دراسة علم الجمال
(١) الفلسفة – نقد اعتقاداتنا
لو كان عليَّ أن أختار لفظًا واحدًا أصف به وظيفة الفلسفة و«روحها»، لكان هذا اللفظ هو أنها نقدية. غير أن من الواجب ألا يسيء المرء فهم هذا اللفظ؛ إذ إن له في الحديث اليوم عادة معنى أضيق من ذلك الذي أقصده؛ فعندما نقول، في حديثنا المعتاد، إننا «ننتقد ذلك الشخص»، نعني عادةً أننا نجد فيه عيبًا. غير أن الفلسفة ليست «نقدية» بهذا المعنى؛ فهي ليست تنقيبًا عن العيوب؛ وهي ليست «مزدرية دائمًا»، كما يفعل أولئك الأشخاص سَيِّئُو الطبع الذين نعرفهم جميعًا.
والصحيح أن الفلسفة نقدية بمعنًى أوسع؛ فهي في هذا المعنى تفحص شيئًا لكي تحدد نقاط قوته وضعفه. وبهذا المعنى تكون الدراسة النقدية متعلقة بمزايا الموضوع الذي تدرسه فضلًا عن عيوبه، ولكن، ما الذي تدرسه الفلسفة بطريقة نقدية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست هينة إلى الحد الذي يتبادر إلى الذهن. ومع ذلك يمكن القول إن الفلسفة تنتقد بعضًا من أهم الاعتقادات التي يأخذ بها البشر وأوسعها انتشارًا، كالاعتقاد مثلًا بأن الله موجود. وهناك مثل آخر هو الاعتقاد بأن ثمة أفعالًا معينة؛ كالوفاء بالوعد أو الولاء للوطن، ينبغي علينا أن نقوم بها، وأفعالًا أخرى؛ كالكذب أو الغش في الامتحانات، تتصف بأنها خطأ من الوجهة الأخلاقية. ومن الأمثلة الأخرى الاعتقاد أو الإيمان بأهداف أو «قيم» معينة للحياة البشرية ينبغي علينا أن نسعى إليها، كالحصول على أكبر قدر يمكننا أن نناله من اللذة، أو العكس، أي الحب المسيحي القائم على التضحية بالنفس.
ولقد وَصفتُ الاعتقادات التي تنتقدها الفلسفة بأنها «هامة وواسعة الانتشار» معًا. ولا شك أن الأمثلة التي أوردناها تدل بوضوح على أن هذه الاعتقادات واسعة الانتشار بالفعل؛ فكل إنسان بالغ تقريبًا، في أية حضارة أو أي عصر تاريخي عاش فيه، كان، ولا يزال، يأخذ بنوع معين من الاعتقاد في كل هذه المسائل. ولو تريث القارئ لحظة ليفكر في هذا الأمر، لتبين له أن هذا يصدق عليه هو ذاته أيضًا، مهما كان من غموض اعتقاداته أو عدم تحدد معالمها على نحو قاطع.
على أننا لا نستطيع أن ندرك أهمية الاعتقادات التي تدرسها الفلسفة، ما لم نبحث في أهمية الاعتقادات بوجه عام. إن الاعتقادات ليست أصنافًا موضوعة على رفوف مخازننا العقلية، تظل عادةً دون استخدام، وإن كنا ننفض الغبار عنها أحيانًا ونستخرجها من أماكنها — من أجل استخدامها في جلسة مناقشة ودية مثلًا، بل إنها أهم من ذلك بكثير؛ إذ إنها تسيطر على مجرى حياتنا وتوجهه؛ فنحن نسلك دائمًا على هدى اعتقاداتنا. والأمور التي نعتقد بصحتها عن العالم وعن أنفسنا لها أهمية حاسمة في اتخاذنا قرارًا بأن نؤدي فعلًا معينًا بدلًا من فعل آخر، وفي أن نستهدف غاية معينة بدلًا من غاية أخرى. واعتقاداتك عن نفسك تحدد اختيارك لميدان تخصصك في الكلية، كما أن اعتقاداتك عن الآخرين تحدد اختيارك لصديقك الحميم من بين زملائك.
ومن هنا فإن أمورًا عظيمة الأهمية تتوقف على صحة اعتقاداتنا. ويمكن القول بوجه عام إن السلوك لن يكون مثمرًا وناجحًا ما لم يكن مرتكزًا على اعتقادات موثوق منها. أما السلوك الذي يفتقر إلى استنارة الاعتقاد الصحيح فلا بد له أن يكون منحرفًا عقيمًا؛ إذ يكون نتاجًا للخرافة، أو «التخمين» أو العادة الجامدة.
والاعتقادات التي تدرسها الفلسفة هي تلك التي تكمن من وراء سلوكنا في المجالات الرئيسية للتجربة البشرية؛ ففي حالة الأخلاق، لا تهتم الفلسفة بقرار أخلاقي معين، مثل: هل أكذب لأربح في هذه الصفقة؟ — بقدر ما تهتم بمبادئ الصواب والخطأ التي يرتكز عليها مثل هذا القرار؛ فالشخص الذي له مبادئ أخلاقية غير سليمة، لا بد أن يسلك بطريقة مرذولة مستقبحة. وهذا يصدق أيضًا على مجال التجربة الذي سوف نتناوله هاهنا بالبحث — أعني الإبداع والتذوق الفني. فاستمتاعنا بالفن — إن كنا ممن يستمتعون به — يتوقف على اعتقاداتنا بشأن طبيعته وقيمته. وهنا أيضًا نجد أن الاعتقادات الباطلة تؤدي — كما سنرى فيما بعد بالتفصيل — إلى سلوك لا جدوى منه.
