رعايا ستالين في الخارج
ها هي ذي فنكوفر! لقد استولى عليَّ دوار شديد وشردت أفكاري، ها أنا ذا حر طليق! تُرى من هو ذلك الرجل الذي قال في يوم من الأيام: إن الحرية لا يفهم حقيقة معناها إلا من كان من قبل في عداد العبيد؟ لقد خُيِّلَ إليَّ وأنا أسير في شوارع المدينة الكبرى مع جماعة من رفاقي في السفينة أني لم أر قبل مثل هذا العدد من الناس الأحرار السعداء الهادئي الأعصاب البعيدين عن المخاوف يجتمعون معًا في مكان واحد.
وكان أكثر ما أثار أعصابنا هو نوافذ لحوانيت ووفرة ما كان فيها من غذاء وكساء وغيرهما من السلع، لقد كنا أشبه بالأطفال في ملعب نعجب بأشياء لا يراها الكبار إلا أشياء مألوفة لا يدهشون من رؤيتها، وظللت أقول في نفسي وأردد قولي «كأن أحلام الوفرة التي يمنينا بها الاشتراكيون قد تحققت، إن هذا هو ما يمنوننا به في المستقبل الغامض البعيد بعد سلسلة مفرغة من مشروعات السنوات الخمس التي لا آخر لها.» واختلطت هذه الأفكار في عقلي بشيء من الأسى والحسرة، لقد خُيِّلَ إليَّ أن هؤلاء الناس، أن حلفاءنا هؤلاء، بعيدون عن أهوال الحرب وتضحياتها التي ترزح تحت أعبائها بلادي البائسة.
ودخلنا الحوانيت لنبتاع منها بعض السلع التي كانت أول ما اشتراه بعضنا من بلاد الرأسمالية، ولم نكن نصدق أن في مقدورنا أن نبتاع حقًّا كل ما نشاء من الخبز والملابس والحلوى وما إليها من الضروريات والكماليات، إن هذا أقرب ما يكون إلى السحر أو إلى المعجزات، وقد بدت لنا الأثمان زهيدة تافهة، وأخذت البنات اللاتي كن معنا يتهامسن في ذهول عن ثوب رأينه في نافذة حانوت وافتتنَّ بجماله، ولو أنهن شاهدن ثوبًا مثله في موسكو أو فلدفستك في زمن الحرب يبلغ ما بلغه هذا الثوب من الأناقة والفتنة لسرهن أن يدفعهن فيه ألفي روبل أو ثلاثة آلاف، وأجرهن في ثمانية أشهر أو عشرة، وما ادخرنه في عدة سنين، أما في فنكوفر فقد كُتِبَ عليه ١٤٩٨ ريالًا.
واعتزمنا أن ندخل حانوت أحذية، وقوبلنا فيه بالبشاشة والابتسام، وقُدِّمَت لنا المقاعد المريحة … وصاح واحد منا محنق مغيظ: «إن هذا الكلب يعرف أننا أجانب، ومن أجل ذلك يمثل أمامنا هذا المنظر الحقير»، ولكن قوله هذا لم يقنعنا لأننا رأينا أهل البلاد أيضًا يعامَلون نفس هذه المعاملة الطيبة، وأقبل علينا عامل أنيق الملبس حسن البزة عليه ثياب شبيهة بثياب الأوغاد الرأسماليين الذين تمثلهم لنا أشرطة الدعاوة السوفيتية، وعرض علينا أحذية لا حصر لها مختلفة في شكلها وفي المواد المصنوعة منها، وبدت عليه الدهشة من دهشتنا، ولم يعرف لسرور البنات الروسيات وابتهاجهن سببًا.
وتقدمت أنا للحديث وسألت العامل على لسان أحد المترجمين: «أأنت صاحب هذا المحل؟»
فضحك وقال: «لا، بل أنا عامل فيه.»
– «وهل يسوءك أن نسألك كم تكسب من عملك في الشهر؟»
– «لا، ليس في ذلك ما يسوءني قط، إن هذا يتوقف على ما أناله من العمولة، ولعلي أستطيع أن أقول إنه يبلغ ١٥٠ ريالًا.»
ونسي الرجل المحنق المغيظ نفسه برهة قال في أثنائها بالروسية: «مائة وخمسين ريالًا»؛ ذلك أنه كان يفعل ما نفعله نحن في هذه الساعة وهو أن يعرف كم زوجًا من الأحذية يستطيع الرجل شراءها بالثمن الذي سمعناه، ثم قال: «إن هذا الكلب يستطيع أن يشتري ثلاثين زوجًا من الأحذية بمرتبه الشهري.»
وقررنا بعدئذٍ أن نذهب إلى حانوت كساء يبيع القمصان وأربطة الرقبة ومناديل اليد وصديريات الصوف والمعاطف وكثيرًا من السلع الأخرى بأثمان معتدلة، وبدا لنا أن من أغرب الأشياء ألا يهجم على هذا الحانوت المشترون ويبتاعون كل ما به في لمح البصر.
وبدا لنا غريبًا أن هؤلاء الرأسماليين لا يقدمون لك كل ما ترغب فيه فحسب، بل إنهم يحزمونه لك ويشكرون لك أن قد أخذته منهم! وحملنا ما اشتريناه وذهبنا إلى مطعم، ولم يكن أحد يتعقبنا فيما نعلم لأن أحدًا لم يكن يهمه أن يعرف أين كنا، وماذا فعلنا، وماذا قلنا، اللهم إلا إن كان منا نحن من يتجسس علينا، وقدم لنا من الطعام ما كملت به صورة الوفرة التي رأينا بدايتها.
وأقبل علينا رجل كهل أنيق الملبس يدخن لفافة كبيرة أغراه منظر الروس الثرثارين وعرَّفنا بنفسه قائلًا إنه صاحب المطعم، وقال الرجل وهو يهز يد كل منا بعد الآخر: «إنكم أيها الروس قد طعنتم الألمان فكورتموهم! وأقول لكم: إن الروسيا تعمل لإحراز النصر النهائي، وإن من حقكم على حلفائكم أن يحمدوا لكم حسن صنيعكم.»
وقام واحد منا ورد عليه قائلًا: «نعم، إن الواجب أن نحطم طغيان هتلر.»
فقال صاحب المطعم: «إنك محق، إني أعجب بالروس جميعهم أشد الإعجاب، وإن كنت لا أرضى عن الشيوعية، ولا بد لي أن أعترف أن ستالين هو الآخر طاغية.»
وانعقد لساننا كلنا فلم ينبس واحد منا ببنت شفة، وألقى عليَّ الشيوعي المتطرف نظرة بطيئة لها ما وراءها، وقال باللغة الروسية: «ها هو ذا رجل فاشي يتظاهر بالصداقة ويبطن الكراهية لبلادنا.»
وأوشكت أن أدافع عن قول صاحب المطعم، ولكنني أمسكت لساني، فقد تذكرت أني ما زلت بين مواطنين سوفيت وأن حريتي ما زالت مقيدة ببعض القيود.
ولما عدنا إلى السفينة، أخذنا نفاضل بين مشترياتنا وما انطبع في عقولنا على أثر جولتنا في المدينة، وقضينا هزيعًا من الليل نتحدث عن عجائب هذا العالم وما فيه من ثراء وصراحة وبعد عن الحرب وويلاتها، وحرصنا على ألا يزل لساننا بخطأ سياسي يؤخذ علينا، فقال بعضنا لبعض: إن ما رأيناه ليس إلا مظهرًا خداعًا يغشى ما تحته من إرهاب واستغلال وفساد وانحلال، وأزمة مقبلة تنبأ بها ستالين فيما تنبأ به عن مستقبل العالم، وقلنا لأنفسنا إن ما قيل لنا عن الرأسمالية ومن نذر بألا نخدع بثرائها وترفها لم يكن مبالغًا فيه.
وأُخِذْنَا بعد بضعة أيام لنركب القطار، وتنقلت في عرباته كلها لأشاهد مَنْ فيها من الناس، وبدا الركاب جميعًا في عيني التي ألفت المناظر السوفيتية، حتى الذين كانوا منهم في عربات النهار حسني الثياب، فقد أبصرت رجالًا ونساءً لا يعدون أن يكونوا زراعًا أو كتبة أو عمالًا، يرتدون أحذية متينة من الجلد وثيابًا من قماش جميل متين، ومع هذا فقد خُيِّل إليَّ أن هذا الرخاء كله زائف ومبالغ فيه بعض المبالغة.
وجاء إلى عربتنا في اليوم الثاني أمريكي في ثياب عسكرية يصاحبه رفيق له في ثياب مدنية، وألقى الرجل الأول نظرة عارضة سريعة على جوازات سفرنا دون أن تبدو في نظراته أقل ريبة مما يسمح له بها، وأعادها إلينا وهو يبتسم، ولما قيل لنا: إن صاحب الثياب المدنية مفتش الجمارك أخرجنا جميعًا حقائب ملابسنا وفتحناها عن آخرها، فألقى على واحدة أو اثنتين منها نظرة عاجلة ثم قال: «كل شيء على ما يرام، اطووا حقائبكم.»
وحيَّرنا ما بدا لنا من عجز سخيف، ولم نعرف ما عسى أن يكون فيه من مكيدة، وقلنا لأنفسنا: إن الحرية الشخصية أمر لا غبار عليه، ولكن أليس في هذا الإهمال وعدم اليقظة ما يشعر بالفوضى وسوء النظام؟ وانتظر الرجلان بضع دقائق وقد سرهما بلا ريب أن يبصرا الروس في بلادهما، ثم حييانا ومشيا وهما يبتسمان، وكنت أتصور لسبب لا أعرفه أن دخولي الولايات المتحدة سيكون عملًا شاقًّا طويلًا يتطلب تفتيشًا دقيقًا واستجوابًا خلف أبواب مغلقة.
وانتظرنا قليلًا في مدينة تُدْعَى بفلو، وأفدنا من الوقت الذي قضيناه فيه لمشاهدة مناظرها، وتذكرت اسم هذه المدينة لأني كنت أقرؤه على الآلات في المصانع الروسية، وأعجبني ما فيها من علو مبانيها ونظافتها وانقسامها إلى مستطيلات متماثلة، ووقف بعض أهلها الأمريكيين يتحدثون إلينا، ودهشنا لأن أحدًا منهم لم يلق علينا سؤالًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا، وما من شك في أننا سنقضي زمنًا طويلًا حتى نألف الاجتماع بأناس لا يهتمون بالأمور السياسية أو المبادئ النظرية.
وكانت رحلتنا إلى واشنجتن مليئة بما يثير مشاعري، فقد كنت أتحرق لرؤية الأرض الجديدة، وأخذت أطيل النظر، وأنا حائر مندهش في كل بلد جديد، وفي الطرق المرصوفة التي أشاهدها من نوافذ القطار، وفي الزراع الأمريكيين يعملون في الحقول وهم يختلفون كل الاختلاف عن الزراع الروس، ولشد ما تأثرت بالصراحة والسهولة اللتين يتحدث بهما الناس رجالًا ونساءً يتساءلون ويتجاوبون بصراحة وبساطة أشبه بصراحة الأطفال وبساطتهم، لقد صُوِّرَت لي قصص دريزر وستاينبك هذه البلاد في صورة توقعت بعد قراءتها أن أرى فيها الفقر والذلة والحقد المرير، مما لم أر له أثرًا حتى ذلك الوقت، ولست أنكر أني سأعرف فيما بعدُ أن أمريكا قد أوتيت حظها من الشقاء والظلم، ولكن الروسي الذي قدم حديثًا من أرض «الاشتراكية» لم يكن في مقدوره أن يشارك ستاينبك في حقده وغضبه على الأمريكيين، أو أن يرى أن الصورة التي رسمها للفلاح الأمريكي أسوأ من صورة كثيرين من الفلاحين الروس.
