الشباب في الجيش الأحمر
وجاء المحصول الجديد موفورًا في صيف عام ١٩٢٢م، وتجدد في صدور الناس أملهم في الحياة وحرصهم عليها، ودفنوا موتاهم وكانوا يعدون بالملايين، ولم يعد أحد منهم يذكر الكارثة التي حلت بالشعب كأنهم أخذوا على أنفسهم عهدًا صامتًا بألا يشيروا قط إليها، أو كأنها كابوس ليل لا يكادون يذكرونه إذا طلع النهار.
وحملت أشجار البستان في «دق الأجراس» حملًا ثقيلًا من الفاكهة، وامتلأت البِرْكَة سمكًا، وهب النسيم من نهر دنيبر على حقول القمح يداعب سنابلها الذهبية، وعادت العذارى الأوكرانيات إلى الغناء جماعات في موسم الحصاد الجديد، ولشد ما اغتبطت لأني بلغت السابعة عشرة إلا قليلًا، وقد خط شاربي، وأصبحت أستحي فجأة إذا شاهدت البنات، بعد أن لم أكن أعبأ بهن في الأمس القريب.
وصحَّت عزيمتي في هذا الوقت على أن أعمل في صناعة التعدين، ولعل لهذا صلة من نوع ما بهذا الفصل من حياتنا الزراعية الرخية الجديدة، فقد أصبحت أتحرق شوقًا إلى أن أضرب بمعولي في باطن أمنا الأرض، وأن أبني على ظهرها وأتوسع، وما من شك في أن ما كنا نسمعه من المحاضرين في نادي كربينو لم يكن إلا عبارات عادية ليست بذات قيمة كبيرة، فهي لا تزيد على طائفة من القوانين يضعها الحزب الشيوعي ليستنهض بها همم العمال، ولكني كنت أرى في كل لفظة منها دعوة قوية إلى الجد والعمل.
وقال الخطيب ذات ليلة في مستهل الخريف: «أيها الرفاق، إن بلدنا في حاجة إلى الفحم وإلى المعادن وإلى الزيت وهي أعصاب الحياة في المستقبل، وأنا أدعو كل مَنْ كانت الثورة حبيبة إلى قلبه أن يذهب إلى المصانع والمناجم؛ ذلك أن جمهوريتنا السوفيتية في أشد الحاجة إلى أيدي الصناع القوية، فمناجم الفحم في حوض الدنتز مثلًا تحتاج إلى الآلاف من الرجال.»
ونظرت إلى سينيا ونظر هو إليَّ، وأدرك كل منا أن صاحبه قد صحَّت عزيمته على ما صحَّت عليه عزيمة صديقه، وإن لم ينطق أحدنا بكلمة واحدة عن عزمه هذا.
ولما عدت إلى المنزل وأبلغت أهلي أني اعتزمت الذهاب إلى مناجم الفحم في حوض الدنتز حزن لذلك أبي وبكت أمي بكاءً صامتًا، وقالت لي: إني لا أزال غلامًا وإني سأجد كثيرًا من العمل ينتظرني في مستقبل الأيام، ولكنهما لم يحاولا قط أن يثنياني عن عزمي، وقضت أمي بضعة أيام تعد لي الثياب، ثم حزمتها وعلائم الحنو بادية على وجهها.
وأُرسلنا إلى منجم من مناجم الفحم بالقرب من ألجفرفكا في إقليم ألشفسك، وكان هذا الإقليم من أقدم أقاليم الفحم في حوض الدنتز، ولكنهم أخذوا وقتئذٍ يوسعون دائرته كثيرًا، وقضينا ليلتنا الأولى في ثكنات طويلة مظلمة، نام فيها مئات من الناس على أسرَّة من ألواح خشبية عارية، من طبقتين تعلو إحداهما الأخرى، وكانت الروائح الكريهة تنبعث من أجسام الناس المكدسة في الثكنات، ومن الطعام الفاسد والدخان الرديء، فلا نكاد نطيقها وأخذ بعض عمال المناجم القذرين يلعبون بأوراق قذرة، ويتبادلون أقبح الألفاظ في ضوء الفتائل الزيتية الخافت.
ولكن الغلامين القادمين من الدنيبر استغرقا في نوم عميق لما نالهما من التعب في أثناء سفرهما الطويل في قطار مزدحم بالركاب، فلما استيقظنا في الصباح لم نعثر لحقائب ملابسنا على أثر، فقد سُرِقَت ونحن نائمان، ولم يبقَ لنا إلا الملابس القذرة التي سافرنا ونمنا وهي على جسمنا، وأخذنا نطوف بمحلة المعدنين، ولكن طوافنا لم يُدْخِل السرور على قلبينا، فقد كانت هذه المحلة زقاقًا طويلًا قذرًا تمتد على جانبيه أكواخ عتيقة وثكنات جديدة أقيمت في غير نظام، وكان يغمر المكان كله جو خانق من تراب الفحم، وسرعان ما خَبَتْ في صدرينا نار الحماسة التي كانت تتقد فيهما وتدفعنا إلى أن نقيم بأيدينا «صرح الاشتراكية»، وكان لا بد من أن تمضى أسابيع وأسابيع قبل أن يعود إلينا ما بدأنا به رحلتنا من غيرة وحماسة.
وأُرسل سينيا إلى منجم في قلب إحدى غابات البلوط، أما أنا فكنت أتعس الناس حظًّا، فقد كان المتعلمون منا قليلين؛ ولذلك أصر أحد موظفي نقابة العمال على أن أعمل في مكتب من مكاتب الإدارة، وهكذا تكشفت الصورة التي رسمتها لنفسي، صورة رجل يضرب بمعوله ومصباح التعدين مشدود إلى جبهته، عن حقيقة لم أكن قط أتوقعها، وهي أن أقبض على قلم للكتابة وجداول للعد والحساب.
وقضينا الشهور الأولى في ثكنة من الثكنات الضخمة القذرة التي حُشد فيها القادمون الجدد، ثم حصلنا بعدئذٍ على حجرة في أحد الأبنية الصغيرة التي يقيم فيها المعدنون القدامى أو الدائمون، وما كدت أتعود تراب الفحم وظروف الحياة البدائية حتى زال ما كان في هذه الحياة من ملل وسآمة، وأصبح فيها شيء من الحماسة والمتعة، فقد ألفيت نفسي فيما يكاد أن يكون قطاعًا مستعرضًا من الهيئات الاجتماعية التي تتألف منها الدولة السوفيتية، أو كأن نماذج قد أخِذَت من جميع هذه الهيئات وجيء بها كلها في ذلك المكان.
وكانت الكثرة الغالبة فيه تتألف من الروس والأوكرانيين بطبيعة الحال، ولكنه احتوى أيضًا على التتار والأرمن والصينيين وأهل القفقاس الجبليين وقازاق من سهوب سيبيريا، وكان من هؤلاء عدد قليل جاءوا كما جئت أنا وسينيا ليعملوا جادين في تصنيع البلاد، وأكبُّوا على عملهم جادين بحماسة وغيرة وطنية، أما معظمهم فقد جاءوا لأن الأجور التي يتقاضونها أجور عالية إذا قيست إلى مستوى الأجور في قراهم؛ ولذلك فإن آلافًا منهم لم يبقوا إلا ريثما يقتصدون من هذه الأجور ما يكفي لشراء بقرة أو حصان أو بناء بيت جديد.
ذلك أن أهم ما كانت تُعْنَى به الإدارة في تلك الأيام هو رفع أجور العمال حتى تتجاوز كل حد معقول.
ولم تكن قلوب هذه الشعوب المختلفة تنطوي على شيء من الحب المتبادل، ولم يكونوا ينزعون إلى المعيشة متفرقين فحسب، بل كانوا يعملون أيضًا متفرقين؛ فكان الشرقيون يعملون في أعمق المناجم وأكثرها مشقة، أما الروس والأوكرانيون فكانوا يقومون بالأعمال الهينة على أن الفروق التي كانت تفصل الطبقات كانت أوسع من الفواصل التي كانت تفرق بين الأجناس، فكانت «بقايا» الشعب القديم من أبناء التجار وملاك الأراضي والقساوسة والموظفين والضباط السابقين في العهد القديم والطلاب الأقدمين؛ كان هؤلاء جميعًا يشعرون أنهم غرباء ويُحقَّرون علنًا ولا يكاد يطيقهم أحد.
وكانت حياة الثكنات حياة خشنة لا تخلو في كثير من الأحيان من القبح والفظاظة، كان الرجال يشربون الفُدكا من الزجاجات، فإذا لعبت الخمر برءوسهم صرفوا نشاطهم في التطاحن والتلاكم، ومنهم من كان يقامر ويجادل بأعلى صوته في أسخف الموضوعات؛ ولقد أبصرت عمالًا لا يخسرون في ألعاب الورق كل أجورهم فحسب، بل يخسرون معها آخر حذاء لهم، ويخسرون غطاءهم الذي لا غطاء لهم غيره، وكانت أندية العمال وفصول محو الأمية والمكتبات تجتذب إليها عددًا قليلًا من الصناع الذين طُبِعُوا على الجد والتعقل.
وكان من أسباب متعتي أن أرقب ما يطرأ على صبيان الفلاحين من تطور؛ فقد كانوا يأتون خرقًا سماجًا واسعي الأعين ليتصلوا لأول مرة بالعالم الكبير خارج قراهم، وكانوا يحتذون نعالًا من الأعشاب وسراويل واسعة من غزل منازلهم وصدريات قروية طويلة، وإذا شاهدوا «صعاليك» الصناع والغرباء العجبي الأطوار القادمين من أطراف الروسيا النائية دهشوا لمنظرهم وأخذ منهم العجب كل مأخذ.
