نفس هتلر
صرفنا معظم الكلام في الفصل السابق إلى بيان «الظروف» التي هيَّأت لهتلر ما تهيأ له من النجاح في قومه؛ لنعزل بين أعماله وضجتها الخارجية، ونعلم ما هو حقه وما هو حق الحوادث، ونوازن بين ما هو من فضل الكفاءة وما هو من فضل المكان الذي ارتفع إليه، ونخلص من ثمة إلى سبر أغواره وأغوار أعماله فنسلكه في مسلكه الصحيح ونقيمه حيث ينبغي أن يقوم.
وسنصرف الكلام في هذا الفصل إلى دراسة طبائعه وأخلاقه وبواعث تفكيره وهواه، فيكون سؤالنا في هذا الفصل: لماذا اختار هذا الطريق؟ وقد كان سؤالنا في الفصل السابق: كيف تمهد له هذا الطريق؟
وفي هذا العصر الذي شاع فيه علم النفس واتَّصل فيه طب العقول وطب الأجسام يندر أن يشتهر إنسان بما يثير النفوس دون أن توضع نفسه هو موضع الفحص الطبي والدراسة العقلية، ليتبين الباحثون دلالة أعماله ويتعرفوا نصيبها من الصحة والاستقامة أو نصيبها من المرض والشذوذ.
وقد لوحظ على هتلر كثير من عوارض هذه الأنوثة المريضة لأنه يبكي ويمرح حين يشاء، ويغضب ويصخب لأتفه الأشياء، ويثير شعور سامعيه أبدًا ثم لا يزودهم يومًا بزاد من الفكر المُقنِع والرَّوِيَّة الهادئة في غير سخط واهتياج، ويشبه المرأة في تركيب جسمه لضِيق كتفيه وضخامة ردفيه، وقلة العضل في تكوين أعضائه مع عنايته بتصفيف طُرَّتِهِ وتنميق أظافره، وندرة ما يبدو عليه من دلائل الرجولة في اتصاله بالجنس اللطيف، وكثرة ما يعهد من كيده وولعه بالإيقاع وإثارة الشحناء والغيرة بين المحيطين به على نحو ما تصنع المرأة المتبوعة بين المحيطين بها، وهذا إلى صبره الطويل على كل ألم في سبيل الظهور والزينة والمتعة بالتفاف الأنظار، كوقوفه خمس ساعات ممدود الذراع أمام المواكب التي تُحَيِّيهِ وتومئ إليه، وهو نوع من الصبر يُعهد كثيرًا في النساء ولا يعهد في الرجال.
وصاحب الشخصية المزدوجة يتناقض في تفكيره وشعوره كأنما تصدر أفكاره وأحاسيسه من مصدرين أو من شخصين مختلفين؛ فهو حينًا سديد الرأي وحينًا شديد الخطل، وهو تارة وديعٌ لينٌ وتارة شرس عنيد، وساعةً يُحجِم ويتردد وساعة أخرى يهجم ويتعسف، وقد يعالج الأمور علاج الحالم المؤمن ثم لا يلبث أن يعالجها علاج المتشكِّك الذي لا يقنع بغير الواقع الملموس.
ويشفع الكاتب كل صفة من هذه الصفات بما يدل عليها من كلام هتلر أو من عاداته المعروفة وحركاته المشهورة، فيحكم عليه بالمرض الهستيري وزيغ التكوين.
وللطب العقلي مدرسة أخرى غير مدرسة المباضع والعقاقير ومستشفى المجاذيب على طراز البيمارستان القديم، وهي مدرسة التحليل النفساني على مذهب فرويد ومذاهب تلاميذه الذين اقتبسوا منه أساس الفكرة وإن ناقشوه في أجزائها أو اختطوا لأنفسهم بعد ذلك خطة جديدة.
فلهذه المدرسة أيضًا كلمتها بل كلماتها في مزاج هتلر وتركيب عقله وسريرة أخلاقه.
فمنهم من يقول إنه رجل مكبوت الغرائز الجنسية لِعِلَّةٍ في تكوينه يدل عليها أنه لم يتزوج ولم تُعرف له صلة مألوفة بالنساء؛ فهو مِن ثَمَّةَ يرى في حب السطوة والقسوة منطَلَقًا لغرائزه المكبوتة ينفِّس به عن ذلك الكبت الأليم.
ومنهم من يقول إنه كان طفلًا مدللًا أَلِفَ التدليل من أُمِّه والشدة من أبيه، فنشأ مضطرب الأهواء، يغلب عليه التدليل حينًا فلا يطيق المعارضة ولا يزال ينتظر من الدنيا التمليق والموافقة كأنها مطالبة بإشباع نهمته من هذه العادة، ويغلب عليه الامتعاض تارة أخرى فيحب التمرد والانتقاض والثأر لنفسه مما أصابه في طفولته وصباه.
ومنهم من يقول هذا وذاك ويزيد عليه أن محنة الفقر والتشرد في الشباب الباكر قطعت ما بينه وبين الناس من رَحِمٍ ومحبة وعوَّدَته سوء الظن وضعف الثقة بالمودة والوفاء، فأصبح غير صالح لمبادلة الأفراد عطفًا بعطف وإخاء بإخاء، وانحصرت علاقاته ببني الإنسان في صورة الجماهير والجماعات؛ فإما أن يحيا في الحركات السياسية التي تقوم على الجماهير والجماعات وإلا فليست له حياة! وإما أن يستيئس في طلب الحركة السياسية وإلا فليس في بيئته الفردية متسع للعطف والشعور، وكل ما تتسع له تلك البيئة الفردية بمعزل عن السياسة فإنما هو والخيبة والنضوب.
ومنهم من يرجع إلى الوراثة من والديه، ومن جهة أبيه خاصة؛ لأنه كان رجلًا مزواجًا تموت له الزوجة فلا تنقضي أشهر حتى ينساها ويبني بغيرها. وكانت أم هتلر ثالثة زوجاته بنى بها وهي في نحو السابعة عشرة وهو في نحو الأربعين، وولدت هتلر وهي في التاسعة والعشرين وهو في الثانية والخمسين. وقد مات بضربة فالج، وقيل إنه مات وهو يتعاطى الخمر في حانة.
ويلاحظ هؤلاء النفسانيون أن هتلر — على إفاضته في بعض أخبار صباه — يقتضب الكلام اقتضابًا عن أبيه وأهله، ولا يبدو عليه الارتياح إلى هذه السيرة فيما يكتبه أو يتحدث به لتابعيه وخاصة رفقائه؛ ففي الأمر لا شك سِرٌّ مجهول غير ما هو معلوم ممَّا تقدم، وفيه الكفاية للدلالة على انحراف الصفات الموروثة.
ويربط بعضهم بين هذا السر المجهول في نشأة هتلر وبين تكرار الكلام في كتابه عن الأمراض السرية و«سوط عذابها» المُنْصَبِّ على أبناء زمانه، ويتساءلون ولا سبيل عندهم إلى اليقين: ألا يجوز أن يكون اختلال الغريزة الجنسية واهتياج الدماغ عند هتلر متَّصلين بسر من تلك الأسرار؟
•••
هذه الدراسات النفسانية والطبية كثيرة مستفيضة في جميع اللغات الأوروبية لا ضرورة لحصرها ولا للاستشهاد بأكثر من النماذج التي استشهدنا بها للإلمام بما يقال في سبيلها.
ولسنا نريد أن نُعَوِّلَ عليها وحدها دون التعويل على ما يزكيها من الوقائع الواضحة التي لا تحوجنا إلى مشرحة الطبيب أو معجم المصطلحات الفنية.
ففي اعتقادنا أن أصدق الأوصاف العلمية في دراسات النفوس هي تلك الأوصاف التي تستغني عن المصطلحات وعن لغة المعامل والمشرحات؛ لأن الأخلاق الإنسانية لم توضع في مجمع علمي ولم تتقرر بعد الكشف الطبي على من وضعوها في الأجيال الغابرة والأجيال الحاضرة. فقد كان في ملايين الملايين الذين وضعوها أناس يجوِّزون امتحان الأطباء وأناس لا يجوِّزونه ولا يحسبون من الأقوياء ولا الأصحاء. وإنما وُضعت أخلاق بني الإنسان بتجاوب الشعور وتجاوب الأحقاب والأعقاب، فملاكها ولا شك هو النفس العاطفة القادرة على مجاوبة من حولها وما حولها مجاوبةً متصلة مستقيمة فيما تؤديه وفيما تتلقاه.
فإذا امتحن الأطباء رجلًا فلم يجدوا عيبًا في وظائف جسده ولا في مجس أعصابه وعضلاته ثم ظهر أن هذا الرجل يحس بالغضب ولا يحس بالرضا، أو يشعر بما يؤلمه ولا يشعر بما يؤلم غيره، أو يقدر على إدراك عاطفة ويعجز عن إدراك عاطفة مثلها، فالوصف الصادق لهذا الرجل أنه ناقص وإن قال الأطباء إنه لا نقص فيه.
ثم هو ناقص وإن لم ينجم عن نقصه ضرر، كما نحكم بالنقص على الجهاز الكهربائي الذي يسمعنا الأحاديث في وقت ولا يسمعنا في وقت آخر، ولو لم تكن هنالك فائدةٌ من السماع أو ضرر من عدم السماع.
فملاك الأخلاق الصالحة نفس صالحة للشعور قادرة على التَّلَقِّي والأداء، وقد تنفعنا البحوث الطبية في التعليل والتفسير إذا عرض لنا ما يحوجنا إلى تعليل وتفسير. أما إذا كانت الأخلاق الماثلة أمامنا غنية عن تعليلها وتفسيرها فهي إذن مفهومة مدروسة بغير حاجة إلى معمل أو امتحان.
وسنتوخى هذه السُّنة دون غيرها في دراسة نفس هتلر وتقويم عمله وكلامه، نتوخاها لوزن الرجل لا لترجمة حياته؛ فإن وقائع التراجم تتشابه وتتكرر في ألوف السِّيَر، وتتشابه وتتكرر في سيرة الرجل الواحد، ولا تميزه إلا طائفة محدودة من وقائعه وأقواله.
التربية والنشأة
وتزوج ألواز بثالثة نسائه «كلارا» أم هتلر وهو في نحو الأربعين وهي لم تتجاوز بضع عشرة سنة كما تقدم، وكانت خادمة لزوجته الأولى ثم فَرَّت إلى «فيينا» وهي صبية صغيرة، وعادت إلى موطنها بعد فترة مجهولة الأخبار، فخطبها أبوه.
وتربية هتلر من مولده إلى شبابه تربية صالحة لتفسير حياة رجل جامح النزعات متناقض الأحوال؛ لأنها لم تَجْرِ على استواء واحد بين تدليل الأم وصرامة الأب، وهي صرامة كانت تشتد وتعنُف كلما لمح من ابنه رغبة في احتراف التصوير والعيث في معيشة الإباق والتشرُّد، وهو يعده لوظائف الحكومة ويرشحه لمستقبل رتيب.
وكانت أمه أصغر كثيرًا من أبيه كما تقدم، ولكنها على صِغَرِ سنها كانت متوعِّكة شاكية كما قال هتلر في كتابه، ولم تكن قوية العزيمة لأنها كانت تضعف عن تأديب ولدها والاشتداد عليه، وقد ماتت في نحو السابعة والأربعين، وهي سِنٌّ لا تدل الوفاة فيها على صحة وافية.
ولم يكن أبوه متين البنية ولا كان قدوة في الوفاء وضبط النفس وبراءة النشأة، بل كان عرضة لنوبات الفالج تعتريه من حين إلى حين، وكان سريع الزواج بعد وفاة زوجاته، وكانت ولادته كما تقدم في غير مهد الزفاف المشروع.
ومات أبوه وهو يناهز الثانية عشرة فأصبح عالة على أمه الأرملة بضع سنوات، ينتظم في الدراسة فترة وينقطع عنها فترات، وسرعان ما أصيب في معيشة الطواف والتشرد بمرض صدري أعفاه من الدرس ومن التجنيد، فتمت له بُغيته من ترك الدراسة واجتناب الامتحان.
وحاول أن يلتحق بمدرسة الفنون في عاصمة النمسا فلم يقبله الأساتذة لأنهم لم يلمحوا في صوره مسحة من مَلكة المصور الصناع.
وكثيرًا ما ظلمت مدارس الفن نابغًا في صباه ثم أنصفته الدنيا وعُرِفَ قدره بعد حين، إلا أننا لا نعتقد أن أساتذة فيينا ظلموا هتلر حين ردوا صوره ويئسوا من فلاحه؛ إذ ليس أدل على صواب رأيهم من إعراضه الباكر عن الفن واستغراقه في السياسة، وهو ما لم يحدث قَطُّ في تاريخ فنان عظيم مفطور على الخلق والإبداع في عالم الفنون.
فلما ردته مدرسة فيينا قنع بالنقش والتخطيط وبدا له في بعض هواجسه أنه على مثال «ميكال أنجلو» بنَّاء ومثَّال وليس بمصور لوحات وناقش ألوان، وساوره من المرارة والضغن ما يلحق بالغرور المصدوم، فامتلأت جوانحه بالسخط والإنكار.
ثم ماتت أمه وهو في نحو الثامنة عشرة عاجز عن كسب رزقه بسعيه واحتياله. فأوى إلى بيوت الصدقة ومدَّ يده بالسؤال، واجتهد في جمع قوته بنسخ الصور ونقش تذاكر البريد، فلم يظفر من هذه الصناعة بطائل، ولجأ أحيانًا إلى جرف الثلج في الشتاء وحمل الحجارة في العمارات، وهو الرجل الذي كان يعتقد أنه خليفة ميكال أنجلو على هندسة البناء.