ووصلت إلى عاصمة الولايات المتحدة في التاسع عشر من أغسطس سنة ١٩٤٣م ووجدت مندوبًا من لجنة المشتريات السوفيتية ينتظرني في محطة الاتحاد، واستؤجرت لي مع أسرة أمريكية غرفة نظيفة مشمسة مريحة ذات حمام خاص، وظهر على أهل الدار أنهم مسرورون حقًّا من أن يكون تحت سقفهم رجل أجنبي — من أولئك «الروس المدهشين» — ومن عجب أنهم لم يسألوني عن «أوراقي»، وبدا لي أن ليس من واجبهم أن يبلغوا عني أية لجنة من لجان البيوت، وبدا لعقلي العسكري أن هذا الإهمال دليل على الفوضى إن لم يكن دليلًا على ما هو أسوأ منها وهو التخبط التام، وسيعلم القارئ فيما بعد أنني أنا وهذه الأسرة قد اخترعنا لنا لغة مكونة من إشارات وألفاظ محرفة تكفي للتعبير عما نشأ بيننا من صلات اجتماعية قليلة، وأيقنوا — دون حاجة إلى دليل سوى اعتقادهم وحده — أنني خبير بشئون الحرب، وبكل ما هو أجنبي عنهم، دع عنك كل ما هو روسي، وكان مسلكهم معي مسلك من يعتقدون أن كل ظفر حربي يناله الروس من صنع يدي.
وقدمت نفسي في اليوم الثاني للسفارة الروسية لأبدأ عملي، وكان كل ما في داخل مركزنا الرئيسي في واشنجتن القائم في الشارع السادس عشر سوفيتيا خالصًا في مظهره، وبدا لي أنه لا يسمح بشيء أمريكي بأن يدخل فيه، نعم كان فيه عدد قليل من الأمريكيين يشغلون بعض المناصب الدنيا — كالعاملات على الآلة الكاتبة والمختزلين والحمالين والسعاة — ولكن جو المكان كان جوًّا سوفيتيًّا خالصًا لا تشوبه أقل شائبة أجنبية، يحس الإنسان فيه بالخفاء والسرية والرغبة في الإيقاع بالناس، وأكاد أقول التآمر عليهم، لا نظير له إلا في بلادنا.
وكان الكولونل سيروف رجلًا وسيم الوجه، طويل القامة، أسمر اللون، متين البنية، ذا شخصية عظيمة الأثر فيمن تقع عينه عليه، يزين ثيابه الأمريكية الجديدة، واستقبلني بفتور ظاهر وبشيء من الارتياب كما هو الواجب على الموظف البيروقراطي الحذر، وقدمت له البطاقة الدالة على أني من أعضاء الحزب.
وسألني بلهجة شديدة جافة: «وما رقمك؟»
فأجبته بلسان طلق سريع أن رقمي هو ٢٤٨٦٤٧٥؛ ذلك أن نسيان رقم الحزب يُعَدُّ في عرف الدولة نوعًا من الخيانة العظمى، ودليلًا على تزعزع الإيمان، وتلت ذلك السؤال أسئلة أخرى اقتنع بعدها أنني أنا حقيقة كرافتشنكو الذي عهد إليه أن يعنى بأمره، فتبسم وسألني عما لاقيته في رحلتي، وتحدث إليَّ قليلًا عن موسكو، ولكنه كان في الوقت عينه يلقي عليَّ نظرات فاحصة قوية.
وكان سيروف المندوب المفوض للجنة الحزب المركزية في الولايات المتحدة، وكان بحكم مركزه هذا صاحب المقام الأعلى بين المبعوثين الشيوعيين في هذه البلاد، ولم تكن للرجل صلات مباشرة بالأمريكيين، ولم يكن يشترك إلا قليلًا جدًّا في المفاوضات التي تجري بين أمريكا وبلاد السوفيت، ولا يزيد مركزه حسب السجلات الرسمية على أن يكون واحدًا من المساعدين في لجنة المشتريات، ولكنه كان في واقع الأمر أقوى عمال الدولة السوفيتية في أمريكا، وكانت كلمته هي القول الفصل في جميع الشئون، والحكم النافذ على كل سوفيتي في أمريكا من أصغر موظف في البلاد إلى أكبر الرجال العسكريين والاقتصاديين وغيرهم من الممثلين السوفيت، وكان سيروف يتحدث باسم الحزب الشيوعي، وهو الحكومة الحقة في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، على حين أن غيره من الرجال ومنهم السفير نفسه إنما ينطقون باسم وزارة الخارجية، وكان مركزه في أمريكا مركز ستالين في الروسيا في كل ما يختص بشئون جميع رعايا السوفيت المقيمين في هذه البلاد.
وأخذ الرجل يكرر على مسامعي المحاضرة المملة المألوفة، يشرح لي فيها ما يتهددني من أخطار وما عليَّ من واجبات، وما وضعه الحزب في من ثقة عظيمة باختياري للمنصب الذي أصبحت أشغله، ولم يضايقني هذا القول الآن كما كان يضايقني في المرات السابقة لسبب لا أعلمه، ولعل سبب هذا أني أصبحت في خبيئة نفسي أتسلى بهذه الأقوال، أو أن ما أعرفه أنا وحدي من أني سألقي على كاهلي بعد وقت قصير نير الاستبداد الذي قاسيته طويلًا قد أكسبني حصانة أصبحت معها لا أتأثر بما تنطوي عليه هذه المحاضرات والتعليمات من سيطرة تخفي وراءها أشد أنواع التهديد، بل لقد جرؤت على أن أرفض ما طلبه إليَّ من أن أفضي إلى جماعة من الموظفين الذين معه بأحوال بلادنا، معتذرًا عن هذا الرفض بأني متعب في تلك الليلة، والحق أني لم يكن في وسعي أن أفضي إليهم في ذلك الاجتماع إلا بما ألفته من الأكاذيب الرسمية.
وأبلغني الرفيق سيروف أن رئيسي المباشر هو رسترتشوك، وأني سأكون واحدًا من عشرة أخصائيين في شئون التعدين يعملون في قسم المعادن الذي يرأسه ذلك الرجل، وأن مصنوعات معدنية تقدر بعشرات الملايين من الريالات تنقل على ظهر السفن إلى بلاد الاتحاد السوفيتي تنفيذًا لقانون الإعارة والتأجير، وأن من واجبي أن أفحص عن كثير من هذه المصنوعات لأتأكد من صلاحيتها لأغراضنا، وأن أكتب المواصفات الخاصة بآلاف السلع التي نطلبها، وأن أقبل أو أرفض ما يعرض من المواد العظيمة القيمة، وقيل لي أخيرًا أني سأكون مسئولًا عن جميع ما يمر بيدي من المواد.
لم تكن بعثتنا في واقع الأمر إلا قطعة من الطغيان الروسي انتزعت من شاطئ نهر موسكو، وأُقيمت بقضِّها وقضيضها على شاطئ نهر بوتوماك.
فقد كان مئات منا رجالًا ونساءً يعيشون في قلب أكبر ديمقراطيات العالم عيشة الخضوع التي يعيشها الناس في أعظم دولة من دول الطغيان في العالم، وظللنا كما كنا في بلادنا رعايا الدولة الشرطية الخاضعين لحكم الإرهاب الشديد، فلم يكن في وسعنا أن نتمتع بما يتمتع به جيراننا الأمريكيون من حرية القول وحرية الصحافة وحرية الضمير والتحرر من الخوف، إلا إذا كان ذلك سرًّا نتعرض من أجله لأقسى عقاب.
وقد حدد لنا ما نفكر فيه وما نقرؤه، ومن الذي نجرؤ على مقابلته، حدد هذا كله وروقب كأننا لا نزال داخل حدود الاتحاد السوفيتي، وكان يحيط بنا نظام من التجسس المتقن يحصي علينا كل كلمة تصدر منا، وكل عمل نعمله، وكان لنا لجنة للحزب وخلية للحزب وقسم سياسي وشرطة سرية وهيئة كاملة للإرهاب السياسي والرقابة شبيهة بنظائرها من الهيئات التي قاسينا منها العذاب ألوانًا في داخل بلادنا، وهنا أيضًا ترى الخزائن الخفية الغاصة بالمعلومات والأكاذيب الخبيثة عن كل واحد منا، على أن الذي كان يبدو أمرًا طبيعيًّا نكاد نظنه محتومًا في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية كثيرًا ما كان يظهر شاذًّا غريبًا قبيحًا في هذا الجو الأمريكي.
وكان الذي يرأس الاجتماعات التجارية الفنية المحضة هو القائد بلايف، فلما خلفه القائد رودنكو كان هو الذي يرأس هذه الاجتماعات، أما اجتماعات مكتب الحزب في البعثة، وهو الذي كانت تبحث فيه الخطط السياسية الهامة، فكان يرأسها ويوجهها الرفيق سيروف نفسه، وكان يحدث في بعض الأحيان أن يبدأ اجتماع من الاجتماعات التي لا يحضرها إلا الشيوعيون برياسة القائد بلايف أو رودنكو فيما بعد، حتى إذا انتهينا من بحث الشئون التجارية تخلَّى عن الرياسة لسيروف، فإذا حدث هذا كانت الأبواب تغلق على الدوام حتى يجري الاجتماع الحزبي في مجراه، وكان هذا النظام — نظام السلطة المزدوجة — هو المتبع في كل فرع من فروع البعثة، فكان الرفيق رسترشوك يرأس الاجتماعات الفنية في قسم المعادن، فإذا كان من موضوعات البحث في هذا الاجتماع أمور خاصة بالحزب نفسه رأس الاجتماع ماركوف، ونزل رسترشوك عن كرسي الرياسة وأصبح فردًا عاديًّا في الاجتماع، وليس في وسع إنسان أن يبدأ بإدراك طبيعة الحكم الدكتاتوري الحديث إذا لم ترتسم في مخيلته هذه الصورة من صور الحكم الدكتاتوري التي يسيطر فيها حزب واحد على الأداة الحكومية ويمسك بيده أعنَّة الحكم يسير بها الأمور مستترًا وراء هذه الأداة.
وكان مرتبي الأساسي حوالي ثلاثمائة ريال في الشهر، ولكن دخلي الحقيقي كان يفوق هذا كثيرًا؛ لأني كنت أقضي معظم الوقت مسافرًا، وكان يخصص لي مقدار آخر من المال لإقامة الولائم حين تتطلب الأعمال التجارية إقامتها، وكان أشد ما يؤلمني من القيود من بداية الأمر هو القيود المفروضة على صلاتنا بالأمريكيين.
