق كليتي، ثم ألقوني على المنضدة، وأمسكني اثنان من الجزارين، وأخذ ثالثهم يضربني بالقطائل المبتلة وبكل ما أوتي من قوة بين فخذي … على عورتي.
تصوَّر أقصى ما تستطيع أن تتصوره من الألم، ثم ضاعف هذا ألف ألف مرة تكن لديك صورة قريبة مما قاسيته من العذاب وقتئذٍ، إن أولئك الوحوش قوم مرضى قد خرجوا عن آدميتهم وأصبحوا وحوشًا ضارية.»
فهمست قائلًا: «كفى يا جرجري، حسبك ما قلت.»
– «وغشي عليَّ، وقضيت في غشيتي عدة أيام، فلما أفقت وجدت نفسي في مستشفى السجن، وأدركت أني أصبحت لا أهتم بشيء في هذا العالم، وعجبت كيف سولت لي نفسي أن أقاومهم هذه المقاومة كلها، وأخذت ألعن نفسي أشد اللعنات لأني كنت رجلًا أبله، أقيم وزنًا للمبادئ والأخلاق، فأمضيت كل ما طلبوا إليَّ أن أمضيه من غير أن أقرأه أو أبالي بما عسى أن تكون عاقبته، ولما أطلقوا سراحي ألفيت أن لا نفع في لزوجتي.
ويظن أولئك الحمقى أنهم عوضوني عن هذا كله بما منحوني من ألقاب وأوسمة، ويخيل إليهم أني نسيت، والحق أني كلما علا قدري في خدمتهم، وكلما ازددت قربًا من الكرملن، اشتد كرهي لهم وحقدي عليهم وتعطشي للانتقام منهم.»
وسأضطر في الأشهر التالية في أثناء مقامي في أمريكا إلى الاستماع إلى كثير من الأقوال عن «الحضارة الجديدة» في روسيا السوفيتية، وعن «اشتراكيتنا» و«ديمقراطيتنا الاقتصادية»، وأعود بذاكرتي في بعض الأحيان — وأنا أستمع إلى هذه الأقوال — إلى ما فعلوه بجرجري، فتجشأ نفسي وينتابني نوع من الدوار، فأحول أفكاري من فوري إلى شيء آخر، شيء يدخل على نفسي بعض السرور حتى يزول عني دواري.
والتقيت في موسكو في تلك الأيام الأخيرة من مقامي فيها برجل آخر، ولا يزال هذا اللقاء القريب منقوشًا في ذاكرتي، ويؤسفني أني لا أستطيع أن أبوح باسم هذا الرجل، وحسبي تعريفًا به أن أقول: إنه من كبار الشيوعيين وأوسعهم نفوذًا وأقواهم صلة بالهيئة الحاكمة في البلاد، وإني قد عرضت حياتي للخطر في يوم من الأيام لأنقذ حياته، وإنه لم ينس لي هذا الصنيع، وظننت أنه يحسن بي ألا أذهب لوداعه، ولكن يلوح أنه علم بأني أوشك أن أغادر البلاد فطلب هو إليَّ أن يراني، واتفقنا على أن نلتقي لقاء يظنه غيرنا قد جاء مصادفة، في المتنزه الصغير المقابل لمسرح بلشوا في ميدان تيترالني.
وما كدنا نجلس على دكة في المتنزه حتى بادرني بقوله: «وهكذا تم لك الأمر وستغادر البلاد فعلًا؟ أهنيك! أهنيك من أعماق قلبي.»
وقلت له: «لقد كنت أظن أن من الخير ألا أزورك مودعًا! ولست أشك في أنك تعرف السبب.»
– «ولكني أحسست أن من واجبي أن أتحدث إليك يا فكتور أندريفتش، وأنا أعرف رأيك في الأحوال المحيطة بنا، نعم، إنك لم تفض إليَّ بشيء منها ولكني مع ذلك لا أجهلها، وهذا هو الذي بعث في الرغبة في أن أزورك ناصحًا ومحذرًا، فنحن في هذه البلاد نمسك لساننا فلا ننطق بشيء، أما في خارجها فأنت معرض لخطر الإفصاح عن شعورك؛ ذلك أن الحرية تفتن الإنسان وتسلبه عقله فإذا خرجت من هذه البلاد فستحس بأنك أصبحت آمنًا فتكبو من حيث لا تدري، فإذا فعلت فستُدْعَى فجأة إلى العودة بحجة طلية لا غبار عليها في ظاهر الأمر، لتستشار في أمر من الأمور مثلًا، فإذا جئت فلن تعود بعدها أبدًا.