وتقضت شبيبته وليس فيها أثر من رحم القرابة أو أُنس الصداقة، فمضى عليه في الحرب العظمى أربع سنوات لم يكتب رسالة ولم ترِد إليه رسالة، ولاحظ زملاؤه أنه كان يرقب توزيع الرسائل والهدايا بشيء من الحرد والتمرمر، فيأبى أن يأكل معهم من أزوادهم حردًا وتمرمرًا في الحقيقة لا أنفة وعزة؛ لأنه لم يأنف أن يأكل خبز الصدقة وأن يبسط اليد بالسؤال.
وكانت علاقته بالنساء ولا تزال محفوفة بالغرابة والغموض، فلم يتزوج ولم يعاشر معاشرة أزواج. وقيل إنه لا يزيد على لمس زنود الحسان والجلوس إلى جانبهن، وإنه لا يتعلق بعاطفة من قبيل الألفة والمحبة.
وجملة ما يُفهم من هذه الأحوال أنها أحوال رجل زائغ الطبيعة ناضب العاطفة، منقطع الصلة «الشخصية» بينه وبين أبناء جنسه، مستعد للبغضاء وليس بمستعد للمودة والوفاء.
كتب هتلر إلى صديقه وزميله روهم في ذكرى الثورة النازية الأولى خطابًا يقول فيه: «يهز نفسي في هذه الذكرى الأولى — يا عزيزي إرنست روهم — أن أشكر لك خدماتك التي لا تفنى للحركة الوطنية الاشتراكية والأمة الجرمانية جمعاء، وأن أؤكد لك مبلغ حمدي للعناية الإلهية التي أتاحت لي أن أدعو رجلًا مثلك صديقي وزميلي.»
وبعد أشهر قليلة قتَل هتلر هذا الصديق والزميل ومئات من رجاله شر قتلة، ووصمه بكل رذيلة من الرذائل التي كان يعلمها ويعتذر عنها بين أصحابه، ولا تمنعه أن يفخر بالصداقة والزمالة للعزيز إرنست روهم. ولم يتقدم هتلر بوثيقة واحدة تُسوِّغ تلك المجزرة الجائحة فيما بين يوم وليلة، مع استيلائه على أَزِمَّة البحث والتحقيق في البلاد الألمانية بأسرها.
وكان هتلر يقول عن القائد فون بلومبرج إنه هو الصديق «الذي لو تركني لقذفت بنفسي من النافذة» ثم ترك هو فون بلومبرج لسبب يدعو إلى التساؤل الكثير، وهو أنه تزوج من فتاة قيل عنها إنها سهلة الأخلاق تعمل في خدمة هيملر رئيس الجواسيس المشهور.
وموضع التساؤل الكثير هو أن هتلر وجوربح حضرَا الزفاف بل كانا شاهديه الوحيدين. فهل يعلم هيملر بحقيقة الفتاة ولا يخبر رئيسه قبل الزفاف وهو الرجل الذي يتتبع خطواته ويتأثَّر حركاته في ذهابه وإيابه؟ وهل يغتفر هتلر هذه الزَّلَّة لرئيس الجواسيس ولا يغتفرها للزوج المخدوع؟ وهل كان القضاء على مستقبل بلومبرج هو حل المسألة الوحيد؟
أيًّا كان ذنب روهم وبلومبرج وعشرات الأصدقاء الذين انقلب عليهم هتلر مثل هذا الانقلاب فهناك أمثلة أمامنا على هوان الصداقة عند الرجل، وليس هناك مثل واحد على صداقة واحدة بينه وبين إنسان من الناس غير صداقة المتآمرين المشتركين في مكيدة واحدة.
ولم تؤثر في سيرته من طفولته إلى أيامه هذه مأثرة واحدة من مآثر اللطف والنبل وكرم السجية، وليس في كلامه ولا عمله إلا العداء و«التعاون» على الانتقام والإيذاء. ولم يُعهد فيه قط أنه غلب فظهر منه العفو والرحمة بمغلوبيه من الأفراد والأمم، وكل ما في نشأته الأولى يدل على أن خلق الغدر فيه ليس بغريب.
روى بعضهم أنه يحب الكلاب والعصافير والأطفال، ويحمل صورة أمه حيث سار.
والكلاب التي شوهدت معه أكثرها كلاب حراسة، فهي أحرى أن تدل على حبه لنفسه وحذره من أبناء جنسه.
وحبس العصافير قد يدل على كل شيء إلا العطف عليها؛ لأن ألم المخلوق الذي ركب الله له جناحين لذَرْعِ الفضاء وهو محبوس في شبرين، أمر لا يحتاج إلى خيال كبير.
على أنه لا حب الكلاب والعصافير، ولا حب الأطفال والحنين إلى ذكرى الأم، بالعلامة على العطف السليم ما لم يقترن بقرائن النبل ومكارم الخلق وفضائل السماحة.
فكثير من «الهستيريين» يألفون الحيوان ويتعهدونه بالتربية، ما نفع وما ضر وما كرُم وما خبُث، حتى الأفاعي والثعابين. ولا يُعوَّل لهم فيما وراء ذلك على مودة وشعور وثيق.
فإن لم تكن ألفة الحيوان مقرونة بشواهد الرحمة حيث وجبت الرحمة فهي دليل على فقر الشعور لا على وفرته وغناه ونبل مغزاه؛ لأنها دليل العجز عن كسب المودة بمجهود عظيم. فلماذا غابت أدلة البر كلها ولم يبقَ لها من دليل في نفس هتلر إلا البر بذكرى أمه؟ وإلا ما يقال من مودته للطفل والكلب والعصفور وهي الخلائق التي يشتري مودتها ولا تكلفه من جانبه مودة إنسانية كبيرة؟ سبب واحد يفسر ذلك أوضح تفسير وأصدق تفسير، وهو أن المودة الإنسانية في نفسه ضعيفة، وأنه لم يكسب إلا مودة الأم التي تحب ابنها لغير فضيلة فيه، ومودة الأطفال والعصافير والكلاب التي تمنح مودتها بغير جهد عظيم.
فالتعلُّق بالأم وبالطفل وبالعصفور وبالحيوان الأليف علامة نبل النفس وغزارة العاطفة إذا كانت علامة من علامات كثيرة، أي إذا عمَّت شواهدها وفاضت ينابيعها حيثما جرى مجراها. أما إذا انحصر الأمر في هذه العلامة الواحدة فهو على نقيض ذلك دليل الأنانية وشح النفس والمساومة الرخيصة على كسب العطف والولاء بأرخص الأثمان، فضلًا عمَّا يكون له من الطبيعة الهستيرية التي لا تستغرب منها أشباه هذه البدوات.
أين العدو الذي عفا عنه هتلر؟ أين الصديق الذي يدَّخر له بقية من الخير بعد انقلابه عليه؟ أين الأمة التي غلبها فأظهر لها دخيلة من دخائل نفسه غير القسوة والغطرسة والتنكيل؟ أين هو الشاهد الواحد الذي يُرِينَا أنه يقسو مضطرًّا ولا يبحث عن القسوة حيثما أتيحت له للذَّتِه وجنوحه إليها؟
إذا رأينا هذا ورأينا معه ألفته للعصافير والكلاب فهنا عاطفة سليمة وهنا شعور نبيل. أما إذا بحثنا عن العاطفة وعن الشعور فلم نَرَ لهما أثرًا في غير العصافير والكلاب فتلك هي وساوس الهستيريا وعوارض الأنانية ونقص التركيب.
شجاعته
يلبس هتلر نوطًا واحدًا على صدره، هو نوط الصليب الحديدي «الذي يقول بعضهم إنه من الطبقة الأولى، ويقول الآخرون إنه من الطبقة الثانية».
ويروي أتباعه أنه استحقَّه بعمل من أعمال الشجاعة النادرة في الحرب العظمى، وهو أنه هبط مع زميل له على اثني عشر جنديًّا فرنسيًّا في خندق قريب من الخطوط الألمانية، فساقهم إلى الأسر جميعًا بسلاح واحد، وهو الرامية التي يحملها الجنود.
والرواية لم تثبت قط في سجل من سجلات الحرب الألمانية، ولا نخالها قابلة للإثبات، فهي أقرب إلى الهزل منها إلى الجِد الرصين.
ومما يلفت النظر في أمر هذا النوط الذي يعتز به هتلر اليوم أنه لم يذكره قط في كتابه الذي ذكر فيه ما هو أهون وأصغر من هذا الشرف البارز، وأنه لم يترقَّ قط إلى رتب الضباط مع افتقار الجيش الألماني إلى الضباط المترقِّين من صفوف الجند المتعلمين في مراحل الحرب الأخيرة.
التي لا تستلزم الالتحام في الهجوم، ولو أنه أصيب بأقوى من هذه الغازات لما سلم نظره ولا زالت آثاره كل الزوال كما ثبت من امتحان عينيه.
ويذكر هتلر غير ذلك من الأحاديث التي تحيط بها شكوك ولا تقل عن هذه الشكوك!
على أن الحرب العظمى شيء بعيد، والحديث عنها عرضة للنسيان والمناقضة والادِّعاء، وفي تاريخ هتلر واقعة مؤيَّدة في المحاكم والسجلات بشهادة الشهود والحاضرين، وهي واقعة ميونيخ التي حاول بها إسقاط الحكومة ثم صدمته طلقات النار من حراسها فلاذ بالفرار.
قال شهود العيان في تلك الواقعة إن لدندورف وجورنج صمدَا لطلقات النار، فأُسِرَ لدندورف وجُرِحَ جورنج ثم نجا بنفسه إلى ما وراء الحدود. أما هتلر فسرعان ما سمع الطلقة الأولى حتى طرح نفسه على الأرض فجأة بغير احتراس، فانخلعت كتفه لشدة الوقعة وتقرر ذلك في الكشف الطبي الذي أُجْرِيَ عند اعتقاله، وكأنما كان يحسب حساب الفرار قبل الهجوم فأوصى سيارة أن تلحق به وركبها وحده دون أن ينتظر فيها إنقاذ أحد من زملائه في تلك المخاطرة.
وقد كان فرار هتلر حقيقة لا تقبل الجدل ولا الاعتذار، فلما أكثر خصومه تعييره وتبكيته خطر له بعد بضع سنوات أن يرحض عنه مسبَّتها ويقطع جريرتها، فصعد يومًا على منبر الخطابة وإلى جانبه غلام ناشئ قدَّمه إلى السامعين وقص عليهم أسطورة له لا تقبل التصديق: خلاصتها أنه كان قد وجد الغلام في الطريق — وكان طفلًا يوم هجمة ميونيخ — فأشفق أن تصيبه النار وحمله مهرولًا لينقذه من الموت، ونسي هتلر أنه كان مخلوع الكتف في ذلك اليوم، وأن العظام المخلوعة لا تطيق اللمس الرقيق فضلًا عن حمل الأطفال والعدو بهم عدة أمتار، ونسي أن قصة الغلام كانت مجهولة كل الجهل لا يشير إليها أحد من المدافعين عنه في الفترة بين يوم الهجوم ويوم الخطاب!
وقصارى القول أن شجاعة هتلر لم تثبت قط ثبوت اليقين، ولم تعلُ قط على مظنة الشك والإنكار، ولم نعرف لها مؤيِّدًا من مسلكه الطويل في قيادة الأمة الألمانية، وهو يحيط نفسه بالحراس والجواسيس ويوشك أن يتحصن من أقرب المُقرَّبين، مما لم يعهد له نظير في سراديب أجبن القياصرة والخواقين.
مبلغ صدقه
وللعلم بمبلغ الصدق في خلق الرجال السياسيين لا يصح أن نسأل: هل كذبوا أو لم يكذبوا؟ فإن الرجل السياسي قد يكذب وطبعه صادق، وقد يلجأ إلى الكذب حين يلجأ إليه وهو مغصوب كما يفعل الإنسان وهو يتجرَّع الدواء العلقمي، لضرورة من ضرورات الداء.
وإنما يكون السؤال: ماذا يكلفه الكذب؟ هل يكذب وهو مستريح أو يكذب وهو مكره متبرم؟ وهل يسترسل في كذبه أو يقتصد فيه اقتصادًا على قدر المصلحة الموقوتة؟ وهل يتجاوز الحد في اختلاقه أو يكتفي بكتمان الحقيقة وتلوينها بغير لونها؟
فالسياسة كالحرب خدعة، وليس كل كلام يقوله السياسيون صادقًا جِدَّ الصدق في حرفه ومعناه. فيجب ألا تحكم على السياسي بكذب كلامه، بل الواجب أن تحكم عليه بحالته وهو يكذب، فإن هذه الحالة لهي التي تبين لنا هل هو رجل صادق يشذ في كذبه أو هو رجل كاذب يطَّرد في قياس عاداته حين يختلق ما يختلق من الأكاذيب والأراجيف.
فإذا رجعنا إلى هذا القياس مع هتلر فكيف نجده في كذبه؟ إنه لم يكذب قط كما يتجرع المرء الدواء الكريه، ولم يكتفِ قط من الكذب بمقدار معقول، ولكنه يكذب كمن يكرع من شراب لذيذ يعب منه عبًّا ويخشى أن تنزع كأسه من يديه!
فانظر مثلًا إلى قوله عن الروسيا: «إن دولة واحدة فقط هي الدولة التي أشمئِزُّ من الاتصال بها أية صلة على الإطلاق. تلك الدولة هي روسيا الشيوعية.» ١٣ سبتمبر سنة ١٩٣٧.
أو قوله عنها: «سنمضي عهود المسالمة مع جميع أمم العالم ما عوملنا معاملة الإنصاف. إلا في الشرق فلن ندخل في عهود من هذا القبيل؛ إذ إن الجرمان لن ينافحوا عن البلاشفة، ولن يخطوا خطوة واحدة في مثل هذا الكفاح. ولخير لي أن أَشنُق نفسي من أن أطأ بقدمي هذا الطريق الوبيل.» مايو ١٩٣٥.
وانظر إلى قوله عن المعاهدات: «إن ألمانيا لن تسلك سبيلًا غير السبيل التي رسمتها المعاهدات، وستبحث الحكومة الألمانية جميع المسائل الاقتصادية والسياسية في نطاق المعاهدات وعلى حسب مقتضاها … وليس في الألمان من يفكر في غزو أمة من الأمم.» ٢٧ مايو سنة ١٩٣٣.
