الفن والأخلاق
هذا الفصل لا يعالج موضوعًا في علم الجمال، وإنما هو يعالج موضوعًا، أو على الأصح مجموعة متشابكة من الموضوعات، في الفلسفة الأخلاقية، وأعني بها: هل الأعمال الفنية تغير شخصية المشاهد إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، وتؤثر بذلك في سلوكه الأخلاقي، وإذا كان الأمر كذلك، فهل نستطيع نتيجة لهذا أن نحكم على هذه الأعمال على أسس أخلاقية، مثلما نمتدح الناس أو نذمهم — كما في حالة قديسِي الأخلاق وأشرارها — أو النظم والأوضاع الاجتماعية، الديمقراطية أو مشكلة الإسكان غير الصحي؟ وهل من حقنا، على وجه التحديد أن ننظم، بوسائل سياسية وقانونية، خلق الأعمال الفنية ونشرها، حتى لو وصل ذلك إلى حد حظر أعمال معينة؟ أم أن الفن، في خلقه وفي تذوقه معًا، ينبغي أن يُعفَى من الحكم الأخلاقي والرقابة الأخلاقية؟
إن الموقف الجمالي يدربنا على الانتباه إلى العمل «لذاته فحسب»؛ ففيه نهتم بالخصائص الباطنة للعمل، وقيمتها بالنسبة إلى الإدراك الباطن. أما الأخلاق فتهتم بالعلاقات بين العمل وأشياء أخرى — ومن ثَم فإنها تؤكد نتائج الفن — أي تأثيره في السلوك، وفي النظم الأخرى في المجتمع، وأوضاع الحياة البشرية بوجه عام؛ فالأخلاق تعيد العمل إلى علاقاته المتبادلة التي أخرجه منها الاهتمام الجمالي.
وعلى ذلك فإن علم الجمال والأخلاق يبحثان في خصائص مختلفة للموضوع الفني، ومن هنا فليس من المبالغة القول إنهما يتحدثان عن شيئين مختلفين، ولهذا السبب كان في استطاعتنا أن نتحدث، دون تناقض أو امتناع، عن «حالة سرطان جميلة»، أو عن «لص فنان»، فهذان التعبيران معًا يشيران إلى خواص خارجية وداخلية أو باطنة معًا.
وكما سنرى فيما بعد، فإن أولئك الذين حاربوا المعركة القديمة العهد حول «الفن والأخلاق» يؤكدون بدورهم التمييز بين الخصائص الجمالية والأخلاقية؛ ذلك لأن كل طرف في النزاع يذهب إلى أن الطرف الثاني يتجاهل خصائص بارزة في الفن الجميل؛ فأولئك الذين يؤكدون أن الفن ليس موضوعًا للتنظيم الأخلاقي يرون أن واضعي الأخلاق الصارمين، ذوي السحنة المقطبة، عاجزون عن تذوق الفن جماليًّا، أو يتجاهلون عمدًا قيمه بالنسبة إلى التأمل، أما الأخلاقيون فيرون أن خصومهم أشد إغراقًا في الخيال وابتعادًا عن الواقعية من أن يعترفوا بالتأثيرات الملموسة للفن في الحياة البشرية، أو مفتقرون إلى المسئولية في رفضهم تنظيم هذه التأثيرات من أجل تحقيق السعادة للمجتمع.
•••
فإذا كان ما قلته الآن صحيحًا، فلماذا أصبحت مشكلة «الفن والأخلاق» مشكلة ثانوية نسبيًّا؟ هذا سؤال من أسئلة التاريخ الاجتماعي، يتميز بالاتساع الشديد، ولست أملك إلا أن أقدم بضع إجابات ممكنة عنه.
لهذه الأسباب وكثير غيرها دون شك، لم تكن مشكلة «الفن والأخلاق» مشكلة رئيسية في عصرنا، ومع ذلك فإن هذه مشكلة قديمة العهد، وما زالت لها بعض الأهمية. ومن الممكن أن يؤدي تحليلنا للمفكرين السابقين الذين اندمجوا في هذا الموضوع بحرارة، إلى زيادة فهمنا للوجه الحالي للمشكلة. كما أن هذا التحليل يساعدنا على أن نفهم بصورة أكمل، المكانة التي كانت للفن في حياة البشر، والدور الذي قد يصبح له في المستقبل إذا أصبح تنظيم المجتمع مختلفًا عما هو عليه الآن.
وعلى الرغم من أن مناقشتنا ستدور في مجال الأخلاق، فإننا سوف نستعين فيها إلى حد بعيد بدراستنا لعلم الجمال، فمن المستحيل أن نتحدث بطريقة واعية عن العلاقة بين الفن والأخلاق ما لم نكن نعرف شيئًا عن طبيعة الفن الجميل، وعن الإدراك الجمالي وكيف يختلف عن التجربة المعتادة، وعن قيمة التأمل الجمالي، فبهذا وحده يمكننا أن نقرر ما يحق وما لا يحق للأخلاق أن تطلبه من الفنان الخلاق والمشاهد الجمالي.
(١) دور الفن في المجتمع الفاضل
تعد محاورة «الجمهورية» لأفلاطون أول وصف منظم لمدينة فاضلة في الفكر الغربي، ولكنها لا تزال أهم وصف من هذا النوع. «فالجمهورية» تقف على رأس كل قوائم «الكتب الكبرى» تقريبًا في تراثنا الحضاري. وعلى الرغم من أنها كتبت قبل الميلاد بما يربو على ثلاثمائة عام، فقد كان لها تأثير عميق حتى يومنا هذا. وترجع قدرتها على إلهاب خيال الناس وإثارة إعجابهم إلى ذلك العرض التفصيلي الذي قدمته لرؤيا تتميز عادة بأنها غامضة غير محددة المعالم، ألا وهي الوصول إلى أفضل حياة ممكنة للإنسان.
وتصور «الجمهورية» مجتمعًا لا تترك فيه إدارة دفة الحياة للصدف أو للهوى المتقلب؛ فالحياة الخيِّرة للفرد لا يمكن أن تتحقق إلا في مجتمع منظم أحسن تنظيم؛ ومن هنا فمن الواجب ألا تسلم مقاليد الحكم في المجتمع لأولئك الذين يكتسبون السلطة بالطرق المألوفة؛ أي الغوغائية والقوة الحربية … إلخ. فأمثال هؤلاء الناس لا تتوافر لهم القدرات التي هي ضرورة لا غناء عنها من أجل توجيه المجتمع والواقع أن القضية التي يدافع عنها أفلاطون هي، من ناحية معينة، قضية بسيطة، بل واضحة، وهي أن من الواجب ألا يمسك بزمام الحكم إلا من كان مؤهلًا لذلك، وللإنسان في داخل نفسه القدرة على توجيه حياته على نحو من شأنه تحقيق غاياته الأساسية، تلك هي قدرة العقل، وفي استطاعة المعرفة التي يمنحنا إياها العقل، أعني معرفة ما هو خير بحق الإنسان، وأن تنقذنا من أنواع الاختيار العمياء، القصيرة النظر، التي تهدم نفسها بنفسها آخر الأمر، والتي نقوم بها في سعينا من أجل السعادة. وإذن، فليحكم الدولة أولئك الذين توافرت لهم معرفة عقلية بما هو خير لها؛ فجمهورية أفلاطون هي مجتمع يحكمه الحكماء — أعني «الفلاسفة الملوك» المشهورين — الذين يبتغون في حكمهم سعادة جميع أفراده، وليست محاورة الجمهورية إلا تعبيرًا عن أمنية «حياة العقل»، وهي في الوقت ذاته تردد ذلك التنبيه الجاد، ألا وهو أن حياة العقل هي وحدها التي يمكن أن تكون الحياة السعيدة آخر الأمر.