وأعجبت أشد الإعجاب بالأسرة التي أقمت في بيتها، وخُيِّل إليَّ أن أفراد هذه الأسرة يختلفون عن الروس كل الاختلاف، ويختلفون لهذا السبب عن سائر الأوروبيين، فهم ليسوا من سلالة مختلفة عن الروس فحسب، بل يكادون يكونون من جنس غير جنسهم، ولكننا حُرِّمَ علينا أن نتخذ منهم أصدقاء، وأُمِرْنا أن نقصر صلاتنا بهم على ما بيننا وبينهم من أعمال، وكان يطلب إلينا إذا ما تعرفنا بأمريكي أن نكتب عنه تقريرًا مفصلًا، لا يقتصر على التعريف بشخصيته، بل يشمل كذلك ما ينطبع في ذهننا عن مزاجه السياسي، وما يشعر به نحو الشعب السوفيتي، وكبار الموظفين وحدهم هم الذين يقررون بعدئذٍ هل يؤذن لهذه المعرفة أن تنمو وتستمر، وهم الذين يقررون هل هذا الاتصال «مرغوب» فيه أو غير مرغوب.
على أنني لم يكن لي بُدٌّ من أن أتعرف بعشرات من الناس في توكيلات الشركات المتصلة بمشروع الإعارة والتأجير الواسع النطاق، ومن بين العدد القليل من الأمريكيين الذين كانوا في خدمة بعثة المشتريات، وكنت أجد منهم جميعًا ترحيبًا وحرية في القول، واستعدادًا لإطلاعي على كل شيء، وكان هذا كله من أسباب حيرتي وارتباكي؛ وذلك أن الموظف السوفيتي الغارق في الدسائس، والذي تملأ قلبه المخاوف، لا يسعه إلا أن يعتقد أن صراحة الأمريكيين وبعدهم عن الارتياب في الناس حمق وسذاجة كسذاجة الأطفال.
وكان الخطر الذي يتهدد الإنسان إذا قابل الناس يتضاعف إذا اتفق أن كان من يقابلهم من أصل روسي، أو كان بعض آبائهم من الروس، فقد كان يخشى في هذه الحالة أن يكون هؤلاء من المناصرين لأحد الأحزاب المعادية لستالين، كذلك كان الإغراء قويًّا في أن يتعرف الإنسان بمن كانوا قبل من الرعايا الروس؛ وذلك لاشتراكهم معنا في اللغة، إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب.
وكان تيار العطف على روسيا — الذي عم الولايات المتحدة بعد انتصارات الجيش الأحمر — مصدر خطر دائم على المواطنين السوفيت في هذه البلاد؛ ذلك أن الأمريكيين كانوا شديدي الحرص على أن يظهروا حبهم وتقديرهم لنا؛ ولهذا أخذوا يلحُّون علينا في أن نزورهم في بيوتهم ونواديهم، ولم يكن من السهل علينا دائمًا أن نتهرب من كرمهم وحسن ضيافتهم، وإذا قبلنا دعوة من دعواتهم بعد إصرار منهم شديد عرضنا أنفسنا للمتاعب، ولم يكن لنا من سبيل لاتقاء الخطر إلا أن نبلغ الرؤساء أخبار هذه الدعوات.
من ذلك أن سيدة أمريكية طاعنة في السن تشتغل وظيفة متواضعة في لجنة المشتريات دعتني عدة مرات لأن أزورها في بيتها؛ لأنها تعلم أني لا أسرة لي في أمريكا، فأثَّر ذلك فيما لديها من عاطفة الأمومة، لكنني كنت في كل مرة أختلق المعاذير لعدم قبولي دعوتها، وكان من سوء حظي أن التقيت بها ذات مساء في أحد الشوارع، وتبين لي أننا كنا على مقربة من بيتها، وأنها كانت على موعد مع عدد من الأصدقاء يزورونها في بيتها، وشعرت أني أسيء إليها كثيرًا إذا رفضت أن أشرب في دارها فنجانًا من القهوة؛ ولذلك قبلت دعوتها، ولكنني لم أمكث في بيتها أكثر من ساعة واحدة، أقبل في أثنائها بعض الضيوف وتحدثنا معًا مدة قليلة.
وظللت عدة أسابيع بعد هذه الزيارة في أشد حالات الخوف والألم، أضطرب أشد الاضطراب كلما دُعِيتُ إلى حجرة أمين سر الحزب، وكنت أسائل نفسي ماذا يكون مصيري إن كان أحد قد رآني و«بلغ عني»، أو إن كانت هذه السيدة نفسها قد أفضت بهذه الحقيقة إلى من لم يكن يصح أن تفضي بها إليه دون أن تقصد بذلك سوءًا؟ ذلك أن معظم من كانوا يعملون معنا من الأمريكيين لم يكونوا يعلمون ما يتحمله الروس من ضغط شديد في حياتهم العملية.
ولا حاجة بي إلى القول بأن الحظر الذي كان مفروضًا علينا، والذي يحرم علينا الاتصال بالأمريكيين، لم يكن يشمل من يجب علينا الاتصال بهم لأسباب تجارية أو سياسية، ففي هذه الأحوال كانت توضع تحت تصرفنا اعتمادات خاصة ننفق منها عن سعة فيما نقيمه من الولائم، وكنا نشجع على أن نبالغ في إكرامهم والتحفي بهم، وأن نسرف ما استطعنا في هذا الإكرام، وأن نظهر لهم أننا من «رجال العصر» وأننا نمثل بلادًا غنية قوية سخية.
وحدثني بعضهم عن هدايا قيِّمة، ومنها بعض الفراء الغالية الثمن أُهْدِيَت إلى الأمريكيين الذين يظن أن في كسب صداقتهم فائدة لنا، ولربما ظن الذين أُهْدِيَت لهم أنهم هدايا شخصية بريئة جاءت عفو الساعة، ولكن الحقيقة أن كل واحدة منها كانت نتيجة نقاش رسمي انتهى بقرار وافق عليه المتناقشون.
وقد بلغ من دقة هذه السيطرة المفروضة على علاقاتنا بالأمريكيين أن بطاقات التهنئة بعيد رأس السنة لم تكن تُرْسَل للموظفين الأمريكيين ومعارفنا الذين تربطنا بهم رابطة العمل إلا بعد موافقة المشرفين علينا، فقد كان يطلب إلى كل منا أن يعدَّ ثبتًا بأسماء الأشخاص الذين يرغب في أن يبعث إليهم ببطاقات التهنئة اتباعًا للسنن الأمريكية، وأن تذكر في هذا الثبت نص عبارات التهنئة، وكانت هذه الأسماء والنصوص تُبْحَث وتُنْقَل، ثم تعاد إلينا ومعها تصريح رسمي بإعداد البطاقات، وكانت البعثة نفسها هي التي تقوم بإرسالها حتى تتأكد من أننا لم نغير شيئًا في نص عبارات التهنئة التي اتفق عليها.
وكان يُطْلَب إلينا ألا نتورع في استخدام العواطف الجنسية للحصول على ما نطلب من الأسرار، أو الوقوف على خفايا أمر من الأمور، من ذلك أن موظفًا كبيرًا استدعاني مرة إلى مقر اللجنة، وأخذ يشرح لي إحدى المشاكل التي حيرته، فقد كان يهمه أن ينجز مسألة من المسائل في لجنة الإنتاج الحربي، في مكتب من المكاتب التي يعتمد في إنجازها على امرأة في مقتبل العمر.
وقال لي: «وأريد منك أن تقابل هذه المرأة يا فكتور أندريفتش، وتصادقها وتصاحبها إلى النوادي الليلية، وتبتاع لها الهدايا، وتحل عقدة لسانها، ولست أشك في أن ما بقي بعد هذا سيكون سهلًا ميسرًا.»
ودهش الرجل حين رفضت رفضًا باتًّا أن أمثل هذا الدور الحقير في تلك المؤامرة، واحتججت بضعف مواهبي في مثل هذه الأمور، وبالصعاب التي لا بد أن يسببها ضعفي في اللغة الإنجليزية، واستطعت في آخر الأمر أن أنجو من هذا العمل البغيض.
وعدت إلى مكتبي بعد أسبوع أو أسبوعين من ذلك الوقت، ولكني كنت أشعر بأن الحياة التي أحياها في البعثة حياة لا أطيقها، وزاد من آلامها اتصالي برجال الأعمال والفنيين من الأمريكيين، لقد كنت أشعر كأني سجين عاد إلى السجن بعد إجازة قضاها في خارجه، لقد كان واجبًا علي أن أراعي جميع القواعد الثقيلة التي كان كثير من أفاضل الروس في لجنة المشتريات يرزحون تحت أعبائها، وكنا نحن الروس في خارج البلاد يُفْرَض علينا أن نحتفظ بأسرارنا لأنفسنا، لا نفضي بها لإنسان ما ولا نكشف إلا عن قسم صغير من عقولنا وقلوبنا للقليلين الذين نثق بهم، ولا نكشف عن هذا الجزء الصغير إلا نادرًا، ومع هذا فقد كنا إذا فعلنا هذا نعرض أنفسنا لأشد الأخطار؛ ولذلك كنا نتظاهر بأنا لا نبصر ما يتمتع به الأمريكيون من حرية، وكنا نعلم أن الإعجاب بأساليب الحياة الأمريكية أو مجرد الرضا بها يعرض الإنسان للانتحار السياسي.
ولست أشك في أن الأمريكيين لا يستطيعون أن يدركوا حقيقة الحياة التي نحياها نحن الروس، ولعلهم لا يصدقونني إذا قصصت عليهم تلك الحادثة التي حدثت لي مع ميثيا، والتي هي ملهاة ومأساة معًا، لقد كان ميثيا هذا مواطنًا سوفيتيا في أمريكا مبعوثًا من قبل منظمة أمتورج التجارية السوفيتية، وضبطت هذا الرجل متلبسًا بجريمة شنعاء، إذ دخلت عليه وهو يقرأ مجلة متطرفة تصدر باللغة الروسية، وهي مجلة «معادية للثورة» كان محرمًا علينا أن تمسها أيدينا.
وناديته بأعلى صوتي مدعيًا أني قد هالني ما رأيت: «إذن أنت تقرأ هذه المجلة!»
وامتقع وجه صاحبي وتحدرت الدموع من عينيه، وأيقن أن مصيره قد أصبح الآن بين يدي، فإذا ما سولت لي نفسي أن أكشف عن جرمه فسيُدْعَى حتمًا إلى الروسيا، ويعقب هذا طرده من الحزب وافتضاح أمره وعقابه، وقد يمتد هذا العقاب إلى أسرته، وحاول أن يدافع عن نفسه، وتوسل إليَّ وهو يرتجف من الخوف أن أعفو عنه وقال: «أقسم لك بشرفي يا فكتور أندريفتش إني لم أكن أريد إلا أن أعرف ما يكتبه عنا أولئك الأدنياء، وأرجو منك أن تصفح عن هذه الزلة، لقد تعارفنا من سنين طوال، وإذا ما كشفت أمري فستقضي على حياتي.»
ورأيت حال الرجل فتفطر قلبي من شدة الحزن، وأكدت له أني لا أبغي قط أن أنمَّ عنه، بل أكدت له أني أنا نفسي أقرأ هذه المجلة.