ولكنهم سرعان ما كانوا يتبدلون إلى غير ما كانوا إن لم نقل إلى أحسن مما كانوا، فقد كان كثيرون منهم يعودون من المدن وعلى أجسامهم ملابس ابتاعوها من مخازنها، حليقي اللحى متعطرين، يحتذون أحذية جديدة ذات صرير جميل، ويطلبون إلى المصورين أن يصوروهم في زيهم الجديد الجميل ليدهشوا بصورهم أهلهم وذويهم، وكانوا يتبخترون في المحلة جماعات جماعات يمرحون ويصخبون على نغمات المزمار، ومنهم من كانت تجتذبهم النوادي وفصول مكافحة الأمية، وسرعان ما شرع هؤلاء «يأسون» لما كان عليه أصدقاؤهم من «تأخر» ونقص في «الثقافة» ويناقشون الشئون السياسية كأنهم وُلِدُوا في غمرة السياسة من آباء سياسيين.
أما أنا فقد كان النادي محور حياتي بطبيعة الحال، وقد عاد إليَّ شغفي بالقراءة كاملًا بعد أن قطعته الحرب الأهلية والمجاعة إلى حين، ولم أكن أنا وأمثالي نقنع بما في متناول أيدينا من كتب المكتبة، بل كان كل منَّا يستعير الكتب من الآخر، وكنت في كل مساء وفي أيام العطلات أدرس مناهج في الكيمياء والرياضيات والطبيعة أو أستمع إلى محاضرات فنية عن استخراج الفحم، وارتبطت أنا وسينيا برباط الصداقة مع فتيان وفتيات لا يقلون عنَّا شغفًا بالعلم، وأكسبتني دراستي السابقة شيئًا من النفوذ بين الشبان من العمال الممتازين بجدِّهم، وبين أبناء الكبار منهم.
وامتلأت أعمدة الصحف بالدعوة إلى حياة خير من حياة البلاد الأولى، وأخذت تنشر على الناس أن روسيا الفقيرة المتأخرة تسير في طريق الرقي، وأن الروس جميعًا لم يبقَ أمامهم إلا أن يخرجوا فحمًا أكثر مما يخرجون، وينتجوا حَبًّا أكثر مما ينتجون، وينالوا من الثقافة أكثر مما ينالون، وكنت أقرأ هذه الدعوة كأنها موجهة إلى شخصي، وكان هذا وذاك من كبار الزعماء الجدد أمثال بتروفسكي، وركوفسكي، بل ولونا تشرسكي نفسه يمرون بالإقليم الذي كنا نعمل فيه، فكنت أصغي لأحاديثهم فأشعر أني جزء من شيء جديد كبير مثير للعواطف، فقد عرفت منهم أن في قصر الكرملن بموسكو يجلس رجال لا نسميهم بأكثر من الرفاق — لينين وتروتسكي وزرزنسكي — ولكني كنت أعرف أنهم جبابرة.
وإذا رجعت بذاكرتي إلى تاريخي الخاص تحت لواء الشيوعية، فإني أميل إلى إرجاع تاريخ اعتناق مبادئها إلى الوقت الذي أقبل علينا فيه الرفيق لزريف، وألقى علينا سلسلة من المحاضرات عن الاشتراكية، وكان لزريف رجلًا في نحو الثلاثين من العمر، ومن أعضاء هيئة التدريس بسفرولفسك، طويل القامة، نحيف الجسم، أنيق الملبس؛ وكان حديثه سهلًا مقصورًا على ألفاظه هو لا يلجأ فيه إلى عبارات ينقلها عن ماركس أو لينين، وكان أهم ما انطبع في ذهني منه أنه يلبس رباط رقبة؛ لأنه بذلك قوَّى حجة القائلين منا بأن في وسع الإنسان أن يكون مواطنًا سوفيتيا صميمًا، وأن يبيح لنفسه مع ذلك بعض الكماليات التي هي من خصائص الطبقات الوسطى.
وكنت في أحد الأيام في المكتبة منهمكًا في قراءة كتاب وإذا إنسان من خلفي يقول: «ماذا تقرأ؟ يهمني أن أعرف ذلك.»
فالتفتُّ وإذا الذي يحدثني هو الرفيق لزريف.
فارتبكت ولكني أجبته وأنا أبتسم: «أحاديث الأب جيروم كوينارد لأناتول فرانس.»
فقال: «أصحيح هذا؟ أناتول فرانس! ولِمَ لا تقرأ للكُتَّاب الروس الأقدمين أو لأحد الكتاب السوفيت المعاصرين؟»
فأجبته: «إني أجد في أناتول فرانس أشياء كثيرة لا أجد لها نظيرًا في مؤلفات كُتَّاب السوفيت، فأناتول كاتب دقيق صريح، وأنا أقرأ للكُتَّاب الروس الأقدمين، أما المؤلفون المحدثون فهم لا يكتبون إلا في السياسة، ويخُيِّلَ إليَّ أنهم يتحاشون الكتابة عن الحياة الحقة المحيطة بنا.»
– «شيء جميل، فلنبحث هذا في إحدى الليالي المقبلة، تعالَ إلى حجرتي لنتعارف.»
والتقيت به مرة أخرى بعد بضعة أيام في أثناء «دورة العمل»، وهي الدورة التي يؤتى فيها بمئات المتطوعين ليقوموا بعمل عاجل لا يتقاضون عليه أجرًا، وكان العمل في هذه المرة نقل أكوام كبيرة من الفحم لإخلاء طريق عام، وكان الرفيق لزريف يرتدي ثياب العمل، يغطيها تراب الفحم، وفي يده مجرف يدفعه بنشاط عظيم، وحياني الرجل كأنه صديق لي قديم واغتبطت بذلك أيما اغتباط.
والتقيت به في تلك الليلة نفسها في المكتبة، وسألني عما كنت أقرؤه في ذلك الوقت فأجبته بأني أقرأ «ماذا تفعل؟» تأليف تشرتشفسكي.
فأومأ برأسه علامة على الاستحسان وقال: «هذا مؤلف عظيم الشأن.»
فأجبته: «أجل، وإن سؤاله الذي يقول ماذا تفعل ليحيرني الآن.»
– «إنه سؤال قد تلقى الإجابة عنها ملايين الناس من لينين ومن ماركس قبل لينين، فهل قرأت لينين وماركس؟»
فأجبته: «قرأت أشياء قليلة متفرقة للينين، أما ماركس فلم أقرأ له شيئًا، ولقد قرأت نشرات الحزب بطبيعة الحال، ولكني غير واثق من أن فيها إجابة وافية عن هذا السؤال: ماذا تفعل؟»
فتبسم الرفيق لزريف وقال: «تعالَ معي إلى حجرتي لنشرب قدحًا من الشاي، ونتناول بعض المرطبات، ونتحدث دون أن نشوش على أحد.»
وكانت حجرة نظيفة ساطعة الضوء، فيها أريكة مغطاة بطنفسة جميلة، ومكتب صُفَّت عليه كتب بين حاجزين بنظام جميل، وآنية ملونة تحتوي على أزهار ذات لون بهيج، وعُلِّقَت على أحد جدرانها عدة صور لأفراد أسرته، ومنها صورة له وهو غلام يرتدي حلة المدرسة العليا الرسمية، وعند قدميه كلب، ومنها أيضًا صورة لأخت له حسناء وقد ارتدت هي الأخرى زي الطالبات، وعُلِّقَت على جدار آخر وفي إطارين منفصلين صورتا لينين وماركس الشمسيتان، وبينهما صورة تولستوي المألوفة في شيخوخته، وعليه رداء الزُّرَّاع الطويل، وإبهاماه مثبتتان في منطقته، وكانت هذه الصورة الأخيرة هي التي نفثت روح الحماسة في صدري، واستمالتني إلى المذهب الجديد.
وقلت وقتئذٍ في نفسي: «ليس هذا بحَّارًا جلفًا يهاجم ممرضة ليلًا، إن في وسعي أن أتبع هذا الصنف من الشيوعيين.»
وقال لزريف يشرح ما كانت تحدثني به نفسي: «لما كنت مضطرًّا إلى الإقامة هنا عدة أشهر فقد حاولت أن أجعل هذا المكان شبيهًا بمنزلي.»
وظللنا نتحدث في تلك الليلة عدة ساعات عن الكتب وعن الحزب وعن مستقبل الروسيا، وقال لي لزريف: إن المكان اللائق بي هو أن أكون مع الأقلية الشيوعية التي يجب أن ترشد الناس وتهديهم، وإن من واجبي أن أنضم إلى لجان الشباب، ثم إلى الحزب نفسه بعدئذٍ، وأقر بطبيعة الحال أن الحزب ليس مبرأً من العيوب، ولعل في برنامجه بعض النقص، ولكنه قال: إن الرجال أجلُّ شأنًا من البرامج.
وواصل حديثه قائلًا: «إذا كان أمثالك من الشبان النابهين ذوي المبادئ يترفعون عنا فأي أمل لنا في الإصلاح؟ لِمَ لا تدنو منا أكثر مما دنوت، وتعمل معنا للقضية العامة؟ إن في وسعك أن تقدم المعونة لغيرك بأن تكون لهم مثلًا يحتذى في الإخلاص لوطنك، انظر إلى الثكنات من حولك؛ تر المقامرة والأقذار والسكر والشَّرَه، حيث يجب أن تكون النظافة والكتب والنفوس الطاهرة، إن عليك أن تدرك أن أمامنا أعمالًا عظيمة تحتاج إلى جهود جبارة، إن أمامنا أقذارًا تراكمت على مر القرون لا بد لنا من إزالتها، إن علينا أن نجتث الماضي العتيق القذر من أصوله الضاربة في كل مكان، ونحن من أجل ذلك في حاجة إلى خير الرجال، إن من واجبنا يا فيتيا ألا نقنع باشتراكية صورية، بل علينا أن ندعم أركانها بحسن الخلق والتعليم وتهيئة أسباب البهجة والحياة السارة للجماهير.»
ولم تكن هذه أول مرة ألحَّ عليَّ فيها الشيوعيون بأن أنضم إليهم، ولكني أحسست فيها بصدى المبادئ التي كانت تمتلك عليَّ نفسي في أثناء طفولتي تتردد بين جوانحي، وأخذت أحاجج الرفيق لزريف، ثم قلت له آخر الأمر: إني سأفكر في ذلك الموضوع، ولكني كنت في خبيئة نفسي متفقًا معه فيما قاله، وكان رأيي قد استقر.