وانظر إلى قوله: «إنَّ زَعْمَ الزاعمين أن الريخ الألماني يدبر الخطط لإكراه الحكومة النمسوية لهو زعيم سخيف لا برهان عليه … وإني لأدفع بكل قوة ذلك الادِّعَاء الذي تدعيه الحكومة النمسوية عن تدبير غارة أو شروع في غارة على بلادها. وما فتئ الريخ الألماني على استعداد لبسط يد المَوَدَّة والتفاهم الصحيح فيما يكفل حرية الألمان النمسويين، وهو على أتم استعداد — وقد انتهت مسألة السار — لرعاية ميثاق لوكارنو حرفًا ومعنى غير قانع برعايته من حيث المعنى وكفى!» ١٣ يناير ١٩٣٤.
وانظر إلى قوله: «إن عهد المفاجآت قد انتهى اليوم.» أو إلى قوله عُقَيْبَ ضم السوديت أن ألمانيا لا تطلب بعد الآن أرضًا في القارة الأوروبية!
أو انظر إلى عشرات من أمثال هذه التصريحات التي لا يقتصد فيها أقل اقتصاد ولا يعني بها إلا نقيض معناها، كعهوده لأصحابه وعهوده لجاراته من أمثال الدنمرك وبلجيكا وهولندة وغيرها، فهل هي كلام رجل يكذب مُكْرَهًا مقتصدًا أو هي كلام رجل يكذب بغير حساب ولا يبالي أن ينقض فعله أقوى توكيداته وأقسامه؟
وليس هذا شأنه في وعوده «الخارجية» وحدها، بل هو شأنه في جميع الوعود والتوكيدات.
فقد أكَّد لمدير الشرطة ووزير الداخلية في ميونيخ أنه لا يعمد إلى انقلاب ما عاش، فلم تمضِ أيام حتى عمد إلى انقلابه المشهور.
وأكد للرئيس هندنبرج أنه يؤيد الوزارة القائمة بعد الانتخاب فنقض توكيده في اليوم التالي لظهور النتيجة الانتخابية.
وأكد للأمة الألمانية أنه في غنى عن تكرير مذابح برتلماوس اكتفاءً بأحكام القضاء، ثم أدار الذبح في أنصاره وخصومه بغير تحقيق ولا محاكمة ولا إعلان أسباب.
ولا موجِب في الواقع لإحصاء أكاذيبه وتسجيل نقائضه بعد أن أعلن بلسانه شريعة الكذب في إنجيل دعوته حين قال: «إن الألماني لا يدرك على الإطلاق أن الأمة لا بد أن تُخدَع وتُضلَّل للظفر بإخلاص الدهماء …» أو حين قال: «إن من دواعي تصديق الأكذوبة مبلغ ضخامتها، فإن الدهماء في سذاجتهم ليقعون فريسةً للأكذوبة الكبيرة قبل الأكذوبة الصغيرة.»
ولقد نفى المذيعون الألمان روايات روشننج التي نقلها عن هتلر ونسوا أن الرجل لم يقل إلا بعض ما تقوله أفعال الزعيم وأحاديثه وعاداته في نقض وعوده. فمن هذا الذي نقله روشننج أن هتلر قال له بعد توكيد من توكيداته المشهورة: «إنني على استعداد لتوقيع كل اتفاق وضمان كل حَدٍّ وتأمين كل من شاء بميثاق من المواثيق؛ فإن التحرج من استغلال هذه الأمور لهو فكرة بلهاء …»
فهل كذب روشننج في الرواية؟ ليكن؛ فهو مع هذا لم يزِد مثقال ذرة على ما علم الناس من أفعال هتلر وعاداته التي يُعلِنها للملأ في بلاده وغير بلاده، ولا يُفضي بها سرًّا لصفوة الزملاء وراء الجدران.
فهو رجل يستمرئ الكذب غير مقتصد فيه وغير مبالٍ بعقباه، وليس الكذب عنده جرعة دواء مكروه، ولكنه شراب سائغ يعب فيه ظمآن.
غرابة الأطوار
يراد الإنسان على بعض الأشياء.
ويريد هو بعض الأشياء.
والأشياء التي يراد عليها ويُساق إليها ليست هي التي تكشف لنا دخيلة نفسه وحقيقة أطواره؛ لأنها صادرة من غيره.
وإنما تنكشف لنا دخائله وأطواره من الأشياء التي يريدها هو حسب مشيئته ووفق مناه، وبخاصةٍ ما كان منها في معيشته البيتية التي يخلو فيها لنفسه ويتصرف فيها بوحي هواه.
وهنا تبدو غرابة هتلر في كل شيء: في مسكنه ومطعمه وفرجته وسلواه. فيبدو لنا عقل نصفه في النور ونصفه في الظلام، أو نصفه في ضحوة الواقع ونصفه في غياهب الأحلام والأوهام. إنسان يهرب! إنسان يلوذ بالفرار؛ ومن ثَمَّ يبدو لنا أيضًا أنه فيما يرتمي إليه من ضجة السياسة ودَوِيِّ الحركة ومواكب الجيوش ومظاهر السطوة إنما هو إنسان هارب، لائذٌ بالفرار.
لما طلب المستشار الألماني في السابع عشر من أكتوبر أن أذهب إليه بأسرع ما أستطيع، وضع رهن مشيئتي طيارة من طياراته الخصوصية، فركبتها في اليوم التالي إلى برختسجادن يصحبني الكابتن ستهلن، ووصلت إليها حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر، ومنها أخذتني سيارة لم تذهب بي إلى (أوبر سالزبرج) حيث يسكن الفوهرر، بل ذهبت بي إلى مكان عجيب يحب أن يقضي فيه أيامه عندما يروق الهواء.
والمكان يلوح على البعد كأنه مرصد فلكي أو صومعة صغيرة محطوطة فوق أعلى القمم هناك على ارتفاع ستة آلاف قدم، وتلتف الطريق إليها مسافة تسعة أميال مقدودة في الصخور، تشهد الجرأة في نحتها بمهارة مهندسها طود كما تشهد بمجهود العمال الذين فرغوا من هذا العمل الضخم في مدى سنوات ثلاث.
وتنتهي الطريق أمام سرداب يفضي إلى الجبل وينغلق عليه باب مضاعف من الشبهان، ويؤدي في طرفه الآخر إلى مصعد عريض مصفح بالنحاس يرتقي رأسًا إلى ثلاثمائة وثلاثين قدمًا حيث يقيم المستشار. وهنا نبلغ من الأعجوبة غايتها القصوى! فيرى الزائر أمامه بناءً ضخمًا متينًا يشتمل على رواق عمدان رومانية، وعلى بهو مستدير تحيط به النوافذ والمطلات ويبرز فيه موقد كبير تشتعل فيه الأحطاب الضخام، وأمامه مائدة يحدق بها نحو ثلاثين كرسيًّا، وتنفتح على الجوانب أبواب حجرات شتى مؤثثة بالمقاعد المريحة الوثيرة.
ويطل الزائر من كل جانب كما يطل من الطيارة المحلقة على مشهد متلاحق من الأطواد، وتتراءى له على البعد — وراء منظر كأنه المدرج الرحيب — بلدة سالزبرج والقرى التي تَحُفُّ بها، يشرف فوقها على مد البصر أفق من القمم والشواهق والمروج والآجام كأنها تتشبث بالسفوح.
وفي الجيرة الملاصقة بالمكان حائط ينبثق أمام العين انبثاقًا مفاجئًا يخيل إليك أنه قائم في الفضاء بغير عمد ولا أساس.
وكل أولئك يبدهك وهو مغمور في شفق الخريف كأنه شيء آبدٌ مفخَّم يقرب من البحران. فيعجب الناظر ويتساءل: أفي يقظة هو أم في منام! ويود لو يدري هل ذاك حصن مونسلفات الذي يأوي إليه فرسان الآنية المقدسة؟ أو هو صومعة جديدة في جبل آثوس تخبئ ناسكًا يتهجد ويسترسل في التفكير والعبادة؟ أو هو قصر أنتينيا يرتفع في قلب الجبال الأطلسية! أو هو تجسيد لبعض تلك الرسوم الخارقة التي كان فكتور هوجو يخطط بها هوامش روايته عن حكام الجرمان؟ أو هو خيال مليوني لا يدري ما يصنع بأمواله؟ أو مباءة عصابة يركنون إليها ويجمعون فيها الذخائر والكنوز! هل هو خاطر عقل سليم أو هو خاطر إنسان معذَّب بجنون العظمة وهواجس الشوق إلى التفرُّد والسيادة؟ أوَليس هو إلا خاطر إنسان ملكته المخاوف والظنون!
على أن هناك مسألة واحدة لا يُغضَى عنها ولا تقل عن المسائل الأخريات قيمة عند من يدرسون هتلر من الوجهة النفسية، وهي أن مداخل البيت وخباياه ومنافذه كلها تحميها الجنود ومكامن المدافع الرشاشة.
واستقبلني المستشار بحفاوة ومودة، وكان يبدو متعبًا شاحب السحنة، ولكنه لم يكن في يوم من أيامه الهائجة، ولعله كان في فترة هدوء واسترخاء، فأخذني توًّا إلى إحدى نوافذ البهو الكبير، وأراني المنظر واستراح لما شاهده عليَّ من سمات الإعجاب التي لم أحاول إخفاءها، وتبادلنا بعض التحيات والمجاملات، ثم جيء بالشاي في إحدى الحجرات القريبة، وبدأ الحديث على أثر خروج الخدم وإغلاق الأبواب بيننا نحن الثلاثة، وأعني بالثالث هرفون روبنتروب الذي لم يشترك في الحديث إلا في مناسبات قليلة لم يكن يزيد فيها على توكيد ملاحظات الفوهرر.
وكان أدولف هتلر مستاءً من ذيول الاتفاق في ميونيخ؛ فقد كان يعتقد أن اجتماع الأربعة الذي أزال شبح الحرب وشيكٌ أن يفتتح عهدًا من عهود المسالمة والعلاقات المتحسنة بين الأمم، ولكنه لا يستطيع أن يرى شيئًا من ذلك قد حدث …
إن غيوم الأزمة لم تنقشع، ويوشك إن لم تتحسن الأمور أن تغدو شرًّا مما كانت في مدى فترة قصيرة؛ لأن بريطانيا العظمى تصلُّ صليلها بالإنذار والدعوة إلى السلاح، وتلك مناسبة انتهزها الفوهرر للانطلاق في حملة من الحملات الكلامية المعهودة في خطبة شنها على تلك الدولة وعلى أثرتها وإيمانها الصبياني بتفوقها ورجحان حقوقها على حقوق غيرها. ثم سكنت جائشة الفوهرر بعد قليل …
هذه البدوات التي وصفها السفير الفرنسي ليس فيها مبالغة ولا اختراع؛ لأن عش الفوهرر معروف مشهود مكرر الوصف في أقوال الكُتَّاب، لا خفاء به ولا مثيل له بين مساكن العقلاء. وقد بلغت تكاليف بنائه وتأثيثه وتعبيد طرقه الملايين من أرزاق شعب يشكُون باسمه الضنك والفاقة، فهو وليد التفكير المتسلسل الدائم وليس بالنزوة التي لا تلبث أن تطرأ حتى تزول.
ومثل هذا الولع بالإغراب في المسكن والاستكانة إلى المناظر المسحورة لا يُعهد في غير من أدمنوا المخدرات أو شوهدت عليهم أعراض الخبَل والانتكاس.
ففي تاريخ بافاريا الحديث ملك من هذا القبيل كان يزين الأشجار بالمصابيح المستورة ويحف الغرف والمنازه بالسراديب المسحورة. ثم طبق عليه الجنون فمات في إحدى نوباته وقيل إنهم قتلوه.
وفي تواريخ الملوك الهمجيين أو أنصاف الهمجيين «قلعة» كهذه القلعة الهتلرية بناها الملك الزنجي خريستوف الذي استقل زمنًا في أوائل القرن التاسع عشر بالسيطرة المطلقة على جانب من جزيرة «سان دومينيجو»؛ فقد عنَّ له أن ينفرد بقصر لا نظير له في قصور الملوك، فأمر ببناء قلعته المشهورة على ارتفاع ثلاثة آلاف قدم، ولبث المهندسون يعملون فيها خمس عشرة سنة ولاءً، ورفعوا جدرانها من ثمانين إلى مائة وثلاثين قدمًا وعرَّضوها من عشرين إلى ثلاثين، وأحاطوها بثلاثمائة وخمسة وستين مدفعًا من الشبهان على عداد أيام السنة: كل يوم مدفع لا يتكرر في سائر الأيام! ثم شُلَّ هذا الطاغية فأيقن بزوال ملكه واقتراب يوم هلاكه، فأعد لنفسه قذيفة من الذهب أطلقها على صدره من مسدسه يوم هجم الثوار عليه.
يا للقدر من ساخر قدير! فهذا القدوة الصالحة لزعيم الآريين وصفوة الجنس الأشقر زنجي أسود منتكس الخليقة، وليته زنجي سليم!
وهناك اليوم قصور تُبنَى ثم تُهدَم في برلين، وشوارع توسَّع جوانبها على الرغم من جِدَّة المباني التي تشرف عليها، ثم لا يكون لتوسيعها من سبب إلا أن تصبح أوسع مثيلاتها في أوروبا وأمريكا، ومكاتب يُباهون بجلب الخشب لها من ثماني عشرة مملكة، ومظاهر شتى من مظاهر السموق والروعة لا يضنون بالمال عليها، وكلها فيما نظن وليدة الطبع المنتكس وترجمة ذلك «الخطاب في النفق» الذي لا يزال يُتَرجم في عالم السياسة كما ترجم في عالم البناء.
نعم لا يزال يُترجم في عالم السياسة ليوقع العالم في مجاهيل لا حَدَّ لها من جراء هوسة غالبة.
