(١) «الحقيقة» الفنية
في المقدمة البليغة
التي كتبها جوزيف كونراد
Joseph
Conrad لروايته: «زنجي النارسيسوس
(النرجس)
The Nigger of the
Narcissus» يقوله في وصف مهمة الفنان:
إنه يقوم «بمحاولة تتسم بالإصرار الكامل، من أجل
إعطاء الكونِ المنظورِ أعلى حق له، عن طريق إلقاء
الضوء على الحقيقة، الكثيرة والواحدة، الكامنة من وراء
كل مظهر له؛ فهي محاولة للاهتداء إلى … ما هو باقٍ
وأساسي … وإذن فالفنان، شأنه شأن المفكر أو العالم،
ينشد الحقيقة»؛
١ فالفن يتناول قطاعًا من قطاعات الحياة لكي
«يكشف عن جوهر حقيقته، ويميط اللثام عن السر الذي يلهمه».
٢
هذه عبارة ملهِمة لكاتب عظيم كان في الوقت ذاته فاحصًا
دقيقًا لعمله؛ فكونراد يطالب للفنون بصفة «الحقيقة»، ولهذه
المطالبة تاريخ قديم طوال تطور الفن؛ فمنذ أيام أفلاطون، نجد
هذا الفيلسوف يتحدث عن «الصراع القديم العهد بين «الشعر
والفلسفة»». وكان هذا الصراع يدور حول زعم الشعر أن في
استطاعته منافسة الفلسفة في كشف الحقيقة للإنسان. ويُشبِّه
كونراد بدوره الفنان «بالمفكر». ويمثل كولريدج واحدًا من نقاد
عديدين يرون أن الشعر يعتمد في قوته على «الصدق» فلماذا كان كل
ذلك الإصرار على هذا الرأي؟
هناك، في رأيي، سببان
رئيسيان؛ أولهما أن أولئك الذين يأخذون الفن مأخذ الجد
ويستجيبون له بعمق، يشهدون بأنهم يتعلمون من الأعمال الفنية؛
فقد ظلوا على مر القرون يذكرون أنهم يخرجون من تجربتهم مع
العمل الفني، لا بشعور من السرور أو التأثر أو القوة المعنوية
فحسب، بل بمعرفة أعظم مما كان لديهم من قبل. ولعلنا جميعًا قد
أحسسنا بهذا الشعور؛ فنحن نتعلم المزيد عن الطبيعة البشرية من
موليير أو دستويفسكي أو توماس مان، بل إن الحقائق التي نكتسبها
من هؤلاء الفنانين ليست مما يسهل الاهتداء إليه في التجربة
المعتادة، أو حتى في الدراسات المتخصصة في علم النفس، فيبدو أن
هذه الحقائق تتميز بدقتها وعمقها. وبالمثل فإن التراجيديا، كما
رأينا في الفصل السابق، كثيرًا ما تقدر لما تكشف عنه من
«حكمة». غير أن الأدب ليس هو المصدر الوحيد للحقيقة الفنية؛
فمن الشائع القول عن صور رمبرانت إنها تكشف أعماق الشخصية
الإنسانية، كما يقال عن مؤلفات باخ الموسيقية، ومؤلفات بيتهوفن
المتأخرة، إنها تعطينا استبصارًا عميقًا بالحياة، هذا ما كان
المشاهد أو المستمع الجمالي يجده في تجربته دائمًا، ولن يمكن
أن يزول إيمانه بالحقيقة الفنية، وما الوصف الذي قدمه كونراد
إلا تعبير عن هذا الإيمان.
وفضلًا عن ذلك، فقد جرت العادة على استغلال نوع الادعاء الذي
ينسبه كونراد إلى الفن من أجل دفع تهمة السطحية والتفاهة عن
الفن، فماذا يكون الفن، وماذا تكون فائدته، لو لم يكن يكشف عن
حقائق؟ إنه لن يكون عندئذٍ ذا صلة «بالحياة»، بل يكون مجرد
«إيهام» خيالي. وعندئذٍ يكون تقدير الفن وتذوقه أمرًا عقيمًا
لا قيمة له. صحيح أن الفن قد يظل يمتع الحواس، وقد يثير
الانفعال والخيال، ولكنه يغدو عندئذٍ شيئًا أشبه باللعبة أو
المنبه الحسي. أما إذا نُظِر إليه على أنه كشف للحقيقة، فإن
هيبته وأهميته الثقافية تزداد إلى حد هائل. وإذن فمطلب الحقيقة
في الفن هو مطلب حيوي لوجوده.
وفي وسعنا أن نجد أمثلة لذلك طوال تاريخ علم الجمال؛
فأفلاطون يتهم الفنان بأنه «لا يعرف شيئًا يستحق الذكر عن
الموضوعات التي يصورها، وما الفن إلا نوع من اللهو الذي لا
ينبغي أن يؤخذ مأخذ الجد».
٣
وفي مقابل ذلك حاول أرسطو
أن يدافع عن أهمية الفن بأن قال — كما رأينا من قبل — إن الشعر
مهمة «رفيعة» و«فلسفية»؛ لأنه يعبر عما هو «كلي شامل».
٤ وعندما زعم أنصار المذهب البيوريتاني من الإنجليز
في القرن السادس عشر أن الأدب مزيف ومفسد، وبالتالي لا يمكن
تبريره أخلاقيًّا، كتب السير «فيليب سيدني» «الدفاع عن الشعر
Defence of Poesy»، وفيه
استشهد بنظرية «الكلية أو الشمول» الأرسطية لكي يؤيد رأيه
القائل إن «الشعر (يزود) الذهن بمعرفة»،
٥ وأكد طوال هذا الكتاب أن الشعر هو «فن التعاليم الصحيحة».
٦ وفي القرن التاسع عشر، عندما هوجم الأدب، نتيجة
لنهضة العلم، على أساس أنه أثر عتيق عديم الجدوى من آثار
«طفولة المجتمع المتحضر»،
٧ تصدَّى شيلي، وماثيو آرنولد، وغيرهما، لبيان ما
يكشفه الشعر من «حقيقة» و«معرفة».
•••
على أننا حين نختبر هذه الآراء القائلة بالحقيقة الفنية،
يتكشف لنا أمر غريب؛ إذ يقال إن للفن حقيقة، ولكن هذه ليست هي
«الحقيقة» بمعناها المألوف؛ ففي هذا المعنى المألوف تكون
«الحقيقة» هي صفة العبارات الواقعية المباشرة عن العالم. أما
أولئك الذين يتحدثون عن الحقيقة الفنية فيقصدون نوعًا خاصًّا
من الحقيقة، أو هم يستخدمون لفظ «الحقيقة» بمعنًى غير معناه
المألوف.
إن كونراد يقول إن الفنان يشبه «المفكر» و«العالم». ومع ذلك
فإن كونراد يوجه أنظارنا إلى فارق هام بين هؤلاء الباحثين عن
الحقيقة وبين الفنان؛ ذلك لأن هذا الأخير، كما يقول، لا يهتم
بالوقائع والنظريات بقدر ما يهتم «بقدرتنا على الابتهاج
والتعجب … والإحساس بالغموض الذي يغلف حياتنا»؛ فلا بد للفنان
أن يرغم الناس على أن يروا «المنظر المحيط بهم، بما فيه من شكل
ولون، ونور وظلال، ويجعلهم يتوقفون لكي يلقوا عليه نظرة»
٨ ويرى كونراد أن في هذا العمل كشفًا «لكل حقيقة الحياة».
٩ وعند هذه النقطة نجد أنفسنا نفكر مرتين حول لفظ
«الحقيقة»، فكيف ينطبق هذا اللفظ على وصف كونراد للفنان؟ إننا
نفهم أن يقال إن الفن يثير «قدرتنا على التعجب» ويعطينا
إحساسًا حيًّا بنسيج العالم. وربما كان هذا شيئًا لا يمكن
الاعتراض عليه، ولكن أين «الحقيقة» في هذا؟ وإذا لم يكن الفنان
يقدم إلينا وقائع ونظريات، كما يعترف كونراد، فأية «حقيقة»
يقدمها إلينا؟ وأين نجدها في الفن؟
وتؤدي قراءة كتاب «سيدني» إلى إثارة أسئلة مماثلة. فهو بدوره
يعترف بأن الشاعر لا يدلي بعبارات واقعية مباشرة، وقد تكون
هناك بعض الأقوال غير الصحيحة في عمل الشاعر، ولكن هذا لا
ينبغي أن يُحسب عليه؛ إذ إنه «لا يقولها على أنها صحيحة».
١٠ ولكن إذا كانت هذه هي الطريقة التي أراد بها سيدني
أن يصد هجوم البيوريتانيين القائل إن الشاعر «يكذب»، أليس من
الواضح أنها تهدم نفسها بنفسها؟ إذ كيف يستطيع الآن أن يتحدث
عن «التعاليم الصحيحة» في الشعر؟ إنه لا يستطيع ذلك إلا بالقول
إن الشاعر «يؤكد»، ولكن ليس على طريقة العالم أو الفيلسوف الذي
يكتب بحثًا مؤلفًا من عبارات صحيحة، بل على طريقة معينة أخرى.
وهكذا يقول سيدني إن الشاعر يكتب «لا بطريقة إيجابية، بل
بطريقة مجازية وتشبيهية».
١١ وإذن فحقيقة الشعر لا تقدم بطريقة واقعية صريحة.
وهذا يشكل فارقًا هامًّا بين الحقيقة، الفنية، وبين الحقيقة
بمعناها المألوف.
وفضلًا عن ذلك فإن سيدني يقول إننا نكتسب معرفة بالانفعالات
البشرية عندما نراها متجسدة بصورة عينية في الشعر؛ فلكي «نعرف
قوة ما نشعر به من حب لبلادنا» ينبغي أن نقرأ عن «أوليس». ولكي
نكتسب «استبصارًا بالغضب»، ينبغي أن نرى آجاكس مجنونًا.
١٢ ولكن ربما تساءل المرء ثانية: «ولم نسمي هذه
«معرفة» أو «استبصارًا»؟ وأية حقائق نتعلمها منها؟ وهل تكشف
أمثلة سيدني عن أي شيء سوى أن الشاعر يصبغ انفعالات شخصياته
بصبغة درامية، ويجعلها مثيرة موحية؟ إن هذا أمر مُسلَّم به لدى
الجميع، ولكن لم نتحدث عن «الحقيقة» أصلًا؟»
قد تكون هذه أسئلة خطابية، وهي بالفعل كذلك عندما يوجهها
فلاسفة يرغبون في استبعاد لفظ «الحقيقة» من كل حديث يدور حول
الفن؛ ففي رأي هؤلاء المفكرين أن في هذا الاستبعاد كسبًا
واضحًا؛ إذ إنه يؤدي إلى تخليص علم الجمال والنقد من لفظ من
أشد الألفاظ المستخدمة في لغتهما غموضًا وأكثرها
تضليلًا.
وهكذا فإننا ندرك، حتى في اقتباساتنا الموجزة من كونراد
وسيدني، مدى غموض «الحقيقة الفنية»؛ فكل من هذين الكاتبين يؤكد
وجود «حقيقة» الأدب، ولكن كلًّا منهما يسلم بأنها ليست نوع
الحقيقة التي نجدها في العلم أو الفلسفة؛ فإذا سألناهما عما
يعنيانه «بالحقيقة»، اتضح لنا أنها شيء أشبه «بحيوية الخيال»
أو «المعنى الرمزي» أو «القوة الانفعالية»، بل إنه ليس من
الواضح كل الوضوح إن كانت هذه هي المعاني المقصودة. وإذن
«فالحقيقة الفنية»، كما يستخدمها أنصارها، غامضة ومختلطة في آن
واحد. ويزداد ظهور الغموض الذي يتسم به هذا التعبير، إلى حد
مؤسف، عندما نبحث بعض الطرق الأخرى التي استُخدِم بها.
ففي بعض الأحيان يدل هذا التعبير على الوحدة الشكلية
والتعبيرية للعمل وعندئذٍ تكون الأجزاء مرتبطة فيما بينها
«عضويًّا»، وتشيع «روح» الإحكام في العمل. أما العنصر الذي
يشوه التنظيم الشكلي أو يتنافر مع الروح السائدة فيه فيقال عنه
إن له «رنينًا مزيفًا»، وفي بعض الأحيان يُستخدم لفظ «الحقيقة»
مرادفًا «للإخلاص»، وعندئذٍ يكون معنى «ما له رنين مزيف» هو
التصنع أو الادعاء، وقد نجد أحيانًا أن معنى «الصدق أو
الحقيقة» هو نظرية «المحاكاة المباشرة»، أو «الحياة النابضة»،
ونجده أحيانًا أخرى يعنى نظرية «الماهية»، أي التعبير عن سمة
مشتركة أو شاملة في الوجود من خلال تصوير موضوع جزئي فيه، وفي
أحيان أخرى يدل «الصدق أو الحقيقة» على «عظمة» العمل أو عمقه.
وبهذا المعنى يكون «أصدق» الأعمال الفنية هو أعمقها، أي ذلك
الذي نشعر عند تجربتنا له ككل بشعور عميق «بالواقعية».
١٣ ولا جدال في أن من الممكن التوسُّع في قائمة
المعاني هذه إلى غير حد، لو حاولنا أن نميز بين الظلال الفرعية
الدقيقة لتلك المعاني التي يُستخدَم بها هذا اللفظ عند مختلف
النقاد والباحثين الجماليين.
وإذن «فالحقيقة الفنية» تعبير له معنًى مختلط إلى أقصى حد.
وخليق بالطالب أن يبذل جهده من أجل محاولة استيضاح ما يعنيه
هذا التعبير عندما يصادفه في الكتب الدراسية، وفي النقد الفني،
إلخ (وربما كان الأهم من ذلك أن يستوضح معناه عندما يستخدمه هو
ذاته). فإذا لم يتم التخلص من هذا الاختلاط، ضاع الوضوح وأصبح
الحديث أو المناقشة عقيمة؛ لأن المتحدثين — ببساطة — لا
يتحدثون عن شيء واحد. أما العلاج الذي يقدمه أولئك الفلاسفة
الذين يشكُّون في «الحقيقة الفنية» فهو علاج بسيط، فلنتخلَّ عن
هذا التعبير الذي يؤدي إلى خلطٍ لا داعي له، ما دامت لدينا
بالفعل تعبيرات أخرى تتيح لنا أن نقول ما نعنيه، فإذا كنا نريد
أن نقول إن العمل يتسم بالإحكام الشكلي، فلنقُل ذلك دون غيره؛
وإذا شئنا أن نمتدحه لما فيه من عمق، فلدينا لفظ «عميق»، وهلم جرًّا.
١٤
ويؤكد هؤلاء الفلاسفة أننا بعد أن نميز بين كل المعاني
المتباينة التي ترتبط «بالحقيقة الفنية»، ينبغي أن نعترف آخر
الأمر بأن التعبير ذاته لا يعني، في كثير من استعمالاته، أي
شيء على الإطلاق؛ فهو تعبير فار لا يدل على أية صفة في الموضوع
الفني لا واقعية ولا تقويمية، وهو ليس مماثلًا لألفاظ مثل
«القصيدة» أو «الهزلي» أو «التعبيري»، بل إن لفظ «الصحيح» أو
«الحقيقي» لا يستخدم إلا للتعبير عن الإعجاب بالعمل أو
امتداحه. وهو يكتسب قدرته على المدح باستغلاله لأهمية
«الحقيقة» بمعناها المعتاد، ولقيمتها التي يسلم بها الجميع؛
فأولئك الذين يستخدمون هذا اللفظ بطريقة غير نقدية يحيرون
أنفسهم والآخرين حين يبدو عليهم أنهم ينسبون صفة ما للعمل.
ولكن الواقع أن صفة «الحقيقة» في هذه الأمثلة ليست إلا تعبيرًا
مثقفًا رفيعًا عن قولنا «ما أجمل كذا …» أو حتى مجرد «إنه
يعجبني». وهي في هذا الصدد تشبه لفظ آخر كثيرًا ما يكون
فارغًا، ولكن يبدو أنه يضفي نوعًا من السلطة على أي رأي أو
تفضيل لنا، وهو لفظ «الواقعي» أو «الواقعية» (وليفكر الطالب،
من تلقاء ذاته، في أمثلة لهذا الاستعمال الأخير).
