الرعب في القرية
كثيرًا ما يغمض الناس أعينهم وعقولهم؛ ليخفوا عن أنفسهم ما يحيط بهم من الحقائق المرة المؤلمة؛ لينجوا بذلك من الآلام العقلية التي تضرم القلب وتقبض الرجاء، وهم يتلمسون لعملهم هذا معاذير يختلقونها لساعتهم، ويتخلصون من المعلومات التي تجابههم، قائلين: إنها مبالغات وهوس، ثم يحدث حادث فجائي يضطرهم إلى أن يفتحوا عقولهم وعيونهم، فيتطلعوا إلى ما حولهم دون أن تطرف عيونهم.
وهذا ما حدث لي في الأسابيع التي أعقبت مجيء كاتيا الصغيرة إلى بيتنا، لقد كنت قبل مجيئها أحرص على ألا يتزعزع إيماني بالمبادئ الشيوعية مهما أحاط بي من الحقائق المزعزعة لإيماني هذا، وتحاشيت الذهاب إلى المزارع الجماعية القريبة مني، ثم حدثت مأساة طفلة واحدة بريئة فصدمتني صدمة عنيفة، وأرغمتني على أن أواجه مآسي الزرَّاع الروس على بكرة أبيهم؛ ولهذا اعتزمت أن أنتهز أول فرصة أستطيع فيها التغلغل في أقاليم المزارع الجماعية.
وأتيحت لي هذه الفرصة أسرع مما كنت أتوقع، فقد تلقيت من مكتب الحزب في معهدنا أمرًا بالذهاب إلى اللجنة الإقليمية، وكان الغرض الذي ذهبت من أجله هو تنظيم فرق من أعضاء الحزب للعمل في القرى.
واجتمع في قاعة المؤتمر نحو ثمانين منا، كثرتهم الغالبة من الشبان، ومن بينهم عدد قليل عرفتهم في أثناء النشاط الحزبي في السنين القليلة الأخيرة، وكنا جميعًا متوتري الأعصاب، ولم يكن في وسع بعضنا أن يُخْفُوا ما يساورهم من القلق واضطراب النفس، وصدرت إلينا الأوامر بأن نذهب إلى الريف لنساعد في جمع الحبوب، ونعجل عمليات الحصاد الختامية، ولكننا كنا جميعًا نشعر كأننا مقدمون على حرب عوان، وكان مسلكنا مسلك مَنْ قد تملَّكهم هذا الإحساس.
وخطبنا الرفيق هياتيفتش أحد أعضاء لجنة الحزب المركزية، وكان كل ما لخطبته من أثر فينا أن زادت أعصابنا توترًا، فقد كنا نظن أننا سنستمع إلى حديث فني عن الزراعة وعن الشئون الاقتصادية في الريف، ولكننا سمعنا بدلًا من هذا خطبة من نار دُعِينا فيها إلى الذهاب إلى الريف لنقاتل أهله، فننفذ ما أُمِرْنَا به أو نموت في سبيله.
وكان مما قاله لنا: «أيها الرفاق! ستقضون في الريف شهرًا أو ستة أسابيع، فقد تأخر إقليم دوبتردنبروفسك عن غيره من الأقاليم، وكنا قد تلقينا الأوامر من الحزب ومن الرفيق ستالين أن يتم تنظيم المزارع الجماعية قبل أن يحل الربيع، ونحن الآن في أواخر الصيف ولم يتم العمل بعدُ، وتبين لنا أن ولاة الأمور المحليين في الريف يحتاجون إلى حقن من الحديد البلشفي، ومن أجل هذا بعثنا بكم إليهم.
وعليكم أن تضطلعوا بواجبكم وأنتم أشد ما تكونون شعورًا بالتبعة الملقاة عليكم من حزبكم، فلا تشكوا ولا تسمحوا لمبادئ الحرية البالية أن تنفذ إلى عقولكم، وألقوا بالمبادئ الإنسانية التي تعتنقها الطبقات الوسطى من النافذة، وكونوا في عملكم بلاشفة خليقين بزعامة لينين عليكم، واقضوا على عملاء كبار الزراع أينما رأيتموهم، فنحن معهم في حرب، إما أن يقضوا علينا فيها أو نقضي عليهم! ويجب أن تُمْحَى البقية الباقية من النظم الزراعية الرأسمالية مهما بذلنا في سبيل محوها من الجهود!
ويجب بعدئذٍ أيها الرفاق أن تعملوا على تنفيذ خطة الحكومة في الاستيلاء على الحبوب؛ ذلك أن كبار الملاك وبعض الزراع المتوسطي الثروة بل وبعض الفقراء منهم لا يسلمون حبوبهم، وبذلك يفسدون على الحزب خططه، وولاة الأمور المحليون يترددون أحيانًا ويضعفون أمامهم، وواجبكم أن تحصلوا على الحبوب مهما كلفكم حصولكم عليها، انتزعوها منهم مهما يكن المكان الذي يخبئونها فيه، في الأفران أو تحت الأسرَّة أو في السراديب، أو مدفونة في الأفنية الخلفية للبيوت.
ويجب أن يتلقى القرويون منكم يا فرق الحزب دروسًا لا ينسونها في الشدة البلشفية، يجب أن تحصلوا على الحبوب، وما من شك في أنكم ستحصلون عليها، وذلك عمل ستنجلي فيه قوة ابتكاركم وروح الشرطة السرية السوفيتية، ولا تترددوا في اتخاذ الإجراءات الرادعة مهما كانت قاسية، إن الحزب من ورائكم يناصركم، والرفيق ستالين ينتظر ذلك منكم، إنكم في كفاح ليست له نتيجة إلا الحياة أو الموت، وخير لكم أن تُفْرِطُوا في أداء واجبكم من أن تُفَرِّطُوا في شيء منه.
وثالث واجباتكم الهامة أن تتموا دراس الحبوب، وأن تصلحوا العدد من محاريث وجرارات ومحاصد وما إليها من الآلات.
لقد بلغت حرب الطبقات في القرى أشُدَّها، وليس هذا وقت الحذلقة أو التظاهر بالحنو ورقة الإحساس، فتلك كلها أمور عتيقة بالية، إن صنائع كبار الملاك يتسللون خفية إلى المزارع الجماعية؛ ليعطلوا العمل ويقتلوا الماشية، والذي نطلبه إليكم هو اليقظة والصلابة والشجاعة الجديرة بالبلاشفة، ولست أشك في أنكم ستنفذون تعاليم الحزب وتوجيهات زعيمنا المحبوب.»
وأُغْرِقت هذه الألفاظ الأخيرة، وما تحمله في ثناياها من وعيد، في عاصفة من التصفيق ودلائل الطاعة والخضوع.
«هل منكم من يريد سؤالًا؟ هل كل شيء واضح؟»
ولم يسأل أحد سؤالًا.
«إذن فانتظروا هنا، وستُدْعَون فرادى بعد لحظة وجيزة لتقابلوا الرفيق برودسكي.»
وسألت نفسي: هل يمكن أن تكون هذه كل «التوجهات» التي نتلقاها؟ وهل يُنتَظر من طائفة من الطلاب وموظفي المصانع أن يحلوا ما في الأقاليم الزراعية من مشاكل اقتصادية وسياسية كثيرة مستعصية بوسائل لا تزيد على استخدام «الشدة البلشفية» المطردة الزيادة؟ وكيف يُعهَد لطائفة من الأحداث مثلنا لا تعرف كثرتهم شيئًا من المشاكل الزراعية أن يفصلوا في مصاير مئات الآلاف من الزرَّاع؟
وكان عن يميني شاب لعله أحس بما يجول في خاطري فقال لي بصوت خافت: «أظن يا رفيق كرافتشنكو أننا سنتلقى أوامر أخرى، أقصد أوامر توجهنا وجهة عملية.»
فأجبته بقولي: «لا أعرف.» وتبينت أنه طالب في المعهد، ولكني لم أعرف عنه غير هذا، ولم أكن أرغب في أن تكون بداية استخدام «حزم البلاشفة» هي الإقدام على نقاش «خطر» مع شخص لا أعرفه.
وواصل الشاب حديثه قائلًا: «اعلم أيها الرفيق أني لم أعش قط في قرية، ولا أعرف شيئًا عن الحياة في الريف، وليس لي أقل علم بالوسائل التي يمكن أن أؤدي بها هذه الواجبات الشاقة التي ألمَّ أمين السر بأطرافها، ولكنها مع ذلك واضحة، أليس معناها أننا سنفقد مركزنا في الحزب، أو أننا ستطيح رءوسنا إذا أخفقنا في مهمتنا؟»
وضايقني هذا منه أشد المضايقة، وقلت لنفسي: إن هذا الشخص إما أن يكون أبله إلى درجة لا يصدقها العقل، وإما أنه يحاول أن يثيرني لأنطق بما لا يصح النطق به.
فأجبته دون أن أحاول إخفاء غضبي: «أنا آسف، ولكنك كان في وسعك أن تلقي ما تشاء من الأسئلة.»
– «هذا صحيح، غير أن الحاضرين كلهم كانوا يصفقون، ولم أجد في نفسي من الجرأة ما ينطقني بأن شيئًا مما قاله لم يكن واضحًا لي، ولكني أعرفك من المعهد يا رفيق كرافتشنكو وأثق بك، ولو أنني عُيِّنت معك في فرقة واحدة لكان في ذلك كل الخير لي.»
وحدقت في عينيه وشعرت فجأة بالخجل يسري في نفسي لسوء ظني به، وبدا لي أن ألمه ألم حقيقي غير متكلف، وكانت نظراته نظرات الغلام الصغير الساذج وإن لم يكن يصغرني إلا ببضع سنين.
فأجبته: «لا مانع لديَّ من أن تكون معي إذا استطعت أن تنظم أمرك على هذا النحو، وإن كنت أظن أن توزيع الأفراد على الفرق قد بُتَّ فيه.»
فقال وهو يبتسم وفي صوته ما يدل على تجدد أمله: «سأحاول، إن اسمي تفتكوف، سرجي ألكسيفتش تفتكوف.»
وتركني، وبعد بضع دقائق دُعِيت إلى مكتب الرفيق برودسكي، فأبصرت رجلًا قوي الجسم، على رأسه كومة من الشعر الأسود، يجلس خلف مكتب كبير.
وخاطبني من فوره قائلًا: «أتعرف يا رفيق كرافتشنكو شيئًا عن القرى؟»
– «لقد عشت في مزرعة تعاونية عدة سنين في أثناء الحرب الأهلية، ثم درست بضعة مناهج في إحدى المدارس الزراعية في عام ١٩٢٠-١٩٢١م.»
– «حسن جدًّا! قلَّ أن تجد من أعضاء هذه الفرق من يعرف الفرق بين القمح والشعير.»