وإلا فما هو «صرح الدولة الجرمانية التي تسود العالم بأسره» إن لم يكن نسخة في عالم السياسة من قصور ألف ليلة أو من صومعة الجبل التي وصفها السفير؟
إنه لصرحٌ يهرب به العقل المصروع من عالم الصواب والرشاد إلى عالم الجنون والبذخ والتهاويل.
إنه ناطحة سحاب أو مخبأ في سرداب، أو حجاب لا يستر ما وراءه من التبلبل والاضطراب.
وشأن هتلر في الطعام كشأنه في السكن من الولع بالغريب والجري على سُنَّةِ الإخراج المسرحي، والتعاظُم بأمثال الإشاعات التي تُشاع عن كواكب الصور المتحركة فيما يأكلون ولا يأكلون، وفيما يلبَسون ويخلعون.
تارة يقال إنه صائم عن اللحوم، وتارة يقال إنه لا يستنزل الوحي إلا بأصناف الجوز والبذور، ويومًا يقال إنه ترخَّص فأباح نفسه البَيض وحساء الدجاج، ويوم ينقضي على هذا فيقال إنه عاد فحرَّم على نفسه ما أباح. وهكذا دأبه في التبغ والجعة وسائر المرطبات.
إخراج مسرحي لا أكثر ولا أقل.
فإن كان وراء الإخراج المسرحي حقيقة فهي شيء تافه لا غرابة فيه ولا موجِب فيه لكل هذه الأقاويل.
رجل يصاب في صدره فتيًّا فيدرج على كراهة التدخين، ورجل لا ينام أحيانًا من أثر الهستيريا والإجهاد فيهجر القهوة حينًا ليستدرج النوم، ويشربها حينًا لأنها لن تضيره مع السهاد.
ورجل يرث بنية الفالج والنوبات ويقضي السنوات وهو لا يدرك الوجبة الواحدة في اليوم أو الأيام المتوالية، فيعتريه عسر الهضم ويتقلب في اختيار المأكولات، ويعيى بكأس من الشراب الشديد.
وكل هذا مألوف لا غرابة فيه، ولكن كيف يتفق هتلر والمألوف؟ وكيف يخيل إلى الناس أن هتلر يأكل كسائر الناس؟
إذن تنقلب المألوفات فإذا هي رياضة ونسك واتصال بعالم الغيب وترفُّع عن ضعف الآدميين أبناء الفناء.
وإذا أنالته البساطة ما تُنيله الفخفخة من التهويل واللغط والاستغراب فلا ضير إذن من البساطة المسرحية على شريطة أن تكون شيئًا يطاق: كسوة تُخلع ثم تُلبس بعد ساعات، وليست كوخًا يسكنه ما عاش، أو مكتبًا يشاهد فيه أيان ذهب إلى الديوان.
وإن الناس إذ يشهدون هتلر في كساء بسيط ليقولون: انظروا وانظروا واعجبوا اعجبوا … أكثر ممَّا يقولون انظروا أو اعجبوا لهتلر في الطيالس والفراء.
لهذا تأخذ البساطة نصيبها من مظاهر هتلر، ويكون فيها أجنَّ بالفخفخة والإغراب مما يكون في الحلل والحلي المسوَّمات.
ونظرة خفية إلى نقائض النفس الإنسانية تُرِينَا أن بساطة هتلر في الكساء وغرابة هتلر في البناء هما عنوانان لصفة واحدة، أو هما فرعان لجذع واحد: هو الغرور والادعاء.
فهتلر البسيط في كسائه لا يَتَشَبَّهُ بعلية النبلاء في لباسهم الفاخر لأنه يعلم أنهم يترفعون عنه ويعتزون عليه بالحسب والعراقة فيتحداهم ويأبى أن يعترف لهم بأنه نسي أصله إيثارًا لأصولهم، أو بأنه دونهم في القدر لأنه يتشبَّه بهم ويود لو نشأ على غرارهم.
ولكنه لا يصنع هذا الصنيع في بناء الصوامع والقصور، فلماذا يتفخَّم هنا ويتبسط هناك؟ ولماذا يختلف فعله في كسائه من فعله في مأواه؟
لأنه خليفة «ميكال أنجلو» في عبقرية النحت والعمارة! فالناس لا يقولون إذا رأوه في الصرح المشيد: «ذاك هو المُحدَث الذي يتشبه بالمُعرِقين!» بل يقولون: «ذاك هو الفن العبقري! وتلك هي القريحة النادرة التي تتجسم للعيان بإعجاز بارئها القدير!»
وكلاهما غرور، وكلاهما ادِّعاء!
فالرجل ناشز في تبسُّطه وإغرابه، هارب من الواقع فيما يدَّعيه ولا يدعيه، متعلق بالقصور المسحورة والأبراج الخرافية سواء بنى في عالم السياسة أو بنى في عالم المعمار.
كفاءته الذهنية
والمشهور عن زعماء السياسة أنهم لا يعلمون كل ما يُنسب إليهم، ولا يكتبون كل ما يُكتب بأسمائهم، وهتلر ليس بالاستثناء من هذه القاعدة.
وقد يختلف المختلفون فيما هو لهتلر وما هو لمكتب التنفيذ من تلك الخواطر والرسوم. فكثيرًا ما يكون الفضل كله للمكتب في ابتداع الرسم وإنجازه ثم يقال إنه من عمل الزعيم أو الرئيس، وكثيرًا ما يُعرِب الزعيم أو الرئيس عن رغبته بكلمة واحدة ثم تأتي التفصيلات بعد ذلك على يد أعوانه، وهو لا يدري بها إلا عند إنجازها والاحتفال بإبرازها.
هذه أمور شائعة لا يجهلها المُطَّلِعُون عليها في الدواوين، إلا أن الحقيقة الراسخة من وراء كل جدل وكل مِرَاء هي أن الفنان الموهوب لن يترك فَنَّهُ ليعقد مصيره بالسياسة وغيرها من المطالب كائنًا ما كان نصيبه منها؛ لأن الهبة الفنية كالوظيفة العضوية التي لا تقبل الإهمال، ولا تزال في إلحاحها على صاحبها كالهيام القلبي في إلحاحه على العاشق الممتلئ بالحياة، فلا هو يغفُل عنها ولا هي تمهله إلى زمن طويل.
وهذه الحقيقة وحدها — بنجوة عن جميع الأوقاويل وجميع الأسانيد — هي الحكم الحاسم في كفاءة هتلر الفنية، أو فيما يَدَّعِيهِ من مواهب التصوير والبناء. فهي لن تعدو الطبقة الوسطى بحالٍ، ولن تتجاوز نصاب التذوُّق الشائع بين مصطنعي النقد والموازنة في الفنون، حتى لو أسندنا إليه جميع الرسوم التي تحمل اسمه في متحف العمارة بمدينة ميونيخ.
ومن خصائص هتلر أنك لا تجد فيه صفة واحدة «خالصة» للعظمة وصحو العقل والطبيعة؛ فكل صفاته النفسية والفنية ملتبسات بين الاضطراب والسلامة وبين الهبوط والرجحان.
مثال ذلك أنه يُعجب بالموسيقي الكبير «فاجنر».
وفاجنر هو الموسيقي الذي يُعجب به المجانين والعقلاء؛ فقد كان راعيه الأكبر الملك لدفيج البافاري مخبولًا مات في خبله، وتتفق الآراء بعد ذلك على أن فاجنر هو موسيقي المردة والغيلان «والشخصيات» المنتفخة التي تقرب من التشويه ومن المسخ الكريه، يسمعه العاقل فيعجب لحسن تمثيله هذه «الشخصيات» العجيبة وحسن تعبيره عنها بالأصداء والألحان، ويسمعه المجنون فيلمس من سريرته موضع التشويه والانحراف، ويرى نفسه مفهومًا على نحو من الأنحاء.
ولكنه ينكر كل شيء حسن أو قبيح مصدره من الزنوج كتلك الموسيقى، أو كفن النحت والتصوير الذي تزعَّمه إبشتين وإخوانه في الطريقة؛ فإن أبشتين له عند هتلر سيئتان لا سيئة واحدة؛ لأنه إسرائيلي فهذه هي السيئة الأولى، ولأن تماثيله قريبة في طريقتها من طريقة الأصنام الأفريقية! فهذه هل السيئة الثانية.
وقد أبى هتلر أن يصافح الأوائل السابقين من الزنوج في الألعاب الرياضية العالمية وهم ضيوف بلاده، فإذا كانت ألعابهم لا ترضيه وهي ألعاب الرياضيين في جميع الأمم البيضاء أو السمراء فهل ترضيه موسيقاهم وهي شيء يجوز أن يختص بالزنوج دون سائر الشعوب؟
وعلى هذا النمط يصحو ذهن هتلر وصحوه مقسَّم بين العِوَج والاستقامة، وبين العلة والعافية، فلن يفهم أبدًا على وجه الصحة وحدها في حال من الأحوال.
وما يقال عن التصوير والموسيقى يُقال من باب أولى عن الكتابة والتأليف؛ فإن أحدًا من أتباع هتلر لا يدَّعي له مَلَكَة الكتابة الموهوبة، ولا يثني على أسلوبه ثناءه على أسلوب بارع أو جميل، وإن حسبوا كتابه «كفاحي» إنجيلًا للنازيين.
لكنَّ الطابع الهتلري مع هذا موجود متكرِّر فيما يُنسَب إلى هتلر من خطب أو رسائل أو أحاديث.
فليس هو عالة على أعوانه ومساعديه، وليست اللهجة الغالبة في كتاباته لهجتهم المتفرِّقة، بل لهجته هو التي تتكرر على وتيرتها المعهودة، في كل خطبة وكل رسالة وكل حديث.
وفي اعتقادنا أن الرجل لا يخلو من عبقرية، وهبةٍ ذهنية.
لكننا خلقاء أن نحترس في فهم معنى العبقرية هنا لنفهم منها ما نريد في هذا السياق.
فعند جمهرة الناس أن العبقرية هي أعلى مراتب الذهن وأرفع طبقات التفكير.
وهذا خطأ.
فإنما العبقرية حالة تصاحب كثيرًا من المراتب الذهنية، وتشاهَد في كثير من الصناعات: فهناك الفيلسوف العبقري والنجار العبقري، وهناك القائد العبقري والخادم العبقري، وهناك عبقرية الإصلاح وعبقرية الإجرام، وهناك عبقريات لا نهاية لها في أرفع الصفات وفي أوضع الصفات، كأنما هي حالة الاتِّقاد التي تشترك فيها جميع الأجسام على درجات مختلفة من الحرارة.
ولا يلزم أن تكون الفكرة العبقرية «أحسن» فكرة من قبيلها، بل كل ما يلزم أن تكون الصبغة العبقرية باديةً عليها.
وهذه الصبغة ممَّا يصعُب تعيينه وتوضيحه، ولكننا نُقرِّبها بعض التقريب ونوضِّح ما نعنيه بها جهد المستطاع.
فالعبقرية أقرب إلى الغريزة والبداهة منها إلى التفكير المسبب والقياس المدروس.
ولها خاصة الحماسة والتوهُّج والرغبة، فلا يباشرها الإنسان وهو كارهٌ أو طامع في الجزاء، بل يباشرها كأنه مُقبِل على رياضة شائقة ومتاع محبوب.
والعبقرية تضلِّل من يراقبها أشد التضليل؛ لأنها تفاجئه بالمتناقضات وما هي في باطن الأمر بالمتناقضات، إذا نحن نظرنا إلى بواعثها ولم ننظر إلى عوارضها وأشكالها.
فالعبقرية شخصية.
والعبقرية طلاقة من القيود.
كل عمل يعمله العبقري ففيه مسحة من لوازمه الشخصية لا محالة، فهو من ثَمَّ مُطَّرِدٌ على قياس.
وكل عمل يعمله العبقري فهو خارج فيه على القيود، ثائر على القواعد والمصطلحات؛ فهو من ثَمَّ لا يطَّرد ولا يفتأ مخالِفًا للمتوقع والمألوف.
وها هنا التناقض الظاهر.
ونخطو خطوة وراء هذا التناقض الظاهر فنرى «مفتاح الشخصية» الذي يفسِّر لنا كل نقيضة ويعلل لنا كل مستعصٍ على التعليل.
مثال ذلك غريزة الهجرة في الطيور، وقد قلنا إن العبقرية أقرب إلى الغريزة منها إلى التفكير.
فالهجرة لها — ولا ريب — غاية واحدة هي طلب الغذاء والسلامة من برد الشتاء، وبوحي هذه الغاية يهتدي الطير إلى الأوقات والمسافات هدايةً لَدُنية لا تجاريها في الدقة أرصاد الملَّاحين وآلات الفلكيين.
لكنها مع هذه الدقة سبب الغرق والهلاك لألوف الألوف من أسراب الطير، التي ما تحركت إلا ابتغاء السلامة والغذاء.
ومثال آخر غريزة التناسل ودوام الاتصال بين الجنسين.
فلماذا يستأثر الرجل بالمرأة؟
طلبًا للذرية لا مراء.
وماذا يصنع الرجل الذي يرى ابنًا له يخونه في زوجه؟
إنه يقتله أو يهم بقتله!
وهنا التناقض الظاهر؛ فهو يقتل ذرية حاصلة إذ هو يطلب الذرية المجهولة المشكوك فيها.
ولكنك مع ذلك تفهم معنى هذه الغَيرة واستقامتها مع الطبيعة، وترى ما وراء التناقض الظاهر من القياس المستقيم.
وهكذا تناقض العبقرية، إنما هو تناقض في الظاهر، واستواء عند الرجوع إلى أسرار الشخصية الخفية.
وهذه هي خصائص العبقرية التي حاولنا تقريبها وتوضيحها منعًا لخطأ المخطئين إذ يفهمون أن العبقرية هي أرفع مراتب العقول، وأن الفكرة العبقرية هي «أحسن» ما تجود به الأفكار.