•••
والآن، ما الذي يعنيه بالضبط قولنا إن الفلسفة «ناقدة» لاعتقاداتنا؟ فلنعترف، بادئ ذي بدء، بأن معظم اعتقاداتنا المتعلقة بأمور حيوية كالدين والأخلاق غير نقدية بصورة واضحة. وفي استطاعتنا أن نقول إن القارئ لو تريث مرة أخرى ليفكر في اعتقاداته في هذه الأمور، وسأل نفسه عن السبب الذي دعاه إلى الأخذ بهذه الاعتقادات، لوجد في معظم الحالات أنه لم يصل إلى هذه الاعتقادات نتيجة لتفكير جاد متمعن فيها، بل الأصح أنه قَبِلها متأثرًا بسلطةٍ ما، أي بفرد أو نظام معين. أدخل في ذهنه هذه الاعتقادات. وقد تكون هذه السلطة أبويه أو معلميه، أو الطائفة الدينية التي ينتمي إليها، أو أصدقاءه. وكثير من اعتقاداتنا مستمد مما نطلق عليه، بطريقة غير محددة بدقة، اسم «المجتمع» أو «الرأي العام». والذي يحدث عادة هو أن هذه السلطات لا تفرض علينا تلك الاعتقادات، بل إننا نتمثلها أو نمتصها من «المناخ الفكري» الذي ننشأ فيه. وهكذا فإن معظم اعتقاداتك المتعلقة بأمور مثل وجود الله أو كون الكذب صوابًا في أية حالة، هي مخلفات تلقيتها من السلف.
وهنا يأتي دور العمل «النقدي» الذي تقوم به الفلسفة. فالفلسفة ترفض قبول أي اعتقاد لا تثبت صحته بأدلة واستدلالات. والاعتقاد الذي لا يمكن البرهنة عليه بهذه الطريقة لا يستحق ولاءنا العقلي، وهو عادة مرشد غير مأمون للسلوك. وإذن فالفلسفة تأخذ على عاتقها مهمة البحث الفاحص في الاعتقادات التي نكون قد قبلناها بطريقة غير نقدية من سلطات متعددة. ولا بد لنا أن نتخلص من ضروب التحامل والانفعالات التي تشوه اعتقاداتنا في كثير من الأحيان. ولا تقبل الفلسفة السماح لأي اعتقاد باجتياز الاختبار لمجرد كونه مستندًا إلى تراث، أو لأن الناس يجدون رضاءً انفعاليًّا في الأخذ به كما أن الفلسفة لا تقبل اعتقادًا لمجرد كونه يُظن متمشِّيًا بوضوح مع «التفكير الشائع»، أو لأن أناسًا حكماء قد نادوا به، وإنما تحاول الفلسفة ألا تأخذ أي شيء «قضيةً مسلمًا بها»، أو «على أساس الثقة»، فهي تكرس نفسها للبحث الدائب الصريح، لكي تتأكد إنْ كانت لاعتقاداتنا مبررات، وتعرف إلى أي مدًى تكون لها هذه المبررات. وعلى هذا النحو تعصمنا الفلسفة من الانحدار إلى مستوى الاستسلام العقلي والقطعية الذهنية التي يتعرض لها البشر جميعًا.
•••
هذه الأسئلة تمثل نوع المشكلات التي سندرسها ها هنا. ولا حاجة بنا إلى إدراجها تحت أي «تعريف» قاطع «لعلم الجمال»، حتى لو كان ذلك ممكنًا؛ ذلك لأن أي تعريف كهذا لن يكون له إلا معنًى ضئيل، أو قيمة تافهة، بالنسبة إلى القارئ في هذه المرحلة. وسوف يجد هذا القارئ في الفصل الحالي فيما بعد تحديدًا أكثر تنظيمًا للمشكلات الرئيسية في علم الجمال والطرق التي ترتبط بواسطتها بعضها مع البعض، ومع ذلك فإن الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يختص به علم الجمال هي أن نرى كيف يقوم هذا العلم بنقد اعتقاداتنا المتعلقة بهذه المسائل.
(٢) لماذا ندرس علم الجمال؟
على أن هناك مسألة سابقة تقتضي انتباهنا، قبل أن نواصل سيرنا، فقد قلت إن الفلسفة «ناقدة» بلا انقطاع، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فهلا ينبغي على الفلسفة أن تكون ناقدة «لذاتها»، أيضًا؟ الواقع أن الفلاسفة دأبوا، طوال تاريخ الفلسفة، على طرح أسئلة نقدية عن أهدافهم ومناهجهم، وعن قيمة الاشتغال بالفلسفة — فلنكن إذن «نقديِّين» منذ البداية الأولى، ولنتساءل: «لم ندرس علم الجمال؟» هل هناك أية أسباب معقولة تجعل الدارس يهتم بمسائل كتلك التي أوردناها من قبل؟ في اعتقادنا أن لهذا الاهتمام أسبابًا أفضل من تلك التي دفعت طالب الجامعة — في القصة الساخرة القديمة — إلى اختيار مقرراته الدراسية دون أي اعتبار للموضوع ذاته، بل على أساس مبدأ واحد هو ألا تبدأ أية محاضرة فيها قبل الساعة العاشرة، ولا يقع أي مُدرَّج تُلقى فيه المحاضرة بعد الطابق الثاني.
ولعل أفضل طريقة لمواجهة هذا السؤال هي أن نناقش حججًا معينة تحاول إثبات أن علينا ألا ندرس علم الجمال. هذه الحجج كما سنرى فيما بعد، تحاول إثبات أن دراسة علم الجمال لا ضرورة لها، أو عقيمة، أو حتى ضارة. ولا جدال في أن من واجبنا أن ننجح في الرد على هذه الحجج، إذا استطعنا ذلك. ولعل أحدًا لا يتوقع، في حالة إخفاقنا في الاهتداء إلى الرد أن «نغلق الحانوت» ولم نكد نبدأ بعد دراستنا. غير أن هذا لا ينقص من قدر هذه الحجج التي يُعد بعضها قويًّا بحق، فحتى لو لم تكن هذه الحجج تثبت القضية التي ندافع عنها، فإن لها فائدتها لأنها تحول بيننا وبين الوقوع في أخطاء خطيرة في تفكيرنا المتعلق بعلم الجمال؛ فهي تعيننا على أن ندرك بوضوح هدف الدراسة الجمالية، والمناهج التي ينبغي أن نستخدمها في دراستنا هذه.