ولما سافر الرفيق لزريف إلى موسكو بعد بضعة أسابيع من ذلك الوقت كنت أنا مع الجمع الحاشد — من عمال المناجم وموظفي المكاتب وكبار رجال الإدارة — الذي اجتمع لوداعه في محطة السكك الحديدية.
ووجَّه إليَّ الحديث دون سائر الحاضرين وقال لي: «ها أنت ذا يا فيتيا، لقد ترامى إليَّ مصادفة أنك انضممت إلى لجان الشباب، لقد أحسنت صنعًا! وأهنيك! ولكن لِمَ لَمْ تخبرني؟ لقد كان في وسعي أن أزكيك.»
– «أعرف هذا وأشكرك، ولكني أردت أن أعتمد في هذا على نفسي، وألا أجعل لأحد يدًا عليَّ.»
فتبسم وقال: «قد تكون على حق، وها هي ذي هدية صغيرة ادخرتها لك خاصة.»
وكانت الهدية كتابًا، ظننته أول الأمر من كتب لينين أو ماركس، واطلعت على اسم الكتاب وأنا عائد إلى منزلي، فإذا هو يحتوي على ثلاث روايات لشيكسبير، لقد كان لزريف الشيوعي المتحمس، والزعيم القوي العامل، يجمع في شخصه بين إنسانية تولستوي وحب الجمال الممثل في شيكسبير، وبين الإيمان بمبادئ ماركس ولينين، ترى هل يدوم هذا المزيج؟ وهل يُعْقَد لواء النصر لمن هم على شاكلة لزريف؟
والآن أصبحت لحياتي رسالة تؤديها، وغرض تهدف إليه، واتسعت آفاقها، وكأني نذرتها نذرًا جديدًا إلى قضية تعمل لها لتبلغ بها غايتها، وأصبحت أرى نفسي واحدًا من طائفة مختارة اصطفاها التاريخ لتخرج بلادي والعالم بأجمعه من الظلمات إلى نور الاشتراكية، ولست أشك في أن قرائي سيظنون هذا كبرياءً مني وادعاءً، ولكنه هو الذي كنا نتحدث عنه ونشعر به، ولربما كان بين كبار السن من الشيوعيين مَنْ يسخرون من هذه المبادئ ومن يعملون لمآرب شخصية، أما نحن المبتدئين المتحمسين فلم يكن بيننا أحد من هؤلاء.
وكانت الامتيازات التي آلت إليَّ بوصفي أحد «المختارين» أن أكون أكثر من غيري كدحًا، وأن أحتقر المال، وأن أطلِّق المطامع الشخصية، وكان عليَّ ألا أنسى مطلقًا أنني عضو في لجان الشباب أولًا، ورجل ثانيًا، وخُيِّلَ إليَّ أن انضمامي إلى اللجان، وأنا في إقليم من أقاليم التعدين «والغمرات الصناعية» مما يكسب هذا الحادث الجديد معنًى لا أدري كنهه، شبيهًا في اعتقادي بذلك الشعور الذي كان يسري في نفس شاب من أبناء أعيان البلاد حين يبدأ حياته في بلاط القيصر، فهو شعور بأن صاحبه ينتمي إلى فئة من الفئات، وأنه لم يعد فردًا مستقلًّا يعمل لنفسه.
ولم يعد هناك متسع من الوقت أقضيه في ضروب التسلية الصغيرة، فقد امتلأت حياتي بالواجبات، من محاضرات تُلْقَى، ومسرحيات تمثل لعمال المناجم، ورسائل «حزبية» تُدْرَس وتُنَاقَش، ولم يكن يغيب عنا في وقت من الأوقات أن من بيننا سيخرج زعماء الغد ليحلوا محل لينين وبوخارين؛ ولذلك أخذنا نكمل أنفسنا ونعدها لأن تتولى الزعامة، لقد كنا نحن الحواريين في هذا الدين المادي الجديد.
ولما تبين للرؤساء أني أعرف الكتابة والخطابة بلسان طلق فصيح اختاروني على الفور لأن أكون أحد ناشري الدعوة الشيوعية، وانتُخِبْتُ عضوًا في كثير من اللجان المختلفة، ونشرت الدعوة بين من لم يكونوا يؤمنون بالمبادئ الشيوعية، وكان لي شأن أيما شأن في الحفلات المتعددة، وكانت هذه الحفلات تقام في مناسبات لا حصر لها، فضلًا عن أيام العطلة الثورية الدورية، فإذا رُكِّبَت آلة جديدة في مصنع من المصانع، أو حُفِرَ منجم جديد، أو تم إنتاج طائفة معينة من السلع، نُظِّمَت لذلك مظاهرات تصدح فيها الموسيقى وتُلْقَى الخطب، لقد كان الفحم في غير بلادنا فحمًا لا أكثر، أما عندنا فكان «وقودًا» لتسيير قاطرات الثورة.
وبفضل وساطة الرفيق لزريف نُقِلْتُ إلى العمل في المناجم، فلم أعد أحسد سينيا على هذه الميزة، وكونا نحن الاثنين مع طائفة من الشبان الذين يعملون في المناجم جماعة تعاونية تضطلع ببعض الأعمال وتتقاضى نظير اضطلاعها بها أجرًا بوصفها وحدة، وكان الزعماء وقتئذٍ يشجعون هذا النظام التعاوني، رغبة منهم في زيادة الإنتاج، وكان أعضاء الجمعيات الصالحة يكسبون في الغالب أكثر مما يكسبه عمال المناجم العاديين، لكن هذا الكسب كان أقل ما نُعْنَى به، فقد كان همنا الأكبر أن نقوم بأصعب الأعمال وأكثرها خطورة، وذلك لحرصنا على أن نثبت غيرتنا وحماستنا بالأعمال لا بالأقوال، بل إننا اتخذنا لأنفسنا شعارًا أبلغناه إلى ولاة الأمور، وهذا الشعار هو: «إذا كان الشيء لازمًا، فإن عمله مستطاع.»
وكان أعضاء جمعيتنا التعاونية يسكنون معًا في بيت نظيف مريح مزود بالكتب النافعة، وكنا نتناوب تنظيف الأرض وغير ذلك من الأعمال المنزلية، ولم يكن يخالجني شك في أن زعماء السوفيت والكُتَّاب الروس الأقدمين المنتشرة صورهم على جدران بيتنا يعجبون بهذا المثل الرائع من «الثقافة» وسط ذلك الجو من التأخر، وكان من بين هذه الصور صورة سرجو أورزنكدز أحد المقربين من لينين، والذي أصبح فيما بعد وزير الصناعات الثقيلة، وكنت من المعجبين بوجهه الكرجي الخشن، وأنفه الكبير الأقنى، وشاربيه الأشعثين المتهدلين، ولعلي كان يوحى إليَّ إيحاءً غامضًا بأن هذا الرجل سيصبح يومًا ما نصيري — وإن شئت فقل ملهمي — في أكثر السنين نشاطًا من حياتي الشيوعية.
وكنا بطبيعة الحال نجيز لأنفسنا في بعض المناسبات أن نقضي ليلة نستمتع فيها بشيء من الأنس والمرح، وكان الأصدقاء والرفاق يميلون إلى الاجتماع في بيتنا، فقد كان بيتًا مطبوعًا بطابع «المدنية»، وكان ما يدور فيه من الحديث «راقيًا» رفيع المستوى، وكان واحد منا يجيد العزف على القيثارة، وكنا نحن نغني ونرقص ونتجادل حتى ينقضي من الليل أكثره، وكان عدد من أجمل بنات الحي يشتركن معنا في هذه الحفلات، وكنا إذا استمتعنا بسهرة من السهرات أكثر مما يجب، شعرنا جميعًا بشيء من الندم، وفرضنا على أنفسنا جزاء خطيئتنا هذه عقابًا شيوعيًّا بأن نزيد من عملنا ودرسنا ومناقشاتنا السياسية في الأيام التالية.
وحدث في أواخر الخريف حادث خطير ابتُلِيَت فيه جهودنا وصبرنا على العمل، وعُرِفَ فيه هل كنا نؤمن حقًّا بهذا المبدأ الذي كنا نفاخر به، وتفصيل الحادث أن الماء غمر أحد المناجم، وأُقِيمَت كتل خشبية حول جدرانه لتمنعها أن تنهار، ولكن العمل لم يقف بل سار فيه سيره المعتاد، وعرضنا نحن أن نعمل في هذا المنجم لنضرب المثل للعمال العاديين الذين كانوا يعملون فيه، ومعظمهم من التتار والصينيين.
وكنت أنا في داخل المنجم أعمل بكل ما وُهِبْتُ من قوة، والماء المثلوج يغمرني إلى ركبتي، ثم خُيِّل إليَّ أن الدنيا كلها ترتجف وتصر وتئن، وسمعت أحد الناس يصرخ من الفزع، أو لعلي كنت أسمع صوتي بأذني؛ ذلك أن جزءًا من فتحة المنجم قد انهار، ولما فتحت عيني بعدئذٍ ألفيت نفسي في حجرة كبيرة مطلية الجدران بطلاء أبيض، على سرير في صف من صفوف أسرَّة المستشفيات، وكان طبيب في ميثرة بيضاء يجس نبضي، وممرضة حسناء متوسطة العمر تقف إلى جانبه وبيدها لوح وقلم رصاص، وحيَّتني الممرضة بابتسامة لطيفة حين رأتني أفيق من غشيتي.
وقالت لي: «ستُشْفَى يا رفيق كرافتشنكو، فلا تقلق»، وأومأ الطبيب برأسه ليؤمن على ما قالت.
