مخلوق الظروف والمصادفات
تمهيد
كثيرًا ما يكون النظر في حركة عالمية أو حرب عالمية، بمثابة النظر في حياة رجل واحد هو الرجل الذي ابتعث تلك الحرب أو اقترنت باسمه تلك الحركة، كما هي الحال في اقتران اسم هتلر بالحرب العالمية الحاضرة.
وهنا الصعوبة الأولى!
فما هو المقياس الذي نرجع إليه في تقدير رجل من رجال الحوادث أو رجال التاريخ؟
تختلف المقاييس هنا أشد اختلاف، ولكنْ ما من خلاف قط في أن المقياس الذي يعتمد عليه الذهن العامي أو يعتمد عليه جماهير الدهماء من الناس هو أبعد المقاييس قاطبة عن الصواب وعن الإنصاف.
لأنهم يُعظمون الرجل بمقدار السيطرة التي في يديه، أو بمقدار الضجة التي يثيرها من حوله.
والخطأ ظاهر في كلا المقياسين.
إذ الوصول إلى السيطرة مما يتاح — في أيام القلاقل خاصةً — لأناس لا خطر لهم في سائر الأيام، وليست لهم قيمة إنسانية رفيعة إذا وُزِنُوا بميزان الأخلاق والفضائل التي يعتز بها «بنو الإنسان».
وعلينا أن نذكر أن الكفاءة الضرورية للوصول إلى السيطرة لا تقاس بحجم الدولة التي يسيطر عليها الرجل؛ فالروسيا — مثلًا — عدتها وعدة البلاد الخاضعة لها زهاء مائة وثمانين مليونًا من النفوس الآدمية، ولا يلزم مع هذا أن يكون ستالين أقدر من مصطفى كمال بضع عشرة مرة … لأن الترك أقل عددًا من الروس بهذا المقدار.
بل يتفق كثيرًا أن يكون الوصول إلى السيطرة في البلاد الصغيرة أصعب من الوصول إليها في الدول الضخام، كما يتفق كثيرًا أن تكون قيادة الزورق الصغير أصعب من قيادة السفن «الراسيات في البحر كالأعلام».
ومتى وصل الرجل إلى السيطرة في دولة كبيرة فما أسهل ما يشغل العالم ويثير الضجيج ويملأ الأسماع! وما أعسر التغلُّب عليه وإجلاءه عن مقعد الحكم ومرجع التصريف والتدبير!
إن الذي يحاربه يومئذٍ لَيحارب الدولة بأسرها، وإنه ليحتاج إلى ثورة جائحة لا تندفع إليها الشعوب في كل لحظة، ولا تجازف بها إلا في حالة القنوط. وربما بلغت الشعوب حَدَّ القنوط بعد أن يكون حاكمها المسيطر عليها قد فارق الحياة.
فلا ضخامة الحوادث إذن ولا ضخامة الدولة ولا اتِّساع مدى السلطان بالمقياس الصحيح لكفاءات الرجال.
وإنما المقياس الصحيح أن نفصِّل بين فعل الرجل وفعل الظروف التي لا فضل له في خلقها ولا يد له في توجيهها، وأن ننقله من ظروفه لنعرف ما هو مستطيع أن يعمل وهو بعيد عنها.
أو المقياس الصحيح هو أن نقيس ظل الرجل بعد نزوله من رأس القمة التي هو واقف عليها؛ فلعله لو وقف على الأرض ولم يقف على رأس تلك القمة لما ألقى من الظل بعض ما يلقيه سائر الناس.
وما نعرف أحدًا من الحاكِمين بأمرهم في عصرنا هذا قد أفادته «الظروف» مثلما أفادت أدولف هتلر زعيم النازيين على التخصيص.
فهو بحق مخلوق «الظروف» والمصادفات؛ لو انتقل من بيئته أو من زمانه أو من جيله لما تخيلتَ له شأنًا كهذا الشأن الذي انتهى إليه.
مخلوق الظروف والمصادفات
فلو رجعنا إلى موازين الدهماء لما كان مصطفى كمال شيئًا إلى جانب أدولف هتلر، قياسًا إلى الفارق العظيم بين ما يقدر عليه حاكم الألمان وما يقدر عليه حاكم الترك في مجال السياسة العالمية.
لكنَّ الواقع أن القياس معكوس، وأننا نُجحف أبلغ الإجحاف إذ نسوي بين الزعيم التركي والزعيم الألماني فضلًا عن ترجيح هذا على ذاك؛ لأننا في هذه الحالة نسوي بين من يعارض التيار ومن يحمله التيار، وننسى أن مصطفى كمال نجح والدنيا كلها عقبات وسدود في وجهه، وأن أدولف هتلر نجح والطرق كلها مفتوحة بين يديه.
فما من طائفة ولا حادثة وقعت في ألمانيا خلال الجيل الماضي إلا أفادت هتلر على عمد أو على غير عمد.
وما من شيء كان عائقًا له إلا كان في الوقت نفسه عائقًا لألوف من ذوي الجاه والسلطان يسعَوْن لرفعه عن الطريق، ويستفيد هو من سعيهم بغير مجهود.
كان الألمان جميعًا يطلبون تبديل الحال التي كانوا عليها بعد الحرب العظمى.
وكانوا في ذلك فريقين: فريقًا يريد تبديل الحال للعود إلى ألمانيا القديمة، ألمانيا التي تسيطر على الدنيا وتتأهب للغارة الكبرى كَرَّةً أخرى، وهم أصحاب المصانع والضِّياع والقادة والضباط، ولا سيما الصغار منهم الذين ضاعت وظائفهم بضياع الجيش الألماني كما ضاعت عليهم أحلام المجد والخُيَلَاء.
وفريقًا يريد تبديل الحال لبناء الدولة الألمانية على أساس جديد، وهم الفقراء والأوساط والعمال، ودعاة الحرية وأعداء العهد القديم.
وكلا هذين الفريقين كان يضرب بمِعوله في أساس النظام القائم، ويفتح من وراء كل ضربة يضربها ثغرة في السد الذي كان يصد النازيين ويحمي عليهم مدارج الصعود.