ولا يقتصر أفلاطون على طرد هؤلاء الفنانين من الجمهورية، ولنلاحظ أنه لا يطرد جميع الفنانين، كما يقال عنه أحيانًا، بل إنه يتحدث عن هؤلاء الفنانين باحتقار شديد. ولا شك أن تهكمه في الفقرة التي اقتبسناها الآن واضح، وقبل هذه الفقرة مباشرة كان يطلق على هؤلاء صفات مثل «أذكياء» «ومعجزون»، والواقع أن أفلاطون، في دفاعه الحار عن حياة العقل، قد هاجم كثيرًا من مظاهر الحمق والشر، ولكنه احتفظ للفنانين بأعنف هجماته.
والحق أن القارئ الذي لا يشعر بالنفور من هذا الموقف، يحار له، فكيف ينفعل أفلاطون إلى هذا الحد ضد الفنانين، من بين سائر الناس جميعًا؟ ألا توجد أخطار أخرى أشد كثيرًا تهدد الجمهورية؟ وهناك سبب آخر للحيرة؛ فلو كان ذلك الذي يطرد الفنانين فيلسوفًا شديد الجفاف، أو مفكرًا ليست لديه حساسية جمالية، لكان الأمر مفهومًا، حتى لو لم يكن مقبولًا. غير أن أفلاطون ليس فيلسوفًا عظيمًا فحسب، وإنما هو أيضًا — باتفاق الآراء — فنان عظيم؛ فمحاوراته، ولا سيما محاورات الفترتين الأولى والوسطى من حياته، هي أعمال أدبية كبرى ذات مستوى رفيع، وفيها سحر خلاب، وخيال، وقوة درامية ووضوح في الشكل، فكيف استطاع فنان عظيم، يعيش — فضلًا عن ذلك — في عصر من أعظم العصور الخلاقة في التاريخ، أن يحمل على زملائه الفنانين بكل هذه القسوة؟
•••
أول ما ينبغي أن ندركه هو أن أفلاطون يأخذ الفنون مأخذ الجد الشديد. وقد تحدثنا منذ قليل عن الأهمية الضئيلة نسبيًّا للفنون في المجتمع المعاصر، وأشرنا إلى انفصال الفن عن الوظائف الاجتماعية الأخرى. أما في المجتمع الأثيني، في العصر الذي عاش فيه أفلاطون، فكانت الفنون قوة اجتماعية كبرى، والحق أن تأثيرها كان شاملًا إلى حد أن اليونانيين لم يضعوا التمييز الذي نعرفه حديثًا بين (الفنون الجميلة) والفنون النافعة. وفضلًا عن ذلك كان الأدب والموسيقى والرقص مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة والتعليم؛ إذ كان الشعراء الكلاسيكيون، مثل هوميروس وهزيود، مصادر هامة للإيمان الأخلاقي والديني، وعلى ذلك فقد كان هذا التأثير الهائل للفنون، واعتقاد أفلاطون أن تأثيرها هذا سيئ في معظم الأحوال، هو الذي جعله يقترح في محاورة الجمهورية اتخاذ أمثال هذه التدابير الصارمة.
إن أسهل وسيلة لنقد الفن على أساس أخلاقي هي أن نوجه هذا النقد إلى موضوع الفن، وأوضح السبل التي يمكن أن يكون الفن بها لاأخلاقيًّا هي أن يعرض السلوك اللاأخلاقي فحسب، غير أن انتقادات أفلاطون لا تقف عند حد الموضوع، بل إن كل بعد آخر من أبعاد الفن — المادة الحسية، والشكل، والتعبير — يقع تحت طائلة نقده.
•••
ومع ذلك فأغلب الظن أن هذا لن يرضي القارئ الحديث، بل سيقول: «جميل جدًّا أن نتحدث عن «الأعمال الرفيعة» وكيف أنها تعلو بالنفس، ولكن ماذا نقول عن بقية نظرية أفلاطون؟ لقد كمم أفواه الفنانين وفرض قيودًا قاسية على التذوق الجمال، وهو قد سلبنا بعضًا من أعز قيمنا، باسم «الأخلاق» و«مصالح الدولة» (وهو تعبير له وقع مشئوم على أذن الإنسان الحديث).»
فإن كان هذا هو النقد، فإن هناك أمرًا واحدًا ينبغي أن نستيقنه: فما هو وجه الاعتراض بالضبط؟ هناك احتمالان: (١) هل الاعتراض مُنصَب على أي نقد أخلاقي وإشراف اجتماعي على الفن؟ (٢) أم أنه مُنصَب على البرنامج الخاص للتنظيم الاجتماعي الذي وضعه أفلاطون؟
(١) إننا نعيش في عصر ومجتمع يُعلي من قدر الحرية الفردية. وعلى ذلك فإن من المتوقع من القارئ أن ينفر من نظرية أفلاطون. ولكن ينبغي علينا في هذا الموضوع، كما في غيره من موضوعات الفلسفة، أن نختبر معتقداتنا اختبارًا نقديًّا، وقد يكون علينا أن نتوخى أكبر قدر من الحرص في اختبار تلك المعتقدات التي نتمسك بها بأكبر قدر ممكن من الاقتناع، فهل يُلزمنا إيماننا بالحرية الفنية والجمالية بأن نأخذ بالرأي القائل بأن مِن الواجب عدم فرض قيود على الفن؟ وهل نستطيع الدفاع عن هذا الرأي ضد أفلاطون؟
إن ما يقوله أفلاطون يتلخص فيما يلي: الحياة الخيَّرة لا يمكن تحقيقها إلا إذا سلكنا في ضوء العقل؛ فهي لن تأتي عفوًا أو نتيجة لاختيار لاعقلي، وعلى ذلك فمن الواجب إخضاع كل أوجه نشاطنا لسيطرة العقل، وأي أوجه نشاط تقضي على «صحة الروح» — على حد تعبير أفلاطون المجازي — يمكن، بل يجب، أن تُستهجن أخلاقيًّا؛ ذلك لأن هذه الأفعال تولد الشقاء للفرد وعدم الاستقرار للمجتمع. ولما كان مثل هذا النشاط يقف حائلًا دون تحقيق مثل الإنسان العليا، فإن في هذا الكفاية لإدانته.
ولو استطعنا أن نعزل الشعر والفنون الأخرى عزلًا تامًّا عن بقية جوانب الحياة، لسحب أفلاطون اعتراضاته على الأرجح. غير أن كل ما في حجته من قوة إنما يرتكز على استحالة القيام بمثل هذا العزل؛ فقراءة قصيدة أو سماع قطعة موسيقية يؤثر في الطبع، ولا سيما عند الصغار، بل إننا نعترف بهذه الحقيقة حتى في عصرنا الراهن، الذي أغلق الأبواب على الفن إلى حد بعيد. ألسنا نمنع أطفالنا من قراءة كتب معينة ومشاهدة أفلام سينمائية معينة؟ إن من الصفات الأساسية للموقف الجمالي أنه لا يهتم إلا بالموضوع الحالي للوعي، ولكن تأثيرات الإدراك الحسي الجمالي تتجاوز التجربة الجمالية ذاتها. ولنذكر أن الشخص الذي يضع تصميمًا لمجتمع مثالي ليس مجرد متذوق جمالي، بل ينبغي عليه أن يأخذ في اعتباره النتائج الفردية والاجتماعية للفن، حتى لو لم يكن المتذوق الجمالي يفعل ذلك.