ودق جرسًا فأُدخل رجلان آخران إلى مكتبه: أحدهما الطالب تفتكوف وقد دخل وهو يبتسم في حياء دليلًا على نجاحه في مسعاه، أما ثانيهما فرجل في الأربعين من عمره لا أعرفه.
وقال الرفيق برودسكي: «فليحيِّ كل منكم زميله، ستعملون أنتم الثلاثة معًا، وعليكم أن تذهبوا إلى قرية بُدْجُرُدْنوى، وستتولى أنت يا رفيق كرافتشنكو إتمام عملية الدراس، وسيُنَاط بك أيضًا إصلاح جميع العدد والآلات، وستتولى أنت يا رفيق تفتكوف بمعاونة الرفيق أرشينوف إتمام أعمال التنظيم الجماعي للمزارع وجمع الحبوب، وستعملان كلاكما برياسة الرفيق أرشينوف هذا، فسيرأس هو الفرقة المؤلَّفة من ثلاثتكم؛ ذلك أن هذا الرجل ليس من عمال الحزب فحسب، بل إن له فوق ذلك تجارب سابقة في مكتب المدعي العمومي.»
– «هذا كل ما أقوله لكم، فاخرجوا إلى الردهة وخذوا أوراق انتدابكم ونقودكم.»
وكان أرشينوف رجلًا بدينًا قصير القامة حليق الرأس والوجه مبرقشهما كالرخام القديم، لا يفصل جبهته عن رأسه فاصل، وكان وجهه مستويًا لا مركز له كأنك تراه في مرآة غير منتظمة السطح، أما عيناه فلم تكونا تزيدان على فتحتين ضيقتين في وجهه المستوي، وجملة القول: إن شكله كله لا يروق الناظر إليه.
ولما كنا في الحجرة الخارجية أمرنا أرشينوف أن نأتي معنا بملابس مدفئة، وكل ما نستطيع شراءه من الطعام، وأضاف إلى ذلك قوله: «ومسدس بطبيعة الحال.» واتفقنا على أن نلتقي في استراحة المحطة في اليوم الثاني، ثم تفرقنا فسار أرشينوف في طريق، وسرت أنا وتفتكوف في طريق آخر.
ولم يكن تفتكوف من الذين يستطيعون كتمان ما في ضميرهم فقال لي: «أصدقك القول يا فكتور أندريفتش، إنني لست متحمسًا كل التحمس للعمل مع رئيسنا هذا، وأرجو أن أكون مخطئًا في ظني، ولكني أحس بأنا لن نستريح إلى العمل معه.»
– «دع هذا الهراء يا رفيق تفتكوف، لِمَ تبدأ عملك وأنت كاره لرفيق تجهل كل شيء عنه؟ وقد يتبين لك فيما بعد أنه رجل رقيق الحاشية، وما من شك في أن الحزب يثق به، وأقل ما يجب علينا نحوه أن نثق به نحن أيضًا، وأهم ما في الأمر ألا نبدأ العمل ونحن نتوقع الإخفاق.»
وأدركت وأنا أتحدث أني كنت أطمئن نفسي أكثر مما أطمئن صديقي.
ثم واصل حديثه في إصرار قوي: «وما حاجتنا إلى المسدسات؟ لست على استعداد لأن أستولي على الحبوب بالقوة، لقد قال لينين: إن المزرعة الجماعية تعاون اختياري بين الزرَّاع، وكرر ستالين هذا القول نفسه أكثر من مرة، وقد قرأت أنا من أيام قليلة …»
– «اسمع يا تفتكوف، لا يؤلمنك مني إذا تحدثت إليك بصراحة، إن حديثك هذا عجيب حقًّا، ولي كل الحق في أن أظنك إنسانًا سليم النية إلى حد بعيد، أو أنك قد عُيِّنْتَ معي لتكون عينًا عليَّ.»
فصاح بصوت مرتاع ندمت حين سماعه على صراحتي: «رباه! ما أفظعها من فكرة! لست أشك في أنك ستدرك أنك مخطئ في سوء ظنك بي حتى فيما تقوله عن سذاجتي، فأنا مدرك خطر المهمة التي نحن مقبلون عليها، وذلك هو سبب دهشتي من أننا لم نتلقَّ تعليمات عملية صريحة، فأنا روسي وابن روسي، ولم أكن في يوم من الأيام من الدساسين المأجورين، وليس في وسعي أن أكون هذا الدساس المأجور ولو كانت حياتي معرضة للخطر، وما أفظع أن يتهم الناس بعضهم بعضًا بالتجسس والدس المأجور.»
وكأنما أوحي إليه بفكرة جديدة فأضاف إلى أقواله السابقة قوله: «تعالَ معي في زيارة لأسرتي، فإن بيتي لا يبعد عن هذا المكان أكثر من بضعة مبانٍ.»
وكانت هذه الفكرة التي أوحي إليه بها فكرة موفقة معقولة، فقد كان التقائي بأبويه، والجو المحيط ببيته المتواضع، سببًا في إزالة آخر ما بقي لديَّ من ارتياب في سلامة طوبته وإن كان ذلك قد قوَّى ظني في ضعفه وقلة تجاربه، ورأيت والده رجلًا كبير السن يلبس منظارين على عينيه، ذا لحية صغيرة لها طرف دقيق، أما والدته فكانت سيدة ضئيلة الجسم، ضعيفة البنية، شمطاء الشعر، رحيمة القلب.
وكان كلاهما أشبه بشخصيتين في كتاب من عهد ما قبل الثورة، والغريب في أمرهما أنهما لم يفسدهما ما حدث من عنف في هذه السنين الكثيرة الأحداث، وكأنهما يعيشان في عالم خاص بها لا تستطيع شرور العالم الخارجي أن تصل إليه بسهولة، وخُيِّلَ إليَّ أنه يكاد يكون من غير المعقول أن تفتكوف الكبير من أعضاء الحزب قبل حوادث عام ١٩١٧م، وكان مما يُسَرُّ له الإنسان أن يبقى في الحزب إلى الآن رجل «طيب القلب» بالمعنى الذي كان يُفْهَم من هذا اللفظ في العهد القديم، والذي كاد الناس ينسونه الآن.
وقالت مسز تفتكوف تشكو من فعل ولدها: «ولكن لِمَ لم تقل لي يا سريزها إنك مسافر إلى القرى؟ إني أسمع عن فظائع محزنة …»
ورد عليها زوجها محتجًّا: «لا، لا، يا عزيزتي، إن كل ما تسمعينه عما يُرْتَكَب من الفظائع في المزارع الجماعية مبالغ فيه كثيرًا، ولا يمكن أن تكون الأحوال كما يصوِّرها لك هؤلاء المبالغون، وأنا نفسي من أعضاء الحزب القدامى، وأنا متفق مع الرؤساء في أن نظام المزارع الجماعية هو أملنا الوحيد في حل المشكلة الزراعية، ونجاح هذا النظام يقف معظمه على اختيار الذين ينفذون الأوامر، وأرجو ألا تُقْدِم أنت يا سرجي ولا أنت يا رفيق كرافتشنكو على ارتكاب أي نوع من الفظائع، وما من شك لديَّ في أن الحزب لا يرغب في شيء من هذا.»
ولما عدت إلى المنزل أبلغت أسرتي نبأ بعثتي إلى الريف، وكان كل مَن في المنزل لا يزال متأثرًا بقصة كاتيا، فبدت عليهم جميعًا مظاهر الوجوم والاضطراب مما عسى أن ألاقيه في هذه المهمة، وبعد أن آويت إلى الفراش في تلك الليلة سمعت دقًّا على باب حجرتي ثم دخلت عليَّ أمي.
وقالت بعد أن جلست على السرير: «معذرة يا فيتيا على هذا التطفل، ولكني قد لا أجد فرصة أتحدث إليك فيها ونحن نودِّعك غدًا.
إني أعرف أن ما يلاقيه القرويون من متاعب يؤرقك ويحزنك كما يؤرق كثيرين غيرك ويحزنهم، ولكني أرجوك أن تهدئ من روعك وتصبر على كل ما عساه أن يصادفك، وتذكر أن ما يحدث في إقليم من الأقاليم لا يُعَدُّ دليلًا على ما يحدث فيها جميعًا، وأبغض الأشياء إليَّ أن تكون تجربة واحدة محزنة سببًا في القضاء على كل ما هيأته لمستقبلك في حياتك الشيوعية كلها، وما من شك لديَّ في أنك ستجعل حياة القرويين المساكين ميسرة قدر ما تستطيع.»
– «شكرًا لك يا أماه! وأرجو ألا تشغلي بالك بأمري، وثقي أنني لن يصيبني مكروه، وأنا أعلم أن الثورات ليست رحلة للتنزه والاستمتاع.»
ولم يكن الحديث الذي دار بين أعضاء الفرقة الثلاثة في القطار المسافر إلى بدجردنوى حديثًا وديًّا؛ ذلك أن أرشينوف كان يحمل معه مُسدسًا من طراز موزر مُعلقًا بشريط من الجلد على كتفه، وكان اختياله وإعجابه به سببًا في مضايقتنا وإثارة مشاعرنا، على أن أرشينوف نفسه لم يحاول أن يخفي احتقاره لتفتكوف الصغير السن الأشقر اللون، الوسيم الوجه، وتحاشينا كلنا أن نذكر شيئًا عن عملنا المشترك.
وقال لي تفتكوف: «إن أهلي الكبار يرسلون إليك يا فكتور أندريفتش تحياتهم.»
– «شكرًا لك يا سريزها، وهل لك أن تخبرني بهذه المناسبة عن المكان الذي يعمل فيه والدك؟»
– «إنه يعمل في مكتب تابع للسكك الحديدية، فهو مهندس كما تعلم، وهو في عمله هذا منذ زمن طويل، وهو عضو في الحزب من قبل عام ١٩١٧م.»
وبدا الفزع على أرشينوف حين سمع منه هذا القول، وما من شك في أنه كان يظن أن تفتكوف ابن رجل من رجال الفكر المتحذلقين المجردين من النفوذ، أما وهو ابن بلشفي قديم فقد يصبح هذا الشاب أصعب مراسًا مما كان يظنه أولًا.
وصاح أرشينوف بامتعاض ظاهر: «تقول: إن أباك عضو في الحزب؟»
– «نعم، وأي شيء من الغرابة في هذا؟ ولِمَ تسأل هذا السؤال؟»
– «لا شيء، إنه مجرد سؤال لا أكثر.»
ووصلنا إلى المكان الذي نقصده قبيل الغروب، وكان المطر يتساقط رذاذًا والطريق الموصل إلى القرية موحلًا، ولم ينظر إلينا من لاقيناهم من القرويين بشيء كثير من الاهتمام، ولم يلفت نظرهم إلا مسدس أرشينوف وهو يلطم فخذه السمينة في أثناء مشيه.
وناديته بصوت واطئ: «استمع إليَّ يا رفيق أرشينوف، أتسمح بأن تخفي مسدسك تحت سترتك؟ فأنا لا أرى موجبًا لإرهاب الناس على هذا النحو؟»
– «إن هذا من شأني أنا لا من شأنك!»