كان المحافظون من الأغنياء حانقين؛ لأنهم فقدوا ما كان لهم من الجاه في الدولة القديمة، وأصبحوا على خطر من الشيوعية والاشتراكية وسائر المذاهب الحمراء.
وكان الأحرار من أوساط الناس حانقين؛ لأن هبوط أسعار النقد ضيَّع ما ادَّخروه وضيع ما يكسبون من رزق ضئيل.
وكان العمال حانقين لأنهم لا يجدون عملًا وقد بلغ عاطلوهم في بعض السنوات سبعة ملايين.
وكان المظنون — أو كان الواجب — أن يحارب الشيوعيون هتلر وأشياعه كما يحاربون ألد الخصوم.
غير أنهم جَرَوْا على حماقتهم المعهودة في إيثار الديمقراطيين والاشتراكيين المعتدلين بالعداء قبل كل عداء؛ لأنهم يخشون من دعوتهم أن تنزع منهم جميع أنصارهم. ولا يخشون — كما اعتقدوا في ذلك الحين — أن يهجرهم أنصارهم ليلحقوا بالنازيين والمتشددين من أحزاب اليمين.
واتفق من غرائب المصادفات في الوقت الذي ظهر فيه هتلر أن رجحت كفة ستالين في الروسيا على كفة تروتسكي المبشِّر بتعميم الدعوة الحمراء في أنحاء العالم، فقررت حكومة «السوفييت» أن تنفض يدها من الشيوعيين في البلاد الخارجية فلا تمدهم بالمال والمعونة ولا تساعدهم بالدسائس ونشر الدعوة، فما هي إلا أسابيع معدودات حتى نفِدت أموال الشيوعيين الألمان، وعجزت صناديقهم عن إطعام العمال العاطلين، وعن بذل الأجور والمرتبات للموكَّلين بشئون الحزب والداعين إلى نشر مبادئه حيث يقدرون لها الرواج والإقناع. فتحولوا ألوفًا ألوفًا إلى معسكرات النازيين، إلى المعسكرات التي كان ملوك الصناعة في تلك الآونة يترعون صناديقها بالإتاوات والإمداد، ويهيئون لها شراء المعدات والأجساد بالأطعمة والأزواد!
وأعجب من هذا أن تجيء المعونة بعد المعونة لهتلر وأشياعه من موظفي الدواوين وهم أيدي الحكومة وعيونها، والمفروض فيهم أنهم أنصارها وأعوانها على أعدائها. ولكنهم كانوا — إلا قليلًا — جنود العهد القديم وتلاميذ الاستبداد، فبذلوا لهتلر وأشياعه قصارى ما استطاعوا أن يبذلوه، وما هو بقليل.
فلما قضى القضاء على هتلر بالسجن خمس سنوات (١٩٢٣) لأنه شهر السلاح في وجه الدولة وأقدم على العصيان، لم تمضِ عليه تسعة شهور في السجن حتى عفي عنه خلافًا لأحكام القانون التي تُحَرِّمُ العفو عن كل مجرم عائد سومح قبل ذلك في العقوبة ولم يتُب عن مقارفة الإجرام، وكان هتلر قد حوكم وحُكِمَ عليه قبل ذلك بالحبس ثلاثة «أشهر موقوفة التنفيذ» فلم تَحُلْ هذه السابقة دون العفو عنه مرة أخرى بعد شهور قضاها فيما يشبه معيشة القصور. بل لم يقبل المحلفون توقيع الحكم إلا بعد أن أكد لهم رئيس المحكمة أن العفو صادر لا محالة، فلا ضرورة لإظهار القضاء بمظهر المخالف لنص القانون الصريح.
ويبدو من هذا وأشباهه مبلغ الإغضاء والإملاء الذي حف بهتلر وأشياعه وهم ينشرون دعوتهم ويهددون خصومهم ويستكثرون من أذنابهم، آمنين مطمئنين لا يجازفون ولا ييئَسون من المعونة عند الحاجة إليها؛ لأن دستور فيمار قد ألغى حكم الإعدام فلا خوف منه، ثم لا خوف من السجن الذي يعقبه العفو بعد قليل.
•••
ثم أتمت الدسائس في حاشية المارشال هندنبرج ما بدأته الحوادث والأزمات، فانتقلت بهتلر من شغب الطريق إلى ديوان الاستشارة.
وكان المارشال الكبير قد وهن واستسلم، وثقلت عليه وطأة السنين، فأصبح أرجوحة تتردد بين رجلين من دهاة زمانه: أحدهما أمين سره القديم الجنرال فون شليخر الذي قيل فيه إنه أحق بقيادة البحر «لبراعته في إرسال القذائف تحت الماء»، وثانيهما فون پاپن الذي كان يساكن الرئيس هندبرج في قصر واحد، وقيل فيه إن قدرته على خداع المحترسين منه العارفين بخداعه أكبر من قدرته على خداع الواثقين به المطمئنين إليه!
كلا الرجلين كان يريد أن يضرب منافسه ويقضي على نفوذه وأن يستخدم النازيين في مأربه؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يستخدم الديمقراطيين والاشتراكيين وسائر أحزاب الوسط والشمال.
وكلاهما كان يريد السوء بالنازيين ويُضمر لهم الغدر وأن يشطرهم شطرين بعد ارتقائهم مناصب الأحكام، ثم يضرب أحدهما بصاحبه متى سنحت له سانحة قريبة، وكثيرًا ما كانت تسنح في تلك الأيام.
لكنهما كانا مختلفَين في الأسلوب وإن اتفقا في نية الغدر والوقيعة، فكان فون شليخر ينوي أن يرشح نفسه للاستشارة ويندب زعيمًا من كبار زعماء النازيين لوكالة الاستشارة، ثم يتقدم إلى الريشستاج فيقسم النازيين عاجلًا أو آجلًا بين هتلر وبين الزعيم النازي الآخر (وقد وقع الاختيار على جريجور شتراسر منشئ حزب النازي في ألمانيا الشمالية)؛ فينحل الريشستاج ويعاد الانتخاب ويخرج النازيون فريقين ضعيفين يزيدهما هو ضعفًا بسلطان الحكومة الذي يقبض عليه بكلتا يديه، وهو مستشار الدولة.