على أن كثيرًا من النقاد يعتقدون أن أفلاطون أخفق في التدليل على وجهة نظره، وهم في عمومهم يرون، إما أن المدينة الفاضلة لا يمكن تحقيقها فعليًّا، وإما أنها، حتى لو تأسست، لكانت بعيدة عن أن تكون نظامًا اجتماعيًّا مثاليًّا، ولا شك أن التوسع في عرض حججهم سيبعدنا عن موضوعنا الأصلي. ولذلك فمن الواجب بحث مقترحات أفلاطون الخاصة بالفن في ذاتها.
إن الاقتراح الخاص بالرقابة الصارمة هو من الأمور التي تجعل نقاد أفلاطون يتشككون في قيمة الحياة في مدينته الفاضلة. ولقد شهدنا في القرن العشرين نظمًا شمولية أكثر مما نحتمل، وفي كثير من الأحيان توصف الحياة اليومية في هذه المجتمعات بأنها باهتة رتيبة إلى حد الإملال، والواقع أن للمرء الحق في أن يخشى هذه الرتابة الشاملة بقدر ما يخشى الاضطهادات وضياع الحرية، وليس من المحتمل أن تكون مدينة أفلاطون الفاضلة بمنأًى عن هذه الرتابة؛ ففيها يضيق الخناق بشدة على موضوعات الفن وأشكاله وأساليبه، فما أكثر ما يضيع، نتيجة لذلك، من الطابع الذي نحس به للحياة! إن الخيال الواسع الأفق للفنان، عندما يسمح له بالانطلاق حرًّا، يضفي على حياتنا رونقًا وجدة. أما في المدينة الفاضلة فإن الفن خاضع للتراث التقليدي إلى حد بعيد. ألن يؤدي به ذلك إلى أن يصبح ثقيلًا مملًّا؟ إننا نعرف إلى أي حد يصدق ذلك على الفن الوطني الحماسي والإرشادي، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد إلى التصوير السوفيتي الذي كُرس قدر كبير منه لتحية أبطال الثورة وتخليد ذكرى أحداثها التاريخية، كما يمكننا أن نشير إلى الفن العقيم الذي أنتجته ألمانيا في عهدها النازي، وهكذا لا يكاد يكون من الممكن ظهور شعر قوي غني إذا كان يقتصر على «مدح الآلهة والأخيار من الناس».
وإذن فمن المؤكد أنه ستحدث خسارة هائلة، بل خسارة لا تعوض، في القيم المحسوسة للمتعة الجمالية. هذا من جانب المشاهد الجمالي، ولكن الرقابة الأفلاطونية ضارة إلى حد أعظم بالفنان نفسه. فلدى الفنان القدرة على العمل الخلاق، والرغبة فيه. ويُعَد تحقيق قدراته وإخراجها إلى حيز التنفيذ أمرًا حيويًّا بالنسبة إليه. ولا بد أن يعاق نمو شخصيته إن لم يستطع أن يطلق العنان لأفكاره الخلاقة: إذ إن في كبت الرغبات الخلاقة إيقافًا لنمو الإنسان، وهو عند بعض الفنانين أشبه بحرمانهم من الهواء أو الغذاء. وفضلًا عن ذلك فإن هذا يؤدي إلى عزل الفنان عن تكوين علاقة مثمرة مع واحد من أهم العوامل المؤثرة على فنه، وهو جمهوره، فكثيرًا ما تكون الاستجابة الواعية والنقد العميق عاملين لهما قيمة لا تقدر، يعينان الفنان في عملية النقد الذاتي، وبالتالي في النهوض بفنه؛ فالجمهور يتيح للفنان أن يقيس ما أحرزه من نجاح أو إخفاق. على أننا لا نستطيع أن ننتظر من الجمهور في المدينة الفاضلة أن يقوم بهذه الوظيفة؛ إذ إن ذوقه لا بد أن يكون محدودًا؛ ذلك لأن الذوق لا ينمو ويتسع نطاقه إلا إذا تعرض المدرك لأعمال فنية كثيرة ومتنوعة، وليس من المستبعد أن يصبح الذوق فجًّا جاهلًا نتيجة للرقابة، ولو كان على الفنان أن يقدم أعماله إلى الرقابة قبل أن يستطيع نشرها، فأغلب الظن أن أجرأ تجديداته لن يسمح لها بأن تُختَبر من خلال استجابة الجمهور لها.
والواقع أن حظر أفلاطون للتجديد هو واحد من أقسى القيود التي يفرضها على الفن؛ ذلك لأن الفن الجميل يزدهر بالتجريب، وعدم اقتناع الفنان بالتراث الموجود يؤدي إلى تطوير أشكال جديدة، كالرواية والقصيد السيمفوني، وكذلك إلى ظهور أساليب جديدة، ولنتصور ما كانت الحضارة البشرية ستفقده لو أن اقتراح أفلاطون وُضع موضع التنفيذ في أية فترة من فترات تاريخ الفن. إن من واجبنا أن نسلم بأن بعضًا من أعظم أعمالنا الفنية قد خُلق عن طريق استخدام قوالب وأساليب تقليدية. كما ينبغي أن نسلم بأنه حدث في عصرنا هذا إغراق متطرف في التجديد لأجل التجديد، ومع ذلك يظل من الصحيح أن الفن السكوني المتحجر يشل الفنان ولا يقدم للمشاهد إلا زادًا هزيلًا.
ولقد بلغ من اهتمام أفلاطون بالنتائج البعيدة المدى للفن أنه لم يدرك، على ما يبدو، قدرة الفن على إثراء التجربة المباشرة. إنه بالطبع يعترف بأن الفن يستطيع أن يثير الانفعال والخيال، ولكنه يرفض هذين الأخيرين بوصفهما «لذة» و«اهتمامًا بالشهوات»؛ فهو يتجاهل القيمة الكامنة للاستجابة الجمالية.
ولعل أوضح دليل على ذلك لا يتمثل في اقتراحات أفلاطون ذاتها، بل في الروح التي يعرض بها هذه الاقتراحات، فحتى لو فسرنا نظريته بأشد التفسيرات تعاطفًا، وحتى لو افترضنا أن الرقباء سيكونون إنسانيِّين عقليِّين إلى حد يفوق البشر، فقد رأينا أن الفن ذاته سيعاني خسارة كبرى. ومع ذلك لا يبدو أبدًا أن أفلاطون حزين لهذه الخسارة، بل إنه يطرح جانب ذلك الاعتراض في المرات القليلة التي أثير فيها خلال المحاورة، ولكن ذلك الذي يود أن يحرم الحياة من كل هذا القدر من ثرائها، ينبغي أن يبين لنا أنه يفهم مقدار ما يتم التنازل عنه، وينبغي أن يبدي الأسف والندم. غير أني لا أعتقد أن أفلاطون قد فعل ذلك، وهذا يؤدي بنا إلى الشك في قدرته على معرفة الحق الذي يستند إليه الفن في مطالبته لنفسه بمكان تحت الشمس. إن أحدًا لا يستطيع أن يشك في أن أفلاطون كان شاعرًا بحق الأخلاق في تنظيم الحياة البشرية في سبيل سعادة البشر. غير أن مشكلة «الفن والأخلاق» بأسرها تنحصر في بحث حقوق الأخلاق وكذلك حقوق الفن، وفي وضعهما كل مقابل الآخر وإعطاء كل منهما حقه، لا في ترك أحدهما يطغى ببساطة على الآخر، وهكذا فإن موقف أفلاطون من الفنون، وهو الموقف الذي كان غير مكترث تارة ومتحجرًا تارة أخرى، يكشف عما تتسم به نظريته من افتقار إلى التوازن والإنصاف.