ورجائي إليك ألا تتأثر بالوسط الجديد فتركن إلى السلامة الكاذبة الزائفة، ولا تنس أنك سيحيط بك عيون ومخبرون أكثر ممن يحيطون بك في هذه البلاد، فإذا استمسكت بهذه النصيحة وحدها فستخرج من هذه التجربة سالمًا من الخطر، واعلم أن نظامنا كله إنما يقوم على التجسس والتحرش، وهذا النظام لا يتبع في داخل البلاد فحسب، بل إنه في خارجها أشد وأدق منه في داخلها، وهو في كل يوم يزداد دقة وإتقانًا؛ ذلك أن سادتنا يعلمون حق العلم أننا نخفي مشاعرنا ونحيطها بستار كثيف، كما تخفي الحلازين أجسامها في أصدافها، وهم يريدون أن يَسْبِروا أعماقنا ليعرفوا مخبآت صدورنا.
إن من بين كل خمسة رجال ممن يعملون هنا في مكاتب الحكومة جاسوسًا يعمل لحساب إحدى هيئات التجسس القائمة في البلاد، أما في البلاد التي ستذهب إليها فإنهم يكادون يبلغون واحدًا في كل ثلاثة، وليسوا كلهم روسًا فإن لدينا كثيرين من الأمريكيين المأجورين لنا يعملون لحسابنا، هذا فضلًا عن المتطوعين الذين يعملون من غير أجر خدمةً لقضيتنا، وهؤلاء جميعًا سيلقون عليك أسئلة بريئة، وستستثار حتى تتكلم وتشكو، وسيعلق من يعملون لحسابنا على ما يقرءُون في الصحف وما يسمعون في المذياع، ولا غرض لهم من هذا إلا أن يستدرجوك من حيث لا تعلم، فينطقوك بما تخفيه في نفسك.»
– «أعتقد يا صديقي أني أعرف دقائق هذا النظام، وسأحتاط أشد الحيطة من أن أقع في شراكه، وأنا شاكر لك فضلك …»
– «وستجد يا فكتور أندريفتش من حولك أناسًا ينقبون عن كل ما يتصل بك، وسيحيط بك كثيرون يخافونك ويظنون أنك قد تكون أنت نفسك عينًا عليهم، تلك هي الخطة الشيطانية في نظامنا المحكم، وهي خطة تقضي بألا يثق الواحد منا بأخيه، وأنا أعرف أنك قد ضقت ذرعًا بهذا كله، فإذا شئت ألا يُقْضَى عليك فليس يكفيك أن تفهم نصحي وتحذيري، بل يجب أن تشعر به وأن يتغلغل في أعماق نفسك.»
وافترقنا وكنت كلما فكرت فيه في أيامي المستقبلة عاد إلى مخيلتي على الدوام منظرنا الغريب على دكة المتنزه، وتذكرته وهو يعني بشد حافة قبعته ليخفي بها وجهه، وكيف كان يحاول تغطية أكبر جزء من رأسه بطوق سترته حتى لا يتعرف عليه إنسان، ويقيني أن هذا الرجل من الرجال الأفذاذ بل إنه يكاد يكون معجزة من المعجزات، فهو من الروس المهذبين الوطنيين الذين لم ينجوا من أهوال التطهير فحسب، بل إنه يجلس باسمًا عاملًا قديرًا بين أرباب الكرملن.
ولم يأتِ لوداعي يوم سفري من محطة قازان إلا أرينا وحدها، وأخذت أواسيها وأقوي قلبها، ولكنني في أعماق نفسي كنت حزينًا مكتئبًا يكاد يفيض الدمع من عيني، فقد كنت أعرف ما لم تعرفه هي، بل ما لم تكن تستطيع أن تحرزه، وهو أن لقاءنا هذا قد يكون هو اللقاء الأخير، ولشد ما أكسف هذا العلم بالي وأضرم قلبي، ولكن ماذا عساي أن أقول لها؟ لا شيء، لقد كان الخير كل الخير في ألا تعرف شيئًا، وأن تظل جاهلة ما اعتزمته كل الجهالة؛ ذلك أنه لم يكن ثمة شيء تسر له في سفري إلى أمريكا، بل كل ما فيه آلام مبرحة وأحزان شاملة يعجز عن وصفها البيان، ولست أنا الملوم لأني غادرت وطني وأهلي، بل الملوم هو ذلك النظام الوحشي الفاسد، إذ لم يكن أمامي سبيل أسلكها لأحسن بها إلى بني وطني المعذبين إلا أن أفرَّ من بينهم، ثم أحاول بعد فراري أن أطلع العالم على كل ما أعرفه بخير ما أستطيع من الوسائل، تلك هي التبعة التي يلقيها علي واجبي نحو مواطني الروس، وتلك هي الغاية المنطقية التي لا بد أن تنتهي إليها حياتي كلها.
