حصاد في جحيم
لم تكن أحداث العالم أو حوادث الوطن عند الشيوعيين العاملين أمورًا موضوعية مما لا يتصل بمجرى حياتهم اتصالًا مباشرًا، بل أوشك الحد الفاصل بين ما هو خاص وما هو عام من شئون الحياة أن يُمْحَى في بلادنا، وتدخلت الحياة اليومية في التطورات السياسية تدخلًا جعل منهما وحدة، فالنصر يحرزه هتلر، والأرقام الدالة على المزارع الجماعية وافتتاحية «برافدا» في عددها الأخير، كل هذه كانت عناصر من قصة حياتي.
وإن الرجل من خارج روسيا ليتعذَّر عليه أن يصدق روايتي إذا ما رويت له الحقيقة الواقعة، وهي أن أمثال هذه الوقائع السياسية أعمق أثرًا وأشد وضوحًا في ذكرياتي عن ذلك العهد، من زواجي من «زينا» الذي لم يَدُمْ إلا أمدًا قصيرًا.
التقيت ﺑ «زينا» قبل رحلتي إلى الريف بشهرين، وقد كان جمالها هادئًا رقيقًا كالزهر، فلم يكن بها ما ﺑ «جوليا» من عاطفة وشهوة، وهما الصفتان اللتان جذبتاني إلى هذه الأخيرة، كانت «زينا» رقيقة نحيلة ناعمة الصوت مرهفة المشاعر، لكن جسمها هذا الرقيق كان يغلف لُبًّا صليبًا من أَثَرَة؛ فبينا كانت الكثرة الغالبة من فتياتنا السوفيت منبسطات النفوس، إذ كن بسيطات قويات، كما كان لهن وعي اجتماعي — على حد التعبير الذي جرى به العرف الاصطلاحي بيننا في الحزب — كانت «زينا» تنطوي على نفسها.
لم يكن لشيء وجود في رأي «زينا» إلا ما ارتبط بعواطفها الخاصة أو اتصل بهواها، ولقد أنذرني أصدقائي بأنها مترفعة بطبعها، والحق أن فتنتي بها كانت منذ البداية يشوبها شيء من وخز الخطيئة، فما عتمت — حتى قبل تسجيل زواجنا — أن أظهرت عدم ارتياحها لما كان يقتضيه مني الحزب من أعمال كثيرة، وكأنما لسان حالها يقول محتجًّا: «وأنا؟ أين منك نصيبي؟ لا أظنك مستطيعًا أن تفرغ لي من وقتك شيئًا.» ولئن أنطقتها بالشكاة شواغلي، فلم تكن أقل شكاة من قلة مالي ومن اضطرارنا أن نعيش مع أسرتي، وأحس أهلها بخيبة الرجاء في زواجها، ولم يجعلوا من شعورهم هذا سرًّا مكنونًا.
فلما أُمِرْتُ بالسفر إلى منطقة من مناطق المزارع الجماعية، شعر كلانا كأنما انزاح عن صدره كابوس جاثم، إذ جاءت غيبتي تلك قطيعة صادفت من نفسينا ارتياحًا، وقد كانت مدة انفصالنا — ولو أنها لم تزد على قليل من أسابيع — كفيلة أن تفصم عرى الزوجية بيننا، حتى إذا ما عدت من الريف مهدود القلب مشتت الفكر، لم تأبه «زينا» لروايتي لها عن رحلتي، فوقع مني ذلك موقع الإيذاء، ولم ألاحظ بادئ ذي بدء أنها تأنقت في لباسها؛ فثوب من حرير، بل وأحجار كريمة.
وكان الطلاق عندئذٍ أمرًا بسيطًا يأتي من جانب واحد، فما عليك إلا أن تسجل ختام زواجك، فتُعلَن زوجتك بطلاقها ببطاقة ترسل إليها بالبريد، ولقد علمت — بعد أن حللت عرى زواجي ﺑ «زينا» — أنها كوَّنت لنفسها «أصدقاء جددًا تحلو لها معهم الصلات»، وكأنما هدتها فطرتها الأَثَرة سواء السبيل، إذ كان بين هؤلاء الأصدقاء رجل ذو مركز ممتاز، تربطه الروابط بالطبقة العليا من أصحاب القوة والنفوذ، فكان في مقدوره أن يشبع لها ميولها المترفعة، فلم يكد زواجنا تنفصم عراه حتى تزوجت منه.
هكذا تبيَّن أن ما كان ﻟ «زينا» من جمال الزهر الرقيق، إنما هو ترف فضفاض بالنسبة إلى طالب مفلس، بل هو أوغل في الترف بالنسبة إلى شيوعي جاد في عقيدته، ولبثت أعوامًا بعد ذلك أصادفها في المسرح وحفلات الموسيقى، فما رأيتها قط إلا أنيقة الثياب، مترفعة عن غمار الناس، محشورة في زمرة اللامعين من أبناء مجتمعنا الجديد، وكنت لا أكاد أحتمل مجرد الذكرى بأني قد كنت يومًا لها بعلًا.
كان الموت أول ما حصدناه من مزارعنا الجماعية، وشاع بين الناس ما أصيبت به روسيا الجنوبية وآسيا الوسطى من مجاعة فاتكة، على الرغم من أن الصحف السيارة لم تذكر كلمة واحدة عن هذه المأساة، بل كان الناس يستنكرون هذا النبأ على أنه «دعاية ضد السوفيت»، مع أنهم كانوا على يقين أنه الحقيقة الصارخة.
وعلى الرغم مما اتخذته الشرطة من تدبير عنيف لكي تحصر صرعى المجاعة في ديارهم، فقد اجتاحت جموع من عمال المزارع مدينة «دنيبربتروفسك» وهم يتضورون جوعًا، واستلقى على الأرض منهم كثيرون حول محطات السكة الحديدية لا يملكون حراكًا، خارت قواهم حتى عن سؤال الإحسان، وأوشك أطفالهم أن يكونوا هياكل انبعجت منها معدات منتفخة، لقد كانت العادة فيما مضى أن يرسل الأهل والأصدقاء من الريف رسائل الطعام إلى ذويهم في الحواضر، أما الآن فقد انعكس الوضع، وعلى كل حال فقد كان نصيبنا من الطعام من القلة والاضطراب بحيث لم يستطع أن يستغني عن شيء من زاده إلا قلة يسيرة.
ولما كانت هذه المجاعة قد وقعت في نفس الوقت الذي بلغنا فيه ختامًا ظافرًا لأول مشروع وُضِعَ ليتم في أربعة أعوام، فقد طفقت الصحف فيما يشبه الهَوَس، تعلن في ازدهاء «جليل أعمالنا»، لكن هذه الدعاوة التي تصم الآذان بصياحها، لم تستطع أن تطمس في عجيجها أنَّات الذين كانوا يكابدون الموت، وقد رنَّت هذه الصيحة «بالحياة السعيدة» الجديدة في أسماع فريق منَّا رنين الصراخ تبعثه الشياطين، ويروع النفوس أكثر مما تروعها المجاعة نفسها.
وكان الأمر كله مرهونًا بالحصاد الجديد، أفيكون لهؤلاء الزُّرَّاع المتهافتين جوعًا، أفيكون لهم من القوة والعزيمة ما يحصدون به وما يدرسون، والموت ضارب حولهم بجرانه؟ لكي يضمن أولو الأمر جمع الحصاد، ويحولوا بين الفلاحين أعضاء المزارع الجماعية وبين أن يدفعهم القنوط إلى التهام الزرع وهو بعد أنجمٌ خضراء، ويصونوا نظام المزارع الجماعية من أن يتداعى بنيانه إذا ما دبَّ دبيب الفوضى، ويقاتلوا أعداءه. لكي يحققوا ذلك كله؛ أنشئوا في القرى أقسامًا سياسية يديرها رجال من الشيوعيين الأكفاء، فمنهم رجال الجيش والموظفون وأصحاب المهن ورجال القسم السياسي والطلاب، وهكذا جنَّدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جيشًا يُربى على مائة ألف من الصناديد، جنَّدتهم في ربوع هذه المزارع الجماعية، ليكون واجبهم صيانة الحصاد الجديد، وقد كنت أحد هؤلاء المجندين، اجتمع منَّا عند مقر اللجنة الإقليمية ثلاثمائة جيء بهم من هيئات مختلفة من المدينة، وألقى فينا الخطاب الرئيسي أمين سر اللجنة، وهو من طليعة الشيوعيين في أوكرانيا، وأعني به الزميل هاتايفش، ولم يخفِ في خطابه ما عسانا ملاقوه في القرى من صعاب، وكان يعيد في خطابه مرة بعد مرة ذكر «التطهير» الذي وضع الحزب خطته بحيث يتم في زمن معين من ذلك العام، فكان تلميحه هذا أوضح من أن يخطئه سمع سامع، فبقاؤنا السياسي مرهون بما يصيبه في مناطق المجاعة من فشل أو نجاح.
أعلن فينا محذرًا: «إن ما تعملونه في القرى هو برهان ولائكم للحزب وللرفيق ستالين، وهو مقياس ما تضمرونه من ذلك الولاء، ليس أمامنا للتخاذل من سبيل، كلا، ولا في هذا الميدان موضع لمتهافت، فلا مندوحة لكم عن معدات قوية وعزيمة من حديد، ولن يقبل الحزب عذرًا إذا ما فشل في المهمة فاشل.»
بهذه السلطة التي سلَّمتني بها اللجنة المركزية، أخذت سمتي نحو إقليم «بياتيخاتسكي» يرافقني «يوري» وهو زميل في الدراسة وصديق، فوجدنا أولي الأمر في ذلك الإقليم قد نفد صبرهم لما خاضوه من عقبات، وأخذنا نستفسر عن المحصول الجديد، فلم يجيبوا إلا بنبأ المجاعة التي تفتك بالناس جماعات جماعات، وبنبأ التيفوس وقد تفشى، وبأخبار الناس يقتاتون على لحوم البشر.
وكانوا إذا ما استنهضتهم يوافقونك قائلين: نعم لا بد من إعداد أنفسنا لحصد الغلة الجديدة ودرسها، أما كيف يبدءُون فقد كان ذلك فيما يظهر فوق عزائمهم التي كأنما أصابها شلل، وغصت مكاتب الشرطة كما غصت السجون بالمزارعين سيقوا إليها من القرى المجاورة، متهمين بجمع غلال لم يأذن لهم الحاكمون بجمعها، وكانت تهمتهم الرسمية في ذلك هي «التخريب» و«سرقة أموال الدولة».
بلغنا قرية كبيرة — بتروفو — عندما دنت ساعة الغروب، فوجدنا صمتًا كصمت القبور قد ساد المكان، وكان معنا فلاح يهدينا الطريق إلى القسم السياسي، فقال: «لقد أكل الناس الكلاب جميعًا، وهذا هو السر فيما ترون من سكون.» ثم أضاف إلى ذلك قائلًا: «إن الناس لا يطيلون المسير، فليست لديهم قوة تعين على ذلك.» وقابلنا رئيس القسم السياسي، ومِن ثَم بعث بنا إلى كوخ لفلاح حيث نقضي المساء.
لم يكن يضيء الدار إلا سراج ضئيل، وكانت صاحبة الدار فلاحة شابة، خُيِّلَ إليَّ أن قسماتها التي شفَّها الجوع، قد غاض منها كل الشعور، فلم يبقَ لها منه شيء حتى شعور الحزن والخوف، كانت قسماتها بمثابة قناع من الحياة يخفي وراءه الموت، وعلى مخدع ضيق في ركن من أركان الدار، رقد طفلان رقادًا ساكنًا كأنما فارقتهما الحياة، فلم يكن فيهما من علائم الحياة إلا عيون تنظر، فكنت إذا ما التقت تلك العيون بعيني، أهتز من ألم.
قال «يوري»: «يؤسفنا أن نقحم أنفسنا عليك إقحامًا، لكننا لن نسبب لكِ عناءً، وسنغادر الدار مع الصباح.» قال هذا بصوت متكلف خفيض كأنما كان يتحدث في غرفة مريض أو بين القبور.
قالت الشابة: «لقد حللتم أهلًا، وإنما يؤسفني ألا أملك ما أقدمه إليكم، فلم تشهد دارنا لقمة من خبز طيلة أسابيع طوال، لديَّ قليل من بطاطس، لكني لا أجيز لنفسي أن نمضي في أكلها فنأتي عليها في وقت أقصر مما ينبغي.» ثم قالت وهي تبكي في صوت خافت: «ألهذه الغمة نهاية تنقشع بعدها، أم أنه لا منجاة لي ولصغاري من الموت كسائر الناس؟»
فسألتها: «وأين زوجك؟»
– «لست أدري، أمسكوه! ولعلهم أبعدوه، كما أبعدوا أبي وأخي، لست أشك في أنهم قد خلَّفونا ها هنا لنلاقي حتفنا جوعًا.»