وكان فون پاپن يريد أن يكرر ما حدث في إنجلترا من ترشيح المستر رمزي ماكدونالد لرئاسة الوزارة؛ رجاء أن يضعف حزب النازي كما ضعف حزب العمال في البلاد الإنجليزية، فاقترح على المارشال الهرم أن يدعو هتلر إلى تأليف الوزارة مع اثنين أو ثلاثة من أنصاره الذين يرضاهم المارشال، وقنع هو بوكالة الاستشارة معتقدًا أنه يملك زمام الأمور بسيطرته على المارشال وتألُّبه مع سائر الوزراء.
ولما طال التنافس بين الخصمين فكر فون شليخر في الانتقاض وائتمر بالمارشال مع بعض القُواد العسكريين وبعض رؤساء العمال الساخطين على النازيين وأحزاب اليمين. فاتفقوا على تدبير إضراب عام يجتمع فيه العمال وحامية بوتسدام ويزحفون على برلين فيتخذون من ذلك ذريعة للحَجر على الرئيس الشيخ وإعلان «حالة الطوارئ» والقبض على دفة الحكومة باسم الضرورة القصوى التي تقتضيها المصلحة الوطنية.
ونمى الخبر إلى فون پاپن الساهر على حركات خصمه، فأبلغه إلى المارشال وأقنعه بوجوب الإسراع إلى دعوة هتلر وإقامته على رأس الوزارة، ولم ينسَ خطته الأولى التي أراد بها أن يحتفظ بأَعِنَّة الأمور في يديه، فاشترط أن تكون له وكالة الاستشارة وأن يكتفي في مجلس الوزراء بعضوين اثنين من النازيين، وهما الدكتور ولهلم فريك والكابتن هرمان جورنج.
وقد كان له ما أراد!
إلا أن الحوادث قد خالفت ما قصد من تدبيره، فجرت الانتخابات الجديدة بإشراف المستشار هتلر على الطريقة النازية المعهودة، وصدرت المراسيم بحل جماعات الشيوعيين، واشتد المرض بالماريشال الهرم فأصبح لا يعي ما يقول ولا ما يقال بلسانه، ثم مات وتبوَّأ هتلر مكانه باسم زعيم الأمة ومستشار الدولة، وأفلتت الأَعِنَّة من يدي فون پاپن فانقاد لسائقيه.
على أن الدسائس، من شليخر أو پاپن، لم تكن هي جماع البواعث التي أكرهت هندنبرج على قبول هتلر في رئاسة الوزارة، وعلى إبقائه فيها بعد ذلك إلى أن كان منه ما كان؛ فقد أكرهه على قبوله باعثان آخران، قد يصح أن يقال إنهما باعثان شخصيان.
أهم هذين الباعثين أن هندنبرج كان يَحذَر المغالين من المحافظين أحزاب اليمين؛ لأنه كان يعلم أنهم يكيدون للنظام القائم ويسعون إلى إعادة الملك سيرته الأولى في سلالة هوهنزلرن، وكان هندنبرج — على نفوره الفطري من هدم نظام يقوم هو على رأسه — لا يحب في تلك الآونة أن يواجه العالم بالتحدي والمناجزة وما يتبعهما لا محالة من تضافُر الدول على ألمانيا وذهاب كل أمل في تخفيف قيودها وإحسان الظن بمقاصدها. فإذا لم يكن بدٌّ من الخيار بين الملكيين أو الشيوعيين أو النازيين الذين لا يرحبون برجعة آل هوهنزلرن؛ فهؤلاء النازيون أَوْلَى بالتجربة! ولا سيما إذا تكفل بكبحهم زملاؤهم في الوزارة من أصدقاء الظاهر أعداء السريرة.
والباعث الثاني هو فضيحة الضِّياع الشرقية كما كانوا يسمونها في تلك الأيام، وخلاصتها أن الحكومة خسرت أموالًا كثيرة من خزانة الدولة بُذلت جزافًا لأناس من أصحاب الضياع الواسعة في بروسيا الشرقية معظمهم أصدقاء أو أقرباء أو جيران للرئيس، وتهامس بعض النواب بهذه الفضيحة ثم لغطوا بها وطلبوا التحقيق فيها، وثارت الثوائر حولها لوفرة المأزومين والمفلوكين والمتطلِّعين إلى قليل المال يُحرَمونه وهم يسمعون بالحكومة تكيله جزافًا لكبار الزُّرَّاع وأصحاب الضِّياع.
فغضب الرئيس على شليخر لأنه لم يفلح في إسكات تلك الأصوات ومداراة تلك الفضيحة، وبدا له أن الحكم على طريقة النازيين بالقمع والإرهاب وقطع الألسنة وكمِّ الأفواه خليقٌ أن يريحه من لغط اللاغطين، وزعم من زعموا أنه قد أخذ لنفسه بعض ما قيل إنه أعطاه الجيران والأصدقاء، وهو زعم ظالمٌ تَكرَّرَ على ألسنة الشيوعيين ولم يثبت قط بالقول الوثيق.
ويرى بعض المُطَّلِعِينَ أن هندنبرج ما كان ليطلق أيدي النازيين في قمع الشيوعيين وحل أحزاب المعارضين لولا انزعاجه الدائم من فضيحة بروسيا الشرقية وأقاويل أحزاب الشمال.
فهذا وذاك وغير هذا وذاك من دسائس الحاشية وطوارئ الزمن، وقد مهدت كلها الطريق لهتلر ووضعت السُّلَّمَ تحت قدميه حيث يريد وحيث لا يريد.
فإذا قلنا إن زعيمًا كمصطفى كمال قد هجم على التيار اللجِّيِّ فشقه بالعزيمة التي تروضه والأيْد الذي لا يباليه، فماذا صنع أدولف هتلر في تياره!
لبس فيه عوَّامة النجاة، ولم يدفع موجة واحدة من أمواجه، بل ذهب مع الموج إلى مدى وَثْبَتَيْنِ من الساحل، ثم وثب إلى الساحل في أمان.