– «لا يا رفيق، إنه ليس من شأنك وحدك، فنحن نعمل هنا مجتمعين، وهو لذلك من شأننا جميعًا، وهو فوق هذا من شأن الحزب، وأنا أصر على أن تفعل ما أطلبه إليك وإلا فلن أذهب معك إلى القرية.»
وقال تفتكوف: «إن الرفيق كرافتشنكو محق فيما يقول، فلِمَ تخيف الخيل من غير موجب؟ إن معي أنا أيضًا مسدسًا، ولكني أخفيه تحت سترتي.»
وعمل أرشينوف برأينا وهو على مضض، ولكنه لم يتحدث إلينا بكلمة واحدة في أثناء سيرنا إلى مقر سوفيت القرية، وهو بيت خشبي كبير قبيح المنظر متهدم، وكان في داخله مصباح كيروسين يشع فيه نورًا ضئيلًا من تحت مدخنة من الورق، وكانت الحجرة ملأى بالدخان وأطراف لفافات التبغ منتشرة فيها، وجلس على أرضها نحو عشرين من الفلاحين صامتين وعلى وجوههم غبرة.
وسألهم أرشينوف بصوت عالٍ يريد أن يظهر به سلطانه: «أين رئيس السوفيت؟»
وأشار الفلاحون بأيديهم وقالوا: «هو هنا في مكتبه.»
– «وماذا تفعلون أنتم هنا؟ أليس لديكم عمل خير من الجلوس على أعجازكم؟»
فأجابه أحد الفلاحين: «إن لدينا أعمالًا كثيرة، ولكنا دُعِينا إلى هذا المكان، وهم يطلبون إليَّ خبزًا، ولكني أنا نفسي أسأل الخبز.»
وسخر منه أرشينوف وقال: «أرى أنْ سيكون لديَّ عمل كثير في هذا الجحر النتن.»
وسرنا من ورائه إلى مكتب السوفيت فأبصرنا فيه شابًّا متعبًا رفيع الوجه ذا نظرات فاترة يجلس خلف منضدة ويتحدث إلى شيخ قروي.
وصاح أرشينوف قائلًا: «نحن فرقة الحزب، وقد جئنا إلى هنا في عمل.»
وقام الرئيس واقفًا وسلَّم علينا بيده وقال: «مرحبا بكم، كيف حالكم؟» ولكن وجهه كان ينم عن غير ما نطق به لسانه، فلم يكن الرجل مغتبطًا بقدومنا، ثم واصل حديثه قائلًا: «سأفض الاجتماع ونبدأ العمل من فورنا.»
وسأله أرشينوف قائلًا: «وماذا يصنع هؤلاء الناس جميعًا هنا؟»
– «لقد دعوتهم إلى الحضور، إن أمر هؤلاء الناس ليس بالأمر الهين، وهم يصرون على أنْ ليس لديهم حبوب، وكان المحصول رديئًا في هذه الجهات، والناس كلهم يتوجسون خيفة مما سيصادفهم في الشتاء المقبل، وليس من السهل علينا أن ننتزع الحبوب منهم أيها الرفاق، وهم يرفضون الانضمام إلى المزارع الجماعية، ومهما فعلنا بهم فإنهم لا ينضمون إليها.»
وقال أرشينوف وهو مقطب الوجه: «سننظر في هذا الأمر، وما دمت قد دعوتهم للحضور فخير لك أن تفرغ من عملك معهم، وسنبدأ عملنا نحن في صباح الغد.»
واستدعى الرئيس أحد مساعديه وأسرَّ إليه بعض الأوامر، وسار هذا الرجل بنا نحن الثلاثة إلى داخل القرية، وكان يخيم على شارعها الرئيسي سكون مقبض لا يقطعه إلا نباح كلب ينطلق فيه من حين إلى حين، وكنا نبصر في أماكن متفرقة منه نورًا ضئيلًا مضطربًا في إحدى النوافذ ودخانًا يخرج من مدخنة، ولما وصلنا إلى بيت كبير يفضل ما حوله من البيوت وقف دليلنا.
ثم قال: «ستقيم في هذا البيت يا رفيق أرشينوف، وأرجو أن يوافقك.»
ثم واصل سيره في الشارع نفسه إلى بيت فخم ذي مبانٍ منفصلة عنه، وحديقة صغيرة وبئر ذات دلو.
وقال: «سيعجبكم هذا المكان، لقد انضم آل استيوبنكو من وقت قريب إلى المزرعة الجماعية، وبيتهم هذا نظيف خال من صغار الأطفال، وكلهم كبار ولهم ابنة جميلة.» قال هذه العبارة الأخيرة وهو يشير بطرف عينه في اتجاه تفتكوف.
وقابلنا عند الباب رجل طويل القامة يبلغ حوالي الستين من العمر، حليق الوجه إلا من شاربين طويلين يتدليان على طرف فيه على الطريقة الأوكرانية القديمة، وحيَّانا الرجل في تحفُّظ وكرامة غير متكلفة سررت لها، ثم سار أمامنا إلى حجرة صغيرة ولكنها أنيقة ومريحة.
وقال لنا: «اغتسلوا أولًا ثم تعالَوا وانضموا إلينا على الرحب والسعة، واقتسموا معنا ما يبعثه الله لنا وهو غير كثير.»
ووجدنا الأسرة كلها جالسة حول المائدة، وكانت ابنتها في الثامنة عشرة من عمرها، وهي جميلة حقًّا، وكانت الزوجة امرأة حنونًا كبيرة السن تعقد منديلًا ملونًا أسفل ذقنها، لها يدان مجعدتان خشنتان من العمل شأن زوجات الفلاحين، وكان للأسرة أيضًا ولد في الثامنة من عمره، وعرفناهم بأنفسنا وانضممنا إليهم، وصب في أوانينا حساء بلا لحم، ثم أعقبته بطاطس مسلوقة وشبت مخلل، وكان الخبز مقطعًا قطعًا رقيقة أكلها كل منا بحرص وعناية كما لو كانت رقاقًا مقدسًا.
ولما كنت قد اعتدت حياة القرويين، وعرفت أن الخبز الكثير الغليظ هو طعامهم الرئيسي، فقد أدركت بوضوح أن الأسرة في ضنك شديد، واستأذنت أنا وسريزها وذهبنا إلى حجرتنا ثم عدنا بما كان لدينا من الطعام الملفف، وحدَّق فينا آل استيوبنكو حين كشفنا عما معنا من أمعاء محشوة، وأنواع متعددة من السمك، ودجاج بارد، وألححنا عليهم أن يشتركوا معنا في طعامنا، وما لبث جو التحفظ الذي كان مخيمًا علينا أن انقشع.
وكررت ربة الدار قولها: «شكرًا لكم، شكرًا لكم، لا شك أنك قد أدخلتم السرور على بيتنا المتواضع.»
وأضاف زوجها إلى ذلك قوله: «لست أذكر آخر مرة رأينا فيها الأمعاء المحشوة والحلوى، ونحن أحسن حالًا من كثيرين ممن حولنا، ولكننا مع ذلك في ضنك شديد، وليس لدينا من الحبوب ما يكفينا حتى يُحْصَدَ المحصول، آه! أيها الرفاق لو تعلمون ما مر بنا من الظروف القاسية في أوكرانيا! إن أحدنا إذا حصل على قطعة من الخبز أكلها خفية.»
وكنت في أثناء ذلك أرقب الولد الصغير، فرأيته مكتئبًا ساكنًا سكونًا غير طبيعي، حتى إن الحلوى التي أخذ يلوكها من غير عناية لم تفلح في أن تثير اهتمامه بنا، فسألت الرجل: «وما اسم ابنك الصغير؟»
وأجاب الولد عن سؤالي بقوله: «فاسيا.» ثم غادر الحجرة فجأة.
وقال رب الدار: «ليس هو ابننا، بل هو … ماذا أقول؟ هل أقول: إنه يتيم يتمته المزارع الجماعية؟»
– «وماذا تقصد بهذا القول؟»
– «إنه يتيم وكفى، ولكن لا تسأل الولد شيئًا، إن الصدمة التي تلقَّاها لا تزال تذهله، فهو يذهب في كل ليلة إلى بيته ويطوف بفنائه ساعات طوالًا، ونحاول نحن أن نمنعه ونقول له: وماذا تفيد من تعذيب نفسك؟ ولكنه لا ينفك يذهب إلى البيت.»
– «قل لنا ماذا أصابه؟»
– «لست أدري هل أخبركما بذلك أو لا أخبركما به، إنكما جديدان علينا، وأنتما فضلًا عن ذلك من رجال الحكم.»
– «قل يا أبت ولا تخف، إنا لم نأتِ هنا لنؤذي أحدًا، بل جئنا لأنَّا نحب الفلاحين ونريد أن نساعدهم.»
– «حسن، فلأجرب حظي معكما، إنكما تبدوان من خيار الناس، وفوق هذا فقد تجاوزت السن التي أخشى فيها أحدًا، وكل الذي يسوءُني وأخشاه أن يلحق ابنتي أذى.»
ثم أخذ يقص علينا قصة الغلام فقال: «كان آل فورفان يسكنون على بُعْد عشرة بيوت من هذا المكان، وكانت الأسرة تتألف من رجل وزوجته وابن واحد هو فاسيا الذي شاهدتماه هذا، وكانت أسرة سعيدة مُجِدَّة طيبة الأخلاق، ولم تكن من كبار الملاك الزراعيين، فلم تكن تملك إلا جوادين وبقرة وخنزيرًا وبضع دجاجات، شأنها في هذا شأن سائر الناس، وأخذوا يلحُّون عليه لينضم إلى المزرعة الجماعية ولكنه رفض كل إلحاح.
وأخذوا منه كل ما بقي لديه من الحبوب وعادوا إلى مجادلته وتهديده، ولكنه لم يتحول قط عن رأيه، وظل يقول لهم: تلك أرضي وماشيتي وبيتي ولن أعطيها للحكومة قط. ثم جاء قوم من المدينة — وهم المكلفون بإخراج الناس من بيوتهم — وأحصوا أملاكه وسلبوه كل متاعه ولم يُبْقوا له آنية ولا فوطة، وأُخِذَت أدواته الزراعية وسيقت ماشيته إلى المزرعة الجماعية.
واتُّهِمَ فورفان بأنه من كبار الملاك ومن وكلائهم وجاءوا في المساء ليقبضوا عليه، وأخذ ابنه وزوجته يبكيان وينتحبان، ورفض الرجل أن يذهب معهم، فأخذوا يضربونه حتى سال الدم من جسمه كله، ثم أخرجوه من المنزل وجروه في الوحل من الشارع الذي يسكن فيه إلى سوفيت القرية، وجرت زوجته من خلفهم وهي تصيح وتعول وتطلب العون من الله ومن الناس، وخرجنا جميعًا، ولكن أحدًا منا لم يستطع أن يقاوم الحراس المسلحين، وإن كنا نحب فورفان ونعرف أنه لم يكن من كبار الملاك.