وقالا لي إني ظللت في الماء داخل المنجم المنهار ساعتين أو ثلاث ساعات، وإن العامل الصيني الذي كان بجواري قُتِلَ، وإن الأمل في نجاتي كان في أول الأمر قليلًا، فإذا لم تكن جدران المنجم المنهارة قد قضت على حياتي فقد كنت لا محالة هالكًا غرقًا في الماء المثلوج، ولكن ها أنا ذا أُصِبْتُ بحمى شديدة وبكدمات في ساقي، غير أني فيما عدا هذين سليم الجسم، ثم تطورت الحمى فيما بعد إلى التهاب رئوي.
ومن عجب أن الشهرين اللذين قضيتهما في مستشفى ألجفرفكا قد بقيت ذكراها ماثلة في ذهني، وأني أعدهما من ألذ الفترات في شبابي، فقد كان الناس إذا تحدثوا عن قصة جمعيتي التعاونية وما بذلته من جهد في المنجم المنهار أحاطوهما بهالة من المجد والبطولة الاشتراكية، وكنت أنا فيهما أحد الأبطال، وزارني في المستشفى عدد من رجال الحزب ونقابات العمال، وكان يتردد عليَّ في أوقات منتظمة فتيان وفتيات من لجنة الشبان التي أتبعها ومعهم في كل زيارة بعض الهدايا الصغيرة، وكنت لا أزال في المستشفى لما حان عيد ميلادي الثامن عشر، فأقبل عليَّ أعضاء الجمعية التعاونية وأصدقاؤها مجتمعين، وأظهروا لي من المودة ما أثلج صدري.
وكانت الممرضة الحسناء تعاملني كأني ولدها، والحق أني وأنا ضعيف في دور النقاهة كنت أحس بأن الروسيا كلها قد تبنتني — الروسيا بعمالها ولجان شبابها ورجالها الرسميين — وأني كنت الابن المحبوب لأسرة كبيرة عجيبة.
وأمرني الأطباء ألا أعود إلى المناجم إلا بعد سنة على الأقل، وأصروا على أمرهم هذا رغم إلحاحي الشديد، وأبلغوا القرار إلى رجال الإدارة، ولم أكن أحب قط أن أرجع إلى أعمال المكاتب؛ ولهذا تأهبت للعودة إلى المزرعة التعاونية وإلى إيكترنوسلاف.
وبينا أنا أعد العدة للرجوع، وإذا الأنباء تأتينا في الرابع والعشرين من شهر يناير سنة ١٩٢٤م بأن لينين قد مات، وكانت الصدمة التي حلَّت بهذا الركن من أركان وادي الدنتز صدمة حقة لا تكلُّف فيها ولا رياء، كما كان الحزن الذي سرى في نفوس أهله حزنًا عميقًا أقضَّ مضاجعهم وأكسف بالهم، ولم يكن الباعث على هذا الحزن ذا صلة بالسياسة، فقد أصبح لينين في عرف الفحامين السذج، حتى المقامرين منهم في الثكنات والمعربدين والمختالين المتفاخرين بأحذيتهم ذات الصرير، بله شباب الحزب أنفسهم، لقد أصبح لينين لهؤلاء وأولئك رمزًا للأمل المرجو، لقد كنا كلنا في حاجة إلى الاعتقاد بأن ما قاسيناه في تلك السنين الدامية إنما هو غرس سيُخْرِج أينع الثمار في مستقبل زاهر بسام؛ ولذلك أحس كل منا بأنه أصابته هو نفسه خسارة لا تُعَوَّض.
ومشيت على قدمي مع آلاف غيري من العمال ثلاثة أميال حتى وصلنا إلى مكان الاجتماع التذكاري خارج مكتب النجم، وهو المكان الذي كان يُطْلَق عليه اسم «مزرعة باريس التعاونية»، وكان ذلك في عجز النهار، والجو بارد قارس البرودة، والثلج يتساقط، والريح تحز في أجسامنا حز السكاكين، وأقيمت منصة في الخلاء غُطِّيَت بقماش أحمر وأسود، وإن كان الثلج المتساقط لم يلبث أن غطى كل جزء منها، وتعاقب عليها الخطباء، وقد عَلَتْ أصواتهم على هزيم الريح، وأخذوا ينطقون بعبارات الحزن الرسمية.
وقام مندوب متباهٍ من أهل خاركوف وصاح بأعلى صوته: «أيها الرفاق المعدنون، لقد مات لينين، ولكن العمل الذي قام به لا يزال يتقدم حثيثًا، إن زعيم الثورة العمالية … وزعيم الطبقات العاملة في العالم أجمع … وخير تلاميذ ماركس وأنجل …»
وكان لهذه الكلمات الرسمية أسوأ الأثر في نفسي، وعجبت لهم لِمَ لا يتكلمون بأبسط الألفاظ تخرج من قلوبهم لا من أقلام محرري صحيفتي برفدا وإزفستيا، ولشد ما سرني وأنا عائد متثاقل إلى بيتي وسط الزوبعة الثلجية، أن أعرف أن سينيا وغيره من الرفاق كانوا يشعرون بنفس الكآبة التي أشعر بها، لقد كنا كلنا نحس بأن الخطباء عجزوا عن التعبير عما نشعر به نحو لينين؛ لأن ما نشعر به كان أقل صلة بالزعيم الراحل منه بآمالنا الحية.
وقرأنا في الصحف المحلية بعد بضعة أيام من ذلك الوقت نص القسم الذي أقسمه ستالين على نعش لينين في الميدان الأحمر في موسكو، وكان هذا القسم عهدًا قصيرًا أشبه شيء بالطقوس الكنسية، أخذ فيه على نفسه أن يسير في الطريق الذي رسمه له الزعيم الراحل، وأثر فيَّ هذا العهد أكثر مما أثرت فيَّ الخطب التي أُلْقِيَت في اجتماعنا التذكاري، وكان ستالين وقتئذٍ عضوًا في الهيئة السياسية صاحبة السلطة العليا في البلاد، وأمين السر العام للحزب، وكان من بداية الأمر أحد أعضاء الحزب البارزين، ولكني لم أحس بوجوده إحساسًا حقًّا قويًّا قبل هذه المرة، وعجبت كيف لم تعلق صورته على جدران بيتنا!
وأخذ اسم ستالين من ذلك اليوم يذيع ويعظم ويتردد على كل لسان، حتى ليصعب على الإنسان أن يذكر وقتًا لم يكن فيه اسم هذا الرجل القوة المسيطرة على شئون حياتنا.
لم أقضِ في إقليم التعدين أكثر من عام واحد، ولكن مع ذلك لم أجد من السهل عليَّ أن أنتزع نفسي من الحياة التي ألفتها فيه، ولو أن إنسانًا أخبرني في صباح ذلك اليوم المقبض الذي قدمت فيه إلى ذلك الإقليم بأني سأحب ذلك المكان الأجرد، وأهله الأجلاف، وعمله المقبض؛ لظننت به جِنَّة، غير أني أخذت من بادئ الأمر أشعر بشعور عمال المناجم، وأرى عيوبهم ونقائصهم، ولكني أراها كما يراها العمال أنفسهم، فتثير عطفي عليهم، لا كما يراها الخارج عنهم فلا تثير فيه إلا النقد والتجريح.
من أجل ذلك كانت حياة عمال مناجم الفحم التي غلبت عليها الكآبة والفساد، وتعرضت لأشد الأخطار، تثير في نفسي عطفًا شديدًا عليهم ورأفة بهم قرَّبتهم إليَّ، فليس بصحيح أننا لا نحب إلا ما يشرح الصدر ويلذ العين، بل إن ما يثير الحزن أو يرتد عنه الطرف قد يستحوذ هو الآخر على الخيال والحواس، والناس يحبون ما تهتز له أوتار قلوبهم، ويربطهم بالأماكن وأهلها ما تبعثه وما يبعثونه فيهم من عواطف ولو كانت عواطف محزنة بعيدة كل البعد عن السرور والبهجة، وشاهد ذلك أني لم أنسَ قط الأيام التي قضيتها في مناجم الفحم، وما فتئت أحس بأني قريب من مستخرجيه سكان العالم السفلى المظلم.
وركب معي في القسم الذي كنت فيه من عربة القطار الذي أقلَّني من حوض الدنتز ستة مسافرين، ولم نلبث أنْ ثار الجدل بيننا كما هي عادة جميع الروس، وكنت أنا أصغر الجماعة سنًّا، ولكني شعرت بأن من واجبي أن أدير دفة الحديث؛ ذلك أني بوصفي عضوًا في لجان شباب الحزب الشيوعي أرى فرضًا عليَّ أن أغتنم كل ما يتاح لي من الفرص لأنشر الدعوة إلى الحياة السعيدة المقبلة وأشرح أسباب المتاعب العاجلة وأهوِّن من أمرها.
وقال واحد من الركاب وكان من رجال الفكر: «إنك أيها الرفيق لا تفتأ تتحدث عن حياتنا الحاضرة وكيف أصبحت خيرًا مما كانت في الأيام الماضية، ولكني لا أرى فرقًا بين هذه وتلك، فنحن كما كنا لا نجد الخبز ولا الكيروسين ولا الأحذية، وكثيرًا ما أرتجف أنا وزوجتي من البرد الذي تتجمد منه أطرافنا، ونقضي نصف أيامنا بلا طعام، لعمري إن هذه ليست حياة، بل أَخْلَق بها أن تسمى محنة …»
وكان هذا الذي يحدثني رجلًا كهلًا نحيل الجسم رقيق الملامح، يلبس على عينيه منظارين سميكين في إطار ذهبي، ويرتدي معطفًا من معاطف الربيع وإن كنَّا في غير الربيع، وحول رقبته لفاعة من الصوف مما تلتفع به النساء، وفي قدميه جوربان أبيضان يظهران من خروق حذاءيه.
وسأله راكب آخر قائلًا: «معذرة يا سيدي، أي عمل تقوم به؟»
فأجابه بلهجة المتحفز: «أنا مؤلف موسيقي، أكتب المقطوعات الموسيقية.»
فقال الأول في سخرية لاذعة: «آه، إنك مؤلف موسيقي، ومَن ذا الذي يحتاج إلى مقطوعاتك؟ مَن ذا الذي يطلب في هذه الأيام الأنغام التي يرقص عليها الناس في أيام البهجة والسرور؟ اذهب إلى المصنع يا صديقي واعمل فيه عملًا حقًّا تقل أسباب شكواك.»