أفكاره وأفكار غيره
وكما حملت الحوادث هتلر على أثباجها إلى ذروة الحكم حملته كذلك الأفكار السياسية التي نشأت في قومه على عهده وقبل عهده بجيل أو جيلين؛ فلم يبتكر قط فكرةً واحدة من تلك الأفكار التي شاعت بين الشعوب الجرمانية وكان لها شأن في توجيه هذه الشعوب وجهتها الأخيرة، ولم ترجع إليه صيغة واحدة من الصيغ التي دارت على الألسنة وكان لها شأن في إذكاء النخوة القومية وإقناع السواد. وما أسهل ما يقنع «عقل» السواد؟! إنه لَيبحث عمَّن يقنعه، بل يبحث عمَّن يخدعه، ولا يهرب إلا ممَّن يفتحون عينيه ويرشدونه إلى الحق الصراح.
وعلى جهل هذا الرجل وفراغ عقله لم تتورع جامعات ألمانيا أن تهدي إليه ألقاب الشرف العلمية والفلسفية، ولم يتورع الأدباء والشعراء أن يهدوا إليه الدواوين والمصنفات؛ تمجيدًا له واعترافًا بسداد آرائه! مما يدل على خليقة مستقرة في دخيلة النفس الجرمانية أن تهتز لأمثال هذه الصيحة، وأن تلبي أمثال هذه الدعوة، ولا سيما بعد الهزائم والأزمات.
كذلك عداوة اليهود لم يكن هتلر أول دعاتها والنافخين في نارها، بل كانت مذابح اليهود في أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية أقدم من مولده بمئات السنين، وكثيرًا ما اقترنت تلك المذابح بأيام الضنك والمجاعة وشح الأموال؛ لأنها أيام تثور فيها الحفائظ ويضطرب فيها الحكم وتؤمن عواقب العبث والاغتيال.
كذلك الصليب المعقوف «شارة النازية» لم يخترعه هتلر بل اقتبسه من الجنود الألمان الذين عادوا به «من فنلندة» بعد أن حاربوا فيها الجيش الأحمر، ولم يتغير منه إلا لونه الأزرق فقد سوَّده النازيون.
على أن حركة القمصان في ألمانيا الحديثة إن هي إلا نسخة مستعارة من حركة القمصان في إيطاليا الحديثة بإشاراتها وشاراتها، مع فارق واحد في تحيتها، وهو أن السلام الروماني في روما معقول، أما في جرمانيا فهو حركة يد بغير مدلول.
وصفة الرجل «التيموقراطي» كما لخصها أفلاطون: «أن يكون غليظًا في معاملة العبيد خلافًا للرجل المهذَّب الذي يترفَّع عن هذا الخلق، وأن يخضع للسلطة ويحبُّ القوة والمجادة، وألا يتذرَّع إلى طلب الحكم بالفصاحة وما إليها، بل يطلبه لأنه مقاتل تفوَّق في أعمال الفروسية وإجالة السلاح، وهو كذلك محب للرياضة والطراد.»
•••
وكان اسم الحزب الذي رأسه هتلر حزب العمال الألمانيين، فندب من قبل الحكومة للتجسس عليه كما قال في كتابه، ثم اقترح على أثر انضمامه إليه أن يسمى الحزب الاشتراكي الثوري؛ محاكاة للاشتراكيين الثوريين في روسيا الحمراء؛ فنفر زملاؤه من هذه التسمية ووقع اختيارهم بعد البحث والمشاورة على اسم «الوطنيين الاشتراكيين» ليتوسلوا باسم «الوطنيين» إلى اجتذاب أنصار اليمين، وباسم الاشتراكيين إلى اجتذاب أنصار الشمال، وليصبح الحزب بهذه التسمية قابلًا لاستغراق الألمان جميعًا في يوم من الأيام.
فمن أي وجه نظرت إلى الرجل لم يسعك أن تحسبه زعيمًا لألمانيا لأنه خلاق حوادث أو خلَّاق أفكار، ولم يسعك أن تحسبه زعيمًا لأنه أقدر من فيها وأشرف من فيها. وغاية ما يسعك أن تقوله على التحقيق إنه تقلد زعامتها لأنه «أنسب» من غيره لظروفها، وفرقٌ عظيم بين الأقدر والأنسب؛ لأن المرء قد يناسب الظروف لنقص فيه كما يناسبها لخصلة من خصال الكمال والاقتدار.
لا يخطئ
أشاعت الدعاية النازية بعد احتلال وادي الرين والنمسا أن زعيمهم لا يخطئ ولا يتردد، فإذا حان الموعد المقدور فلا يستأخر ساعة ولا يستقدم، كل شيء في أوانٍ وكل شيء بحساب.
فلننظر الآن ما هو ذلك الحساب: هل هو حساب عويص بعيد عن التقدير أو هو داخل في تقدير من يريد؟
كل ما حسبه هتلر «أولًا» أنه يستطيع أن يهزم النمسا وأمثالها إذا أراد فتح بلادها، و«ثانيًا» أن الدول الأوروبية الكبرى لا تُقدِم على حرب عالمية في كل لحظة. فهل هذه معضلة وهل هذا حساب؟
من البديهيات أن ثمانين مليونًا يهزمون سبعة ملايين، ومن البديهيات كذلك أن دول العالم لا تهجم على الحرب العالمية في كل ليلة ونهار.
فأين هو الحساب؟ وأين هي السياسة؟
إنما الحساب الصحيح أن يمضي هتلر في سياسته دون أن يوقظ خصومه ودون أن يُلجِئَهم إلى عزيمة الحرب التي ترددوا فيها.
أما أن يضرب النمسا في سنة ١٩٣٨ وتقع الحرب في سنة ١٩٣٩ فليس بشيء يُعجِز عقول الساسة المدبِّرين، وليس هو بسياسة، وإنما هو فعل سلاح.
فإن كان قد فعل ما فعل وهو يعتقد أن الحرب لن تكون، وأن الدول لن تُقدِم عليها، فذلك نقيض الواقع، وذلك أفشل الحساب.