وقلت في أسى وحسرة: «ألا ما أذلنا من عبيد! وما أشد ما يخشى الواحد منا رفيقه! بل ما أشد ما يخشى أفكاره نفسها! وماذا يريدون أن نكون؟ جواسيس، كاذبين مزعزعي الإيمان، لا نرعى عهدًا ولا صداقة! لِمَ يحرم علينا رؤساؤنا أن نقرأ ما نرغب في قراءته؟ وأي شيء يخشون من هذا؟ أيخشون أن نعرف بعض الحقائق التي لا تسرهم؟ إن من أشق الأمور على النفس أن يكون الإنسان عبدًا ذليلًا في موسكو، أما هنا في أمريكا فذلك أشق علينا ألف مرة.»
ولكن هذه الصراحة الحماسية لم تخفف من ذعره، بل زادت حيرته في أمره، وظن أني أريد أن أغدر به ليفوه بأقوال خطرة يؤخذ بها فيما بعد، ولم يهدأ روعه حتى أخذته إلى حجرته في فندق بنسلفانيا، وفتحت له إحدى حقائبي، وأطلعته على هذه الجملة نفسها بين أوراقي.
فلما استيقن من هذا فتح لي صدره وعرفت من خلال حديثه الجريء في الفترة الطويلة التي قضاها معي في تلك الليلة أن احتقاره للحكم السوفيتي لا يقل عن احتقاري له، وأن لا شيء يمنعه من الانشقاق عنه وإعلان استقلاله إلا وجود أسرة كبيرة له في الروسيا، وهممت بأن أفضي إليه بما اعتزمته أنا نفسي، ولكنني أشفقت عليه فأمسكت عن ذلك لساني؛ لأني لم أشأ أن أثقل كاهله بهذه المعرفة الإجرامية.
ولم يكن من الحكمة أن تقرأ جريدة نيويورك تيمز أو صحف واشنجتن، وإن لم يصدر إلينا أمر صريح يحرم علينا قراءتها، أما مطبوعات هيرست واسكربس هورد فكان ينظر إليها كما ينظر إلى المهربات، وكان أسلم الوسائل لنا وأبعدها عن الخطر أن نقرأ جريدة «الديلي ووكر» أو «رسكي جولوس» التي تصدر باللغة الروسية، أو الصحف الأسبوعية المناصرة للسوفيت كصحيفة «ذي نيشن» أو «ذي نيوريبلك»، وكانت صحيفة «ليف» تعد من الصحف المسموح بها، وخاصة بعد أن أصدرت عددًا روسيا حوى من الدعاوة السوفيتية أكثر مما حوى من الحقائق، واعتقادي أنها خسرت فيما بعد هذا المركز الذي أصبح لها في أعين الحكام السوفيت، وخسرته فجأة، حين نشرت مقالًا للسفير السابق وليم ك. بولت عن الخطط السوفيتية السياسية في أوروبا.
وبينا كنت في طريقي إلى واشنجتن في عربة بولمان، أقلب صحيفة «ذي سترداي إيفننج بوست»، إذ أقبل عليَّ زميل لي من أعضاء البعثة، وجلس إلى جانبي وأخذنا نتحدث في شئون عملنا، وأشرت في خلال الحديث إلى هذه الصحيفة وما فيها من صور وإعلانات، وأظهرت اهتمامي بنوع خاص بمقال رأيت فيه نقدًا للحكومة، وكان مما قلته في حديثي هذا: «إن هؤلاء الأمريكيين لا يترددون قط في أن يقولوا ما يعتقدون في موظفيهم من الرئيس روزفلت إلى من هم دونه منهم.»
وكانت إشارة عابرة نطقت بها من غير تفكير ونسيتها بعد أن نطقت بها مباشرةً، وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت استدعاني الرفيق ماركوف، أمين سر الوحدة الحزبية التي أنا تابع لها، إلى مكتبه وسألني: «كيف كانت رحلتك الأخيرة؟»
– «كانت رحلة طيبة.»
– «والتقيت فيها بالرفيق «ﺑ…»، أليس كذلك؟»
– «نعم، التقيت به.»
– «وفي أي شيء تناقشت معه؟»
فقلت في حيرة: «تناقشت؟ أنا لا أذكر أني تناقشت معه في شيء.»
– «أخشى أن أقول لك يا رفيق كرافتشنكو أن هذا بداية غير طيبة، وأن الأمور لن تكون بيننا على ما نحب منذ اليوم، فأنت غير صريح معي، فهل تحب أن أذكرك بما تناقشت فيه؟ إنه بلا شك قد نسيت أنك انتقدت الصحافة السوفيتية، وشكوت من أننا لا نهاجم الرفيق ستالين.»
فصحت قائلًا: «إن هذا كذب! وأصر على أن تستدعي الرفيق «ﺑ…» وسأرغمه على أن ينكر كذبه هذا.»
ولما واجهني الرفيق «ﺑ…» لم يؤتَ من الشجاعة ما يكفي لتأييد التقرير الذي قدمه عن «ملاحظتي المعارضة للثورة» وعلى أثر هذا قرر أمين سر الوحدة أن تقف المسألة عند هذا الحد، ولكني شعرت بعدها بشدة الحاجة إلى إمساك لساني.
وثمة حادثة أخرى صغيرة أقصها على القارئ: مرضت مرة واضطررت إلى ملازمة الفراش بضعة أيام قليلة، وبعث إليَّ بعض الموظفين الأمريكيين بعبارات ودية قصيرة، يدعون لي فيها بالشفاء العاجل، وكانت هذه عواطف إنسانية أشعرتني بما بيننا من زمالة، ولكني بعد عودتي فعلت فعلة ندمت بسببها على عطفهم هذا، ذلك أن معرفتي باللغة الإنجليزية لم تكن كافية لقراءة ما في رسائلهم بدقة، فجئت بهذه الرسائل إلى مكتبي وطلبت إلى أحد الأشخاص أن يترجمها لي.
ونسيت المسألة كلها بعدئذٍ، فلم أذكر منها شيئًا حتى استدعاني الرفيق ماركوف نفسه فجاءة، وأخذ يستجوبني بعنف عن علاقتي بكل واحد من الأمريكيين الذين كتبوا إليَّ، وعما هناك من سر في هذه الأخوة بين رجل مسئول من رجال الحزب و«أعداء الطبقة العاملة» الذين من حوله، وختم استجوابه بتوبيخ صارم وتحذير لي من الوقوع في الحبائل التي ينصبها لي من حولي من الرأسماليين، واعتقدت أني قد أسعدني الحظ إذ لم يصبني في هذه المرة أكثر من هذا الأذى البسيط.
وأوقعتني بعض الرسائل في أزمة أخرى في أثناء حياتي العملية في واشنجتن، فقد اطلع موظف كبير في البعثة بطريق الصدفة على بطاقة بريد أرسلها إليَّ أحد الجنود الأمريكيين من فلوريدا، وسرعان ما استدعيت للمثول بين يدي ولاة الأمور متهمًا «بالاتصال بالقوات المسلحة الأمريكية» اتصالًا غير مشروع، ولم أستطع إقناعهم بأن هذا الجندي ابن الأسرة الطيبة التي أقيم معها إلا بجهد جهيد.
وكان مما دافعت به عن نفسي: «إن هذه الصلة لا تخرج عن أن تكون صلة صداقة إنسانية بريئة لا علاقة لها البتة بالأمور السياسية، وفضلًا عن هذا فإني قد امتنعت من الرد على هذا الشاب.»
وكان القسم الثاني من إجابتي كذبًا؛ ذلك أني أجبته فعلًا على تحيته، ولو أني لم أجبه لظن أن جميع الروس أجلاف لا يعرفون واجب المجاملة، ولا بأس من كذبة بريئة صغيرة يتخلص بها أحد أبناء الدولة الدكتاتورية من مثل هذه الورطة.
وفي البناء الذي تقيم فيه البعثة مكتبة، وطلبت إلى أمينها في إحدى الليالي كتابين: أحدهما رواية «إني أحب» تأليف أفدينكو، والثاني كتاب تاريخي لكاتب يُدْعَى فرت ذكر فيه شيئًا عن القائد توخاتشفسكي، ولما لم أجد أي الكتابين استعرت بضعة كتب أخرى، وظننت أن المسألة قد انتهت عند هذا الحد.
ولم يمضِ بعد ذلك إلا قليل من الوقت حتى استُدْعِيت للمثول أمام كبار رجال الحزب، وتبين أني ارتكبت طائفة كبيرة من الأغلاط، تبدأ بالأخطاء البسيطة، وترقى إلى الجرائم الشنيعة، فقد كان اهتمامي المزعوم بقراءة شيء عن أعمال القائد توخاتشفسكي الذي أُعْدِمَ لاتهامه بالخيانة جريمة من أشنع الجرائم، وسئلت ألم يصل إلى علمي أن فرت مؤلف هذا الكتاب لا يقرأ الآن في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية؟ ولم يكن في وسعي أن أعتذر عن هذا بجهلي، فالشيوعي الصادق في شيوعيته يجب أن يعرف من هم «أعداء الشعب»، أما الرواية التي كانت فيما مضى واسعة الانتشار في الروسيا فقد حرمت قراءتها لسبب من الأسباب واحتوتها القائمة السوداء في هذه الأيام، فعلام إذن كنت أرغب في قراءة هذه القصة «المضادة للثورة» في هذا الوقت بعينه؟ وقصارى القول: إني أصبحت الآن موضع الريبة الشديدة في أعين الحفظة على طهارة الحزب الذي أنتمي إليه.
والحق أن هذه المكتبة كانت من أهم الوسائل التي تراقب بها آراؤنا، فقد كنا مقطوعي الصلة بمن نعيش بين ظهرانيهم من الأمريكيين، وكان معظمنا لا يجيدون اللغة الإنجليزية، فكنا لهذا مضطرين إلى كثرة القراءة، وكان جواسيس المكتبة يراقبون ما نختار من الكتب والصحف الدورية مراقبة دقيقة، وحتى الكتب التي كنا نلقي عليها نظرات سريعة في المكتبة نفسها كانت تبلغ أسماؤها إلى الرؤساء، وكانت هذه كلها تتخذ دلائل تهدي إلى معرفة عقليتنا، فكانت من أجل هذا تسجَّل في ملفاتنا.
وكان بالمكتبة فضلًا عن المؤلفات الدسمة في تاريخ الحزب وغيره من البحوث الفكرية العميقة كتب ذات موضوعات سهلة خفيفة، وكثيرًا ما استعرت بعض المؤلفات من النوع الأول، ولم أكن أقصد بذلك قراءتها، بل كان هذا لمجرد الرغبة في ألا أظهر ميلي إلى القراءة الخفيفة وحدها؛ ذلك أن أخوف ما يخافه الرقباء أن تؤثر فينا البيئة الرأسمالية الرخوة الضعيفة؛ ولذلك كان همنا جميعًا أن نظهر لهؤلاء الرقباء أن إيماننا قوي لم يفسد ولم يتزعزع، وعمدنا بناءً على اقتراح سيروف إلى دراسة تاريخ الحزب، والقضايا اللينينية لستالين وما ماثلهما من الكتب رغم أننا قد درسناها من قبل، وكنا في اجتماعات الحزب المغلقة نتبارى في إظهار قوة إيماننا بالحزب وبالزعيم.