وسوف نرى في هذا الفصل فيما بعد (القسم ٣) إن كان من الممكن وضع نظرية في التنظيم الأخلاقي تكون أقرب من هذه إلى ما يمكن قبوله.
•••
هذا انتقاد قد يتعجب بعض القراء لقصوره وغبائه، فيقول: «إن على الفنانين طبعًا أن يبذلوا جهدًا شاقًّا في عملهم، غير أن هذا ليس حجة عليهم، فلنتصور ما ينتجونه، ومدى ما يسهمون به في الحضارة. إن من المؤكد أن عملهم يبرر ذاته أضعافًا مضاعفة. أما عن اتهام الفن بأنه ترف اقتصادي، فما الذي يمكننا أن نجنيه بتحويل الفنانين إلى القيام بأعمال «منتجة»؟ إن الفن هو ذلك النوع من «الترف» الذي لا تكاد الحياة بدونه تكون جديرة بأن تعاش.»
•••
لقد سبق لنا أن درسنا جانبًا واحدًا من نظرية تولستوي في الفن، ورأينا أن الفن عنده هو النقل المتعمد للانفعال من الفنان إلى المشاهد، أو أن قيمة الفن تقاس بدرجة «العدوى». على أن هذا لا ينبئنا بشيء عن الانفعالات الخاصة التي ينقلها الفن؛ فتولستوي، كما رأينا من قبل، يعترف بأن هذه الانفعالات يمكن أن تكون شديدة التنوع. وهذا كله يتمشى مع الفهم الجمالي للفن، أي النظر إلى العمل على أنه موضوع للانتباه المنزه عن الغرض، وتقديره على أساس ما نشعر به خلال الاتصال الجمالي، ولكنا عندما ننتقل إلى الفهم الأخلاقي للفن عند تولستوي، نجد أن الدلالة الجمالية للعمل تتضاءل، وربما اختفت نهائيًّا.
•••
لقد ذكرت، في معرض انتقادي لأفلاطون، أن حقوق الأخلاق وكذلك حقوق الفن ينبغي أن تُحترم، وأن أحدهما لا ينبغي أن يدفعنا إلى تجاهل الآخر ببساطة. وأود أن أسلك هذا الطريق نفسه في انتقادي لتولستوي، ونظرًا إلى التشابه بين النظريتين، فإن في وسعنا المضي بسرعة أكبر في تحليلنا لتولستوي.
وليس من الضروري هنا، كما لم يكن من الضروري في حالة أفلاطون، أن نستخف بحق الأخلاق، بل إننا سنتفق جميعًا على الأرجح على أن إخاء الإنسانية مثل أعلى يستحيل الإقلال من شأنه، وربما أصبح لهذا المثل من الضرورة، في وقتنا الحالي، أكثر مما كان له في الوقت الذي دون فيه تولستوي آراءه، أي منذ نصف قرن، فإذا ما قبلنا هذا الإخاء مثلًا أعلى، فلا مفر لنا من قبول كل الوسائل المؤدية إلى هذه الغاية، وعلى ذلك فمن واجبنا أن نقبل ونشجع كل فن يؤلف بين الناس في ولاء وحب متبادل.
غير أننا عندئذٍ نقبل هذه الأعمال على أسس أخلاقية، ومع ذلك فمن الممكن تقويم الفن على أسس أخرى، من أهمها قيمته الجمالية فليس ثمة تناقض في القول إن العمل الواحد مفيد أخلاقيًّا وتافه أو ضئيل القيمة، بل إن الواقع أن كثيرًا من الأعمال البسيطة العاطفية التي تصدى تولستوي للدفاع عنها إنما هي من هذا النوع.
وإذا كان تولستوي متحيزًا في تجاهله للقيمة الجمالية، فقد كان متحيزًا أيضًا — عند الطرف الآخر — في مبالغته في التأثير الأخلاقي للفن؛ فهو يقول في الجملة التي اقتبستها من قبل، إن الفن ينبغي أن يجعل الحب الأخوي «هو الشعور المعتاد للناس جميعًا، والغريزة المتأصلة فيهم». وعلى هذا النحو يعمل الفن على تحطيم الحواجز التي تفرق بين الناس. وإذن فتولستوي يقترح، كما رأينا من قبل، نوعين من الفن — ذلك الذي يعبر عن انفعالات المسيحية، وذلك الذي يعبر عن المشاعر البسيطة للحياة «المعتادة».
ولكن كيف يمارس مثل هذا الفن تأثيره في المشاهد؟ هب أنه يشعر بهذه الانفعالات أثناء التجربة الجمالية، فهل يترتب على ذلك بالضرورة أن تكون هذه الانفعالات هي المسيطرة عندما يتخذ قراراته الأخلاقية، ويحيا، عمومًا، حياةً من نوع خاص في تجربته غير الجمالية؟ إن مجرد التعرض لتأثير انفعالات المسيحية و«الحياة المعتادة» لا يضمن أن تصبح هذه الانفعالات هي «الغريزة» التي نسلك على أساسها، وهنا ينبغي أن نذكر أنفسنا بطبيعة الموقف الجمالي، حتى لو كان تولستوي قد نسيه؛ فهذا الموقف ينطوي ضمنًا على إحساس بالتجرد من الشواغل العملية، ومن هنا فليس من المحتمل أن يؤثر الفن في الشخصية بنفس الطريقة التي تؤثر بها الدعوة الأخلاقية أو الإرشاد الديني؛ ذلك لأن الأخيرَين يتعلقان صراحة «بالحياة»، وبأفعال وسمات محددة للشخصية. ولما كانت للأخلاق والسياسة والدين أهمية عملية في نظر المشاهد، فإن الدعاية التي تقوم بها يمكن أن تدفعه إلى تحطيم الحواجز أو تغيير طريقته في الحياة … ولكن مثل هذا الالتزام غير موجود في الفن، ولو بدا العمل الفني موجَّهًا بوضوح في ميدان الأخلاق أو الدعاية لفقدنا اهتمامنا الجمالي به.
وأخيرًا فإن تولستوي يبالغ في تقدير قوة الفن؛ لأنه يتجاهل جميع القوى الأخرى التي تؤدي إلى التضامن أو التنافر الاجتماعي في العالم الحديث، إذ يبدو صحيحًا بصورة مؤكدة أن تأثير الفن في شئون الناس أقل بكثير من تأثير العوامل الاقتصادية والسياسية والعنصرية والدينية، سواء أكنا برحب بهذه الحقيقة أم نأسف لها، فمن الممكن تمامًا أن يتذوق شخص تشرب بالديانات الشرقية عملًا فنيًّا يعبر عن الإيمان المسيحي. أما أن يؤدي به ذلك التخلي عن عقيدته الموروثة فهذا أمر مختلف كل الاختلاف، وبالمثل فإن تولستوي يتجاهل مظاهر الكراهية العنصرية والمنافسات الاقتصادية التي تفرق بين الناس، والواقع أن رموزًا مثل الأعلام والشعارات والأنماط القومية هي ناقلة للانفعالات على نحو أقوى بكثير من الموضوعات الفنية، ولا بد لأي برنامج واقعي يرمي إلى تحقيق المثل الأعلى عند تولستوي، من أن يأخذ كل هذه العوامل التي أغفلها تولستوي بعين الاعتبار.
إن كتاب «ما الفن؟» سيظل واحدًا من أكثر الكتب غرابة في تاريخ علم الجمال والأخلاق … فاتجاهه خاطئ إلى أبعد حد في استبعاده للقيم الجمالية للفن، ومبالغته في قيمته الأخلاقية، ومع ذلك فهو وصية عجوز حالم أشبه بالقديس، يدعو إلى مجتمع فاضل للجميع.