وكان في جزء العربة الذي أجلس فيه سريران: أحدهما لي والآخر لرجل أشمط الشعر عذب الحديث، تبدو في وجهه مخايل الذكاء، وفي عينيه الرقة والحنان، وتعارفنا على الطريقة السوفيتية، فكان كلانا يخفي عن رفيقه مضمر سره ويرتاب فيه، وأخرجنا ما معنا من الطعام، وأخذنا نتحدث في شئون الحرب، وقلت حين سألني عن مقصدي: إني ذاهب إلى فلادفستك، وكان جوابه هو عن سؤالي نفسه أكثر غموضًا من جوابي فقال وهو يشير بيده إشارة إشفاق إنه مسافر إلى ما وراء جبال أورال.
ودق بابنا طارق في أثناء الليل، ودخل علينا ضابط أنيق الملبس من ضباط القسم السياسي، وتوجست خيفة من دخوله فقد كانت أعصابي لا تزال متوترة لا تكاد تصدق أني خارج فعلًا من اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، وإن كنت في عقلي لا يخالجني شك في أني خارج منها فعلًا.
وقال لنا الضابط بعبارة مؤدبة: «أرجوكما أن تبرزا أوراقكما.»
وناولته من سريري الأعلى جواز سفري، ففحص عنه بعناية، ووازن بين وجهي وبين صورتي الشمسية، وأعاد إليَّ الكتيب الأحمر، ورفع يده بتحية خاطفة، وكانت دهشتي عظيمة حين أظهر له زميلي جواز سفر خارجي شبيهًا بجواز سفري، فقد كنا كلانا مسافرين إلى خارج البلاد، وقد كذب كلانا على زميله، وأحس كل منا بالخجل والارتباك.
ولما غادرنا الضابط قال لي: «قل لي يا فكتور أندريفتش لِمَ يكذب كل منا على الآخر؟ ولِمَ يخافه؟ إنا روسيان يعرف كلانا من الناس والأماكن ما يعرفه الآخر، ومع ذلك فإنه يخشى زميله ولا يثق به، إني لا أهتم بالسياسة، وأنا ذاهب إلى بلاد المغول الخارجية لأربي الماشية اللازمة لبلادي ولأستورد منها اللحوم، وتلك هي مهمتي كلها، وما أشد أسفي لأني كذبت عليك!»
وقلت له: «وأنا مسافر إلى أمريكا لأختار ما يلزم لبلادي من المصنوعات المعدنية عملًا بقانون الإعارة والتأجير، وأرجو ألا يسوءك أني كذبت عليك، وأنا آسف لذلك كل الأسف.»
– «لم يرتكب واحد منا ما يطلب الصفح عنه، وليس منا من يفضل زميله في هذا، ألا تبًّا لهذا الارتياب الذي لا آخر له … ولهذا التكتم الصبياني.»
ونزل زميلي من القطار بعد أن عبرنا جبال أورال ليستقل قطارًا آخر، وسرعان ما حل مكانه رجل كبير الجسم عليه معطف سميك من الجلد، وكان لجبًا صخابًا متغطرسًا، اعتاد أن يأمر الناس ويطيعوه ويوقروه، وجاء من خلفه رجل أصغر منه سنًّا يرتدي ملابس عسكرية، وإن لم تزينه شارة تدل على مرتبته، وفي منطقته مسدس، وهو يحمل متاع رئيسه ويبذل جهده ليوفر له أسباب راحته، وكانت هذه صورة مألوفة لي، فهي صورة موظف الحكومة الكبير وتابعه الخاص.