فصاح مؤلف الموسيقى في حماسة شديدة: «إذن ينبغي للناس كلهم أن يعملوا في المصانع! ألا يحتاج السادة الجدد الذين يقيمون صرح الاشتراكية إلى الموسيقى؟ أم هل يريدون أن نكون كلنا آلات بلا أرواح؟»
– «نعم إنك على حق، فلسنا في حاجة إلى الألحان والنغمات الموسيقية الملعونة، بل الذي نحتاجه هو أن نزيد إنتاجنا من السلع.»
وقطع عليهم حديثهم رجل ثالث فقال محتدًّا: «إن الأرواح لم يبقَ لها وجود.»
فلما سمع المؤلف هذا صاح بأعلى صوته: «إذن لم يعد ثمة فائدة في مناقشتكم، فأنتم من الرعاع، ومن العبث أن أضيِّع وقتي في التحدث إليكم.»
واستعنت في هذه اللحظة بما يمليه عليَّ مركزي في لجان الشبان الشيوعي لأنقذ الموقف، فقلت في جد ووقار: «اسمحوا لي أن أتحدث إليكم جميعًا، إنكم تتجادلون متحمسين أكثر مما يجب أن تتحمسوا، ولكنكم لا تفهمون ما تتجادلون فيه حق الفهم، إذا لم يسؤكم مني هذا القول، لست أنكر أننا لا نزال تنقصنا أشياء كثيرة جدًّا، ولكننا نبذل كل جهودنا لسد هذا النقص، وسيكون لنا عما قريب كل ما نحتاج إليه بما في ذلك الموسيقى.
قد لا يكون هذا المواطن موسيقيًّا بارعًا مثل تشيكوفسكي، ولكنه إذا كان يؤلف مقطوعات موسيقية جميلة، فإنه هو أيضًا يعمل على إقامة صرح الاشتراكية، لقد جئت توًّا من مناجم الفحم، وأنا أدرك شدة حاجتنا إليه، ولكني أؤكد لكم أن حاجتنا إلى الموسيقى لا تقل عن حاجتنا إلى الفحم نفسه؛ ذلك أن من واجبنا أن نحتفظ بحرارة أرواحنا كما نحتفظ بحرارة أجسامنا.»
وتبين لي أن عبارتي كان لها أكبر الأثر في نفوسهم، ولم أكن في حاجة إلى أن أخبرهم أني أحد الصفوة المختارة، فقد كان صوتي ينم على أني من ذوي السلطان، ثم تطرَّق الحديث إلى موضوعات شتى قبل أن يصل بنا القطار إلى دنيبروبتروفسك، وهو الاسم الذي سُمِّيَت به إيكترنوسلاف وقتئذٍ، وكنت أنا في جميع الأحوال المحكَّم في الخلاف وصاحب الرأي الأخير، ولعل الذين كانوا يخالفونني في الرأي آثروا الحكمة على الشجاعة، ولِمَ يحاجون رجلًا من شباب الحزب الشيوعي؟
ووصلت المزرعة قرب المساء، والتقى بي كلبي ركر في الطريق، فلما رآني بلغت الحماسة منه غايتها، ونظرت إلى نافذة كوخنا فشاهدت أمي تقرأ في ضوء مصباح كيروسين وقد تقدمت بها السن قليلًا، وهزل جسمها قليلًا، وشاب شعرها قليلًا، وفتحت الباب بخفة، وناديت وأنا أحاول تغيير صوتي: «هل تقيم المواطنة كرافتشنكو في هذه الدار؟»
فصاحت ودموع الفرح تنحدر من عينيها: «فيتيا، حبيبي، عزيزي!»
وعرفت خلال السهرة ما وقع حولهم من أحداث، عرفت أن المزرعة التعاونية قد قُضِيَ عليها، وأن الأسر التي لا تزال تعمل فيها لا تزيد على ثلاث أو أربع، وأن بعض الأسر الأخرى لا تزال تقيم بها ولكنها كلها تشتغل بالصناعة في المدن القريبة، وأن أبي وإخوتي قد عادوا إلى دنيبروبتروفسك، وأنهم يتقاضون فيها أجورًا طيبة، وأنهم يرجون أن يجدوا قبل الربيع شقة من حجرتين أو ثلاث حجر تلم شمل الأسرة من جديد.
أما مباني المزرعة التعاونية فقد أُهْمِلَت وخيَّمت عليها الكآبة، فقد تصدعت سقفها في كل مكان، وانفصلت أبوابها، وانتُزِعَت العروق الخشبية من الجدران والسقف واتُّخِذَت وقودًا، وقال الفلاحون في الأماكن المجاورة: ها أنت ذا ترى أن الشيوعيين لا يستطيعون أن يفلحوا الأرض، وأن كل ما يستطيعون فعله أن يقبضوا على الناس ويجبوا الضرائب، وجاء بعضهم لزيارتي حين علموا بمقدمي، وكانوا يعاملونني بالاحترام الواجب للرجل الذي خبر العالم الخارجي، وأمطروني وابلًا من الأسئلة عن مقاصد «السلطة الجديدة» نحو الزراعة ونحو أرضهم.
وكذلك أحاط بي العمال في مصنع كربينو وأخذوا هم أيضًا يوجهون إليَّ الأسئلة، وارتجلت أنا الأجوبة التي خُيِّلَ إليَّ أن الواجب يقضي على عضو في لجان الشبان أن يجيب بها عن أسئلتهم، وألقيت بعد بضعة أيام خطبة في نادي المصنع عن حياة عمال مناجم الدنتز، وما من شك في أني في حديثي هذا قد جعلت الحياة في هذه المناجم تبدو لهم جميلة جذابة إلى حد ما، وإن لم أقف على ما فيها من صعاب وعيوب، وعلى أثر ذلك أعلن أربعة من عمال كربينو الشبان أنهم يعتزمون الذهاب إلى المناجم ليعملوا فيها، فأعطيتهم أسماء موظفي نقابة العمال الذين يتقدمون إليهم وعناوينهم.
وقطعنا كتلة كبيرة من الخشب وأصلحنا باب الدوار — وكانت لا تزال لنا فيه بقرة واحدة — ثم غادرت المزرعة إلى المدينة، وكان أبي وأخي الأصغر أوجين يعملان في مصنع بتروفسكي-لينين في استخلاص المعادن وسبكها، ولم ألبث إلا قليلًا حتى انضممت إليهم لأعمل في المعمل الميكانيكي، أما أخي قنسطنطين فكان يعمل في مصنع آخر في دنيبروبتروفسك (وكان الاسم الذي أطلقه السوفيت على إيكترنوسلاف لا يزال غريبًا غير مستساغ)، وبقيت في هذا العمل نحو ثلاث سنوات حتى بلغت سن الحادية والعشرين، فدُعِيت إلى الانضمام إلى الجيش الأحمر عملًا بقوانين الخدمة العسكرية.
وكانت المصانع التي نعمل فيها — وهي مصانع استخلاص المعادن وسبكها — تتكون من عدة أبنية، وتشغل عدة فدادين على أطراف دنيبروبتروفسك، وكان يعمل فيها نحو ٢٤٠٠٠ رجل وامرأة، وتُعَدُّ من أكبر المشروعات الصناعية في روسيا الجنوبية، واشتهر هؤلاء العمال قبل الثورة في الإضرابات والمشاغبات، فجعلوا بذلك لهذه المصانع شيئًا من الأهمية التاريخية، وفيها كان يعمل الرفيق بتروفسكي رئيس جمهورية أوكرانيا السوفيتية في أيام شبابه كما كان يعمل فيها غيره من كبار الزعماء الشيوعيين في بداية أمرهم.
وكانت هيئة الحزب الشيوعي فيها ومنها لجان الشباب تضم حوالي ألفي عضو، وكانت أعمال الدعاوة على الدوام قائمة على قدم وساق، وكثيرًا ما قدم إلينا كبار الزعماء أمثال بتروفسكي وركوفسكي وكجانوفتش ليخطبوا في اجتماعات المصنع، وأخذ نشاطي في أعمال لجنة الشباب يزداد زيادة مطردة، وأخذت أدرس عدة برامج فنية شغلت معظم وقتي بعد فراغي من العمل، واضطلعت بدور هام في المناقشات الأدبية والسياسية التي كانت تقوم في نوادي المصنع المختلفة.
على أن السنين التي انقضت بعد قيام الثورة لم تزد أبي ميلًا إلى الشيوعيين، نعم إنه لم يكن ينكر أن كثيرين منهم كانوا رجالًا شرفاء مخلصين صادقي النية، ولكنه كان يرى أن الثورة خيبت ما كان يرجوه منها في شبابه، ولست أنكر كذلك أنه لم يتدخل قط في نشاطي في لجنة الشباب، وأنه كان يسره أن يراني أشق لنفسي طريقًا في المجتمع الجديد الذي حولي، ولكنه لم يستطع أن يحاجز نفسه من حين إلى حين عن توجيه الأنظار إلى ما يتمتع به الموظفون ورؤساء المهندسين من رغد العيش، وما يعانيه صغار الصناع من بؤس وشقاء.
ومن أقواله لي: «إننا يا بني نتحدث عن الوحدة، ولكن انظر إلى المسكن الفخم الذي يسكن فيه الرفيق ن، وإلى ما يتمتع به من سيارات وثياب غالية، ثم انظر بعد ذلك إلى الثكنات التي يُحْشَر فيها العمال الجدد القادمون من القرى كما يُحْشَر السردين في العلب، وانظر إلى مطاعم رجال الإدارة ترَ الحجرات النظيفة والطعام الشهي، أما مطاعم العمال فإن أي شيء يصلح أن يقدم لهم فيها …»
فكنت أرد عليه قائلًا: «تمهل يا والدي، إن لدينا مشاكل كثيرة تتطلب جميعها الحل في وقت واحد.»