وما من وزير في الدنيا يدخل في تقديره أن يحارب وأن يتورط في الحرب العالمية وألا يبالي عواقب هذه الورطة ثم يعييه أن يفعل كما فعل هتلر في النمسا وبوهيميا وغيرها.
وأفشل الحاسبين يستطيع أن يفعل كما فعل هتلر إذا كان كل حسابه أن يؤخر الحرب سنة واحدة، ثم تأتي لا محالة!
من الذي يعجز عن مثل هذا النجاح؟
من الذي يعجز بثمانين مليونًا أن يهزم سبعة ملايين!
كل المسألة إذن هي: هل يؤدي هذا الهجوم إلى الحرب أو لا يؤدي إليها؟
وهاهو ذا قد أدى إلى الحرب عيانًا لا من باب الظن والترجيح، فأين هو الإعجاز في التقدير والتدبير؟
هذا هو العجز بعينه في عمل السياسة، وهذا هو سوء الحساب وليس هو بإتقان الحساب.
•••
ولننظر مرة أخرى في تقديرات هتلر وأصحابه قبل الحرب لنرى هل هي مثال السداد والإتقان، أو هي خطل ومجازفة من وجهة النظر النازية فضلًا عن وجهات النظر الأخرى؟
فلماذا لم يضرب دانزيج بدلًا من ضرب التشك قبل مؤتمر ميونيخ؟
لم يكن لبولونيا ضمان من دفاع فرنسا وبريطانيا العظمى في تلك الآونة، ولم تكن على استعداد للقتال وحدها كما ظهر بعد ذلك في الحرب الحاضرة.
فإذا ضرب دانزيج واتفقت الدول على خطة مثل خطة ميونيخ فإنه لقابض إذن على زمام بولونيا وبلاد التشك وجاراتها جميعًا في مرافق التجارة والصناعة والاقتصاد؛ فلا تقوى إحداهن على رد كلمة ولا على رفض اقتراح.
ثم لماذا لم يقبل ما اقترحه الرئيس روزفلت وارتضاه ساسة الحلفاء من عقد المؤتمر الدولي الذي يفصل في جميع مسائل الخلاف؟
ألا يجوز أن تختلف الدول في ذلك المؤتمر فيواجهها مختلِفات بدلًا من مواجهتها متفقات؟ ألا يجوز أن ينتزع من أنصار التسليح في الدول الديمقراطية حجتهم الكبرى التي أقاموها على رفضه التحكيم، فلا سبيل إلى معاملته إذن بغير التسليح؟ ألا يجوز أن يعذره الرأي العام في الدنيا بأسرها إذا لجأ إلى الحرب لأنه قد أُكْرِهَ عليها إكراهًا بعد أن جرب وسائل الإقناع فلم يبلغ بها ما أراد؟
كل أولئك كان جائزًا، وكان خيرًا مما اختار.
وكل ما هنالك من اعتراض على هذا الرأي أن إطالة الزمن في المؤتمرات ربما مكَّنت الدول الديمقراطية من زيادة الاستعداد.
فماذا صنع هو الآن؟ هل منع ذلك الاستعداد؟ وهل استفاد شيئًا من المبادرة بالحرب قبل تمامه؟
كلا، بل خسر أشياء كثيرة؛ خسر الوقت الذي كان يزداد فيه استعدادًا بالتموين والتخزين، وخسر الفرصة التي كان يوقع فيها الخلاف بين أنصار التسليح والدعاة إلى نزع السلاح، فلا يجمعون كما أجمعوا — من جراء خطته الهوجاء — على ضرورة التسليح جهد المستطاع، وخسر البلاد التي اضطر إلى تركها للروسيا في أوروبا الشرقية وشواطئ البحر البلطي، وقد كان طامعًا فيها لا مراء.
وربما قيل إنه لا يبالي عواقب ذلك لأنه على يقين من خراب الروسيا بعد موت ستالين، أو بعد الثورة الداخلية التي يتوقعها كثيرون.
فإن قيل هذا فقد كان أحرى أن ينتظر ذلك اليوم فيستريح من الحرب الحاضرة ومن سوء السمعة التي جلبها على نفسه بصداقة الشيوعيين.
•••
الحق أننا لا نعرف في الحاكِمين بأمرهم رجلًا أفشل حسابًا من هتلر في هجومه كل مرة على خطأ واحد يدفعه من ورائه إلى أخطاء.
ولقد كان ذلك دأبه قبل ولاية الحكم وبعد ولاية الحكم، ولا يزال دأبه إلى الآن.
وأخطأ الحساب من نوفمبر في تلك السنة حين ظن أن الفرصة سانحة لقلب الحكومة، فجمع جنوده وأزمع أن يقتحم ديوان الدولة بميونيخ، وهو يعلِّل نفسه بولاء الحراس الحكوميين ويعتقد أنهم من يطلقوا النار على المقتحِمين … ثم خاب ظنه فكان أول الهاربين عند انطلاق النار، ولبث بعد هذه المجازفة الأخرى عشر سنوات يستعيد ما أضاع من ثقة ومن أنصار.
وأما بعد الحكم فقد يكون في تفاصيل عمله خطأ وصواب، لكنَّ الأساس الذي قام عليه العمل كله خطأ لا شك فيه، وهو اعتماده هنا كما اعتمد في ميونيخ على أن خصومه لا يطلقون النار؛ فقد ظن أنه يراوغ ويراوغ إلى غير انتهاء، وأن الدول الديمقراطية تقبل التخدير بعد التخدير إلى غير يقظة، فلم يصدق حسابه هنا ولا هناك.
لماذا اختاروه؟
وقبل أن نسأل: لماذا اختاروه؟ ينبغي أن نسأل: من الذي اختاره؟ وما معنى اختيارهم إياه؟
هل معناه أن ثمانين مليونًا من الألمان اجتمعوا قبل نَيِّفٍ وعشرين سنة فعجموا أعواد رجالهم فردًا فردًا فلم يجدوا بينهم أحدًا أصلح من هتلر للزعامة الألمانية؟
هل معناه أن مؤسسي حزب النازي كانوا يملكون السيطرة على الأمة الألمانية بأسرها فيختارون من يشاءون ثم لا يقدر أحد على أن يرفض لهم أمرًا ولا يسعه إلا أن يفرغ للزعامة التي ندبوه لها وهو يجهل مصيره ومصيرها؟
هل معناه أن مؤسسي حزب النازي أصحاب ميزان لا يختل ولا يخطئ في وزن الرجال، فمن اختاروه للزعامة وجب أن يكون أفضل قومه بغير جدال؟
كلا بالبداهة! لا هذا ولا هذا ولا ذاك.
