أنواع النقد
كنا حتى الآن نتحدث عن وظيفة واحدة فقط للنقد، وهي وظيفة الحكم أو التقدير، أي الاهتداء إلى مبررات تؤيد حكم القيمة. غير أن للنقد وظائف أخرى.
فهو يحاول أن يفسر أو يوضح العمل الفني؛ فقد يفسر الناقد للقارئ الذي لا يعرف اللغة الاسكتلندية معنى الكلمات التي وردت باللهجة المحلية في شعر الحب عند روبرت بيرنز؛ وقد يفسر الإشارات التاريخية في رواية؛ وقد يفسر معاني الرموز؛ وقد يتتبع البناء الشكل ويكشف عن دلالته التعبيرية؛ وقد يصف، من خلال «تذوقه» للعمل، التأثير الذي ينبغي أن يكون لهذا العمل في المدرك، ومن المؤكد أن إيضاح معنى العمل وبنائه من أهم أغراض النقد، بل إن بعض النقاد في الآونة الأخيرة — كما سنرى فيما بعد — يرون أنه أهم من التقدير. وسوف أطلق على هذه الوظيفة اسم الوظيفة «التفسيرية» للنقد.
•••
فكيف يرتبط النقد التفسيري بالنقد التقديري؟
ومع ذلك فإن العلاقة بين النقد التقديري والنقد التفسيري ليست على هذا القدر من البساطة. فهاتان الوظيفتان النقديتان تمتزجان وتؤثران كلٌّ في الأخرى. ومن الواجب ألا يؤدي بنا التمييز الذي وضعناه بينهما إلى إغفال حقيقة ما يقوم به النقاد بالفعل. فلو قلنا إن الناقد يبدأ أولًا بالإجابة عن السؤال «ما هو؟» ثم ينتقل إلى «ما قيمته؟» لكان في هذا تشويه لما يحدث فعلًا في مجال النقد.
إن التفسير لا يحدث في فراغ، بل إنه يندمج بسهولة في التقدير. فعندما نقول ما «هو» العمل، نكون أيضًا قد حددنا، بطريق مباشر أو غير مباشر، رأينا في العمل من حيث هو موضوع جمالي، وبذلك نكون قد وصفنا نوع القيمة التي تكون للعمل بالنسبة إلى المشاهد، ودرجة هذه القيمة، والواقع أن القليل، نسبيًّا، من النقد التفسيري هو «المتحرر من القيمة». ومعظم الألفاظ التي نستخدمها في وصف «ما هو عليه» لها معانٍ مرتبطة «بما هو جدير به». فلنفرض أننا نصف قطعة من الموسيقى بأنها «خفيفة»، أو — في الطرف الآخر — «عميقة». أو لنفرض أن ناقدًا يقول هذا العمل ليس تراجيديًّا، وإنما هو مجرد «ميلودراما». مثل هذه الألفاظ تقوم بمهمة «الوصف»، ولكنها أيضًا تقويمية ضمنيًّا.
وعلى العكس من ذلك فإن إحساس الناقد بالقيم يؤثر عادة في تفسيراته؛ فهو يقبل على العمل بمعتقدات تتعلق بما ينبغي أن «يستخلصه» من هذا النوع من العمل؛ وهذه المعتقدات تحدد ما سيبحث عنه في العمل، وبالتالي كيف سيقرؤه، وتؤدي به ميوله المزاجية والانفعالية إلى أن يرى في العمل أشياء يتجه غيره من النقاد إلى تجاهلها أو تفسيرها على نحو مختلف.
إن العمل الفني مشحون بالقيم. ومن هنا فإننا عندما نتحدث عنه، تتداخل المسائل الواقعية والتقويمية، وهذا يتجلى في كل قطعة من الكتابة النقدية تقريبًا، ومع ذلك فإن التمييز بين النقد التقديري والنقد التفسيري هو تمييز هام؛ إذ إن لهما، على الرغم من تلازمهما، أغراضًا مختلفة كل الاختلاف، وسوف نرى في هذا الفصل فيما بعد ما يترتب على تجاهل التمييز بينهما من خلط.
•••
إن من الممكن القيام بالتقدير والتفسير على أنحاء كثيرة متباينة. وسوف ندرس فيما بعد في هذا الفصل بعضًا من الأنواع الرئيسية للنقد، يستخدم كل منها مناهج متميزة، هذه الأنواع تنبهنا إلى جوانب متباينة من الفن، فبعضها يؤكد أصول العمل، أي عملية الخلق، والمجتمع الذي كان يعيش فيه الفنان؛ وبعضها الآخر يهتم أساسًا بتأثيرات العمل في الشخص الذي يدركه، وغيرها يركز اهتمامه كله في البناء الباطن للعمل.