فما هي إذن الحجج التي تساق ضد دراسة علم الجمال؟
•••
فمن الجدير بالملاحظة أن أي ميدان من الميادين المتعددة المذكورة من قبل لا يبحث صراحة في مسألة تعد أساسية بالنسبة إلى دراسة الفن، وهي: لماذا كان للفن الجميل قيمة؟ إن الاعتقاد بأن للفن. مرتبة رفيعة بين «الأشياء الطيبة في الحياة» هو اعتقاد يكاد يكون عامة. بل إن هناك من يرون أن الفن له أعظم قيمة بين كل الإنجازات التي تستطيع التجربة البشرية أن تحققها. ويقوم علم الجمال «بنقد» هذه الاعتقادات: فهل الفن حقيقة رائع وجدير بالاهتمام إلى الحد الذي نعتقد؟ وإن كان الأمر كذلك، فما الذي يشكل قيمة الفن؟
وهناك مسألة أخرى، لها أهمية أعظم حتى من مسألة قيمة الفن، تغفلها وجهات النظر غير الفلسفية إلى الفن؛ تلك هي السؤال: «ما الفن؟» ذلك لأن ميادين الدراسة التي تحدثنا عنها من قبل تستخدم كلها لفظ «الفن»؛ لأنها تبحث في الفن من وجهة نظر أو أخرى، ولكنها لا تبحث في معناه بطريقة منهجية. ومن هنا فإن من الواجب أن يعالج علم الجمال هذه المسألة بدورها.
•••
ومع ذلك فليس صحيحًا أن يقال إن المسائل التي يبحثها علم الجمال ليست لها أهمية بالنسبة إلى الدراسات غير الفلسفية للفن. صحيح أن هذه الدراسات تستطيع المضي في طريقها أحيانًا دون القيام بتحليل جاد لطبيعة الفن وقيمته؛ فقد يكتب مؤلف «تاريخًا اجتماعيًّا» للفن دون أن يخوض هذه المسائل، ولكن حتى في هذه الحالة، لا يكون ما يقوله واضحًا تمامًا لو لم يعمل أبدًا على تفسير ما يعنيه «بالفن»، واكتفى بأخذ هذا اللفظ «قضية مسلَّمًا بها» (أما لو تصدى لهذه المسألة، لدخل بالفعل ميدان علم الجمال).
والأرجح أن معظم النقاد يوضحون بالفعل نوع معايير القيمة التي يستخدمونها، وإن كان الكثيرون لا يفعلون ذلك إلا بطريقة ضمنية أو غير مباشرة. ومع ذلك فكثير من هؤلاء النقاد لا يكونون فلسفيين بما فيه الكفاية في طريقة وصولهم إلى اعتقاداتهم المتعلقة بالقيمة، مما ينجم عنه أن يكون نقدهم للفن تافهًا أو لا قيمة له؛ ذلك لأن النقاد (شأنهم شأننا جميعًا) معرَّضون لأخذ معايير القيمة من التراث أو من سلطة معينة دون تساؤل، وهو أمر يثبته تاريخ النقد الفني. وقد تكون هذه المعايير صالحة للحكم على أعمال فنية تنتمي إلى عصر معين أو أسلوب معين. غير أن الناقد يسلم بأنها ذات صحة شاملة، وبأنها تصدق على جميع الأعمال الفنية. وعندما يطبق هذه المعايير على فن من نوع مختلف تمامًا، يسيء الحكم عليه كلية. وهو في ذلك أشبه بمن يستخدم معايير بطل رفع الأثقال في الحكم على مزايا عازف بارع للبيانو، فإذا كان الناقد يؤمن مثلًا بأن اللوحة المصوِّرة تكون جيدة إذا كانت تصور موضوعات عالمنا اليومي وأشخاصه بأمانة، ويطبق هذا المعيار على ما يسمى بالفن «الحديث»، الذي لا «يشبه» شيئًا على الإطلاق، فسوف ينتهي إلى النتيجة التي سمعناها جميعًا — وهي أن هذا الفن «مريع»، أو «مزيف»، أو أي شيء قد يكون أسوأ حتى من ذلك. غير أن الخطأ قد لا يكون خطأ اللوحة، وإنما هو خطأ الناقد؛ فمعايير القيمة عنده ضيقة ومحدودة أكثر مما ينبغي. ولو فكر بمزيد من التمعُّن واتساع الأفق في طبيعة القيمة الفنية، لكان من الجائز أن يغير معاييره، ولجاز أن يجد معايير للقيمة أكثر اتصالًا بالموضوع، يمكن على أساسها النظر إلى الفن المعاصر على أن له قيمة بطريقته الخاصة، وعلى ذلك فإن من واجب الناقد، شأنه شأن كل شخص آخر مشتغل بالفن، أن يختبر الاعتقادات الكامنة التي تتحكم في نظرته إلى الفن. ولو لم يفعل ذلك، لحصر نفسه في حدود قطعية لا مهرب منها.
ولنقدم مثلًا آخر للأهمية الحيوية لعلم الجمال بالنسبة إلى الدراسة غير الفلسفية للفن؛ فإجراء التجارب حول الطريقة التي يستجيب بها الناس للفن كان يحدث في مجال علم النفس باستمرار منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وكان الأمل معقودًا عليه في الوصول إلى إجابات دقيقة منضبطة عن كثير من أسئلة علم الجمال التي ظلت تُناقَش قرونًا طويلة. وقد أمكن عن طريق التجريب، ولا سيما في السنوات الأخيرة، الوصول إلى بعض النتائج القيمة، ومع ذلك فإن نتائج التجريب السيكولوجي كانت في معظم الأحيان غير مشجعة؛ إذ إن الاستنتاجات التي كان يتم التوصل إليها كانت تافهة، بل كانت سخيفة أحيانًا، حتى عندما كانت تُعرض بطريقة رياضية وإحصائية شديدة الدقة، فما السبب في ذلك؟ إن السبب الرئيسي، كما أود أن أثبت الآن، هو أن علماء النفس كثيرًا ما قصروا في القيام باختبار «نقدي» لاعتقاداتهم بشأن طبيعة الفن وقيمته، وهي أمور كانوا يأخذونها «قضيةً مسلَّمًا بها» عند تصميمهم لتجاربهم.
ولنلخص الآن مناقشتنا للحجة الأولى القائلة إن دراسة علم الجمال غير ضرورية، لأن هناك دراسات أخرى تبحث في الفن وتستطيع أن تجيب عن جميع أسئلتنا، فقد رأينا أن هذه الحجة باطلة، وأن هناك أسئلة حاسمة معينة عن الفن لا تستطيع دراسة من هذه الدراسات أن تختبرها. كما رأينا أن عدم القيام بهذا الاختبار كثيرًا ما يضعف أبحاثها أو يجعلها باطلة. ومن هنا كان لزامًا على الدراسات غير الفلسفية أن تستعين بالتفكير الذي يتم في ميدان علم الجمال.