كلا! ليست العبقرية بأرفع مراتب العقل ولا هي بأحسن ضروب التفكير.
ولكنها «حالة» على الوصف الذي قدَّمْنَاه توجد في الذروة كما توجد في الحضيض، وتنتظر في الترياق كما تنتظر في السم الزعاف.
وعبقرية هتلر هي عبقريته في إدراك الجماهير ومراوغات السياسة، فما يفهمه في هذا الباب هو شيء بمعزِل عن الاطلاع، وعن الخبرة المألوفة، وعن الدرس والتعليم، وهو شيء أقرب إلى تفاعُل المواد وتبادُل الأثر في الأجسام؛ فمن الجماهير يعلم ما تريده الجماهير، وفي وثبة الساعة يفعل ما تدفعه إليه وثبة الساعة. وبينما هو مهتدٍ في المسافات الطويلة بهداية كهداية الطير المهاجر بلا خريطة ولا إبرة مغناطيسية ولا دليل، إذا هو يغرق كما يغرق الطير في اللُّجَّةِ التي يراها بعينيه ولا يقوى على اجتنابها.
ويدعونا إلى اعتقاد العبقرية السياسية أو العبقرية الشعبية في هتلر أن سياسته لها طابع، وأنها تتسم بحماسة الرياضة ولا تتسم بقيود الشغل وحدود النظام، وأنه يهجم هجومًا يخيل إليك أنه بالغٌ به الغاية المنشودة، ولعله هو العقبة المهلكة التي تنكل به أشأم النكول عن تلك الغاية.
وفي تفكير العبقري أبدًا حساب «حسبة مجهولة» كالحسبة التي يرمز لها الرياضيون بحرف «س» ويرمز لها جماعة التطور بالحلقة المفقودة.
هناك أبدًا حسبة تنقطع فيها سلسلة التفكير ولا تنتظم إلى النهاية، أو نهايتها القصوى هي «إن قلبي يحدثني بهذا» وكفى.
وهتلر عندما يذكر «العناية الإلهية» كأنها لا تريد إلا ما يريد ينم على غرور عظيم، ولكنه لا ينم على الغرور وحده بذلك، ولا يختار في الحقيقة ما يقول.
إذ «العناية الإلهية» في عُرفِه هي الكلمة التي يسد بها فراغ تلك الحسبة المجهولة أو الحلقة المفقودة.
يسأل نفسه: لماذا أريد هذا؟ أو لماذا سيتم ما أريد؟ ثم يعييه الجواب الصريح.
يعييه الجواب لأن هناك أسبابًا يجهلها ولا يستطيع تنظيم حلقاتها إلى نهايتها، فكلمة «العناية الإلهية» تسعفه إذن في سد هذا الفراغ.
وقد يقال إن هتلر مغرور حين يتخيل أنه سينجح في الحرب لأنه يريد ذلك والعناية الإلهية لا تريد إلا ما يريد.
ولكن هتلر يقول أيضًا في كتابه إن العناية الإلهية قيَّضت له أن يفهم في شبابه لماذا فشلت أحزاب نمسوية ونجحت أحزاب أخرى، وأنها علَّمته أن حركات الجماهير لا تتم بغير اشتراك الجماهير، وأن الانقلاب القومي لا يضطلع به العلية دون السواد … فأي لغز من الألغاز في هذه البداهة التي ظن هتلر أن العناية الإلهية تسوقها إليه؟
كل ما هنالك أنها الحلقة الناقصة في سلسلة الأفكار المسببة، يملأها بما يرضي غروره ولا يدعوه إلى اعترافٍ بالجهل أو بالضعف عن النفاذ إلى كُنْهِ حوادث اليوم، وقضايا التاريخ.
وكلمة «العناية الإلهية» هي اللحام الذي يربط به هتلر ما تَفكَّك من تفكيره ومقدماته، فمن قرأ كتابه أو تتبع خطبه فلن يرى أمامه بناءً كاملًا متناسقًا إلا إذا صدق دعواه أن العناية الإلهية تريد كل ما يريد.
أما إذا شك في هذه الدعوى فليس أمامه بناء قائم. وإنما هو ركام فوق ركام.
كفاءته الخطابية
في كل شهرة خطابية منافذ للمبالغة والإطناب لا بد منها في كل زمان، وفي زماننا الحاضر خاصةً.
ومنافذ المبالغة والإطناب هذه تأتي من مصادر متعددة، بعضها بريء وبعضها متهم، ومنها المقصود المُدَبَّر، ومنها الذي يحدث على غير قصد وتدبير.
فأول مصادر المبالغة والإطناب جمهور السامعين، وهم كدأب الجماهير يحبون أن يتأثروا وأن يخلقوا لأنفسهم دواعي الحماسة والمغالاة، وأن ينوِّموا أذهانهم تنويمًا يسهِّل لهم أن يعتقدوا ما يحبون اعتقاده، وأن ينساقوا في موجة من الشعور لا تطيق الحدود، ولا تقف دون الإعجاب الكامل؛ لأن الوقوف عند حد من الحدود المعقولة يفسد الحماسة، وليس إفساد الحماسة ممَّا تطيقه الجماهير.
وهي — أي الجماهير — طبقات في هذه الخليقة: ترتفع أو تهبط، وتعتدل أو تجمح مع الشطط، على حسب موقفها من الخطيب وموضوع الخطابة.
فإذا كان موضوع الخطابة نعرة قومية أو شهوة عدائية يشترك فيها الخطيب والسامعون، فالجمهور في هذه الحالة على استعداد للحماسة والإطناب بغير مقدرة كبيرة في الخطيب.
وإذا كان السامعون مرءوسين لذلك الخطيب أو أتباعًا متشيعين لحزبه، يكرهون الغض منه لأنهم يحسبونه غضًّا منهم، ويحبون إكباره لأن كِبَرَه منسوب إليهم؛ فهم إذن أكثر استعدادًا للحماسة والإطناب.
وإذا كانوا فوق هذا صغارًا ناشئين يفورون بحرارة السن الباكرة، فأحرى بهم وهم جماعات وجماهير أن يستسلموا لما يسمعون، وألا يجشموا الخطيب معجزة الإبداع، ليستجيش بها قلوبًا هي من قبلِ ذلك لا تهدأ من الجَيَشان.
فأدنى الجماهير إلى التسليم هو جمهور صبية ناشئين يُصغُون إلى زعيم يفخرون به فخر العصبية، ويسمعون منه صيحة الكبرياء الوطنية … وهذا هو جمهور هتلر في جميع المواقف، إلا القليل الذي لا يذكر.
وقد شهد الناس في مصر مجامع يحتشد لها السامعون زرافات زرافات من جميع الطوائف والأسنان، ليسمعوا كلامًا يعلمونه ويحفظونه، من خطيب لا يعجب السامع بصوته ولا بإيمائه؛ بغية الاجتماع في الواقع لا بغية الاستماع.
ثم تتكرر الدعوة ويتكرر الإقبال ويتكرر التصفيق الذي لا باعث له إلا الرغبة في شيء يثير الشعور ويدفع السآمة و«يبرر» للجمهور وجوده وسعيه وانتظاره، ويريحه من الحكم على «وجوده» بالفناء. والفناء كريه إلى كل موجود، جمهورًا كان أو غير جمهور!
وفي وسعنا أن نشهد كل يوم حشدًا من الناس يبذلون من مالهم ليستمعوا إلى مُمَثِّلٍ مضحك مشهور في دور من الأدوار. فما هو إلا أن يلفظ الكلمة الأولى حتى ينفجر السامعون بالضحك والقهقهة، وربما سأل أحدهم جاره: ماذا قال؟ بعد أن يكون قد ضحك مع الضاحكين!
فالمصدر الأول: للمبالغة والإطناب في شهرة الخطباء هو أبرأ المصادر وأخلاها من الغش وفساد الذمة، وهو دفاع الجمهور عن وجوده حيث انتظم له وجود.
والمصدر الثاني: وسط بين البراءة والاتهام، وبين الاندفاع والتدبير، وهو مصدر الرواة وكتاب الأخبار.
•••
فإن الصحيفة الإخبارية لَتتعمد التهويل والإغراق في وصف حادثة هَيِّنة لا تستحق الالتفات إليها؛ لأنها تريد من القراء أن يلتفتوا، وتعيش من التفاتهم إلى ما تكتب، لا من تعويدهم أن يُهملوا الأخبار التي تستحق الإهمال.
والكاتب الذي يسافر ألف ميل لينقل خطبة يلقيها أحد الزعماء في يوم مشهود مرتقب المصير من المغرب إلى المشرق قد يفقد وظيفته إذا قنع بما دون السحر والإعجاز في وصف ما سمع وما رأى، وما لبث الناس ينتظرونه ويتكهنون به متشوقين متلهفين!
وقد تتفق الرواية الأمينة في الصحيفة الرصينة فيقرأها العارف المسئول ويعرض عنها طالب المناظر والعناوين ممن ينظرون إلى مسرح السياسة كما ينظرون إلى مسرح التمثيل، وهم جمهرة القراء والنظارة في كل مكان، فيتواتر النبأ المبالغ فيه وينقطع النبأ الذي يحرص على الصدق والأناة، وينتهي الأمر برواج الكذب والتلفيق، وبالشك في الصدق والأمانة.
فمبالغة السامعين ومبالغة الرواة ملازمتان لكل شهرة سياسية في كل زمان ولا سيما زماننا الحاضر: زمان النشر والإذاعة، وزمان التشوُّف إلى الجِدَّة والغرابة ودفع الملل والسآمة.
•••
ويأتي بعد مبالغة السامعين ومبالغة الرواة مصدر آخر من مصادر التهويل في الشهرة الخطابية قائم على النية السيئة والخطة المرسومة، ونعني به مصدر الدعوة المسخَّرة والأقوال المأجورة، وهو سلاح يعتمد عليه النازيون خاصة فوق اعتمادهم على سلاح الميدان.
وجميع هذه المبالغات قد بلغت في تعظيم شهرة الزعيم النازي أقصى ما يتاح لشهرة أن تبلغ على الإطلاق؛ فاهتمام النازيين بالدعوة المسخَّرة قد جاوز كل اهتمام، وجمهورهم أقرب الجماهير إلى التسليم والاستسلام، وحمَلة الأقلام ما فتِئوا عدة أعوام يتنافسون في إشباع نهمة القراء بين جميع الأقوام.
•••
فمن الطبيعي إذن أن تكون حقيقة هتلر الخطابية أقل كثيرًا من شهرته التي أذاعها الدعاة والصحفيون والسامعون من أتباعه ومريديه، وأن يدخل في حساب شهرته كثير من المبالغة والاختراع و«الإخراج».
ونحن في عصر نسمع فيه الخطباء ونراهم على بعد، ونحكم على المتكلم في برلين أو موسكو أو واشنطون حكم راءٍ وسامع، فما على المذياع ولا على الصور المتحركة من بعيد.
وقد رأينا هتلر وسمعناه.
فهو ولا شك خطيب مبين، ولكن لا شك كذلك أنه ليس من ملوك الكلام في عصرنا الحاضر، وأنه لا يُعَدُّ من طبقة الخطباء الذين يخاطبون كل جمهور ويتكلمون في كل قضية ويروِّضون عصي الأسماع، ولا نخاله يُحسن القول بضع لحظات في موضوع غير الموضوع الذي يقلِّبه منذ عشرين سنة، أو بين أناس غير الذين يوافقونه في الجملة، ولا يخالفونه — إن خالفوه — إلا في التفصيل.
فليس هو في إفاضة بريان، ولا في بادرة لويد جورج، ولا في مهابة سعد زغلول.
ولكنه أقرب إلى الممثل الذي كرَّر دوره حتى حفظه ووعاه ووقع فريسة له فلا يقدر على تبديله.
تخيلْه مثلًا غير غاضب، أو غير متكلم في مظالم ألمانيا المزعومة، أو غير مطمئن إلى آذان سامعيه.
وتخيله واقفًا في لندن أو في موسكو أو في القاهرة يفاجئ السامعين على غير معرفة باسمه، ولا عهد بموضوع كلامه.
إنه إذن ضائع لا محالة.
وعيبه الأكبر أنه لا يُقنِع ولا يقيم الدليل، وأنه ما خرج قط على عادة واحدة تتردد في جميع مواقفه وموضوعاته، وهي إثارة الحفائظ وإضرام الكراهية ومواجهة السامعين من جانب الشعور المتَّفق عليه بينه وبينهم … وفيمَ اجتهاده في إقناع من هو قانع؟ وإيمان من هو مؤمن بغير برهان؟
ومرجع هذه العادة عنده إلى علل كثيرة: بعضها أصيل عالق بطبعه، وبعضها حديث طارئ عليه من حوادث حياته وعصره.
فالحديث الطارئ عليه هو هذا الذي ذكرناه، وهو أنه تعوَّد في أيامه الأخيرة على الأقل أن يخاطب أناسًا لا يحاسبونه ولا يجسرون على حسابه، ولعلهم لا يريدون أن يحاسبوه لاتفاق الشعور بينهم وبينه.
والأصيل العالق بطبعه أنه فقير في العاطفة الشخصية، غني في العاطفة الشعبية، أي العاطفة التي تربط بين الفرد والجماهير.
والعاطفة الشخصية هي التي تربي عادة المساجلة والمحادثة، ومواجهة العقل للعقل، والنفس للنفس، والإصغاء في موضع الإصغاء، والإثبات بالحجة الصادعة في موضع الإثبات.
فالرجل المفطور على عاطفة يساجل بها العواطف، وفكرة يقابل بها الأفكار، يقول ويسمع، ويستميل الفرد بالوسائل التي يستمال بها الأفراد، مرةً بالإيحاء ومرةً بالدليل ومرة بالشرح المفهوم، وفي كل مرة بتبادل الثقة والاعتراف بحق المناقشة والاعتراض.