(٢) الحياة لأجل الفن
إن شعار «الفن لأجل الفن» يساعد على إعادة التوازن الذي أخلَّ به أفلاطون وتولستوي؛ فالإصرار على أن الفنون «لا تخدم شيئًا على الإطلاق» هو تصحيح للاعتقاد بأن الفن أداة مفيدة للإصلاح الأخلاقي؛ إذ إنه يؤدي إلى عودة انتباهنا إلى القيمة الكامنة للفن الجميل.
وإلى هذا الحد نستطيع أن نعد «الفن لأجل الفن» دفاعًا عن التجربة الجمالية للفن. غير أن شعار «الفن لأجل الفن» أصبح يعني أكثر من ذلك، إذ أصبح يدل على طريقة كاملة في الحياة. وعند هذه النقطة يصبح نظرية من النظريات التي تندرج تحت موضوع «الفن والأخلاق».
•••
كان لأفلاطون وتولستوي فهمهما الخاص للحياة الفاضلة للإنسان. وهما يجعلان القيمة الجمالية للفن خاضعة لهذا المثل الأعلى. كذلك فإن عبارة «الفن للفن»، في معناها الأوسع، تحدد أيضًا معالم مثل أعلى للحياة، هذا المثل الأعلى يتسم ببساطة أشبه ما تكون بالطفولية، فالحياة الخيرة هي تلك التي نحيا فيها كل لحظة من التجربة بعمق وثراء، وهي بالتالي خير لمجرد ممارستها فحسب. ومن هنا فإن أنموذج الحياة الخيرة هو التجربة الجمالية، وهكذا تحول الآن شعار «الفن لأجل الفن» إلى «الحياة لأجل الفن»، أو على نحو أدق، الحياة المكرسة للاستمتاع الأصيل.
وإذن فقد حان الوقت الذي نذكر فيه أنفسنا بأن الحياة ينبغي أن تكون خيرة لمجرد أننا نحيا فيها. وهذا هو ما أعلنته حركة «الفن لأجل الفن» إزاء الحضارة الصناعية في القرن التاسع عشر. فمن الواجب أن نرى ونسمع بحماسة، وأن نحيا بحيوية وشعور دافق.
•••
لقد سلمت جدلًا، عند مناقشتِي لأفلاطون وتولستوي، بصحة مثلهما الأخلاقية العليا، ولكني حاولت أن أثبت أنهما يتجاهلان القيم الكامنة للتجربة الجمالية. أما في حالة النظرية التي نعرضها الآن، فإن هذه القيم بعينها هي التي تصبح المثل الأخلاقي الأعلى ذاته، فهل يمكن الاعتراض على هذا الرأي دون تناقض مع النقد السابق؟
فلنلاحظ أولًا أن باتر، في جملته الأخيرة المشهورة، يتحدث عن «لحظات» الحياة. فرأيه في الحياة يؤكد خيرية كل «لحظة» فردية؛ وهو يود أن يحشد «أكبر قدر من النبضات» في الحياة. ولما كان أنموذج الحياة جماليًّا، فإن كل لحظة تعد مستقلة منطوية على ذاتها. فإن كانت حيوية غنية، كانت قادرة على تبرير ذاتها.
وقد عبر سانتيانا عن هذه الفكرة بقوله:
وإذن فالأخلاق، بمعنى الاهتمام الحريص بالنتائج البعيدة المدى، لازمة لتجنب مثل هذه النتائج السيئة، وإنه لمن العقيم أن يحاول المرء استبعاد الأخلاق. وحين أقول ذلك، فإني لا أنكر الخير الكامن في التجربة الجمالية، بل إني قد أكدت ذلك مرارًا وتكررًا طوال هذا الكتاب … ولكن هذا لا يترتب عليه أن يكون الفن، كما قال «بل»، «بعيدًا عن متناول يد الداعية الأخلاقي». ومن الجائز أن أفلاطون وتولستوي أفرطا في تأكيد سيطرة الأخلاق على الحياة، وبذلك حرما التجربة من إثرائها وحيويتها، غير أن محاولة إعفاء الفن والتجربة الجمالية من كل إشراف أخلاقي إنما هي، ببساطة، استبدال لتعصب بتعصب آخر.
إننا لا نستطيع أن نتطلع إلى المستقبل عندما يكون اهتمامنا جماليًّا. وليس الدرس الذي نتعلمه من ذلك هو أن من الواجب عدم اتخاذ وجهة النظر الجمالية بأية حال — كما يريد الداعية الأخلاقي الصارم — بل هو أن الموقف الجمالي ليس هو الموقف الوحيد الذي ينبغي أن يواجه المرء به العالم.
•••
لقد كان حديثنا حتى الآن مُنصَبًّا على التوتر بين الطريقتين الأخلاقية والجمالية في الحكم على العمل الفني، وأود الآن أن أوضح نتائج هذا النزاع في الحكم على عنصر واحد من عناصر العمل، وهو الموضوع الذي يصوره العمل الفني.
وهناك عدة ردود ممكنة على هذه الحجة.
فمن الممكن أن يشار أولًا إلى أن الموضوع ليس عنصرًا واحدًا في العمل، وأن العمل الكامل هو الذي ينبغي أن يقدر ويحكم عليه جمالية، ولو حكمنا على أساس الموضوع وحده، لكنا أشبه بمن يتخذ الحياة الواقعية «أنموذجًا»، لأننا نتجاهل كل ما يجعل العمل موضوعًا جماليًّا متميزًا. وما أشبه ذلك بالقول إن ماكبث مجرد قصة عن عدد كبير من جرائم القتل، فمن الممكن تصوير الشر في عمل رديء وفي عمل عظيم.
على أن هذا النوع من الإجابة لا يؤثر في الداعية الأخلاقي كثيرًا؛ ذلك لأنه، على الرغم من أن أفلاطون قد انتقد الموضوع المحسوس والشكل لأسباب أخلاقية، كما أن تولستوي فعل هذا الشيء نفسه بالنسبة إلى التعبير الانفعالي، فإن موضوع العمل الفني هو ما يهم الداعية الأخلاقي قبل كل شيء؛ فالعناصر المحسوسة قد تكون بريئة أخلاقية؛ والشكل قد يكون جماليًّا «خالصًا» بالقدر الذي يتمناه أي واحد من أنصار النزعة الشكلية، ومع ذلك فإن قوام الموضوع هو طباع كائنات بشرية وسلوكهم، وتلك هي الأمور التي نصفها بأنها «خير» و«شر»، و«حق» و«باطل»، لذلك فإن لها علاقة واضحة بحياتنا غير الجمالية، ولو سلمنا بأن الفن يمكن أن يحكم عليه أخلاقيًّا على أي نحو، فعندئذٍ ينبغي أن نسلم بأن الموضوع الذي يعالجه العمل الفني مجال يصح للنقد الأخلاقي أن يتدخل فيه، أيا كانت طبيعة بقية العمل.
ولكن هناك مع ذلك فئتَين أخريَين للأعمال الفنية: هما تلك التي يقر فيها الشر ضمنًا، وتلك التي لا يدينه فيها ولا يقره.
وتثير الأعمال التي يصور فيها الفنان الرذيلة ولكنه يمتنع عن الحكم عليها مشكلة أكثر طرافة، فمثل هذا الفن هو في رأي الداعية الأخلاقي غير مفهوم، وقد يكون أسوأ من ذلك؛ فهو يصر على ضرورة إدانة الشر حيثما ظهر، وإلا لكان هناك تسامح مع الشر، وأدى ذلك حتما إلى تشجيعه.