وعرفت القادم من فوري، فهو الرفيق برودين الرئيس السابق للجنة التنفيذية لإقليم ستالينجراد، وخلع معطفه وظهرت شارة عضوية مجلس السوفيت الأعلى ووسام لينين يحليان صدره، وكان كبير البطن ذا عينين صغيرتين ماكرتين، تطلان من وجه مستو لا ينم عن شيء من إحساساته، وكانت يداه المكتنزتان مدرمتي الأظافر بعناية فائقة، وأخرج الرفيق برودين من جيبه مسدسًا من طراز بروننج ووضعه تحت وسادته، وكان حريصًا في الحالتين على أن يظهر المسدس للأنظار، حتى لا يخطئ أحد فيما له من عظيم الشأن وقوة السلطان، فلما أتم هذا نزل من سماء عليائه وألقى نظرة على رفيقه المسافر معه.
وسألني قائلًا: «ألم أرك في مكان ما؟»
– «نعم يا رفيق برودين، لقد رأيتني في مجلس الوزراء، ولقد شهدت عدة اجتماعات كنت أنت فيها، واسمي كرافتشنكو، فكتور أندريفتش كرافتشنكو.»
– «حسن حسن، وإلى أين أنت ذاهب؟»
– «إلى أمريكا، إلى واشنجتن.»
– «أحق هذا؟ هذا شيء جميل جدًّا، إن أولئك الأمريكيين شياطين حاذقون أقوياء، ومن واجبنا أن نعرفهم حق المعرفة، ومن حسن الحظ أن صناعتهم تمدنا بالمعونة.»
وكان برودين مسافرًا إلى إقليم ألتاي في مهمة رسمية، وقد بدأ رحلته بالطائرة، ثم اضطر إلى النزول لخلل أصاب محركها، وها هو ذا يحبو إلى مقصده حبوًا بطيئًا بالسكة الحديدية، وكان من حسن حظه أن جاء معه بكثير من الطعام، وسيبحث فضلًا عن هذا عما يستطيع أخذه من مطعم القطار، وأكد لي أن رحلتنا ستكون ممتعة بلا ريب، وسألني هل ألعب الورق وهل لي في بعض الشراب؟
وفتح التابع الذي كان برودين يعامله معاملة الرفيق إحدى الحقائب المحشوة بالطعام الشهي، وأخرج منها وجبة فخمة، وقبلت دعوة رفيقي الملحة وشاركته في طعامه الشهي، ولكني أصررت على أن أخرج أنا الآخر ما كان معي، وفضلًا عن هذا فإن مدير عربة الطعام التي في القطار قد راعه وجود برودين العظيم فأخذ يتملقه ويتذلل له، فكان يقدم لنا كل ليلة في عربته بعد أن تغلق أبوابها دون خلق الله العاديين وجبة عشاء شهية، يشاركنا فيها عدد من كبار الركاب، ومنهم واحد من القواد وآخر من أمراء البحار.
وكنا نجتمع فيما بين وجبات الطعام في هذا القسم من العربة أو ذاك، يلعب بعضنا الورق، ونتحدث حديثًا متقطعًا في شئون الحرب، ومناظر الريف الطبيعية، ومزايا أنواع النبيذ القفقاسي المختلفة، وما إليها من المسائل، وكنا كلما اجتمعنا للعشاء طلب إلينا برودين في جد ووقار أن نشرب نخب أستاذنا وزعيمنا المحبوب.
ولم ينغص علينا سرورنا أثناء رحلتنا إلا من كنا نراهم أحيانًا في المحطات من الأطفال الجياع أنصاف العرايا المشردين، وقذف برودين من نافذة العربة في إحدى المحطات عظام دجاجة قرض كل ما كان عليها من اللحم، فهجم الأطفال الجياع من فوره على هذا اللقية الثمينة وأخذوا يتنازعون كل قطعة منها بعنف شديد، وتجهم وجه برودين وضاقت عيناه وتمتم بضع كلمات عن الحرب العوان وآثارها، وغضب زعيم «الصعاليك» مما رأى، ولكنه مع ذلك أمر تابعه أن يعطي أولئك المشردين بعض الخبز، ثم أنزل ستائر العربة، وأتى على ما بقي من الدجاجة.
وعرفنا أن من بين ركاب القطار الذي نستقله ضيوفًا من الأجانب ذوى الشأن، وهم وفد من إحدى نقابات العمال البريطانية يرأسه ولتر سترين، وكانوا يركبون عربة خاصة ومعهم عدد من الموظفين السوفيت والمترجمين، ويقدم لهم الطعام من مطبخهم الخاص، ويحال بينهم وبين الاتصال المباشر بشيء من الحقائق عن بلاد السوفيت، على أن ولاة الأمور لم يجدوا وسيلة يخفون بها عن أنظار هؤلاء الضيوف رؤية المشردين الجياع المهلهلي الثياب في بعض المحطات، ولكم تمنيت أن يوحي هذا المنظر المحزن إلى سيرولتر ورفاقه البريطانيين ببعض الحقائق المرة عن أحوال بلادنا المنكوبة.