وكنا في أمريكا يحيط بنا جو من السرية أضيق مما يحيط بنا في الروسيا نفسها، من ذلك أن أصدقاءنا في الروسيا لم يكونوا يعرفون لنا عنوانًا إلا عنوان البعثة نفسها، حيث يقرأ كل خطاب قبل أن يسلم إلينا وإن كان هذا الخطاب يحمل خاتم الرقيب السوفيتي، وكانت الخطابات التي نبعث بها إلى الروسيا مع أشخاص مسافرين إلى تلك البلاد تسلم مفتوحة إلى البعثة لترسلها هي بنفسها.
وحُرِّمَت علينا زيارة النوادي الليلية، ومشاهدة المسرحيات والأشرطة «المعادية للثورة»، والاستماع إلى من يعدهم الرؤساء «معادين» للقضية السوفيتية من المعلقين على الحوادث والأنباء، وكان أهون علينا أن نُضْبَطَ متلبسين بجريمة القتل من أن نضبط ونحن نقرأ كتابًا معاديًا للسوفيت، ولكننا رغم هذا كنا نرتكب كثيرًا من هذه المحظورات لأننا بشر ولأن ما نتعرض له من المغريات التي تدعو إلى ارتكاب هذه الجرائم السياسية مغريات قوية في البلد الديمقراطي، على أننا كنا نرتكب هذه الجرائم وقلوبنا تكاد تنخلع من شدة الخوف، وما أكثر من فقدوا مراكزهم وقُضِيَ على مستقبلهم بسبب هذه المخالفات.
وإن المرء ليصعق حين يفكر فيما يتعرض له الموظف السوفيتي في الخارج من تجسس معقد محكم واسع النطاق، فقد كان ينتظر من كل واحد منا بوصفه عضوًا مخلصًا للحزب، حريصًا على الدفاع عن نفسه، أن يبلغ عن كل ما يريب من ألفاظ غيره وأعمالهم، وكان هذا يعد واجبًا محتومًا وقضية مسلمًا بها، سواءً كان في موسكو أو فلادفستك أو واشنجتن أو تشكاجو.
وكان للحزب فضلًا عن هذا جيش من العمال الخصوصيين منبثين في البعثة، يشغلون مناصب فنية مختلفة في الظاهر، ولكنهم في حقيقة أمرهم يتجسسون على من حولهم، ويضاف إلى هؤلاء وأولئك عمال القسم السياسي الذين لا نعرفهم نحن بطبيعة الحال، ولكنهم أشد هؤلاء الجواسيس رهبةً، وتتكون منهم حلقة محكمة لا نستطيع الإفلات منها، وكان هؤلاء جواسيس محترفين عملهم الرسمي هو التجسس، ولم يكن القائد الذي يرأس البعثة ولا الرفيق سيروف نفسه بمنجاة من هذا التجسس المحكم الشامل.
وإذ كنا لا نعرف من هم الجواسيس — لأن الجاسوس نفسه لم يكن في الغالب يعرف زملاءه — فقد كانت السبيل الوحيدة للسلامة أن يعتقد الواحد منا أن كل إنسان غيره عين عليه، أو سيكون عينًا عليه في يوم من الأيام، ومن أغرب الأشياء حقًّا أن هذا النظام الآثم المفسد للأخلاق لم يمنع الكثيرين منا أن يتخذ بعضهم بعضًا أصدقاءً أوفياءً مخلصين، وأن يشارك بعضنا بعضًا في أفكارهم واستيائهم وأحزانهم، بعد أن يتعاهدوا على أن يكتموا أسرارهم في قلوبهم، ولم يكن الرفيق سيروف يعرف كم من مرءوسيه قد وفدوا من الروسيا بعد أن زالت عن عيونهم ما كان يطمسها من غشاوة الخداع، وكم منهم قد سَرَتْ في نفوسهم عدوى الوباء الديمقراطي من أمريكا؛ ذلك أن الكثرة الغالبة ممن يقيمون في خارج الروسيا من رعايا الطغيان كانوا خلائق آدميين، ينفرون من الذل الذي ضربه عليهم نظام من الحكم قائم على الريبة المتبادلة.
وكنا إذا رأينا زميلًا لنا يظهر دلائل من الود غير عادية بدا لنا أن من الحكمة أن نظن أنه يحاول كسب ثقتنا لحاجة في نفسه؛ ذلك بأننا كنا نعلم حق العلم أن الرفاق المتحمسين أو العمال المحترفين كثيرًا ما يثيرون الموضوعات الخطرة ليختبروا بذلك قدرتنا على مقاومة البيئة الأمريكية الآثمة.
وكانت السنون الطوال التي قضيتها قريبًا من كبار الحكام، وبخاصة ما قضيته منها في مجلس الوزراء، قد عرفتني بكثيرين من الزعماء والموظفين أصحاب النفوذ والسلطان، وما كان أشد دهشتي حين وجدت عددًا قليلًا من هؤلاء يشغلون مناصب جد متواضعة في واشنجتن، ولم أكن أشك في أن مناصبهم الظاهرة لم تكن بالضرورة عملهم الحقيقي في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ذلك أن الاتفاقات المعقودة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي لم تكن تجيز إلا لعدد محدود من الموظفين السوفيت بالقدوم إلى أمريكا يحملون جوازات دبلوماسية عادية؛ ولهذا كان العدد الزائد من موظفي قلم المخابرات يرسلون إلى هذه البلاد على أنهم موظفون أو أخصائيون في الشئون الاقتصادية.
وكنت ذات يوم في مصعد في البناء الذي تشغله مكاتب البعثة، فألفيت نفسي وجهًا لوجه أمام رجل كان يشغل في موسكو منصبًا خطيرًا نوعًا ما، وسرعان ما عدت بذاكرتي فجاءة إلى الوقت الذي رأيته فيه مع قائدين من قواد القسم السياسي يشاهدون مسرحية الجبهة حين كانت تمثل لأول مرة، وتظاهر الرجل بأنه لم يعرفني، ولكنه في مرة أخرى أحدق في وجهي وحذرني من القول بأني أعرفه، ومن الكشف عن هويته؛ لأنه إنما جاء إلى هذه البلاد في مهمة تجارية خاصة.
وأكبر الظن أن الحكومة الأمريكية لم تكن تعرف عنه إلا أنه موظف صغير من المشرفين على تنفيذ قانون الإعارة والتأجير، وإن كانت حقيقة أمره أنه من كبار الموظفين في لجنة الحزب في موسكو.
ومهما يكن العمل الخاص الذي يقوم به المندوب الاقتصادي السوفيتي في أمريكا، فإن جزءًا خطيرًا من مهمته أن يحصل على كل ما يستطيع الحصول عليه من المعلومات عن الشركات الأمريكية الصناعية وعما فيها من الأعمال الفنية والشئون العسكرية والعلمية وما إليها، وكانت هذه بعض التعليمات الصريحة التي تلقيتها قبل أن أغادر الروسيا، ولم يكن موظفو البعثة يغفلون عن تكرارها على مسامعي من حين إلى حين، ولم نكن في اجتماعات البعثة المغلقة نتردد في الجهر بأن جمع الحقائق الاقتصادية وغيرها من المعلومات النافعة يجب أن يكون له المقام الأول عندنا في أثناء زيارتنا للمصانع والمكاتب الأمريكية.
وكان يقال لي على الدوام: إن ضرورات الحرب قد جعلتنا حلفاء لإنجلترا وأمريكا، ولكننا يجب ألا نثق بأي أمريكي لأن الديمقراطيات التي تسيطر عليها القلة الموسرة ستغتنم أول فرصة تتاح لها للقضاء على نظامنا السياسي، وكان مما قاله لي الرفيق سيروف في أول اجتماع لي به: «يجب ألا تخطئ في فهم علاقتنا بالولايات المتحدة، فنحن اليوم نرى أن صلاتنا بأمريكا الرأسمالية صلات نافعة من الوجهتين: السياسية والحربية، ولكن هذا لا يعني أن مصالحنا يمكن أن تتفق مع مصالحها، ذلك أن وسائلنا وغاياتنا في زمن الحرب نفسها وفي أوقات السلم متباينة أشد التباين، فإذا عرفت هذا ولم يبرح قط من ذهنك أدركت لم يجب علينا أن نظل على الدوام مستيقظين مرتابين فيهم مترفعين عنهم.»
ودُعِيَ الشيوعيون من موظفي البعثة إلى اجتماع خاص في يوم ما، وكانوا يبلغون نحو تسعين في المائة من الموظفين المسئولين، ولما أُغْلِقَ الباب على المجتمعين أعلن الرفيق سيروف أن لديه أخبارًا هامة يريد أن يفضي بها إلينا، ولاحت عليه وهو يذيع هذا مظاهر الجد، واتخذت هذه الأخبار صورة وثيقة غاية في الطول، أخذ يقرأ علينا محتوياتها ببطء وبنغمة مؤثرة، ثم وقَّعناها كلنا دلالة على أننا عرفنا محتوياتها.
وكان على هذه الوثيقة توقيع ميكويان وزير التجارة الخارجية، ولكنها من غير شك من وضع القسم السياسي بالاشتراك مع قلم المخابرات الحربية، وكانت عبارة عن طائفة من الأوامر المفصلة، عما يجب علينا أن نحصل عليه من المعلومات في الولايات المتحدة، وعن كيفية الحصول عليها، وطريقة إخفاء وسائلنا، وإرسال هذه المعلومات إلى بلادنا، ومع أن هذه الوثيقة لا تعدو أن تكون تكرارًا للأوامر التي تلقيناها من قبل، فقد كان يقصد بها أن تذكرنا بأن الرؤساء العظام في بلادنا يعتمدون علينا في أداء واجبنا من هذه الناحية تحت ستار الأعمال المتصلة بشئون الإعارة والتأجير.
وكنت أينما ذهبت في أمريكا ألقي حظي من التقدير والإعجاب العام الذي لا حد له «بحلفائنا الروس البواسل»، وكان هذا الإسراف في الثناء مؤلمًا في بعض الأحيان، ومع هذا فقد كان من الخير أن أعرف أن الأمم الأخرى تقدر تضحيات الشعب الروسي، على أن هذا التقدير نفسه كان مع ذلك منشأ متاعب كثيرة سببت لي في بعض الأحيان أشد الآلام، فقد فُسِّرَت تفسيرًا غريبًا بل تفسيرًا يدعو إلى السخرية؛ ذلك أن أهل الولايات المتحدة قد اتخذوا من الانتصارات الروسية الحديثة، ومن الهزائم الساحقة التي مُنِيَت بها جيوشنا قبل هذه الانتصارات، دليلًا على صلاح الحكم السوفيتي، ولست أدري أي منطق هذا الذي بُنِيَ عليه هذا الاعتقاد، إلا أن يكون منطقًا معكوسًا لا يخلو من لوثة عقلية، إن انتصارات هتلر الأولى لم تكن في نظرهم إلا دليلًا على أن هذا الوحش الكاسر كان قويًّا، أما هجمات ستالين التالية وانتصاراته فقد كانت لسبب لا أعرفه دليلًا لا يقبل الطعن على صلاح البلشفية.