ومما يزيد من فداحة الخلط، أن يقترن لفظ «الحقيقة» بصفة أخرى
تفضيلية، مثل «الحقيقة العليا» أو «الحقيقة القصوى»، أو إذا
شئت، «الحقيقة الواقعية». وقد استُخدِمت أمثال هذه التعبيرات
لدعم الرأي القائل إن الفن يكشف عن نوع أرفع من الحقيقة، لا
يمكن اكتسابه بالأساليب المألوفة للمعرفة. وعندئذٍ يلجأ من
يستخدم هذه التعبيرات إلى وسائل في المعرفة مثل «الوحي»
و«الاستبصار» و«الحدس». ومن الطبيعي أن يضيق نقاد فكرة الحقيقة
الفنية ذرعًا بهذه التعبيرات بدورها؛ فهُم يرون أن جميع
الحقائق على مستوى واحد؛ فالقول إن إحدى الحقائق «أرفع» من أية
حقيقة أخرى لا يمكن أن يكون له معنًى، «والحقائق المتعلقة بقلب
الإنسان ليست أكثر حقيقة … من الحقيقة المتعلقة ببنكرياس الإنسان».
١٥
وهكذا ينتهي عرض هذه الحجة بالقول إن فكرة «الحقيقة الفنية»
سببت خلطًا وغموضًا لا حصر له، ولكن لنتساءل، فضلًا عن ذلك:
لماذا نود أن نستبقي هذه الفكرة، حتى بوصفها «دفاعًا عن
الشعر»؟ إن المطالبة بصفة الحقيقة للأدب والفنون الأخرى يعني
الدفاع عنها على أضعف أرض يمكن تصورها؛ ذلك لأن الحقيقة ليست
هي القيمة البارزة في الموضوع الفني، والفن، على خلاف العلم
والتاريخ وغيرها من المباحث التي تهدف إلى توسيع نطاق المعرفة
البشرية، لا يتضمن إلا حقيقة بسيطة، أو لا يتضمن حقيقة على
الإطلاق؛ «فالأفكار في الفن هي عادة جامدة، وكثيرًا ما تكون
زائفة، ولا يمكن لأي شخص تجاوز سن السادسة عشرة أن يجد الشعر
جديرًا بأن يقرأ من أجل ما فيه من معلومات فحسب».
١٦ والحق أننا لا نُعلي من قدر الفن، وإنما نحط منه،
عندما نتخذ الحقيقة معيارًا لقيمته. هذا فضلًا عن أنَّ ما يقال
عن «الحقيقة» يخفي عنا ما هو رائع بحق في الفن؛ فقيمة الفن
خاصة به، سواء نظرنا إلى هذه القيمة على أنها القدرة على
إشعارنا بالرضاء الجمالي، أم التعبير عن الانفعال، أم أي شيء
آخر، فعلى هذه الأسس الأخيرة ينبغي أن ننادي بأهمية الفن. وقد
لا يكون الفن الجميل قادرًا على منافسة العالم وغيره في مجال
الحقيقة، غير أن هذه ليست وظيفته، وإنما هو موجود لأسباب أخرى،
وهو يُكسبنا قيمًا أخرى مساوية في أهميتها، على الأقل، لقيمة
الحقيقة.
•••
كنت حتى الآن أقدِّم عرضًا للنظريتَين المتعارضتَين في
«الحقيقة الفنية»؛ ففي أحد القطبَين نجد أولئك الذين يؤكدون
وجود حقيقة في الفن، ويؤكدون أيضًا أن الفن بدون هذه الحقيقة
يكون تافهًا؛ وفي القطب الآخر نجد أولئك الذين يعترضون على
غموض واختلاط تعبير «الحقيقة الفنية»، ويذهبون، فضلًا عن ذلك،
إلى أن نسبة الحقيقة إلى الفن فيها إساءة فهم لوظيفته.
على أن كل ما فعلناه في مناقشتنا، حتى الآن، هو تحديد الخطوط
العامة للمعركة، وما زال أمامنا أن نبحث كيف تدور المعركة
الفلسفية ذاتها، بين المدافعين عن النظريات المتعارضة في
«الحقيقة الفنية». على أننا نستطيع أن ندرك الآن ما ينبغي أن
نتوقعه من هاتين النظريتين: (١) فبأي معنًى محدد للفظ
«الحقيقة»، تكون الحقيقة ماثلة في الفن، إن كانت ماثلة فيه على
الإطلاق؟ (٢) وهل من وظيفة الفن أن يكشف عن الحقيقة؟ وإذا أمكن
الاهتداء إلى الحقيقة في عمل فني، فهل يكون لهذه الحقيقة نصيب
في القيمة الجمالية لهذا العمل؟
•••
وأود، قبل أن نبدأ مناقشتنا، أن أعرض بضعة تأكيدات يقرُّ بها
معظم أطراف هذا النزاع. ولا بد أن تكون هذه التأكيدات، شأنها
شأن معظم التأكيدات التي يمكن أن يتفق عليها، أو يكاد يتفق
عليها، جميع الفلاسفة، جوفاء إلى حد غير قليل، ولكنها ستمهد
الطريق لما سيتلوها من عبارات أهم، يدور حولها مزيد من
الخلاف.
فلنبدأ بتلخيص عام لمجال واسع من مجالات المنطق، فنقول إن
الحقيقة، بمعناها المعتاد، لا يمكن أن تكون إلا صفة للقضايا.
والقضية دائمًا لفظية، وهي تصف دائمًا حالة من حالات العالم.
فعبارة «كندا شمال الولايات المتحدة» قضية، على حين أن عبارة
«افتح النافذة!» ليست قضية.
١٧ كذلك فإن الابتسامة أو تقطيب الوجه ليسَا
بالقضايا. والواقع أن القضايا كثيرًا ما تعرف بأنها «عبارات
تقبل الصدق أو الكذب»، ولنقم بعد ذلك بتلخيص عام لمجال واسع من
مجالات نظرية المعرفة، فنقول إن القضية تكون، حسب تعريفها
«صادقة»، أو «حقيقة»، عندما يكون ما تؤكده «مطابقًا» للوقائع
التي يفترض أنها تصفها. وهذه هي أكثر النظريات الفلسفية
المتعلقة بالحقيقة شيوعًا، كما أنها أوسع المعاني التي نقبلها
في موقفنا الطبيعي انتشارًا.
والآن، فلنطبق هذا الفهم للحقيقة على الفنون، ونرى ما يحدث.
عندئذٍ نجد أولًا أن الفنون غير الأدبية — وهي الموسيقى،
والتصوير، والعمارة، والرقص … إلخ — تختفي من الصورة؛ ذلك
لأنها لا تصدر تأكيدات لفظية، ومن ثَم فلا يمكن القول إنها
تنطوي على حقائق أو أكاذيب، فماذا نقول عن الأدب، وهو الفن
الوحيد الذي يمكن تصور وجود الحقيقة فيه؟ إن جزءًا كبيرًا منه،
هو ذلك الذي يتألف من تصريحات لفظية لا تتخذ صيغة القضايا،
يختفي بدوره من الصورة. وهكذا فإننا نستبعد التعبيرات عن
الرغبة، مثل «ثم غردي، أيتها الطيور، غردي، غردي تغريدة
بهيجة!» (ووردزسورث، أنشودة: لمحات الخلود) كما نستبعد
التعبيرات عن الموقف أو الاتجاه، كما في قول هاملت: ومنذ هذه
اللحظة فصاعدًا، ستكون أفكاري دموية، وإلا فإنها لن تساوي
شيئًا!» (الفصل الرابع ٤). كذلك فإن تلك الجمل التي هي
إخبارية من حيث النحو، ولكنها تستخدم أساليب مجازية أو ما
يشبهها، هي في عمومها غير ذات معنى، أو باطلة؛ فالتأكيدات
الواقعية المباشرة، مثل كون أوليفر تويست طلب «المزيد»، أو كون
هيرستوود Hurstwood هبط إلى
حضيض الفقر (در يزر، الأخت كاري Sister
Carrie) هي زائفة، لسبب بسيط هو أن أمثال
هؤلاء الناس لم يوجدوا أبدًا، وهكذا تتبقى القضايا التي نجدها
أساسًا في الرواية، والتي هي صحيحة تجريبية، كالقول إن
نابوليون غزا روسيا (تولستوي: الحرب والسلام) أو أن فلاحِي
أوكلاهوما هاجروا (شتاينبك: عناقيد النقمة
Garpes of Wrath) ولكن هذه
لا تؤلف إلا جزءًا ضئيلًا من الأدب.
وإذن فالحقيقة بمعناها المعتاد لا تتمثل إلا في قدر ضئيل من
الأعمال الفنية، وفضلًا عن ذلك فإنها في معناها هذا نفسه تكون
ضئيلة القيمة بوصفها معيارًا للقيمة الجمالية؛ فنحن لا ننتقد،
من الوجهة الجمالية، جميع الأعمال التي تخلو من القضايا، كما
لا ننتقد جماليًّا تلك الأعمال التي تكون كل قضاياها، أو كلها
تقريبًا، باطلة. وربما كانت أشهر غلطة واقعية فاحشة في الأدب
كله هي تلك التي ارتكبها كيتس حين عزا كشف المحيط الهادي إلى
كورتيز (في قصيدة «عندما قرأت لأول مرة هوميروس لتشابمان
On First Looking Into Chapman’s
Homer») ولكن من المصادفات ذات الدلالة
الواضحة أن هذه الغلطة ارتكبت في عمل لواحد من أكثر الشعراء
«شاعرية»، بأعمق معاني هذا اللفظ، فهل أدى ذلك إلى الإقلال من
قيمته بوصفه شاعرًا؟ وهل نحن نقرأ القصيدة لكي نكتسب معرفة عن
التاريخ البحري؟ وأخيرًا، فإن هناك بطبيعة الحال كثيرًا من
الروايات الرديئة الحافلة بالإشارات الدقيقة إلى حوادث تاريخية
أو حوادث جارية.
وهكذا تظهر المسألة للقارئ الآن بكل وضوح. فإذا ما تناولنا
المعنى العادي للفظ «الحقيقة» وطبقناه حرفيًّا على الفن، اتضح
لنا أن مشكلة «الحقيقة الفنية» ليست يسيرة فحسب، بل هي أيضًا
مشكلة عقيمة إلى حد غير قليل، فمن الواضح إذن أن هذا «الحل»
أيسر مما ينبغي، على أن النقاد والفلاسفة الذين ينسبون إلى
الفن حقيقة لا يمكن أن يكونوا متهافتين إلى هذا الحد؛ فهُم
عندما يؤكدون أن الحقيقة مصدر هام، بل مصدر أساسي، لقيمة الفن،
إنما ينقلون إلينا تجربتهم الجمالية التي يمارسونها بعمق.
والواقع أن شيوع هذه التجربة بينهم أمر ينبغي أن نعمل له كل
حساب، فهُم مدركون للمعنى المعتاد للفظ «الحقيقة»، ولكنهم
يجدون الفن أرفع من الناحية المعرفية من «الصيغ الجافة
للرياضيات، والعلوم، والفلسفة».
١٨ فلا بد أنهم يستخدمون لفظ الحقيقة، بمعنى مخالف
للمعنى المألوف. فهل نستطيع أن نجد معنًى للفظ «الحقيقة» يجعل
رأيهم هذا معقولًا، ويجعل لتجربتهم ما يبررها؟
على أن هناك نظرية من نوع آخر، يمكننا أن نقول بها بعد أن
نجد أن «الحقيقة» بمعناها المعتاد لا يكاد يكون لها شأن
بالفنون الجميلة. تلك، كما اقترحت من قبل، هي التخلي تمامًا عن
البحث عن «الحقيقة الفنية»، ومحاولة فهم قيمة الفن على نحو
آخر.
سوف ندرس أولًا نظرية من هذا النوع، كما عرضها إ. أ. رتشاردز
I. A. Richards ثم ندرس
نظريات «الحقيقة الفنية» التي وضعها ت. م. جرين
T. M. Greene وجون هوسبرز
John Hospers.
•••
إن إ. أ. رتشاردز من أعظم الباحثين في الآداب في عصرنا. وقد
كان، ولا يزال، يشتغل بطريقة خصبة خلاقة في الدراسات الإنسانية
المتعلقة باللغة والأدب. ولقد كان كتابُ «معنى المعنى
The Meaning of Meaning»
الذي اشترك في تأليفه (مع أوجدن) دراسةً رائدة أثارت اهتمامًا
كبيرًا في الآونة الأخيرة بعلم المعاني اللغوية
semantics.
ولقد أحس هذا الباحث الإنساني العظيم، كما أحس ماثيو آرنولد
من قبله، بالتدهور الذي يعانيه الشعر وغيره من الفنون في
الحضارة الحديثة. ويرى رتشاردز أن مصدر التهديد الرئيسي هو
نهضة العلم في العالم الحديث؛ فالتفكير العلمي، بما أتاحه من
سيطرة على الطبيعة، هدم الطريقة التخيلية والأسطورية في النظر
إلى العالم، وهي الطريقة التي ازدهر فيها الشعر في الماضي. وهو
يقول في هذا الصدد: «هناك إمكان ينبغي التفكير فيه جديًّا، هو
احتمال انقراض الشعر.»
١٩ ولكن من الضروري لنا أن نحافظ على الشعر إن لم نشأ
أن نصاب بالهزال الثقافي؛ فالعلم ليس كافيًا. ومن هنا فإن
رتشاردز يتحدث عن «المحاولة العقيمة لتوجيه الذهن على أساس
الاعتقاد الذي ينتمي إلى النمط العلمي فحسب».
٢٠ فمن الواجب أن يكون الشعر مكملًا للعلم.
٢١ ومع ذلك فلا يمكن أن يُكتَب للشعر بقاءً إلا إذا
بينَّا بوضوح مبرراته وقيمته. وقد أخذ رتشاردز على عاتقه
القيام بهذه المهمة في عدد من مؤلفاته المبكرة.
على أن من الغريب حقًّا أن الكثيرين قد نظروا إلى رتشاردز
على أنه أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى الحط من قدر الشعر
في عصرنا، وقد اعترف هو ذاته منذ عهد قريب أن مؤلفاته الأولى
قد استخدمت لتأييد «نزعة سيطرة العلم
scientism»، وإن كان يؤكد
أن هذا لم يكن المقصود منها.
٢٢ فكيف حدث ذلك؟
إن مفهوم الشعر عند رتشاردز يرتكز على نظريته في اللغة. ففي
كتاب «معنى المعنى» يعرض رأيًا أصبح منذ ذلك الحين على درجة من
الشيوع ينبغي معها أن نبذل جهدًا لكي نتذكر أصالة صاحبه. فهو
يبين بالتفصيل أننا نستخدم الرموز اللغوية لا لكي نتحدث عن
وقائع العالم فحسب، بل لأغراض أخرى أيضًا؛ فاستخدام اللفظ
لتسجيل الأمور الواقعة هو استخدامه «الإشاري
referential». وهذا
الاستخدام يتمثل في التبادل اليومي للمعلومات، كقولنا: «الكتاب
على الرف العلوي.» كما يتجلى بأقصى قدر من الوضوح والتنظيم في
العلم. غير أن هناك مقولة أخرى عظيمة الأهمية في اللغة، هي
المقولة «الانفعالية
emotive»،
أي «استخدام اللغة للتعبير عن المشاعر والمواقف أو إثارتها».
٢٣ وتتميز لغة الشعر أساسًا بأنها انفعالية.
هذا التضاد القاطع بين العلم والشعر يحول بينهما وبين
التنافس أحدهما مع الآخر، فلو حدث بينهما صراع حول الحقيقة،
لأحرز العلم انتصارًا سريعًا حاسمًا، غير أن من الواجب ألا
نحتقر الشعر لهذا السبب؛
٢٤ ذلك لأنه «ليس من مهمة الشاعر أن يدلي بعبارات صحيحة».
٢٥ وهكذا فإن دفاع رتشاردز عن الشعر ينحصر في إنكاره
أن «وظيفتَي العلم والشعر واحدة … أو أنهما متعارضتان».
٢٦
غير أن البعض قد اعتقد أن دفاع رتشاردز عن الشعر يهدم نفسه
بنفسه؛ ذلك لأنه لا «ينقذ» الشعر إلا عن طريقة تفريغه من كل
معنى وحقيقة. ولو كانت اللغة الشعرية انفعالية فحسب، لكانت
القصيدة إما مظهرًا للانفعال، كالضحكة، وإما حافزًا إلى
الانفعال، كالدغدغة. وهكذا يبدو أن رتشاردز قد سلب الشعر
أهميته التقليدية، وهو قد فعل ذلك لأنه استسلم دون أن يشعر
لنفس القوى التي كان يحاول الحد من تأثيرها، وهي نمو العلم
وسطوته. فالعلم يحتكر لنفسه كل مطلب للمعرفة، وبذلك تتضاءل
أهمية الشعر.