فليس معنى اختياره قبل عشرين سنة أن الأمة الألمانية اختارته، أو أن المؤسسين لحزب النازي فرضوه على تلك الأمة، أو أنهم وزنوا الرجال جميعًا فلم يخطئوا الميزان.
وإنما معناه الواقع أن خمسة أو ستة من المشتغِلين بالسياسة نظروا في متناول أيديهم فوجدوا هتلر موافقًا لهم وموافقًا للشروط التي يطلبونها.
- فالشرط الأول: ألا يكون من طبقة النبلاء والأسرياء؛ لأن نوبة السخط على هذه الطبقة
قد بلغت أشُدها بعد الحرب العظمى، فهرب أمراء الولايات وقامت في دسوت
الحكومة جمهرة من الصُّنَّاع والمتوسطين، وأصبحت كل حركة سياسية
يتولاها زعيم من النبلاء والأسرياء متهمة بالرجعة إلى القديم
المكروه.
وظل هذا الشعور غالبًا على نفوس الألمان زمنًا طويلًا بين أحزاب الشمال وأحزاب اليمين على السواء، فكتب الكابتن روهم صديق هتلر يقول: «لا ارتداد إلى العهد البائد. لا رجعة. لا معونة لنا تُنتظر من أصحاب السعادات الداثرين، وإنما رجال عمل من جميع الطبقات، وشبان قبل شيء …»
وهتلر كان فقيرًا من طبقة أبناء الموظفين الصغار، وكان في ذلك الحين لا يكاد يعدو الثلاثين، وكان من صف الجند فوق رتبة الجندي بقليل.
- والشرط الثاني: أن يكون خاليًا من الروابط الاجتماعية والأواصر البيتية التي تقيده
بنزعة من النزعات، أو تحول بينه وبين التفرُّغ لحياة المظاهرات وخطب
الأرصفة والميادين.
وهتلر لم يكن يخسر شيئًا بالتفرغ لهذه «الصناعة» التي هي خير من البطالة والفراغ، ولم يكن ينقطع عن واجب بيتي أو واجب أبوي أو بنوي، لغربته وجفاء أهله وعجزه عن الزواج، فهو يربح كثيرًا من صناعة السياسة ولا يفقد الكثير ولا القليل.
- والشرط الثالث: أن يكون موافقًا للبيئة البافارية وهي بيئة محافظة قريبة إلى أحزاب
اليمين؛ لأن البافاريين تابعون للكنيسة الكاثوليكية ونفوذ الكنيسة
بينهم عظيم. وبلادهم أصلح من غيرها لنشوء الحركات المعادية لأحزاب
الشمال. ثم هي بعيدة عن عاصمة الدولة الكبرى التي فيها سلطانها وهيلها
وهيلمانها، فلا يسهل تهديد النظام القائم في برلين كما يسهل في
ميونيخ.
وهتلر كان كاثوليكيًّا في نشأته وإن لم يكن من المتعبِّدين، وكان مجنَّدًا في جيش بافاريا ورائدًا من رواد ميونيخ التي كانت تعد في حيها عاصمة المصوِّرين والموسيقيين، وقد كان هتلر كما نعلم يتعاطى حرفة التصوير.
- والشرط الرابع: أن يكون «مهاودًا» لزملائه أو لا يكون من أصحاب «الشخصيات المخيفة المهيبة المرهوبة» التي يخشون اجتياحها وطغيانها.
وقد كان هذا الشرط متوافرًا كل التوافر في هتلر أيام نشأة الحركة النازية، فيجب أن ننسى هتلر الذي يصول الآن بقوة الدولة وقوة الزعامة التي لا منازع لها ولا نجاة لمن يعصيها، ثم نذكر هتلر الذي كان قبل عشرين سنة محتاجًا إلى كل شيء من مطالب المعيشة ومطالب السياسة، وكان مشهورًا بالدهان والملق لمن فوقه ولمن يملكون أسباب نجاحه.
وليس معنى هذا أن هتلر محروم من العزيمة والإرادة، فهو في الحقيقة صاحب عزيمة وصاحب إرادة، ولكنها من نوع غير ذلك النوع الكاسر الذي يروع الناس لأول نظرة. ولعل عزيمته أشبه ما تكون بعزيمة المرأة الدءوب المِلحاح التي تصل بالدأب والإلحاح والعناد إلى ما تريد، فهي لا تصدم من يراها أول مرة كما يصدمه المَرَدة القهارون من أصحاب «الشخصية» الغالبة، بل لعل الناظر يلحظ عليها التردد والجنوح إلى اللف والمراوغة، فيحسبها طوع يديه حين تحزب الأمور.
وقد أشار هتلر نفسه إلى شهرته بالتردد حين وقف في الريشستاج على أثر مذبحة روهم ورفقائه لتسويغ ما فعله، فقال إن المتآمرين قد غرهم به ما زعموه من «عجزه عن البت السريع عجزًا لا يشفيه إلا أن يضعوه أمام الأمر الواقع.»
وهذا ظن العشراء به، وقد تسنم الذروة التي يستوي عليها الآن. فكيف بما كان عليه أيام الابتداء أيام الشك والترقب والافتقار إلى الأعوان.
إن تاريخ الزعامات السياسية لحافل بأمثال هؤلاء الذين يختارهم زملاؤهم لأنهم أسلم جانبًا وآمن شرًّا وأطوع قيادًا، ثم تتبدل الأحوال دفعة واحدة يوم يستقرون فينقلبون ذئابًا على من حسبوهم نعاجًا لا تفتك ولا تخيف.
•••
تلك خلاصة الشروط «السلبية» التي كانت ترشح الرجل لزعامة النازيين، وهي الشروط التي تستلزم صفات مفقودة وقَلَّما تستلزم صفات موجودة.