ولست أنكر أن الشعب الروسي قد قام بأعمال مجيدة، وأنا أدرك هذا خيرًا مما يدركه أي متحمس أمريكي؛ لأني أعرف ما لا يعرفونه هم، وهو أن ذلك الشعب كان مغلول الأيدي بما فُرِضَ عليه من حكم ظالم استبدادي متخبط في أعماله، لكنني مع ذلك لم يكن في وسعي أن أغفل أننا كنا نحارب فوق أرضنا، وأن من ورائنا قوة من الرجال لا تنفد، وأننا نستغل إلى أقصى حدود الاستغلال مواردنا الصناعية ومعونة الأمريكيين الفنية، ولم يكن في وسعي أن أدرك كيف يعزى ما أحرزه الروس من انتصارات كلفتهم أعظم الضحايا إلى العبقرية البلشفية، ولكنني لم يكن في وسعي وأنا موظف سوفيتي تحت الرقابة المستمرة أن أجهر بالحقيقة، وأن أدفع عن بلادي هذه التهمة الشنيعة، وأصحح الوقائع التي وُضِعَت هذا الوضع المعكوس! وكم من مرة وجدت نفسي مرغمًا على كبت مشاعري والاستماع في صمت مؤلم لمن يعزون إلى الطغيان السوفيتي الفضل فيما قام به الشعب الروسي من أعمال مجيدة.
وكان ثمة ما هو أكثر من هذا غرابة، لقد كنا في بلادنا نستحي من ميثاق هتلر — ستالين فلا نكاد نشير إليه بكلمة، وكانت الخطب والكتابات الرسمية تمر بالفترة التي قام فيها هذا الميثاق مر الكرام باللغو، أما في أمريكا فقد أصبح هذا الميثاق بطريقة خفية عجيبة برهانًا جديدًا على حكمة ستالين وبُعْد نظره، فكان الأمريكيون يُبْدُون سخطهم على سياسة المسالة التي اتبعها الساسة مع هتلر في ميونخ واغتباطهم بهذه السياسية نفسها التي اتُّبِعَت معه في موسكو، ويرون لسبب ما أن من العار على الحلفاء أن يكسبوا الوقت بتوجيه الجهود النازية نحو الشرق ضد بولندا والروسيا، وأن من الحكمة والسياسة الرشيدة أن توجَّه جهود الألمان نحو الغرب ضد فرنسا وإنجلترا.
وكان الأمريكيون قد عقدوا العزم على أن يروا في كل شيء فضلًا لستالين وعارًا على الدول الديمقراطية، فكانت جميع الأغلاط الدبلوماسية التي يرتكبها الكرملن، ومساوماته المزرية الذليلة مع النازيين، وعجزه عن الاستعداد للحرب، وكل ما تخبط فيه وارتكبه من أخطاء — كفَّر عنها الشعب الروسي ببحار من دمائه — كان هذا كله يمثل في الصحافة الأمريكية وفي الأحاديث الأمريكية على أنه فضائل خاصة خفية لا يعرف سرها إلا الراسخون في العلم.
أما أنا فكنت أتوقع — جهلًا مني وسذاجة بلا شك — أن تشعر التضحيات الروسية شعوب العالم الخارجي بما يعانيه شعبنا من ويلات، كنت أتوقع أن يقول المواطنون الديمقراطيون على الأقل: إن أقل ما يستحقه أولئك الروس الأبطال أن ينالوا نصيبًا من الحرية والنظم الديمقراطية، ولكني وجدت عكس هذا، وجدت قلوبًا قاسية لا تعنيها مأساة الشعب الروسي، قسوة يعزى معظمها إلى الجهل، وهو أمر قد يعذرون عليه، ولكن بعضه راجع دون شك إلى عدم المبالاة بمصائب الإنسانية، وهو أمر مشين بلا ريب، لقد كانت أماني أهل كوريا والمجر وتطلعهم إلى الحكم الديمقراطي تجد عطفًا وتشجيعًا في هذه البلاد، أما آمال الروس الديمقراطية فقد كانت تعد خروجًا على القانون، وينظر إليها على أنها ضرب من الخيانة والإجرام في حق الوطن.
وكان في وسعي أن أرى حتى في الأسابيع القليلة التي أعقبت وصولي إلى أمريكا أن شخصًا ما في مكان ما قد حول تيار العطف على الروس إلى مصلحة ستالين، حتى استحال ما يجب أن يكون بشيرًا للروس بالحرية مبررًا للطغيان السوفيتي ومؤيدًا له، وأدركت، ويا لهول ما أدركت، إن ما لستالين من السيطرة على عقول الأمريكيين لا يقل قوة عما له من السيطرة على عقول الروس.
وأذكر أني قلت مرة في هدوء لصديق جديد من الأمريكيين: «ولكن البريطانيين أيضًا من حلفائكم، ومع ذلك فقد سمعتكم توجهون إليهم مُرَّ الانتقاد، لقد قلت في يوم مضى: إن الشعب الإنجليزي يجب أن يثور على المحافظين والاستعماريين، فلِمَ لا تنتقدون الحكم السوفيتي بمثل هذه الصراحة؟»
فقال: «إن ثمة فرقًا بين الحالين.»
– «أتقصد أن الروس هم الشعب الوحيد بين شعوب العالم الذي لا حق له في أن يثور على حكامه؟»
– «إنك الآن تستدرجني يا فكتور.»
والحق أنني لم أكن أستدرجه، ثم حاولت أن أصل إلى غرضي من طريق آخر فقلت له: «لقد حاربنا نحن الروس، حرب الأبطال، وقُتِلَ منا ملايين الرجال في الحرب العالمية الأولى ضد الألمان، فهل كانت نتيجة هذه الشجاعة أن أصبحتم يومئذٍ من المعجبين بالقيصر وحكومته، تسبحون بحمده وتتحمسون في الدفاع عنه؟ وهل قلتم: إن شجاعتنا هذه دليل قاطع على أن الشعب الروسي راض بالأغلال التي يرسف فيها، وفي للحراس الواقفين على أبواب سجونه؟»
– «لقد كانت الحال وقتئذٍ غير هذه الحال.»
ورأيت أن عقلية هذا الرجل لا يمكن التأثير فيها بقوة المنطق أو بضرب الأمثال، وما من شك في أنه كانت في أعماق عقليته البعيدة تلك الصورة البراقة الزائفة، صورة الأمة الاشتراكية الموفقة السعيدة التي فرضتها على عقول العالم الخارجي خير آلة للدعاوة في تاريخ العالم كله، وكان معظم الأمريكيين يمتعضون أشد الامتعاض من أية محاولة مهما كانت صغيرة لمحو أقل جزء من هذا البهرج الكاذب وللكشف عما تحته من قذارة وبشاعة أخلاقية، كأن هذه المحاولة تعرض الأسس التي تقوم عليها عقائدهم الدينية لأشد الأخطار.
ولقد خُيِّل إليَّ أن تطورًا غريبًا لا يكاد يصدقه الإنسان قد طرأ على عقول الأمريكيين، فجعلهم يعتقدون أن الدكتاتورية السوفيتية والشعب الروسي شيء واحد، وبذلك أفلح الشيوعيون في أن يفعلوا في أمريكا ما لم يفلحوا بعدُ في فعله في بلادهم، كما تدل على ذلك أعمال التطهير والملايين الذين يرسفون في أغلال السجون، لقد كانت حرية القول والصحافة طليقة تنتقد غير الروس من حلفاء الأمريكيين كالبريطانيين والبولنديين والتشكوسلوفكايين وتقول ما تشاء في الحكومة الأمريكية وفي الطريقة التي تدير بها دفة الحرب، ولكن نوعًا من الرقابة قد فرض على هذه الحريات جميعها في جميع الشئون المتعلقة بالمصالح السوفيتية والكرامة السوفيتية، فرضته عليها قوة أدبية عظيمة التأثير في عقول الأمريكيين، لقد رأيت رجالًا ونساءً لا يستنكفون أن يصفوا الرئيس روزفلت بأنه طاغية مستبد، ولكنهم يفور فائرهم إذا قيل لهم إن ستالين طاغية.
هذا في أمريكا، أما في الروسيا فإن الحرب لم تحدث تغييرًا يُذْكَر في الدعاوة المضادة للرأسمالية داخل حدود الاتحاد السوفيتي، بل واصلت هذه الدعاوة انتقادها للسياسية الحربية البريطانية والأمريكية، وكثيرًا ما كانت انتقادات مرة عنيفة، ففي أمريكا كان محظورًا على الشعب أن تخالجه ريبة في مسلك الكرملن داخل الروسيا وخارجها، حتى وصل الأمر بناشر أمريكي «حر» أن يطلب إبعاد جميع المؤلفات التي لا تحبها موسكو من دور الكتب الأمريكية! ولقد قيل لي: إن غيره من الناشرين رفضوا أن ينشروا بعض الكتب لا لسبب إلا أنها قد تسيء إلى شعور ستالين، ولست أدري أفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم أم بإيعاز من ولاة الأمور، أما الصحف والمجلات الأمريكية كلها إلا القليل منها فلم يكن لها من الشجاعة ما تجرؤ به على نشر ما يسميه الأمريكيون مقالات «معادية للسوفيت».
وكانت «الأنباء» التي تصل إلى الصحف الأمريكية من مراسليها في موسكو عديمة الفائدة إن لم نقُلْ: إنها ضارة ضررًا بليغًا، فلقد تعلمنا في بلادنا كيف نسقط الجزء الأكبر مما نقرؤه في الصحف السوفيتية، وكيف نفسره التفسير الصحيح، وكيف نقرأ ما بين السطور، وكان الصحفيون الأمريكيون في موسكو لا ينقلون إلى صحفهم إلا مقتطفات من الجرائد التي تصدر في العاصمة السوفيتية؛ لأنهم لم تكن لهم مصادر غيرها يستمدون منها معلوماتهم، ولكن قراء هذه الصحف من الأمريكيين لم يكن في مقدورهم أن ينقدوا هذه الأنباء ليعرفوا صحيحها من زائفها، فكانوا من أجل ذلك يصدقون كل ما فيها دون بحث أو جدال، وكانت أكاذيب الكرملن وأساليبه السياسية الملتوية تصل جميعها إلى آذان الأمريكيين، وكأنها مؤيدة من السلطات الأمريكية نفسها؛ ولذلك كانت تصدق في هذه البلاد أسرع مما تصدق في الروسيا نفسها، وكيف يستطيع الإنسان أن يجعل الخلائق الذين ربوا على التقاليد الديمقراطية يدركون أن إذاعة «الأخبار» المراقبة التي تسيطر الحكومة عليها تكون في أغلب الأحيان شرًّا من عدم إذاعتها؟
من أجل ذلك كانت الآراء السائدة بين الأمريكيين عن معجزات النظام السوفيتي آراء عجيبة حقًّا، ويلوح أن معظم ما يلازم الشيوعية من آثام كالسخرة، وطغيان الشرطة السرية، وأعمال التطهير المتكررة الواسعة النطاق، وانحطاط مستوى العيش انحطاطًا لا يكاد يتصوره الخيال، والقحط الشديد الذي عم البلاد في عام ١٩٣٢-١٩٣٣م، وفظائع المزارع الجماعية، واستخدام الأطفال في الصناعات بطريقة منظمة معترف بها من قبل الحكومة، يلوح أن معظم هذا قد غاب عن أنظار الأمريكيين، وإن كان كله من الأعمال التي لا يخفى منها شيء على الذين يقيمون في داخل البلاد الروسية، ولربما رآها بعضنا أعمالًا لازمة أو محتومة لا محيص عنها، بل لقد يظنها البعض أعمالًا شريفة لا غبار عليها، ولكن أحدًا منا لا يمر بخاطره مطلقًا أن ينكرها، أما في أمريكا فقد كنت إذا جرؤت على ذكر هذه الأشياء وأمثالها (وذلك حين تكون الصراحة مستطاعة لا خطر منها) نظر إليَّ الأمريكيون نظرة المكذبين، بل لقد كان منهم من يبادر إلى إنكارها كلها إنكار الواثق مما يقول.