عندئذٍ قال «يوري» إنه يريد التدخين، وغادر الدار من فوره، وإني لعلى يقين أنه إنما خشي أن تخذله قواه فينفجر باكيًا أمام هذه الفتاة.
وقلت لها: «أي عزيزتي، لا تستسلمي لليأس، أنا عليم بصعوبة الأمر، لكنك إذا أحببت أطفالك كان لزامًا ألا تيأسي من الجهاد، أحضري أطفالك إلى المائدة، فإن معي وصديقي شيئًا من الطعام جئنا به من المدينة، وستشاركوننا — أنتم جميعًا — طعام العشاء.»
عاد «يوري» ووضعنا على المائدة كل ما كان لدينا من زاد، وأكلنا — أنا و«يوري» — قدرًا ضئيلًا؛ لنبقي للآخرين أكثر ما نستطيع، ونظر الأطفال إلى لحم الخنزير والسمك المقدَّد والسكر والشاي بعيون فازعة، وطفقوا يلتهمون الطعام التهامًا شرهًا سريعًا، كأنما أوجسوا خيفة أن يختفي عن أبصارهم بغتة كما هبط عليهم بغتة، وبعدئذٍ أرقدت الأم صغارها، ثم أخذت في الحديث.
قالت: «لن أحدثكم عن الموتى، فأنتم بذلك عالمون لا ريب، لكني سأحدثكم عن أنصاف الموتى وأشباههم، فهم أبعث على الأسى؛ ففي «بتروفو» مئات يتضورون من جوع، وليت شعري كم من هؤلاء يلاقون حتوفهم كل يوم، وكثير من الناس قد هدَّهم الهزال بحيث لم يعودوا يغادرون ديارهم، فتمر علينا عربة آنًا بعد آن لتجمع أجساد الموتى، ولقد أكلنا كل ما استطاعت أن تصل إليه الأيدي، أكلنا الهررة والكلاب والجرذان والطير، وسترون إذا ما أصبح الصباح أن الأشجار قد عريت عن قشورها، فقد أكلنا كذلك هاتيك القشور، بل أكلنا كذلك روث البغال.»
وقع مني هذا الكلام — فيما أرجح — موقعًا أظهرني في هيئة الفَزِع المرتاب.
«نعم، أكلنا روث البغال، بل إنا لنعترك عليه؛ لأن فيه أحيانًا حبوبًا كاملة من غلال.»
كانت هذه أول مرة يزور الريف صديقي «يوري»؛ فخشيت أن يشتد اضطرابه لوقع هذه المفازع في نفسه لأول مرة، فطلبت إلى المرأة أن تمسك عن روايتها، وأصرت أن نأوي جميعًا إلى مخادعنا لننام، لكني و«يوري» لم ننم إلا غرارًا، وسرنا أن أصبح الصباح.
فلما أن بلغنا «القسم السياسي» بعد شروق الشمس بوقت قصير، لم نجد هناك سوى الخبير الزراعي لمزرعة الدولة، وتبين أنه صديق قديم؛ لأنه كان طالبًا في مدرسة الزراعة ﺑ «آراستوفكا» فضمني ضم الصديق لصديقه، وسألته عن زميله «ياشا جرموف» الذي كان قد زاملني في العمل في المصنع لبضع سنوات خلون.
– «سيأتي بعد قليل، أأنتما مقيمان في «بتروفو» أم أنتما في الطريق إلى مكان آخر؟»
فأجبته قائلًا: «سنواصل السفر إلى بلد ليس ببعيد، إنما نزلنا ها هنا لنقضي المساء ولنعرف الناس، وإني لأرجوك رجاءً لعلك متفضل به عليَّ، أي زميلي «باشماكوف» فهل لك أن تستغني لي عن شيء من زادك؟»
– «هل تريده لنفسك؟»
– «ليكن ذلك، وعلى أية حال سأدفع لك ثمنه.»
– «تدفع لي! كأنما المال هو موضع الإشكال، اصحبني إلى الدار، وإنها لعلى مقربة من هذا المكان، لعلي مستطيع أن أستغني لك عن قليل.»
ولما كنا في طريقنا إلى داره، قال: «إني لعلى يقين أنك تريد الطعام لبعض هؤلاء الفقراء المناكيد، ولست على ذلك بلائم، لكن — أي زميلي «كرافتشنكو» — لن يُرْجَى منك نفع لو أحللت الرأفة مكان السياط، إنه لا مندوحة لك عن تدريب نفسك على أن تطعم أنت حتى لو رأيت الجوع قد أشفى سواك على الهلاك، وإلا لما وجدت من الناس من يجمع لك الحصاد، فنصحي إليك كلما رأيت مشاعرك قد غلبت على حزمك، أن تقول لنفسك: «إن الوسيلة التي لا وسيلة سواها للقضاء على هذه المجاعة، هي أن نضمن المحصول الجديد.» ولا تحسبن أني قد هيَّأت نفسي لمثل هذا بغير عناء، فلست بالحيوان الذي يخلو من حنان.»
ومع ذلك فقد أعطاني قطعة من لحم الخنزير وزجاجة من زيت، وشيئًا من الدقيق وكيسًا صغيرًا من رقائق الخبز، فشكرته وحملت هذا كله إلى الدار التي كنا قضينا فيها المساء، فكأنما نزلت بالمرأة صاعقة أمسكت لسانها أن يتحرك بالشكر، وفررت من عرفانها لجميلي كأنما كان اعترافها بالفضل تقريعًا أليمًا.
وسرت يصحبني «يوري» خلال القرية، فأحسسنا من جديد بضائقة تلم بصدرينا لما ساد المكان من سكون غير مألوف، وسرعان ما انتهى بنا السير إلى مكان مكشوف لا بد أنْ قد كان فيما مضى ساحة السوق، وفجأة أمسك «يوري» بذراعي وضغط حتى آلم، ذلك أن وقعت عيناه على جثث طرحى على أرض المكان، جثث لرجال ونساء وأطفال، سُتِرَتْ بغطاء رقيق من قش قذر، وقد عددتها سبع عشرة جثة، وبينا نحن واقفان نرسل البصر إذ جاءت عربة وأخذ رجلان يقذفان على سطحها بأجساد الموتى كأنما هي جذوع من حطب.
ذهب «يوري» إلى مزرعة الدولة ليهيئ للنقل أسبابه، وعدت أنا إلى «القسم السياسي»؛ لأتحدث مع «جروموف» فسُرَّ لرؤيتي سرورًا كانت له في نفسه نشوة، فالزائر كائنًا من كان يأتيهم من خارج حدود هذه المجاعة، يحل عندهم أهلًا لأنه تذكرة لهم بأن الدنيا لم يزل بها أصقاع تجري فيها الحياة على نحوها المألوف، وأخذني إلى مزرعة الدولة، وهي نموذج لمشروع تملكه الدولة وتشرف على سيره، لا يشاركها في ذلك سواها، وفي مثل هذا الضرب من المزارع يؤجر المزارعون، وبهذا يختلف عن المزارع الجماعية التي يديرها المزارعون جماعة.
وبينا نحن سائران خلال حقول القمح والشعير التي لم يكتمل نضجها، قلت لزميلي: «ياشا، لقد كنت في ساحة السوق هذا الصباح، و…»
– «نعم، أعلم ما تريد يا «فيتيا»، كم وجدت هذا الصباح؟ سبع عشرة جثة فقط! إن العدد ليزيد على ذلك أحيانًا، وماذا ترانا صانعين إلا أن نجمع الأجساد لنواريها القبور! إن الحكومة قد استلبتهم كل غلتهم في الحصاد الماضي، والقليل الذي بقي لهم أجرًا على عملهم أو الذي استطاعوا أن يخفوه، قد استهلكوه منذ أمد بعيد، إنها حال تبعث على الحزن والفزع، اصحبني إلى الدار لنمضي في الحديث، فقد طال بي الزمن الذي احتبست فيه أفكاري لنفسي طولًا جاوز المعقول.»
إن حديث الموت من جوع حديث مملول، حديث معاد مكرور، وإنه لمما يبعث على الحسرة أن نستخدم الألفاظ التي تلوكها الألسن في الحياة الجارية، أن نستخدمها بنفسها حين نصف ما هو قطعة من الجحيم، فلم يكن ما قاله لي «ياشا» سوى ما كانت قالته لي الشابة الفلاحة في الليلة السابقة، وما شهدته بعيني في ساحة السوق، وقد أخذت بالفعل أتعود هذا الجو تملؤه المفازع، وكان ينمو في نفسي رويدًا رويدًا شعور دخيل بالمناعة إزاء الحقائق الواقعة، بحيث أشهدها ولا أتأثر بها، تلك الحقائق التي ما كدت أسمع عنها أمس القريب حتى تحطمت لسمعها قوائمي.
امتد بنا السمر حينًا طويلًا، وأخذ «جروموف» يصف لي الناس الذين سأزاول معهم مهمتي في القرى التي كُلِّفْتُ بالعمل فيها، ووعدني المعونة ما استطاع إلى المعونة سبيلًا، ولوَّح بيده مودِّعًا حين أقلتني مع «يوري» عربة صغيرة وضعتها مزرعة الدولة رهن أمرنا.
كانت الشمس آيلة للغروب والسماء ملطخة بالدماء، وسمعت الرجل الكهل الذي كان يسوق لنا العربة يوجه الحديث إلى جياده قائلًا: «امضيا أيها الصقران الصغيران، امضيا بنا أيها العزيزان!»
وقدمت له لفيفة تبغ، فأحدث تبغها الجيد — فيما يظهر — نشوة في نفسه ومد ذراعه يقلب فيها تحت مقعده، وأخرج مزمارًا من غاب، وطفق يغني ألحانًا شعبية أوكرانية حزينة.
قال له «يوري»: «الظاهر يا أبت أنك تستمتع بعيش سعيد.»
فأجاب: «أي والله! كلنا ها هنا نعيش عيشة الأمراء، زوج واحد من السراويل لكل رجلين، وكل إنسان ها هنا حي حتى يموت، ليس منا فقراء ولا أغنياء، كلنا سائلون إحسانًا، يا صقري الصغيرين عليكما بذلك التل! أخرجا ما لديكما أمام أهل الحضر! أي صغيريَّ!»
فسألته: «ومن أنت يا جدي؟»
– «ليس في هذا المكان من يجهل من أنا، كان الناس يطلقون عليَّ «كوزما أفانوفتش» حين كانت لديَّ مزرعتي وحين كنت في وفرة من قوت، أما وقد أصبحت اليوم حوذيًّا، فهم ينادونني باسم «كوزكا»، لم يبقَ لي إلا هذا المزمار، فتراني أعزف عليه، لقد ماتت زوجتي العجوز في الشتاء الماضي، ماتت جوعًا، وتزوجت ابنتي واشتغلت في المناجم، وأُرسل اثنان من أبنائي مع أسرهم إلى سيبيريا، أرسلهم هناك الرفقاء … ولعلهم إذ رأوني كهلًا لا يُخَاف له بأس، استخدموني حوذيًّا في مزرعة الدولة، لقد لبثوا طويلًا يرفضونني ظنًّا منهم أني قد أدبر تلفًا للمزرعة، ولكن فيمَ إتلافي لهم شيئًا؟ لقد بِتُّ من الموت قاب قوسين.
إني أصدع بكل ما يأمرونني به، ومتعتي في حياتي هي هذان الجوادان، أُعنى بهما خير عناية، نعم إنهما ملك الحكومة، لكني أخيل لنفسي أنهما لي، إنهما أسرتي التي لا أسرة لي غيرها الآن؟ إني أغذوهما وأنظِّفهما وأتحدث إليهما، إنهما يفهمان عني، يفهمان كل كلمة أقولها، إنني بهذين الجوادين لا أزال «كوزما إيفانوفتش» ولست «كوزكا» مجردة عن الألقاب، إن كل رجائي هو أن يُدْفَنَ جسدي إلى جانب زوجتي العجوز إذا ما جاءت منيتي، لقد رجوت ناسًا من أطيب الناس أن يذكروا ذلك، فوعدوا أن يحققوا لي الرجاء، فأنا — كما تريان — خلي من الهموم.»
ثم استأنف عزفه على المزمار.
ولما بلغنا الغاية المقصودة، وهي القسم السياسي في القرية، كان قد أمسى المساء، وقد كان مقر القسم السياسي دارًا جميلة في نهاية طريق محصوب تحفُّ جانبيه أشجار من حور، وكان في القسم كثير من الموظفين يرقبون قدومنا فرحبوا بنا، وبعد أن قدَّم كل منا نفسه للآخر، صحبناهم إلى كوخ كان يقيم به مساعد الرئيس، وكان المكان نظيفًا، والعشاء شهيًّا كافيًا رغم بساطته.