ومن جهة أخرى فإن علم الجمال لا يملك أن يتجاهل هذه الدراسات الأخرى، فلا بد له أن ينتبه إلى نتائجها، وأن يستعين بها على الإجابة عن أسئلته المتعلقة بطبيعة الفن وقيمته. ولو لم يفعل علم الجمال ذلك لكان يمارس نشاطه في فراغ، فليس في وسعه أن يتكلم كلامًا مفهومًا عن الفن «بوجه عام» إلا إذا ألمَّ بالشواهد المتعلقة بأعمال فنية معينة، وهي الأدلة التي تتراكم لدى علماء النفس ومؤرخي الفن ونقاده … إلخ. وهذا يؤدي بنا إلى توجيه نصيحة إلى قارئ هذا الكتاب، فعليك دائمًا أن تختبر ما يقال هنا بتطبيقه على معرفتك الخاصة عن الفن، وما تعلمته في دروس الأدب وغيره من الميادين. وبطبيعة الحال فإن هذه المعرفة محدودة على الدوام (إذ إنه لا يوجد شخص لديه معرفة شاملة للفنون جميعًا)، غير أن الرجوع إلى هذه الشواهد هو وحده الذي يتيح لنا أن نكون فكرة واضحة عن اعتقاداتنا. وندرك إن كان لها مبرر أم لا.
وعلى ذلك فإن علم الجمال والدراسات غير الفلسفية للفن يكمل كل منهما الآخر؛ فعلم الجمال ليس بديلًا عن أبحاث علم النفس وعلم الاجتماع وغيرهما من الميادين، ولا بد له من أن ينظم نتائجها ويرتبها حتى يصل إلى اعتقادات سليمة عن الفن. كما أن الدراسات غير الفلسفية تستطيع الانتفاع من هذه الاعتقادات في توجيه أبحاثها. وينبغي علينا أن نكون على استعداد لتغيير اعتقاداتنا في ضوء الشواهد الجديدة، كما ينبغي أن تتخذ الفروع الأخرى؛ كعلم النفس، من اعتقاداتنا المعدَّلة بدورها مرشدًا لأبحاثها التي ترمي إلى كشف مزيد من الشواهد. هذه هي الطريقة التي تقدم بها كل معرفة بشرية، وتلك عملية ليست لها نهاية.
هذه حجة قديمة جدًّا، وهي ما زالت شائعة جدًّا حتى يومنا هذا والواقع أن مثل هذه الحجة لم توجَّه فقط ضد علم الجمال، بل لقد وجهت أيضًا ضد كثير من المواقف النظرية الأخرى تجاه التجربة البشرية. وأول ما نود أن نقوله هو أن من الواضح أن ممارسة تجربة معينة تختلف في نواحٍ كثيرة عن التفكير فيها أو معرفة شيء عنها؛ فأكل وجبة ليس مماثلًا لدراسة علم وظائف الأعضاء أو التغذية؛ ورؤية اللون الأحمر ليست مماثلة لصياغة قوانين في علم الضوء، وبالمثل فإن قراءة رواية أو سماع سيمفونية يختلف عن الاختبار النقدي لاعتقاداتنا عن الفن، وإذن فهذه الحجة تفيد في الحيلولة دون الخلط بين هذين الأمرين، هذا إذا لم تكن لها أية فائدة أخرى، فدراسة علم الجمال لا يمكن أن تكون بديلًا عن التذوق العميق المباشر للفن.
وبالمثل فإن الحجة القائلة إننا لا نستطيع أن «نعرف» الفن إلا بتجربته مباشرة لا تبدو مقبولة إلا لأن لفظ «نعرف» هذا غامض؛ فنحن نريد أن نتعلم ما هي الظروف التي تصبح لنا فيها تجربة تذوق جمالي، وعلى أي نحو تختلف هذه التجربة عن سائر التجارب الإنسانية. غير أننا لا نستطيع أن نعرف ذلك أبدًا من التجربة الخرساء ذاتها، بل لا بد لنا من أن نحلل كثيرًا من هذه التجارب ونقارنها ونفكر فيها حتى نكتسب فهمًا عقليًّا — وبالمثل فإن التجربة وحدها لا تستطيع أبدًا أن تفسر ما الذي نعنيه عندما نتحدث عن «الفن الجميل»، وكيف يختلف عن الموضوعات غير الفنية. وهنا أيضًا نجد أن التفكير حول مجموعة كبيرة من الموضوعات ينبغي أن يعقب التجربة المباشرة لواحد منها. وما لم يحدث ذلك، فإن التجربة البشرية تكون محدودة بدرجة مؤسفة.
ومع ذلك قد يقال إن المعرفة التصورية خارجة تمامًا عن مجال تجربة الإدراك المباشر للفن. فأي شيء قد نفكر فيه عن «الفن» لا صلة له باستمتاعنا بالأعمال الفنية الخاصة. غير أن هذا بدوره غير صحيح، كما سأحاول أن أثبت عند مناقشتي للحجة التالية.
هنا يتحدث كيتس باسم الكثيرين ممن لديهم حساسية صادقة للفن وولع به، فلو حللنا الفن وحاسبناه على كل صغيرة وكبيرة، لجعلنا منه شيئًا جامدًا باهتًا؛ فلا يعود كائنًا تشيع فيه الحياة والنشوة المثيرة للخيال والقوة الانفعالية، بل إننا «نقتله لكي نشرحه». ولو توقفنا لكي نفكر في تجربتنا المتعلقة بتذوق الفن، وحاولنا أن نفهم العناصر التي تؤلفها، لكان في ذلك خنق لهذه التجربة. وإذن فلنتخلَّ عن هذا التحليل، ولنكتفِ بالاستمتاع بالفن، بطريقة تلقائية، وحتى أقصى مدًى ممكن. فما علم الجمال إلا ضرب من التجديف ينزع السر عما هو غالٍ نفيس، ولو أطلقنا له العنان «لحبس أجنحة الملاك».