وعند هذه النقطة تستشيط العقلية الجمالية غضبًا؛ فالداعية الأخلاقي، من وجهة نظر هذه العقلية الجمالية، لا يفهم وظيفة الفن؛ إذ ليس هدف الفنان هو أن يصدر حكمًا، بل إن هذا أمر ينبغي أن يترك للقاضي ورجل الدين. وإنما يحاول الفنان الإمساك بزمام التجربة والتعبير عنها بطريقة موحية، مؤثرة، صادقة. والواقع أن الفساد والرذيلة إنما هما جزء من العالم، فلهما إذن أهميتهما في ذاتهما، والفنان تستهويه شخصية الشرير، ودوافعه السوداء البغيضة، وربما استهوته الضخامة الهائلة للشر المتأصل فيه. وهو يحاول أن يندمج في الشر ويعبر عما ينبغي أن يكون عليه إحساس المرء إذا كان شريرًا.
هنا يرتفع مرة أخرى شعار «الفن لأجل الفن»؛ فالفنان ذو النزعة الجمالية «بمعزل عن الخير والشر»، وهو يتذوق المتعة الانفعالية المثيرة للخيال في التجربة وفي كل تجربة. أما الاعتبارات الأخلاقية فهي ببساطة خارجة عن الموضوع.
وقبل وقت كثير من محاكمة بودلير، أدين فلوبير على أساس أخلاقية «مدام بوفاري» (ومن الواضح أن عام ١٨٥٧م كان عامًا سعيدًا بالنسبة إلى خلفاء أفلاطون من الفرنسيين). ولقد قال البعض، دفاعًا عن الرواية، إن البطلة الزانية، على أي حال، ماتت ميتة أليمة سابقة لأوانها، ولكن هذا أمر خارج عن الموضوع في نظر حركة «الفن لأجل الفن»، فمن الممكن أن تقوم أعمال مماثلة بتصوير الشر وهو يعيش هنيئًا مدى الحياة. وإنما المهم هو أن فلوبير كان يحاول تصوير تصرفات شخصية مفرطة في الرومانتيكية، تشعر بخيبة الأمل، وتقيدها بيئة اجتماعية كئيبة من بيئات الطبقة الوسطى، وإنه لمن العسير أن نجد في الرواية أدلة على أنه كان يحمل على سلوك بطلته أو يقرها، بل إنه يبدو كما لو كان يقول «إن إما بوفاري هكذا» ويجعلنا نفهم مشاعرها ونشاركها إياها.
(٣) مطالب الفن ومطالب الأخلاق
للمفهوم الثاني الذي نستخدمه في هذا الفصل، وهو «الأخلاق»، معانٍ متعددة، وإذا شئنا أن نقوم بتحليل وافٍ لها، فإننا نحتاج إلى وقت يساوي على الأقل ذلك الذي كرسناه من قبل لتحليل «الفن». ومع ذلك، علينا أن نعترف بغموض هذا اللفظ؛ ذلك لأن الحل الذي سنأتي به لمشكلة هذا الفصل يتوقف على فهمنا للفظ «الأخلاق».
كذلك يبدو أن الفن والتجربة الجمالية، يقعان خارج المجال الأخلاقي؛ فنحن لا نتحدث عادةً عن الواجبات الفنية والجمالية كما نتحدث عن الواجبات المتعلقة بانتماء الفرد إلى أسرة، أو عقيدة، أو أُمة، فإذا قلنا إن الفنان «كان ينبغي عليه أن يستخدم وسيطًا آخر»، أو أنك «ينبغي أن تشاهد المسرحية»؛ فنحن لا نعتقد أن هذا استخدام أخلاقي للفظ «ينبغي»؛ ففي هذه الجمل يفتقر لفظ «ينبغي» إلى الطابع الصارم الحاسم الذي يتسم به لفظ «ينبغي» الأخلاقي، كما في قولنا «ينبغي أن تقول الصدق». وهكذا يبدو أن اللغة الجارية تبارك الانفصال بين الفن والأخلاق، ويبدو أنها تقول ضمنًا إننا، في مجال الفن والمتعة الجمالية، نستطيع أن نأخذ «إجازة أخلاقية»، وقد استخدم بعض المدافعين عن حركة «الفن لأجل الفن» هذا النوع من الحجج. فهم يقولون إن «الأخلاق تسري على أولئك المشتركين في أوجه النشاط اليومية المتعلقة بحياة الأسرة والنشاط الاقتصادي، ولكنها لا تسري على أولئك الذين لا يريدون أن يكون لهم شأن بأوجه النشاط هذه».
وهناك معنًى آخر للفظ «الأخلاقي» يرتبط بالمعنى الأول ارتباطًا وثيقًا، ويجعل الأخلاق معادلة لما يقره المجتمع. ويتضح مظهر الإقرار الاجتماعي في المكافآت والعقوبات التي تُعزَى إلى مختلف الأفعال وسمات الشخصية. وفي هذا المعنى بدوره يطالب المدافعون عن الفن بإعفائه من تطبيق شروط الأخلاق؛ فهم يدعون أن الفنان ينبغي ألا يقيد بما هو مألوف أو متواضَع عليه؛ ذلك لأن لديه بصيرة وجرأة، والفن يؤدي إلى الانطلاق والتحرر، لا إلى الجمود، بل إن الفنان قد يخالف الأخلاق التقليدية في سبيل أخلاق لها معنى مختلف أرفع من معناها العادي، أعني في سبيل مثل أعلى لا يشيع قبوله بعدُ في المجتمع، ولكنه أسمى من العرف السائد؛ فروايات ديكنز وتوماس هاردي تتحدى الأساليب القانونية والاجتماعية السائدة في أيامهما. وهناك روائيون أقرب عهدًا أخذوا يتشككون في أسلوب حياتنا بأسره؛ فالأخلاق، بمعنى «الإقرار الاجتماعي»، لا يمكنها أن تشرع للفن.
•••
فالأخلاق تنظم كل اهتمامات الإنسان، والفن واحد من هذه الاهتمامات. وهو لا يستطيع أن يطالب لنفسه بالحصانة من إشراف الأخلاق، أكثر مما يستطيع أي اهتمام آخر أن يطالب بمثل هذه الحصانة. وفضلًا عن ذلك، فالفن، كما أكد تولستوي، لا يمكن ممارسته إلا عندما يلبي الحاجات غير الفنية، من اجتماعية واقتصادية. ولما كانت أوجه النشاط هذه تحتاج إلى الأخلاق، فلا بد أن يكون الفن مدينًا لها؛ فالفن ينتفع من الأخلاق، وبالتالي فإن عليه التزامات لها.
•••
وأود أن أختم مناقشتي لهذا الموضوع بتقديم بعض الملاحظات في موضوع الرقابة، متخذًا من نظرية بري أساس لهذه المناقشة.
إن الحجج التي قدمها أفلاطون وبري، وعيوب نظرية «الحياة لأجل الفن»، تُظهِر على نحو قاطع، في رأيي، أن الفن لا يستطيع أن يطالب لنفسه بمركز مميز؛ فمن الواجب أن يُحكم عليه، ويُراقب، في ضوء تأثيراته في الحياة عامة، شأنه شأن كل نشاط بشري آخر؛ فإذا بلغ ضرر هذه التأثيرات حدًّا يطغى معه على لذة المتعة الجمالية، كان الضبط الاجتماعي في صورة الرقابة ضروريًّا. ويبدو لي أن هذا لا يعدو أن يكون مثلًا لمبدأ لا حاجة إلى التدليل عليه، ألا وهو أن القيم الأعظم لا ينبغي أن يُضحَّى بها في سبيل القيم الأدنى.