ولشد ما أيقنت أن أعظم ما ناله السوفيت من نصر كان في ميدان الدعاوة الخارجية، وسرعان ما استحالت هذه العقيدة في نفسي إلى ما يشبه القوانين الرياضية: «إذا استطاع الاتحاد السوفيتي في خلال العشرين عامًا المقبلة أن يصل إلى نصف المستوى الذي يضعه فيه المعجبون به من الأمريكيين فإن ذلك يكون أعظم الأعمال الاجتماعية المجيدة التي قام بها البشر في عصور التاريخ قديمها وحديثها.»
أما الذين يعرفون بعض الحقائق المُرَّة عن الحياة في ظلال الحكم السوفيتي فقد كانوا شديدي الميل إلى توجيه اللوم كله إلى ستالين نفسه، وكان في وسعهم بفضل هذا الميل أن يغضوا النظر عن الفظائع التي تُرْتَكَب في ظلال هذا الحكم، وأن يقبلوها على أنها فترة انتقال تمهد للنعيم المقبل، وكانوا يقولون: إن «الديمقراطية الاشتراكية» ستزدهر بعد ستالين، وهل ستالين إلا بشر ستنقضي أنفاسه المعدودة كما تنقضي أنفاس سائر الآدميين؟ ولقد لاحظت في بلادنا نفسها مثل هذا الميل إلى إلقاء تبعة هذه الآثام على عاتق فرد واحد، ولكن هذا الخداع كان في أمريكا أوسع انتشارًا منه في بلادنا، غير أني أقول والأسف يملأ جوانحي: إن هذه الشرور متأصلة في النظام السوفيتي كله، وإن هذا النظام لن يموت بموت ستالين، بل سيظل قائمًا يتولى زمامه طاغية آخر أو زمرة من الطغاة.
ولقد وجدت نفسي في يوم من الأيام في بلدة أمريكية صناعية صغيرة، وفي صحبة طائفة من الرأسماليين، ومن أشد المحافظين وأكثرهم عداءً للعمال، وكان مما قالوه لي في حديثهم معي أنهم يرون من الواجب عليهم أن يجهروا بأنهم لا يرضون عن النظام السوفيتي، وأنهم في واقع الأمر يبغضونه ويخشون ما قد يكون له من الأثر في تفكير الأمريكيين، ترى ماذا كانت الصورة التي تنطوي عليها عقولهم لهذا النظام الذي يبغضونه؟ وأخذت أستدرجهم لأتعرف هذه الصورة على حقيقتها، وما كان أشد دهشتي حين تبينت أن روسيا بلد «يحكمه العمال، ويعيش فيه الزراع في مجتمع تعاوني، كل من فيه متكافئون!» وكان معنا موظف سوفيتي آخر فألفيت نفسي في وضع مؤلم لا أُحْسَد عليه؛ إذ كنت عاجزًا عن أن أوضح لهؤلاء الجهلاء أن العمال في أمريكا أعظم سلطانًا، وأن النقابات الأمريكية أقوى نفوذًا، وأن الزراع الأمريكيين أشد تعاونًا، وأن الأفراد أوسع حرية مما تحلم به روسيا السوفيتية، أو تجرؤ على أن تحلم به.
وعثرت في مكتبة البعثة على مجموعة من خطب هنري أ. ولاس، وقرأ لي شخص يعرف اللغتين الإنجليزية والروسية أهم ما ورد في هذه الخطب عن روسيا، فلما سمعتها لم أكد أصدق ما سمعت، فقد أخذ نائب رئيس الجمهورية في حكومة ديمقراطية يثني على ما يسميه «الديمقراطية الاقتصادية» في دولة ستالين البوليسية! ترى هل عرف مستر ولاس تلك الحقائق التي لا يجهلها إنسان في بلادنا؟ هل عرف شيئًا عن الشرطة السرية والقسم المخصوص القائمين في كل مصنع سوفيتي، وعن نقابات العمال التي تسيطر عليها الدولة، وعن افتقار البلاد إلى الأعمال الجماعية الحقة في البيع والشراء، وعن عقوبة الإعدام التي يحكم بها على الإضراب، وعن إرهاق العمال في المناجم وتكليفهم بما لا قِبَل لهم به من الأعمال، وعن نظام الأجر بالقطعة، وعن جوازات المرور التي لا بد لكل عامل أن يحصل عليها، وعن القوانين التي تعاقب من يتأخر عن عمله أكثر من عشرين دقيقة بالطرد وبالموت هو وأسرته جوعًا، وعن مستعمرات السخرة؟ ألم يسمع مستر ولاس شيئًا عن هذه الأمور، أو أنه سمع بها ولكنها استحالت في عقله بطريقة لا نعرفها إلى مظاهر «الديمقراطية الاقتصادية»؟
وجاهدت في قراءة كتاب عالم واحد تأليف «وندل ولكي»، فقد كنت أعمل في مجلس الوزراء في أثناء زيارته للروسيا، وأعرف وقتئذٍ أن ولاة الأمور قد سخروا كل وسائل الدعاوة البهلوانية للتأثير فيه، فلم يترك أقل شيء للمصادفات، بل سار كل شيء طبقًا لخطة مرسومة، فلما قرأت ما كتب ذهلت وارتعت لنجاح خططنا، وعجبت كيف يستطاع تضليل إنسان ما هذا التضليل الواسع النطاق في ذلك الوقت القصير؟ لقد قرأت الفصول الخاصة بالروسيا من كتابه فأحسست أنه يكتب عن بلد لم تطأه قدماه، بلد لا وجود له إلا في مكان ما على سطح القمر، وقصارى القول: إن الكتاب شاهد فذ على نجاح الدعاوة الدكتاتورية.
لقد أخذ مستر ولكي يصف في كتابه كيف دعا جماعة من الصحفيين السوفيت الظرفاء في أحد فنادق موسكو ليتحدث إليهم حديثًا صريحًا لا يقصد تدوينه، وكيف أغلقوا الباب على أنفسهم، وأخذ كل منهم يصارحه بما في نفسه، ولعمري لو أنني أردت أن أكتب مسرحية أندد فيها ببلاهة الأمريكيين وسهولة انخداعهم حين يكونون في خارج بلادهم، لما وجدت لمسرحيتي خيرًا من هذا المنظر، ولوضعته كما هو دون تغيير، أحق أن مستر ولكي ومستشاريه الأمريكيين يعتقدون أن في وسعهم أن يحصلوا على الآراء الصحيحة الصادقة إذا أغلقوا الأبواب، ومنعوا دخول «الموظفين؟» ألا يعرف هؤلاء أن كل صحفي سوفيتي، بل كل مهندس، وكل مرشد للسياح إن هو إلا «موظف» تفرض عليه الأعمال فرضًا، ولا يجد من تنفيذها مفرًّا؟ إن مجرد التفكير في نقاش صريح «غير مسجل» مع وجود مواطن سوفيتي على مسمع من مواطن آخر ليكشف عن الجهل المطبق بحقيقة ما يحدث في البلاد الدكتاتورية، لقد نقل كل واحد من هؤلاء الصحفيين ما دار في هذا الاجتماع بطبيعة الحال، وأكد فيما نقله دفاعه المجيد عن العهد السوفيتي وولاءه له وما كان له من شأن في الإدلاء لمستر ولكي «بالآراء» المقررة المفروضة.
ذلك أنه لم يكن له سبيل يسلكها غير هذه السبيل، فكل صحفي وكل كبير في الأعمال الصناعية وكل مواطن سوفيتي يضطره عمله إلى الاتصال بالأجانب يتعهد كتابة بأن يبلغ من فوره رجال القسم السياسي عن كل اجتماع بهم، وينقل إليهم كل ما يفعل أو يقال في هذه الاجتماعات مفصلًا أعظم تفصيل، وسرعان ما عرفت الإدارة الخارجية في القسم السياسي وإدارة الصحافة في وزارة الخارجية، والإدارة الخارجية في لجنة الحزب المركزية، وسائر الهيئات التي يهمها الأمر، سرعان ما عرفت هذه كلها جميع ما يتبادله المجتمعون من الآراء «الصريحة» التي يفخر بها مستر ولكي ويشيد بذكرها، ولم يعقد قط اجتماع سجل كل ما دار فيه بدقة أكثر مما سجل في هذا الاجتماع الذي «لم يسجل شيء مما دار فيه».
ولعلي لم تمر عليَّ في أمريكا ليلة أشق على نفسي من الليلة التي قضيتها في إحدى دور الخيالة في واشنجتن، وحمدت الله أنْ كانت الدار مظلمة، فقد أخفى الظلام ما كنت فيه من بلاء لا أشك في أنه كان باديًا على وجهي يستطيع أن يقرأه كل من يراه، وكان الموظف السوفيتي الآخر الجالس معي — وهو أيضًا من أعضاء الحزب — يتلوى هو الآخر في مقعده، وما من شك في أنه لم يكن أقل مني اضطرابًا وذعرًا، وكانت هذه هي الليلة التي شاهدت فيها عرض شريط يسمى «بعثة إلى موسكو» أخذ موضوعه من كتاب بهذا الاسم كتبه جورف. أديفز سفير أمريكا السابق في موسكو، وكان ما رأيته كله إهانة وحشية جريئة موجهة إلى الأمة الروسية، وسخرية لاذعة من ثورتها، وتهكمًا على آلامها الطوال.
وكان في الكتاب من السخف أكثر مما فيه من الإثم، فقد كان محشوًّا بالجهالة والنفاق والسخف، يخفف منه في بعض المواضع شعاع من الحقيقة، وكان موضوع الشريط يدور كله حول هذه الحقائق القليلة المبعثرة فيه ويضيف إليها تفاصيل أخرى لا وجود لها في الكتاب؛ ذلك أن «المؤرخين» في هولي وود إذا وجدوا أن لا بد لهم من أن يختاروا بين الواقع والخيال، وبين الحقائق والسخف، لا يترددون في اختيار الخيال والسخف ونبذ الوقائع والحقائق، واتفق أن كنت أعرف كل شيء عن المصنع السيبيري الذي كان له شأن في محاكمات التطهير، والذي ظهر في هذا الشريط، فشعرت وقت رؤية هذا المصنع أن العقل البشري لا يستطيع أن يبتدع صورة أكثر سخفًا وأدعى إلى السخرية من الصورة التي رسمتها له هولي وود، بل لقد خُيِّلَ إليَّ أن الدعاوة السوفيتية نفسها لا تجرؤ على الاستهتار في قلب الحقائق كما فعل القائمون على هذا الشريط، ولعل الدعاة الأمريكيين قد استغلوا جهل النظارة فأطلقوا لخيالهم العنان، وفي وسعي أن أقول بهذه المناسبة أن ظهور هذا الشريط كان فيه من الإهانة للأمريكيين بقدر ما فيه من إهانة للروس، فلا عجب والحالة هذه إذا نظمت صحيفة برافدا الروسية عقود المدح للمستر ديفز ولكتابه، وأخذت تنقل منه فقرات يشير فيها إلى العدالة السوفيتية التي لا مطعن فيها، وإلى أن أعمال التطهير قد محت الطابور الخامس محوًا، وأن القضاء على الذين قاموا بالثورة البلشفية عمل عادل لا غبار عليه، ألا ما أغرب هذا القول وما أعظم أثره في عقول الروس الأذكياء!