ولكي نقدر مدى قوة هذا النقد، فلا بد لنا من المضي أبعد من
ذلك في اختبار نظرية رتشاردز.
فمن الملاحَظ أولًا أن رتشاردز لا ينكر أن ألفاظ الشعر لها،
في بعض الأحيان على الأقل، موضوعات إشارية
referentis في العالم
التجريبي، كذلك فإنه لا ينكر أن القصائد تتضمن أحيانًا عبارات
صحيحة بمعنى «التطابق»؛ «فهناك قدر كبير جدًّا من الشعر يتألف
من عبارات، ونظم رمزية، تقبل الصدق والكذب».
٢٧
والأمر الذي يؤكده بالفعل هو أن أمثال هذه العبارات لا
«تُستخدَم … من أجل ما فيها من صدق أو كذب.»
٢٨ وفضلًا عن ذلك، فليس من مهمة الشاعر أن يأتينا
بالحقيقة. «فإذا ما أثيرت فينا حالة نفسية أو شعور ما، لتحققت
بذلك أهم وظيفة للغة (الانفعالية)، ولا تكون أية وظيفة رمزية
(أي إشارية) للألفاظ إلا أداة في يد الوظيفة الإيحائية وعاملًا
مساعدًا لها».
٢٩ وبعبارة أخرى، فإن التمييز بين اللغة «الإشارية»
واللغة الانفعالية» هو تمييز في غاية اللغة أو وظيفتها. والقول
إن اللغة الشعرية انفعالية لا يعني الهبوط بها إلى مرتبة
«اللامعنى»، بل إن الشعر قد ينطوي على إشارات تتصف بقدر كبير
من «الدقة» و«الإحكام».
٣٠ وكما قال كاتب متأخر: «فليس ثمة قانون يحظر على
العبارات الواردة في القصائد أن تقدم وصفًا صحيحًا لأمر واقع».
٣١ ولكن الشاعر لا يكتب لكي يقدم إلينا معرفة عن
العالم، كما أننا لا نقرؤه من أجل اكتساب مثل هذه
المعرفة.
ويقول رتشاردز:
«إن أفضل معيار نعرف به إن كان استخدامنا للألفاظ
رمزيًّا أو انفعاليًّا في أساسه، هو السؤال: «هل هذا
صدق أم كذب بالمعنى العلمي العادي الدقيق؟ فإن كان
لهذا السؤال علاقة بالموضوع، كان الاستخدام رمزيًّا،
وإن كان انعدام صلته بالموضوع واضحًا، كنا إزاء عبارة
انفعالية».
٣٢
فلنتأمل مثلًا بيت الشعر الذي أورده رتشاردز، وهو «أيتها
الوردة، إنك عليلة حقًّا!»
٣٣ فهل مما له علاقة بالموضوع أن نتساءل هل هذا صحيح؟
وهل الوردة عليلة بحق؟ ومم تشكو؟ وهل مما له علاقة، بالمثل، أن
نتساءل، عندما يكون اهتمامنا منصبًّا على القصيدة لا على
التاريخ البحري: هل صحيح أن كورتير اكتشف المحيط الهادي؟ إن
رتشاردز يرى أن الحقيقة العلمية للعبارة الشعرية ليست لها
علاقة بقيمتها الشعرية تزيد على العلاقة بين التأثيرات
الانفعالية النظرية علمية وبين حقيقة هذه النظرية.
٣٤
لهذا السبب يطلق رتشاردز على التأكيدات الشعرية اسم «أشباه
العبارات
pseudo-statements»
ولقد ذكر واحد من أقسى نقاد رتشاردز أن «أشباه العبارات» هي
«عبارات كاذبة، أو مجرد أكاذيب صريحة».
٣٥ ويترتب على ذلك أن الشعر كله خديعة هائلة، أو خطأ
فادح. غير أن هذا لا يعدو أن يكون تجاهلًا لتعريف رتشاردز
الصريح: «ليس من الضروري أن يكون شبه العبارة، بالمعنى الذي
استخدم به هذا التعبير، باطلًا بأي معنًى، وإنما هو مجرد صورة
للألفاظ لا يكون لصدقها أو كذبها علاقة بالغرض المقصود».
٣٦ أما «الغرض المقصود» فهو إثارة المشاعر والأحوال
النفسية في قارئ الشعر، وتنظيم هذه المشاعر.
لذلك فإن قدرًا كبيرًا من النقد الموجه إلى رتشاردز لا يسير
في الوجهة الصحيحة. فنظريته في «اللغة الانفعالية» لا تؤدي
آليًّا إلى استبعاد المعنى والحقيقة من الشعر. على أن هناك
فقرات يتحدث فيها بلا حذر، كتلك التي يقول فيها إن ««الشعر» لا
ينبئنا بشيء، أو ينبغي ألا ينبئنا بشيء».
٣٧ هذه فقرة يمكن أن يستغلها ضده ناقد يريد أن يثبت
أن رتشاردز يسلب الشعر كل دلالة. غير أن ما يقوله رتشاردز في
هذا الصدد واضح من سياق بقية كتاباته؛ فليست غاية الشعر هي
توصيل الحقائق؛ وليس لنا أن نلوم الشعر إذا عجز عن أن يفعل
ذلك؛ صحيح أن الشعر قد توجد فيه حقائق علمية، غير أنها لا تؤثر
في قيمته الجمالية، بل إن الشعر تكون له قيمته لأنه يخلق تجربة
انفعالية منظمة لدى القارئ، والطريقة المميزة لاستخدامه للغة
تهدف إلى تحقيق هذه الغاية. كل هذه الآراء موجودة ضمنًا في قول
رتشاردز: «إن أولئك الذين يقولون: ما أصدق هذا! من آن لآخر
أثناء قراءتهم لشيكسبير يسيئون استخدام مؤلفاته، وهم، بمعنًى
نسبي، يضيعون وقتهم سدًى.»
٣٨
ولقد ذكرت من قبل أن النقد المتطرف النظرية رتشاردز ليس له
ما يبرره، ولكني أود مع ذلك أن أنبه إلى تلك السمات الموجودة
في كتاباته، والتي أدت إلى ظهور مثل هذا النقد؛ فقد أدخل
رتشاردز مقولة «اللغة الانفعالية» لكي ينبه إلى الاستعمالات
غير المعرفية للألفاظ؛ ذلك لأن المفاهيم السابقة للغة كانت قد
تجاهلت هذه الاستعمالات أكثر مما ينبغي، وكان الاعتقاد السائد
هو أن استخدام الألفاظ في وصف وقائع العالم ونقل هذه المعلومات
إلى الآخرين هو أنموذج الاستخدام اللغوي. أما رتشاردز فقد
أرغمنا على إدراك مدى انتشار استخدام اللغة لأغراض أخرى. وقد
سار المفكرون اللاحقون على نهجه، وبينوا أن اللغة الانفعالية
لها دور بارز، بل هي أحيانًا النوع الرئيسي من اللغة في مجالات
كالدعاية، والأخلاق … إلخ،
٣٩ ونظرًا إلى أن رتشاردز قد أكد بقوة التمييز بين
«الإشاري» والانفعالي»، فقد اعتقد البعض أن التأكيدات ذات
المعنى الوصفي لا يمكن أن يكون لها مكان في الكلام الانفعالي،
كالشعر، وبدا أن هناك جانبًا آخر من جوانب نظرية رتشاردز يؤيد
هذا الاستنتاج.
فقد رأينا من قبل أن «الانفعالي» و«الإشاري» يتعلقان
باستعمالات اللغة أو وظائفها، فكيف يمكن الاضطلاع بالوظيفة
الإشارية أي وظيفة تقديم الحقيقة العلمية؟ إن ذلك لا يكون إلا
عن طريق استخدام لغة لها معنًى وصفي في حقائق العالم لا يمكن
وصفها بكلمات تفتقر إلى موضوعات إشارية واقعية فإذا كان الغرض
الإشاري للغة يقتضي معنًى إشاريًّا، فيبدو أنه يترتب على ذلك
أن الوظيفة الانفعالية للغة تقتضي معنًى غير إشاري، وهذا يؤدي
إلى جعل الشعر مجرد «كلام لا معنى له» من الناحية الواقعية،
غير أن التوازي في هذه الحالة باطل ومضلل؛ فرتشاردز، كما
لاحظنا أكثر من مرة، على استعداد تام لإدخال المعنى الوصفي في
الاستخدام الانفعالي للغة.
على أن هذا يؤدي بنا إلى نقد هام لنظرية رتشاردز، فإذا كان
من الممكن استخدام المعاني الوصفية في الأغراض الانفعالية،
فكيف تحقق هذه المعاني تأثيرها الانفعالي بالضبط؟ وكيف تستطيع
الرموز الإشارية أن تثير انفعالات وأحوالًا نفسية في قارئ
الشعر؟ إن إيجاد تمييز بين «المعنى» و«الشعور» شيء، وبيان كيف
يستطيع كل منهما أن يؤثر في الآخر شيء آخر، قد يكون أهم من
الأول. ولو كان رتشاردز قد فعل ذلك،
٤٠ لتجنَّب قدرًا كبيرًا من النقد الذي وُجِّه إلى
آرائه، وفضلًا عن ذلك فإنه لو كان قد فعل ذلك لزودنا بالأداة
التي تمكننا من القيام بتحليل لغوي لأشعار معينة، وعن طريق هذا
التحليل وحده نستطيع أن نفسر القيم الجمالية المميزة للشعر،
وهي القيم التي كان رتشاردز يؤكدها، والتي أراد المحافظة
عليها.
وفضلًا عن ذلك، ألا يجوز أن «الحقيقة» بمعنى «التطابق»
الواقعي، أهم في الشعر مما تصوَّر رتشاردز؟ إنه يسلم بأن
المعاني الوصفية، وبالتالي الحقائق يمكن أن تتمثل في الأقوال
الانفعالية، بل إنها أحيانًا تتمثل فيها بالفعل. على أنه يعتقد
أنه لا الحقيقة ولا البطلان يؤثر في القيمة الجمالية للقصيدة،
وهو يذهب إلى أن هذه هي الحال في كل شعر. على أن هذا بعينه هو
الموضع الذي تثار فيه بعض الأسئلة، فلنسلم بأنه ليس من وظيفة
الشعر أن ينقل الحقيقة. ومع ذلك، ألا يجوز أن قيمته الجمالية
تتوقف، جزئيًّا على الأقل، على حقيقته؟ إننا قد نتفق جميعًا
على أن خطأ كيتس الفادح لا ينتقص من قدر قصيدته، ولكن ألا يجوز
في حالات أخرى يكون فيها ما يقرره الشعر باطلًا «بالمعنى
العلمي الدقيق المألوف» أن يؤدي هذا إلى تشويه تجربتنا
الجمالية أو القضاء عليها؟ إننا لا نقرأ الشعر، كما نقرأ دراسة
علمية من أجل اكتساب الحقيقة أساسًا، ومع ذلك فإن الإشارات
الوصفية إلى العالم جزء من العمل الشعري، شأنها شان وزنه أو
الصور المتضمنة فيه. ألا يجوز إذن أن يكون بطلان هذه الإشارات،
في بعض القصائد، مضادًّا لقيمتها الجمالية، شأنه شأن الوزن
المكسور أو الصورة غير الملائمة؟ إننا نتحدث في كثير من
الأحيان كما لو كان الأمر كذلك بالفعل. وهذا احتمال سيكون
علينا فيما بعد أن ندرسه، فإذا أمكن وجود الحقيقة في الشعر على
الإطلاق، فقد تكون موجودة على نحو له دلالته، بحيث لا تكون
«خارجة عن الموضوع» فحسب، كما يعتقد رتشاردز.
وأخيرًا، فإذا كانت مسألة «الحقيقة الشعرية» لا تزال مفتوحة،
فمن الواجب عندئذٍ أن نبحث عن معانٍ للفظ «الحقيقة» غير
«المعنى العلمي الدقيق المعتاد»، ويعترف رتشاردز بأن اللفظ
كثيرًا ما يستخدم لكي يدل على شيء غير «التطابق» مع الواقع، بل
إنه كان واحدًا من أول من نبهوا إلى هذا الاستخدام (أو إساءة
الاستخدام) للفظ، ومع ذلك فإن رتشاردز يرى أنه عندما يستخدم
لفظ «حقيقي» لكي يدل على معنًى مثل «أصيل»، لا تكون له إشارة
وصفية، ولذلك فإنه يعرب عن شكه في هذا الاستخدام.
٤١ غير أن هناك احتمالًا آخر، هو أن القصيدة، أو
العمل الفني عامةً، قد تكشِف عن الحقيقة بالمعنى «المعتاد»،
وهو أن تصف وجهًا من أوجه العالم بدقة دون أن تصدر مع ذلك
تأكيدات واقعية مباشرة. فمن الممكن نقل الحقيقة إلى القارئ،
بمعنًى قريب من المعني «الدقيق»، بطريقة ملتوية غير مباشرة، بل
ويترتب على ذلك زيادة في قيمة التجربة الجمالية لهذا
القارئ.
هذه وجهة أخرى يمكننا أن نتخذها إذا شئنا أن نجعل للحقيقة
دورًا بوصفها سمة ذات دلالة، لا مجرد سمة عرضية ضئيلة الشأن،
للموضوع الفني.
•••
وهناك مفكر آخر يدافع عن فكرة «الحقيقة الفنية»، هو الأستاذ،
ت. م. جرين
T. M. Greene، يجد
— مِثل معظم الفلاسفة المدافعين عن هذه الفكرة — أن مما يشجع
على هذا الدفاع كوننا نستخدم على الدوام لفظ «الحقيقة»
و«البطلان» في تقدير الأعمال الفنية؛
٤٢ فالنقاد يصفون الروايات عادة بقولهم إن «جوًّا
حقيقيًّا يشيع فيها»، ويقولون إن الكاتب يكشف عن معرفة بالبيئة
التي تدور فيها أحداث القصة، أو بالشخصيات، وما إلى ذلك. كما
يعتقد الأستاذ جرين اعتقادًا راسخًا بأن معنى الفن لا يمكن إن
يفهم إلا إذا أخذت حقيقته بعين الاعتبار، فعندئذٍ فقط نستطيع
أن نفهم جهود الفنان الخلاق وقيمة التجربة الجمالية:
«إن الفنان، في محاولته فهم الواقع بطريقته الخاصة،
يشبه العالم والفيلسوف والأخلاقي واللاهوتي … أما مَن
يتجاهل هذه السمة الأساسية في الفن فإنه يغفل طابعه
التاريخي، ويسلبه قدرًا كبيرًا من دلالته الإنسانية.»
٤٣
ونستطيع أن نلاحظ، على الفور، مدى الاختلاف بين جرين وبين
رتشاردز في تصوُّر وظيفة الفن؛ ذلك لأن جرين، شأنه شأن بقية
المفكرين الذين ورد ذكرهم في هذا الفصل من قبل، يجعل للفن مهمة
معرفية، كالعلم والفلسفة، وهو يذهب إلى أن الفنان يقدم تفسيرًا
معينًا للتجربة البشرية يفترض أنه صحيح؛ فالفنان يكمل العلم عن
طريق كشفه لحقائق لا يستطيع العلم التوصل إليها أبدًا؛ «فكل
منهما يصل إلى ما لا يصل إليه الآخر».
٤٤
ويقول جرين إن «العمل الفني … يمكن إن يكون صحيحًا أو باطلًا
مثلما تكون القضية التي يعبر عنها علميًّا صحيحة أو باطلة».
٤٥ وهو على خلاف الكثيرين ممن يستخدمون تعبير
«الحقيقة الفنية»، يقدم تحليلًا مفصلًا لمعنى هذا التعبير.
وفضلًا عن ذلك فإن جرين يعترف بالفروق الواضحة بين الحقيقة
الفنية والحقيقة العلمية؛ «فالفنان يشبه العالم»، ومع ذلك فإن
نوع الحقيقة التي يصل إليها الفنان والطريقة التي يعبر بها
عنها، تختلف في نواحٍ هامة عن العلم.
وهناك من أوجه الاختلاف بين الكلام الفني والكلام العلمي ما
هو واضح كل الوضوح؛ فالعمل الفني مشحون بالانفعال، بينما
الدراسة العلمية ليست كذلك، والعمل الفني يكشف عن فردية
الفنان، على حين أن النظرية العلمية تتعمد أن تكون لا شخصية،
إلخ. ومع ذلك فإن الفروق الحاسمة في رأي جرين هي: (١) أن العلم
يستخدم على الدوام تصورات لكي يصف الجوانب المطردة في الطبيعة
المادية، على حين أن الفن لا يعتمد أساسًا على التصورات (صحيح
أن التصورات تستخدم في الأدب، ولكنها حتى في هذه الحالة ليست
هي الوسيلة الرئيسية للتعبير عن الحقيقة)؛ فالعمل الفني لا
يُصدر تأكيدًا مثل «العالم خير في أساسه»، ولكن من الممكن أن
يعبر الفنان عن ذلك بمعالجته لموضوع فردي وعيني. وبالمثل فإن
المصور يقدم إلينا الكائنات البشرية «على نحو من شأنه تأكيد …
تلك السمات البشرية العامة التي تهمه».