هذه النتيجة يسهل إثباتها، بل إن التعبير عنها أسهل، ولكن المشكلات المؤلمة بحق في الرقابة هي تلك المتعلقة بالتنفيذ، أعني متى ينبغي فرض الرقابة، وإلى أي مدى ينبغي استخدامها، وما هي طرق التنظيم المحددة التي ينبغي استخدامها.
ومن الواضح أن الاتجاه، في أي مجتمع ديمقراطي مثل مجتمعنا، ينبغي أن يكون مؤيدًا للفن وضد الرقابة؛ فالخلق الفني نوع حيوي من التعبير عن الذات، وهو بالنسبة إلى بعض الناس أمر لا غناء عنه لكي تكون الحياة سعيدة، ولا بد أن يكون إيماننا بالحرية شاملًا للحرية الفنية بقدر ما يشمل النشاط السياسي أو الديني، فأي عمل من أعمال الرقابة إنما هو حد من الحرية، وبالتالي فهو يتعارض مع واحد من أرفع مثلنا العليا، وقد تكون للرقابة تأثيرات لاحقة ضارة؛ فهي قد تخلق جوًّا من الرهبة بين الفنانين، يؤدي إلى إماتة الرغبة في الخلق لديهم، والأهم من ذلك أنها قد تمهد الطريق للتحكم السياسي في مجالات أخرى للحياة.
كذلك ينبغي أن نتذكر على الدوام أن أي عمل من أعمال الرقابة يجر وراءه خسارة، قد تكون خسارة كبيرة، في الاستمتاع الجمالي؛ فالتجربة الجمالية خير في ذاتها كأعظم ما يكون الخير، ولذا فإن حظر عرض عمل فني أو أداءه علنًا يحرمنا من فرصة الاستمتاع بالقيمة الكامنة فيه.
من هذه الأفكار نستنتج أن الرقابة في مجتمع مثل مجتمعنا ينبغي ألا يُلتَجأ إليها إلا نادرًا، وبحذر، وفي حالات الضرورة القصوى، ولكن لا يمكننا أن نستنتج من ذلك أن من الواجب عدم الالتجاء إلى الرقابة أبدًا.
ذلك لأن تأثير الفن يمكن أن يكون ضارًّا بقدر ما يكون نافعًا، وهناك طرق لا حصر لها يستطيع بها الفن أن يعمل على هدم السعادة الشخصية والاجتماعية؛ فهو قد يفسد الطبع، ولا سيما بين الصغار، إذ يوجه الدوافع نحو سلوك غير مشروع ومضاد للمجتمع، وهو قد يشكك في المثل العليا التقليدية ذات الضرورة الحيوية بالنسبة إلى النظام الاجتماعي؛ وفي أوقات الأزمات السياسية أو العسكرية، قد يكون الفن داعيةً إلى الفتنة أو التخريب.
والأرجح أن الضرر الأكبر يأتي من موضوع العمل الفني، وقد استمعنا إلى دفاع نصير الفن القائل إن الموضوع ليس إلا عنصرًا واحدًا في العمل الفني، وأن من الواجب ألا نفصل بينه وبين الكل. غير أن هذه حجة في صف التذوق والنقد الجمالي الواعي، ولكنا الآن نتحدث عن الوجه الأخلاقي للعمل، فمن الجائز أن يكون الجمهور الذي يشاهد العمل منتبهًا إلى الموضوع وحده، ومن الجائز أن يتأثر به تأثرًا ضارًّا؛ ذلك لأن عددًا كبيرًا من الناس يبدو، على أية حال، من أنصار نظرية «المحاكاة» دون أن يشعر بذلك، فإذا كانت تأثيرات مشاهدة الموضوع واضحة الضرر، فليس من المفيد أن نقول إن الجمهور لم ير العمل الفني على ما هو عليه في حقيقته؛ فالتأثيرات موجودة، وإذا ظل العمل الفني يعرض على الناس فسوف تتضاعف. وإنه لَيكون من المؤلم بوجه خاص أن يحظر العمل الفني في مثل هذه الظروف؛ إذ إن الخطأ خطأ الجمهور أكثر مما هو خطأ العمل ذاته، ولكنا رأينا أن كل رقابة تؤدي إلى الحظر مؤلمة، ومع ذلك فلا بد أن يكون هدفها هو مراعاة صالح الحياة في مجموعها.
والواقع أن ارتقاء الذوق الجمالي للجمهور ليس إلا واحدًا من العوامل التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، فإذا كان المرء يأخذ بوجهة النظر النسبية، فإن ممارسة الرقابة أو عدم ممارستها لا بد أن يتوقف على حقائق الموقف الخاص، وهذه الحقائق شديدة التعقيد في كل الأحوال تقريبًا، فليس من المحتمل أن تكون للعمل الفني، في ذاته وبذاته، تأثيرات تؤدي إلى الفتنة أو الفساد، وإنما الواجب أن ينظر إليه في ضوء المناخ العام للرأي الأخلاقي والسياسي والاجتماعي في ذلك العصر، وهكذا فإن الأعمال الفنية التي يمكن أن يسمح لها بأن تمضي دون تنظيم في فترة معينة من تاريخنا، قد يصبح من المشروع فرض الرقابة عليها في وقت آخر.
إن من الواجب عدم الالتجاء إلى الرقابة إلا إذا أظهرت حقائق الموقف، بقدر معقول من الوضوح، إن تأثيرات العمل يغلب عليها الطابع السيئ، وعلى ذلك فربما كان من القواعد العملية النافعة أن نقول إن الرقابة ينبغي ألا تفرض إلا بعد أن يكون العمل قد عرض على الجمهور، فعندئذٍ فقط يمكننا أن نحصل على أدلة تجريبية على ضرر العمل، وبهذه الأدلة وحدها نستطيع أن نبرر الحد من حرية الفنان والمشاهد، وبطبيعة الحال فإن تطبيق هذه القاعدة يترتب عليه خطر معين، هو أن الرقابة ستأتي متأخرة، بعد أن يكون الضرر قد وقع. غير أن هذه مخاطرة قد يكون علينا تحملها، وإن كان من الواجب أن نفعل ذلك عن وعي. أما الحل الآخر فهو ما يسميه القانون أحيانًا «القيد المسبق»، أي الرقابة قبل العرض العلني للعمل، وهنا تكون الأخطار أعظم، فعلى الرقيب أن يحكم على العمل قبل أن يكون قد وضع تحت اختبار الاستجابة الجمالية والتأثير الأخلاقي، وقد يكون تقدير هذا الرقيب للقيمة الجمالية للعمل أقل مما يستحق، على حين أن تقديره لأضراره الأخلاقية قد يكون أكبر مما يستحق، ولا بد أن تكون فرصة الخطأ أكبر بوجه خاص عندما يكون العمل بأسلوب أو قالب جديد غير مألوف، عندئذٍ تكون الرقابة مرتكزة على التخمين لا الواقع، وتحتاج إلى قدرة على التكهن والتخيل لا حد لها في الرقيب.