لم يكن يسيرًا عليك وأنت جالس إلى المائدة المليئة بصنوف الطعام، ومصباح الغاز يرسل شعاعًا بهيجًا من الضوء، لم يكن يسيرًا عندئذٍ أن تتخيل أن الجوع والموت قد استوليا على المنازل المحيطة بنا جميعًا، لقد أخذت أمعن النظر في هؤلاء الرجال الذين سأزاول معهم مهمتي، ولم يكن خافيًا أنهم كذلك بدورهم يمعنون فيَّ النظر.
كان «سومانوف»، رئيس القسم السياسي، رجلًا من رجال الجيش، كان بكباشيًّا في المدفعية، هو قصير مليء سنه حول الأربعين، ووجهه هادئ يشيع في ملامحه شيء من العطف، ولم أكد أراه حتى أحببته، أما مساعده — وهو صاحب الدار — فكان مديرًا لمصنع من مصانع المعادن في حوض الدونتز، كان أنيق الملبس كثير الجلبة ثرثارًا يفيض فيضًا بنكاته، وأما المساعد الثاني فضابط شاب من الشرطة السرية، وهو أسود الشعر والعينين أنيق الثياب، كان لا يتكلم إلا قليلًا، لكنه يرهف السمع إنصاتًا للحديث، ثم عضو رابع من القسم السياسي كان محررًا في إحدى الصحف جاء من مدينة في الإقليم الذي كنت من أبنائه.
أخذ كل منا يقلب النظر في الآخرين، وعرفت كيف أسوق في الحديث عَرَضًا أسماء أصدقائي الذين يحتلون مكانة عالية، بل أشرت تلميحًا إلى معرفتي الشخصية بالوزير «أورزنكدز»، ولما ألقيت في حديثي أسماء معارفي من رجال الشرطة السياسية في المدينة التي نشأت فيها، وجَّه الضابط الشاب الذي ينتمي إلى هذه الفرقة انتباهًا لقولي واعتدل له بجسمه اعتدالًا اندفع إليه بلا شعوره، فمهما يكن من أمر المهمة التي تنتظرني، فقد كان لا بد لي من أن أحشد كل قطرة أستطيع حشدها من المكانة في أعين الناس حتى أستطيع أداء مهمتي.
ولما فرغنا من عشائنا عقدنا اجتماعًا رسميًّا، وأخذت أنا و«يوري» نزداد معرفة بطبيعة ما نحن مقدمان عليه من عمل، وتفضل علينا الحاضرون بوصف موظفي ذلك الإقليم ومختلف شخصياتهم، أعني موظفي المزارع الجماعية التي أُلْقِيَت تبعتها على عاتقينا، والظاهر أنْ قد شاء لنا حسن الحظ أن تكون المحصولات مبشرة بوفرة وجودة، فكانت مهمتنا إذن أن نصونها وأن نرعى جمعها رعاية تضمن للحكومة نصيبها كاملًا، وحُدِّدَ اليوم الأول من سبتمبر تاريخًا أقصى للحصاد، وقد جمع ما بيننا اشتراكنا في التبعة، على الرغم من أن كلًّا منا خُصِّص له جزء معين يكون تحت رعايته.
وفي صبيحة اليوم التالي دعاني الرفيق «سومانوف» إلى مكتبه الخاص.
قال لي: «إن خبرتك بالزراعة أوسع من خبرة الكثرة الغالبة من «الممثلين الرسميين» وذلك شيء محمود، لكني أحب أن تكون على حذر، سيصادفك كثير من ألوان الشقاء، وستكون صاحب الكلمة لأني لن أشير عليك كيف تتصرف فيما عساه أن يصادفك من مواقف، لكن شيئًا واحدًا أريد أن أشير عليك به، وذلك ألا تتخاذل إزاء ما ترى، وإلا كنت عديم النفع لنفسك ولمهمتك، اعمل ما تظنه لازمًا ولا تأبه لما عدا ذلك من ضروب التدخل، إن كل سيئة قمينة أن تجد الغفران لو أنك نفذت الخطة في إحكام ودقة، وإلا … ماذا أقول وكلنا يعرف النتائج، إن لك مني كل معونة مستطاعة، وفي انتظارك الآن رؤساء المزارع الجماعية ورئيس السوفيت في القرية، فأتمنى لك حظًّا سعيدًا!»
وما هو إلا أن عدت مع «يوري» إلى استئناف السفر، وكانت قراه تبعد عن قراي ما يقرب من ثمانية أميال، فلما بلغنا «لوجينا» التي ستكون مركز إقامتي، نزلت من العربة أمام مقر السوفيت وواصلت العربية سيرها تحمل «يوري» وحده.
كان مركز السوفيت صغيرًا لكنه نظيف، وكان الاجتماع معقودًا ساعة وصولي، فقدمت نفسي للأعضاء وأبرزت وثيقة انتدابي «ممثلًا رسميًّا ينوب عن القسم السياسي» و«اللجنة الإقليمية»، وألحفت في أن يواصل المجتمعون عملهم، وكان رئيس الاجتماع — فيما علمت — يُدْعَى «بلوسوف» ولم يكن خافيًا ما كان يستولي عليه من رعب إزاء أمين الحزب الرفيق «كوبزار»، كذلك كان بين الحاضرين مدير محطة الجرارات الآلية واسمه «كاراس».
قال «كوبزار»: «أيها الرفيق كرافتشنكو، أنت ها هنا الآن صاحب الأمر، فتولَّ رياسة هذا الاجتماع.»
– «لا، لا، امضوا فيما أنتم ماضون فيه، وإذا سمحتم فسأجلس منصتًا، ولن يكون منذ الآن — أيها الرفاق — «نحن» و«أنتم» فلا بد لنا من تعاون، فأنتم أدرى مني بمشكلات هذا الإقليم، وستكونون في كل شيء عمادي، لكني في الوقت نفسه مسئول عن الأمر، وسيكون لي القول الفصل، سأعقد أول اجتماع لي غدًا، وأحب أن تحضروا جميعًا مزودين بما يلزم من حقائق، وأريد من كل رئيس لمزرعة جماعية — بوجه خاص — أن يأتيني بخطة عمله، وإلى أن يحين الغد، امضوا فيما أنتم مشتغلون به الآن كائنًا ما كان.»
استأنف الأعضاء اجتماعهم، وكانت الكلمة لرؤساء المزارع الجماعية واحدًا بعد واحد، فأكدوا جميعًا أن مزارعيهم لن يقووا على جمع الحصاد إذا لم يجدوا ما يقتاتون به من طعام.
قال أحد هؤلاء الرؤساء: «إن مَنْ أشرف عليهم يتضورون جوعًا، إنك لتراهم طرحى في منازلهم من هزال، فليس لنا أن نعد هؤلاء من الأيدي العاملة، وسيزداد هؤلاء العاجزون عددًا، وسيمضي الموت بعدد قبل أن يبدأ الحصاد، فماذا نحن صانعون؟»
أجاب «بلوسوف» و«كوبزار» إجابات مهمة وأشارا إلى أوامر الحزب، فأدركت أنهما مهوشان يسيران على ضلال، وأنهما في أعماقهما لا يهمهما من الأمر كثير أو قليل، فقلت لنفسي: «الظاهر أني سأجعل المزارعين أنفسهم عمادي، فهم أرسخ عمادًا من هؤلاء الموظفين.» فقد تبين لي في وضوح أن السوفيت وما للحزب من أداة تنفيذية قد تعوَّدوا المجاعة حتى عميت أبصارهم، وأنه لا أمل في جمع الحصاد إذا لم أنفض عن هؤلاء ما خيَّم عليهم من عدم اكتراث.
قال لي «بلوسوف» عندما ختم الاجتماع: «تعال فنم في منزلي، فلا بد أنْ قد أنهكك السفر، وأظنني قادرًا على إمدادك بما يرد لك النشاط.»
ثم قال أحد رؤساء المزارع الجماعية: «يسرني أن تصحبني إلى داري، اسمي «شاداي» وأسرتي صغيرة العدد، ونستطيع أن نخلي لك غرفة.»
فقررت على الفور أن أقبل دعوة «شاداي»؛ لأنني أحسست أنني كلما ازددت قربًا من رجال المزارع الجماعية، كنت أقرب إلى الصواب، فصافحت الحاضرين جميعًا، وصحبت «شاداي»، وهو رجل متوسط العمر فيه بساطة وذكاء، كان حليقًا وسيم المحيَّا، ورافقنا رئيس آخر من رؤساء تلك المزارع هو «دمشنكو».
وصلنا الدار فابتسمت قائلًا: «لنقصد أولًا إلى حظيرة الجياد أيها الصديقان، فقد علمني جدي في «اسكندروفسك» ألا آوي إلى مخدعي قبل أن أستيقن أولًا أن الخيل لم تُهْمَل.»
– «إذن فأنت سليل أسرة مزارعة؟»
– «لست على وجه الدقة كذلك، أيها الرفيق «دمشنكو» لكني أطلت المقام في المزارع.»
واستطعت أن أرى على ضوء مشكاة أن الجياد في مرابطها، لكن لم يكن في مذاودها دريس، ولم تكن حظيرتها على ما ينبغي لها من نظافة.
قال «شاداي» في اضطراب: «لقد أهمل ابن الكلبة تنظيف الحظيرة مرة أخرى؛ لأرينَّه الجحيم غدًا.»
قلت: «لست أدري من ذا وكل إليه هذا العمل، لكني أرى أنك أنت أولى بهذا الجحيم، فأنت الرئيس، والخطأ خطؤك أنت كلما وقع، وفي هذا وحده معنى الرياسة.»
ووافق «شاداي» في خشوع: «لقد أصبت القول، ومع ذلك فليس الأمر سهلًا هيِّنًا، فكيف يعمل الناس بغير قوت؟ إنهم لا يستطيعون حصر أذهانهم في أعمالهم إذا ما كانوا جياعًا.»
ووافق «دمشنكو» على ذلك قائلًا: «هذا صحيح، ليس الأمر هيِّنًا، عِمَا مساءً، وسأراكما في الصباح.»
دخلت الدار حيث زوجة «شاداي» وأطفاله، وعلى الرغم مما بدا عليهم جميعًا من هزال وضعف، فقد كان جليًّا أن ظروف العيش ها هنا لم تبلغ ما بلغته في دور الفلاحين من سوء.
قلت: «أي رفيق «شاداي»، حدثني حديث رجل لرجل، حدثني حديثًا بعيدًا عن الأوضاع الرسمية، كيف حال الناس؟ ماذا أعددتم من خطة لجمع الحصاد؟ كيف حال الآلات؟ لا تُخْفِ عني شيئًا، بل كن معي مخلصًا صادقًا فنحن كلانا معنيَّان بشيء واحد.»
– «لست أدري أين أبدأ الحديث أيها الرفيق «كرافتنشكو» ليس المحصول سيئًا، والآلات صالحة على الرغم من فقدان بعض أجزائها، وبغير هذه الأجزاء المفقودة سيقف دولاب العمل.»
– «اكتب لي قائمة بما تريد، وسأرسل في طلبه من القسم السياسي في «بتروفو».»
– «شكرًا فذلك عون عظيم، وشيء آخر في حالة من السوء، وهو موقف الجياد، فليس لدينا علف لها، ويعوزنا ولو قليل من الشوفان. طبعًا نستطيع أن نحصد لها بعض شوفان المحصول الجديد، لكن ذلك تحرمه الأوامر تحريمًا قاطعًا.»
قلت: «لا عليك من الأوامر، فسيكون لك ذلك إذا لم ترَ طريقًا آخر، وستكون التبعة كلها عليَّ وحدي، سيكون ذلك في طليعة مهامنا غدًا، ماذا نحن صانعون بغير جياد، وهل تكون جياد بغير شوفان؟»
فحذرني «شاداي» قائلًا: «لا أظن أن «بلوسوف» و«كوبزار» سيوافقانك على ذلك.»
– «دعني وإياهما.»
– «وأخيرًا، وأهم من ذلك كله أيها الرفيق «كرافتشنكو» حال الناس أنفسهم، إنهم ليموتون كأنما هم الذباب يتساقط، ومَنْ لم يمت فهو من الضعف والهزال بحيث لا يستطيع حراكًا، مَنْ ذا سيحصد لنا الغلال، لقد توسلت إلى «السوفيت» أن يعيرونا شيئًا من حبوب، فأرسلوا إليَّ مقدارًا ضئيلًا، ولست أنا بموسى ولا عيسى حتى أطعم ألوف الناس على مثل هذا القدر الضئيل، لقد شهدت أيها الرفيق الموت والدماء حين كنت في الجيش، لكني فيما شهدت لم تقع عيناي على شيء يوازي في بشاعته هذا الذي أراه ها هنا في قريتي.»