– «أنا أعرف ما لديكم من مشاكل، ولكني أعرف أيضًا أن الثغرة التي تفصل الطبقات العليا عن السفلى لا تضيق، بل تزداد اتساعًا. إن السلطة شيء خطر يا فيتيا.»
وارتقيت بعد قليل من المعمل الميكانيكي إلى مصنع الأنابيب، ولم تمضِ عليَّ في هذا المصنع الثاني سنة واحدة حتى كنت من رؤساء العمال فيه، وارتفع أجري ارتفاعًا صلحت بسببه شئون الأسرة المالية، وكنا أربعة أشخاص نتقاضى أجورًا فاستطاعت أسرتنا أن تعيش في رغد رغم ارتفاع الأثمان، وكانت السياسة الاقتصادية الجديدة — التي جعلت التجارة الخاصة عملًا مشروعًا — قد أدت إلى فتح مئات من الحوانيت والمطاعم والمقاهي، وكان في وسع الإنسان أن يحصل على كل ما يريد تقريبًا إذا كان معه مال يبتاعه به.
وأخذت في كل يوم أزداد صلة بالكبراء من رؤساء العمال، وكبار الموظفين المشرفين على المصانع، وموظفي الحزب ونقابات العمال؛ ومن أجل هذا أصبحت أرى الحياة السوفيتية بعين زعمائها، وأخذ هذا الميل يقوى فيَّ يومًا بعد يوم على الرغم مني وعلى الرغم من تحذير والدي لي من أن أقطع الصلة بيني وبين الجماهير، أما أخواي جيني وكوتيا فلم تتقد في صدريهما نار الحماسة السياسية، وكان حسبهما أن يعملا جادَّين ولا يشتركا في مظاهرات ولا اجتماعات إلا إذا لم يكن لهما بُدٌّ من الاشتراك فيها، وكانا يقبلان الدعاية الشيوعية الرسمية كما يقبلها سائر العمال العاديين بكثير من الريب والشكوك.
وكثيرًا ما كان جيني يقول لي وهو يحاورني: «إن كل شيء فيك يا أخي الأكبر ينبئ بأنك ستكون من رجال البيروقراطية الشيوعية على شريطة ألا تسمح لإنسانية والدنا الخيالية أن تضلك.»
ولعل ربيع عام ١٩٢٧م لم يكن يختلف في شيء عن ربيع الأعوام التي جاءت قبله أو بعده، لكن مباهج هذا الفصل ستبقى أبد الدهر أعظم منها في سائر الفصول، وستبقى مساويه أخف من مساويها جميعًا؛ ذلك لأن فيه أخذت نار الحب تضطرم في قلبي، وكان اسم من أحببت أنَّا، وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها زرقاء العينين ذهبية الشعر.
التقينا في وليمة في منزل أحد مفتشي الحوانيت، ولم نكن نتصافح باليدين حتى انمحى من أمامنا منظر الوليمة والضيوف، فلم يعد له وجود.
وكان والد أنَّا كبير المهندسين في أحد الطرق الحديدية الرئيسية، وكان بعيدًا كل البعد عن المجتمع السوفيتي الجديد، وإن كان قد نشأ في أسرة من العمال وانضم وهو طالب علم إلى الجمعيات الاشتراكية السرية، أما أمها فقد ظلت تحتفظ بما انطبع في نفسها قبل عهد الثورة من شذوذ في الخلق ومن احتقار «للرعاع»، وظل شعوري بأن أنَّا ليست من «صنفي» كامنًا تحت ستار عواطفي الملتهبة أيام كان حبي الحقيقي الأول متوقدًا في صدري، وكانت تتظاهر بأنها تهتم بنشاطي في لجنة الشباب الشيوعي، ولكني كنت أعلم علم اليقين أن هذا النشاط يضايقها، ولم تحاول والدتها قط أن تخفي احتقارها للشيوعيين ودعاواهم، ولمركزي الاجتماعي الوضيع الذي لا يعدو أن يكون مركز رئيس عمال في مصنع.
وسمعتها ذات ليلة تقول لأنَّا وهي متبرمة: «لو أن صديقك عضو لجنة الشباب كان مهندسًا على الأقل!»
وكانت أنَّا نفسها يتقسمها تأثير مدرستها السوفيتية والوسط الرأسمالي الذي كان يحيط بها في منزلها، واستطعنا أن نقضي معًا شهرًا في استراحة مصنعي على شاطئ نهر الدنيبر، وكانت تقابل كل دعاوتي الحزبية بالابتسام وهو حجة لم أجد لها قط جوابًا.
ولكني أنا وهي أدركنا أن زواجنا أبعد من مناط النجم، وإن لم يصرح أحد منا بما يعتقد؛ لأننا لم نكن متفقين في «التفكير».
وقد يبدو هذا غريبًا، ولكن هذه الحقيقة لا يستطيع فهمها إلا من عاش في زمان وفي مكان طغت فيهما السياسة على كل شيء، فلما عدنا إلى دنيبروبتروفسك افترقنا وبعدت بيننا الشُّقَّة، ولما غادرت المدينة للانضمام إلى الجيش في أواخر عام ١٩٢٧م، كان كلانا يعرف أن فراقنا هذا فراق أبدي، على أنني قابلتها بعد أربعة عشر عامًا من ذلك الوقت في مخبأ من الغارات الجوية بمدينة موسكو.
كانت الحدود الممتدة بين إمبراطورية آسيا الوسطى السوفيتية الواسعة الرقعة ذات الشمس الساطعة وبين فارس وأفغانستان وولاية كشمير الهندية، والتي يبلغ طولها ألفًا وخمسمائة ميل، كانت هذه الحدود من زمن بعيد مسرحًا للقلاقل والحروب بين الروس وقبائل البسمتشي الضاربة على طول هذه الحدود، وكثيرًا ما ذكرت البلاغات الحربية أن هذه القبائل قد «أُبِيدت عن آخرها»، ولكنها كانت تعود مرة أخرى للظهور وهي أشد ما تكون شراسة، تشن غارات جديدة وترتكب فظائع جديدة.
وظلت أعمدة الصحف عدة سنين تفيض بالقصص المثيرة عن أعمالهم المروعة وطباعهم الذميمة، فكانت تصورهم كأنهم عصابات من قطاع الطرق المتوحشين لا همَّ لهم إلا شن الغارات للنهب والسلب بتحريض رؤساء الدين المسلمين، يستأجرهم الأمراء المخلوعون ويستخدمهم البريطانيون في أغراضهم الاستعمارية، وكان هؤلاء الناس كما تصورهم الصحف الروسية قساة غلاظًا إلى أبعد حدود القسوة والغلظة، يعذبون أسراهم من السوفيت، وكان من عاداتهم المألوفة — كما تقول تلك الصحف — أن يدفنوا الأسرى في الأرض إلى مناكبهم، ويتركوهم على هذه الحال حتى يموتوا تدريجًا من فرط الجوع والحر والظمأ، أو تلتهمهم الحشرات والنسور وهم أحياء.
وهذه الصورة التي ترسمها الصحف لأولئك القوم لم تكن تخلو من تناقض، فالتلصص والسلب لا يفسران ما كانت تتصف به جماعات صغيرة من البسمتشي من عناد وجرأة في هجومهم على قوات الجيش الأحمر النظامية الحسنة التسليح، والتلصص لا يتفق كل الاتفاق مع خضوع أولئك القوم لنفوذ الملا الديني أو مع صلاتهم السياسية بالأمراء المسلمين وبالبريطانيين.
ولما زدت علمًا بتلك المشكلة فيما بعد تبين لي أن القصة كما ترويها هذه الصحف من صنع الدعاوة السوفيتية، وأن البسمتشي لم يكونوا في واقع الأمر إلا وطنيين ديدنهم حرب العصابات يشنونها على المغيرين الأجانب الذين يعتقدون أنهم قضوا على استقلالهم القومي، وأنهم كانوا يعرضون حياتهم للخطر ليردوا عن بلادهم أولئك الذين يريدون أن يطمسوا معالم دينهم ويحولوهم عن تقاليدهم، فهم في المبدأ إن لم يكونوا في التفاصيل، يشبهون الوطنيين الهنود الذين كانوا يحاربون البريطانيين في الناحية الأخرى من الحدود.
وكان الحكام الروس في العهد القيصري يجبون الخراج من آسيا الوسطى، ولكنهم يتركون الأمراء والرؤساء الدينيين يسيطرون على البلاد، ولا يمسُّون النظم السائدة فيها، أما السادة الجدد فقد أخرجوا الأمراء من ديارهم باسم الإلهين الجديدين: لينين وماركس، وأخذوا يسخرون من العقائد الإسلامية ويستوردون آلات «الكفرة» وأفكارهم ليوقظوا البدو الرحل من سباتهم الطويل، وكانوا إلى هذا يفسدون عقول الشباب بما ينشرونه بينهم من الأفكار الغريبة، بل إنهم كانوا يحرضون النساء على خلع النقاب وحرقه والخروج من عزلتهن.
هذه هي المخاوف التي جعلت عصابات البسمتشي المتحصنة في تلال إيران، وفي مدن السهول الأفغانية، وفي التركستان الأصلية، تقاتل السادة الجدد وتظهر في قتالها الكثير من ضروب البطولة والحماسة، وما من شك فوق هذا في أن أهل آسيا الوسطى كانوا في السنين الأولى من هذه الحروب على الأقل يعطفون على أولئك الوطنيين، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الجنود الذين اختيروا لقتال أولئك القوم كلما ثاروا لم يكونوا من الكتائب المحلية بل من بلاد الروسيا الأصلية.
ولكن القصة كما يرويها السوفيت لم تكن تخلو هي الأخرى من عناصر صادقة؛ مثال ذلك أن ما وُصِفَت به البسمتشي من عنف وقسوة لم يكن مبالغًا فيه كثيرًا، فلقد روى لي شهود عيان وبعض من نجوا من هذا العنف وتلك القسوة وهم قليلون، تفاصيل مروعة عن أعمال أولئك القوم، ومما لا ريب فيه أيضًا أن النهب والسلب وتجارة المهربات الرابحة كانت تمتزج بروح الحماسة الدينية والسياسية التي تضطرم به صدور هذه العصابات المحاربة، حتى ليصعب على الإنسان في بعض الحالات أن يرى أين تنتهي الوطنية وتبتدئ المنافع المادية.