٤٦ هذه «الكليات» النفسية تعرض بطريقة تصويرية عينية،
لا بواسطة تصورات.
٤٧ (٢) والفن، على خلاف العلم، يقدم على الدوام
تفسيرًا للواقع يربط بينه «وبين الإنسان بوصفه فاعلًا
معياريًّا هادفًا».
٤٨ وهذا يعني أن الفن تقويمي
evaluative مثلما هو واقعي
factual؛
٤٩ فهو يهتم بدلالة موضوعه بالنسبة إلى أهداف البشر
ومثلهم العليا، ومن هنا فإن الفن يصدر حكمًا معياريًّا ما على
ما يصوره، أما العلم فإنه، حتى لو تناول القيم البشرية بالبحث،
يبحثها بوصفها وقائع موضوعية فحسب …
والآن، فما معنى القول إن «الفن يعبر عن الحقيقة»؟
يبدأ جرين بإعلان قبوله لتعريفَين يؤكدهما عادةً الطرف الآخر
في هذا النزاع (وهو أمر قد يبدو غريبًا لأول وهلة)، هذان
التعريفان هما أن القضايا وحدها هي التي يمكن أن تتسم
بالحقيقية أو البطلان، وأن القضية لا تتسم بالحقيقة إلا عندما
«تصف بدقة ما نهدف إلى وصفه».
٥٠ ولكن، كيف يستطيع جرين، بعد هذا، أن يقول إن
الحقيقة تتمثل في جميع الفنون، وضمنها الفنون غير اللفظية؟
وإذا كان قوام الحقيقة هو «التطابق»، أليس الفن في ذلك مشابهًا
تمامًا للعلم؟
يجيب جرين عن هذه الأسئلة عندما ينتقل إلى شرح معنى «القضية»
و«التطابق». فالقضايا تنقل المعاني والحقائق عن طريق وسيط
(
medium) معيَّن يتيح
«الاتصال بين ذات وأخرى».
٥١ ومع ذلك فليس من الضروري أن يكون هذا الوسيط
لفظيًّا وتصوريًّا. فمن الممكن أن نجد قضايا، أي نجد ما يذهب
الفنان إلى أنه صحيح (حقيقي) في موضوعه، في وسائط كالتصوير
والموسيقى … إلخ، وعلى ذلك ينبغي، إذا شئنا أن نساير جرين، أن
نقول إن الفن «يعبر عن القضايا»، ولا «يقررها» أو «يعلنها».
ويعترف جرين بأنه «يتصور القضايا بطريقة أوسع بكثير مما
تُتصوَّر به عادةً».
٥٢ ولكنه يؤكد أن القضايا التي يعبر عنها ليست مجرد
تقريبات غامضة لشيء يمكن أن يقال بطريقة أفضل بواسطة العبارات
اللغوية التي تستخدم تصورات، بل إن ما يستطيع الفن التعبير
عنه، لا يمكن أن يقوله العلم.
٥٣
ولقد تعرض جرين لحملة من النقد — كما نستطيع أن نتوقع —
نتيجة لهذا الاستخدام الشديد الاتساع للفظ «القضية». وكما قال
أحد نقاده، فإنه «ليس مما يقبله العقل أن نسمي العمل الفني قضية»؛
٥٤ ذلك لأن القضايا، لكي يكون لها معنًى، ينبغي أن
تشمل رموزًا تواضع الناس على معانيها. وما القاموس إلا جمع
لهذه المواضعات، كما أن الباحث النظري، الذي يستحدث تعبيرًا أو
رمزًا جديدًا لغرض ما، إنما يستهل بذلك مواضعة لغوية. على أنه
لا توجد مواضعات من هذا النوع في حالة الألوان والأصوات. ومن
هنا لم يكن في وسعنا أن نقول ما هي «القضايا» في الموسيقى
والتصوير. «في القضايا، نقرر دائمًا شيئًا ما، ولكن ما الذي
نقرره في حالة الألوان والأصوات؟ وكيف يمكن القول إنها تصدر
تقريرات على الإطلاق؟»
٥٥
كذلك وُجهت اعتراضات كهذه على استخدام جرين للفظ «الحقيقة»؛
ذلك لأن «الاتساق
consistency»
هو في نظر جرين، أحد الشروط الضرورية للحقيقة، إلى جانب
«التطابق». ويكون العمل «متسقًا»، إذا كان يفي بعدة شروط، فمِن
الواجب أن يستغل إمكانات الوسط الذي يظهر من خلاله، وأن يحترم
مبادئ المعالجة الخاصة بقوالب فنية مثل الشعر الغنائي،
والسونيت
sonnet … إلخ، وهو
أيضًا لا يكون متسقًا إلا «إذا لم تكن القضايا التي يعبر عنها،
أو تفسيرات الموضوع، متناقضة بعضها مع البعض».
٥٦ ويضرب لنا جرين مثلًا «للتناقض» بالمزج الاعتباطي
بين أساليب متباينة مثل أسلوبي باخ وديبوسي. وأخيرًا فإن كل ما
يود الفنان أن يقوله عن موضوعه ينبغي أن يكون متكاملًا «بحيث
يكون العمل الفني في مجموعه تعليقًا معقدًا متماسكًا على طبيعة
الموضوع بأسره وأهميته».
٥٧ والواقع أن نقاد جرين على استعداد تام لقبول كل
هذه المعايير الخاصة بتقويم الموضوع الفني، ومع ذلك فهم ليسوا
على استعداد للتسليم بأن «الحقيقة»، كما يفهمها الجميع، لها
أية صلة «بالاتساق» كما عرفه جرين.
٥٨
أما المعيار الثاني، وهو «التطابق»، فهو أقرب كثيرًا إلى
المعنى المعتاد للحقيقة، ويقول جرين «إن الحقيقة الفنية،
كالحقيقة في ميادين الكلام الأخرى، ينبغي أن تفي بمعيار التطابق.»
٥٩ غير أن التطابُق هنا من نوع ينفرد به الفن؛
«فالقضية لا يمكن اختبار تطابُقها مباشرة إلا إذا طبقنا عليها
بطريقة مباشرة معطيات لها صلة مباشرة بها، لا معطيات ترتبط
بمجال مختلف عنها من مجالات الكلام».
٦٠ فليس في استطاعتنا، عمومًا، أن نختبر القضايا التي
يعبر عنها الفن بالرجوع إلى وقائع الحياة اليومية والعلم، إذ
إن هذه طريقة تهدم نفسها بنفسها، وتضمن للزاعمين بأن «الحقيقة
العلمية» هي النوع الأصيل الوحيد للحقيقة، انتصارًا أسهل مما
ينبغي؛ فكل فنان يتخذ لنفسه «إطارًا معينًا للإشارة»، أو طريقة
خاصة للنظر إلى العالم، فإذا ما شئنا أن نفهم «استبصاراته»،
كما يسميها جرين، فعلينا أن نتخذ نفس الإطار الإشاري هذا، ونرى
إن كان العالم، مفسَّرًا على هذا النحو، يتضمن الوقائع التي
يشير إليها.
ويضرب جرين مثلًا مُبسَّطًا إلى حد غير قليل — هو تصوير
سيزان للأشجار؛ فطريقة معالجته لهذا الموضوع تؤكد سمات معينة
يتجاهلها بقية الفنانين؛ ذلك لأن سيزان يؤكد «صلابتها الثلاثية الأبعاد»
٦١ «وفي استطاعتنا أن نذهب مباشرة إلى الطبيعة …
ونختبر دقة ملاحظاته المسجلة على أساس اهتمام سيزان المعرفي
الخاص … فإذا اختبر الناقد ملاحظات سيزان على هذا النحو، لما
تمالك نفسه من الإعجاب بموضوعية بصيرة سيزان، ولأدرك أننا
بدورنا نستطيع أن نرى ما رآه سيزان.»
٦٢ أو لنتناول مثلًا من الفصل السابق، فنقول إن «إطار
الإشارة» في التراجيديا يختلف اختلافًا كبيرًا عن إطار الإشارة
في الكوميديا، فما نجده في البشر عندما ننظر إليهم «بهزل»
يختلف تمامًا عما نجده عندما ننظر إليهم بوصفهم أبطالًا
تراجيديين. وليس في استطاعتنا أن نختبر حقيقة أي عمل أو بطلانه
ما لم نفحص الوقائع «المرتبطة به من وجهة النظر الفنية».
٦٣
ومن جهة أخرى، فإن في استطاعتنا أن نقبل «إطار الإشارة» لدى
الفنان ونخرج إلى العالم «لنختبر مدى التطابق عنده»، فنجده قد
تجاهل معطيات معينة، أو لم يوضح دلالة الوقائع التي اختارها.
ومن ثَم فإن جرين يرى أننا عندما نصف عملًا فنيًّا بأنه «ضحل»
أو «سطحي» فنحن إنما نطبق عليه في الواقع معيار «البطلان».
٦٤ ويبدو أن النقاد يقبلون رأي جرين ضمنيًّا عندما
يقولون، كما يحدث في كثير من الأحيان، إن الفنان «لم يوفِّ
موضوعه حقه». ومن هذا القبيل ما يقوله و. ك. ويمزات الابن
W. K. Wimsatt jr عن قصيدة
معاصرة تتحدث عن الشر في الوجود الإنساني: «إن العيب في هذه
القصيدة هو، وببساطة، أنها لا تقول ما فيه الكفاية؛ فالقصيدة
لا توفي حالات المشاعر الشريرة وطابعها العيني حقهما».
٦٥ ومن الجدير بالملاحظة أن «ويمزات» يستخدم عبارات
معرفية في تقويم أعمال مماثلة، فيقول إنها «أشد إمعانًا في
الخطأ الساذج من أن تكون لها أهمية (شعرية)».
٦٦ وبالمثل فإن قوام «البطلان» في العمل الفني عند
جرين هو أن يكون إدراكًا مختلطًا، أو قصير النظر، أو سطحيًّا،
للوقائع «المتعلقة بالموضوع».
•••
ويعد الأستاذ «جون هوسبرز
John
Hospers» من بين أولئك الذين يعترضون، على
أسس منطقية ولغوية، على استخدام جرين للفظي «القضية»
و«الحقيقي». ومع ذلك فإن هوسبرز، مثل جرين، يرى أن الحقيقة
بمعنى ما (وهنا أجد نفسي مرة أخرى مضطرًّا إلى استخدام تعبير
الاستثناء الأخير، وهو «بمعنًى ما»، ولا بد أن يكون القارئ قد
أدرك السبب عند هذه المرحلة) هذه الحقيقة كثيرًا ما تزيد من
القيمة الجمالية للأعمال الفنية.
٦٧ وهو يقتفي، مثل جرين أيضًا، أثر أرسطو حين يقول إن
الفنان يصور «الكلي»، أي أن تحديد معالم شخصية واحدة ينطوي على
تصوير لنمط متكرر للشخصية الإنسانية.
٦٨
ويقول هوسبرز، مثل جرين أيضًا، إننا نستطيع التحقق من
استبصارات (الفنان) عن طريق قيامنا بأنفسنا بملاحظات أخرى
للناس وأفعالهم.
٦٩ «ولكن هوسبرز يفترق عن جرين؛ إذ يرفض التحدث عن
«قضايا»؛ فالقضايا تؤكد «حقائق عن» موضوع العمل الفني.
والرواية لا تقرر حقائق عن الطبيعة البشرية، وإنما تصورها
بطريقة غير مباشرة، عن طريق مجرد كونها حقيقة قاصدة إلى
الطبيعة البشرية».
٧٠ و«الحقيقة القاصدة
(
truth-to)» ليست وصفًا
تُستخدم فيه قضايا، وإنما هي تعبير عن الشخصية في نطاق العمل
ذاته، عن طريق إظهار أفعال عينية وسمات للشخصية، غير أن من
الممكن أن نكتشف وجود تشابُه بين هذه الشخصية وبين ما يوجد
خارج العمل الفني. مثل هذا التصوير «الصادق أو الحقيقي»
للشخصيات عند رمبرانت يجعل لوحاته أعظم قيمة من الوجهة
الجمالية.
وفي الفن تشيع «الحقيقة القاصدة» إلى الخصائص التي نشعر بها
في التجربة بوجه عام وأكثر مما تشيع «الحقيقة القاصدة» إلى الشخصية.
٧١ مثل هذا الفن يصل إلى «لب» الأشياء وإلى «مذاقها»
الذي لا يسهل وصفه بواسطة «الحقائق التي تقال عن» الموضوعات
(
truth-about). فالمصور
يصل إلى «حقيقة قاصدة» إلى تجربتنا البصرية عندما «يلتقط نضرة
الريف في الصباح»، كذلك يطبق هوسبرز هذا المفهوم على الموسيقى،
التي تقدم إلينا «حقيقة قاصدة» إلى تجربتنا الداخلية:
«(فعندما) يثير فينا سماع الموسيقى انفعالًا معينًا، يمكننا في
كثير من الأحيان، على الرغم من أننا لم نستشعر مثل هذا
الانفعال من قبل، أن ندرك أنه انفعال إنساني عميق، له حقيقة
قاصدة إلى شعور معين أحسسنا به، أو كان من الممكن أن نحس به من قبل.»
٧٢
وفي وسعنا أن نرى أن مفهوم «الحقيقة القاصدة» إنما هو محاولة
للاحتفاظ بالطابع الإستطيقي للفن الجميل؛ فليس من وظيفة الفن
إصدار تأكيدات مقالية «عن» الموضوعات، بل إن الحقائق الفنية
كامنة في العمل نفسه، وفيما يكونه العمل؛ وهي تسهم في القيم
الجمالية للعمل، ومع ذلك فإن «الحقيقة القاصدة» كما قال أحد
نقاد هوسبرز،
٧٣ ينبغي ألا تؤدي بنا إلى تفسير مشوه، أو تفسير من
جانب واحد، للموضوع الجمالي.
فمن الواجب ألا نتمسك بضرورة وجودها في جميع الأعمال الفنية؛
فطابع «الحقيقة القاصدة» يمكن أن يوجد في بعض اللوحات الشخصية
(
portraits)، ولكن ليس في
بعضها الآخر. مثال ذلك أن اللوحات الشخصية لسيزان وماتيس لا
تهتم بكشف «السمات الكلية» في الطبيعة البشرية، بل هي أقرب إلى
أن تكون تصميمات شكلية وتشكيلية؛ فبالنسبة إلى هذه الأعمال لا
تكون «للحقيقة الفنية» صلة بتذوقها أو تقديرها.
٧٤ وفضلًا عن ذلك، فحتى عندما تكون «الحقيقة القاصدة»
موجودة، فإنها في كثير من الأحيان تكون أقل أهمية من القيم
الشكلية والتعبيرية. فهي ليست بالمعيار الأوحد، ولا المعيار
الرئيسي، للقيمة الجمالية.
ويثير النقد الأخير، بطريقة ضمنية، مشكلة أخرى؛ «فالحقيقة
القاصدة» توضع في مقابل الشكل والتعبير، والعنصران الأخيران
للعمل، شأنهما شأن «الشدة والحماسة الانفعالية»، «كامنان» في
العمل، وفي مقابل ذلك، فإن «الكشف عن الشخصية» هو على الدوام
«حقيقة قاصدة لشيء خارج العمل الفني».
٧٥ ولكن إذا كانت هناك إشارة إلى «شيء خارج»، ألا
تتعرض الحقيقة القاصدة لانتقادات أقوى حتى من تلك التي أشرنا
إليها من قبل؟ أليست معادية للتجربة الجمالية؟ إن هوسبرز يزعم
أن «الحقيقة القاصدة» تسهم في القيم الجمالية، ولكن كيف يتسنى
لها أن تفعل ذلك، إذا كانت تحول الانتباه بعيدًا عن
العمل؟
فلنتأمل مرة أخرى تلك العبارة التي تؤدي إلى إثارة أسئلتنا:
«الحقيقة القاصدة لشيء خارج العمل الفني». إن لفظ «خارج» لفظ
مكاني، فما هو «خارج» يقع بعيدًا عن «إطار» العمل، ومن المؤكد
أن ما يُعَد الفن «حقيقة قاصدة له» هو «خارج» بهذا المعنى.