أما الرجل الذي نضبت نفسه من جانب العاطفة الفردية، والذي ليس عنده ما يتبادل به مودة بمودة أو فهمًا بفهم أو خاطرًا بخاطر، والذي انقطعت جميع الوشائج بينه وبين إخوانه من أبناء آدم إلا الوشيجة التي تكون بين الواحد والألوف أو بين الداعية والجمهور؛ فذلك رجل محدود القدرة على التحدُّث والتفاهم وعلى الإصغاء والإقناع، محتوم عليه أن يجد جمهورًا يستمع له. ويكتفى منه بالاستماع، أو أن يتخيل نفسه قائمًا بين جمهور وإن كان في مجلسه أفراد قليلون.
لهذا اشتهر هتلر بالتدفُّق في أحاديث السياسة ساعة بعد ساعة دون أن يقف أو يتمهل أو يسأم التكرار. فإن لم يتدفق في أحاديث السياسة فهو بين حكاية نادرة أو إعادة ملحة مطروقة، أو سرد تاريخ قديم، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فليس في مجلسه إلا السكوت والوجوم.
فهتلر الفَرْدُ «معدوم».
أما هتلر الموجود فهو البرق الذي ينفخ في الجماهير أو يردد صدى الجماهير.
وانظر إلى صوره وهو في مواقف التفاهم والتحادث ترَ أمامك صورًا فاترة باهتة تنطق بالتكلُّف ونقص الحياة وتبعث في نفس ناظرها الريبة والنفور.
أما الصور التي يحيا فيها وتلبسه الحركة والشدة فهي الصور التي ينقطع فيها التفاهم ويثور فيها الغضب وتتأجَّج فيها البغضاء.
وماذا ترى في هذه الصور؟
إن الخطباء الحماسيين جميعًا لَيغضبون، وإنهم جميعًا ليحركون الغضب في الجماهير.
إلا أن الفرق بين غضب وغضب لَفرق عظيم، وإن الاختلاف بين حماسة وحماسة ليفوق الاختلاف بين القوة والمرض، وبين الجلال والهوان.
رأينا سعد زغلول وهو غاضب في خطبه فرأينا غضبًا كأنه السيف يصول به الفارس على قِرنه، ويعرف كيف يصول.
ورأينا هتلر وهو غاضب في خطبه فماذا رأينا؟ رأينا غضبًا كأنه الدُّمَّلُ المفتوح ينفِّس عن ضغينة كامنة كأنها القيح المحبوس، فهو فرصة للألم والتذاذ الألم في وقت واحد، وهو علاج للتنفيس عن داء، وليس بالسيف في أيدي الأقوياء.
هو نوبة مصروع وليس بوثبة صارع.
وهو منظر تزوَرُّ منه العيون، وليس بمنظر تَوَدُّ العيون أن تمتلئ منه.
وهو رقصة الهمجي في حومة الدَّمِ أمام أوثان النقمة والتشفي، وليس برقصة الفارس في حومة البرجاس.
وقد جمعنا في هذه الصفحات صورًا عدة لهتلر وهو يخطب، أو وهو يغضب؛ لأنه في الحقيقة قَلَّما يخطب إلا ليغضب. فأية صورة من تلك الصور يا ترى يستطيع القارئ أن يكتب تحتها مثلًا: «هذه صورة هتلر يزأر أو يزمجر؟»
إن هذا الكلام لَيُكتب تحت صور كثيرة لمصطفى كمال أو لسعد زغلول، ولكن هتلر — على عنايته بصوره واتخاذه رسامًا خاصًّا يتبعه في جميع المحافل ويوزع في أقطار العالم ألوف الصور بل عشرات الألوف منها — لا توجد له صورة واحدة تُخيِّل إلى الناظر هيئة الأسد المزمجر أو الأسد الغاضب، وكلها بلا استثناء ممَّا يصح أن يكتب القارئ تحته: «هتلر يعوي» أو هتلر «يلطم» … ولا جناح عليه.
•••
ومن المعقول أن رجلًا كهذا يحب حلقات الخطابة التي يتزين فيها لشياطين غروره وحقده كما تتزين المرأة المجنونة لشياطين الزوار، ويستريح فيها للهياج والتهييج كما تستريح تلك المرأة لصرعة الرقص وجلَبة الطبل ورؤية الذبائح وهي تتخبط في الدماء.
ومن المعقول جدًّا أن يكره مواقف المفاوضة والتفاهم لأنها تُطلعه على عجزه وتكشف له عن خواء طبعه، وتخرجه منها وهو في رأي نفسه أقل ممن حوله … إلا أن يلجأ إلى التهديد بالحرب كما يفعل في معظم أحاديثه؛ فهو إذن في موقف الإملاء وليس في موقف المفاوضة والإقناع.
وقد سُجلت كلماته في المفاوضات التي دارت بينه وبين سفراء الدول ورؤساء الحكومات، فإذا هي عبرة العِبَر وأضحوكة الأضاحيك: لا يكون فيها إلا ممثلًا يراوغ، أو مهددًا يتوعد، أو منكِرًا لما يقال على طريقة الأطفال والنساء الجاهلات، إني أنكر هذا لأني أنكر هذا، ولا مزيد …
ناقشه مستر شامبرلن رئيس الوزارة الإنجليزية في الشروط التي فرضها على حكومة براغ وأوجب عليها فيها أن تُخلي الأرض المطلوبة وأن تبدأ الإخلاء في الساعة الثامنة من صباح السادس والعشرين من شهر سبتمبر (١٩٣٨) وأن تتمه عند انتهاء اليوم الثامن والعشرين.
فقال له مستر شامبرلن إن هذا إملاء «إنذار نهائي» بغير حرب، وبغير هزيمة، على أمة قبلت المطالب وقبلت الاحتلال.
واختار شامبرلن كلمة «إملاء» عمدًا لأن هتلر يذكرها كلما ذكر معاهدات الصلح ومعاهدة فرساي على الخصوص، ويعتبرها موجبًا لفسخ تلك المعاهدات.
فما زاد هتلر على أن قال: «كلا، ليس هو إملاء.» وأشار إلى رأس الورقة قائلًا: «انظر! إن الورقة مكتوب عليها كلمة مذكرة …»
وهو كلام يقال للابسي القمصان في ساحة الخطابة فيقبلونه ويسيغونه، ولكنه لا يقال في مفاوضات وزراء وسفراء.
فالخطابة هي الميدان الذي يغلب فيه هتلر بهذا الأسلوب، ولن يغلب به في ميدان آخر.
وقد حذق من الخطابة ما يُحذق بالمرانة ومساعدة السامعين المستعدِّين للإصغاء والتصديق، وأهمه تدفق الكلام وسهولة التعبير.
ولم تزوِّده الطبيعة من أدوات الخطابة الفطرية إلا بزاد واحد وهو انقطاع الصلة النفسية بينه وبين الأفراد، واضطراره من أجل ذلك إلى مواجهة الجماهير للشعور بالحياة ونشاط الإحساس. ومتى نشطت نفسه ودبَّت الحركة إلى ذهنه فلا يندر أن يلهمه الموقف بعض الخواطر البارعة التي يمثل بها أعداءه في صورة مزرية أو صورة تستفز السخط والامتعاض، وكلها من ولائد الكراهية وليس فيها صورة واحدة وليدة عطف أو عناية بالآخرين.
ويختلف الناقدون في صوته اختلافًا لا يتبين الحقيقة فيه من يسمع الصوت منقولًا بالمذياع، وهو ينقل بعض الأصوات على أصلها ويعرِّض بعضها للتحريف وبعضها للتحسين.
فمن الناقدين من يعيبون على صوته خشونة تصك الآذان، ويقولون إنه أجرى العملية الجراحية في حنجرته لإصلاح هذا العيب.
ومنهم من يعجب بما في صوته من العمق ورنة التجويف، ويعده من أصلح الأصوات الخطابية لنقل الشعور الجارف والتهويل على السامعين.
وسواء كان العيب الذي يعيبه أولئك الناقدون صحيحًا أو غير صحيح فالمهم في صفات الأصوات أن تؤلف بالتكرار، وأن يكون لها طابع ولون معروف، وعندئذٍ قد يصبح العيب حلية مرغوبًا فيها مع النجاح والتوفيق.
سيماه
عصرنا هذا هو عصر الزعماء غير مدافَعٍ بين جميع عصور التاريخ.
فقد شهدنا فيه كل ضرب من ضروب الزعامة على اختلاف شروطها ومقوماتها، وشهدنا فيه كل ضرب من ضروب الحركات الشعبية وكل جماعة من الجماعات التي تدين بالطاعة لزعيم.
شهدنا زعماء من طراز سعد زغلول ومصطفى كمال يقودون الأتباع بهيبة «الشخصية» الآمرة وطلعة السيد المطاع.
وشهدنا زعماء من طراز غاندي تحف بهم هالة القداسة ويأتمُّ بهم الناس كما يأتمُّون بناسك المحراب.
وشهدنا زعماء من طراز «دي فاليرا» يعيدون عهد القديسين المقاتلين بالصبر والثقة والمفاداة.
وشهدنا زعماء من طراز موسوليني يسري منهم النشاط الحيوي إلى أتباعهم كما تسري الحرارة في الأسلاك.
وشهدنا زعماء من طراز لنين يقنعون من يقنعونهم بقوة الفكر المتعصب والمنطق المنحرف واللَّدَد العنيف.
وشهدنا زعماء من طراز شيان كاي شيك يقررون زعامتهم بصرامة العزم وحصافة الذهن ومثابرة الصبر والعناد.
وشهدنا زعماء كابن السعود يجمعون أكبر ما يجتمع في أبناء قومهم من الصفات، فيفهم الناس أن ابن السعود أكبر العرب لأنه أكبر عربي في طبائع الأمة العربية كما نعرفها الآن.
وكل هؤلاء الزعماء يراهم المتفرِّسون المتوسِّمون فلا يحارون في أسرار زعامتهم، ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا: لماذا كان هؤلاء زعماء؟ لأن الإيمان باستحقاق سعد زغلول ومصطفى كمال وغاندي ودي فاليرا وموسوليني ولنين وشيان كاي شيك وابن السعود لمنزلة الزعامة في أقوامهم لهو أسهل كثيرًا من الشك في ذلك الاستحقاق.
فآخر ما يخطر على البال أن يرى المتفرس المتوسم رجلًا كسعد زغلول أو غاندي على بُعد ما بينهما من التفاوت، ثم يخرج سائلًا: لا أدري واللهِ ما الذي جعل هذا من الزعماء؟ إنه لا يسأل هذا السؤال لأن حيرة الشك هنا لا تحيك له في خاطر.
أما الذين رأوا هتلر — وقد رآه أكثرنا في الصور المتحركة — فكلهم على ما نعتقد يسألون: أين سر الزعامة فيه؟ لماذا يستهوي الجماهير؟ وأي شيء يعوضه عن هيبة الزعماء؟
وعندنا نحن أن سر الزعامة في هتلر أنه هو «واحد مكبَّر» من جماهير النازيين، أو أنه هو «مكبر الصوت» الذي يعيد في الساحة الواسعة أصداء أفراد متعددين، لا يسمع الواحد منهم إلا إلى أمد قريب.
فهو رجل يستطيع كل فرد من أتباعه أن يتمثَّل فيه نفسه مجسَّمًا معظمًا بهذا التمثيل. ويقول في وعيه الخفي: انظر. انظر. هو ذا أنت. هو ذا نموذج منك في نطاق كبير.
وهتلر من أجل هذا ضائع «المعالم الشخصية» لأنه في صميمه ولبابه مجموعة من ملامح الجمهور وليس بفرد عظيم له ملامح فرد عظيم.
ولو وُضِعَ في وسط خمسة أو وسط خمسين أو وسط خمسمائة لكان حيرةَ الحائر في الانتقاء والاستخراج؛ لأنه صورة لا تتميز من سائر الصور إلا إذا انتزعتها من بينها لتكبيرها.
فكل خَصلة في رجل الشارع فهي في هتلر أضخم وأجسم، ولكنه يلبَسها كما يلبس الممثل دوره فلا يناقضك «بشخصية» مقررة تثير المقاومة والمناظرة، ولا يشعرك بالغضاضة أن تجلسه على كرسي الرئاسة؛ لأنك أنت الذي أجلسته عليه وأنت الكاسب عند الموازنة بين نصيبك ونصيبه، فإنما هو «شخصية مسرحية» وأنت الحقيقة الحية على كل حال.
وانظر الفارق مثلًا بينه وبين بسمارك، أو بينه وبين هندنبرج، أو بينه وبين مولتكة، أو بينه وبين أصحاب القيادة السياسية والحربية في أمة الألمان على الإجمال.
فليس واحد من هؤلاء «شخصية مسرحية» تقوم على الثوب الذي تلبسه لتمثل به الأمة بأسرها.
نعم إنهم ألمانيون في الصميم، وألمانيون في الخلق والسحناء، ولكنهم ألمانيون ينفردون بملامح لا تنغمر في ملامح السواد، وليسوا بالقناع الألماني الذي تتساوى فيه الوجوه.
ماذا يبقى من بسمارك إذا نزعت عنه جلباب قومه؟
يبقى كثير.
وماذا يبقى من هتلر إذا جردته من ذلك الجلباب المسرحي أو من تلك الصبغة العمومية؟ لا شيء.
ولا شيء يبقى منه أيضًا إذا عزلته عن الحركة النازية في أوانها المعلوم ودواعيها المسبوقة؛ «فهتلر غير النازي» لن يكون له وجود، وبسمارك موجود ولو لم يطرق باب الديوان.
•••
ثم لفظ ببعض كلمات دارجة وسيماء التفكير بادية عليه، أما عيناه اللتان اشتهرتا بلون الحديد فكانتا تنظران خلالي ولا أقول تنظران إليَّ. وطالما سألني أناس من الإنجليز عن تينك العينين ما هما وما لونهما؟ فالحق أقول إنني ما استطعت قط أن أعطيهما لونًا من الألوان الرمادية أو الزرقاء أو الخضراء. إن في تحديقهما ولا شَكَّ شيئًا غير مقبول، فإن وصفه بعضهم بالمغناطيسي فهو فيما رأيت أقرب إلى تحديق الذين ينامون منه إلى تحديق الذين يُنيمون.»