وظلت المرأة البائسة تبكي وتصيح قائلة: «مَن ذا الذي يُعْنَى بنا من بعدك يا بيوتر؟ إلى أي مكان يسوقك هؤلاء الوحوش الكفرة؟ ودفعها أحد رجال القسم السياسي بعنف فارتمت في الوحل، وظلوا يجرون فورفان إلى عربات الحيوانات، والله وحده يعلم أين مقره الآن، وعدنا بالمرأة إلى بيتها وحاولنا أن نهدئ من روعها حتى نامت وتركناها جميعًا.»
وكانت المرأتان الجالستان أمام المائدة تبكيان وهو يقص هذه القصة، وأخذ مضيفنا نفسًا طويلًا من لفافته المصنوعة باليد الكريهة الرائحة، ثم واصل حديثه قائلًا: «وجاءت في الصباح جارة من جارات أسرة فورفان المسكينة لترى الزوجة، ولكنها لم تجدها، ونادتها باسمها فلم ترد عليها، فدخلت الهرء الخالي، فوقعت عينها على منظر روَّعها، وصرخت منه صرخة جنونية أقبل على أثرها كثيرون من الفلاحين مهرولين، وكنت أنا من بينهم، فرأينا المرأة معلقة في حبل مشدود إلى إحدى العوارض الخشبية، وقد قضت نحبها، وكان منظرًا لن أنساه مدى الحياة ولو بلغت سني مائة عام، وحدث كل هذا من شهر واحد لا أكثر.
وقررت أنا وزوجتي العجوز أن نأخذ فاسيا في كنفنا؛ لأنا ليس لنا أبناء صغار، وقد قضى شهرًا كاملًا بين صمت وبكاء، وهو يذهب كل يوم إلى البيت المهجور كما قلت لكما، ثم يعود إلينا ويأوي إلى فراشه على ظهر الفرن دون أن ينبس ببنت شفة.
وبعد أن رأيت أنا وزوجتي ما حدث لآل فورفان تباحثنا في الأمر وقررنا أن ننضم إلى المزارع الجماعية، باختيارنا.»
وجلسنا حيث كنا صامتين مدة طويلة، فقد ترك فيَّ مصير آل فورفان كما ترك فيَّ مصير كاتيا الصغيرة أثرًا لا تضارعه آثار الأرقام التي قرأناها عن عدد من نُفُوا وشُرِّدوا وقُتِلوا.
وقال تفتكوف آخر الأمر: «شكرًا لك يا والدي على ثقتك بنا، وثق بأني لن أكون غير جدير بهذه الثقة، وصدقني إذا قلت لك: إن الشيوعيين ليسوا كلهم سواء، وإن منَّا من يعترضون على هذه الأعمال كاعتراضك أنت عليها، واعلم بأن الحزب نفسه لا يرضى عنها.»
وكان وهو يتحدث كأنه يعتذر عن نفسه وعني وعن الحزب.
وقلت أنا مؤيدًا رفيقي: «نعم، إنا نشكر لك كرم ضيافتك وثقتك بنا، وسنقيم معكم شهرًا ولا نريد أن نثقل عليكم في شيء، وهاك كل ما لدينا من نقود، ونصر على أن نؤدي ثمن كل شيء، فاشترِ كل ما تحتاج إليه، ولا تخرج عن مألوف عادتك من أجلنا.»
– «لقد أُمِرْت ألا آخذ نقودًا مطلقًا.»
– «ليس عليك إلا أن تغفل هذه الأوامر، واللجنة المركزية لم تعطنا النقود إلا لهذا الغرض، وكلي أمل في أن تساعدنا فيما جئنا من أجله، فنحن لا نريد إلا الخير، وأنت خبير بشئون قريتك؛ أما نحن فلا علم لنا بها.»
وطار الرقاد من عيني زمنًا طويلًا في تلك الليلة، ولكني ظللت ساكنًا حتى لا أوقظ تفتكوف، وسرَّني كل السرور أنه تكشف عن إنسان رقيق القلب ذي أدب جم، ولم يكن شيوعيًّا رسميًّا متطرفًا في شيوعيته.
وسمعته يقول: «أأنت نائم يا فكتور؟»
– «كلا يا سريزها، لا أستطيع النوم، إن الأفكار لا تفتأ تساورني.»
– «أتعرف أني لا أستطيع أن أرفع عيني في وجه أولئك الفلاحين الطيبين؟ وأني أشعر بأني أنا نفسي ملوم على ما فعله أولئك الأوغاد؟ وشر ما في الأمر أنهم فعلوا ما فعلوه باسم حزبنا المحبوب!»
وكنت قد قررت أن أتحفظ بعض الشيء في حديثي إلى تفتكوف، فقد عرفت أنه ليس بالرجل القوي الكتوم، وخشيت أن يضعف ويلين تحت الضغط الشديد، فيفشي على الرغم منه ما قلته له؛ لذلك رأيت أن من الخير لي وله ألا يعرف من أفكاري إلا القليل.
وقلت له مستحثًّا إياه أن ينام: «خير لك أن تنام، فإن علينا أن نستيقظ مبكرين.»
ولما وصلنا إلى السوفيت في الصباح وجدنا فيه أرشينوف غاضبًا ثائرًا، وكان سبب غضبه أنه وُضِعَ في بيت لم يجد فيه كفايته من الطعام، ولم يلقَ من أصحابه كثيرًا من المجاملة، وإن لم يسيئوا إليه، وقضينا صدر النهار في مراجعة السجلات، وأطلعنا الرئيس على المعلومات التي جعلتنا نُلِمُّ بشئون القرية إلى اليوم الذي قدمنا فيه، وقسمنا القرية أقسامًا، واخترنا لكل قسم من الفلاحين الجماعيين من يُنَاط بهم تنفيذ الخطط المقررة.
ثم ذهب رئيس السوفيت وأرشينوف وسريزها إلى القرية ليطلعوا على أحوالها، وذهبت أنا ورئيس المزرعة الجماعية إلى هذه المزرعة.
وأبصرنا في فناء كبير في ضيعة قديمة تهدَّم معظم بيوتها بيادر من حبوب حُصِدَت من زمن قريب، وسرَّني أن رأيت الحبوب قد حملتها العربات إلى الحقول، فهي هنا يستطاع دراسها في عشرة أيام أو اثني عشر يومًا إذا وجدت من يعمل فيها بجد، ولم أجد ما يسرني غير هذا، فقد كان كل ما شاهدته في حال من الإهمال والاضطراب يرثى لها.
شاهدت كميات كبيرة من العدد والآلات مبعثرة في العراء، قذرة معطلة يعلوها الصدأ بعد أن كان أصحابها من قبل يعنون بها كما يعنى الإنسان بالجواهر الثمينة، وشاهدت أبقارًا وخيلًا عجافًا تغطيها فضلاتها وتتجول في الفناء، ورأيت أسرابًا من الدجاج والإوز والبط تحفر في البيادر غير المدروسة، وذهبنا إلى الإصطبلات فرأينا الخيل تغوص إلى ركبها في الأقذار «تقرأ الصحف» كما يقول الفلاحون حين تقف الماشية على مذاودها الخالية من الطعام، ولم تكن الأبقار التي في الجرن أحسن حالًا من الخيول.
وهالني ما رأيت، فقد كانت هذه حال لا تتفق وطبيعة مواطنيَّ من الفلاحين الأوكرانيين.
وقلت لرئيس المزرعة الجماعية وأنا غاضب أشد الغضب: «اجمع أعضاء المزرعة الجماعية على الفور.»
ولم تمضِ إلا ساعة حتى كان الجميع من الرجال والنساء المنوطين بأمر المزرعة الجماعية حاضرين في الفناء، ولم تكن نظراتهم إلينا مشجعة، وكأني بهم يقولون: «ها هو ذا شخص آخر يتدخل فيما لا يعنيه. وماذا نستطيع أن نفعل أكثر من الإنصات إلى ما يقول؟»
وأردت أن أظهر لهم المودة فبدأت حديثي بقولي: «كيف تسيرون في عملكم أيها المزارعون الجماعيون؟»
فرد عليَّ واحد منهم بصوت جاف شكس: «كما ترانا، كما ترانا. لا نزال على قيد الحياة كما ترانا.»
وقال ثانٍ: «ليس بيننا غني وفقير بل كلنا مُعْدمون متسولون.»
وتظاهرت بأني لم أفهم هذا التهكم.
«لقد أوفدتني إليكم لجنة الحزب الإقليمية لأعاونكم على دراس محاصيلكم، وإصلاح آلاتكم، وتنظيم أموركم بوجه عام، خبِّروني أيها الزراع الجماعيون، من الذي اختار رئيس هذه المزرعة؟»
فأجاب أعضاء اللجنة الإدارية: «نحن كلنا.»
– «ولِمَ إذن تسببون له المتاعب؟ ألا تعلمون أن تبعة هذا الاضطراب كله ستُلْقَى عليه؟ انظروا إلى ما حولكم، ألا تستحون وأنتم الفلاحون مما ترون؟ ماشية قذرة وبيادر لا تجد من يحرسها، وآلات قيِّمة في كل مكان تصدأ وتتلف، إن من أسهل الأمور أن يُسْجَنَ رئيسكم بسبب هذا كله وأن يُسْجَنَ معه أعضاء اللجنة الإدارية أيضًا.
ولكني لم آتِ إليكم لأفعل بكم هذا، إن السجون لا تأتيكم بالخبز، ومَن ذا الذي تضرونه بهذا الإهمال المروع: أنا أو أنتم؟ لقد قضيت جزءًا من حياتي في الريف، وكان بعض أهلي من الفلاحين، ولكني لم أرَ في حياتي كلها شيئًا مخجلًا كهذه الإصطبلات وهذه الجرون، وهذا الفناء، إني أدرك ما يشعر به بعضكم، ولكن لِمَ يحل العقاب بالخيل والأبقار؟ إني لأتوارى منكم خجلًا، وأنا أعرف أنكم لا تزالون فلاحين وألجأ فيكم إلى كرامة الفلاحين.»
وصاح واحد منهم قائلًا: «حسن، إن هذا الرفيق يتكلم كلامًا له معنى.»
– «إذن فلنبدأ عملنا، أَعْلِن افتتاح الاجتماع أيها الرئيس، واختر عددًا من الأشخاص يعرف كل واحد منهم ما يجب عليه أن يقوم به، وسندون نحن الأسماء والتواريخ وما يجب على كل واحد أن يعمله.»
وقضينا عدة ساعات نتكلم ونضع الخطط، وأبى كثير من الفلاحين أن يتحملوا أية تبعة، ولكن كل عضو من أعضاء اللجنة الإدارية وافق في نهاية الأمر على أن يقوم بعمل معين: كتنظيم الدراس، وتنظيف حظائر الحيوانات، وتسجيل الأدوات وما إلى ذلك، وانتهى الاجتماع بروح ودية.