إننا نستطيع أن نتعلم من كل نوع من النقد، ولكن من الواجب أن نشترط على كل من هذه الأنواع أن يستخدم معايير للتقدير يمكن استخدامها عمليًّا، وأن يبقي على العمل الفني، في تفسيره له، ضوءًا وضَّاحًا.
(١) النقد بواسطة «القواعد»
لا بد لتقدير العمل الفني من معايير للقيمة. فإذا لم يكن الناقد يكتفي بوصف مشاعره فحسب، فلا بد له من فحص خصائص العمل ذاته. غير أنه لا يستطيع أن يدافع عن تقديره إلا إذا استطاع أن يثبت كيف تؤدي هذه الخصائص إلى جعل العمل جيدًا، وبأي الدرجات تؤدي إلى ذلك — وإذن فلا بد أن يكون لديه معيار يعرف به الجودة الفنية ويقيسها؛ هذا المعيار قد يكون هو «مشابهة الواقع» أو «النبل الأخلاقي» أو «القوة الانفعالية»، وبدون هذه المعايير، لا يستطيع أن يدعم حكمه؛ وبدونها أيضًا لا نستطيع نحن أن نفهم السبب في إصداره هذا الحكم.
هذه المعايير تبين، بوجه عام، إن كان العمل جيدًا «في نوعه». فهي تقيس القيمة، لا في العمل المحدد فحسب، بل أيضًا في أعمال أخرى مشابهة له. فنحن نرى أنه عندما تسمى المسرحية «تراجيديا» أو «كوميديا»، فلا بد أن تتوافر فيها صفات شكلية وتعبيرية معينة، يتميز بها ذلك النوع الأدبي. وعندما يصنع نحات تمثالًا لغرض اجتماعي معين، مثل تخليد ذكرى حادث تاريخي، فلا بد أن يكون عمله مرتبطًا بالتراث الاجتماعي، وأن يسهل تذوقه على كل أفراد المجتمع، وهكذا، وبالمثل توجد معايير للسوناتا أو «الفوجية» المحكمة البناء.
غير أن كل شيء، في نقد عمل بعينه، يتوقف على طريقة تطبيق هذه المعايير. فإذا طبقت بطريقة جاهلة، بطل النقد التقديري، وطاش النقد التفسيري عن هدفه.
•••
•••
ولكي ندرك الأخطاء التي ارتكبها ريمر، ننتقل إلى الكلام عن شخصيات أخرى عظيمة في مجال النقد خلال الحركة الكلاسيكية الجديدة.
فمن الممكن كسر هذه القواعد، إذا ترتب على ذلك وصول العمل «إلى شغاف القلب، وبلوغه غايته كاملة»، ولقد كان ريمر يحكم على العمل دون بحث تأثيره في القارئ. أما بالنسبة إلى بوب، فإن «الغاية» الجمالية للعمل هي التي تهمنا؛ فالعمل يكون قد حقق هدفه عندما «تبعث سورة الانفعال الحرارة في الذهن». وفضلًا عن ذلك فإن ريمر لم يكن يحكم، في تطبيقه لقواعد «النمط»، و«الوحدة» … إلخ، إلا على أجزاء من العمل، وهو يبحث في هذه الأجزاء — مثل طريقة تصوير الشخصيات، والقالب … إلخ — منفصلة. غير أن من المحال الحكم على جودة الأجزاء أو رداءتها بطريقة واعية إلا إذا فهمنا كيف تؤدي وظيفتها داخل العمل بأسره، وهكذا يقول بوب إن من واجبنا أن نبحث في «القوة المشتركة والنتيجة الكاملة للكل».
إن بوب يذكرنا بما نسيه ريمر. فلا بد أن يُقرأ العمل ويقدر بطريقة جمالية. ولهذا السبب أكَّد بوب أهمية التأثير الجمالي أو «الغاية»؛ ولهذا أيضًا ركز اهتمامه على العمل الكامل — إذ إن الإدراك الجمالي يدرك العمل من حيث هو وحدة، ولا يحلله إلى أجزاء؛ ولهذا — أخيرًا — حثَّ النقاد على أن يراعوا دائمًا مقصد الفنان.
وفي مرحلة متأخرة من القرن الثامن عشر، شنَّ الدكتور جونسون حملة تفصيلية عنيفة على النقد بواسطة القواعد، ولقد كان هو ذاته، مثل بوب، لا يزال ملتزمًا بتراث الحركة الكلاسيكية الجديدة. غير أن جونسون فضح عيوب هذه الحركة بطريقة كانت فعالة إلى حد أنها سددت ضربة قاصمة إلى هذا التراث، وأصبح من الواضح، في نهاية القرن، أن هذه الحركة كانت متجهة إلى الاضمحلال.
ولقد رأينا كيف التجأ ريمر إلى القواعد في نقده لتراجيديات شيكسبير. أما جونسون، فإنه يوجه إليه لومًا عنيفًا.