ولو كانت هذه الحجة الموجهة ضد دراسة علم الجمال صحيحة، لكانت أقوى الحجج على الإطلاق؛ إذ لا يمكن أن يعاب على أي نشاط أكثر من كونه يحطم القيم الإنسانية، ولو كان علم الجمال يفسد بالفعل تذوقنا للفن، بحيث لا يعود الفن شيئًا مثيرًا يمكن الاستمتاع به، لكان ذلك أقوى سبب ممكن للامتناع عن دراسته، ولكن هل لعلم الجمال مثل هذا التأثير حقًّا؟
ومع ذلك فإن عملية إيضاح اعتقاداتنا وتبريرها ليست منفصلة تمامًا عن تذوقنا للفن، وكما قلنا من قبل، فإن الأهمية الأولى لاعتقاداتنا ترجع إلى أننا نسلك في ضوء ما نعتقد. فاعتقاداتنا عن الفن وما يجعل له قيمة تتحكم في نظرتنا إلى الأعمال الفنية وفيما تحاول أن «نستخلصه» منها. وهناك فارق كبير بين الاعتقاد بأن للفن قيمة لأنه مما يلذ لنا أن نراه أو نسمعه، والاعتقاد بأن وظيفته هي أن يخلق إثارة انفعالية، وكذلك بين هذين معًا والاعتقاد بأن ما ينبغي أن نبحث عنه في العمل الفني هو شخصية الفنان. فلنفرض مؤقتًا أن كل واحد من هذه الاعتقادات، أو جميعها باطل. ولنفرض أن الفن ليس في حقيقته ما تقول به هذه الاعتقادات، عندئذٍ لا يكون معتنقو هذه الاعتقادات مستمتعين فعلًا بالقيمة الحقيقية للفن، أو يكون قدر كبير من قيمته قد فاتهم. أما الاختبار النقدي لاعتقاداتهم، وبحث اعتقادات الآخرين، فقد يؤدي إلى نظرة أسلم إلى الفن، وبالتالي يجعل تجاربهم الفنية أكثر حيويةً وإرضاءً؛ فتحليل الفن، الذي تعترض عليه الحجة الثالثة، قد يكشف عن قيم جديدة ومجالات جديدة للاهتمام في الفن. وعندما يحدث ذلك — وكثيرًا ما يحدث — فإنه يؤدي إلى تكذيب الحجة؛ ذلك لأن خير دليل على أن دراسة الجمال لا تؤدي إلى تبلد إحساسنا بالفن هو أنها كثيرًا ما تجعل تذوقنا أكثر رهافةً وإرضاءً.
على أن الحجة الثالثة لم تكن موجهة ضد علم الجمال وحده، بل أيضًا ضد كل نوع من الحديث عن الفن «وتشريحه». وهذه الفئة الأخيرة تشمل المقررات الدراسية والمحاضرات في الفن وفي «التذوق الفني». والواقع أن المقررات الدراسية المتعلقة «بالتذوق الفني» كثيرًا ما تكون بعيدة كل البعد عن تنمية الاهتمام بالفن؛ فهي في كثير من الأحيان تقضي على أي اهتمام قد يكون لدى الطالب في بادئ الأمر. ولهذا السبب يتحدث الكثيرون الآن عن «التذوق الفني» وفي أعينهم نظرة ازدراء وسخط. وفي اعتقادي أن السبب الرئيسي الذي يجعل هذه المقررات الدراسية ضارة إلى هذا الحد في كثير من الأحيان، هو أنها تطمس التمييز بين الاستمتاع بالفن والكلام عنه، ولكنا حين نفهم هذا التمييز، نستطيع أن نطبقه على تعليم «التذوق الفني». وعندئذٍ يستطيع مثل هذا التعليم أن يتجنب الأخطاء الرئيسية التي ألحقت به في الماضي أبلغ الأضرار. وهكذا فإن هذا الميدان، شأنه شأن ميدانَي علم النفس والنقد الفني، يستطيع أن ينتفع من أية مناقشات كتلك التي نقوم بها الآن.
هذه الحجة على قدرٍ كبير من القوة، وينبغي أن نفكر فيها بجدية تامة.
ومن الجائز أننا سنجد، خلال دراستنا، أن أوجه الاختلاف بين الأعمال الفنية أهم بكثير من أوجه الشبه بينها. وقد نجد أن الجوانب التي تتشابه فيها الأعمال الفنية تافهة. وقد لا تفسر هذه السمات المشتركة القيمة التي نجدها في الفن، مثلما أن الوصف السطحي الذي اقتبسناه من قبل لا يفسر قيمه المحبوبة، فإذا كان الأمر كذلك، كان خيرًا لنا أن نكف عن الكلام عن «الفن» بوجه عام، وأن نكرس وقتنا للفنون الخاصة؛ كالشعر والموسيقى والعمارة … إلخ، ولأعمال فنية خاصة، ولكن كيف نتخذ هذا القرار ما لم نبحث بالتفصيل في طبيعة الفن، عن طريق اختبار أعمال فنية وبحث النظريات الرئيسية في الفن؟ وبعبارة أخرى فإن الطريقة الوحيدة التي نستطيع بها أن نكتشف وجود أوجه شبه هامة بين الأعمال الفنية هي دراسة علم الجمال. إن الحجة الرابعة يبدو أنها تقدم مخرجًا سهلًا؛ لأنها تقطع الطريق على الدراسة منذ البداية الأولى. ولكنها لم تقدم إثباتًا لموقفها، ولا يمكنها أن تفعل ذلك ما لم نكن قد أتممنا دراستنا. أما أن نقول من بادئ الأمر إن من المستحيل إيجاد تعميمات هامة عن الفن، فما ذلك إلا تعنت بحت في الرأي.
على أن لهذه الحجة فائدتها، بالرغم من كونها غير حاسمة. فهي تدفعنا إلى أن نتذكر دائمًا وجود فوارق بين الأعمال الفنية، وبذلك تعصمنا من الانزلاق إلى تعميمات متسرعة عن «الفن» في الوقت الذي لا نكون فيه قد قمنا إلا باستعراض لأعمال فنية محددة؛ فمن الواجب أن نعمل في الفن حسابًا لاختلافات الوسائط؛ كالأدب والتصوير والرقص والسينما وغيرها، وكذلك لاختلافات العصور «والأساليب». وعلى هذا النحو وحده يمكننا أن نكون على ثقة، نسبيًّا، من أننا لم تجاهل الفوارق البارزة بين الأعمال الفنية أو نتغافل عنها. وهذا أمر لا مفر منه إذا شئنا أن تكون اعتقاداتنا عن الفن منطبقة على وقائع الفن ذاتها. وفضلًا عن ذلك فإننا إذا توصلنا إلى بعض التعميمات عن الفن، فينبغي أن نتذكر أن الأعمال الفنية، كغيرها من الأشياء، تتميز بالفردانية مثلما تتميز بالتشابه. ومن الواجب ألا نترك الغشاوة تتراكم على بصيرتنا، فلا نرى في الأعمال الفنية سوى الخصائص التي تشترك فيها مع أعمال أخرى، ولا ندرك ما هو مميز لها. فهذا أمر لا يقل ضرره في مجال تذوق الفن عنه في مجال الحب.