وهذا يؤدي بنا أخيرًا إلى السؤال الذي حيَّر الفئران التي أرادت أن تعلق الجرس في رقبة القطة، «فمن الذي سيقوم بهذا العمل؟» إن الرقيب المثالي هو ذلك الذي يجمع بين الاحترام العميق للحرية، والحساسية المرهفة للقيم الجمالية للفن، والتقدير الواعي لمصلحة المجتمع، ولكن، على الرغم من أني دافعت عن الرقابة، فإني أعترف بأن الرقباء الذين عرفهم التاريخ لا يعجبونني كثيرًا، من حيث هم فئة؛ فقد كانوا في كثير من الأحيان، بل ربما كانوا عادة أناسًا ضَيِّقي الأفق محدودِي الأذهان، هؤلاء الناس لم يفهموا مطالب الفن؛ بل إن بعضهم كان يزدري القيمة الجمالية تمامًا. والأسوأ من ذلك أنهم لم يكونوا أفضل فهمًا لمطالب الأخلاق على الإطلاق؛ فالأخلاق كانت في نظرهم شيئًا متحجرًا محافظًا إلى حد التطرف، وهم لم يدركوا الأهمية التي تنطوي عليها إعادة اختبار الأخلاق التقليدية وتحديها، وكثيرًا ما كانوا يخلطون بين تحيزاتهم الخاصة وبين الخير الأخلاقي؛ فهناك رقيب في إحدى مدننا الجنوبية الكبيرة كان في السنوات التي سبقت وفاته القريبة العهد، مشهورًا بقراراته الطائشة اللامعقولة، وكان يرفض عرض الأفلام التي تصور سرقات القطارات؛ لأنه هو ذاته كان في شبابه عاملًا في السكك الحديدية، وقد ضربت في هذا الفصل من قبل أمثلة أخرى مشهورة لحماقات الرقابة، هي اضطهاد اثنين من أعظم الأعمال الفنية في القرن الماضي، وهما «مدام بوفاري» و«أزهار الشر»، ولكن الرقابة ربما كانت أغبى ما تكون عندما تلفت الأنظار إلى أعمال لو لم يكن الرقباء قد أثاروا حولها ضجة لما التفت إليها أحد عندئذٍ تهدم الرقابة نفسها بنفسها؛ إذ إنها تخلق اهتمامًا شعبيًّا بأعمال ضارة أخلاقية، وعندما يكون هذا الاهتمام كبيرًا بما فيه الكفاية فإنه يستطيع عادة أن يجد سبلًا للتحايل على القانون.
إن مشكلة اختيار الرقباء مشكلة هامة وعويصة، غير أنها ليست مستعصية، وهي لا تختلف كثيرًا، عن مشكلة اختيار القضاة؛ فهم بدورهم ينبغي أن يجمعوا بين النزاهة والبصيرة والتعاطف، ولكن هناك بالفعل أناسًا على هذا النحو، ونحن نعرف من هم؛ فأسماؤهم تبرز في تاريخ نظامنا القضائي، كذلك كان هناك قضاة كانت قراراتهم متحيزة، أو ما هو أسوأ من ذلك، ونحن نعرفهم على ما هم عليه. وإذن فليس ثمة جدوى تذكر من المناقشة القائلة إننا لا نستطيع أبدًا أن نجد أي شخص يصلح ليكون رقيبًا. إن وظيفة الرقيب صعبة، ومن الممكن إساءة استغلالها سعيًا وراء السلطة الشخصية أو الكسب، ومع ذلك فإن الديمقراطية الناجحة لا بد أن تنتج أناسًا قادرين على أداء هذا العمل بكفاءة، ولو وصل أي مجتمع ديمقراطي إلى النقطة التي يعجز فيها عن إنتاج أناس كهؤلاء، لكان يواجه مشكلات أخطر بكثير من مشكلة الرقابة في الفن.
•••
وهنا نجد اهتمامًا بالنتائج لا يقل عما يرغب فيه أي داعية أخلاقي. فمقصد الفنان شيء وهو ما لم يتجاهله القاضي وولزي وتأثير العمل من حيث نتائجه شيء آخر، وهو ما لم يكن من الممكن تجاهله بالأحرى، وذلك إذا حكمنا على الأمر على أساس الدور والمهمة التي قام بها القاضي وولزي.
ولعلكم تعرفون أن يوليسيز تُقرَأ الآن على نطاق واسع في الكليات، وبين الجمهور المثقف.
إن مشكلة التوفيق بين مطالب الفن ومطالب الأخلاق هي، على أحسن الفروض، شديدة الصعوبة، وهي تكاد تبدو مستعصية في بعض الأحيان، ولكني أعتقد أنه لو كان كل الرقباء على مستوى القاضي وولزي، لأمكن حلها بكل ما نأمل من تعقل وإنصاف.
المراجع
ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص٣٣٥-٣٥٦، ٥٢٧–٥٧١.
فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٤٨٣–٥٨٣.
جوتشوك: الفن والنظام الاجتماعي، الفصلان ٩، ١٠.
مري، ج كورتني: الأدب والرقابة، ٣٤٩–٣٥١ (مقال).
بري، رالف بارتون: الاقتصاد الأخلاقي، الفصلان الأول والخامس.
أفلاطون، الجمهورية، الكتب ٢–٤، ١٠.
ريدر، ملفين: «الفنان بوصفه دخيلًا»، ص٣٠٩–٣١٨ (مقال).
ريد: دراسة في علم الجمال، الفصل الحادي عشر.
تولستوي: ما الفن؟
أسئلة
-
(١)
لنفرض أنك تقر المبدأ القائل إن الرقابة يمكن في بعض الأحيان تبريرها أخلاقيًّا، فهل تستطيع أن تجد أية أمثلة محددة للرقابة في تاريخ الفن تعتقد أنه كان لها ما يبررها في ظروفها الخاصة؟ (ابحث بالتفصيل الحالات المذكورة في هذا الفصل، أو أية حالات أخرى). فإذا لم تجد أية أمثلة، فهل يترتب على ذلك أن من الواجب التخلي عن الرقابة حتى من حيث المبدأ؟
-
(٢)
هل تعتقد أن للفنان الحق في الامتناع عن عرْض عمله بعد تقديمه إلى الجمهور؟ وأي الأسباب تبرر هذا التصرف في رأيك؟ وهل تظل هذه الأسباب سارية إذا اتضح أن الجمهور يقدر العمل الفني تقديرًا رفيعًا؟ وهل هناك، عمومًا، أية اختلافات هامة بين امتناع الفنان عن عرض العمل وبين الرقيب الذي يعمل باسم المجتمع؟
-
(٣)
هل تستطيع أن تجد أمثلة لأعمال فنية يعبر فيها الفنان عن موافقته على ما يعتقد أنه شر؟ وهل تُعَد هذه الأعمال أدنى مرتبة على الدوام من الوجهة الجمالية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يرجع هذا إلى ما يسميه بوزانكيت «ضعفًا في المشاهد»، أي عدم قدرتنا على إدراك هذه الأعمال «بتعاطف» جمالي؟
-
(٤)
قارن بين هذه القضايا:
«زيد لا أخلاقي.»
«هذا السلوك لا أخلاقي.»
«هذا العمل الفني لا أخلاقي.»
كيف تختلف هذه القضايا في المعنى؟ وهل القضية الثالثة تستخدم لفظ «لا أخلاقي» استخدامًا مجازيًّا؟
-
(٥)
«إن الشيء الوحيد المفيد الذي يستطيع المجتمع أن يفعله للفنان هو أن يتركه وشأنه، ويمنحه الحرية …» (بل Bell: الفن، ص٢٥٢).
هل يستطيع المجتمع أن يفعل للفنان شيئًا أكثر من ذلك؟ ناقش.
ملحوظة للمترجم: قمنا في هذا الهامش، وفي بضعة هوامش سابقة، بتصحيح إشارة المؤلف إلى الترقيم الموحد لمحاورة الجمهورية؛ إذ إنه اعتمد على ترجمة كورنفورد التي لا تحدد بداية صفحات هذا الترقيم ونهايتها، فكانت النتيجة خطأ المؤلف في بعض إشاراته.
John Wilcox, “Beginnings of L’art pour Part,” J. of Ae. and Art Cr., XI (1953), pp. 30–36.
Sidney Zink, “The Moral Effect of Art,” in Vivas and Krieger, op. cit., p. 556.