فالبشر وطباعهم، أو الصفات التي نحس بها في التجربة، كل هذا
«خارج»، ولا بد لنا من تجاوز العمل الفني إذا ما أخذنا برأي
هوسبرز القائل إننا نستطيع «التحقق من استبصارات (الفنان) عن
طريق قيامنا بأنفسنا بملاحظات أخرى للناس»، فإذا كان التحقيق
يقتضي «ملاحظات أخرى»، فمن الواضح عندئذٍ أننا لا نستطيع معرفة
«الحقيقة القاصدة» خلال التجربة الفنية، وعندئذٍ ينبغي أن
نتساءل مرة أخرى: هل «الحقيقة القاصدة» مقولة جمالية؟
إنها ليست كذلك، إذا كنا نعامل العمل الفني على أنه وثيقة
نفسية، بحيث ننظر إلى تحليل هذا العمل للشخصيات على أنه فرض
ينبغي أن تحققه الملاحظة، وقد يفعل علماء النفس المحترفون ذلك
(وهم في الواقع كثيرًا ما استخدموا الأدب على هذا النحو). كما
أن الباقين منا قد يفعلون ذلك بطريقة أقل تنظيمًا، عندما
يصدمنا التصوير الفني بحيث نتساءل: «هل الناس حقيقة هكذا؟» على
أن في هذا انقطاعًا للاهتمام الجمال، ولكن لنفرض أننا قمنا
عندئذٍ «بملاحظات أخرى» (مع تذكر نصيحة جرين القائلة إننا
ينبغي أن نلتزم «الإطار الإشاري» لدى الفنان) ولنفرض أيضًا
أننا وجدنا عندئذٍ نوع الشخصية الإنسانية التي يصورها العمل.
في هذه الحالة نستنتج أن العمل يتصف «بحقيقة قاصدة».
على أن هذا يبدو تصرفًا شكليًّا مبالغًا فيه، وأغلب الظن أن
أحدًا لا يتصرف في الأمر على هذا النحو، ومع ذلك ففي استطاعتنا
أن نهتدي إلى «الحقيقة» التي يعبر عنها العمل بطرق أقل شكلية،
عن طريق مجرد «العيش والتعلم»، ألسنا نتحدث عن «معايشة العمل»
والنمو معه؟ إن الروايات والمسرحيات التي تحيرنا، وبالتالي
تضايقنا في العادة عندما نكون أقل نضجًا من أن «نفهمها» تصبح
هي ذاتها في نظرنا قادرة على التعمق في أغوار الشخصية، ومتميزة
«باستبصارها العميق»، بعد أن نكون قد اكتسبنا المزيد من خبرة
الحياة.
وعندما نرجع ثانيةً إلى العمل لا تعود المسألة مسألة
«اختبار» على الإطلاق؛ فنحن نجلب معنا المعرفة المحترفة التي
تحتاج إليها للتعرف على «الحقيقة، عندما نصادفها، ومن الجائز
ألا نكون قد صادفنا السمة الخاصة التي تتميز بها شخصية البطل
في العمق الفني، ومع ذلك فإنا نعرف عن الحيوان البشري عمومًا
ما يكفي لكي نتمكن من تقدير مدى صدق التصوير وإمكان تحققه.
فإذا كان في الأمر أي «تأكيد»، فإنه أقرب إلى الشعور المباشر
بالحقيقة منه بعملية اختبار، ومن الجائز أن هذه هي الحكمة من
الاصطلاح الذي نستخدمه حين نقول إن شخصية ما في الرواية «ذات
رنين صادق». ولا جدال في أن هذا التعبير الجاري على الألسن
يمكن أن يعني أمورًا كثيرة جدًّا، «كالإخلاص
sincerity» مثلًا، وربما
لم يكن يعني في بعض الأحيان أي شيء فيما عدا التعبير عن
الموافقة، ومع ذلك فمن المؤكد أنه يوحى في بعض الأحيان
باعترافنا الواضح المباشر بالأمانة والصدق النفسي.
فالعمل إذن «ذو حقيقة قاصدة لشيء خارج عنه»، ولكن ليس من
الضروري أن يتحول انتباه المشاهد «إلى الخارج» لكي يعرف
الحقيقة، بل إن «الخارج» يتعلق بمعنى «التطابق
correspondence»، وبالتالي
بمعنى «الحقيقة». فلا شأن له باتجاه الإدراك الجمالي.
ولقد كان النقد الذي وُجِّه إلى هوسبرز هو أن «الحقيقة
القاصدة» أقل أهمية من القيم «الكامنة» للشكل والتعبير، ولكن
الفقرات القليلة الأخيرة تخفف من هذا النقد بجعل «الحقيقة
القاصدة» كامنة إلى حد لا يقل عن أنواع التعبير الأخرى، ومع
ذلك فإن هذا النقد يمضي فيتحدى رأي هوسبرز في الموسيقى، على
نحو ما جاء في الفقرة السابقة،
٧٦ وهو الرأي القائل إننا ندرك أن الانفعال الذي تعبر
عنه الموسيقي «حقيقة قاصدة لشعور معين أحسسنا به، أو كان من
الممكن أن نحس به من قبل». ويعترف ناقد هوسبرز بأن مثل هذا
التشابه بين الانفعالين موجود، ولكنه يمضي قائلًا «إن تأكيده —
أي التشابه — بالقياس إلى أغراض التذوق والتحليل الفني خطأ؛
ذلك لأن ما له قيمة فنية هو الطابع الكامن للانفعالات التي
تُنقل إلينا — كالرقة التي لا نظير لها، واللطف، والدفء،
والحدة، التي تتميز بها كثير من أعمال موتسارت، لا مطابقتها
لحالات انفعالية سبق الإحساس بها أو يمكن الإحساس بها.»
٧٧
لقد كان السؤال الذي سألناه منذ برهة وجيزة هو ما إذا كان من
الممكن إدراك «الحقيقة القاصدة» جماليًّا. أما سؤالنا الحالي
فهو عن القيمة الجمالية
«للحقيقة القاصدة» للتجربة المباشرة.
وأغلب الظن أننا جميعًا نوافق على أن هناك بعض القوة في
الحجة التي أوردناها الآن؛ فليس يكفي أن يكون الانفعال الذي تعبر عنه قطعة
موسيقية «موافقًا»، لانفعال استشعرناه من قبل. فلنفرض أن
الانفعال الذي تعبر عنه الموسيقى «هزيل» أو باهت، ولنفرض أنه
مفرط في العاطفية، أي أن الموسيقى تتظاهر بانفعال يفوق ما يبدو
أنها تستحق. عندئذٍ، سندرك أن الموسيقى تتسم «بحقيقة قاصدة»،
بقدر ما نكون قد أحسسنا بانفعالات «هزيلة، أو مفرطة في
العاطفة، ولكن هذا لن يكون إنقاذًا للموسيقى، بل ستظل موسيقى
رديئة على الرغم من أن حقيقتها قاصدة، وهكذا نجد مرة أخرى أن
الحقيقة القاصدة لا يمكن أن تكون شرطًا كافيًا للقيمة
الجمالية.
ولكن الأرجح أن الأستاذ هوسبرز خليق بأن يُسلِّم بهذا
(ولنلاحظ أنه يتحدث في الفقرة التي اقتبسناها منه عن «انفعال
عميق وإنساني») فلنفرض إذن أن الانفعال الذي يعبر عنه العمل
الفني انفعال «عميق» أو «رقة»، عندئذٍ سيظل علينا أن نسأل إن
كان تلاؤم الموسيقى مع حالاتنا الانفعالية السابقة يؤدي إلى أي
نوع من الكسب. على أني لا أرى أن من السهل الوصول إلى أي جواب،
وذلك لأسباب من أهمها غموض اللغة الموجودة في متناول أيدينا.
وكل ما أستطيع أن أفعله هو أن أقترح، وأنا شاعر بقدر من عدم
الاقتناع، بأن «الحقيقة القاصدة» في الموسيقى لا تعطينا
إحساسًا بالمشاركة في التجربة الانفعالية، أو بشمول هذه
التجربة، ولو كان الانفعال الذي تعبر عنه الموسيقى «غير
طبيعي»، كما قال البعض عن أوبرا شتراوس «سالومي»، لكان من
الجائز أن نشعر بعدم التآلف مع العمل، ولكن الموسيقيَّ قد يبدو
في أعمال أخرى وكأنه «يتحدث باسمنا»، ومن هذا القبيل وصف
الشاعر بودلير لاستجابته إلى موسيقى فاجنر، في رسالة بعث بها
إلى هذا الأخير: «لقد بدا لي أني كنت أعرف هذه الموسيقى من
قبل، ولكني عندما فكرت في الموضوع بعد ذلك، اكتشفت مصدر الوهم،
إذ بدا لي أن الموسيقى من تأليفي، وأني كنت أتعرف عليها … لقد
وجدت في موسيقاك الجلال الرائع … لأعظم انفعالات الإنسان.»
٧٨ وهكذا فعندما يبدو أن الموسيقى تعزف وترًا واحدًا
مشتركًا، فإن القيمة التعبيرية للعمل تزداد.
على أن ناقد هوسبرز يتحدث عن الانفعالات «التي لا نظير لها» عند
موتسارت، ولو فهمنا هذا الوصف بمعناه الحرفي لكان من الضروري
أن نشك فيما قلته الآن؛ ذلك لأن الانفعالات التي تعبر عنها
الموسيقى، بدلًا من أن تكون «مشترَكة»، ليست مماثلة لأي شيء
استشعره البشر من قبل. ولقد سبق لي أن دافعت عن الرأي القائل
إن ما يعبر عنه الفن متميز عن العمل المحدد، أليس سبب حبنا
لموسيقى مثل موتسارت هو فردانية الانفعالات التي نجدها في أعماله، وهي
انفعالات لها طابع فريد في وضوحه وتحدد معالمه، نظرًا إلى
الكيان الحسي «الذي لا نظير له»، والذي تعبر الموسيقي عن نفسها
فيه؟ وهل نهتم، عندما نستمع إلى موتسارت «بالحالات الانفعالية
التي أحسسنا بها أو كان يمكن أن نحس بها؟» ألا يكون اهتمامنا
منحصرًا في الانفعالات التي نستشعرها بالفعل؟
•••
لقد فرغنا الآن من بحث بضعة نظريات رئيسية عن «الحقيقة
الفنية»، ولا بد أنك ترى أن كلًّا منها يحاول أن يوفي بعض
وقائع الفن والتجربة الجمالية حقه. ولا بد أيضًا أنك أحسست
بالتوتر العقلي بيها، حين يسير كل منها في اتجاه مختلف، لكي
يؤكد ويشرح وقائع مختلفة؛ ففي أي من هذه النظريات نجد الحقيقة
عن «الحقيقة الفنية»؟ هذا
أمر متروك لتقدير القارئ نفسه. أما أنا فأميل إلى الاعتقاد
بأنها توجد في المجال الذي حدد معالمه جرين وهوسبرز، وسأقوم
الآن بعرض وتحليل أمثلة عينية لحقائق تزيد من القيمة الجمالية
للأعمال التي توجد فيها، ومع ذلك فهل نستطيع أن نتفق، حتى بدون
هذه المناقشة، على أننا نقدر في كثير من الأحيان أعمالًا فنية
نظرًا إلى ما تكشفه لنا عن العالم وعن أنفسنا؟ فلنتأمل تحليل
الشخصيات في الكوميديا والتراجيديا كما قدمناه في الفصل
السابق. إن التراجيدي يصور تشابك الدوافع وتصارعها في كائن
بشري معقد، والعلاقة بين الشخصية والمصير، والفنان الكوميدي
يعرض الحمق الشخصي والنفاق الاجتماعي، وتلك عناصر في العمل لا
يمكننا تجاهلها؛ فهي حيوية للعمل، وهي تفرض تأثيرها علينا، فهل
نحن فعلًا «نسيء استخدام العمل» كما قال رتشاردز، حين نقول:
«ما أصدقه!»؟
إن أولئك الذين يعارضون فكرة «الحقيقة الفنية» يفعلون ذلك،
أساسًا؛ لأنهم يريدوننا أن نتوخى الدقة والوضوح في حديثنا عن
الفن، وهذا هدف ينبغي أن نحرص عليه جميعًا، فإذا فعلنا ذلك،
فلا بد لنا أن نعترف بأنه ليس من السهل على الإطلاق تقديم
تحليل مرضٍ لمفهوم «الحقيقة الفنية»، فقد رأينا أن هذه
«الحقيقة» ينبغي أن تُقيَّد على أنحاء متعددة؛ فهي ليست حقيقة
تصاغ في قضية (بالمعنى المعتاد)، وهي لا تُختَبر تجريبيًّا،
وهي لا تحدث إلا داخل «إطار الإشارة»، عند الفنان، وهكذا.
وعندئذٍ نُضطَر إلى استخدام تعبيرات لها وقع شاذ، مثل «الحقيقة
القاصدة»، ومن الجائز بالفعل أن أحدًا لم يقم حتى الآن بتحليل
وافٍ تمامًا «للحقيقة الفنية»، ومع ذلك فليس من الحكمة أن
يتخلى المرء عن المفهوم كلية، وكذلك عن الوقائع الهامة الكثيرة
التي يعبر عنها هذا المفهوم، لمجرد أنه لا يستطيع أن يُكوِّن
عنه فكرة واضحة بالقدر الذي يريد. صحيح أن الاعتراضات المنطقية
واللغوية على استخدام الأستاذ جرين للفظ «الحقيقة» و«القضية»
هي، إلى حدٍّ ما، اعتراضات سليمة، بل إن سلامتها واضحة كل
الوضوح، ومع ذلك فلست أملك إلا أن أقول إن الأستاذ جرين، في
تأكيده للجهد الذي يبذله الفنان من أجل إلقاء ضوء على الوجود
الإنساني، قد توصَّل إلى حقيقة هامة عن الفن، بل إننا نستطيع
أن نقول إن هذا الفهم للفن مطابق تمامًا للفهم الشائع، إذ يبدو
أن معظم الناس يقبلونه ضمنًا في كلامهم عن الفن، فمن ذا الذي
يفكر في إنكاره، إلا إذا كان ذلك على أساس أن معنى «الحقيقة
الفنية» ليس واضحًا كل الوضوح؟ وهكذا يبدو أن وجود «الحقيقة
الفنية» أمر أكثر يقينًا بكثير من معرفة ماهية هذه الحقيقة
بالضبط.
وسوف أستخدم تعبير «الحقيقة الفنية»، في الجزء التالي،
للدلالة إما على تفسيرٍ تقويميٍّ متماسكٍ لموضوع العمل الفني،
كما هي الحال عند جرين، وإما على «الحقيقة القاصدة» للطبيعة
البشرية، أو لطابع التجربة التي نحسها، وأود أن أقترح عدة
قضايا بشأن «الحقيقة الفنية»، وهي قضايا أعتقد أن إنكارها يؤدي
إلى فهم مُشوَّه أو ناقص «للحقيقة الفنية».
(١) الحقيقة لا تتمثل في جميع الأعمال الفنية، وكثير من التفكير النظري
حول «الحقيقة في الفن» لم يكن صحيحًا نظرًا إلى إغفاله لهذه
النقطة، فمن واجبنا ألا نتخذ أعمالًا معينة مختارة يمكن القول
بالفعل إن الحقيقة تتمثل فيها، أنموذجًا للفن الجميل في عمومه؛
إذ إن هذا يؤدي إلى المبالغة، بل إنه كثيرًا ما أدى إلى الرأي
الباطل القائل إن الوظيفة الرئيسية للفنان هي توصيل الحقيقة؛
فتاريخ مشكلتنا هذه يثبت أن أولئك الذين يرفضون هذا الرأي
يمكنهم بالمثل أن يستشهدوا بأعمال فنية أخرى لا يكون من المعقول أن
ننسب إليها «حقيقة» أو «بطلانًا».
والواقع أن الأستاذ جرين، الذي هو من أقوى المدافعين عن
«الحقيقة الفنية» في علم الجمال في الآونة الأخيرة، يعترف
بذلك؛ فهو يذهب إلى أن الحقائق لا تتمثل إلا في «أعمال فنية
أصيلة، أي أعمال مُعبِّرة فنيًّا، وليست مجرد أعمال زخرفية أو
مقبولة من الوجهة الجمالية».