ومهما يكن من أمر أولئك القوم فقد كانوا مقطوعي الصلة بالشباب من الصناع والفلاحين في أوكرانيا، فقد كان كل ما نعرفه من هذه الأحداث — إن كنا نعرف عنها شيئًا على الإطلاق — أنها مأساة دموية مروعة في عالم قاصٍ لا يكاد أحد يعرف مكانه، وما هي إلا عشية أو ضحاها حتى أصبحنا جزءًا من هذه المأساة يدفعنا إليها حب المغامرة المتألق سناه أمام أعيننا، ولكن كان من وراء هذا التحمس الظاهر قلوب تحس بما يتهدد حياتنا من خطر فيقلق ذلك بالنا بعض القلق.
ووُضِعَ منا أربعة وعشرون — كلهم مجندون جدد من إقليم دنيبروبتروفسك — في سيارة نقل لتسافر بهم إلى بلاد البسمتشي، وأخذنا نغني ونقص القصص ونحن جد فخورين؛ إذ وقع علينا الاختيار لنكون من فرقة الفرسان المنتقاة التي تعسكر في جمهورية التركمان السوفيتية، لكنا تذكرنا في أثناء الليل ونحن في العربة المظلمة ما سمعنا أو قرأنا عن قسوة البسمتشي ووحشيتهم.
ثم سرى في قلوبنا حنين إلى أوطاننا، ودار حديثنا حول البنات اللاتي خلفناهن وراءنا، وحدث أن كان كستيا ابن عم حبيبتي أنَّا من بين هؤلاء المجندين، فأثار وجوده بيننا وما يُنتظر من فراقي الطويل لها نار الحب الكامنة في قلبي.
ثم قدمنا إلى باكو مدينة «الذهب الأسود» وقضينا فيها بضعة أيام فأنسانا ما فيها من حركة دائمة كل ما كنا نفكر فيه من قبل.
لقد كان هذا المركز العظيم من مراكز الزيت خليطًا عجيبًا من الأساليب الشرقية والتنظيم الصناعي الحديث، وكان أهلها مزيجًا من الروس والمغول، يلبس معظمهم ملابس الغربيين، ولكن الكثيرين منهم يرتدون ملابس أهل الشرق الأدنى الفضفاضة، ذات الألوان الكثيرة الزاهية والستر الضيقة الوسط التي تصل إلى الركبتين، والقبعات المستدقة المصنوعة من الفراء، والتي يلبسها سكان سهوب قزاقستان، وفي شوارع المسلمين الضيقة التي يتضوَّع منها أرج الطيب رأيت لأول مرة النساء المحجبات في مآزرهن السابغة المعروفة بالبرنجات، وقد غطَّين وجوههن بنقب مثلثة الشكل من شعر الخيل، فكن أشبه بالزكائب المتحركة لا تستبين لهن شكلًا ولا سنًّا.
وستظل مدينة باكو أيضًا مرتبطة في مخيلتي بمنظر البحر العظيم الذي وقعت عليه عيني لأول مرة، ذلك أن القادم من داخل البلاد ينطبع في ذهنه منظر الماء الممتد إلى ما وراء الأفق فلا ينسى هذا المنظر أبدًا، وكانت رائحة الزيت تملأ جو المدينة كله، بل خُيِّلَ إليَّ أن هذا الزيت قد امتصته وجوه سكانها كلهم وأيديهم.
وانضم إلينا في باكو مئات من المجندين جيء بهم من أنحاء متفرقة من البلاد، وعبرت بنا النقالة الصغيرة كلنتي بحر الخزر إلى ميناء كرستوفدسك، وقضينا بعض الوقت عند شاطئ البحر قبل أن نركب القطار إلى أسخاباد، ورأينا على رصيف الميناء أكوامًا من البطيخ الأصفر كأنها قنابل المدافع، وشاهدنا التركمان الضخام الأجسام السمر الوجوه، معظمهم ملتحون، وكلهم عراة الصدور والبطون، وعلى رءوسهم عمائم من مناديل ملونة، يقذفون البطيخ إلى رفاق لهم في سفينة قذفًا منتظمًا، وهم يغنون أهازيج مطربة بصوت عالٍ.
وكانت تبدو على أسخاباد — التي سُمِّيَت فيما بعدُ استاليناباد — مسحة شرقية تكفي لأن تشبع رغبة الشباب في اجتلاء كل ما هو جميل، فقد كانت تخترقها شوارع ضيقة غير مرصوفة، تتلوى بين جدران عارية من اللون، خالية من النوافذ، تلتقي في ميادين مشتبكة صاخبة بعضها ذات سقف، وتتردد في أسواقها أصداء مطارق الأساكفة والحدادين وغيرهم من الصناع، يعملون في الهواء وهم جلوس مطويو السيقان، والنساء المسلمات في كل مكان كأنهن عمد قائمة لا شكل لها ولا لون، غير أنك كنت ترى أحيانًا إحداهن ترفع طرف نقابها المتخذ من شعر الخيل، وتشير في دلال ظاهر إلى الروس السمجاء الأغبياء.
واستُقْبِلَ القطار الذي أقلَّنا عند وصوله بالموسيقى والمظاهرات، ووقف العمال الذين جاءوا من مصانع القطن ووجوههم كالحة لا تستبين فيها معنًى من المعاني، بينا كان الموظفون يُلْقُون الخطب الرنانة يحيون بها الرفاق البواسل الذين جاءوا ليحرسوا الحدود من البسمتشي الأوغاد، ولم يكن لديَّ من الأسباب ما يجعلني أشك في أقوالهم وقتئذٍ، ولكنني فيما بعد تولتني الحيرة، فلم أدرِ لِمَ لا يجند من أهل البلاد من يحرسون الحدود؟ ثم عرفت بعد ذلك أيضًا أن الجيش الأحمر لم يكن في تلك البلاد إلا جيش احتلال في بلد أجنبي بالرغم من كل ما تلوكه الألسنة من دعاوى الزمالة.
وأقلَّتنا العربات من أسخاباد إلى المعسكر الكبير القائم على الحدود الإيرانية، والذي أقمت فيه طوال السبعة أو الثمانية الأشهر التالية، وأقمنا في الثكنات الطويلة الجرداء التي كانت مقرًّا للجنود في عهد القياصرة السابق.
وكان الإقليم الذي اجتزناه في طريقنا إلى المعسكر صحراويًّا في أكثر جهاته، منه بقاع صفراء جرداء، ومنه بقاع مغطاة بالحسك العطري الجاف، أما الإقليم المصاقب للحدود فكان ذا مناظر متعددة متباينة، يكثر فيه النبات الأخضر الغض، ونزلنا عند سفوح سلسلة الجبال التي تحرس حدود إيران من جهة الشمال.
وبدأ تدريبنا العسكري بحمام بخاري وتطهير ملابسنا وقص شعرنا حتى أصبحت رءوسنا ولا فرق بينها وبين وجوهنا، وخطبة سياسية أُلْقِيَت علينا، ولُقِنَّا أنْ ليس بين البسمتشي والجنود الحمر من صلات إلا أن نقتلهم أو يقتلونا، وقيل لنا: إننا سنُدْعَى للطواف في أماكن خطرة، فرادى أو أزواجًا، ليلًا أو نهارًا، وإننا في حاجة إلى كثير من اليقظة والفروسية وإتقان الرماية، وقضينا بعدئذٍ في التدريب عدة أسابيع، لم يدَّخر فيها أحد منا جهدًا حتى أقلنا طموحًا.
ولم نكد نبدأ العمل حتى انضممت إلى أسرة محرري حرس الحدود الأحمر، وهي صحيفة المعسكر، وكنا نحن أعضاء لجان الشباب أقلية بين الجنود ونهضنا بالتبعات الملقاة علينا على خير وجه، وكان النظام الدقيق الذي يسود المعسكر الحربي يسري فيه قدر كبير من الروح الديمقراطي، فلم نكن نتردد في أن ننقد في صحيفة المعسكر الأحوال السائدة فيه أو الضباط أنفسهم، وكثيرًا ما كنا نذكرهم بأسمائهم.
وكان من بين أولئك الضباط رجل يُدْعَى جالشكا أغضب الجنود بفظاظته وسوء خلقه، وكنت أنا أطيعه وأنفذ أوامره دون تردد أو تذمر؛ لأني وأنا محرر في الصحيفة أحببت أن أكون حرًّا فيما أوجهه له من نقد، وألا يكون هناك شك في أني أطيعه بوصفه ضابطًا، وإن كنت أشعر أن من واجبي أن أوجِّه إليه سهام النقد بوصفي مُحررًا في صحيفة المعسكر.
ومضت فترة من الوقت تظاهر فيها بأنه لا يعبأ بالمقالات القصيرة التي أخذت عليه فيها أنه يرفع صوته على الجنود، ويوجِّه إليهم ما لا يليق من الألفاظ، ويستبد بهم، ولكنه لم يلبث أن خضع واستسلم.
وجاءني يومًا من الأيام وقال لي: «يا رفيق كرافتشنكو، إني أريد أن أتحدث إليك.» وقال لي ونحن في طريقنا من الثكنات إلى الإصطبلات إنه لا يعرف قط سببًا يحملني على اضطهاده، وسألني هل يليق بعضو في لجان الشباب أن يقوض دعائم سلطة قائد من قواد الجيش الأحمر؟
فأجبته وأنا معتد بنفسي اعتداد شاب في الثانية والعشرين من عمره: «إن الذي أهدف إليه يا رفيق جالشكا هو أن أدعم سلطتك لا أن أوهنها، فإن ظللت تعامل رجالك كأنهم أقذار لا قيمة لهم، فإنهم سيحتقرونك ولا يطيعونك إلا وهم كارهون، أما إن عاملتهم معاملة الآدميين والرفاق السوفيت، فإنهم سيطيعونك وهم راضون مغتبطون، وإذا جد الجد فإن هذه المعاملة قد تكون هي الفيصل بين النصر والهزيمة في ميدان القتال.»