(٣) كيف ينبغي أن ندرس علم الجمال؟
كانت مناقشتنا حتى الآن تنطوي ضمنًا على جزء كبير من الإجابة عن هذا السؤال، ولكن نظرًا إلى أهمية السؤال، فإنا نراه جديرًا بإجابة صريحة في هذا المقام.
أول وأهم ما ينبغي أن يقال هو أن من الضروري أن ندرس علم الجمال بطريقة نقدية، ومعنى ذلك — كما رأينا من قبل — أننا يجب أن نكون على استعداد لتحدِّي اعتقاداتنا المتعلقة بالفن، لكي نحدد مواطن القوة والضعف فيها. وهذا أمر يتعين علينا عمله، سواء أكانت تلك هي اعتقاداتنا نحن أم اعتقادات «الرأي الشائع» أم «سلطة» ما. فلا بد لنا أن نطالب بأن يوضِّح معنى هذه الاعتقادات. ولا بد لنا أن نفحص طريقة التفكير التي توصلنا بها إلى هذه الاعتقادات، ونقرر إن كانت سليمة أم لا. ولا بد لنا أن نتبين إنْ كانت هذه الاعتقادات متسقة منطقية مع اعتقادات أخرى ثبتت صحتها أم لا. فإن لم تكن، فلا بد من رفضها. وبالإضافة إلى إيضاح معنى اعتقاداتنا وتحليل صحتها المنطقية، ينبغي أن نختبر صواب هذه الاعتقادات بفحص الشواهد المتصلة بها. وهذه تشمل، كما رأينا من قبل، الشواهد التي تتجمع في ميادين للدراسة كعلم النفس، وتاريخ الفن، والنقد الفني. أما إذا لم يكن الاعتقاد مؤيدًا بشواهد كهذه فإن من الواجب التخلي عنه. وحيث لا تكون الشواهد قاطعة، سلبًا أو إيجابًا، فإن من واجبنا الامتناع عن الحكم. وعلينا ألا نأخذ أبدًا بأي اعتقاد بدرجة من الإقناع تزيد على ما تبرره الشواهد المتوافرة.
أي إن من واجبنا، على حد تعبير الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس، أن نحتفظ «بنوافذ الذهن» مفتوحة، فنبحث دائمًا عن شواهد جديدة، ونغير اعتقاداتنا عندما نجد هذه الشواهد. وينبغي أن نقاوم ذلك الإغراء القائم دائمًا، وهو إغراء قبول الشعارات الرنانة أو الآراء المتحيزة عن الفن، مهما بدا من جاذبيتها، دون اختبار نقدي لها. أما أولئك الذين يستسلمون لهذا الإغراء فإن خسرانهم مبين؛ فلا هم قادرون على أن يعرفوا إن كان لاعتقاداتهم ما يبررها. ولا هم يستمتعون بالرضاء والإثارة الحقيقية التي نجدها في عملية نقد الاعتقادات، وربما كان الأدهى من ذلك كله أن تجربتهم الفنية تكون شوهاء أو عمياء لضعف الاعتقادات التي يخوضون بها ميدان الفن.
- (١) فكثير من النظريات التقليدية في الفن والجمال لم تصل إلى استنتاجاتها عن طريق فحص أعمال فنية عينية وتجربة التذوق الفني، وإنما وضعت صيغة لنظرة مفرطة في الطموح عن «الوجود»، ثم استدلت من هذه على ما ينبغي أن تكون عليه طبيعة الفن. ولقد كانت هذه النظريات «الميتافيزيقية» في الفن تنطوي أحيانًا على استبصارات صحيحة، ولكن لما كانت نظرياتها في «الوجود» مشكوكًا فيها إلى حد بعيد، ولما كانت تتجاهل المعطيات التجريبية للفن والاستمتاع به، فإن النتائج التي تستخلصها كانت في معظم الأحيان ضئيلة القيمة. وقد وصف عالم النفس الألماني «فشنر Fechner» هذه النظريات بأنها تسير «من أعلى إلى أسفل». أما نحن فسوف ندرس علم الجمال «من أسفل إلى أعلى»، بحيث نبني نظرياتنا بقدر استطاعتنا، على الشواهد التجريبية.
- (٢)
قيل عن الفن كلام كثير، وكتبت عنه كتابات متعددة، تهدف ظاهريًّا إلى تفسير طبيعته وقيمته، ولكنها أدت في واقع الأمر إلى نتيجة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ إنها لم تكن إلا شعرًا خياليًّا عن الفن؛ فهناك قدر كبير من علم الجمال، في الماضي والحاضر، كان مكرَّسًا للتغني بأمجاد الفن. وذلك بطبيعة الحال شاهد على القوة الكبرى والقيمة الهائلة للفن؛ إذ إن الناس عادة يكيلون المدح لما هو أقرب إلى قلوبهم. أما لو نُظر إلى هذه المدائح على أنها تفسيرات واضحة موثوق منها تجريبيًّا لطبيعة الفن، لَمَا أدى ذلك إلا إلى الخلط والاضطراب. فلنتأمل مثلًا: «تعريفات» مزعومة للفن مثل: «الفن هو الحائل الوحيد بيننا وبين الفوضى»، أو «الفن هو الوحدة بين الإنسان والطبيعة»، أو «الجمال هو التعبير الأسمى عن الوجود المطلق، كما يفصح عن نفسه من خلال الإنسان». إن عيب هذه التعريفات ليس كونها باطلة، بقدر كونها مفتقرة إلى الدقة، ولا تنبئنا إلا بأقل القليل. وهي في الواقع تبلغ من الغموض حدًّا يصعب معه تحديد مصدر نلتمس لديه الشواهد التي نختبرها بها. فلنحاول إذن الابتعاد عن هذا الخيال الشعري ونحن ماضون في دراستنا.