وحدثني مضيفي وقت العشاء فقال إنه قابل بعض أعضاء اللجنة الإدارية عقب الاجتماع، وإنهم يقولون: «إنك بدأت بداية طيبة، وإنهم مسرورون منك، وبخاصة لأنك لا تسب ولا تملأ الدنيا صخبًا ووعيدًا.»
– «قل لي يا أبي، هل أصبتُ حين طلبت إليهم أن ينظموا من فورهم ما في المزرعة الجماعية من أدوات؟»
– «لقد أصبت كل الإصابة، إن الفلاحين أنفسهم يدركون أن الأمور لا تسير كما يجب أن تسير، وكل ما في الأمر أن صدورهم تنطوي على أشد الغيظ؛ لأنهم خسروا أرضهم وماشيتهم وآلاتهم، ولكن الأمور يجب مع هذا أن تُنَظَّم والحياة يجب أن تجري في مجراها.»
وانفردت بسريزها بعد العشاء فوجدته مكتئبًا حزينًا.
– «كيف حالك يا رفيقي؟»
– «لست كما أحب يا فكتور أندريفتش، إني أسير في عملي حسب خطط أرشينوف، ولكني لا أحصل على نتائج كثيرة طيبة، فقد استدعيت المقصرين في توريد الحبوب واحدًا بعد واحد، ولكن قصتهم جميعًا كانت قصة واحدة، فقد كان الواحد منهم يخلع قبعته ويجلس في أدب واحترام.
ثم أبدأ أقول له: «إنك لم تؤدِّ ما عليك من الحبوب بعد.»
– «ربما أكون قد أديته وربما أني لم أؤدِّه.»
فأقول له: «لا يزال عليك للدولة عشر بودات.»
فيهز كتفه ويقول: «وأنَّى لي بهذا القدر كله؟! ليس لديَّ منه شيء.»
– «وكم تستطيع أن تورده منه اليوم؟»
وهكذا نظل في جدال مستمر فأقول أنا: إن الحكومة في حاجة إلى الحبوب، ويقول الفلاح: «نعم، إن الحكومة في حاجة إليها، ولكن ماذا يفعل أطفالي وزوجتي؟ أظنهم في غير حاجة إليها! وأنت نفسك تعرف أن المحصول قد خاب، ومَن ذا الذي يطعمنا طول العام بعد أن اغتصبتم كل حبوبنا؟»
وجمعت اليوم اثنتين وخمسين بودة، ولكن هذا لا يساوي معشار ما كان ينتظره أرشينوف مني، وليس في وسعي أن أفعل خيرًا مما فعلت، فهؤلاء الناس متعبون مكتئبون في أشد حالات الوَجَل، ولعل عند بعضهم من الحبوب أكثر مما يعترفون به، ولكنهم لا يريدون أن يوردوه للحكومة ولا يجرءُون على توريده، والشتاء الطويل مقبل عليهم وعيالهم يطلبون القوت.»
وحاولت أن أهدئه بقولي: «لا تقلق بالك إلى هذا الحد يا سريزها، بل افعل خير ما تستطيع أن تفعله؛ لأن القلق لا يجدي نفعًا.»
وذهبت مع مضيفي إلى المزرعة الجماعية في صباح اليوم الثاني، وسرَّني أن أرى العمل قائمًا على قدم وساق، فالعدد تنظف وتزيت، والسماد يخرج من الحظائر والإصطبلات، والاستعدادات تُتَّخَذ لدراس الحبوب، واستمر العمل على هذه الحال عدة أيام كاد المكان بعدها يعود إلى حاله الطبيعية، وخير من هذا كله أن روح الفلاحين الجماعيين المعنوية قد تحسنت كثيرًا عن ذي قبل، وأخذت النساء والبنات يغنين الأغاني الأوكرانية كما كُنَّ يفعلن في أيامهن الماضية؛ ذلك أن أولئك القوم السذج يحبون العمل بطبيعة نشأتهم، وقد كان الجو صحوًا وهم يدركون خيرًا مما أدرك أنا نفسي ما لكل يوم غير مطير من قيمة.
ومر علينا أكثر من أسبوع، وأبطأت عملية إصلاح العدد لنقص المسامير والأسلاك والحديد والخشب وغيرها من المواد الضرورية، ولكن مهارة الفلاحين عوَّضت هذا النقص، غير أننا لم يكن في وسعنا أن ننظم حسابات المزرعة لعدم وجود الورق؛ ولهذا عولنا على أن نرسل سريزها إلى دنيبروبتروفسك ليقضي فيها يومًا يشتري في خلاله ما نحتاجه.
ولما عدت إلى المنزل في تلك الليلة شاهدت سريزها وفي يده خيط يقيس به فاسيا الصغير، ويعقد فيه عقدًا، وتظاهرت بأني لم ألاحظ ما يفعل.
وذهبت في اليوم الثاني قبل أن يعود سريزها لزيارة أرشينوف، وكان يعلم أن العمل الذي نيط بي يسير سيرًا حسنًا، ويحسدني على هذا التوفيق، ولم يجد وسيلة ينفِّس بها عن كربه إلا أن يطعن على تفتكوف فأخذ يتهمه بأنه شخص ضعيف أصفر الكبد، وبما هو أسوأ من هذا كله، وهو أنه حر إنساني فاسد.
وقال: «لقد فتشت بالأمس عدة بيوت كان زميلي الضعيف قد اصطنع مع أصحابها اللين، فوجدت في كل بيت غلالًا مخبوءة، فصادرت كل حبة وجدتها دون أن أدخل مع أصحابها في جدال عقيم، إن هؤلاء المزارعين القذرين الأوغاد يكذبون على السلطات السوفيتية، وسألقي عليهم درسًا لا ينسونه أبدًا! فقد ذهبت اليوم إلى لجنة المركز، وهم مقبلون بعد قليل وسترون ما يحدث يوم الثلاثاء.»
– «أي شيء سيحدث في ذلك اليوم؟»
– «ذلك شأني أنا.»
واستمر الدراس طوال يوم الأحد، ولم تكن بي حاجة إلى إقناع الفلاحين بأن يعملوا في ذلك اليوم، فقد كانوا جميعًا حتى أكثرهم تدينًا يدركون أن الوقت من ذهب، وعاد سريزها قبيل الغروب ومعه حقيبته وعدة أكياس وهدايا للأسرة كلها: كتاب للبنت، وخيط للأم، ودخان لاستيوبنكو الشيخ، ولكن الذي أدهشنا أكثر من ذلك كله في هذه الفرصة السعيدة أنه أخرج من حقيبته الكبيرة سروالًا طويلًا وسترة وملابس داخلية لفاسيا.
وسرعان ما ألبس الغلام ملابسه الجميلة، وأعجب به جميع الحاضرين، وأقبل اثنان من الجيران ليشهدا ذلك المنظر العجيب منظر فاسيا في ثيابه الجديدة الجميلة، وتبسم الولد نفسه لأول مرة مذ تقابلنا وقال: «شكرًا لك يا عمي سريزها.» واغرورقت عيناه بالدموع حين قدم إليه سريزها العظيم كراسة وأقلامًا من الرصاص وصندوقًا من الحلوى الجامدة الملونة.
ولم تأوِ الأسرة إلى فراشها إلا بعد منتصف الليل، ولما انفردت بتفتكوف في حجرتنا سألته كيف تسير الأمور بينه وبين أرشينوف؟
فأجاب من فوره: «إنه كلب لعين، يا فكتور أندريفتش، لقد ترددت طويلًا قبل أن أطلعك على حقيقة أمره، ولكني لا أستطيع السكوت بعد الآن، إن ذلك الوحش يخرج الفلاحين من بيوتهم في ظلام الليل، ويسبهم ويهددهم بمسدسه، وقد قيل لي: إنه يضربهم ضربًا وحشيًّا.»
– «ولِمَ لم تخبرني بذلك قبل الآن؟ ارتدِ ملابسك في الحال وهيا بنا نذهب إليه.»
وكان في وسعي أن أرى أضواءً في بناء السوفيت من خلال مصاريعه الخشبية، فلما دخلناه وجدنا الفلاحين متربعين على الأرض، وكان على الباب الخارجي حارس مسلح، وجلس في الداخل كونستبل من القرية وبيده مسدس وفي فمه لفافة يدخنها، ولما دخلت الدار سمعت صياح أحد الفلاحين وأرشينوف يسب وينهر خلف باب حجرته المغلق.
وسألت الكونستبل بصوت يجلجل من شدة الغضب: «ماذا يعمل هؤلاء كلهم هنا في هذه الساعة؟»
فوقف الرجل على قدميه مذعورًا وقال: «إن الرفيق أرشينوف ينتزع منهم الحبوب كعادته، ويتحدث قليلًا إلى الذين لا يريدون منهم أن ينضموا إلى المزرعة الجماعية.»
وعلا صوت أرشينوف فجأة واحتد حدة جنونية، وسقط جسم ثقيل على الأرض، وسمعنا الفلاح يئن ويقول: «لِمَ تضربني؟ إنك لا يحق لك أن تضربني …» ثم صاح أرشينوف: «يا كونستبل ألق بهذا الوغد في البرادة، وسألقي عليك درسًا لا تنساه أيها المالك الحقير.»
واندفع الكونستبل نحو الغرفة المجاورة، فأمسكت بذراعه وقلت له: «قف هنا، وسأذهب أنا نفسي.»
ودفعت الباب فانفتح، وفزع أرشينوف، وعضَّ شفتيه، وتحرك حركة عصبية في كرسيه، وأراد أن يرفع مسدسه عن المنضدة، وكان الفلاح الملقى على الأرض رجلًا هرمًا، في ثياب مهلهلة ووجهه ملطخ بالدماء، وأشرت إليه أن يخرج.
ثم سرت نحو أرشينوف وهممت أن أستخدم قبضتي معه.
وصحت به قائلًا: «دع الفلاحين يخرجون من هذا المكان! دعهم يخرجون من فورهم. أتسمع ما أقول؟»
– «أنا صاحب الأمر في هذا المكان يا رفيق كرافتشنكو، وأرجوك ألا تتدخل في عملي.»
– «لا، إن هذا من عمل الحزب، وأنا بوصفي شيوعيًّا لا أسمح لك أن تدنِّس سلطة السوفيت بهذه القسوة الوحشية.» والتفتُّ نحو الغرفة الخارجية وصحت: «يا رفيق تفتكوف، أرجوك أن تكتب اسم الشيخ الذي كان يُضْرَب توًّا واسم الكونستبل أيضًا.»