وكانت القُطُر المحملة بالعتاد والسلاح لا ينقطع مرورها بنا متجهة إلى جبهة القتال الغربية، وكثيرًا ما كان برودين يصيح قائلًا: «الإعارة والتأجير» كلما مر قطار بنافذة عربتنا، فكان القائد الذي معنا يؤمن على كلامه ويقول: «اختراعات أمريكية عجيبة!» وكلما قربنا من فلادفستك ازداد سيل البضائع الأمريكية.
ولم يلبث الرفيق برودين أن نزل من القطار وسار من ورائه تابعه وهو يئن تحت عبء متاعه الثقيل، وتنفس مدير عربة الأكل الصعداء بعد نزوله، وخُيِّل إليَّ أني أسمع ما توسوس به نفسه، ولم يخالجني شك في أن ما ظننته يقوله لنفسه كان عين الصواب، واحتل مكانه عضو آخر من علية السوفيت لا يقل عن سابقه اعتزازًا بنفسه واستمتاعًا بلذيذ المأكل والمشرب، وإن كان أقل منه استكبارًا، وتبين لي أنه رئيس إدارة الفنون في الإقليم، وأنه موفد في «مهمة ثقافية» إلى أولايود في الجمهورية المغولية.
وظلت أعصابي شديدة التوتر طوال الرحلة، فقد كنت كلما فحص عن أوراقي — وما أكثر ما كان يفحص عنها — تملكني خوف لا موجب له، فلم أذق طعم النوم إلا غرارًا، ولما غفوت آخر الأمر رأيت فيما يرى النائم أن جماعة من أوشاب القسم السياسي أخذوا يجرونني من القطار جرًا، وخُيِّل إليَّ في أحد هذه الأحلام المزعجة أن إنسانًا يهمس في أذني قائلًا: «لقد ظننت أننا قد خفي علينا أمرك … لقد حدثتك نفسك بأنا سنسمح لك بالفرار.» وأنَّى تلفتُّ حولي فأبصرت جرشجورن، ثم استيقظت وقد بلَّل العرق البارد جسمي.
ولما وصلت إلى فلادفستك نزلت في فندق السياح القادمين من داخل البلاد وأبصرت فيه فرقة موسيقية لا تنقطع عن العزف، كما شاهدت النبيذ وغيره من الخمور بكميات موفورة، ورأيت النساء التابعات للقسم السياسي يؤدين أعمالهن، وزرت السوق الحرة في المدينة حيث يباع الطعام والثياب بأثمان السوق السوداء الخيالية، ورأيت في هذه السوق من البضائع أضعاف ما رأيته في أي مكان آخر في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، ولم يكن خافيًا أن معظم هذه البضائع مستورد من أمريكا، وما من شك في أنها مسروقة من الرسالات المستوردة بمقتضى قانون الإعارة والتأجير، أو أنها قد جاء بها البحارة الروس، وشاهدت حذاءين عاديين من أحذية السيدات يباعان في هذه السوق بثلاثة آلاف روبل، كما شاهدت رطلين ونصف رطل من لحم الخنزير تباع بألف ومائتي روبل، ورأيت العلب الصغيرة التي تحمل بطاقات أمريكية حمراء تباع كل واحد منها بمائتي روبل أو أكثر.
وكانت الحركة في فلادفستك قائمة على قدم وساق، يشاهد فيها الإنسان أينما حل جماعات من البحارة العسكريين في حللهم الرسمية والبحارة المدنيين في ثيابهم العادية، وكانت جبال من العتاد والمؤن الأمريكية مكدسة على الأرصفة، والمدينة زاخرة بالحياة التي بعثها النشاط الحربي.