وأخيرًا، فمن الواجب أن ندرس علم الجمال بإحساس من «حب الاستطلاع». وعلينا أن نحاول الاحتفاظ باهتمامنا «بالكشف»؛ أعني بكشف الجديد عن الفن وعن النظريات المختلفة فيه، والنور الذي يتطاير منها عندما تقدح كل منها ضد الأخرى، وعن علاقات الفن بغيره من مجالات التجربة البشرية. والحق أن دراسة علم الجمال يمكن أن تنطوي على إثارة بالغة بالنسبة إلى المثابرين على البحث والتنقيب، والمتمسكين بالروح «النقدية». وإنا لنجد لدى معظم الطلاب قدرًا كبيرًا من حب الاستطلاع التلقائي حول هذه المسائل، ما لم يقتل حب الاستطلاع هذا فيهم نتيجة لما يقرءونه في الكتب المدرسية أو ما يسمعونه في قاعات الدرس. وكل ما نرجوه ألا تقع دراستنا هذه في هذا الخطأ.
(٤) المجالات الرئيسية للدراسة
عندما نتحدث عن الفن والاستمتاع به، نستخدم ثلاثة ألفاظ رئيسية: هي «الفن» و«الإستطيقي» و«الجمال». ومن الجوانب الهامة في مهمتنا أن نصل إلى معانٍ واضحة دقيقة للألفاظ التي يستخدمها الناس دون دقة ودون تفكير. وسوف نكتفي الآن بتقديم تحليل مبدئي لمعنى هذه الألفاظ، والعلاقات بينها، وستكون هذه النقطة بداية لتحليل لاحق. وفضلًا عن ذلك فإن كلًّا من هذه الألفاظ يشير إلى ميدان مختلف من ميادين الدراسة في علم الجمال. ومن هنا فإن المناقشة الحالية ستفيدنا في معرفة الميادين الرئيسية التي ينبغي أن تتشعب إليها دراستنا، كما أنها ستفسر سبب معالجتنا لهذه الميادين بالترتيب الذي تظهر به في هذا الكتاب.
ومن الممكن أن نصل إلى هذه النتيجة ذاتها لو درسنا هذه المسألة من الطرف الآخر: فليست كل الموضوعات الجميلة أعمالًا فنية؛ ذلك لأن فئة الموضوعات الجميلة تضم أيضًا موضوعات طبيعية لا تخلقها القدرة الفنية البشرية؛ فنحن نصف تكوينات السحاب الضخمة، والمناظر الطبيعية، والأزهار بأنها «جميلة»، بل إن كثيرًا من الناس يجدون مظاهر الجمال في الطبيعة أيسر تذوقًا من مظاهر الجمال في الفن.
وهكذا نستطيع أن ندرك الآن أن دراسة «الفن» تختلف كل الاختلاف عن دراسة «الجمال». فإذا شئنا أن نعرف ما الذي يجعل الشيء جميلًا، فلا يمكننا أن نقتصر على دراسة الأعمال الفنية، وإنما الواجب أن نبحث أيضًا فيما نعنيه «بالجميل» عندما نصف به مناظر وحوادث في الطبيعة. ولهذا السبب كان تعبير «فلسفة الفن» أضيق مما ينبغي بالنسبة إلى دراستنا. فعلى الرغم من أن الأعمال الفنية هي أوضح الموضوعات الجميلة وربما أهمها، فإن اهتمامنا لن يكون منصبًّا على الفن وحده. وفضلًا عن ذلك، فقد اتضح لنا الآن أن «الجميل» له في ذاته معنًى أكثر تحدُّدًا من أن يصف جميع الموضوعات، الفنية منها وغير الفنية، التي نجدها ذات قيمة؛ فالأعمال الأدبية تكون أحيانًا «تراجيدية»، والسماء المرصعة بالنجوم في ليلة صيف توصف بأنها «جليلة». وهذان مفهومان ينبغي أن نعمل لهما حسابًا في مناقشتنا للقيمة، إلى جانب مفهوم «الجمال» لهذا السبب أيضًا لم يكن من الصواب أن نطلق على نظريتنا اسم «نظرية الجمال» أو «فلسفة الجمال».
فليس في وسعنا أن نقدر القيمة التي يملكها عمل فني في ذاته إلا إذا أدركناه بطريقة إستطيقية. أما إذا كان اهتمامنا بالعمل لا يرجع إلى كونه أداة لتحقيق هدف آخر معين، فإنا لا نستطيع أن نتذوقه بوصفه مجرد قصة أو لوحة. فعندما نتحدث عن تذوق الفن أو «الاستمتاع» به، فإن ما نعنيه هو القيمة الكامنة أو الإستطيقية للفن، ولن يكون في وسعنا أن نفهم هذه القيمة، التي هي أهم أنواع القيم في الفن، إلا حين نفهم الإدراك الإستطيقي، الذي يطلعنا عليها. وعندما يتم لنا ذلك، يصبح في إمكاننا أن نتجنب الخلط بين قيمة موضوع فني عندما يُستمتع به في ذاته وبين القيمة التي قد تكون له لأغراض أخرى. وأنه لما يدعو إلى الدهشة أن نرى إلى أي مدًى يخلط الناس بين الاثنين؛ فهم في كثير من الأحيان يقولون إن العمل «جيد» أو «جميل» لمجرد كونه يزيد الناس تقوًى أو يدعم العقيدة الدينية. غير أن من الممكن أن تكون للعمل نتائج كهذه ويظل مع ذلك ضئيل الشأن في ذاته إلى أبعد حد؛ ففي وقت الحرب، نجد أن الأناشيد أو اللافتات ذات الفعالية في إثارة روح الولاء للوطن كثيرًا ما يتضح أنها أدنى قيمة عندما يُنظر إليها على أنها موسيقى أو تصوير. وبالمثل فمن الجائز أنك تعرف أناسًا يعلنون إعجابهم الصريح بأعمال فنية لمجرد كونهم معجبين بحياة الفنان؛ إذ كانت له مغامرة حب انتهت بمأساة، أو كان يعاني مرضًا معينًا، أو فرَّ هاربًا من وطنه الأصلي، ولكن من الممكن قطعًا أن تكون حياة الفنان مثيرة ويكون إنتاجه الفني سقيمًا إلى أبعد حد. وإذن فأمثال هؤلاء الناس يمتدحون الفن لأسباب غير صحيحة. والأهم من ذلك أن هذه المسائل الأخرى تستحوذ عليهم إلى حد أنهم لا يدركون العمل ذاته أبدًا؛ فهم يعجزون عن تذوق ما فيه من متعة كامنة. والحق أن أي واحد منا يمكن أن يقع ضحية هذا النوع من الخلط. وعلى ذلك فلا بد لنا من دراسة الطبيعة المميزة «للرؤية الإستطيقية» لكي نتأكد من أننا ندرك العمل على نحو من شأنه أن يكشف لنا عن قيمته الكامنة. ولذا فإننا سندرس التجربة الإستطيقية في الفصلين التاليين لكي ندرك مدى اختلافهما عن الطرق الأخرى في النظر إلى الفن.