ونظر إليَّ محدجًا، ولمع في حزنه بريق من أمل.
– «أيها الرفيق، وأنت الممثل الرسمي، لو أردت حصد المحصول فلا بد لك أولًا من إنقاذ هؤلاء الناس من براثن الجوع، أضف إلى ذلك أني لم أعد أحتمل النظر إلى هذا البؤس من حولي، كلا، لم أعد أطيق رؤيته لحظة واحدة.»
– «لست بمستطيع أن أعدك شيئًا أيها الرفيق «شاداي» سوى أن أبذل وسعي، سننهض من فراشنا غدًا مبكرين، وسننتقل من دار إلى دار، لا بد أن أشهد الحال بنفسي قبل أن أصمم العمل.»
إن ما رأيته ذلك الصباح، حين أخذت أزور المنازل مع «شاداي» لأبشع من أن تصوره العبارة، فالرجال في ميدان القتال يموتون في لحظة، وهم يردُّون قتالًا بقتال، ولهم في ذلك سند من الزملاء والشعور بالواجب، أما ها هنا فالناس يموتون في عزلة بعضهم عن بعض، وهم يموتون موتًا متدرجًا بطيئًا، الناس ها هنا يموتون على نحو بشع فظيع، دون أن يكون لموتهم مبرر كأن يكون دفاعًا عن مبدأ، لقد صيدوا ها هنا في فخ أغلق من دونهم، ثم تُرِكُوا هناك ليموتوا جوعًا، كل في داره وحيدًا، وصائدهم في هذا الفخ إنما هو قرار سياسي اتخذه الرؤساء في عاصمة بعيدة، إذ هم جالسون حول مائدة يتشاورون الرأي أو يأكلون ويشربون، ولو كان زوال هذه المفازع أمرًا محالًا، لكان في هذه الاستحالة شيء من العزاء، لكن الأمر يخلو حتى من هذا العزاء.
وأبشع ما كانت تقع عليه الأبصار هم الأطفال الصغار بأطرافهم الهيكلية مدلاة من بطونهم المنتفخة كأنما هي البالونات، لقد طمس الجوع من وجوههم كل علائم اليفاعة وأحالهم أمساخًا شاهت مما لاقته من ألوان التعذيب، ولم يكن بهم ما يذكرك بطفولتهم إلا آثار بقيت في عيونهم، كنا حيثما أدرنا البصر نرى الرجال والنساء طرحى وقد انتفخت منهم الوجوه والبطون وغاضت من أبصارهم كل معاني الحياة.
طرقنا بابًا فلم نسمع جوابًا، وطرقنا الباب مرة أخرى، ثم بيد واجلة دفعت الباب ودخلنا في ممشى ضيق يؤدي إلى الغرفة الواحدة التي يحتوي عليها الكوخ، واتجهت عيناي أول ما اتجهتا نحو سراج في أيقونة في أعلى السرير العريض، ثم صوَّبت النظر إلى جثمان امرأة في منتصف العمر مسجًّى على ذلك السرير، وقد ربعت ذراعَيها فوق صدرها على صدار أوكراني مطرز نظيف، ووقفت عند حافة السرير امرأة عجوز كما وقف على مقربة منها طفلان: ولد في الحادية عشرة أو نحوها وبنت تقرب من العاشرة، كان الطفلان يبكيان في غير صوت مسموع، وينشدان في صوت حزين أغنية ريفية «أماه يا أماه العزيزة»، ثم أدرت البصر فإذا بالبصر يقع على جسد منتفخ متصلب لرجل ممدود على حافة الفرن.
لم تكن بشاعة المنظر في الجثة الراقدة على السرير بقدر ما كانت في حالة الأحياء المشاهدين، فساقا المرأة العجوز انتفختا إلى حد جاوز كل معقول، ولم يكن ثمة من شك في أن الرجل والطفلين كانوا في آخر مراحل الحياة بفعل الجوع، فعدت مسرعًا وبي خجل من سرعة عودتي.
ورأينا في المنزل المجاور رجلًا في نحو الأربعين من عمره، رأيناه جالسًا على دكة يصلح حذاءً، كان الرجل منتفخ الوجه، وكان إلى جواره صبي صغير مرتب الهندام استحال إلى ما يشبه أن يكون هيكلًا من عظام، كان هذا الصبي يقرأ كتابًا، وإلى جانب الموقد امرأة شاحبة مشغولة بطهيها.
سألها «شاداي»: «ماذا تطهين يا ناتالكا؟»
أجابت في صوت غاضب يشف عن رغبة في انتقام: «أنت تعلم ماذا أطهى.»
وجذبني «شاداي» من كمي وغادرنا الدار.
سألت «شاداي»: «فيمَ كانت غضبتها؟»
– «لأنها … ماذا أقول؟ إنه ليخجلني أن أنبئك، «فكتور أندريفتش» … إنها تطهى روث خيل وأعشابًا.»
كان أول ما بدا لي أن أفعله هو أن أعود إلى الدار فأمنع المرأة عن طهيها، لكن «شاداي» أمسك بي قائلًا: «كلا لا تفعل، نشدتك الله، إنك لا تدري كم يحس الناس من ألم الجوع، إنها قد تقتلك يأسًا إذا ما سكبت لها ما في قدرها.»
وبعد أن زرنا ما يقرب من اثنتي عشرة دارًا، استمعت لنصيحة «شاداي» في الاكتفاء بما شهدناه إذ قال: «سترى ما رأيت أنَّى سرت، فقد عرفت الآن ما يكفيك.»
اتضح لي الآن ما يجب أن أصنعه، فالموقف من سوء الحال بحيث لا يحتمل أنصاف الحلول، فلا بد من إهمال الأوامر والقوانين مهما يترتب على ذلك من نتائج بالنسبة إلى نفسي، فإذا لم أردَّ لهؤلاء المزارعين قواهم، ضاع منا كل شيء، ولمَّا عدنا إلى دار «شاداي» كتبت خطابًا إلى الرفيق «سومانوف» وهو رئيس القسم السياسي الذي كنت تابعًا له، وأرسلت الخطاب مع رسول خاص، ولما اقترب المساء جاءني الرسول يحمل رد الخطاب.
«أنا على أتم العلم بالحالة، وإني لأود أن تعاود التفكير في الأمر من جديد وأن تزن كل جوانب الموقف، فإن ما تقترحه فيه عصيان خطير لما لدينا من أوامر صريحة، ومع ذلك فإذا لم يهدك التفكير إلى مهرب آخر، فلك أن تفعل ما تراه حتمًا لازمًا، وسأحاول أن أجد لك بعض الغلال، لكني أصارحك أنني لست كبير الرجاء في التوفيق.»
اطمأننت لهذا الجواب، فهو على الأقل لم يكن جوابًا يحمل كلمة «لا»، ولم يكن ما اقترحته سوى أن أجمع بعض الشوفان لنطعم الخيل، وأن أحصد قليلًا من الشعير النامي على حفاف الحقول ليأكل الناس، لكن مثل هذا الحصد السابق لأوانه كان في رأي جريدة «إزفستيا» المنشورة أمامي «سرقة لأموال الدولة» و«ضربًا من التخريب»، ولقد أُلْقِيَ القبض على الفلاحين وأُرْسِلَ بهم إلى مطارح النفي عقابًا على مثل هذه «الجرائم».
كانت الظروف في المزرعة الجماعية الأخرى لا تختلف عن ظروف هذه المزرعة جوهرًا، فقد بقيت لبعض الفلاحين أبقارهم لكنهم كانوا يرسلون اللبن كله إلى مصنع الزبد التابع للدولة، وحتى هؤلاء الناس الذين لبث لهم من القوة ما يجولون به هنا وهناك، كانوا في حالة من الضعف واليأس والقنوط.
طلبت من «شاداي» و«دمشنكو» أن يستحضرا معلمي القرية وطبيبتها وبعض النساء ممن لهن شجاعة وذكاء في المزرعة، ثم أرسلت في الوقت نفسه إلى «بلوسوف» و«كوبزار» و«كاراس» آمرهم بالحضور، فلما اجتمع شملهم، جلسوا حول المنضدة يرقبون لا يدرون أي مفاجأة أنا مباغتهم بها من أوامر الحزب، ولم يستطع بعضهم — وكوبزار بصفة خاصة — أن يخفي ما يجول في نفسه من ريبة.
بدأت الحديث قائلًا: «لقد دعوتكم للحضور أيها الرفقاء وبخاصة السيدات؛ لأنني بحاجة إلى نصحكم، وإنه ليسرني أن أرى بين الحضور الرئيس السوفيتي، وأمين الحزب، ومدير محطة الجرارات الآلية، لقد كنت أنتقل من دار إلى دار، وعرفت ماذا هناك، ولئن أفزعني كل ما رأيت، فقد أفزعتني حالة الأطفال على وجه خاص، كيف نطالب الناس بالعمل إذا كان أطفالهم يتضورون في المنازل جوعًا؟
والآن هاكم خطتي، فقد أنبأني «شاداي» أن في القرية بعض المنازل الخالية، وأريد منكن أيتها السيدات أن تنظفن هذه المنازل وتبيضن جدرانها وتجعلنها صالحة للكائنات البشرية، وسنبدأ بالأطفال، سنعد لهم هذه الأماكن يعيشون فيها حتى يتم الحصاد، فاجمعن الأطفال واحلقن لهم شعرهم ونظفن أجسادهم واحقنَّهم وقاية من التيفوس، أنا أعلم أيها الطبيب أن لديك بعض الأدوية الضرورية، أعددن مناضد في حدائق تلك المنازل، واجمعن آنيات كبارًا لطهي الطعام، هل أنتن على استعداد للمعونة؟»
قالت امرأة: «إننا على استعداد لا شك فيه، لكن ماذا عندك ليُطْهَى؟»
– «سأنبئكم بذلك فيما بعد، ولكني أحب أن أعلم الآن من تظنونه أكثر الناس جدارة بالركون إليه في الإشراف على هؤلاء الأطفال نيابة عنكم؟»
أجابت أصوات عدة: «كونوننكو إيفان بتروفتش، المعلم.»
فلما أشير إلى الرجل الكهل المقصود، وجهت إليه الخطاب قائلًا: «إيفان بتروفتش، ما دام الناس قد وثقوا فيك، فلك مني الثقة كذلك، أنت المنوط بأمر الأطفال لا يشاركك في ذلك سواك، خذ من تشاء ليعاونك، ولك أن تعتمد على معونتي إلى أقصى الحدود، وإذا ما تدخَّل أحد في عملك فبلغ أمره لي.»
قال المعلم في صوت يختلط بالعبرات: «أنا على أتم استعداد، وكيف لا أكون وهؤلاء عشيرتي، هيئ لنا الطعام أضمن لك كل ما تريد.»
– «شكرًا لك يا إيفان بتروفتش، ابدأ عملك مفترضًا أن الطعام هُيِّئت أسبابه، اركن في ذلك إلى صدق وعدي.»
أذنت للحاضرين بالانصراف إلا الموظفين، فقد جمعتهم في غرفة أخرى وأغلقت من دوننا الباب.
قلت: «أيها الرفقاء، لنشمِّر السواعد للعمل، لا يفزعنكم ما أنا قائله، فأنا أعرف الأوامر كما تعرفونها، بل ربما كنت بها أتم منكم علمًا، ومع ذلك فإني سأصدر الأوامر الفلاحين أن يجمعوا الشوفان ليطعموا الجياد، وكذلك سآذن لهم بجمع الشعير من حفاف الحقول ومن حيث تم للشعير النضج، ابدءُوا في درسه من فوركم، وأعدوا منه ما يكفي أن يوزع على الناس بحيث يصيب الواحد منهم في كل يوم كيلوجرام من شعير مجروش، وامضوا في زيادة هذا المقدار رويدًا رويدًا، بحيث إذا ما بدأ الحصاد كان للناس من القوة ما يعينهم على العمل، وأمدوا «إيفان بتروفتش» بقدر كافٍ من هذه الغلة الجديدة ليُعْنَى بالأطفال، وإني لآذن لكم أن تذبحوا من خنازير المزرعة الجماعية ما يكفي أن يطعم الأطفال من لحم ودهن جنبًا إلى جنب مع مجروش الشعير.»
وبينا أنا أتحدث كانت تبدو على وجوه هؤلاء الموظفين التابعين للإقليم علامات الريبة التي جعلت تتحول تحولًا سريعًا إلى فزع، فكأنما لغة عيونهم كانت تقول بأفصح مما تستطيعه الألفاظ: هل جُنَّ جنون هذا الرجل؟ هل يريد بنا وبنفسه الهلاك رميًا بالرصاص.