وتظاهر أرشينوف بالجرأة، ولكن غضبي أقلقه وبلبل أفكاره، فقال لي: «ويلك ماذا تريد أن تفعل؟ ما هذا الاستفزاز؟ أتريد أن تحقر مبعوثًا للجنة الإقليمية في أعين الجماهير؟»
– «دعك من هذا النفاق! إن أمثالك هم الذين يحقرون الحزب والبلاد بأجمعها، يا كونستبل، ليذهب كل هؤلاء الناس إلى بيوتهم، وأنتم أيها الرفاق الفلاحون، إذا ضُرِبَ واحد منكم بعد الآن، فليرفع أمره إليَّ، وأنا أعلنكم أن الضرب مخالف للقانون.»
ودخل تفتكوف المكتب وهو ممتقع الوجه كأنه شبح، ويداه ترتجفان، وأمرته أن يذهب إلى المنزل وينتظرني فيه، ثم التفتُّ إلى أرشينوف وقلت له: «اسمع يا أرشينوف، أتدري ماذا تفعل؟ أهذا تنظيم المزارع الجماعية أم هو السلب والنهب بالاستعانة بالمسدسات؟ إن من حقك بلا شك أن تطلب الحبوب، وأن تفتش البيوت إذا اضطررت إلى تفتيشها، ولكن ليس من حقك أن تلجأ إلى العنف، وأن تفعل فعل محاكم التفتيش في ظلام الليل، وإذا لم تشأ أن تعرض نفسك للمتاعب مع اللجنة الإقليمية فعليك أن تمتنع من فورك عن هذه الفعال، وإلا فسأكشف أمرك مهما كلفني هذا. أتفهم ما أقول؟»
وأدرت ظهري إليه، وغادرت المكان، ولم أجد سريزها في المنزل حين وصلته، فقلقت عليه، ولكنه جاء بعد نصف ساعة.
وقال لي: «لقد ذهبت إلى كوخ الفلاح الذي كان يُضْرَب، فوجدت فيه زوجة مريضة وخمسة أطفال، ولم أجد فيه كسرة من الخبز، بل رأيت البيت ينضح فقرًا ويأسًا، وهذا وأمثاله هم الذين نسميهم كبار الملاك! والأطفال لا تغطي أجسامهم إلا أسمال بالية، وهم كالأشباح، ورأيت قِدْر الطعام على الموقد، وليس فيها إلا قليل من البطاطس في الماء، وكان هذا عشاءهم في تلك الليلة.»
ثم أطلعني على ورقة قذرة وقال: «انظر إلى هذا يا فكتور، لقد عاهدني الرجل على أن ينضم إلى المزرعة الجماعية؛ ذلك أني رجوته أن يقلع عن عناده، وأن يشفق على أسرته، فرضي آخر الأمر.»
– «اذهب إلى فراشك يا سريزها ولا تشغل بالك بهذا الأمر، وسنفكر فيما يصح أن نفعله.» وعجلت بجواب ما ظننته أن سيسأل عنه، فقلت: «سأحدثك غدًا عما دار بيني وبين أرشينوف، وعليك أن تواصل العمل معه كأن لم يحدث بيني وبينه شيء، واسمح لي بعدئذٍ أن أشكر لك عطفك على فاسيا وشرائك حلة له.»
ثم قبَّلت وجنتَيه.
– «شكرًا لك يا فكتور، أما قصة هذه الحلة فهي أني لما عدت إلى المنزل قصصت القصة كلها على أسرتي، فخرج أبي وجاء من حيث لا أدري بالحذاءين من بعض أصدقائه، وذهبت أمي تنقب في علِّية البيت، وجاءت بحلة قديمة لي كنت ألبسها وأنا تلميذ في المدرسة، وظلت تعمل طول النهار لتجعلها ملائمة لمقاس فاسيا.»
فقلت له: «نعم، إن في الحزب خَلقًا كأبيك وخَلقًا كأرشينوف.»
كان العمل في المزرعة الجماعية يجري على أحسن حال، وفي وسعي أن أقول: إنه أحسن مما كنت أتوقع، فالهمة مبذولة في دراس الحبوب، والماشية والخيل يُعْتَنى بها، والأدوات الزراعية حسنة الترتيب.
وقررت اللجنة الإدارية للمزرعة — بناءً على اقتراحي — أن تدعو الفلاحين إلى عشاء احتفالًا بإتمام الدراس، واتُّفق على أن يقام الاحتفال يوم الأربعاء، ورضي جميع مَن في المزرعة أن يعملوا حتى مطلع الفجر؛ لكي يقام الاحتفال في الوقت المحدد. وذُبِحَت الخنازير ومُدَّت في فناء المزرعة موائد طويلة مرتجلة، وبعثت رائحة الطعام المطهي والحفلة ومستلزماتها في جميع سكان الضيعة شعورًا بأنهم في عيد.
وذهبت بعد ظُهر الأربعاء إلى الحقول حيث كانت النساء يقشرن الذرة ويعبئنها في العربات، وانضممت إليهن في العمل — وفي الغناء — بضع ساعات وأنا مغتبط بما أبذل من مجهود جثماني، غير أني لم أكن على ثقة بأن في وسعي أن أكبح جماح أرشينوف، وإن كنت قد وقفت منه موقفًا جريئًا. وكانت هذه المشكلة لا تنفك تحز في نفسي، غير أني كان في وسعي وأنا في الحقول أن أنساها، فقد كانت النساء يتكلفن السرور حين يبصرنني أتطوع لمشاركتهن في تقشير الذرة، وإن لم يكن هذا من عملي، ولكنهن كن في واقع الأمر يشعرن بشيء من العزة حين يرين «الحكومة» تنزل إلى مستواهن المتواضع.
وأذنت الشمس بالمغيب حين عدت راكبًا إلى القريبة ومعي بعض الرفاق، وما كدنا نصل إليها حتى أدركنا لساعتنا أن حدثًا ما يحدث فيها، فقد تجمعت في أنحائها جماعات مضطربة متهيجة، وكان النساء يبكين، فأسرعت إلى مبنى السوفيت.
وسألت الكونستبل: «أي شيء يحدث؟»
فأجابني بقوله: «حشد كبير من المزارعين، ويخيل إليَّ أن هذا العمل القذر لن يكون له آخر، لقد أقبل علينا في هذا الصباح رجال القسم السياسي وأعضاء لجنة المركز.»
ورأيت جمعًا كبيرًا في خارج البناء، ورجال الشرطة يحاولون أن يفرقوا الخلائق المحتشدة ولكنهم كانوا يعودون إلى أماكنهم، وكان بعضهم يلعنون، وبعض النساء والأطفال يبكون وينتحبون، فهؤلاء ينادون آباءهم، وأولئك يذكرن أسماء أزواجهن، وكان المنظر كله يرمض القلب ويحز في النفس.
ووقف أرشينوف في خارج دار السوفيت يتحدث إلى أحد موظفي القسم السياسي، وكلا الرجلين يضحك، ولعلهما كانا يتبادلان بعض الفكاهات، وقف في الفناء الخلفي نحو عشرين من الفلاحين كبارًا وصغارًا، وعلى ظهورهم بعض الأحمال في حراسة جنود من القسم السياسي يسددون نحوهم المسدسات ووقف سائر الفلاحين مكتئبين مستسلمين يائسين.
كانت هذه إذن هي عملية «تصفية طبقة كبار الملاك»، كما يقول الرجال الرسميون، أما الحقيقة فهي أن طائفة من الفلاحين السذج تُنْتَزع منها أرضها، وتبتز منها جميع ممتلكاتها، وتُنْقَل على الرغم منها إلى معسكرات خشبية لتعمل في قطع الأخشاب أو في أعمال الري، وكانت معظم الأسر في هذه المرة تُتْرَك في بلادها لسبب ما، وامتلأ الجو بالصياح والضجيج، ولما خرجت من مقر السوفيت رأيت اثنين من رجال الدرك يقودان فلاحًا متوسط السن، ولم يكن ثمة شك في أنه كان يُضْرَب، فقد كان في وجهه كدمات زرق وبيض، وكان ألمه باديًا في مشيته، وملابسه ممزقة دلالة على أنه كان يقاوم من يعتدون عليه.
وبينا أنا واقف هناك محزونًا خجلًا يملأ اليأس قلبي، إذ سمعت امرأة تصيح بصوت لم أسمع مثله على ظهر الأرض، والتفت الناس كلهم إلى ناحية الصوت، وأسرع إليها رجلان من رجال القسم السياسي، وكان شعر المرأة مهدَلًا على جسمها، وبيديها حزمة من السنابل مشتعلة ألقتها على سطح البيت المصنوع من الغاب والقش قبل أن يدركها أحد، فاشتعلت فيه النار على الفور.
وأخذت المرأة تصيح وهي في حالة شديدة من الذهول: «أيها الكفرة! أيها القتلة! لقد قضينا العمر نعمل في إنشاء بيتنا ولن تأخذوه منا بل ستلتهمه النيران.» وانقلب صياحها فجأة إلى ضحك جنوني.
واندفع الفلاحون إلى البيت المشتعل وشرعوا يُخْرِجون منه ما فيه من أثاث، وكان المنظر من أوله إلى آخره منظرًا رهيبًا أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، منظر النار والعويل، والمرأة التي ذهب عقلها، والفلاحين يُجَرُّون في الوحل ويُحْشَرون جميعًا لكي يبعدوا عن ديارهم، وكان أكثر ما فيه إيلامًا لنفسي منظر أرشينوف، وضابط من رجال القسم السياسي، وهما يطلان على هذا المنظر هادئين، كأنه منظر عادي مألوف، كأن الكوخ المحترق ألعاب نارية أُشْعِلَت ليلهوا بها ويستمتعا بمنظرها.
أما أنا فقد وقفت في وسط هذا المنظر مرتجفًا حائرًا لا أكاد أتملك حواسي، وسوَّلت لي نفسي أن أطلق الرصاص، أطلقه على إنسان أيًّا كان، ليزول بإطلاقه توتر أعصابي الذي لم يعد يطاق، ولم يستطر لُبِّي في وقت من الأوقات مثل ما استطار في تلك الساعة، ومددت يدي تحت سترتي أبحث عن مسدسي، فقبضت يد قوية في تلك اللحظة على ذراعي، وكانت هي يد مضيفي استيوبنكو، ولعله قد استشف أفكاري.
وقال: «يجب ألا تعذب نفسك يا فكتور أندريفتش، إنك إن أقدمت على عمل جنوني ستضر نفسك ولا تنفعنا، صدقني فأنا رجل كبير السن مجرب للأمور، وتملك عواطفك، واعلم أن الخير كل الخير في أن تتجنب المتاعب؛ لأنك لا سلطان لك على هذه الأحداث، هيا بنا نعود إلى المنزل، إنك ممتقع الوجه كالموتى، أما أنا فقد ألِفْتُ هذا المنظر، فلم يعد غريبًا عليَّ، فقد كانت حملات العام الماضي الكبيرة شرًّا من هذه الحملة.»