وعقدنا اتفاقًا فيما بيننا — بين الضابط والجندي البسيط — أخذ فيه على نفسه أن يهذب خلقه، ووعدته أنا ألا أتعرض له في حرس الحدود الأحمر، وأغرب ما في هذه القصة أن القائد جالشكا لم يفِ بوعده فحسب، بل أصبح فوق ذلك من أحب الضباط إلى الجنود في هذه الحملة، وكان هذا في نظره غريبًا كل الغرابة، فقد كان إذا تولى القيادة تمنى الجنود أن يسيروا تحت لوائه، وإذا سار بنا إلى معركة محفوفة بالخطر عجبنا من شجاعته تحت وابل الرصاص.
ولما تم تدريبنا أُرْسِلْنا إلى مطاردة المهربين والبسمتشي في جنح الظلام؛ ولم نكن نعجز عن الحصول على معلومات سرية من عيون مأجورين عن الحركات الدائرة على جانبي الحدود، فقد كان الناس يتلقفون نتفًا من المعلومات في المقاهي الفارسية والأفغانية عن البضائع الواردة أو الصادرة، وعن الحملات التي تدبر للإغارة على القرى السوفيتية، وكان الوسطاء ينقلون هذه المعلومات القليلة إلى قيادة الجيش الأحمر.
وكثيرًا ما كانت الحملة تخفق في الالتحام بالطريدة بعد البحث الطويل، وكان الطرفان يتبادلان الطلقات أحيانًا، ولكن وقعت مرة واحدة على الأقل في أثناء خدمتي ملحمة عجيبة تحمَّل فيها الطرفان بعض الخسائر، وأقول ملحمة عجيبة؛ لأنها دارت في ليلة مطيرة حالكة الظلام، كان فيها كل من الطرفين يقاتل عدوًّا لا يراه.
وتفصيل ذلك أن رجلًا ملتحيًا من التركمان، على رأسه قبعة عالية من الفراء، أرشد قواتنا في تلك الليلة إلى مكان قال مستندًا إلى ما وصله من الأنباء: إن في وسعنا أن نقطع فيه الطريق على قافلة من المهربين، وسرنا على خيولنا سيرًا وئيدًا نحو ساعة من الزمان في جو مطير زمهرير، وكنا نقف من حين إلى حين ننصت لعلنا نسمع صوتًا، حتى استطعنا في آخر الأمر أن نتتبع أثر العدو، فأرسلنا الصواريخ في السماء لتنير لنا ما حولنا برهة وجيزة، ثم أمرنا تارسوف — رئيس كتيبة القسم السياسي وقائد هذه الحملة — أن ننتشر ونبدأ الهجوم.
وظللت بعض الوقت أطلق الرصاص على غير هدف في اتجاه الأصوات التي أمامي، ثم لم أشعر إلا وأنا أكاد أسقط على رجل من التركمان اقترب مني حتى استطعت أن أرى عينيه في الظلام، ورأيته يصوب بندقيته نحوي، ولكنني استطعت أن أسبقه إلى إطلاق الرصاص عليه، وسقط الرجل عن جواده، ولكن يبدو أنه لم يُصَبْ إلا بجرح غير قاتل؛ لأنه حاول أن يطلق الرصاص عليَّ مرة ثانية، فقفزت عن ظهر جوادي، وانتزعت البندقية من يده، وأمرته أن يقف.
ورأيت أمامي رجلًا متقدمًا في السن، عريض اللحية، يداه مرفوعتان فوق رأسه، والدم يسيل على خده، ونطق ببضع كلمات بلسان قومه، ثم بكى، وأيقنت أنه يتوسل إليَّ أن أُبْقِي على حياته، فانتزعت خنجره من جرابه، وأرسلته إلى أحد الضباط.
وانتهت المعركة قبل شروق الشمس، وفر كثيرون من المهربين بلا ريب، ولكن عددًا كبيرًا منهم جيء بهم إلى معسكرنا، ومعهم كثير من الجمال المثقلة بالأحمال، وقبل أن تغرب شمس اليوم كانت كتيبة من الرماة قد أعدمت كل واحد من الأسرى التركمان رميًا بالرصاص؛ عملًا بأوامر كبار الضباط.
ثم عُيِّنْتُ بعدئذٍ أنا وكوتيا وبعض الجنود في أحد المراكز الأمامية على بُعْدِ بضعة أميال من المعسكر، وسُرَّ الذين كانوا يحتلون هذه النقطة قبلنا حين جئنا إليهم؛ لأن مجيئنا يعفيهم من العمل فيها، وكان أحدهم قرويًّا من كيف لا يحزنه إلا أنه سيضطر إلى التخلي عن حُصانه، وهو جواد جميل نبيل كان يدعوه لورد كيرزن لأسباب لم تتضح لي في يوم من الأيام، ولم يسلمه لي إلا بعد أن أخذ عليَّ المواثيق بأن أحسن معاملته، فلما عاهدته على ذلك قال لي مؤكدًا: «أحْسِن معاملته، وسيكون كيرزن أخًا لك، فهو أنبل شعورًا من معظم الناس.»
وكان المركز الأمامي الذي نحتله عند مخرج ممر ضيق بين التلال، وحدث في الأسابيع التي تلت ذلك الوقت ما جعلني أحمد لمواطني أن أورثني لورد كيرزن، فقد وجدت أن الجواد ليس شديد الإحساس لأقل مس مني فحسب، بل إنه في رأيي يحس بأفكاري نفسها، وكان أشد ما يطمئنني أن أشعر بأني أمتطي صهوته وأنا قائم بنوبتي في الحراسة منفردًا في أثناء الليل بعيدًا عن رفاقي؛ ذلك أن كل صوت نسمعه سواء كان من حصاة ساقطة أو من حفيف أوراق الشجر، أو عواء ابن آوى جائع، كان يكفي لتنبيه كيرزن وراكبه.
وكان النظام المتبع أن كل جندي يقبض على مهرب ينال ثلث قيمة البضائع التي تُضْبَط معه، ولم يسعدني الحظ بشيء من هذا، ولكن كثيرين من الجنود كانوا يعودون من حراسة الحدود إلى قراهم بعد أداء خدمتهم وهم أغنياء كما يُفْهَم من لفظ الغنى في بلاد السوفيت.
وإن أنسَ لا أنسَ ما حييت منظر زياما الشاب اليهودي الأسمر النحيل، ولم يكن زياما نفسه أو أي إنسان غيره يعرف أية حيلة منطقية بيروقراطية جاءت بهذا الفتى إلى كتيبة الفرسان وأرسلته إلى الحدود الإيرانية، فقد بدأ حياة الفروسية لا يعوقه إلا عائق واحد، وهو خوفه الشديد من الخيل، وكان بعض رفاق هذا الشاب المسكين يسخرون منه، ولكن معظمنا كانوا يشفقون عليه، وحاولنا أن نعلمه ركوب الخيل والقبض على أعنَّتها، فكان يخيَّل إلينا أحيانًا أنه سيموت من شدة الخوف، ولكن زياما لم يكد يتغلب على خوفه حتى أدهشنا ببراعته في الفروسية وبجرأته ورباطة جأشه، فكان يقضي الليالي مقتفيًا آثار المهربين، وهدتْه غريزته القوية النادرة في ليلة من الليالي إلى القبض على مهرب مثقل بالبضائع، فنال بذلك ثروة طائلة مكافأة له على هذا العمل. وكثيرًا ما أنجاني لورد كيرزن من الهلاك بفضل قوائمه الثابتة القوية كما كان أيضًا سبب ختام حياتي العسكرية.
فقد كنت في إحدى الليالي أطوف بأرض شجراء بعيدة عن مركزي، ومعي أحد الجنود، وقد انقضى من الليل معظمه، وسمعنا أصواتًا من بعيد، فصحت بأصحابها الذين لا نراهم وأمرتهم بالوقوف، واندفعت أنا ورفيقي نحو مصدر الصوت، فزلَّت قدم كيرزن وألقاني على الأرض من فوق عنقه.
هذا كل ما عرفته عن نفسي في ذلك الوقت، وناداني رفيقي من بعيد ولكنه لم يتلقَّ منى جوابًا، وعثر على جوادي ولكنه لم يعثر على أي أثر لي، ثم عاد إلى المعسكر بعد أن قضى بعض الوقت يبحث عني من غير جدوى، وأُرْسِلَت سرية للبحث عني فعثرت عليَّ بعد بضع ساعات في منقع من الماء مرضوضًا فاقد الإحساس.
وقضيت عدة أسابيع طريح الفراش في مستشفى عسكري بالقرب من أسخاباد، أتلوى من شدة الألم وأحس أن ليس في جسمي عظم واحد سليم ومستقر في مكانه الطبيعي، ولكن القائمين عليَّ تبينوا أن كل إصاباتي كانت سطحية، وكان في المستشفى ممرضتان تبديان عليَّ وعلى غيري من المرضى عطفًا وحنانًا، وتبذلان لنا من العناية ما حبَّبهما إلى قلبي وإلى قلوب سائر نزلاء المستشفى، ولم يكن خافيًا علينا أنهما من الطبقة الراقية وأنهما منفيتان من بتروغراد، وصرحت لي إحداهما وهي ليديا بفلفنا بأنها أميرة من أميرات الأسرة المالكة.
ولما شُفِيت وأصبحت قادرًا على السفر أُرسلت إلى كيف، وبقيت في أحد مستشفياتها نحو شهر من الزمان، ثم قضيت شهرين آخرين في مصحة بهذه المدينة، سُرِّحت بعدهما وعدت إلى عملي الأول رئيسًا للعمال في مصنع بتروفسكي-لينين بدنيبروبتروفسك، وكان ذلك في صيف عام ١٩٢٨م، وأنا أطوي السنة الثالثة والعشرين من عمري.