ولقد كان يسحر شعبه كما هو بيِّنٌ بغير حاجة إلى بيان، وكانت له قدرة على الخلابة إذا أجمع النية عليها، فإنها كانت إحدى بضائعه ومخزوناته، وكان لها أثر شهدتُه غير مرة. وإن لم يكن لي منه نصيب.
على أنه في حالاته المعقولة كان يربكني أحيانًا بسداده وحسن تدليله. فإذا سارت سورته، وهي الحالة التي كان لها أبلغ السلطان على قومه، فكل ما كنت أصبو إليه ساعتئذٍ أن أرجوه تهدئة نفسه.
ورأيت منه كثيرًا من اعتزاز الفطرة وتأدبًا حيثما لقيته، ولكني طالما تساءلت وما برحت أسأل: كيف صعد إلى هذه المرتبة؟ وكيف احتفظ بسلطانه على الأمة الألمانية؟ وجواب السؤال الثاني فيما أعتقد أن الألمان يحبون أن يسوقهم الحاكم المستبد، وأن حزبه ليس بقادر، وقد حصل على زعيمه أن يبدِّله الآن. فلا حيلة له في إبقائه حيث هو إذا أراد أن يتقي الهدم والدمار.»
وقال السير نيفيل في موضع آخر: «هذه القدرة على خداع النفس وإقناعها قد كانت جزءًا موصولًا بخططه وتدبيراته، وقد ساعدته على إضرام عواطفه وإقناع شعبه بما يريدهم على تصديقه. ويخيل إليَّ أنه إذا وقف غدًا بين يدي الدَّيَّان فلسوف يجادل يومئذٍ جدال المؤمن في ظاهر الأمر بأنه كان حريًّا أن يعصم أوروبا من أهوال الحرب لو قبل البولونيون شروطه المعقولة السخية!»
ثم قال: «وهتلر واحد منهم: ابن فلاح يزيد تعليمه قليلًا على تعليم كل ابن فلاح، ولكنه يستوي الآن في مكان يعلو على متناول الخيال في أعجب ما عندهم من قصص الجان.
وفي الحق إنه لا يخلو أبدًا من هيئة إنسان مدهوش بعض الدهشة، وقد نبهني زميل من كبار أطباء العقول لازمني في رحلة نورمبرج إلى هيئة هتلر وهو يشد نفسه من حين إلى حين في المحافل الكبرى ليكفَّ عن الأحلام، كأنما هي حالة من حالات الشخصية المزدوجة، فهو لا يحب أن تبرز فيه صفات الفلاح الشائعة بين جمهرة الفلاحين، ولا يفتأ مذكِّرًا نفسه بتمثيل دور الزعيم أو نصف الإله بين شعب عظيم، ونبَّهني ذلك الزميل إلى علامة أخرى من علامات هذه الخليقة، وهي إسراعه إلى تبديل ملامح الرضى والاكتفاء التي تزحف إلى وجهه أحيانًا في وسط المواكب الشعبية …»
هذه كلها ملامح رجل مطبوع على «الإيحاء الذاتي» أو مزاج الاستحضار الذي يستعين به الممثلون على تحضير الشخوص والأدوار.
فهو أبدًا شخص غير شخصه، وهو أبدًا لابس قناع من صبغة خياله، وهو أبدًا بين جمهور وعلى مسمع من هتاف وتصفيق، وإلا فهو نكرة من النكرات.
ونحن نستفيد من أوصاف الذين راقبوه ودرسوه وقيدوا حركاته وسكناته عليه … ولكنه لا يختفي عنَّا إذا اختفت أقوال هؤلاء أجمعين؛ لأننا كما قلنا في عصر الزعماء، وفي عصر المذياع يجوب الفضاء، والصور المتحركة تتردد في الأرجاء، وليس لنا محيص من المقابلة بينه وبين زعماء الأمم في زمانه، وليس في وسعنا بعد هذه المقابلة أن ننسب إليه صفة «ذاتية» كالصفات التي تتجلى في أمثال سعد زغلول ومصطفى كمال وغاندي وموسوليني، ولا أن ننسى الفارق بينه وبينهم في مقوِّمات الزعامة؛ فهو مكبر صوت في ساحة عامة، وليس منهم جميعًا من تنحصر سيماه في تكبير الأصوات.
أصحابه
وربما كان أوفى الطرق وأقربها إلى دراسة نفس إنسان أن تُلِمَّ بسيرة أصحابه وأعوانه الذين يعمل معهم ويعملون معه، ويحتاج إليهم ويحتاجون إليه.
فمن هذا الإلمام بسيرة أصحابه وأعوانه نعلم حقيقة العمل الذي يتفقون عليه: هل هو مَبَرَّةٌ يتفق عليها أناس كرام، أو هو جريمة يتفق عليها أناس مخلوقون للإجرام.
وليس في وسع أقرب المقربين إلى هتلر وأرغب الراغبين في الثناء عليه أن يطلق وصف «الأناس الكرام» على أصحابه الأخصاء: جورنج وريبنتروب وجوبلز وهيملر وإخوان هذا الطراز!
فكلهم من مرضى الظهور المشهورين بالنقمة والغدر وسوء الدخلة وحب الشرور.
وكلهم ممن يعرفهم العارف فيقول على الفور: ها هنا جريمة مدبَّرة! ولا يخطر له على بال أنها مأثرة من مآثر النبل والشمم والفضيلة.
ولا حاجة إلى التوسع في سيرة هيملر، فحسبه أنه رئيس الشحنة وقائد الجواسيس الذي ترجع إليه آثام الغيلة ومكائد الوقيعة ووصمة التعذيب في المعتقلات، وإفساد الأبناء على الآباء، والزوجات على الأزواج، والإخوان على الإخوان؛ سعيًا وراء الفضائح وتسقُّطًا للأخبار واختراعًا للجنايات والأكاذيب، وقيامًا «بوظيفة نازية» لا يخطر على البال أن يضطلع بها رجل صادق شريف.
ولكننا نذكر الحقائق المقررة عن الرجلين اللذين يقبضان مع هتلر على زمام السطوة كلها في البلاد الألمانية، وهما ريبنتروب المسئول عن السياسة الخارجية، وجورنج المسئول عن الجيش والطيران، وفيهما ينحصر كل ما في ألمانيا من قوة السياسة وقوة السلاح.
فالأول من صرعى الظهور وأمثلة «الانتهاز» الذين عُرِفُوا في الاصطلاح الحديث بنعت «الوصوليين».
لم يكن من أصحاب الألقاب ولكنه سعى عند عَمِّهِ حتى تبنَّاه، ثم سعى عند المراجع الرسمية حتى قبلت وراثة اللقب بالتبني كما يورث بالبنوة الصحيحة.
وكان في نشأته، وبعد الحرب، يتجر بالنبيذ في ألمانيا الغربية حيث يعسكر الفرنسيون وجنود الحلفاء، وهي تجارة كانت تقوم على التهريب برعاية «الأعداء» المحتلين للبلاد!
وكان سبب التعارف بينه وبين هتلر من «أليق» الأسباب بأخلاق النازيين وطبيعة الحركة النازية.
فقد كان ريبنتروب منوطًا بالتجسس على الأحزاب البافارية في أعقاب الحرب الماضية، وكان ضابطًا يساعده في هذه المهمة ضابط آخر، فكانا موضع الشبهة والارتياب بين العمال وصغار الجند لانتمائهما إلى طبقة الضباط التي كانت كما أسلفنا متهمة النيات في عرف السواد من أبناء الطبقة العاملة.
وكان من جراء ذلك أنهما بحثا عن «جندي» يؤدي عنهما هذه المهمة وينقل إليهما ما يسمع ويرى، فعثرا بالطِّلبة المنشودة، ولم تكن هذه الطلبة غير «هتلر» الذي كان مستعدًّا لكل صناعة من هذا القبيل في مقاهي ميونيخ.
وعلى هذا النحو تم التعارف بين الرئيس والمرءوس، أو بين المرءوس والرئيس.
وريبنتروب بعدُ، هو موقع الميثاق الألماني الياباني لخمس سنوات، وهو هو الساعي في إبرام المحالفة بين الألمان والروس! وإنه لعمل لا يخلو من الدلالة على الأخلاق مهما يَقُلِ القائلون في تسويغه باسم السياسة والمناورات الدولية.
أما جورينج فالثابت من الأوراق الرسمية في بلاد السويد أنه كان يتعاطى المورفين بشهادة الأطباء والصيادلة أمام قضاة الأحوال الشخصية في مدينة «ستوكهلم» سنة ١٩٢٦.
وبعد تقديم الوثائق وسماع أقوال الخبراء والشهود قضت المحكمة بفصل الولد عن الزوجين وتسليمه إلى حضانة آخرين.
وعجائب جورينج في حب الظهور ونشوز الأخلاق لا تُحصى ولا تفرغ منها فكاهات أهل برلين من نازيين وغير نازيين، حسبك منها أنه يلعب بشبل أسد وأنه يبدِّل نيفًا وعشرين كسوة رسمية، ويملأ كل واحدة منها بالأنواط والأوسمة والشارات!
والظاهر أن الآفة عامة بين زعماء النازيين على صور وأشكال؛ فكلهم جياع إلى المظهر البراق، وكلهم يعيشون في جو التمثيل والإخراج.
فالمنافس الأول لجورينج — وهو ريبنتروب — لا يكثر مثله في تبديل الكسى وحمل الأنواط والأوسمة، ولكنه لا يعيش بغير تمثيل وتهويل سواء أقام في بلاده أو تغرَّب عنها … ومن ذاك أنه تولى وزارة الخارجية فأقام فيها حرسًا من مائة وخمسين فتى يلبسون الكسوة الرمادية الخضراء، ويرسلون الأهداب من الأكتاف، ويصطفُّون كل صباح لأداء التحية في فناء الوزارة.
ثم أدب ريبنتروب مأدبة أخرى في الخريف التالي تكريمًا للكونت شيانو، فحضرها المراسل مع الصحفيين المدعوين. قال: فرأيت الفتى في وقفته الأولى، وفي موضعه الأول ومعه الكتاب لم يُفتح بعد، وهو مقبل على قراءته بإنعام.
وحكاية «هيل هتلر» والوقفة النازية في بلاط لندن أعجب ما يُروى من مهازل هذا التمثيل والإخراج!
وقد تساوى ريبنتروب وجورينج في استغلال الوطنية والاستفادة من محنة الأمة عند الحاجة.
فاحتلال الحلفاء لوادي الرين لم يمنع ريبنتروب أن يقنص الفرصة ويتجر هنالك بتهريب النبيذ.
وحماسة جورينج الوطنية لم تمنعه أن يعرض سر المظلات الواقية للبيع في الأسواق الأوروبية، فأنشأ في أيام الجمهورية الألمانية المعروفة باسم الريخ الثاني مصنعًا لهذه المظلات بعاصمة السويد يعرضها لمن يشاء أن يشتريها من دول الأعداء والأصدقاء، وهي تلك المظلات التي يعتمدون عليها الآن في غارات النرويج والميادين الغربية.
وقد حفظت نسخة الإعلان في دار المحفوظات السويدية وفقًا للقانون الذي يقضي في تلك البلاد بإيداع نسخة في المكتبات الحكومية من كل ورقة مطبوعة … فكأنَّ جورينج لا يختص وطنه بمخترعاته إلا إذا كان له نصيب من حكمه، أما إذا كان يائسًا من الحكم غريبًا في بلاد أجنبية فليس لوطنه هذا الحق عليه.
فسواء ثبت هذا الخبر أو لم يثبت فالهدايا التي قبلها جورنج في عرسه (سنة ١٩٣٤) ولا يزال يقبل أمثالها تبلغ الملايين ولا شك فيها بين الألمان … والأسهم التي اشتراها جوبلز في البلاد الخارجية حقيقة لا تقبل الإنكار، ومنها مائة سهم في شركة كبيرة يعرفها المصريون وهي شركة قناة السويس حُجز عليها (أي على الأسهم) بقرار من نيابة محكمة السين في منتصف شهر مايو (١٩٤٠)، وقس على ما ثبت بالأوراق والشهادات ما هو مزويٌّ إلى الساعة في انتظار الإثبات.
إلا أننا لو نفينا الاختلاس وابتزاز الأموال عن هؤلاء الناس لظلوا على وصفهم الذي تنكره الأخلاق والأذواق عصابةً من مرضى الظهور ونهَّازي الفرص وأصحاب الضراوة بالشرور.
فما هي القضية الشريفة التي يخدمها أمثال هؤلاء؟ وما الذي يرحض عنهم وصمة هذه الشرور؟ أيرحضها عنهم أنهم أذكياء لبِقون في التحيل ونصب الفخاخ؟
لقد حيَّرت عصابات المهربين في الولايات المتحدة ذكاء الشرطة والمحقِّقين ورؤساء الحكومة حتى اضطروهم إلى رفع الحظر عن المسكِرات؛ فمن المجرمين أذكياء ومنظمون، ولكن ليس من رجال الخير والنجدة والقضايا الشريفة فتاكون أشرار، مجرَّدون من فضائل النبل وسجايا المروءة.
ولولا أن العمل الذي يتولاه هتلر «جريمة إنسانية» لما تولاه معه أناس بهذه الطباع.
تلخيص
وفحوى ما تقدم أننا أمام رجل أبتر مدخول الطبيعة.
لم تؤهله للخير وراثته ولا نشأته، ولا صلة الأرحام بينه وبين أهله، ولا صلة المودة بينه وبين صحبه، ولا القدرة على كسب عيشه، ولا النجاح والتوفيق في الفنون الجميلة التي ظن أنه مستعد لها بطبعه، ولا الغرائز والعواطف التي ركبها الله في تكوين كل ذكر وأنثى.