٧٩ غير أن لفظ «أصيل» هنا يؤدي إلى إثارة مشكلات؛ فهل
هو يعني أن الأعمال التي تفتقر إلى الحقيقة ليست أعمالًا فنية
«بالفعل»، أي ليست أعمالًا فنية على الإطلاق؟ من الصعب تقبُّل
هذه النتيجة؛ لأنها إذا صحت كان معناها تضييق مجال الفن أكثر
مما ينبغي، أم هو يعني أن الأعمال التي تفتقر إلى الحقيقة لها
دائمًا قيمة جمالية أقل؟ إن هذه بدورها نتيجة غير مقبولة؛
فالفنان «ماتيس» يُعَد، عادةً، المصور «الزخرفي» بمعنى الكلمة
في هذا القرن، ومع ذلك فإنه يقف في مصافِّ العظماء (ولقد وصف
جرين ذاته ماتيس بأنه فنان «زخرفي»، ولكن من الجدير بالملاحظة
أنه يجعل هذا الوصف مشروطًا إلى حد ما.
٨٠ وقد تدل الشروط التي وضعها على الصعوبات التي
ينطوي عليها تطبيق «الحقيقة الفنية» على أعمال معينة، وبالتالي
على غموض هذا المفهوم، أو قد تكشف عن الحيرة التي يعانيها جرين
عندما يحاول التوفيق بين مطلب
«الحقيقة الفنية» عنده وبين
التقويمات التي يشيع قبولها للفن) وبالمثل فإن الشاعر أ. إ.
هوسمان
A. E. Housman يقتبس
بيتين لشيكسبير هما:
أَبْعِد هاتين الشفتَين، أَبْعِدهما،
بزيفهما الحلو …
ثم يقول عنهما «هذا كلام فارغ، ولكنه شعر خلاب.»
٨١ ومن هنا (٢) فإن الحقيقة ليست شرطًا للقيمة
الجمالية يستحيل الاستغناء عنه.
لقد رأينا أن الحقيقة لا تستطيع أن تضمن جودة العمل، وإنما
هي مجرد عنصر واحد ضمن عناصر متعددة يتألف منها العمل، ولقد
حاولت طوال هذا الكتاب أن أحذر من الآراء المتحيزة إلى جانب
واحد في الفن والقيمة الجمالية، عن طريق تذكير القراء
بالتعقُّد الداخلي للعمل الفني — أعني إرضاءه للحواس، والطرافة
والرهافة في قالبه، وارتباطاته الخيالية، وما إلى ذلك. وهذا
أمر ينبغي أن أعود إليه الآن.
إن الموضوع أوضح ما يكون في حالة ما يسمى بالأدب «الإرشادي»
أو الدعائي، الذي تصدر فيه تأكيدات على صورة قضايا مباشرة.
والواقع أن لفظ «الإرشاد» أصبح له معنًى مجازي، نتيجة لرداءة
قدر كبير من هذا النوع من الأدب، كما هي الحال في
البيت:
على أن الحقائق في الفن لا تُذكر عادة بمثل
هذه الطريقة الصريحة. وعندما لا تكون صريحة على هذا النحو،
تكون جزءًا من الدلالة التعبيرية للعمل.
٨٣ غير أن التعبير على مراتب؛ فالأعمال الفنية كثيرًا
ما تكون رديئة لأننا نشعر باتساع الهوة بين الحقائق التي توحي
بها وبين بقية العمل، ويتشتت انتباهنا عندما لا تكون هذه
الحقائق متمشية مع الموضوع الذي يفترض أنها متجسدة فيه، أي أن
الفنان يبدو وكأنه يدَّعي أكثر مما ينبغي، ولا تكون المواقف
العينية والشخصيات في عمله الفني أدوات كافية للتعبير عن
«الكلي الشامل». وقد انتُقد الروائي المعاصر، جراهام جرين، على
هذا النحو، فمن الواضح أنه يريد التعبير عن حقائق متعلقة
بالمسائل العامة الجادة المتعلقة بالإيمان الديني والخطيئة.
ومع ذلك فإن شخصياته أقل تحدُّدًا، وأكثر سطحية، من أن تفي
بهذا الغرض.
٨٤ أو قد نجد أن المادة الحسية للعمل، أو «روحه» أو
بناءه الشكلي، لا تتمشَّى مع الحقيقة التي يقترحها، ومن هنا،
فحتى عندما تكون هذه الحقائق دقيقة، أو أصيلة، أو عميقة فإننا
نحكم عندئذٍ على العمل بأنه أدنى قيمة من الوجهة الجمالية،
أيًّا كان رأينا فيه بناءً على الأسباب الفلسفية أو النفسية أو
غيرها؛ فالحقيقة، ككل شيء آخر يعبر عنه الفن، ينبغي أن ترتبط
ارتباطًا وثيقًا بالقوام الحسي والعرض الشكلي للعمل
الفني.
بل إنه عندما تكون الحقيقة مندمجة في العمل الفني على هذا
النحو، فإننا لا نستطيع حتى أن نعرف ما هي الحقيقة، إلا عن
طريق الإدراك الفاحص المميز لكل ما في العمل؛ ففي استطاعتنا
بالطبع أن نصوغ الحقيقة في عبارة نثرية تستهدف الإيضاح، وهذا
بعينه ما فعلنا في جزء كبير من المناقشة التي جرت حول
التراجيديا والكوميديا في الفصل السابق. غير أن مثل هذه
الصياغة النثرية لا بد أن تكون «هرطقة»، على حد تعبير كلينث
بروكس.
Cleanth Brooks، إذا ما
تصورنا أنها هي والجوهر الأساسي للقصيدة ذاتها؛
٨٥ ذلك لأن ما تقوله القصيدة له في داخل العمل ظلال
وفروق دقيقة تضيع عندما تعرض الحقيقة بطريقة مجردة، «بل إن أية
عبارة نلتقطها من الشعر، ونظن أنها هي التي تتضمن معنى القصيدة
سرعان ما تؤدي الصورة الفنية والوزن إلى شحنها بتوترات، وإلى
تشويهها وتحريفها، وإلى مراجعتها وتضييق نطاقها … وربما كان
هذا هو السبب في أن الشاعر لا بد أن يبدو على الدوام، في نظر
أولئك الذين يحرصون على التعميمات القاطعة، شخصًا يعمل دائمًا
على محو الفوارق، أو لا يصل إلى النتيجة التي يريدها إلا بعد
تباطؤ استفزازي لا ضرورة له.»
٨٦ ويشبه بروكس القصيدة بالدراما؛ فهي «فعل
action أكثر منها … عبارة
تقال عن فعل»
٨٧ (لاحظ التشابه بين هذا الرأي وبين تمييز هوسبرز
بين «الحقيقة التي تقال عن …» و«الحقيقة القاصدة ﻟ…») وما لم
نرَ الحقيقة الشعرية وهي خارجة إلى حيز الفعل، فسوف نرتكب خطأ
الاعتقاد بأن القصيدة «فكرة مغلفة بالانفعال».
٨٨
ومن هنا (٣) فلا يمكن أن تُفهَم حقيقة العمل الفني، ولا يمكن
أن يقدر الدور الذي تسهم به في تحديد قيمة العمل، ما لم تختبر
العمل الكلي الذي تؤلف هذه الحقيقة عنصرًا منه. (٤) ونظرًا إلى
الطريقة المتميزة التي «تقال» بها الحقيقة الفنية، فإنها تختلف
اختلافًا بيِّنًا عن الحقيقة العلمية والحقيقة اليومية، ومع
ذلك فإن كون الحقيقة التي يعبر عنها العمل الفني حقيقة بالفعل،
يتوقف — كما رأينا من قبل — على تطابُقها مع وقائع يمكننا أن
نشترك في ملاحظتها.
هذه القضايا الأربع تؤدي إلى الحد من الادعاءات التي تُساق
لتأييد فكرة «الحقيقة في الفن». أما النظريات التي تفند قضية
أو أكثر من هذه القضايا فتبدو لي مفرطة في ادعاءاتها؛ فالقضية
الأولى تثبت أن «الحقيقة الفنية» لا تتمثل في الفن على نحو
شامل، والثانية تثبت أنها ليست ضرورية للقيمة الجمالية،
والثالثة أنها لا يمكن أن تكون المعيار الوحيد للقيمة،
والرابعة أنها ليست منافسة للعلم، ولا «أعلى»، بمعنًى غامض
معين، من الحقيقة العلمية، وهو ادعاء أكثر إسرافًا حتى من
ادعاء منافستها للعلم.
•••
وبعد أن قلنا هذا كله، يتعيَّن علينا أن ننتقل إلى القول إن
الحقيقة توجد بالفعل في بعض الأعمال الفنية، وأنها عندما توجد،
تسهم أحيانًا في القيمة الجمالية، والسؤال الذي يواجهنا الآن
هو: كيف نعرف إن كان العمل يعبر عن الحقيقة؟ وكيف تؤدي الحقيقة
إلى جعل العمل أفضل؟
فلنفحص بعض الأعمال الفنية المحددة، ولنبدأ بقصيدة قصيرة. إن
سانتيانا يعبر، بطريقته الخاصة، عن الفكرة القائلة إن الحقيقة
لا تتمثل في كل فن، فيميز بين الشعراء بوصفهم «موسيقيِّين»
والشعراء بوصفهم «علماء نفس»؛ فالموسيقيون «يعرفون أي الأنغام
يصدرون بطريقة متآلفة وعلى التعاقب».
٨٩ أما القصيدة التي نتناولها هنا فهي من تأليف وعالم
نفس.
إن الأبيات الأولى لقصيدة «فقدان»، من تأليف «بابيت دويتش
Babette Deutsch»
٩٠ هي وصف مثير لانفعال الأسى:
الفم مطبق بالصمت
والقلب منقبض محزون …
هنا «حقيقة قاصدة» للشعور الذي نحس به في
تجربتنا الانفعالية. غير أن أروع حقيقة في القصيدة هي تلك التي
نجدها في أبياتها الختامية:
ها هو ذا المزيد من الألم، أن نعرف
أن هذا الحزن الممض
يمكن أن يجد متنفسًا؛
وأنه ليس المحبوب بجسمه وروحه
هو وحده الذي لا بد أن يموت، وإنما هذا الألم
المستعر بدوره،
وأن الحب الذي يندب موتاه سيتعلم كيف يهدأ
ويستكين.
إن القصيدة تصور تجربة كلية شاملة، هي تجربة
الحزن على الموت؛ فالناس في كثير من الأحيان يحاولون التخلص من
الحزن بالتفكير في أن «هذا الحزن بدوره سينقضي»، ولكن الشاعرة،
في الأبيات التي اقتبسناها الآن، تحوِّل هذه الحقيقة المألوفة
إلى اتجاه غير متوقع، وهي إذ تفعل ذلك تعبر عما أعتقد أنه
حقيقة نفاذة وعميقة إلى حد غير قليل، ومن السهل صياغة الفكرة
بالطريقة الصحيحة؛ فإدراك أن الحزن الحالي سينقضي في المستقبل
يؤدي هو ذاته إلى زيادة الحزن الحالي. أو بعبارةٍ أخرى: إن
الوسيلة التي نستخدمها في التخفيف من الألم تهدم نفسها بنفسها؛
إذ إنها تدفعنا إلى إدراك أن ذكرى المحبوب ستضيع وتزداد
خفوتًا.
أتتفق معي على أن هذه حقيقة «نفسية»، بل وحقيقة نفسية عميقة؟
أهي فكرة جديدة بالنسبة إليك؟ إنها مثال لما يعنيه هوسبرز
بالحقيقة القاصدة للطبيعة البشرية، وهذه الحقيقة يعبر عنها
بطريقة عاطفية، وإن كان من الجائز أنها تفتقر إلى الامتلاء
الحسي المفرط، عن طريق ألفاظ الشعر وإيقاعاته، أي الإيحاء
بالهدوء في البيت الأخير وهو يسير متثاقلًا حتى يصل إلى لفظ «يستكين».
٩١ فإذا قارنت بين القصيدة وبين التلخيص الشديد
الجفاف الذي أوردناه لمعنى الأبيات الأخيرة، لاتضح لك أننا هنا
إزاء حقيقة معبر عنها بطريقة شعرية، وأن أصالة الحقيقة تزيد من
طرافة القصيدة في أعيننا.
فكيف نعلم أن «الحقيقة» مرتبطة بتقديرنا لقصيدة «فقدان»
وتحليلنا لها؟ لا يمكن أن يكون الجواب سوى أن من الضروري أن
يكون لدينا فهم معين لما تأخذ القصيدة على عاتقها أن تفعله، أو
تكونه؛ فهي ليست مجرد «أنغام تصدر بطريقة متآلفة». صحيح أن من
الممكن قراءتها على هذا النحو، وذلك إذا لم يكن القارئ يفهم
اللغة التي كتبت بها، وأخذ يستمع إلى القصيدة «لموسيقاها»
فحسب. غير أن القصيدة، في نظر الباقين منا، تذهب إلى أنها تقدم
وصفًا للتجربة البشرية، «ها هو ذا المزيد من الألم» … إلخ،
وإذن فالقصيدة تأخذ على عاتقها، بطريقة ضمنية، تقديم «حقيقة
قاصدة» إلينا، أي أننا لا نطلب منها شيئًا عفويًّا أو غريبًا
عنها، عندما نبحث فيها عن «حقيقة قاصدة»، كما أنه ليس من
الخروج عن مجالها أن تمتدح فيها تلك «الحقيقة القاصدة» عندما
نجدها، بل إننا عندئذٍ نقبل «إطار الإشارة» لدى الفنان، على حد
تعبير جرين، ونحن نلجأ إلى معيار التطابق مع الواقع النفسي لأن
القصيدة تفعل ذلك. فحقيقة القصيدة عنصر من عناصرها
الأساسية.
فهل يعني ذلك أن من الواجب استخدام هذا المعيار نفسه عند
تقديم كل شعر؟ كلا بالطبع. وأود هنا أن أنبه مرة أخرى إلى أن
أضمن طريق للخطأ في مناقشة «الحقيقة الشعرية» هو التعميم من
نوع واحد من الفن على الفن كله؛ فالقصيدة التي ينظمها شاعر من
النوع «الموسيقي» لا تزعم أنها تكشف عن «حقيقة قاصدة» للطبيعة
البشرية، تمامًا كما أن الرواية الهزلية من نوع «الفارس» لا
تزعم ذلك. أما «كوميديا الشخصيات» فإن لها صلة بهذه الحقيقة،
ولكن بطريقة ملتوية غير مباشرة؛ فهذه الكوميديا، على خلاف
قصيدة «فقدان»، تعبر عن الحقيقة بمبالغة واضحة «وأنماط» هزلية،
إلخ، ومن الواجب أن نختبر موضوع العمل، وقالبه، وروحه أو الجو
الذي يشيع فيه، وأمورًا كثيرة أخرى، لكي نقرر إن كانت
«الحقيقة» مرتبطة به، أليست هذه هي الطريقة التي قررنا على
أساسها أن غلطة كيتس التاريخية المشهورة لا ترتبط بتقديرنا
لمقطوعته الشعرية؟
فلنفترض إذن أن لنا الحق في الاعتقاد بأن بعض الأعمال تزعم
أنها تنطوي بالفعل على حقيقة قاصدة للطبيعة البشرية، ثم اتضح
لنا أنها باطلة بالنسبة إلى الواقع النفسي؛ إذ إنها تشوه صورة
البشر أو تسيء تصورهم، لا كما في الكوميديا أو «الفانتازيا
fantasy»، بل لأن الفنان
يفتقر إلى الفهم النفسي. في هذه الحالة نكون مثلًا إزاء روايات
ليس لشخصياتها «رنين الصدق»، أو لا «تشيع فيها الحياة» أو
«يستحيل تصورها». هنا أيضًا نكون قد اتخذنا «إطار الإشارة» لدى
الفنان، ولكنا نجد الآن أن العمل ناقص؛ فالشخصيات ذات بعد
واحد، أو تسلك بطريقة تفتقر إلى الاتساق بلا مبرر، وعندما
يتحدث النقاد عن رواية كهذه يقولون إنهم «لا يستطيعون أن
يدفعوا أنفسهم إلى الاهتمام بالشخصيات»؛ «فالبطلان» إذن عيب من
العيوب الجمالية.