ثم حل اليوم الذي انتقلت فيه أنا وغيري ممن يريدون أن يعبروا المحيط الهادي إلى جمرك الميناء، وأدخلنا واحدًا بعد واحد في حجرة صغيرة من حجرات المكاتب الرسمية ومع كل منا متاعه، وجاء ثلاثة من رجال الشرطة السرية، واحد منهم يرتدي ملابس مدنية والآخران يرتديان ملابس عسكرية، وفتحوا كل ما معنا من حقائب ولفائف، وفتشوها تفتيشًا دقيقًا، ثم فتشوا جيوبها وبطاناتها وأخرجوا في بعض الأحيان القمصان وسائر الملابس، ثم فتشوني أنا نفسي أدق تفتيش، فقلبوا كل جيب من جيوبي وكل شبر من بطانة سترتي، بمهارة منقطعة النظير، ولم يغفلوا عن تفتيش محفظة جيبي، وكان أحد الرجلين اللذين يرتديان الحلة العسكرية يدوِّن بعض المذكرات ويسجِّل الأسماء وأرقام التليفونات.
ووجدوا معي مظروفًا يحتوي على صور شمسية صغيرة لبعض أعضاء أسرتي، فأثار ذلك فضولهم، وأخذوا يسألونني عن كل واحد في كل صورة.
وأشار موظف الجمرك صاحب الثياب المدنية إلى إحدى الصور وسألني قائلًا: «ومن هذا الضابط؟»
– «هو أخي قنسطنطين.»
– «وأين هو الآن؟»
– «لقد قُتِلَ في جبهة القفقاس.»
– «ولِمَ تأخذ كل هذه الصور معك؟»
– «إنها صور أهلي، وسأكون بعد قليل وحيدًا بعيدًا عنهم.»
– «ولكنك ستعود إلى بلاد الاتحاد السوفيتي، أليس كذلك؟»
وزادت ضربات قلبي قليلًا، وغصصت بريقي قبل أن أجد ما أقوله له، ولكن يلوح أن قوله هذا كان رمية من غير رام؛ لأنه فرع من استجوابي وأجاز مروري، وسرعان ما كنت على ظهر السفينة كوميلز القاصدة إلى فتكوفر بكندا، تحمل نحو عشرين راكبًا من رجال ونساء كلهم ذاهبون للعمل في الولايات المتحدة.
وخُصِّصَت لي قمرة صغيرة مريحة في جناح ربان السفينة، وسرعان ما استسلمت فيها لأفكاري، ثم صعدت إلى ظهر السفينة، وأخذت أرقب منها أرض الروسيا تبتعد عني رويدًا رويدًا، وكانت هذه آخر نظرة ألقيها على بلادي المعذبة التي يرزح فيها ملايين البائسين تحت نير حكم استبدادي لا يماثله في التاريخ حكم آخر في قسوته وطغيانه المنظم، وجاءت الحرب الآن فأضافت إلى ما فيه من إذلال واستبعاد شامل فظائع وأهوالًا لا نظير لها في عهد من العهود، ولم يشهد شعب من شعوب العالم ما شهده الشعب الروسي من بؤس وشقاء وطغيان سياسي مروع، ولم يقاس بلد من البلاد ما قاسته بلادنا من أهوال تسترها أقوال ونداءات عن «تقدمه» ورقيه، ولم أطق البقاء طويلًا على سطح السفينة فقد غلبتني الأفكار السود والعواطف الثائرة، وكنت في قرارة نفسي أودع أصدقائي وأهلي وتاريخي الماضي، وضاق بذلك صدري فعدت إلى قمرتي لأنفرد فيها بأفكاري.
وكان ما استقر عليه رأيي من عزم على مغادرة البلاد طلبًا للحرية التي تمكنني من أن أجهر بالحقيقة المرة عما تقاسيه بلادي من آلام ومن استعباد سياسي، وأن أعمل لتحرير هذه البلاد من هذه الآلام؛ كان هذا العزم قد أخذ يختمر على مهل في أعماق نفسي، فلم أعرف متى نبتت أصوله، ومهما يكن مبدؤه فقد مضى عليه الآن عدة سنين كان في خلالها خطة مرسومة مقررة ينتظر اللحظة المواتية ليخرج إلى حيز الوجود، وأدركت في هذه الساعة ما للفراق من ألم لا يقل عن ألم الموت، وأحسست كأنهم يحملونني إلى قبري، وعرفت أني أحب بلادي وبني وطني حبًّا أثار في قلبي من العواطف ما لا أكاد أطيقه.
وعادت إلى ذاكرتي مناظر من عهد طفولتي وشبابي وكهولتي، ولم يكن ما فيها من لحظات السعادة بأقل ألمًا لي من هذه اللحظة لحظة الفراق الأبدي ولحظة العذاب والمذلة، وفكرت فيما مر بي من تجارب في عهد القحط الأول، وفي عهد التنظيم الجماعي، وفي عهد القحط الثاني الذي كان من صنع الإنسان لا من صنع الطبيعة، وفي عهود التطهير والجوع والبرد، وفي ليالي التعذيب في نيقوبول، وفكرت في معسكرات الاعتقال المنتشرة في طول البلاد وعرضها، وفي العشرات بل وفي المئات من أعز الأصدقاء الذين تذبل زهرة حياتهم في السجون وفي معسكرات السخرة.