ولما عدت إلى المنزل أخذت أذرع حجرتي الصغيرة وأنا في أشد حالات الاضطراب واليأس، وكنت قد فكرت من قبل في أن أحتج للجنة الحزب في المركز على أعمال أرشينوف، ولكن ها هم أولاء ممثلو اللجنة ورجال القسم السياسي يشهدون هذه المأساة، ويشتركون في تلك الأعمال الوحشية، وأي أمل لي في أن أصيب خيرًا من اللجنة الإقليمية.
وكان الظن قد بدأ يساورني في أن هذه الجرائم الشنيعة لم تُرْتَكب عفو الساعة، بل دبرها ووافق عليها كبار ولاة الأمور، أما في هذه الليلة فقد استحال هذا الظن يقينًا، لم يترك في نفسي بارقة أمل في الإصلاح، وكان في مقدوري أن أتحمل من قبل ذلك العار، ما دمت أعتقد أن أرشينوف ومَن على شاكلته من الأفراد هم الملومون على هذه الأعمال.
وغلبني النعاس من فرط التعب دون أن أخلع ملابسي، ولما فتحت عيني بعد بضع ساعات راعني ألا أجد سريزها في فراشه، فانطلقت إلى الفناء ثم إلى الحديقة.
فسمعت صوت سريزها يقول: «من القادم؟» ولاح لي بريق مسدس، ثم أبصرته جالسًا على دكة تحت شجرة من كراز.
وما هي إلا قفزة واحدة حتى كنت إلى جانبه، واختطفت المسدس من يده، فغطى وجهه بيديه وأخذ ينتحب ويرتجف.
وقلت له: «إنك إنسان أبله خائر العزيمة، ولست ممن أفخر بصحبتهم، ومَن ذا الذي يفيد من انتحارك؟ إن هذا غباء وبلاهة، وليس ما تريد أن تفعله هو الذي ترد به على ما رأيت اليوم، بل يجب أن نظل أحياء ونبذل كل ما نستطيع لنخفف أعباء الشعب الروسي، أما إذا قتلنا أنفسنا فلن يبقى إلا أمثال أرشينوف.»
فهدأ روعه قليلًا وأخذ يحدِّق في عيني.
– «يا فكتور أندريفتش، لقد شاهدت بعيني كل شيء وفهمت كل شيء، وثق أن عقلي من الوجهة السياسية أكبر من سني قليلًا، ولن يفيدنا التعامي عن الحقائق أقل فائدة، إن الحزب نفسه مسئول عن جرائم العنف والقسوة والتقتيل، وليست الألفاظ الجميلة التي ينطق بها المسئولون إلا ستارًا لإخفاء الحقائق البشعة، أهذا هو الذي جاهد من أجله أبي الصالح طول حياته؟ أهذا هو الذي كنت أنا نفسي أعتقده منذ انضممت إلى الحزب؟»
وما زلت به حتى آوى إلى فراشه، ولكننا لم نغمض أجفاننا، بل أخذنا نتحدث عما رأينا، وكان ما رأيناه يتفق كل الاتفاق مع ما كنا نسمعه، فلم يخالجنا بعدئذٍ شك في صدق «الشائعات المعادية للحزب»، وكان سرورنا عظيمًا حين دق الشيخ صاحب البيت الباب وقال: «قد آن أن تصحوا أيها الرفيقان.»
وأُقِيمت حفلة العشاء في ذلك اليوم حسب النظام الموضوع، ولكنها خلت من السرور والبهجة، فقد كانت ذكرى جمع «كبار الملاك» تثقل صدورنا جميعًا.
وظلت علاقتي بأرشينوف علاقة رسمية محضة، وأعددت تقريرًا مطولًا مفصلًا عن مسلكه وأرسلته إلى اللجنة الإقليمية، وكان العدد القليل الباقي من المعاندين قد انضموا «باختيارهم» إلى المزرعة الجماعية بعد الاعتقالات الكثيرة التي وقعت في الأيام الماضية، وقدم الفلاحون كل ما لديهم من الحبوب «باختيارهم» أيضًا، ويظهر أن أولئك القوم قد فضَّلوا أن يموتوا في منازلهم جوعًا على النفي إلى أقاليم لا يعرفونها، وطلب كثيرون منهم أن يؤذن لهم ببيع ما بقي لديهم من الماشية وأثاث بيوتهم نفسه ليشتروا بأثمانها حبوبًا من المدن ليوفوا بها بمطالب الحكومة.
وحُوِّلت كنيسة القرية إلى هرء، فلما امتلأت بالحبوب، شعر أرشينوف بنشوة الظفر، وأخذ يفخر «بنجاحه»، ولم يدع فرصة تمر دون أن يوجه قوارص اللوم إلى تفتكوف، فكان يقول له: «انظر كيف أسيِّر الأمور وتعلم، إن عيبك هو أنك لا تعرف الحزم «البلشفي».»
واقترب يوم رحيلنا، وأبلغنا أرشينوف أنه سيبقى خمسة أيام أخرى يراجع فيها أعماله للمرة الأخيرة، ولم يخالجني شك في أنه لم يتأخر عنا إلا ليجمع «أدلة» على تهم يوجهها إليَّ وإلى تفتكوف، وقضيت اليوم الأخير في المزرعة الجماعية أعد النقط التي سأضمنها تقريري الأخير.
وقلت لأعضاء اللجنة: «والآن وقد تم جمع المحصول أظن أن في وسعكم أن تقدروا ما تطلبون من أجر على جهودكم.»
فقال الرئيس وهو يهز رأسه في حسرة: «نعم، لقد قدرنا ثم قدرنا، فإذا التقدير لا يزيد على ١٢٠٠م جرام (رطلين ونصف رطل) من الحبوب لكل مزارع منضم إلى المزرعة الجماعية عن كل يوم عمله فيها، وإذ كنا لم نعمل إلا جزءًا من العام فإن ما يعطاه الفلاح من أجر على هذا العمل هو الذي سيقتات منه هو وأسرته سنة كاملة، أما كيف يوزع هذا القدر حتى يحين موعد الحصاد الثاني فعلمه عند الله، وقد يكون عند الحزب أيضًا.»
وقال آخر في غضب مرير: «أظن أننا كلنا سنهلك جوعًا.» وأكبر الظن أن الرجل لم يكن يقصد بقوله هذا معناه الحرفي، وإلا فكيف استطاع أن يحزر أن أهل قرية بُدْجردنوى سيهلكون كلهم من الجوع في العام المقبل؟ وكيف استطاع أن يحزر أن ولاة الأمور سيأخذون من الفلاحين بعض الحبوب التي حصلوا عليها نظير عملهم في جمع المحصول؟
وافترقنا نحن والقرويون افتراق الأصدقاء، وأظهروا حبهم الخالص لي ولتفتكوف، وأسف مضيفنا وأسرته أشد الأسف على فراقنا، وأحضر استيوبنكو في أثناء العشاء الأخير زجاجة من خمر الكرز، جاء بها من فناء الدار الخلفي، وعليها آثار التراب ظاهرة.
وقال لي: «لقد كنت أدَّخر هذه الزجاجة ليوم عيد هام، وقلت لنفسي: إن الناس سيشربون منها يوم أزوج ابنتي أو بعد أن أموت ثم يترحمون عليَّ، ولكني رأيت أن سفركم خليق بأن يقدم لكم فيه أحسن ما عندي، فلنشرب إذن نخب صحتكم، وندعو الله أن ينجي بلادنا البائسة المعذبة.»
وأخذنا بعد العشاء نغني أغنيات أوكرانية قديمة، وحلَّ الشراب القوي عقدة لسان زوجة استيوبنكو فأخذت تقص علينا أقاصيص فيها حنين لوطنها عن خيول خرافية، وتقصها بنفس الألفاظ التي سمعتها من جدتها.
ولما عدت إلى دنيبروبترفسك بدا لي أن اللجنة الإقليمية راضية عن عملي، ولكنني لم أستطع أن أثير اهتمام أي إنسان بتقريري عن أرشينوف، فقد كانوا يقولون لي: إنهم يعلمون أن فيه عيوبًا، ومَنْ مِنَ الناس لا عيب فيه؟ ولكن أحدًا لا ينكر عليه أنه يحصل من عمله على نتائج طيبة! وأرسلت رسالة إلى جريدة برفدا في موسكو عن حادث وحشي يسوِّئ سمعة الحزب في القرى، ولكن الرسالة لم تُنْشَر ولم أتلقَّ عنها ردًّا.
وكان من نتائج ما قضيته في القرية من وقت طويل أن تأخرت في دراستي، وأردت أن أعوض ما فاتني، فبذلت في هذه الدراسة غاية جهدي، وكلما شغلت نفسي بكتبي الفنية قل ما لديَّ من الوقت الذي أقضيه في أفكاري المؤلمة وشكوكي، حتى أصبح العمل لديَّ مخدرًا أتجرع منه جرعات كبيرة.
في الحرب لا يستوي المجاهدون في ميدان القتال والقاعدون في بيوتهم، بل إن بين الطائفتين بونًا شاسعًا لا يمكن إزالته بزيادة المعلومات عنها أو بشدة العطف على من يكتوون بنارها؛ لأن هذا الفرق مستقر في الأعصاب لا في العقول.
ومن أجل ذلك أصبح الشيوعيون الذين تورطوا بأنفسهم في فظائع النظام الجماعي رجالًا يُعْرَفون بسيماهم، فقد تحملنا نحن الأعباء الثقال وقاسينا الأهوال، وامتزنا من غيرنا بصمتنا وبتجنبنا كل مناقشة عن «جبهة الفلاحين»، نعم إننا كنا نتحدث عن هذا إذا خلا بعضنا إلى بعض، كما فعلت أنا وسريزها بعد عودتنا من رحلتنا، ولكننا كان يبدو لنا أن حديثنا لمن لم يكابدوا الأمر بأنفسهم لا يُجْدِي نفعًا؛ ذلك أننا لم يكن بيننا وبين هؤلاء الأحداث ألفاظ مشتركة مشتقة من تجاربنا الماضية نتفاهم بها فيما بيننا.
ولست أشير بطبيعة الحال إلى أرشينوف ومَن على شاكلته، فهؤلاء هم الجلادون ورجال الشرطة في ظل كل نظام سياسي، ولكني أشير إلى الشيوعيين الذين لم يفقدهم استهتارهم بما يحدث من حولهم كل حواسهم، ومهما حاولنا إقناع أنفسنا بأن ما يُرْتَكب في هذه الأيام من فظائع هو الثمن الذي نشتري به سعادة آلاف من الناس في الغد، فإننا لم نجد لهذا القول معنى، وتعذَّر علينا أن نجد ما يبرر الإرهاب السائد في الأقاليم الزراعية.