وبدأ «كوبزار» الحديث فقال: «لكن أيها الرفيق كرافتشنكو …»
– «ليس في الأمر «لكن» بل افعل ما آمرك به والتبعة واقعة عليَّ وحدي.»
ونهض «بلوسوف» مضطربًا وقال: «إن واجبي يحتم عليَّ أن أبلغ القسم السياسي.»
فقال مدير محطة الجرارات الآلية مؤيدًا لموقفي: «لقد أخطأت أيها الرفيق «بلوسوف» إذا أمر الممثل الرسمي للجنة الإقليمية أمرًا، إذن فهو يرمي إلى هدف يريده، وما علينا جميعًا إلا الطاعة.»
ثم قلت أنا: «لست أمنعك من تبليغ من شئت، ذلك من حقك، لكنك إذا لم تنفذ ما آمرك به، كنت مسئولًا عن هذا العصيان، أما أنت أيها الرفيق «كوبزار» فإنك لتقامر بمركزك في الحزب إذا لم تعمل على تنفيذ خطتي بغير إبطاء، هذا كل ما أريده منكم أيها الرفقاء.»
وبينا نحن خارجون واحدًا في إثر واحد، أحسست يدًا تضغط على يدي ضغطة الشاكر وكانت تلك يد «شاداي»، ثم لحق بي «دمشنكو» وهمس في صوت أجش قائلًا: «سأكون في عونك وإن كلفتني معونتك حياتي، أما وقد بدأت المغامرة، فما رأيك في مواصلة السير في طريقك بأن تفحص مخزن التعاون، تعالَ معي أقدمك إلى مديره ماكارنكو.»
كان المخزن قذرًا مهملًا، فلو استثنيت تماثيل نصفية لستالين وأكداس من صور مطبوعة لغيره من الزعماء، وجدت الرفوف خالية، وأما «ماكارنكو» فقد كان رجلًا ضئيلًا ذليلًا ماكرًا مسترضيًا، فأنبأته في إيجاز عما قررته بشأن إطعام الأطفال في القرى، وطلبت منه المعونة.
– «أنا أعلم أنك تخفي قدرًا من مواد الغذاء، ولا مندوحة لك الآن عن إخراجها وتسليمها، حتى إذا ما تم لنا الحصاد سنرد لك الديْن غلالًا، ولن يصيب أحدًا شيء من الأذى.»
صعق الرجل، وألفى نفسه موزعًا بين أمرين: فهذه هي أوامر المركز الرئيسي من ناحية يقابلها خوفه أن يسيء إليَّ باعتباري ممثل الحزب.
– «نعم أيها الرفيق، إن لديَّ شيئًا من ملح وسكر نباتي، وحب مجروش وسمك مدخون وقليلًا من صابون، فإذا تعهد رجال المزرعة تعهدًا مكتوبًا بأن يردوا هذه الأشياء غلة ودريسًا وافقت على تسليمها، لكن قبل تسليمها لا بد أن أستأذن مكتب الإقليم وسأنبئك بالقرار غدًا، وكذلك أحب أن أقدم لك شيئًا من النصح، لماذا لا تطرق محطة الزبد؟»
– «ماذا تعني؟»
فقال دمشنكو شارحًا: «إنه يعني المكان الذي نسلم فيه كل ما لنا من لبن ليُصْنَع هناك زبدًا للتصدير.»
– «للتصدير!»
– «نعم أيها الرفيق كرافتشنكو، لإرساله إلى الخارج، إنهم يلفونه في ورق عليه كلمات من لغة أجنبية غريبة، نعم فموت الناس من الجوع شيء، وتبادل التجارة مع الخارج شيء آخر.»
كان مصنع الزبد يبعد عن القرية مسافة قصيرة، وكان مديره رجلًا من رجال الحزب، وديعًا، في نفسه غم دفين، فصحبني خلال المصنع ليريني أجزاءه، فرأيت الزبد في إحدى الغرف يقطع شرائح مستطيلة ويُلَف في ورق كُتِبَ عليه بالإنجليزية: «تصدير الزبد التابع للاتحاد السوفيتي الاشتراكي.»
قال المدير: «أنا أعلم أن الفلاحين يتضورون جوعًا، وفكرة إرسال هذا الزبد ليطعم أجانب قد أحسن غذاؤهم تمزقني تمزيقًا كأنها السكين الماضية، ولكن ماذا أصنع؟ أنا مأمور لأطيع، بل إني متأخر جدًّا في إنتاج ما يجب إنتاجه وفقًا للخطة؛ ولذلك فعقابي آتٍ لا ريب فيه، إن الفلاحين يسرقون اللبن لأنهم جياع، والأبقار لا تحلب لأنها لا تجد ما يكفيها من علف.»
فأجبته: «ومع ذلك كله فلا بد من معونتك لي، لا بد من تغذية الأطفال، ولست أشك في أن صناعة الزبد تترك من المخلفات ما يمكن أن نستفيد منه.»
– «من اليسير عليك أن تقول ما أنت قائل، لكني — مثل ماكارنكو — لست مطالبًا فقط بتحقيق ما تضعه الإدارة المركزية من خطط، بل لا بد لي إلى جانب ذلك من إطعام الموظفين في الإقليم، فكلهم — كوبزار وبلوسوف وأعوانهم الكثيرون — يأخذون مني الزبد واللبن.»
فقلت: «سينصرف اللبن المخيض كله منذ اليوم إلى مشروع الأطفال الجديد.»
– «لا بأس بقرارك هذا من ناحيتي، لكني لا بد أن أتلقى موافقة على ذلك من رؤسائي.» قال مدير المصنع ذلك ثم سكت لحظة كأنما يستجمع كل ما في جعبته من شجاعة مدخرة، وقال: «لا، لن أستأذن في ذلك أحدًا، مُرْ رجالك أن يحضروا غدًا ليحملوا المخيض، إنني كذلك والد لأطفال.»
ثارت في نفسي ثورة الغضب إذ أنا عائد بالعربة إلى القرية، إنهم يصدرون الزبد وسط هذه المجاعة! لقد صوَّر لي الخيال كيف ينعم أهل لندن وبرلين وباريس بأكل الزبد الذي طُبِعَت عليه العلامة التجارية السوفيتية، كما صور لي الخيال كذلك أنهم إذ يأكلون زبدنا لا بد قائلون: «إنهم في روسيا يتقلبون في النعيم ما دام في مستطاعهم أن يرسلوا هذا الزبد خارج بلادهم، ها هو ذا أيها الأصدقاء برهان الاشتراكية في صورة عملية.»
لم أسمع خلال عودتي بين الحقول أحدًا يتغنى بأناشيد أوكرانيا الحبيبة إلى فؤادي، لقد نسي الناس كيف يكون الغناء، لم أسمع سوى أنَّات قوم يلفظون أرواحهم، وإلى جانبها في أذني رنات مصمصة الأجانب البدينين وهم يستمتعون بزبدنا.
لما بلغت المزرعة التي كنت أشرف عليها، وجدت الناس يحصدون الشوفان والشعير، كما وجدت أن بضع مئات من الأطفال قد جُمِعُوا من القرى ووُضِعوا في الحدائق ليتم لهم الغسل والتنظيف، وقد عرف «إيفان بتروفتش» كيف يوحد العمل، وكان يعاونه نحو عشرين رجلًا وامرأة، وكانت زوجة شاداي — وهي مضيفتي — مشغولة مع غيرها من النساء في تبييض المنازل، فأذاب حبي لهؤلاء الناس في بساطتهم ما كان يتأجج في رأسي من أفكار الغضب، لقد شهدت هؤلاء الناس تكرههم على العمل عَذَبات السياط وطلقات البنادق، وها أنا ذا أراهم مدفوعين في إيثارهم لأداء عمل مشترك لا يخالطه شيء من الوعيد.
ولما كنا على مائدة العشاء في ذلك المساء، جاء رجل من حظيرة الجياد ينبئ «شاداي» أن حصانًا قد مات لتوه، فأمره «شاداي» أن يسلخه وأن يرمي الجثة بعد ذلك بعيدًا عن القرية بمسافة طويلة، وأن يصب عليها غازًا (كيروسين) ثم يغطيها بالجير المحترق، ثم اتجه لي شارحًا أنه إن لم يفعل ذلك جعل القرويون الجياع من اللحم الموبوء طعامًا لأنفسهم، وبعدئذٍ جاءنا المعلم والطبيبة وأنبآنا أن الأمور تجري على نحو طيب، فالشعير الجديد قد جُفِّفَ في الأفران ليوزَّع على أبناء المزارعين في اليوم التالي فيأكلوا بذلك أول إفطار جيد يقدَّم لهم، كذلك ذُبِحَ عدد من الخنازير.
قال «إيفان بتروفتش»: «لقد علمنا بنبأ المخيض، لكن ذلك لا يكفي؛ لأن بعض الأطفال قد ساءت حالهم إلى حد بعيد، لا بد لنا من اللبن ذاته.»
فكرت لحظة، وكنت حينئذٍ قد بلغت حدًّا بعيدًا في الخروج على القواعد وفي «التخريب» حتى إنه ليسهل أن أمضي في الطريق خطوة أبعد.
قلت: «يا شاداي، ها أنا ذا أفوض لك بصورة رسمية أمام هؤلاء الشهود ألا تُعْطِي لبنًا بعد الآن للموظفين الذين جروا على أخذه، وأن تحتفظ بثلث الإنتاج كله لإرساله إلى منزل الأطفال، وعليك أن تبلغ «دمشنكو» أن ينفذ هذا الأمر بعينه في مزرعته.»
ولما أويت إلى مخدعي في المساء أخذت أفكر في هذه الطبقة الجديدة الممتازة في القرية، أعني رجال الحزب ورجال السوفيت الذين كانوا يستولون على اللبن والزبد والمؤن من المخزن التعاوني في الوقت الذي كان الناس فيه من حولهم يموتون جوعًا، إن هؤلاء الموظفين كانوا يتلقون الأوامر من المركز الرئيسي فيتقبلونها في طاعة العبيد غير آبهين للآلام التي كان يعانيها الشعب من حولهم، إنه لمما يحز في النفس أن ترى ما يؤدي إليه الامتياز من فساد الخلق، فهؤلاء الرجال الذين كانوا منذ أعوام قلائل من الفلاحين الفقراء، قد زالت عنهم بالفعل آخر علامة من علامات الشبه بينهم وبين جيرانهم، وأصبحوا طبقة ممتازة بعيدة عن الناس، يعيشون في زمرة وحدهم يتآخى أفرادها ويعين بعضها بعضًا ويتحدون معًا عصبة تناهض الشعب.
ذهبت في اليوم التالي لأشاهد الحاصدين والدارسين وآلات الذر، وكانت الأجزاء البديلة التي أرسلت في طلبها لإصلاح الآلات قد وصلت وأخذ الرجال يصلحونها، وبينما كان عضو من أعضاء اللجنة الإدارية للمزرعة يقص عليَّ ما يصادفه من صعاب، جاء فلاح وأسرَّ في أذنه شيئًا.
فقال عضو الإدارة: «ارفع صوتك حتى يسمع قولك الممثل الرسمي.»
– «إذن فاسمع قصتي أيها الرفيق المندوب من الهيئة الرسمية، مات حصان ليلة الأمس، فسُلخ جلده ثم غُمِسَت الجثة في غاز (كيروسين) وغُطِّيَت بالجير المحترق، لكنهم حين ذهبوا صباح اليوم لدفنها لم يجدوا لها أثرًا، فقد حمل الناس أثناء الليل هذا اللحم الفاسد الموبوء، يا إلهي! إلى أية حال وصل بنا الأمر أيها الرفيق؟!»
دنا يوم الحصاد، وشاع في القرية روح جديد، فالكثرة الغالبة من الأسر كان لكل منها في روضة الأطفال التي يشرف عليها «إيفان بتروفتش» طفل أو أكثر، ووُزِّع شيء من الشعير على أعضاء المزرعة جميعًا، وبعد أن انفض الاجتماع، بقيت لأتحدث إلى الناس، فأخرج أحدهم عودًا، وعزف فلاح على زامرة، فعادت أناشيدنا الأوكرانية إلى سمعي من جديد، واطمأن إلى ذلك قلبي.
وجاءني شاب يحمل إليَّ رسالة لم يستطع أن يجري بها لسانه لكنه جاهد حتى أخرجها تمتمة.
– «أيها الرفيق الممثل الرسمي! أنت مطلوب في مكتب السوفيت، شخص هناك يريد لقاءك، شخص من … من … الشرطة السياسية.»