ولنتأمل مثلًا آخر من أمثلة «الحقيقة القاصدة» للطبيعة
البشرية، وهو مثل يتميز بقدر غير عادي من النفاذ والعمق، ذلك
هو شخصية ياجو في مسرحية «عطيل» لشيكسبير؛ فالاتفاق منعقد على
أن ياجو من أشد الشخصيات الأدبية المكروهة ميلًا إلى الشر،
ولكنك إذا سألت عن السبب في إصراره على أفعاله الشريرة التي تودي
بديدمونة وعطيل، لكانت الإجابة تدعو إلى العجب الشديد؛ لا أحد
يعلم، بل إن ياجو نفسه أقل الجميع علمًا بذلك. على أن هذا ليس
مثلًا لنوع من أنواع السلوك التي لا توجد لها دوافع، والتي
ترجع إلى هفوة في الأدب الدرامي؛ إذ إن ياجو نفسه يندفع إلى
ارتكاب الشر بقوة لا تقاوم، وهو يحاول أن يفسر دوافعه لنفسه،
ولكنه يخفق في ذلك، فهو يقترح دوافع أكثر مما ينبغي، كالحسد
المهني، والغيرة الشخصية، وكراهية النساء … إلخ، وتدل أحاديثه
المنفردة، على حد تعبير كولريدج المشهور، على الرغبة في
«اصطياد دوافع لشر متأصل لا دوافع له»، والواقع أن شيكسبير
توصل هنا إلى «حقيقة قاصدة» للطبيعة البشرية، لم تُبحث بطريقة
منهجية في علم النفس إلا في القرن الحالي، ألا وهي أن الإنسان
قد يخفق في فهم أقوى الدوافع المحركة له.
إن «عطيل» تراجيديا، والمفروض أنها، حسب تعبير أرسطو،
«محاكاة للناس في سلوكهم»، وإن التحليل الدقيق لشخصية ياجو
ليؤيد هذا الحكم ويسهم في زيادة عمق العمل الفني وتأثيره
البالغ؛ فالحقائق التي تبلغ هذا الحد من العمق النفسي تزيد من
«واقعية» الأعمال التي تظهر فيها، وبالتالي تزيد من قيمتها
الجمالية في نظرنا، والحقيقة التي «يجسدها» ياجو تجعله
إنسانيًّا بعمق، وهي فضلًا عن ذلك تجعله أشد خبثًا بنفس
المقدار، كما يشهد كل من قرأ المسرحية.
ولا جدال في أن المثَلَين اللذين أوردتهما لا يمثلان نمط
الأدب في عمومه؛ ففي أحيان أكثر جدًّا نجد تفسير الفنان
لموضوعه يعبر عن حقائق مثل «الموت حق على الناس جميعًا» أو
«ينبغي أن يتخلى الناس عن الآمال التي كانت تداعبهم في
حداثتهم»، هذه القضايا صحيحة بالفعل، ولكن هل هي تستحق أن يصرخ
الإنسان مناديًا بها بأعلى صوته؟ إنها ذلك النوع من الحقائق
الذي يؤدي إلى دعم رأي «بوس
Boas»، القائل إن الأفكار
في الشعر «عقيمة»، فلماذا إذن نقول: «ما أصدق ذلك!» في كثير من
الأحيان، حتى عندما تكون الحقيقة مفتقرة إلى الأصالة؟ هنا
أيضًا ينبغي أن نتأمل العمل الكلي؛ فالحقيقة، عندما تلخص
بالنثر العادي، وتجرد بالتالي من العمل، يكون لها رنين متكلف
مصطنع. أما في داخل العمل فتكتسب قدرًا كبيرًا من القوة
والحيوية؛ فالحقيقة، كما نقول «تنفذ إلى أعماقنا» بطريقة
مؤثرة، ونحن لم نشعر أبدًا «بالسم القاطع» للموت الذي يتجرعه
الجميع؛ فالحقيقة إذن جزء لا يتجزأ من القصيدة، وهي تسهم في
قيمتها، ولكن الكثير مما نصفه بقولنا «ما أصدق هذا!» يمكن
ترجمته إلى «ما أبلغ هذا!» أو «ما أعمق تأثيره!» ومع ذلك فحتى
في هذه الحالات تكون الحقائق متعلقة بالشواغل البشرية الشاملة،
وهي بالتالي تزيد العمل «واقعية» وطرافة، وقد يكون السبب الذي
يدفع الناس إلى القول إن الشعر يكشف عن حقيقة «أعلى» مما يكشفه
العلم، هو أن أمثال هذه الحقائق تصل إلى كبد القيم والمخاوف
المشتركة بين الناس، وعلى أية حال فإننا لا نستطيع أن نحمل على
هذا النوع من الشعر على أساس «عقمه» إلا إذا نسينا أن وظيفة
الشعر ليست تعريفنا «بحقائق عن موضوعاته» وأن «الحقائق
القاصدة» للطبيعة البشرية ليست إلا عنصرًا واحدًا من عناصر
الموضوع الفني.
ومن الأمثلة الواضحة الدلالة في هذا الصدد لوحة «روو
Rouault» «القضاة
الثلاثة»؛ فتكوين صيغة لغوية تشرح ما يعبر عنه هذا العمل الفني
أصعب مما رأيناه في حالة القصيدة السابقة، ولكن هذه الصيغة
يمكن أن تكون شيئًا مثل «(بعض) القضاة فاسدون قساة». هذه
الفكرة «تتجسد» في الملامح الضخمة الخشنة للقضاة؛ فالمقصود من
العمل الفني في هذه الحالة أن يكون تعليقًا اجتماعيًّا، وعلى
هذا النحو نتطلع إليه، وهو يتعلق بواحد من النظم الاجتماعية
الرئيسية، ويعبر عن حقيقة جزئية على الأقل من حقائقه. فالعمل
لا «يكشف» شيئًا لا نستطيع أن نتعلمه، بتفصيل أكبر، من دراسة
تاريخ النظام القضائي. ومع ذلك فإن التصوير «كشف» بمعنى أنه
يطبع فينا هذه الحقيقة بقوة طاغية؛ فبصيرة الفنان قد نفذت من
وراء الادعاء والقوة، وجعلت الفساد ملموسًا، وفي هذا تفسير
جزئي لتأثير عمل مثل «القضاة الثلاثة» في نفوسنا، ونقول إنه
تفسير جزئي، لا تفسير كامل؛ لأن العمل ينطوي على ما هو أكثر من
هذه الحقيقة وحدها.
(٢) «الاعتقاد» الجمالي
ما إن يعترف المرء بأن الحقيقة وجودًا في الفن، حتى تُثار
أمامه مشكلات أخرى؛ فإذا استخدمنا لفظ «الحقيقة» على أي نحو
قريب من استخدامه المعتاد، أي إذا لم نستخدمه على أنه مجرد
تعبير غامض عن الاستحسان، فإننا نقيم بذلك علاقة بين الفن
و«الحياة»، وهذا أمر مترتب على معنى «التطابق» ذاته. على أن
«أصحاب النظرية الخالصة
purists»، كالشكليِّين
مثلًا، الذين ينفون وجود أي ارتباط بين الفن و«الحياة»، ليسوا
مضطرين إلى الانغماس في المشكلات التي تحدثنا عنها لتوِّنا.
أما أولئك الذين يؤكدون «الحقيقة الفنية» فيعتقدون أن هذا مخرج
أسهل مما ينبغي؛ فهم يرون أننا لا نستطيع أن نكون معرفة مكتملة
بطبيعة الفن وقيمته ما لم نرَ أن الحقيقة جزء من دلالته
التعبيرية، ولكنهم سيضطرون عندئذٍ إلى مواجهة مشكلات
أخرى.
إن صاحب المذهب الشكلي ينكر أن يكون الفن «محاكاة». وهذا
الإنكار، بطبيعة الحال، هو سبب تسميته «بالشكلي». والواقع أن
الشكليين ومن لف لفهم من المفكرين، لا يملون أبدًا تأكيد أن
العمل الفني «تام» مكتفٍ بذاته، منعزل.
٩٢ أما أولئك الذين لا يمضون إلى الحد المتطرف الذي
ذهب إليه بل وفراي، ويعترفون بأن الفن يعبر عن اعتقادات بشأن
موضوعه، فإنهم يرون مع ذلك أن من واجبنا قبول هذه الاعتقادات
كما نجدها. فعلينا ألا ننقدها أو نشك فيها على أساس معتقداتنا
الخاصة؛ إذ إننا لو فعلنا ذلك لوقعنا في خطأ التشريع للفن من
خلال تجربتنا الخارجة عن مجال الفن، وهو خطأ يفسد التذوق
الجمالي.
ونستطيع أن نذكر الحقيقة التالية، تأييدًا لهذه الحجة: إن
المصورين والكتاب كثيرًا ما يعبرون عن اعتقادات بشأن أعمال
فنية مختلفة تكون بالقياس إلى أعمالهم هم أنفسهم متناقضة من
الوجهة المنطقية؛ فبعض الفنانين مسيحيون، مثل جوتو
Giotto ودانتي؛ وبعضهم
الآخر ملحدون، كالشاعر سونبرن
Swinburne و«الطبيعيين
naturalists» في الرواية
المعاصرة، وهناك فنانون آخرون يؤمنون بنظرات أخرى إلى العالم.
على أن من المستحيل منطقيًّا أن يكون هؤلاء جميعًا على صواب،
ومع ذلك فإن في استطاعتنا أن نتذوق كل هذه الأعمال، ونحن
نتذوقها بالفعل، فعلى أي شيء يدل ذلك؟ إنه يدل على أننا لسنا
مضطرين إلى «الاعتقاد» بما يعتقده الفنان، لغرض التذوق
الجمالي، بل إننا في هذا التذوق نترك جانبًا اعتقاداتنا التي
نؤمن بها في حياتنا اليومية. وكثيرًا ما يكون المسيحي المؤمن،
الذي هو في الوقت ذاته ناضج من الوجهة الجمالية، أعظم تقديرًا
لعمل يعبر عن الإلحاد منه لعمل يعبر عن إيمانه.
وسوف أفترض أن هناك اتفاقًا عامًّا على أن هذه حقيقة بالفعل،
فلماذا تشكل هذه الحقيقة صعوبات بالنسبة إلى مَن يؤمنون
«بالحقيقة الفنية»؟ إننا لا نستطيع استخدام لفظ «الحقيقة»
استخدامًا ذا معنًى إلا إذا كان في استطاعتنا أن نتحدث بطريقة
ذات معنى، عن ضدها، وهو «البطلان»؛ فهذان المفهومان «معرفيان»
أي أن لهما علاقة بالمعرفة البشرية؛ وهما على وجه التحديد
يميزان بين ادعاءات الحقيقة التي ترتكز على أساس متين وبين تلك
التي لا ترتكز على مثل هذا الأساس. كذلك فإن «الاعتقاد» «وعدم
الاعتقاد» هما بدورهما لفظان معرفيان، غير أنهما لا يشيران إلى
خصائص في القضايا، وإنما إلى حالات ذهنية نفسية؛ فهما يميزان،
على التوالي، بين قبولنا لادعاءات المعرفة أو رفضنا
لها.
وبطبيعة الحال فإن من الصحيح، للأسف الشديد، أننا قد نعتقد
بما هو باطل، غير أن هذا نقص في المعرفة البشرية، فمن الواجب
ألا نعتقد إلا بما نعلم أنه صحيح وعلينا ألا نرتكب خطأ
«التفكير المبني على التمني thinking
wishful»، أو العناد في الجهل، أو ما
شابهها، فمن الواجب، بالنسبة إلى الكائن المكتمل العقل أن تكون
صحة ادعاءات المعرفة هي وحدها التي تُملي التزامات
الاعتقاد.
وفضلًا عن ذلك فنحن لا نعتقد بما هو باطل إلا عندما «لا نعرف
ما هو أفضل من ذلك»، أي عندما لا نستطيع، نتيجة للجهل أو سوء
الفهم، أن نتحقق من بطلانه. فهل يستطيع أحد أن يقول «س باطلة
ولكني أعتقد بها؟» هذا أمر بعيد الاحتمال؛ إذ إن مثل هذا القول
ممتنع أو يكاد يكون ممتنعًا؛ فنحن لا نستطيع أن نعتقد إلا بما
نعده حقيقة.
وهذا يؤدي بنا إلى مشكلة اعتقاد أولئك الذين يؤكدون «الحقيقة
في الفن». فإن كان الاعتقاد لا يقترن إلا بالحقيقة، وعدم
الاعتقاد لا يقترن إلا بالبطلان، فكيف يحدث أننا نقدر أعمالًا
تتناقض مضموناتها المعرفية فيما بينها؟ يبدو أننا هنا أمام أحد
أمرين؛ فإما أن نكون، عند تقديرنا للعمل، واقعين في أشد أنواع
عدم الاتساق، وهو ما لا يعتقد به أحد؛ إذ إننا نتهم الشخص بأنه
«لاعقلي» عندما يؤكد قضيتين لا يمكن أن تصدقا معًا، ولكننا لا
نتهم الشخص باللاعقلية إذا كان يستمتع بفن جوتو وسونبرن معًا،
وإما أن فكرتَي الحقيقة والبطلان لا مكان لهما، ببساطة، عندما
يكون الأمر متعلقة بالفن، لا بالعلم أو الفلسفة، وهي النتيجة
التي يبدو أنها تترتب على المقدمات السابقة. فإذا كان في
استطاعة شخص مسيحي أن يتذوق سونبرن، فمعنى ذلك إنه لا يهتم
بحقيقة شعره على الإطلاق؛ ذلك لأنه إذا كان يؤمن بعقيدته، فلا
يمكن مؤمنًا أن يكون بالإلحاد، لأنه يعده باطلًا، ومع ذلك فإنه
يقرأ الشعر، وإذن فالاعتقاد أو الإيمان — وهو موقف إزاء
ادعاءات الحقيقة — ليس جزءًا من التجربة الجمالية؛ لأن الحقيقة
ليست لها دلالة جمالية في الفن. وعندئذٍ يتعين على المدافع عن
فكرة «الحقيقة الفنية» أن يستسلم أمام صاحب النزعة الخالصة
(purist) ويعترف بالانفصال
التام بين الفن والحياة»، ولكنه لو فعل ذلك، لبدا أنه يتخلى عن
نظريته بأكملها.
لقد رأينا من قبل أن «الحقيقة الفنية» تختلف في نواحٍ هامة
عن الحقيقة «بالمعنى العلمي الدقيق المعتاد»، وسوف نرى الآن
كيف أن معنى «الاعتقاد» ينبغي أن يعدل إذا ما شئنا الخروج على
أي نحو من المأزق السابق.
إن أشد النظريات غير المعرفية تطرفًا هي تلك التي قال بها
رتشاردز في إحدى مراحل تفكيره؛ فقد كان يدافع عن الرأي الذي
عرضناه من قبل، والقائل إن الشاعر يخلق الشعر والجمهور يقرؤه
لكي يولد تجربة تنظم فيها الانفعالات والحالات النفسية بطريقة
متوافقة، وعلى ذلك فإن القارئ لا يثير أية أسئلة عن حقيقة
عبارات الشاعر، وإنما هي «أشباه عبارات»، والقارئ إنما يهتم
بما يشعر به، لا بما يعتقده، وبعد ذلك ينتقل رتشاردز إلى
القول، في فقرة أصبحت مشهورة (أو مشهورة بالغرابة). إن الشعر
يثبت على نحو قاطع أن من الممكن إثارة أهم حالاتنا النفسية
ذاتها، والإبقاء عليها، دون أن يتدخل أي اعتقاد في الموضوع على
الإطلاق. مثال ذلك الحالات النفسية التي تثيرها التراجيديا؛
فنحن لا نحتاج إلى اعتقادات، بل إن من الواجب ألا تكون لدينا
اعتقادات، إذا ما شئنا قراءة «الملك لير».
٩٣
ويذكر الشاعر ت. س. إليوت أنه وجد الرأي المعروض في هذه
الفقرة «غير مفهوم».
٩٤ وقد وجده غيره مفهومًا بما فيه الكفاية ولكنه باطل
تمامًا. أما رتشاردز نفسه فقد تخلى عن هذا الرأي، فلماذا كان
هذا الرأي غير مقبول؟
لقد أقام رتشاردز فاصلًا قاطعًا بين الاعتقاد وبين الحالة
النفسية، فلنتأمل هذا الموضوع من وجهة نظر علم النفس؛ هل يمكن
أن يكون لنا أحوال نفسية، كالحماسة، أو عدم الاكتراث، أو
النفور، دون أن تكون لدينا اعتقادات معينة عما تتعلق به هذه
الحالة النفسية؟ الواقع أن أحوالنا النفسية، حتى لو كانت أبعد
ما تكون عن المعقول، كما هي الحال في التعصب العنصري، تقترن
عادةً باعتقادات عن «النقص الكامن» للجنس «الأحط»، أو
«قذارته»، أو «خموله». وإنا لنجد أن لدينا حالة نفسية من نوع
معين إزاء أبطال «الملك لير»، مثل إدجار وكانت، وحالة من نوع
مختلف تمامًا إزاء الشخصيات الشريرة فيها، مثل إدموند وجونريل.