لقد قضى ستالين على مؤسسي الدولة السوفيتية، ولكن الدماء التي أُرِيقت في هذه الجريمة لم تكن إلا قطرة من بحر الدماء التي أُرِيقت في المجازر البشرية التي هلك فيها مئات الآلاف من الأبرياء الرجال منهم والنساء، غير أن هذه الجرائم المروعة لم تزد في الشريط الذي وضعته شركة ديفرز — وارنر على أن تكون مؤامرة ساخرة صغيرة دبرها عدد قليل من البلاشفة الهازلين الطاعنين في السن، ووكلاء الأجانب الذين مثلوا في صورة «طابور خامس»، وبهذا أضحى ذلك الحادث السياسي الجلل الذي تتضاءل أمامه مذبحة ليلة سنت بارثلميو وعهد الإرهاب الفرنسي، فلا تزيدان على شجار يحدث في أطراف الطرق، أضحى ذلك الحادث الجلل، وقد هُذِّبَت حواشيه حتى أضحى لا يزيد على مهزلة تحدث في إحدى حجرات الاستقبال.
ولقد قاسيت ما قاسيت في أعمال التطهير، فعذبت في جسمي وروحي، وإن كان هذا العذاب أقل مما قساه سائر ضحايا هذا العهد، وها أنا ذا أرى محنتي ومحنة بلادي تمثل على أحد مسارح واشنجتن تمثيلًا هزليًّا ساخرًا كل ما فيه زور وبهتان، وشاهدت المنظر البشع الذي يرى فيه ممثلي هولي وود يركلون بأرجلهم ما حوله من جثث القتلى ويهتفون للقاتلين.
وخرجت في تلك الليلة من هذا الجحيم، ونظرت إلى يدي فوجدت أني أدميت كفي بأظافري، ونظرت إلى رفيقي ونظر هو إليَّ، وكانت نظرة واحدة كافية، فلم نكن في حاجة إلى الكلام، وقضيت الليلة مؤرقًا، لم تكتحل عيني بالرقاد، تتشعبني الهموم وتتوزعني الفكر.
وشاهدت صورة أخرى تكشف عما في عقول الأمريكيين عن خرافة عن الروسيا، وكادت تذهب بلبِّي، وتلك هي مسرحية غنائية تُدْعَى «النجم الشمالي» تمثل منظرًا في قرية خيالية أهلها زراع ينعمون بطيب العيش، سعداء يقضون أوقاتهم كلها في اللهو والغناء والرقص وتبادل العشق، لا يعملون عملًا، وكانت قرية مسحورة يغشاها جو خيالي كالذي نقرأ عنه في الأقاصيص الخيالية.
واتضح أن هذه القرية لم تكن في أرض واق الواق، بل كانت مزرعة من المزارع الجماعية في أرض ستالين!
وكانت المناظر التي شاهدناها لا تقل بعدًا عن الحقائق التي أعرفها عن المزارع الجماعية من بعد بعثة إلى موسكو عن حقائق الثورة الروسية، وشاهدت بعدئذٍ صورًا، وقرأت كتبًا ومقالات، كلها خيال في خيال، ولا تنطبق إلا على بلاد لا وجود لها على ظهر هذه الأرض، كأن الدعاوة الأمريكية لم يكفها عرض الحقائق البغيضة عن الروسيا وتبريرها، بل اتخذت لنفسها طريقًا أيسر من هذا وأقل عليها مشقة، وهو إنكار الحقائق بتاتًا، وإقامة روسيا أخرى لا وجود لها إلا في مخيلة القائمين بهذه الدعاوة.
وظللت أسائل نفسي: لِمَ يا ترى يصر هؤلاء الأمريكيون على اختراع جنان الفردوس وتعيين مكانها في بلادنا المعذبة؟ ولِمَ يجهدون أنفسهم في محو كل آثام ستالين وتبرير كل فظائع البلشفية؟
يلوح لي أنه كان في أمريكا طائفة من الرجال والنساء أمثال دورانتي وهندوس وأنا لوبز سترنج وألا ونتر وألبرت ريس ووليمز وكثيرين غيرهم ممن بنوا مجدهم على إشباع رغبة السوفيت في الدعاوة الباطلة، التي لا تكاد تجد فرقًا بينها وبين صحف العاصمة الروسية، وكان بين الأمريكيين طائفة أخرى أكثر عددًا من الطائفة السالفة الذكر وأشرف منها بوجه عام، وهي طائفة الشيوعيين الحقيقيين الذين كانوا يرون أن الكذب لصالح الروسيا مبرر؛ لأنه ضرب من الكفاح بين الطبقات، ولأنه أقصر طريق يستولون به على زمام الحكم ولكن الذي لا أفهمه هو ما يدعو كثرة الشعب الأمريكي إلى قبول هذا الكذب والإيمان به.
على أن أكثر ما كنت أدهش له هو جهل من يسمونهم «الخبراء بشئون روسيا السوفيتية» جهلًا مطبقًا بنظام الحكم في اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية، وبكنه هذا النظام، وبدولاب الإدارة في البلاد، ولكنهم على جهلهم قد نشروا الدعاوة لهذا النظام، وثبتوا أصولها في أمريكا، وقد استطعت في يوم من الأيام أن أطلع على فهرس الكتب المحفوظة في مكتبة إحدى الجامعات الأمريكية، وما كان أشد دهشتي حين تبينت أن أكثر ما قلبته الأيدي من الجذاذات هي المحتوية على مؤلفات لينين وستالين، ولم يخالجني شك في أن بعض الناس قد عنوا كل العناية بدراسة هذه الكتب؛ لاعتقادهم أنها هادية إلى عالم خير من عالمنا الحاضر … ولم يدهشني أن أتبين بعدئذٍ أن بعض طلبة هذه الجامعة من الأمريكيين والهنود والصينيين كانوا يعقدون الآمال على أن تسلك بلادهم نفس السبيل التي سلكتها روسيا السوفيتية، أما أنا فكان كل ما أرجوه لهم ألا يقضى عليهم بأن يقاسوا تلك الآلام المريرة التي قاسيتها أنا من قبلهم.
وتبينت في كثير من الحالات أني جئت إلى أمريكا في أنسب الأوقات التي أمكنتني من أن أعرف أن الأمريكيين إنما كانوا يقبلون الخرافات المنتشرة عن البلاد الروسية؛ لأنهم يتخذونها بديلًا عن الحقائق التي تجابههم في كل يوم، فقد كانت المظالم السائدة في بلادهم تكسف بالهم وتنكس أبصارهم، فكانوا من أجل ذلك في حاجة إلى ما يسليهم ويريح بالهم، مثلهم في هذا كمثل الطفل المتألم يهدأ روعه باللعبة البراقة المجلجلة، فهم في هذه الحال لا يخادعون الناس بقدر ما يخادعون أنفسهم، وأكثر ما تبينت هذا الحرص على الانخداع الذاتي في كتب من يسمونهم الأحرار من الكتاب، وفي جرائد «ذي نيشن» و«ذي نيو ريبلك، ب. م»، وأمثالها من الصحف، ولقد خُيِّلَ إليَّ أن في موقف هذه الصحف من شئون البلاد الروسية تبديدًا مروعًا لنياتها الطيبة.
ألا ليت هؤلاء الكُتَّاب يؤتون من الحصافة الذهنية واتزان العقل ما يدركون بهما أن انتشار المظالم في أمريكا لا يبرر تأييدهم للمظالم في غيرها من البلاد! ألا ليتهم يعرفون أن هتافهم للتصفيات الدموية في الروسيا قد يريح بالهم ويفرج كربهم إلى حين، ولكنه لا يعينهم على الوصول إلى الهدف الأسمى، وهو إقامة منار العدل في جميع بلاد العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية!
ولقد عثرت وأنا أتنقل بين المكتبات الأمريكية على عدد من الكتب البليغة من وضع أمريكيين أوتوا من الشجاعة ما حملهم على كشف حقيقة الحال في بلاد الروسيا في عهد الإرهاب القيصري، ومن أمثال هذه الكتب كتاب جورج كينن عن سيبيريا، وعرفت أيضًا أن في أمريكا كثيرين من الروس الذين نُفُوا من بلادهم أمثال بطرس كريتوكين الذي فر من الجاسوسية القيصرية ليشن حملة شعواء على الذين يضعون الأغلال في أعناق مواطنيهم، ولم أدر هل يطلق الأمريكيون الأحرار على هؤلاء القوم اسم «أعداء الروسيا» جزاءً لهم على جرأتهم وتعريضهم حياتهم لأشد الأخطار، أو أن الأجيال المقبلة التي ستكون أكثر حكمة من الجيل الحاضر، وأقل منه جنونًا وتأثرًا بالدعاوة السياسية، ستدرك أن أولئك الرجال هم أصدقاء الروسيا الحقيقيون الذين يستدرون الرحمة والشفقة على الضحايا الروس المعذبين؟
لقد عرفت تدريجًا وعلى مهل ما لم أكن أصدقه لو لم أكابده بنفسي، وهو أن الذين يجرءُون على النطق ببعض الحقائق عن طغيان ستالين، والذين يدافعون عن الشعب الروسي وينددون بظالميه، يعرضون أنفسهم للمهانة والفصل من وظائفهم، واتهامهم بأنهم «معادون للروس»، وأدركت أن اعتزامي الفرار إلى العالم الحر الطليق، واستخدام هذه الحرية للدفاع عن مواطني، لن يكونا من السهولة كما كنت أتصور قبل القدوم إلى هذه البلاد، لقد أدركت أن سوف يشي بي ويسخر مني أولئك الأجانب ذوو القلوب الطيبة والنفوس الكريمة ممن كنت أعتمد على معونتهم.
ولقد تبينت أن دعاوة ستالين في العالم الخارجي كانت أكثر نجاحًا مما خطر ببال أي واحد منا نحن الروس، وأن الروس في بلادهم لا ينظرون إلى الأسطورة التي توصف فيها تلك البلاد بأنها الأرض «الاشتراكية السعيدة»، إلا على أنها دعاوة بشعة تنشرها حكومتهم الطاغية، أما في العالم الديمقراطي الخارجي فإن كثيرين من الذين يخلقون الرأي العام فيه — رجالًا كانوا أو نساءً — يقبلون هذه الدعاوة بقضها وقضيضها ويؤمنون بها، ويكادون ينزلونها من نفوسهم منزلة العقائد الدينية.