فسكت عن الغناء أولئك الذين كانوا على مقربة منا بحيث يسمعون ما يقال، وقعت هذه الكلمات المخيفة وقع الصواعق، ودار الخبر بين الحضور أني مطلوب لمقابلة رجال الشرطة السياسية، فخيَّم عليهم سكون وتوقع الجميع كما علمت من رؤساء المزرعة؛ توقع الجميع في القرية أنني سألقى عقابي جزاء ما هيَّأت للناس من قوت.
فلما أن ذهبت إلى مكتب السوفيت، وجدت ضابط الشرطة السياسية الأنيق الذي كنت قد لقيته في القسم السياسي، وكان هناك كذلك «كوبزار» و«بلوسوف»، فوجهت الخطاب إلى «كوبزار» قائلًا: «لماذا لم تحضر اجتماع اليوم وقد طلبت إليك الحضور؟»
فقال مجيبًا في تمتمة وتجهم: «آسف فقد شغلتني شواغل أخرى.»
ثم قال ضابط الشرطة السياسية: «أريد أن أتحدث إليك على انفراد أيها الرفيق كرافتشنكو.»
قلت: «لا مانع من ذلك، فاصحبني إلى مكتبي في المزرعة.» وبينا نحن في طريقنا ثم بعد أن استوينا إلى مقعدنا في المكتب، دار بيننا حديث عام عن شئون القرية واحتمال أن يجيء المحصول جيدًا وما إلى ذلك من أمور.
ثم قلت له آخر الأمر: «أيها الرفيق سكوبين، خير لنا أن نأخذ في الكلام عن الحقيقة العملية، ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
قال: «إذن فاعلم أن قد وصلنا كثير من الأنباء والتقريرات الرسمية عما صنعته هنا، وصفوة هذه الأنباء والتقريرات كلها هي أنك لا تقف عند حدود القانون، تتجاهل أوامر الحزب ولا تبالي بالسلطات المحلية.»
– «ماذا تعني حين تقول «وصلنا»؟ هل تشير بذلك إلى رئيس القسم السياسي؟ أهو الذي طلب إليك الحضور ها هنا؟»
– «هذا خارج عن الموضوع.»
– «كلا بل هو أساس الموضوع كله، هل خوَّل لك أولو الأمر أن تراجع فعلي؟»
– «بل جئت ها هنا لأتحدث إليك حديث الصديق مع صديقه، وليس في الأمر مراجعة.»
– «أيها الرفيق سكوبين، إنني أفعل ما أراه حقًّا، ولست بمستطيع أن أناقش معك ما يبرر فعلي، هنالك شخص واحد في مستطاعه أن يوجه إليَّ السؤال، وذلك هو رئيس القسم السياسي، أنا هنا الممثل الرسمي للجنة الإقليمية وأنا مسئول أمام تلك اللجنة وحدها عما أصنع، وواجب السلطات المحلية أن تعينني، ولكن رجالها بدل أن يساعدوا تراهم لا يصنعون شيئًا سوى أن يملئُوا بطونهم بالطعام الجيد، في الوقت الذي يموت الناس فيه جوعًا، وعندي قوائم أثبت فيها ما أخذه كل موظف من المزرعة ومن مخزن القرية لاستعماله الخاص، أنا أعلم علم اليقين مَنْ هؤلاء الذين يستنكرون صنيعي، ولكني أعلم كذلك ما هم غارقون فيه من شراب ومجون، لقد علمت عن ذلك شيئًا كثيرًا.»
– «صدقني أيها الرفيق «كرافتشنكو» أنني هنا بمحض مشيئتي، وأن الرئيس لا يعلم عن هذه الزيارة شيئًا، فقد رأيت أن أحدثك حديثًا قصيرًا قبل أن أقدم الوثائق للرئيس، فقد بلغني أنك أخذت مقدارًا من مصنع الزبد ومن المخازن التعاونية، وأنك تتصرف في إنتاج اللبن التابع للدولة، فتجريه في غير ما أريد له من مسالك، وأنك تحصد الغلة قبل أوان حصدها، وهذه كلها أمور خطيرة.»
– «إذا شئت فارفع تقريرك إلى القسم السياسي، وقل لهم: إنني مصرٌّ على فعلي، وسأذهب هناك غدًا لأقرر أمري بنفسي، وبعدُ، فهل تريد أن تجول في القرية جولة أيها الرفيق سكوبين؟»
– «لا، لا يتسع وقتي لذلك، مع السلامة — إذن — ولست في هذا إلا مؤديًا واجبي كما أراه.»
– «مع السلامة أيها الرفيق، وسأراك غدًا.»
وذهبت في اليوم التالي فقابلت الرفيق «سومانوف».
قال لي: «كنت على أتم صواب حين رفضت الحديث مع «سكوبين» دون استئذاني بذلك، إن هؤلاء الكسالى في قراك ليستنكرون ما تصنع فيما يكتبون؛ ليكون ذلك بمثابة التأمين لأنفسهم إذا ارتبكت معك الأمور، أنا أعلم أنك بذلت مجهودًا، وأعلم ما أقدمت عليه من مخاطر، وسأحمل معك تبعة ما صنعت، فإذا ما أجرينا الحصاد وأسلمنا المحصول للدولة في الوقت المحدد، ذهبت كل معالم الخطر، وإلا فقد طاح رأسانا معًا.»
– «أيها الرفيق سومانوف، لقد صارحتك بكل شيء، فلم أخفِ عنك شيئًا مما صنعت، لكني أريد أن أحمل عبء التبعة وحدي، وهاك الرسالة التي بعثت بها إليَّ وفوضت لي فيها — وإن يكن تفويضًا في عبارة غير قاطعة — أن أصنع ما أشاء، ها أنا ذا أردها إليك.»
أخذها ووضعها في جيبه ثم صاح رفيقي «سكوبين»! وعندئذٍ دخل الضابط.
– «هات لي من فضلك ملف الأوراق والإقرارات الخاصة بالرفيق كرافتشنكو.»
وأحضر «سكوبين» ملفًّا ضخمًا، أعطانيه «سومانوف» بدوره، وغادر المكان، ولبث خارج الغرفة حتى فرغت من قراءته، وقد كُتِبَت مذكرة بأسماء المخبرين التابعين للقسم السياسي الذين قرروا في غير صالحي، وأسماء الموظفين الذين استنكروا فعلي، ووعد «سومانوف» بعدئذٍ أن يبيد الملف، ووضعه في خزانته حتى يحين يوم إبادته.
– «سأزورك في لوجينا غدًا، فاجمع الموظفين هناك، وسأرينهم الجحيم الذي يستحقون.»
ولما عدت إلى القرية راجعت أسماء المخبرين على القائمة الرسمية بأسماء سكان المكان، فوجدت أنهم موزعون في أنحاء الإقليم توزيعًا فيه شيء من العناية، فواحد في دكان التعاون، وآخر في مصنع الزبد، وثالث في إدارة المزرعة، ورابع يشتغل سائقًا في محطة الجرارات الآلية، وهكذا كان للشرطة السياسية عيونها وآذانها أُعِدَّت بحيث يصبح كل شيء منها على مرأى ومسمع، وإذن فقد كان خلف أصحاب الأمر الاسميين ومديري الاقتصاد الصوريين شبكة من الجواسيس، بعضهم ينتمي إلى الشرطة السياسية، وبعضهم الآخر ينتمي إلى الحزب، فكل لا يدري شيئًا عمن عداه، وهكذا وجدت أن وراء الحكومة الظاهرة حكومة أخرى بمعنى الكلمة الدقيق.
وفي ساعة متأخرة من ذلك النهار، صادفت «إيفان بتروفتش» في بعض الطريق، فكان يتهلل بكثير من البِشر الذي أثاره في نفسه ما يؤديه من عمل.
قال لي إذ نحن سائران معًا: «ما أجمل أن ترى الأطفال في طريقهم إلى العافية! ما أجمل أن ترى طفولتهم تعود إليهم من جديد! إننا نعلم جميعًا ما أنت مجازف بنفسك فيه من خطر، ولئن أردت صراحة، فاعلم أن القرية كلها يساورها القلق لهذه الدعوة التي جاءتك من ضابط الشرطة السياسية.»
فابتسمت قائلًا: «لا يساورنكم قلق فالآلهة ترعاني، أو هي قد رعتني حتى الآن في أقل تقدير، لكني مغتبط أن أرى الفلاحين على دراية بالموقف، وها قد آن لهم أن يردوا لي صنيعي جميلًا بجميل، فيحسنوا إلى أنفسهم إذ يحسنون إليَّ؛ ذلك أن الحصاد قد دنا موعده، وأريد منكم أن تذيعوا في الناس أنني لا أريد منهم شكورًا، إنما أريد العمل، أريد العمل النشيط، أريد العمل موصولًا في الليل والنهار، إذ قد يكون من الناس من يركن إلى التراخي.
بلِّغ الناس هذا: يا أعضاء المزرعة الجماعية هل تريدون أن تبقوا للرفيق كرافتشنكو على حياته؟ إذن فاجمعوا الغلة وادرسوها وقدموها وفقًا للخطة المرسومة، إنني لا أحسن الشفاعة أرجوها لنفسي، ولكنكم أنتم تحسنون.»
– «كن على يقين أني فاعل لك ما تريد، فلك في هذا البلد أعوان، صدقني فيما أنبئك به، إن مَن يتراخى في أداء واجبه خير له أن يصلى نار الجحيم، فلن نخلي بين أحد منا وبين التراخي.»
ولما ذهبت إلى مكتب السوفيت في اليوم التالي، كان «سومانوف» قد وصل، فقد سمعت جلجلة صوته من بعيد، وكان موظفو الإقليم جميعًا وبينهم مدير المخزن حاضرين.
قال رئيس القسم السياسي وكأنما يضع للسامعين قاعدة هي القانون: «إن الرفيق كرافتشنكو ها هنا هو صاحب الأمر، والقانون هو ما يصدره لكم من أوامر، إن الزمن ليمضي سراعًا، وليس لدينا مدخر من الجهد ننفقه في الإنصات إلى لغوكم، فهيا إلى العمل وعاونوه، اذهبوا إلى الحقول بأنفسكم، فإن في ذلك خيرًا لأبدانكم، وها هو ذا الممثل الرسمي قد أتانا بشخصه!»
حياني تحية المشتاق كأنما قد غبت عنه السنين، وقد أراد بهذه المظاهرة الودية أن يؤثر في أعدائي، وغادرنا معًا مكان الاجتماع، وذهبنا إلى مقر إدارة المزرعة الجماعية.
قال: «فكتور أندريفتش، إني سليل أسرة مزارعة، وما يعانيه أهلي يحز فؤادي، ليس هناك إلا الدموع والدماء والموت والنفي، ولماذا؟ إن الأرض خصبة والقوم جادون، فلماذا نراهم يتضورون جوعًا ويموتون ويردون موارد الهلاك ثم نغضي؟ إنني كلما ازددت في الأمر تفكيرًا ازددت حيرة، سأرسل لك بعد يوم أو يومين مزيدًا من الدقيق ومزيدًا من أجزاء الآلات الدارسة.
لكن ليس ذلك ما أردت في حقيقة الأمر أن أنبئك به، إنما أردت أن أعبر لك عن عظيم تقديري لما صنعت، وخاصة ما صنعته للأطفال.» قال ذلك ثم وقف في الطريق بغتة وعاد يقول: «فيكتور أندريفتش، كلانا شيوعي، لكننا كذلك إنسانان من البشر، سأدفع عنك الأذى كما أدفع الأذى عن شخصي.»
ومضى بعد ذلك يومان فكان كل شيء على أتم إعداد، وما أن لمعت تباشير الصبح حتى جست بالعربة خلال الحقول، فوجدت أعضاء المزرعة رجالًا ونساءً، قد سبقوني إليها، يجمعون أعواد الغلال ويحزمونها، وبعد قليل جاءنا موظفو الإقليم يعرضون ما في وسعهم من معونة، فقد فعلت الخطبة — فيما يظهر — فعلها في نفوسهم، ساد الجميع شعور الجد والنشاط، وكما يعرف سائق السيارة أن سيارته ستحسن السير حين يسمع لآلاتها دمدمة يعرفها، فكذلك أنا في ذلك الصباح، استطعت أن أحكم بالبداية التي رأيتها أن كل شيء على ما يرام.
كانت المئونة من زاد وماء قد أُرْسِلَت على عربات إلى الحقول في الليلة السابقة، وأقيمت للأطفال الخيام، فهؤلاء الفلاحون يؤثرون لأنفسهم أن يقيموا في الخلاء بعيدًا عن دورهم حتى يتم الحصاد، وها هم أولاء يعملون الآن ما اعتادوا في الأيام السوالف أن يفعلوه، وأذنت لهم أن يذبحوا ثورًا وعددًا من الخنازير، وعلى الرغم من أن بين هؤلاء المئات من الرجال والنساء الذين لم يجدوا في هذا الطعام ما يشبع بطونهم، وعلى الرغم من أنه لم يكن بين هؤلاء المئات إلا عدد قليل لم يدب في أجسادهم الضعف أو لم يهدهم المرض بالفعل، فقد أخذ الجميع في غناء ومزاح وعمل منذ شروق الشمس حتى غروبها.