وما كان من الممكن أن تكون لدينا هذه الحالات النفسية ما لم
تكن لدينا اعتقادات معينة عن هذه الشخصيات وعن أفعالها، وفضلًا
عن ذلك فلا بد لنا أن نجلب معنا اعتقادات من التجربة المألوفة،
كالاعتقادات المتعلقة بالتزامات الأبناء نحو آبائهم، ولولا هذه
الاعتقادات، لتبخر الصراع والتوتر الذي يشيع في
المسرحية.
إن القول بأن «إدموند شرير» هو قول صحيح، ونحن جميعًا نؤمن
به، وهذا اعتقاد يشارك فيه الفنان والجمهور. وقد استطاع
شيكسبير أن يفترض هذه الاعتقادات مقدمة، ويستغلها، ففي هذه
الحالة توجد، ولا بد أن توجد، علاقة بين الفن «والحياة»، ومع
ذلك فإن مشكلة «الاعتقاد الجمالي» تنصبُّ على الحالة التي لا
يشارك فيها المشاهد أو القارئ في اعتقادات الفنان، فكيف يعتقد
بما يراه باطلًا؟
•••
إن المدافع عن فكرة «الحقيقة الفنية» يجد نفسه الآن محصورًا
بين رأيين يسير كل منهما في اتجاه مضاد للآخر؛ أولهما هو أن
الحقيقة تتمثل بالفعل في الفن، بحيث يكون الفن مرتبطًا بما
يحدث بالفعل في «الحياة»، ويكون مسئولًا عنه بمعنًى ما؛
وثانيهما أن الفن ينبغي أن ينظر إليه «بتعاطف» إذا شئنا أن
نتذوقه جماليًّا، وبالتالي فمن الضروري بحثه «كاملًا، مكتفيًا
بذاته، منعزلًا» (ولا بد أن القارئ قد أدرك أن هذا تعبير آخر
عن النزاع بين أنصار المحاكاة وأنصار الشكلية) ولكي نتغلب على
هذا النزاع، فلا بد لنا من التحرك في الاتجاه الثاني، أي نحو
القول «بالاستقلال الذاتي» الجمالي للعمل، ولو لم نفعل ذلك،
وتمسكنا بأننا لا نستطيع أن نؤمن بالعمل إلا إذا كان ما يؤكده
أو يعبر عنه حقيقة فإننا عندئذٍ نرد الفن إلى العلم أو
التاريخ، وعندئذٍ تصبح الحقيقة، بمعناها المعتاد هي المعيار
الحاسم للقيمة، ويغيب عن نظرنا ما هو مميز وثمين في العمل،
سواء على مستوى النظرية وعلى مستوى التذوق الجمالي، فلا بد إذن
من أن تؤدي أية نظرية في «الحقيقة الفنية» إلى أن تكلفنا أكثر
مما هي جديرة به، وذلك إذا ما جعلتنا نرتكب الخطأ القاتل؛ خطأ
تجاهل الأهمية الذاتية الباطنة للفن.
والواقع أن جرين يعلم ذلك؛ إذ إنه يقول إن «العمل الفني …
مُكتفٍ بذاته إلى حد يفوق بكثير أية نظرية علمية؛ وهو إلى حد
بعيد عالم منطوٍ على ذاته، له في اتجاهه العام استقلال لا نظير
له في العلم».
٩٥ ومن هنا فإن «الاستبصارات» التي تعبر عنها الأعمال
الفنية التي لا يمكن أن تصححها أو تخطئها أعمال أخرى، على نفس
النحو الذي يمكن به تفنيد النظريات العلمية بالمزيد من
الملاحظات التجريبية؛
٩٦ فالطب الحديث يفند النظريات القديمة في المرض،
ولكن لا أحد يقول إن المسرحية الحديثة «تفند» أيسخولوس أو
شيكسبير، ولا بد لنا، إذا شئنا أن نحترم «انطواء العمل على
ذاته» من أن نتخذ «الإطار الإشاري للفنان»، كما رأينا من قبل،
وعلى ذلك فإن جرين يؤكد، في صدد مشكلة الاعتقاد أن علينا ألا
نقبل على العمل أو نحكم عليه من خلال نظرتنا نحن إلى العالم.
بل إن كل ما يمكننا أن نفعله هو أن «نطلب إلى الفنان … أن
يعالج موضوعًا ما لها ما له دلالته بطريقة دلالتها».
٩٧ «وعندئذٍ يصبح من الممكن أن «يؤكد ناقد مسيحي عظمة
عمل وثني رائع»».
٩٨
وهكذا فإن جرين يعمل على إضعاف التوازي بين «الحقيقة»
و«الاعتقاد» وبين «البطلان» و«عدم الاعتقاد». وهذا ما يفعله
أرسطو بدوره حين يقول إن الشاعر لو ارتكب خطأ من وجهة النظر
الواقعية «لكان واقعًا في الغلط»؛ ولكن من الممكن تبرير الغلط
إذا أمكن عن طريقه بلوغ غاية الفن». فإذا ما أسهمت الغلطة في
«التأثير» الجمالي للعمل، «فمن الواجب أن نقبلها، ومن الضروري
تخفيف حدة المعايير العقلية المعتادة، التي تميز بين
الاعتقادات القائمة على أساس متين وتلك التي تقوم على أساس
واهٍ، وعلينا أن نعترف بالاختلافات بين اهتماماتنا المعرفية
وبين اهتماماتنا الجمالية؛ فالحقيقة ليست هي العنصر الوحيد
المكون للفن، كما أنه ليس من مهمة الفن توصيل الحقيقة، ومن هنا
فإن «الاعتقاد الجمالي» ينبغي أن يتميز عن الاعتقاد الأمثل من
وجهة النظر المعرفية، وهو الاعتقاد الذي لا يقبل إلا ما هو
صحيح، ويرفض كل ما هو باطل.
•••
وعلينا الآن أن نقوم بمزيد من البحث في طبيعة «الاعتقاد
الجمالي»، وسوف نجد في هذا الصدد توجيهًا مفيدًا عند رتشاردز،
بعد أن تخلى عن الرأي الذي ناقشناه منذ قليل؛ فهو يميز بين
الاعتقاد برأي علمي، وبين «الاعتقاد الانفعالي»، أما الأول
فينطوي على استعداد للسلوك على نحو معين؛ فإذا لم يسلك الشخص
وفقًا لاعتقاداته، قلنا إنه لا «يعتقد بحق» ما ينادي به. أما
في تذوق الفن، فليس هناك إلا مجال ضئيل للفعل، أو لا يوجد له
مجال على الإطلاق، فهنا تُعَد اعتقاداتنا، كما يقول رتشاردز
«موافقات مؤقتة» … نقوم بها من أجل «التجربة التخيلية» التي
تتيحها هذه الموافقات».
٩٩
وقد أخذ ت. س اليوت بهذا الرأي في بحثه المشهور عن «دانتي»؛
فهو يعترف بأهمية العنصر المعرفي في الفن، ويقول «إنك لا تملك
أن تتجاهل اعتقادات دانتي الفلسفية واللاهوتية»،
١٠٠ ومع ذلك فهو يضع الحد الفاصل بين الاعتقاد الجمالي
والاعتقاد غير الجمالي؛ إذ يقول: «ومن جهة أخرى فليس مطلوبًا
منك أن تؤمن أنت ذاتك بها … إذ إن هناك اختلافًا بين الاعتقاد
الفلسفي والموافقة الشعرية
poetic
assent.»
١٠١ فنظرة دانتي إلى العالم مستمدة من الفيلسوف توما
الأكويني، ولكن «من الواجب عدم الخلط بين دانتي وتوما الأكويني
… فالموقف الاعتقادي لشخص يقرأ «توما الأكويني» ينبغي أن يكون
مختلفًا عن الموقف الاعتقادي لشخص يقرأ دانتي، حتى لو كان ذلك
هو نفس الشخص، وكان ذلك الشخص كاثوليكيًّا».
١٠٢ ويضيف إليوت إلى ذلك ملاحظته القائلة إن «المرء قد
يجد في الشعر لذة أكبر إذا كان يشارك الشاعر اعتقاداته»، ولكنه
يَعُد ذلك أمرًا «خارجًا عن الموضوع» من وجهة النظر الجمالية.
١٠٣
وإذن «فالاعتقاد الجمالي» هو «موافقة مؤقتة من أجل التجربة
الجمالية». وصاحب المذهب الخالص
purist على حق حين يرى أن
واجبنا ألا نضع اعتقاداتنا في مقابل اعتقادات الفنان، ولكن أين
تتوقف «الموافقة»، إن كانت تتوقف على الإطلاق؟ هل نحن «نقبل»
كل شيء في العمل، وفي كل الأعمال؟ إن كان الأمر كذلك، فلا يكاد
يكون هناك معنى للكلام عن «اعتقاد» على الإطلاق؛ إذ إن هذا
اللفظ لا يكون له معنًى إلا حيث يكون هناك مجال لعدم الاعتقاد.
ولنفرض أن متذوق العمل لا «يقبل» الاعتقادات التي يعبر عنها
العمل، فهل يكون ذلك من قبيل ما أسماه بوزانكيت «ضعف المشاهد»؟
وهل هو يدل على أنه سمح لاعتقاداته، أو لتحيُّزاته، بالتدخل في
طريق «التعاطف» الجمالي؟
هنا نجد نفسنا إزاء واقعة من وقائع التجربة الجمالية تختلف
تمامًا عن واقعة قبولنا المتسامح لأعمال «متناقضة»؛ تلك هي أن
استجابتنا للعمل تكون أحيانًا من قبيل «لا تطلب مني أن أعتقد
بهذا! فأنت بذلك تطلب أكثر مما ينبغي». فنحن قد نعتقد (=
«نوافق على») أن كيركي (Circe)
حولت الناس إلى خنازير (هوميروس) أو أن الخيول زرقاء (فرانز
مارك Franz Marc). ولكن هناك
أشياء معينة نأبى الاعتقاد بها، دون أن يكون ذلك راجعًا إلى أي
«ضعف» فينا، بل لنقص في العمل الفني.
ولقد رأينا من قبل أن من الضروري، في الفن، أن نقوم بتعديل
معين للعلاقات المعتادة بين «الحقيقة»، و«الاعتقاد»، وبين
«البطلان» و«عدم الاعتقاد»، ولكن من الضروري ألا نتخلى عن هذه
العلاقات كلية، وإذا كان «المذهب الخالص
purism» يفعل ذلك، فإنه
يعجز عن تفسير الحقيقة التي أشرنا إليها الآن، فمن الضروري أن
يكون في استطاعتنا القول بأن بعض الأعمال «باطلة»، وبالتالي
يحق لنا ألا نعتقد بها.
وكما لاحظنا من قبل، فإن «جرين» يرى أنه لا بد لنا من اتخاذ
«إطار الإشارة» لدى الفنان، حتى لو لم يكن ذلك هو إطارنا الخاص
خلال التجربة غير الجمالية. غير أنه يرى أنه حتى بعد أن نفعل
ذلك، فقد نتهم الفنان بالزيف أو البطلان إذا كان قد تجاهل
معطيات لها صلة بالموضوع، أو عالج موضوعه بطريقة سطحية أو غير
كافية، وهكذا فإن العمل إذا كان يدعي أنه معالجة جادة «للناس
في سلوكهم العملي» — وهو المثل الذي ضربناه من قبل — فإن من
الضروري تفسير أفعال الشخصيات ودوافعها بطريقة متسقة يقبلها
العقل، ولكن إذا بدأت إحدى الشخصيات على حين غرة تتصرف دون سبب
معقول بطريقة مضادة تمامًا لسلوكها السابق، أو إذا سلكت بطريقة
مضادة للسلوك الإنساني العادي على نحو ما، فعندئذٍ نرفض
مسايرتها ويصبح لهذا العمل «وقع باطل»، وبذلك يكون عملًا «لا
يعتقد به أحد». وإنا لنعلم إلى أي مدًى تلجأ الروايات
البوليسية إلى أساليب كهذه من أجل تحقيق حبكة في القصة التي
تظل، بدون هذه الأساليب، مفككة إلى حد ميئوس منه. وعند هذا
الحد تتوقف «الموافقة» الجمالية.
إن العمل الفني هو الذي يحدد ما هو «محتمل» أو «ممكن» داخل
حدوده الخاصة، ونحن لا نفرض عليه المعايير المعرفية للحياة
اليومية، ولهذا السبب نستطيع أن «نوافق» على الأسطورة والخيال
الطليق، ونوافق عليهما بالفعل، ولكن إذا كان علينا أن نقبل
معايير التصديق المرتبطة بالعمل، فكذلك ينبغي على الفنان الذي
يعلن هذه المعايير بصورة ضمنية أن يفعل ذلك — فمن الواجب أن
يكون العمل متماسكًا معقولًا في حدود «إطار الإشارة» الخاص به.
أو بعبارة الشاعرة ماريان مور Marianne
Moore، وهي العبارة التي أصبحت الآن
مشهورة، فإن «المروج الخيالية» ينبغي أن «تكون فيها ضفادع
حقيقية»، فإذا كان مطلوبًا منا أن نسكن «عالم» الفنان، فعليه
هو ذاته ألا يغادر عالمه هذا فجأة نتيجة لتخاذل خياله، أو
لعجزه عن المحافظة على الاهتمام أو المزاج الدرامي. فالاعتقاد
«المتعاطف» مع العمل ينطوي على توقعات لما سيأتي بعد ذلك في
العمل أثناء تكشفه، وما لم يكن هناك سبب وجيه لعدم تحقيق
توقعاتنا، كما هي الحال في الكوميديا، فإن خيبة ظننا فيها تؤدي
إلى انقطاع في الاهتمام الجمالي. وإن مجرد اتخاذ الموقف
الجمالي ليعني التزامنا بالاعتقاد بالعمل، ولكن إيماننا ينبغي
أن يُحترم ويكافَأ.
أتذكر قصة «في المرآة Though the
looking-Glass» عندما أعربت أليس عن عدم
تصديقها عندما وجدت لأول مرة حيوانًا من نوع «وحيد القرن»
فاقترح عليها وحيد القرن «صفقة»، «إذا اعتقدت بي، فسأعتقد بك»؟
حسنًا، تصور أن أليس هي المشاهد الجمالي، ووحيد القرن هو العمل
الفني الإيهامي
(make-believe)، وعندئذٍ ستكون
«الصفقة» وبين الاثنين شيئًا أشبه بهذا.
مراجع
ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص٢٨٣–٣٣١، ٣٣٥-٣٥٦.
فيفاس وكريجر: «مشكلات علم الجمال»، ص٥٦٢–٥٧٧،
٥٨٣–٦٢٥.
فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص٢١٩–٢٤٢، ٤٥٥–٤٦١.
بيلسكي، مانويل «الحقيقة والاعتقاد وقيمة الفن»
(مقال).
Bilsky, Manuel, “Truth, Belief
and the Value of Art,” Phil. and Phen, Research, vol.
XVI (June, 1956), pp. 488–495.
ت. س. إليوت: «دانتي».
T. S. Eliot, “Dante,” in
“Selected Essays,” New Edition (N. Y., Harcourt, Brace,
1950).
جرين: الفنون وفن النقد، الفصلان ٢٣، ٢٤.
هيل، برنارد: «إعادة نظر في «الحقيقة الفنية»»
(مقال).
Heyl, Bernard C., “Artistic
Truth,” Reconsidered. J. of Ae and Art Lr., vol. VIII
(June, 1950), pp. 251–258.
هيل، برنارد: اتجاهات جديدة في علم الجمال والنقد الفني.
الفصل الثالث.
New Bearings in Esthetics and Art
Criticism, Yale U.P., 1943.
هوسبرز: المعنى والحقيقة في الفنون. الفصول من ٥ إلى ٧.
جيسب، برتزام: «نطاق المعنى في العمل الفني» (مقال) …
Jessup, Bertram E., “Meaning
Range in the Work of Art,” J. of Ae. and Art Cr., vol.
II (March, 1954) pp. 378–385.
جيسب، برترام «الحقيقة من حيث هي أساسية في الفن»
(مقال).
“Truth as Material in Art,” J. of
Ae. and Art Lr., vol. IV (Dec., 1945), pp. 110–114.
أوجدن وتشاردز «معنى المعنى» الفصل السابع.
Ogden, C. K. and Richards, E. A.,
The Meaning of Meaning, 4ed., London, Kegan Paul,
1936.
فيتس، مورس: «فلسفة الفنون» الفصل الثامن.
Weitz, Morris, “Philosophy of the
Arts,” Harvard U.P., 1950.
زنك، سيدني: «الشعر والحقيقة» (مقال).
Zink, Sidney, “Peotry and Truth,”
Philosophical Review, vol. LIV (March, 1945) pp.
132–154.