ومن الواضح أن إدراكنا الإستطيقي لا ينصب على الأعمال الفنية وحدها؛ بل يمتد أيضًا إلى الأشياء الطبيعية؛ فنحن ننظر إلى شجرة ضخمة ملتوية، أو إلى الأمواج المتلاطمة على الشاطئ، لأنها في ذاتها طريفة أو درامية. وبعبارة أخرى فإن موضوعات الإدراك الإستطيقي ليست هي الموضوعات الفنية وحدها. وفضلًا عن ذلك فإن الموضوعات التي تُدرك بطريقة إستطيقية ليست كلها جميلة، بل قد تكون أيضًا «لطيفة» أو «هزلية» أو «جليلة». وهكذا يتضح أن مفهوم «الإستطيقي» هو أوسع المفاهيم الثلاثة التي بدأنا بها؛ وهي «الفن» و«الجمال» «والإستطيقي»؛ ذلك لأن الموضوعات التي ندركها لطرافتها الكامنة — أعني الموضوعات الإستطيقية — تشتمل على أعمال فنية وعلى موضوعات طبيعية معًا، أي على ما هو جميل وما له قيمة بالنسبية إلى الإدراك الإستطيقي على أنحاء أخرى.
لقد أوضحنا الآن أن من الضروري فهم الإدراك الإستطيقي قبل أن نستطيع التمييز بين القيم الكامنة للفن وبين استعمالاته غير الإستطيقية. وأود الآن أن أبين أن دراسة الإدراك الإستطيقي ينبغي أن تسبق أيضًا مناقشة الجمال.
إن من الضروري أن نتعلم التمييز بين المعاني الجمالية والمعاني غير الجمالية لأمثال هذه الألفاظ إذا ما شئنا أن نصل إلى الوضوح في تفكيرنا وكلامنا. وبدون هذا الوضوح تظل اعتقاداتنا عن الفن والتجربة الإستطيقية مختلفة، مضللة بالضرورة. وإذن، فلا بد لنا أن نحاول فهم طبيعة التجربة الاستيقطية. ولذا سنبدأ بها دراستنا في الإستطيقا.
المراجع
تشاندلر (ألبرت)، الجمال والطبيعة البشرية.
جوس، تشارلس، «حول مادة مقرر دراسي في التمهيد للإستطيقا».
جرين، تيودور، الفنون وفن النقد. (المقدمة)
إزبورن، هارولد، «الإستطيقا والنقد».
پرول، د. د، الحكم الإستطيقي (الفصل السادس عشر).
ستولنيتز، جيروم، «البناء الشكلي للنظرية الإستطيقية».
أسئلة
-
(١)
دوِّن بأكبر قدر ممكن من الوضوح الاعتقادات التي تأخذ بها الآن بشأن معنى «الفن الجميل» (fine art) و«الجمال (beauty)». هل صادفت معانيَ أخرى لهذه الألفاظ في الكتب الخاصة بالفن، وفي البرامج الدراسية الخاصة بالفنون المتعددة … إلخ؟ وكيف تدافع عن طريقة فهمك الخاصة للفظي «الفن» و«الجمال» ضد طرق الفهم المخالفة هذه؟
-
(٢)
اختر عملًا فنيًّا تعرفه معرفة وثيقة: ما الذي «تبحث عنه» بالضبط في هذا العمل؟ وهل من الممكن أن يدرك العمل بطريقة أخرى، بحيث يتركز الانتباه على جوانب في العمل تغفلها أو تجهلها؟ وهل هناك نظرية معينة في طبيعة الفن تفترضها مقدمة طريقتك في النظر إلى العمل؟
-
(٣)
هل تعتقد أن الباحث الإستطيقي ينبغي أن يكون قادرًا على خلق الفن؟ وهل تعتقد أن الناقد الفني ينبغي أن تكون له مثل هذه القدرة؟ وبالعكس، هل تعتقد أن الفنان الخلاق ينبغي أن تكون له معرفة بالإستطيقا؟ اشرح إجابتك في كل حالة.
-
(٤)
أي الحجج الأربع التي يعترض بها على دراسة الإستطيقا تبدو في نظرك أقوى من الأخريات؟ ولماذا؟ هل تستطيع أن تفكر في أية حجج أخرى لإثبات عقم الدراسة الإستطيقية؟
-
(٥)
إن الناس لا يعلمون إلا أقل القليل عن أذواقهم الخاصة، وكثيرًا ما يخيب أملهم عندما يحصلون على ما ظنوا أنهم يريدونه. والغرض الرئيسي للإستطيقا هو أن تساعدنا على استيضاح أذواقنا والشعور بها عن وعي. (كيت جوردون: «الإستطيقا»)، ص٥. (Kate Gordon: Esthetics (N. Y., Holt, 1909)).
-
(٦)
ما الذي تظن أن المؤلفة تعنيه بعبارة «الشعور بأذواقنا عن وعي»؟ هل تعتقد أن الإستطيقا ضرورية لهذا الغرض؟ ألا يمكن أن نصبح شاعرِين بأذواقنا عن وعي عن طريق مجرد التفكير فيما نحبه وما لا نحبه في الفن؟ أم أن هذا التفكير يؤدي بنا إلى الإستطيقا؟
Douglas N. Morgan: “Psychology and Art Today” “Journal of Aesthetics and Art Criticism”, IX, (1950), p. 94.
وقد أعيد طبع هذا البحث في كتاب «مشكلات علم الجمال»، نشرة فيفاس وكريجر.
Eliseo Vivas and Murray Krieger, eds.: “The Problesms of Aesthetics” (N.Y, Rinehart, 1953) pp. 30–47.
Harold N. Lee: “Perception and Aesthetic Value”, p. 9.
Prentice-Hall Englewood Cliffs. N. J.