أما الشروط التي تدخل في باب «المزايا» الموجودة فهي الخطابة والحماسة والذكاء والاهتمام بالسياسة والإلمام بالمعارف العامة، وكانت موفورة في هتلر لأنه خطيب جهوري الصوت شديد الإيمان بالعصبية الجرمانية عظيم اللَّدَد في الخصومة الحزبية، ذكي اللب مُلِمٌّ بمبادئ الأحزاب المختلفة منذ صباه ونشأته في النمسا التي كانت كأنها «برج بابل» من الدعوات السياسية، تتعالى فيه الصيحات بين المحافظين أنصار البلاط والأسر العريقة، وبين الأحرار طلاب الاستقلال في الأقطار المختلفة التي كانت خاضعة لآل هابسبرج، وبين أشياع الكنيسة ومعارضيها، وبين الاشتراكيين على اختلاف المذاهب والألوان، وبين أعداء الساميين وأعضاء المحافل الماسونية والأندية السرية، فكان حَسْبُ الرجل الذكي أن يفتح أذنيه ويفقه ما يسمع ليجتمع له من المعارف العامة والحجج المتقابلة والدعايات المتناقضة ما يكفي لسلوك الطريق في حركات الجماهير.
وكان اجتماع هذه الشروط مع الشروط الأولى من أندر الأشياء، ولا سيما في متناوَل النازيين وهم مبتدئون مستضعفون لم يبلغوا بعدُ مبلغ الهيمنة على عقول السواد ولا مبلغ الزُّلْفَى عند العلية وذوي الجاه والمال، فلما التقى هتلر بالأفراد القلائل الذين كان يعرفهم وكانوا يعرفونه لم يكن عجبًا أن يرحبوا باختياره واجتماع ما اجتمع فيه من شروط الزعامة الحزبية، فهو طِلبتهم فيما يستطيعون بين تلك القيود.
ويقول الذين عارضوا أسلوب هتلر في كتابه وفي خطبه بأسلوب إكارت هذا إن هتلر قد اقتبس منه عبارات بحروفها وكلمات نموذجية من ألفاظه التي طالما رددها في صحيفته ورسالاته، وإنه اقتدى به في الكتابة والخطابة، واحتذى حذوه في الرأي والطريقة.
وللدكتور شوت هذا كان هتلر يقول: «ليس كل منَّا نحن جميعًا إلا يوحنا صغير … إنني أترقب المسيح.»
وطالما قال هتلر للقائد «لودندرف» إنه لا يريد الرئاسة، وحسبه أن يصبح نافخ البوق … لأنه أحس أن القائد الكبير أحرى أن يتبوأ مكان هندنبرج، وأنه هو حسبه أن يتبوأ معه مقعد المستشار. وقد استقال هتلر فعلًا من زعامة النازي بعد سجنه، وتولاه في تلك الآونة يأس عظيم فأزمع أن يصوم في السجن صيام ماكسويني ليسلك نفسه مع الشهداء، ولولا أن الحركة نامت في حينها نومة طويلة ولم يدعُ الأمر إلى انتخاب رئيس آخر لكان من الجائز أن تنطوي صفحة هتلر وهو مسجون.
فزعامة هتلر على النازيين هذا معناها:
معناها أنه وافق المطلوب في حدود الطاقة، وأنه لما استقر في الزعامة لم يسهل إجلاؤه عنها، ووجب أن يرأس الوزارة حين وجب أن يدعى حزبه إلى الديوان.
•••
ومن هاوسر؟
هو رجل لا تدري أمجنون هو أم عاقل؟ ودجال هو أم درويش؟ فقد كان يسمي نفسه المهدي المنتظر، ورئيس الولايات المتحدة الأوروبية، وينادي بأنه هو الحق وهو السبيل وهو الحياة.
ومن يدري؟ فلعله لو اتفقت له مصادفات كمصادفات هتلر، وكان للدراويش نصيب من السياسة العصرية لفاز بلقب الفوهرر وسبق هتلر إليه؛ لأنه هو أيضًا كان يدَّعيه ويطلب من هتلر مبايعته عليه، وكم في الأيام من مضحكات!
•••
إن ورقة النصيب لا تساوي عشر مليم، ولكن كراتٍ ثلاثًا أو أربعًا تتفق في دولاب الأرقام كافية لإعطائها قيمة الألوف من الجنيهات.
وكذلك تتفق أربع صفات أو خمس صفات متفرقات فيصبح الفرد من الأفراد في قوة عشرات الملايين.
وليس حتمًا من أجل هذا أن يعد هتلر فردًا كسائر الأفراد.
وإنما الذي نقصده أن ننبه المدهوشين المستعظمين حين يسألون: أجندي لم يرتقِ إلى صفوف الضباط يرتقي آخر المطاف إلى ذلك المكان الرفيع؟
إذ ليس لهذا الاستعظام موضع صحيح؛ لأن الرتبة الصغيرة لم تكن هي العقبة التي كان عليه تذليلها، بل كانت هي المَزِيَّة التي ذللت أمامه جميع العقبات، وهي الصخرة التي قام عليها جميع ذلك البناء.
سياسة هتلر
من الأوهام الشائعة أن ألمانيا لم تنجح في ضم السار والرين والنمسا وبلاد السوديت، ولم تحطم ما حطمت من قيود معاهدة فرساي، إلا بفضل القوة القاهرة التي أضفاها عليها هتلر في مدة حكمه.
وهذا خلاف الواقع المؤيد بالأسانيد.
فإن هتلر قد احتل وادي السار بعد الاستفتاء المتفق عليه ولمَّا يمضِ على إعلانه التجنيد الإجباري غير ثلاثة أشهر، ولم يكن خط سيجفريد مبنيًّا في ذلك الحين.
ومصطفى كمال لم ينفق جزءًا من ألف من ربوات الملايين التي أنفقها هتلر على التسليح، واستطاع مع ذلك أن يفتح الآستانة فتحًا ثانيًا وفيها جيوش الحلفاء، وأن يعيد إليها الحصون التي منعت إقامتها بعد هزيمة الحزب العظمى، وأن يلغي الامتيازات الأجنبية والمعاهدات التي سبقت ألمانيا الحديثة ونشأت من أيام سليمان الكبير.