وإلى جانب هذا لم يكن لطبيعته المكبوتة مصرف من الحركة الجسدية والألعاب الرياضية التي تُلهي وتشغل عن هواجس النفس المصدومة النافرة وأشواق الجسد العاجز المحسور؛ لأن هتلر على كل إطنابه في مدح الألعاب وتنشئة الجيل عليها لم يولع قط بلعبة رياضية أو حركة جسدية، ولم يشتهر كما اشتهر غيره من الطغاة بغرام السرعة في ركوب الطيارات والسيارات، أو غرام الفروسية في الصيد وتجربة السلاح، أو ما شاكل ذلك من وسائل التنفيس والتفريج.
ولو اقتصر أمره على هذا لكانت نهايته التي لا شك فيها إما إلى الإجرام أو الجنون، وإما إلى الخمول والهزال، ولَمَا سمع به أحد ولا كُتب له اسم في سجل التاريخ.
ولكنه نشأ موهوب الذهن في فترة الزعازع الدولية والمفاجآت السياسية.
واتفق له أنه كان «مختار» خمسة أو ستة في بدء حياته الحزبية: اختاروه ولم يكن في وسعهم أن يختاروا من يشاءون كما يشاءون. ثم تكفَّل التاريخ بالبقية الباقية، وأصبحت الصعوبة بعد ذلك في إسقاطه ومحوه لا في ارتقائه وتمهيد طريقه.
كيف وصل هتلر إلى الزعامة؟
وصل إليها لأنه كان «مختار» أولئك الخمسة أو الستة من البداية، ولم يكن من السهل إسقاط زعيم بعد اختياره.
وكيف فعل بعد ذلك ما فعل في عالم السياسة الدولية؟
ورجل يقبض على زمام ثمانين مليونًا من المخلوقات الآدمية هذه عقيدتهم وهذه فطرتهم وذلك استعدادهم للطاعة العمياء ما الذي يستكثر عليه مما فعل؟ ولماذا يستكثر عليه؟ ولماذا نقف أمام فعله موقف الدهشة والإكبار.
لو أنه كان متقيدًا بدستور أو متقيدًا بقانون أو متقيدًا بعُرف مأثور أو متقيدًا بمعاهدات مرعية أو متقيدًا باجتناب الحرب أو بالسير في طريق محدود لا يتحاشاه ولا يحيد عنه، لكان العجب مفهومًا من أن يستطيع ما استطاع. لكنه لم يتقيَّد قط بشيء من الأشياء، ولم يزل يأمر ويطاع في كل ما أراد.
بل نحن نخطئ إذا فهمنا أن المسألة هنا مسألة طاعة؛ لأنها في حقيقتها أكثر جدًّا من الطاعة.
المسألة هنا مسألة تعصُّب لزعيم يراد له التقديس والتمجيد، ومسألة «ثورة شعورية» جامحة في سبيل التمكين والتأييد، أو هي «هوسة» تسبق الطاعة إلى المفاداة والمغامرة؛ لأن غريزة الجماعات قد جاشت جيشانها، فاندفعت كما يندفع القطيع من الماشية في أثر الحيوان السابق، ولو إلى الهلاك.
أيقال إن هذا مطلب صعب على من يريده؟
كلا. بل هذا أسهل المراكب وأوطؤها لمن لا يحسب حسابًا ولا يتقيد بقيد … فليس أسهل من إثارة الشر في نفوس الجماعات الغاضبة المتعطشة إلى الانتقام، المهتاجة بصيحة الحرب والعدوان.
وإنه لأسهل المراكب من الوجهة الاقتصادية والسياسية، لا من الوجهة الشعورية ولا من وجهة النظر إلى غرائز الجماعة دون غيرها.
تسلَّحوا أيها الألمان جميعًا!
هذه أسهل صيحة تصاح وأَقْمَنُها بالإجابة والقبول: يقبلها أصحاب المصانع لأنهم يروِّجون بها مناجم الفحم والحديد ومصانع السلاح.
ويقبلها الضباط والجنود لأنهم يعتزون بها ويضمنون بها العيش والكرامة.
ويقبلها العمال والصُّنَّاع لأنهم يجدون عملًا في صنع السلاح أو في حمل السلاح.
ويقبلها الشيوخ المحافظون لما فيها من تعزيز النظام القديم، ويقبلها الشبان المتطرفون لما فيها من الحماسة والضجيج، ويقبلها النساء لأنهن زوجات عمال أو جنود أو أصحاب أموال، ولأنهن معجَبات بمظاهر الفروسية ومواكب الجنود في كل زمان.
فأنت ترى أنها ليست بمعجزة.
بل هي نقيض المعجزة.
إنها أسهل شيء يخطر على بال من يريد، ولا مانع يمنعها إلا التفكير في العواقب على الأمة الألمانية، وعلى الأمم المجاورة لها وعلى العالم الإنساني بأسره … وهذا ما لم يفكر هتلر فيه؛ لأنه مجرم يركب رأسه، لا لأنه رجل مقدام.
•••
وكل ما صنع هتلر فهو ضروري لغرض واحد: ضروري لإشباع غريزة الحقد والغرور والبطش والإجرام في نفس بتراء ممسوخة.
وليس بضروري لغرض آخر كائنًا ما كان.
نعم ليس بضروري لسيطرة ألمانيا المزعومة حتى لو أمكن أن تسود ألمانيا على الدنيا، وهو مستحيل.
وغاية ما هنالك أن «سيطرة ألمانيا المزعومة» هي الستار الذي يداري به هتلر بشاعة إجرامه، أو هي المخدِّر الذي يُنيم به وسواسه قبل اقتراف الجريمة أو بعد اقترافها.
وإلا فكيف كان هتلر يطيق تلك الأشباح كلها لو صارح نفسه بالحقيقة، وأعلن نفسه أنه يهدر ما أهدر ويقتل من قتل لمحض الاستمتاع بشهوة الدماء ونهمة الأحقاد.
إن القاتل ليرتعد من الوجل والرعب أمام شبح واحد وجثة واحدة. فكيف بالمجرم الذي يقذف بالعالم كله في أتون النار؟! وكيف بالمجرم الذي تتراءى له الرءوس الطائحة من أصدقائه وأعدائه بالألوف؟ وكيف بالمجرم الذي يقضي على شعوب ويهتك كل حرمة مقدسة في الشرائع والآداب؟
الجنون السريع أيسر ما يصيب المجرم الذي تطارده كل هاتيك الأشباح، ثم يصمد لها الليل بعد الليل والنهار بعد النهار، بغير مخدِّر فعال.
وسيطرة ألمانيا المزعومة هي ذلك المخدر الفعال.
فاقتل يا هتلر إذن واضرب وغامِرْ وانتقم وأشبع ما بدا لك من ضغينة وشر وكنود، فما أنت بمجرم منهوم بالشر المستطير، بل أنت بطل مشغوف بمجد ألمانيا الموعود.
هل ضمن مجد ألمانيا الموعود؟ وهل ضمن السيطرة الألمانية على الدنيا؟
كلا! فسيطرة ألمانيا على الدنيا ولو انتصرت في الحروب كافةً مطلب لا يكون، ومصير غير مضمون، ولا هو بعد ضمانه بمأمون.
ولكنه ضمن المطلب الذي لا ريب فيه، وهو إشباع ما فيه من شر متفزِّز ومسخ متحفز، وطبع مكظوم.
وقد يقول قائلٌ الآن إنه استهان بالأرواح والحرمات وأقدم على الشر المستطير في سبيل خطة عظيمة هو واضعها وهو الكفيل بإنجازها في مكان الزعامة على الأمة الألمانية، أو في المكان الذي يستطيع فيه أن يتمنى ويحقق ما يتمناه.
لكنه مع ذلك فرح بالشر المستطير عند إعلان الحرب الماضية وتهلل له وقال في كتابه: «إن تلك الساعات كانت نجاة لي من الضيق الذي كان يرين على نفسي في أيام شبابي؛ فلا يخجلني أن أقول اليوم إنني قد أُخِذْتُ بمجيء تلك الساعة وركعت على ركبتيَّ أشكر الله من أعماق قلبي لأنه أتاح لي العيش في هذا الزمان.»
فهو يفرح بالشر المستطير وهو جندي من عشرة ملايين، ويفرح به وهو زعيم لا يشاركه أحد في الزعامة، وليس في وسع مخيِّلة أن تتوهم أنه قد فرح بالكارثة العظمى ذلك الفرح لأنه رأى أمَّته منتصرة ورأى أنه سيجلس على عرشها بديلًا من آل هوهنزلرن وهم ظافرون! أو رأى أمته منتصرة وهو يتنبَّأ للدولة النمسوية بالانهيار، أو رآها منهزمة ثم تسلسلت أمامه الحوادث إلى اليوم الذي يشن فيه هذه الحرب الحاضرة. فتلك أوهام بعيدة من تخيُّل المتخيلين، وإنما الصحيح من كل هذا أنه مجرم شرير يفرح بالشر حيث كان لأنه لا يعرف الفرح بغيره في عمل من الأعمال.
•••
وإيانا أن ننخدع عن كنه الإجرام فنفهم أن المجرم ينوي الجريمة ويعترف بينه وبين وجدانه باختيارها وتفضيلها ولو تسنَّى له اجتنابها.
فإن المجرمين لَيعتقدون أنهم مُكرَهُون، وأنهم لولا الأيام والصروف لما اقترفوا قَطُّ ما يقترفون، وما من نزيل من نزلاء السجون تسأله فيقول لك إنه كان يأبى أن يعيش كما عاش فلان الصالح السري وفلان العائل المكفول المؤنة بين عياله وأهله، وهتلر أيضًا لو سألته لقال لك مخلِصًا أو غير مخلص إنه كان يَوَدُّ لو تم له كل ما أراد بغير قتال.
إننا لنبحث عبثًا في سجلات التاريخ ووقائع الدنيا الماثلة بين أيدينا لو بحثنا عن المجرم الذي يقول إنه خرَّب العالم وله مندوحة عن خرابه، أو ظلم من ظلم وسفح ما سفح لأنه يستريح إلى الظلم وسفك الدماء.
فإنكار الجريمة لا ينفي طبيعة الإجرام.
وكفى أن يكون الشر سهلًا يواقعه المرء لأيسر ضرورة أو لضرورة موهومة لتثبت طبيعة الإجرام أيما ثبوت.
وما ضرورة دانزيج، وما ضرورة تأجيلها أو انتظار اليأس من المفاوضة فيها؟
ليست بضرورة على الإطلاق.
لكنها مع هذا كانت أعضل على هتلر من معضلة المغامرة بسلام الدنيا ومصير بني الإنسان.
وسوَّغها المسوِّغون فقالوا إنه قد أسرع إلى الحرب لأنه عاهد الروسيين على التزام الحيدة وتقسيم الغنائم، كأنهم يَنْسَون أنهم يعنون بذلك تفسيرًا واحدًا لا تفسير غيره؛ وهو أن صاحبهم يتلهَّف على ذرائع الشر والبغي فلا يرفضها ساعة العثور عليها، وليس يتلهف على ذرائع الرفق والسلام.
•••
وبعدُ فسيطرة ألمانيا على الدنيا ليست حقيقة في حيز الوجود، وليست حقيقة في مستقبل الأيام، وليست حقيقة تساوي أهوالها وخسائرها على فرض إمكانها.
لكنها حقيقة على صورة واحدة، وهي الإعانة على طوية الشر والبغي والتمادي فيهما إلى أقصى مداهما؛ ففي هذا ولا شك هي حقيقة وافية بغاياتها، مؤدية إلى نتائجها.
وليس في تاريخ الرجل عمل واحد يستعصي على إنسان متوسِّط الذكاء غير مقيد بالعواقب ولا بوازع القانون والأخلاق.
فهو لم يصنع معجزة يوم اختاروه زعيمًا لخمسة أو لستة من الفارغين للمشاغبات السياسية في ميونيخ. ولا سيما إذا ذكرنا أن هذه الزعامة لم تكن أمنية مرغوبًا فيها، للشك في مصيرها واستلزامها أن ينقطع لها صاحبها عن الأعمال والعلاقات.
وهو لم يصنع معجزة ببقائه في زعامته؛ لأن خلع الزعيم ولو كان خصومه على هدى، أصعب جدًّا من بقائه في الزعامة ولو كان على ضلال.
وهو لم يصنع معجزة باقتداره على ما فعل وبين يديه موارد الدولة الألمانية وأمامه عالم لا يريد الحرب ولا يتفق على المقاومة.
وفضيلته الكبرى هي نقيصته الكبرى: هي أنه ركب الدولاب الجامح ولم يُبَالِ وخامة المركب؛ لأن أسوأ العواقب لا يعنيه ولا يثنيه.
فلِمَ يفكر ماذا يكون المصير وألمانيا كلها هاجمة على التسليح مشغولة بالتأهب للقتال.
فالمصانع لا تُخرج المدافع والدبابات أبد الآبدين، دورانها على السلاح سرمدًا مستحيل، ووقوفها بعد دورانها أعوامًا مستحيل؛ لما فيه من إغضاب أصحاب المال، وإغضاب الملايين من العمال، المتسكعين بين الجوع والسؤال.
والتحدث عن الحرب ليل نهار لا بد أن ينتهي إلى حرب عاجلة ولو لم تكن لازمة ولا ناجحة.
وتربية الشعب على المفاجآت المسرحية تعوِّده أن يترقبها ويتحفز لها ولا يطيق الفراغ منها، وإلا فترت الحَمِيَّةُ وخمدت نار الزعامة التي هي قوامها وعلة وجودها.
وهكذا دار الدولاب الجهنمي دورته المرهوبة، ولم يكن عند هتلر إلا لعبة أخاذة يستطيبها خيال أكتع لم يخلق للعظمة الفنية، وطبيعة جارمة خوت من الرحم الإنساني، وعقل مخبول يومض فيه الذكاء، ولكنه ذكاء في قبضة شيطان.