•••
فما هي النتائج التي يمكننا استخلاصها من هذه المناقشة؟
من المؤكد أن هذه النتائج ليست هي أن النقاد ينبغي أن يستغنوا تمامًا عن القواعد، فلا بد أن تكون لدينا معايير لما هو جيد وما هو رديء إذا شئنا أن نقوم بأي تقدير للفن، كذلك فليس المقصود من مناقشتنا أن قواعد الحركة الكلاسيكية الجديدة هي، ببساطة، قواعد محرفة. فلو كانت كذلك، لما ظلت سائدة في ميدان النقد خلال تلك الفترة الطويلة، وإنما الأصح أن لكل من هذه القواعد أهمية معينة؛ «فالوحدات الدرامية» تؤكد أهمية التركيز والتكثيف الدرامي؛ ذلك لأن اهتمام المشاهد كثيرًا ما يتشتت عندما تكون هناك تغيرات كثيرة في الزمان والمكان، وعندما لا تكون أحداث المسرحية مترابطة بعضها مع البعض، وقاعدة «نقاء النمط» تذكرنا بأن الخلط بين عدة أساليب واتجاهات كثيرة ما يحدث تخلخلًا في العمل الفني، وأخيرًا فإن قاعدة «النمط» النفسي مستمَدة من نظرية «الماهية»، وهي من أدق النظريات الفنية وأهمها.
وإذن، فليس عيب النقد الذي كان يوجهه ريمر هو مجرد استخدامه لقواعد، أو استخدامه لقواعد الحركة الكلاسيكية الجديدة، بل إن العيب هو أن القواعد تطبق بطريقة آلية عمياء. ومن ثَم فإن الناقد يكون عاجزًا، نتيجة لاتباع هذا المنهج، عن تذوق قيمة العمل، ويطيش نقده، سواء أكان تقديريًّا أم تفسيريًّا، عن الهدف تمامًا.
وعلى الرغم من أن بوب وجونسون لم يستخدما هذه الألفاظ، فإنهما كشفَا بوضوح عن أن المعايير ينبغي أن تكون ملائمة من الوجهة الجمالية، فقبل أن يتمكن الناقد من الحكم على العمل، ينبغي أن يكون لديه إحساس بما يحاول العمل أن يحققه في تجربة القارئ. وما لم يفهم الناقد «غاية» العمل ويحترمها، فإنه يسيء تفسير «الوسائل» والحكم عليها.
ويترتب على ذلك أن النقد ينبغي أن يبدأ على الدوام باستجابة جمالية يشعر بها الناقد، وربما لم يكن الوصف الصحيح لريمر هو أن إدراكه الجمالي باطل، وإنما هو أنه لم يدرك المسرحية جماليًّا على الإطلاق، ولو كان قد أدركها جماليًّا، لكان من الجائز أن يشعر بقوة العمل، ولكان أكثر ترددًا في تطبيق قواعده؛ «فالغاية» الجمالية، التي ينبغي أن تحكم العملية النقدية بأسرها، لا يمكن أن تتكشف إلا للإدراك الجمالي.
(٢) النقد السياقي
يشمل «سياق» العمل الفني الظروف التي ظهر فيها العمل، وتأثيراته في المجتمع، ويشمل بوجه عام جميع العلاقات والعلاقات المتبادلة بين العمل وبين الأشياء الأخرى، باستثناء حياته الجمالية؛ فالإدراك الجمالي يتركز على العمل مأخوذًا على حدة. غير أن العمل، إذا ما نظر إليه بطريقة غير جمالية، كان يوجد في سياق؛ فقد ابتدعه إنسان كانت له سمات نفسية معينة. وكان هذا الإنسان يعيش في مجتمع لا بد أن نظمه وقيمه أثرت في تفكيره وكيانه، وكانت له انتماءات سياسية واقتصادية وعنصرية، وفضلًا عن ذلك فإن العمل، بمجرد أن ينشر أو يعرض، تكون له تأثيرات في الحياة الشخصية والاجتماعية، وللعمل تأثير أخلاقي، كما أكد أفلاطون وتولستوي، فمن الممكن استخدامه لأغراض الإصلاح الاجتماعي، ومن الممكن أن يغير تفكير جمهوره واتجاهاته.