وهمس «إيفان بتروفتش» في أذني قائلًا: «كن مطمئنًّا، فكلهم راغب في إنقاذك من الموت.» فضحكت وضحك.
ولما جاء اليوم التالي أنفقت النهار في المزرعة الجماعية التي يشرف عليها «دمشنكو»، فوجدت أن الحصاد قد بدأ هناك كذلك بدءًا طيبًا، وأن الروح السائدة ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولم تمضِ أيام قليلة، وكان جمع المحصول لم يزل قائمًا، حتى بدأت جماعات جديدة في درس الغلال، وأخذ الحَبُّ يندفق اندفاقًا في عربات مملوءة نحو الآلات الروافع.
وحدث ذات يوم — إذ كان الحصاد في ذروته — أن ركبت إلى مزرعة «دمشنكو» فوقع بصري على إحدى آلات الحصاد وقد وقف دولابها وتعطلت، عندئذٍ أسرعت نحوها لأستفسر عن السبب في تعطلها، فإذا أنا أعلم أن عاملها قد سقط في غيبوبة من شدة الإجهاد، وأحاط به عدد كبير من النساء يحاولن رد شعوره إليه، فأمرتهن أن يحملنه إلى القرية، وأخذت مكانه بنفسي من الآلة الحاصدة، وكان قد طال بي العهد منذ آخر مرة عملت فيها على مثل تلك الآلة، فأشاع العمل في نفسي لذة، وأسعدني أن أواصله ساعة بعد ساعة.
ولما دنا شفق الغروب، أخذ العمل عني عامل آخر، وعندئذٍ كشفت عن خسارة فادحة ألمَّت بي، وتلك أني فقدت محفظة نقودي، فلم يحرك من نفسي شيئًا أني فقدت كل ما كنت أملك من مال، إنما الذي اضطربت له هو أن وثيقة انتدابي قد ضاعت كذلك، وضاعت معها تذكرة الحزب، وبحثنا في الحقول ذلك المساء وفي اليوم الذي تلا، لكننا لم نجد للمحفظة الضائعة أثرًا، فأبلغت القسم السياسي واللجنة الإقليمية، وتوقعت أن يكون لهذا الحادث أسوأ الأثر في حياتي مدى أعوام طوال.
ثم تبع هذا الغم غم آخر، وهو أني تلقيت من القسم السياسي هذا الأمر: «بناءً على تعليمات اللجنة المركزية التنفيذية، عليك أن تعدَّ كنيسة القرية مخزنًا لغلة الحكومة، وينبغي أن يتم هذا الإعداد في ثمانٍ وأربعين ساعة، حتى إذا ما أتممت هذه المهمة أبلغت بذلك.»
اضطربت لهذا الأمر يصدر إليَّ، إذ لم يساورني شيء من الشك فيما يقابل به الفلاحون مثل هذا الفعل من شعور، إنه فعل سخيف كأنما دُبِّر ليكون حجر عثرة يقف عندها دولاب العمل في حصاد هو للبلاد بمثابة الحياة، لكن «كوبزار» و«بلوسوف» وغيرهما أثلجت صدورهم بمثل هذا؛ لأنهم أخذوا رويدًا رويدًا وفي تدرج غير محسوس، ينقلبون للناس في ذلك الإقليم أعداء لا لشيء سوى أنهم يستمتعون بالعمل الذي يمقته الناس في سائر القرى، هم أعداء الناس لهذا السبب وحده (أعني لأنهم يؤدون واجبهم في اغتباط)، وجُرِّدَت الكنيسة من تعاليقها ومصابيحها وتحفها، جردها بعض الشيوعيين الشبان.
وسرى النبأ في الحقول سريان النار في الهشيم، فما أن سمعه الناس حتى رأيت عشرات من الفلاحين يقذفون بأدواتهم ويهرعون إلى القرية مسرعين، يستنزلون اللعنة تارة ويستعطفون ويبكون طورًا عندما شهدوا ما نزل من نفوسهم منازل التقديس يزول من مواضعه، إن قدسية هذه الأشياء في نفوسهم لم تكن إلا جزءًا مما أنزل في قلوبهم الأذى، إنما آذاهم حقًّا ما أحسوه في الأمر من إهانة صريحة لكرامتهم الإنسانية.
وسمعت فلاحًا كهلًا يقول: «لقد أخذوا منا كل شيء ولم يتركوا لنا شيئًا، وها هم أولاء يزيلون عنَّا آخر ما بقي لنا مما يبعث الطمأنينة في نفوسنا، فأين عسانا بعد اليوم منصِّرون أبناءنا ودافنون موتانا؟ أين عسانا بعد اليوم متجهون بأبصارنا إلى شيء من العزاء فيما نحن فيه من ألوان الأسى؟ لعنة الله عليهم من مجرمين! لعنة الله عليهم من كافرين!»
لم يكن لي إزاء هذا حول ولا قوة، ولقد تذرعت وتذرع «إيفان بتروفتش» بكل ما لدينا من جهد وبلاغة لكي نعيد للعمل اطراده، وفي اللحظة التي ظننا أن قد كُلِّل مجهودنا بالنجاح وقعت حادثة جديدة فقلبت لنا كل شيء رأسًا على عقب من جديد، وقعت هذه الحادثة يوم الأحد التالي، وهي أن أمين الهيئة الشيوعية للشبان — وهو شاب بليد الحس شائه الوجه يُدْعَى «شِز» — ظهر فجأة في الطريق، وكان يعزف على العود وإلى جانبه صديقته، وكان يغني أناشيد تهزأ عباراتها بالدين، وكان ذلك في ذاته منظرًا مألوفًا، ولكن الذي أثار الثائرة هو ما كان على هذين الصديقين من رداء، فقد لبس هذا الشاب وصديقته قميصين من الحرير الأحمر الناصع، يمسكهما عند الخاصرة خيوط مذهبة وأفواف من حرير، ولم تكن هذه إلا تعاليق الكنيسة المنزوعة، رآها الفلاحون فعرفوها من فورهم، وثارت في نفوسهم نار الغضب التي سرعان ما انقلبت إلى روح اعتداء عنيف على الشاب وصديقته، ولم ينقذهما من الموت إلا أنهما كانا أسرع عَدْوًا ممن تعقبوهما من الفلاحين الكهول، فأويا إلى الدكان التعاوني، وبذلك سلما من أيدي الشعب الثائر.
ولما جاءني نبأ هذه الحادثة أرسلت إلى «شِز» أدعوه للحضور.
وصحت في وجهه: «لماذا سرقت تعاليق الكنيسة؟»
– «لست لها بالسارق، إنما أخذتها علنًا، وقد فعل مثل فعلي كثير سواي من الرفقاء.»
– «إذن فلا بد لك ولسائر هؤلاء الرفقاء أن تردوا كل شيء إلى مكانه، هل تسمع ما آمرك به؟ وإن لم تفعلوا بعثت بكم إلى الشرطة مصحوبين بكل مجرم يناصركم، وشيء آخر، ما دمت ها هنا فلن أسمح بأغنية تهزأ بالعقيدة الدينية تُنْشَد في الطريق العام، هذا مني أمر واجب الطاعة.»
ومضت أيام قلائل بعد ذلك، وذبح الفلاحون ثورًا كبيرًا، وملحوا لحمه وحفظوه في برادة ليكون طعامًا في أيام تالية، فلما أقبل المساء جاءني «شاداي» ينبئني أن جزءًا من اللحم قد سرقه سارق، فدعوت كاراس إلى الحضور من محطة الجرارات الآلية، وقَبِلَ أن يعاونني في الأمر، فانتظرنا جميعًا حتى انتصف الليل أو كاد، وعندئذٍ حمل «شاداي» و«كاراس» بندقيتين من بنادق الصيد وحملت أنا مسدسًا، وكان لكل منا شيء من الحدس النافذ عمن عسى أن يكون السارقون، واعتزمنا أن نتابع البحث في غير إبطاء.
قلت: «لنقف في عرض الطريق فنصطحب «كوبزار» كاتم السر، فلا بد له أن يكون عالمًا بما يقع في منطقته.»
كانت داره معتمة، وطرق الباب «شاداي» فلما لم نسمع جوابًا دفعه بيده، وهنا فوجئنا بأصوات، فدخلت الدار وأضأت مصباحًا يدويًّا معي، فصاحت امرأة، وأدرت ضوء المصباح نحوها، فرأيت شابة عارية من رأسها إلى قدمها، رأيتها تحاول أن تستر وجهها برداء، وأخذت تصيح فزعة، ثم خرجت على هذا النحو مسرعة من الدار حيث يسترها ظلام الليل.
أضأت مصباحًا كان على المنضدة، فرأيت زجاجة من شراب الفودكا وإلى جانبها رأيت كأسين وقطعة كبيرة من الشواء، وكان «كوبزار» جالسًا على السرير وقد أوشك جسمه أن يكون عاريًا عما يستره، منفوش الشعر مأخوذًا، ورأيت في إناء خشبي على أحد المقاعد قلب ثور كبير.
سألته: «أنى لك هذا اللحم؟»
قال: «اشتريته … من الدكان التعاوني … ولك أن تحقق صدق ما أقول.»
– «سأفعل بلا تردد، هيا معي يا رفيقيَّ، ولنتركه حتى يفرغ من طعامه، بما فيه من قلب الثور الذي أرى.»
سار «شاداي» أمامنا وتبعناه في طريقنا إلى أعلى التل حيث دار في أطراف القرية وكانت تلك الدار — فيما روى الناس — مقر «العربة» التي كان يتحدث بها الفلاحون حديث الممرور، ومشينا في حذر وصمت حتى دنونا من الدار، ونظرت خلال كسر في شيش النافذة إلى غرفة كبيرة، فرأيت منضدة قد أثقلتها حمولة من الزجاجات واللحم وألوان الخضر، كما رأيت رجالًا ونساءً تلاقوا كما يتلاقى العاشقون، ثلاثة رجال هم: مدير الدكان التعاوني ووكيله والطحان، وثلاثة نساء على درجات متفاوتة من العري.
وقف «كاراس» عند الباب الأمامي، ووقف «شاداي» عند الباب الخلفي، ونقرت أنا على النافذة.
فصاح صائح في فزع: «من الطارق؟»
– «أنا ممثل الحكومة الرسمي، افتح توًّا وإلا رميتك بالرصاص.»
وفتح الباب فإذا مجمع اللهو قد انقلب مشهدًا للاضطراب والجزع، وأخذ النساء في البكاء، فقالت إحداهن: «إنما جئت إلى هنا مدفوعة بالجوع.» وقالت أخرى باكية: «لقد دفعوني إلى الحضور دفعًا.» فأمرت النساء أن يرتدين ثيابهن ويغادرن المكان، ثم طلبت إلى رفيقيَّ أن يفتشا الدار، فوجدا مقدارًا من اللحم وكثيرًا من الزبد والجريش والعسل، كما وجدا عددًا كبيرًا من أكياس الدقيق.
صحت صيحة غاضبة: «بينا يموت جيرانكم جوعًا، تسرقون من أفواههم الطعام أيها القعدة؟ ثم تسمون أنفسكم شيوعيين! احملوا هذه المؤن على ظهوركم وسيروا بها الآن إلى دار السوفيت!»
سرت خلف الرجال الثلاثة حتى بلغنا دار السوفيت في القرية، ولما أصبح الصباح جاء فريق من الجند وساقوا اللصوص الثلاثة إلى المحاكمة في عاصمة الإقليم «بيانيخانكي»، ولما شاع النبأ في القرية سخط له الفلاحون.
قال لي كثير منهم: «ما كان ينبغي لك إرسالهم للمحاكمة، فنحن أعلم من المحكمة بما يجب أن يلاقوه.»
ولما بدأنا تسليم محصول الغلال إلى مخازنه القريبة من محطة السكة الحديدية، كشفت عن حقيقة وقعت فظاعتها من نفسي وقوع الصواعق؛ ذلك أني وجدت في تلك المخازن مقدارًا هائلًا من غلة العام السابق! كانت هذه الغلة المخزونة ما أمرت به الدولة من احتياطي يُحْفَظ لهذا الإقليم، فانظر إلى هذا المقدار من الغلال يأمر الموظفون الرسميون بإخفائه عن أعين القوم وهم يموتون من الجوع! لقد مات مئات من الرجال والنساء والأطفال في هذه القرى، ماتوا من قلة الغذاء، في الوقت الذي خُزِّنت فيه الغلال قاب قوسين من دورهم أو أدنى!