ترى أين ذهبت أمي الرقيقة القلب العزيزة النفس؟ وأين أبي الكريم الطاهر اليد القوي الإرادة الشديد الولاء لمبادئ الحرية الحقة؟ هل ينجوان بحياتهما من أَسْرِ الألمان؟ وهل ينتقم منهما بسبب هذا القرار الذي عُقِدَت النية على تنفيذه؟ وماذا يفعلون بإيرينا؟ هل يعاقبونها على ما فعلت أنا؟ وهل تغفر لي أني تركتها تجهل خططي كل الجهل؟ وماذا يرى أخي يوجين في قراري وهو رجل لا يعبأ قط بشئون السياسة؟
وأنتم أيها الأصدقاء والأحباء الأحياء منكم والأموات هل تدركون سبب اضطراري إلى فراقكم؟ وهل تفهمون أني لا بد لي من هذا الفراق لأزداد منكم قربًا، ولأحاول أن أتحدث عنكم ومن أجلكم إلى عالم قد أضلته الدعاوة وأعماه التفكير المغرض.
وإذ كنت مسافرًا في سفينة تخفق عليها الراية السوفيتية فقد كنت من الوجهة الرسمية على أرض سوفيتية، وظل القلق الذي كان لا موجب له ينغص عليَّ حياتي في يقظتي، ويقض مضجعي في ساعات نومي؛ ذلك أن كلمة تفلت من بين شفتي في حضرة العيون المنبثين من حولي والذين لم أكن أشك في وجودهم على ظهر السفينة الصغيرة، قد تكفي لتحطيم كل ما علقته على سفري من آمال وما رتبت عليه من خطط.
ومررنا بشواطئ اليابان، وتملَّكَنا الرعب حين رأينا مدمرتين يابانيتين من خلفنا، وأبصرنا في اليوم الثاني طائرة حربية يابانية تحوم فوق رءوسنا، ومضت بضعة أيام رأينا على أثرها أرضًا تظهر عند الأفق، وقيل لنا: إنها أرض جزيرة نستطيع أن نشاهد منها بلاد أمريكا، وأثارت هذه اللمحة الأولى من الأرض التي يملكها الأمريكيون مشاعر البحارة والركاب على السواء، ولما اقتربنا من الجزيرة رأيت الراية الأمريكية تخفق فوق طائفة من البيوت.
واقترب منا قارب بخاري، ونزل منه إلى سفينتنا ضابطان بحريان أمريكيان، ودخلا حجرة الربان، وبقي ثلاثة ملاحين في القارب، وجئنا كلنا إلى جانب السفينة لنلقي أول نظرة على الطبقة الرأسمالية المعادية لطبقتنا، والتي حذرنا في بلادنا من مكرها ودهائها، فلما رأينا أفراد هذه الطبقة لم نجد أن هؤلاء الشبان الطوال القامة الذين لوَّحت الشمس وجوههم يبلغون من الخطر ما وصفوهم لنا به، وكان معنا في سفينتنا عدد من الفتيات يقمن بأعمال الترجمة إلى اللغة الإنجليزية، وسرعان ما أخذنا كلنا نتجاذب أطراف الحديث.
ومن حسن حظ هؤلاء الشبان الأمريكيين، أنهم كانوا يجهلون ما يعتقده فيهم الروس من غدر وخبث؛ ولذلك لم يلق علينا واحد منهم سؤالًا سياسيًّا، واتضح لنا أن كل اهتمامهم محصور في البنات الروسيات، وأن هذا الاهتمام لم تكن له أقل صلة بالسياسة، وأدار واحد منا حاكيًا في قمرته وأخذ يسمع الثلاثة البحارة الذين في القارب أغنيات روسية، وطلب إلينا أحدهم أن نغني إحدى أغاني بلادنا، ولكنا مع الأسف لم يكن بيننا من يحسن الغناء.