ولما اجتمعت لجنة الحزب المركزية في شهر يناير من عام ١٩٣٣م نشر ستالين في طول البلاد وعرضها أن نظام المزارع الجماعية تم بنجاح، وأن «هذا العهد قد قضى على التسول والفقر في القرى، وأن عشرات الملايين من الفلاحين الفقراء ارتفعوا إلى درجة كبيرة من الطمأنينة … لقد كان الفلاحون في العهد القديم يعملون لخير النبلاء وكبار الزراع والمضاربين وكانوا يعملون ويجوعون ليثرى غيرهم، أما في عهد الزراعة الجماعية فإن الفلاحين يعملون لأنفسهم ولمزارعهم الجماعية.»
وجاء في وصف الصحف لهذا الاجتماع أن المكان دوَّت فيه عاصفة من التصفيق، وصاح المندوبون: «ليحيى الأب والمعلم الحكيم الرفيق ستالين!»
وقرأت هذا الوصف فجال بخاطري منظر بدجردنوى وأهلها المعذبين، وأرشينوف يضرب الفلاحين، والمرأة المخبولة تشعل النار في بيتها، والخلائق ذوي الثياب الممزقة يُحْشَرون في الأفنية الخلفية ليُنْفَوا من بلادهم. وكنت أدرك كما يدرك كل مَنْ في أوكرانيا أن قحطًا لا يقل فظاعة عن القحط الذي قاسيته منذ عشر سنين أو أكثر كان في هذا الوقت الذي يخطب فيه ستالين يجتاح أرض «المزارع الجماعية الكاملة» و«الحياة السعيدة الراضية».
كلا! إن ألفاظ ستالين لم تكن لتهدئ نفوسنا الثائرة، ولم يكن ثمة شيء يعيد إلينا إيماننا، أو على الأقل يحول بيننا وبين القنوط إلا أن نحول أبصارنا عن القرية، ونفكر في غيرها من أجزاء الصورة التي صورها لنا الزعيم، إلى الجهود الصناعية مثلًا أو إلى «مراجل الثورة التي تغلي في البلاد الرأسمالية».
وقال لي سريزها: «إنك لتعلم يا رفيق فكتور أندريفتش أني قرأت مرارًا كثيرة خطب ستالين في الاجتماعات العامة للجنة المركزية التي تُعْقَد في شهر يناير من كل عام، وإن ما يقوله عن القرى ليقشعر منه بدني: الآن تتمتع القرى «بحريتها» … وقد مُحِيَ الفقر من القرى. وهو يقول هذا بعد الذي رأيناه فيها أنا وأنت رأي العين!»
– «لكن انظر إلى الجهود الصناعية يا سريزها؛ ترَ لها قصة أخرى، فكم من مناجم فُتِحَت، ومصانع ومصاهر وسدود ومحطات كهربائية شُيِّدَت! إن الإنسان ليُسَر حين يشعر بأننا نخطو إلى الأمام بخطى سريعة جبارة، وأنَّا لن نصبح بعد اليوم أمة استعمارية متأخرة، إن المهندسين الأكفاء في أمريكا نفسها يبيعون التفاح وأربطة الأحذية في شوارع المدن، أما هنا فإني أنا وأنت نَجِدُّ في الدرس؛ لأن بلادنا في حاجة إلى أكثر مما عندها من المهندسين، فهناك التعطل، وهنا نقص في الأيدي العاملة.»
– «فليكن هذا ما يكون يا فكتور أندريفتش، ولكني لن أنسى قط فظائع بدجردنوي …»
– «وأنا أيضًا لن أنساها يا سريزها.»
وأخذ خطباء الحزب يذيعون خطبة ستالين في خلايا الحزب وفي مجتمعات المراكز، وكانوا يقولون: إن الثمن الذي تؤديه البلاد ثمن غالٍ بلا شك، ولكن انظروا إلى المشروعات الجديدة وإلى السرعة التي تنمو بها، انظروا إلى مجنى تستروي ودنيبروستروي، ومصنع ستالين للجرارات، وإلى المصاهر المتحدة، وإلى عشرات المصانع الأخرى، وبينا نرى العالم الخارجي الرأسمالي لا ينجو من أزمة إلا ليتورط في أزمة نرى العالم السوفيتي يسير إلى الأمام بخطى ثابتة، وإن حلَّت به أزمات فهي أزمات نمو لا أزمات انحلال.
وكانت التعزية الكبرى التي تعزي بها الروسيا نفسها عن جهودها المضنية هي أنها سوف تحطم الرأسمالية، وتقضي على ما تستمتع به من «ثبات قصير الأجل». لقد كانت الدولة توزع ما لدينا من أطعمة مطردة النقص بالبطاقات، أما في القرى فقد عم القحط وغصت السجون والمعازل ومعسكرات الاعتقال «بأعداء الشعب»، وكان لا بد من تطهير البلاد من آلاف من رجال الفكر — من مهندسين وموظفين بل وشيوعيين مشهورين — لأنهم يعطلون الإنتاج، ولأنهم «عمال للحكومات الأجنبية»، ولكن الطبقة العاملة في جميع الدول توشك أن تثور! كما قال ستالين، و«نجاح مشروع السنوات الخمس يحشد كل القوى الثائرة لطبقات العمال في جميع بلاد العالم».
ولم يمضِ على خطبة ستالين إلا ثلاثة عشر يومًا بالضبط حتى قبض هتلر على زمام السلطة في ألمانيا! وانفجرت في وجوهنا تلك الفقاعة التي كانت سلوتنا الوحيدة.
لقد ظلت الدعاوة الروسية عدة سنين تعلن على رءوس الملأ أن ألمانيا هي أولى الدول الرأسمالية التي ستحذو حذو روسيا السوفيتية، وكان هذا الحلم هو القوة المعنوية التي تتراءى لأعضاء الحزب ليلًا ونهارًا، لتشد من عزائمهم وتحيي آمالهم.
وكان يقال لهؤلاء الأعضاء: إن الاشتراكيين الديمقراطيين «صنائع طبقة الملاك» قد أفلسوا، على حين أن الحزب الشيوعي ينال ملايين الأصوات في الانتخاب.
فلا عجب والحالة هذه إذا روعتنا تلك الأنباء وصعقنا عند سماعها، وقضينا جميعًا عدة أيام عاجزين عن التفكير، ثم شمَّرت الدعاوة عن ساعد الجد، فلم تكد الدوائر العليا في موسكو تستقر على تفسير رسمي لهذا الحادث الجلل حتى أخذت تدفعه دفعًا في عقول جمهرة أعضاء الحزب، فقام كبار الموظفين يخطبون في المجتمعات الإقليمية، وصغارهم ينشرون الرسالة في مجتمعات الأقاليم، والدعاة المتنقلون يحملونها إلى خلايا الحزب الصغيرة.
وخلاصة ما كان يقال لنا أن ما نالته الفاشية من انتصار في ألمانيا ليس في حقيقة أمره إلا نصرًا مقنعًا للثورة العالمية، فهو آخر جهد تبذله الرأسمالية، وآخر أنفاسها تلفظها قبل موتها، لقد انقضى عهد البرلمانات المهرجة في الديمقراطيات الزائفة، ولم يعد في وسعها أن تصعِّر للناس خدها، وليس في مقدور الرأسماليين أن يسيطروا على الجماهير الغاضبة ولو استعانوا عليها بالأتباع الأذلاء من الاشتراكيين الأحرار، ورأوا ألا بد لهم من أن يستعينوا على هذه الجماهير بالإرهاب السافر وأن يتخذوا الفاشية أداة لهم في هذا الإرهاب.
وقال لنا خطيب في المعهد: «إن الفاشية الألمانية هي رأس الحربة تسددها الرأسمالية العالمية إلى الصدور، لقد أسفرت الرأسمالية آخر الأمر عن وجهها، ولم يبقَ أمام عمال العالم في هذه الأيام إلا أن يختاروا بين الفاشية والشيوعية، وهل ثمة إنسان يشك فيما سيختارون؟ والاتحاد السوفيتي وحده هو الذي يقف في وجه الفاشية، تؤيده في ذلك الكتلة العاملة في جميع بلاد العالم، أيها الرفاق إن موسوليني في إيطاليا، وهتلر في ألمانيا ليسا إلا نذيرين من نذر ثورتنا العالمية، وهم بعد أن أماطوا اللثام عن حقيقة الرأسمالية الفاشية سيدفعون الجماهير دفعًا لأن تدرك الأمور على حقيقتها، وما أصدق القول المأثور: اشتدي أزمة تنفرجي.»
وهكذا أصبحت هزيمة الروسيا في ألمانيا نصرًا لمشروع السنوات الخمس، وكنا فإذا خلا بعضنا إلى بعض، أو اجتمعنا في حجراتنا، كنا أبعد الناس عن تصديق هذه الأقوال، فقد كانت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية وأحزاب الأحرار ونقابات العمال الرجعية نفسها، كانت هذه كلها هي والأحزاب الشيوعية تحل وتصفَّى في ألمانيا، ألم يكن في أقوال الزعماء السوفيت خطأ وتناقض بيِّن؟ وهل كانت الضرورة تقتضينا أن نبدد قوانا كلها في محاربة الاشتراكيين والديمقراطيين، وقد كان في وسعنا إذا ضممناهم إلى جانبنا أن نصد تيار النازية؟ وهل كان حتمًا مقضيًّا أن تنضم البلاد الرأسمالية وبخاصة إنجلترا إلى ألمانيا الهتلرية ضد روسيا السوفيتية في الحرب المُقبلة؟
الحق أنه لم يكن في مقدورنا أن نجيب عن هذه الأسئلة إلا بالرجوع إلى المعلومات الضئيلة التي كانت تبيحها لنا الحكومة، فقد كانت الصحف والمجلات الأجنبية ممنوعة عنا. نعم إن رجال الحزب كان يباح لهم أن يطلعوا على ما لا يطلع عليه جمهور الشعب، وذلك من نشرات خاصة يصدرها هو، ولكن غذاءنا العقلي كان مع ذلك يُخْتَار ويُنَسَّق، ولم يكن أحد يشك في أن الأخبار السرية نفسها التي تذاع من المصادر العليا كانت في الأعم الأغلب تُصْنَع وتنظم تنظيمًا دقيقًا ثم تجري علينا كما يجري الطعام على الجنود.
غير أن التفسير الرسمي لهذه الضربة الهتلرية لم يرُقْ في أعين معظم الشيوعيين، بل كان الأثر الذي تركته في صفوف المؤمنين، وقد جاءت في أحرج ساعات الحياة السوفيتية، كان هذا الأثر هو ازدياد روح الكآبة التي أخذت تنتشر انتشارًا سريعًا في صفوف الشيوعيين الصادقين، وشرعت صحف الحزب تندد بروح التردد والهزيمة، وتدعو إلى استئصال شأفتها، وكانت الأسس توضع لإجراء تطهير عظيم في الحزب يخرج من صفوفه كل المتشككين المتحذلقين الذين أتخمت حياتهم بتعذيب الناس وسفك دمائهم، حتى لم يعودوا يطيقون منها مزيدًا.