وحين كشفت عن «احتياطي الدولة» من الغلال، كان معي طائفة من الفلاحين، فحدقوا الأبصار لا يكادون يصدقون ما هم مبصرون، ثم أخذوا يسبون في ثورة من غضب، وبالطبع لم ألمْهم على سبابهم ذاك، لكني استحلفتهم ألا يذيعوا النبأ في الناس حتى لا تتحطم فيهم القوة المعنوية فتتأثر بذلك حركة الحصاد، وقد علمت فيما بعد أن هذا الأمر بنفسه وقع في كثير من أنحاء البلاد، فتخزن الحكومة الغلة احتياطًا، وبموت الناس من جوع، فيمَ هذا الفعل؟ إن الجواب عند حاشية ستالين السياسية وحدها وهي لا تجيب.
تم الحصاد فخرجت أشق الحقول ذات يوم رخيٍّ في عربة صغيرة، وكانت الشمس قد مالت للغروب، فسمعت على مبعدة أنشودة الحصاد يغنيها رجال ونساء اختلطت أصواتهم في امتزاج جميل، فها هم أولاء يرسلون أصواتهم بالغناء مرة أخرى بعد كل ما شهدوه من موت وشقاء، الله لهؤلاء الناس من أهل التربة الأوكرانية في بساطتهم المباركة وطيبتهم التي ليس لها حدود!
وما هو إلا أن رأيت المنشدين يسيرون نحوي موكبًا وعلى رأسه المعلم «إيفان بتروفتش»، فما كان أوقعه في القلب من منظر: الرجال في أبهى حللهم والنساء في أرديتهن المطرزة التي يلبسنها في مواسم العطلة، وعلى رءوسهن أكاليل من ورود الحقول، وفي وجوههن علائم الفرح الذي لا تشوبه شائبة، فأوقفت الجواد وترجلت، ودنا موكب الناس مني ثم وقف، وقد كان قوامه ما يقرب من مائتي فلاح وفلاحة.
قال المعلم في صوت يسمعه الحضور جميعًا: «فيكتور أندريفتش، لقد وفينا ما وعدنا، فالحصاد في مخازنه قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، وقد رأيت بعينيك كيف كان منَّا العمل، وإنك لتعلم أن كثرتنا الغالبة كانت جائعة ضعيفة من شتاء فربيع كلاهما فظيع، وإن ذلك منا البطولة بعينها.»
فأجبته قائلًا: «أشكرك يا إيفان بتروفتش، وأشكركم جميعًا يا رفاق.»
وانفرط الموكب وعزفت الزامرات ورقص الشباب، وجاء «شاداي» و«دمشنكو» فوقفا إلى جواري، لقد مات ما يقرب من نصف سكان الإقليم في العام المنقضي منذ الحصاد الماضي، ماتوا من الجوع ومن الأمراض التي تتفشى بسبب الجوع، وها هم أولاء أحياؤهم قد جددوا للحياة مجراها، ولئن كانت الدولة تستولي على معظم الغلة الجديدة، فجودة الحصاد ستجعل مما يبقى مئونة تقرب مما يكفي لحفظ أود الحياة عامًا جديدة.
وأدب الناس مأدبة في فضاء الحقول التي كان يشرف عليها «دمشنكو»، فلما وجه إليَّ الدعوة لزيارتهم لم يسعني إلا القبول، على الرغم مما كان ينتظرني من واجب تحرير خطابات لا بد من تحريرها في غير إبطاء، وهناك التفَّ مئات من الفلاحين حول الموائد، وأضاء المكان قناديل ومشاعل، وبعد ساعات قضيناها في الترحيب وتبادل التهنئة وإلقاء الخطب، انتهت حفلة العشاء إلى عزف ورقص، فها هنا أيضًا تبدى الرجاء في عودة الحياة إلى مجراها من جديد.
وفي مساء ذلك اليوم كتبت في غرفتي تقريرًا ختاميًّا رفعته إلى القسم السياسي، منبئًا بتمام مهمتي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام، كما أنبأت كذلك بأني ألقيت القبض على اللصوص وأوصيت بطرد «كوبزار» و«شز» وكثير غيرهما من الموظفين.
وحدث بعد ذلك بأيام قلائل أني كنت أفتش حقلًا، فسمعت فجأة صوت سيارة، ونظرت فإذا أمامي سرب من سيارات كبيرة أنيقة جاءت منسابة على طول الطريق، فلم أشك في أنها جاءت تحمل طائفة من أهم الزائرين، واستحثثت جوادي وعدوت صوب السيارات فوقفت ونزل منها ستة رجال، ودنا مني أحدهم، فعرفت فيه الرفيق «هاتايفتش» فنزلت عن جوادي وسرت إليه.
تصافحنا، ثم قال لي في لهجة الجاد: «أيها الرفيق كرافتشنكو، متى فرغت من الحصاد؟»
– «فرغت منه منذ ثلاثة أيام، أي قبل الموعد المضروب بعشرة أيام.»
– «هكذا سمعت، كما سمعت أشياء أخرى، فمثلًا، مَنْ ذا أذن لك أن تقطع الشوفان والشعير وأن تتصرف في ملك الحكومة من إنتاج اللبن؟ لماذا حرمت أن يعمل الناس ما ينافي العقيدة الدينية؟ أأنت عضو نظامي في الحزب أم أنت ضرب من ضروب الدعوة إلى الفوضى؟»
فأجبت في هدوء: «أيها الرفيق «هاتايفتش»، لم يسعني سوى أن أصنع ما صنعت، كان الأطفال يلفظون الروح وكانت الجياد في طريقها إلى الهلاك، ولم يكن لدى مزارعي الحقول الجماعية من القوة ما يستطيعون به حصادًا، وها هي ذي الدولة قد تسلمت غلتها وافية وقبل الموعد المضروب، نعم، قد كلفني ذلك مقدارًا من غلال، لكني بمثابة من استثمر هذا المقدار من الغلال ليحصل أضعاف أضعافه، فإن كان ذلك جرمًا فأنا على استعداد أن أحمل تبعته.»
فأمسك «هاتايفتش» بذراعي، وضغطها ضغطة فيها دليل الرضى على عكس ما دلت عليه ألفاظه الغلاظ، فلا بد أنه كان يبدي شيئًا ويخفي آخر، تظاهرًا أمام الذين صحبوه حتى لا تسود صحيفته، ثم سار في خطو بطيء حتى بَعُدَ عن مسامع أصحابه وحارسيه: «لقد أُنْبِئْت أنك صائر إلى أعمال الهندسة، وأنك من خيرة رجال الحزب، ولكني أشك في أنك قد أسأت فهم ما كان يجري من أمور، فبين الفلاحين ونظام الدولة حرب شعواء، إنها حرب حتى الفناء، وقد كان هذا العام امتحانًا لقوتنا وقدرتهم على الاحتمال، ولم نتخاذل أمام المجاعة حتى ندلهم من يكون في البلاد سيدًا، نعم دفعنا لذلك ثمنًا ملايين النفوس التي أزهقها الجوع، لكن نظام المزرعة الجماعية باقٍ، وبهذا خرجنا من القتال ظافرين.
أغلب ظني، أي رفيقي كرافتشنكو، أن قلبك أقوى من عقلك، فلو لان الجميع كما لِنْتَ لجاز ألا نظفر بالنصر في هذا القتال، ولا تحسبن أني بذلك أنحو عليك بلائمة، كلا بل إني لأعتقد أنك أديت مهمة تستدعي كل إعجاب، فلا بأس من أن أُسِرَّ في أذنك أن قلبي — كقلبك — يقطر دمًا من أجل الفلاحين المساكين، لكني مع ذلك أحب أن تذكر أني وجهت إليك النقد، فإن سألك سائل فلا تنسَ أني حاولت أن أؤدبك بحيث تنطوي تحت طاعة القانون.»
فيظهر أنه حتى «هاتايفتش» الجبار يخشى على صحيفته في الدولة أن تسوء، كما يخشى من حركة «التطهير» القادمة.
وإن هي إلا دقائق معدودات بعد ذلك حتى أحاط به معاونوه وحارسوه المدججون بسلاحهم، وتحركت السيارات صوب القرية المجاورة فأثارت في الفضاء غمامًا من تراب، وركبت جوادي وعدت إلى دارى أتساءل: مَنْ ذا يا ترى قد وشى بي إلى «هاتايفتش»؟ لقد كنت على يقين أن «سومانوف» لم يكن هو الذي اقترف هذا الجرم مجاوزًا به ما بيننا من عرى الود، فلا بد أنه «سكوبين» الذي كان في الظاهر خاضعًا لأوامر «سومانوف»، أما حقيقة الواقع فهي أنه مسئول أمام الشرطة السياسية رأسًا، وهي صاحبة السلطان الحقيقي في بلادنا، ولا شك كذلك أن «سكوبين» حين وشى، لم يكتفِ بالوشاية إلى واحد، بل أرسل عدة صور إلى أشخاص آخرين، وسيعلن المستقبل عن صدق هذا الرأي فيه، حين يحين يومي في حركة «التطهير».
تأهبت للرحيل، وكانت فورة النفوس التي نتجت عن توفيقنا في الحصاد قد هدأت، بل أخذ الفلاحون في إعلان تذمرهم من قلة نصيبهم من المحصول؛ ذلك أنه لم يبقَ إلا النزر القليل بعد أن دُفع للدولة مقدار لقاء استخدام الآلات، ومقدار يسد النقص في الاحتياط المخزون، وبعد أن تسلمت الحكومة حقها كاملًا من المحصول، فكانت نسبة ما بقي للمزارعين هي أربعة أرطال ونصف الرطل، أو يزيد قليلًا، عن كل يوم في العمل لكل شخص، وهو مقدار يروعك بضآلته، أين هو مما يكفي لإطعام أسرة كاملة بله أن يمكن أصحابه من شراء الثياب وسائر ضرورات الحياة مدى عام كامل.
نعم، إنهم كانوا يأخذون بالإضافة إلى ذلك شيئًا من أنواع الحبوب الأخرى ومقدارًا من الخضر، ولكن ماذا كان في مستطاعهم أن يشتروه بما يحصلونه من كدح عملهم؟ إن أرخص حذاء يلبسه ريفي في ذلك الوقت كان ثمنه ثمانين روبلًا، وأبسط رداء قطني كان ثمنه مائة، فبالأثمان الرسمية التي كانت الدولة تشتري بها الغلال، لم يكن الفلاح ليستطيع أن يشتري بأجوره مدى عام كامل أكثر من حذاء ورداء واحد! ولما كان النظام الحكومي نفسه هو الذي يشرف على شراء الغلال وبيع الحذاء سواءً بسواء، ولما كان ذلك النظام يقتضي أن تحدد الأثمان في كلتا الحالين بما يلائم مصالح الحكومة، فقد كان ذلك النظام في حقيقة أمره استغلالًا ذا حدين، وإلى جانبه رجال الشرطة السياسية والمستبدون من أعضاء الحزب يفرضون أنظمة اقتصادية لا تعرف شيئًا من الرحمة الإنسانية.
كان بعض الفلاحين أُمِّيًّا لا يعرف القراءة، لكنهم جميعًا، من يقرأ منهم ومن لا يقرأ، كانوا يفهمون الظلم بأوفى معانيه، ولطالما قالوا في نغمة الساخر: «اشتراكية، خير لك أن تسميها سرقة ونهبًا، فتلك تسمية أدل على المراد.»
قابلت «يوري» خلال تلك الأشهر مرات عدة، وحدث ذات مرة أني تدخلت لصالحه في القسم السياسي فمنعت عنه عقابًا، ولقد أيأسه ما صادفه من مُرِّ التجربة، وأحزنه أن يرى حركة الحصاد في مزرعته متأخرة عنها في مزرعتي بمسافة طويلة من الزمن، على أن علاقة الود بيننا كانت تقرِّب بين قلبينا، فكيف يسبق إلى ظني أنه سيصبح بعد أعوام واحدًا من جماعة توجه إليَّ التهم حين كنت في موقف سياسي لا أُحْسَد عليه؟ لست أشك في أنه صنع ما صنع مدفوعًا بإرغام لم يكن له قِبَل بردِّه.
ولما آن رحيلي أوشك أهل القرية جميعًا أن يخرجوا لتوديعي، وقد سالت العبرات على وجه «إيفان بتروفتش» ذلك الكهل الرفيق، واستوعدني «شاداي» وأسرته أن أراسلهم، وأخيرًا فرقع الحوذي بسوطه لجياده، فلوَّحت للمودعين مودعًا.