ولما غادرنا القارب أخذنا نتحدث عن الأمريكيين الذين شاهدنا توًّا أمثلة منهم، وبلغت منا الحماسة كل مبلغ، وأثَّرت في قلوبنا نظرات الشبان وهمتهم، وما أظهروه نحونا من دلائل المودة والصداقة، حتى قام أحد الروس المتطرفين الذين لا تخلو منهم أية جماعة سوفيتية وألقى ماءً باردًا على هذه الحماسة.
فقد قال هذا الرجل بلهجة الحازم المسيطر: «أليس من واجبنا أيها الرفاق ألا نبالغ في إعجابنا بهؤلاء القوم؟ إن عليكم أن تذكروا أن هؤلاء الشبان «الحسان» «الظرفاء»، ليسوا إلا خدمًا وأبناء لأمة رأسمالية من الأمم المعادية لنا.»
وسرعان ما أعادتنا ألفاظه إلى الحقيقة التي غفلنا عنها ساعة من الزمان، وظهرت على بعضنا دلائل الخجل؛ لأنهم استسلموا بهذه السرعة للمغريات التي حُذِّرْنَا منها تحذيرًا صريحًا.
وبعد تسعة عشر يومًا من بداية رحلتنا وقعت عيوننا على كندا، وجاء إلى سفينتنا مفتش كندي وحيانا بلغة روسية ركيكة، وعلى وجهه ابتسامة لطيفة، وما هي إلا لحظات حتى دخلنا ميناء فنكوفر، ولم تمض عشرون دقيقة حتى وصلنا إلى رصيف الميناء في غير جلبة أو اضطراب، وصعد إلى سفينتنا مفتشو الجمارك الكنديون، وكانوا ثلاثة اثنان من المدنيين وثالث من الضباط البحريين، ووقفنا صفوفًا وأخرجنا جوازات سفرنا، وأُلْقِيَت عليها نظرات عاجلة، ثم أعيدت إلينا، ولم يفتش أحد حقائب ملابسنا، ولم يقلب أحد جيوبنا، أو بطانات ثيابنا ليبحث عما خبأناه فيها من أوراق، وأغرب من هذا كله أن أحدًا لم يلق علينا سؤالًا ما، وقصارى القول أنَّا لم نشهد ذلك الخوف من المواطنين السوفيت الذي كنا نتوقع أن نشاهده، ولم نر ما يبرر «الحذر» الذي هُيِّئت له أذهاننا.
ولم تمضِ على وصولنا لرصيف الميناء ساعة واحدة حتى كنا أحرارًا نذهب حيث نشاء! ودهشنا جميعًا أشد الدهشة من هذه المعاملة، حتى أشد الشيوعيين تطرفًا في الجماعة، ومنهم ذلك الرفيق الذي كان سببًا في إخماد روح إعجابنا بالبحارة الأمريكيين، بل إن هؤلاء الشيوعيين المتعصبين قد خيبت هذه المعاملة ظنونهم، فقد كان مثلهم كمثل من يحملون المطريات ويلبسون معاطف المطاط في يوم مشمس غير مطير، ترى هل كان هؤلاء القوم سذجًا أو كانوا يحتقرون من يحملون إلى بلادهم بذور الثورة؟ لشد ما كانت هذه الفكرة تؤلم أولئك الشيوعيين المتطرفين!
وبدا لنا أن إطلاق سراحنا بهذه السرعة لنجول في أرض كندا في زمن الحرب أمر لا يمكن أن يكون، ولا يقبله العقل، بل إنه يكاد يشعر بالاستهانة بنا واحتقارنا.
وجمعنا الرفيق لوماكين القنصل السوفيتي الذي قدم من سان فرانسسكو، وأخذ يتحدث إلينا في إحدى حجرات الاستقبال في السفينة، ويلقي علينا خطبة أخرى مملَّة غير مقنعة، يحذرنا فيها من الأخطار التي نتعرض لها في البلاد الرأسمالية المضللة، ويقيني أن هذا الرجل المسكين كان يقول ما يقوله أداءً لواجبه، ولما فرغ من خطبته خرجنا إلى البر ولم يكن على صقالة السفينة إلا حارسان: أحدهما كندي والآخر روسي.
ووقفت بضع ثوانٍ قبل أن أنزل إلى فنكوفر، وكنت في أعماق نفسي أدرك حق الإدراك خطر هذه اللحظة، فقد أصبحت للمرة الأولى في سني حياتي البالغة ثمانية وثلاثين سنة خارج حدود بلادي، وصرت أو خُيِّلَ إليَّ على الأقل أني صرت للمرة الأولى في سني كهولتي تقصر عني يد ستالين ويد شرطته السرية.