ولما أغار هتلر على النمسا كانت غارته هذه تضارب السياسة الإيطالية والسياسة الروسية كما كانت تضارب السياسة الفرنسية والسياسة الإنجليزية، ولم تكن دولة واحدة في أوروبا الشرقية أو أوروبا الوسطى تستريح إلى وقوع النمسا في قبضة السيادة النازية، فهل يقول عاقل إن هتلر قد نجح في غارته بقوة تفوق هؤلاء جميعًا في ميدان القتال؟
كلا، ليست المسألة إذن مسألة القوة والاستعداد، ولم ينجح مصطفى كمال ولا هتلر فيما صنعاه لأنهما أقوى من الدول التي كانت تأبى ما صنعاه، وإنما سر المسألة كله صعوبة الإقدام على حرب عالمية سواء كان المُقدِم عليها من الحكام الدستوريين أو من الحكام المستبدين.
فالذي صنعه هتلر إذن هو أنه غيَّر هذه الحالة بسياسته الخرقاء، وجعل الصعب سهلًا على الدول في مدى ثلاث سنوات … وما ثلاث سنوات في تواريخ الأمم وحوادث الدنيا؟
فهتلر لم يكن قويًّا يوم أحجمت الدول عن حربه، ولم يكن ضعيفًا يوم نفضت عنها الإحجام ولم تجد بين يديها مناصًا من الإقدام، بل كان أضعف ما كان وهي مُحجِمة عنه، وكان أقوى ما كان وهي مُقدِمة عليه.
فليست القوة إذن هي التي أكرهت الدول على تركه وشأنه يفعل في السار والرين والنمسا والسوديت ما يريد.
وإنما كانت هناك حالة إغضاء فغيَّرها هتلر بحالة المقاومة والعداء.
فإن كان هذا ما أراده فقد نجح.
لكنه يكون في هذه الحالة أخرق من عرفت الدنيا من ساسة الأقوام؛ لأن أحدًا من الساسة الراشدين لا يعمل بيديه ولا يبذل كل ما يملك لتأليب أعدائه عليه، ولو كان على يقين من الظَّفَر الأخير، فكيف والظفر مجهول؟ وكيف وهو بعدَ تحقيقه لا يضمن لصاحبه النجاح فضلًا عن دوام النجاح؟
كلا! ليست سياسة هتلر هي التي أتاحت له أن يفعل ما يشاء، بل سياسة هتلر هي التي جمعت الخصوم على منعه، وأقنعت الأمم — قَوِيَّهَا وضعيفها — أن كل مسلك مع هذا الرجل غير المقاومة والمصادمة لا يفيد.
•••
وليس بصحيح أن ألمانيا انتظرت مكتوفة اليدين حتى أراحها هتلر من أثقال المغارم والقيود التي فرضتها المعاهدات.
فقد أعلنت الحكومة الألمانية في سنة ١٩٣١ أنها لا تدفع شيئًا من المغارم والتعويضات، ثم جاء مؤتمر لوزان فأعفاها منها كل الإعفاء.
وقد تمت في ديسمبر سنة ١٩٣٢ قواعد الاتفاق الخماسي على التسوية بين ألمانيا والولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا وإيطاليا في شروط التسليح والضمان.
وكأنما أحس هؤلاء الساسة أن نجاح بروننج يقضي على آمالهم ويفض الشعب عنهم ويجنح بألمانيا إلى طريق غير طريقهم، فأفسدوا عليه وعلى أمتهم الأمر، وأحبطوا عمله ليقنعوا الشعب بضرورة التحدي والعداء.
وصفوة القول أن استنزاف الثروات والجهود والتسليح والتهديد لم يكن لازمًا لقضاء مطلب من المطالب النافعة، وأنه على فرض نفعه لم يكن مضمون العواقب مأمون المصير.
فليس من المحقَّق أن مصالح ألمانيا أو مصالح العالم تستلزم تلك الأعمال العنيفة التي لا يسلوها هتلر ورفقاؤه. ولكن من المحقق الذي لا شك فيه أن تلك الأعمال جميعًا توافق طبائع أناس مفطورين على العجرفة والقسوة والغدر وتمرُّد الذليل الذي يرضيه أن يهدد ويتوعد، ولو لم تكن ثمة ضرورة للتهديد والوعيد.
وكل عمل من أعمال هتلر ورفقائه نستطيع أن نفهمه إذا فهمنا الحاجة إلى العجرفة والقسوة والغدر والتمرد وسائر تلك الصفات، فليس في عمل منها إذن قليل ولا كثير من الغموض.
لكننا لا نستطيع أن نفهمه إذا قيل إنه لازم للمصالح العالمية والمطالب القومية كائنة ما كانت؛ لأن لزومها مشكوك فيه، ونجاحها كذلك مشكوك فيه.
وإذا كان التفسير الجامع المانع للأعمال المتفرقة المتعددة هو التفسير الصحيح القريب إلى المعقول، ففيما تقدم بيان لحقيقة البواعث الباطنة التي تستفز أولئك الناس إلى الجرائم التي يقترفونها ثم يزعمونها من مصالح العالم أو مصالح الألمان.
وإنك لتسأل: لماذا اعتدى هتلر على الضعفاء وقتل الخصوم والأصدقاء واختار الإرهاب والإرغام دون الإقناع والإرضاء؟ فإذا أجبت أنه فعل ذلك لأنه مجرم النفس، لم تجد عملًا من تلك الأعمال يناقض هذا السبب في بدايته أو منتهاه.
ولكنك واجدٌ مئات النقائض إذا قيل لك إنه قد فعل ما فعل لمجد ألمانيا أو لمجد الآريين، أو لأشباه هذه التَّعِلَّات، ولا ينفي هذا أن أعماله ليست كلها جرائم وفظاعات، فإن المجرمين يعملون في حياتهم أشياء كثيرة غير الإجرام، ولا يتنفسون الإجرام شهيقًا وزفيرًا في اليقظة والمنام.