•••
غير أن النقد السياقي لم يمارس أبدًا بذلك النطاق الواسع والنجاح اللذين مُورِس بهما في الأعوام المائة الأخيرة، بل إن ظهور النقد السياقي ونموه قد يكون أبرز تطور في تاريخ النقد منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد تمكن السياقيون عن طريق استخدام مفاهيم وأساليب جديدة في التحليل، من الإتيان بقدر ضخم من المعلومات عن الفن، وطبقوا مناهجهم على الفن الكلاسيكي، فضلًا عن المعاصر، وألقوا الضوء على وقائع لم يسمع بها أحد من قبل؛ ففي الماضي كان الفن يُعَد نتاجًا «للجنون» أو «الإلهام»، ومن هنا كان الفن يُعَد بمنأًى عن الدراسة الواقعية. أما النقاد السياقيون فينظرون إلى الفن على أنه ظاهرة تجريبية ضمن ظواهر أخرى، فمن الممكن أن يُدرَس كما تُدرَس الظواهر الفيزيائية أو التاريخ البشري أو النشاط الاقتصادي، ويدل النجاح الذي أحرزته أبحاثهم على صحة موقفهم، فالنقد السياقي في الأعوام المائة الأخيرة هو، في ذاته، واحد من أعظم المنجزات العقلية.
ولن يتسع المقام هنا إلا لعرض موجز للأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور النقد السياقي ونموه.
وهناك سبب آخر أكثر تخصصًا، أدى إلى ظهور السياقية في ميدان النقد الفني على التخصيص؛ فقد كان كثير من مفكري القرن التاسع عشر يريدون أن يجعلوا النقد «علميًّا»؛ ذلك لأنهم كانوا، من جهة، معجبين بدقة العلوم الطبيعية ويقينها، وكانت الحركة المسماة «الوضعية» تشيد بالعلم بوصفه أرفع منجزات العقل البشري. ومن جهة أخرى فقد راعتهم ذاتية الأحكام النقدية، وهي الذاتية التي بدت ميئوسًا منها، كما راعتهم الخلافات التي لا تنتهي بين النقاد. ولو أمكن دراسة الفن علميًّا، أي سياقيًّا، فربما أصبح التقدير بدوره، عندئذٍ، علميًّا في نهاية الأمر.
وفي الوقت ذاته كان يجري تطور عقلي يبشر بتحقيق هذا الأمل؛ فالعلوم الاجتماعية، ولا سيما علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الحضارية والاقتصاد وعلم النفس، كانت عندئذٍ في صعود؛ وكانت تستكشف السلوك الفردي والمجتمع بطريقة علمية، وتحرز في ذلك نجاحًا مذهلًا في بعض الأحيان؛ فقد درست ظواهر، كالعمليات العقلية، كانت تُظن غامضة، وظواهر أخرى كالدين بوصفه نظامًا اجتماعيًّا، كانت تُعد محرمة، فلِمَ لا يدرس الفن على النحو نفسه؟
وما زالت هذه الدوافع التي تشجع على النقد السياقي حية إلى حد بعيد في أيامنا هذه، بحيث يأخذ الباحثون المعاصرون على عاتقهم تلك المهمة التي تطلع إليها المفكرون منذ قرن من الزمان.
وسوف ندرس في هذا القسم بعض المدارس الكبرى للنقد السياقي.
•••
يُعد كارل ماركس أبًا لمدرسة معينة من مدارس النقد السياقي. غير أن تفكيره قوة كبرى في تطور النقد السياقي بوجه عام؛ ذلك لأن ماركس من الشخصيات الكبرى في الحركة التي اتجهت إلى دراسة جميع النظم في المجتمع، وضمنها الفن، بطريقة علمية.
والمجتمع، في رأي ماركس، ليس مجموعة متباينة من النظم، أعني الحكومة والتعليم، والحياة العائلية، والدين، والفن … إلخ، بل إن هذه كلها تشترك في مجموعة معينة من القيم، أو في «أيديولوجية». فليس من قبيل المصادفة أن يوجد نوع معين من التنظيم العائلي في حضارة معينة إلى جانب شكل معين من أشكال الحكم والنظام القضائي؛ ذلك لأن أوجه النشاط هذه تندرج، في رأي ماركس، تحت إطار واضح، معقول؛ لأنها كلها تعبر عن أيديولوجية العصر.
ومن الممكن أن تدرس الأيديولوجية بدورها دراسة علمية؛ فأكثر النظم في المجتمع أساسية هو النظام الاقتصادي، أي أن نظام ملكية وسائل الإنتاج والتبادل هو مصدر الأيديولوجية، وهو يؤثر في جميع النظم الأخرى. ومن هنا كانت النظرية الماركسية تُسمَّى «حتمية اقتصادية»؛ فقد رأى ماركس أن فهم ديناميات النشاط الاقتصادي يتيح لنا فهم تركيب المجتمع، ويمكننا من التنبؤ بمجرى التغير الاجتماعي.
أما التحديد الدقيق للطريقة التي يرتبط بها العامل الاقتصادي بالجوانب الأخرى للمجتمع في رأي ماركس؛ فهو مسألة تفسيرية عسيرة، لا يتسع المقام هنا لخوضها؛ فلو كان ماركس قد قال إن العامل الاقتصادي هو السبب الوحيد والكافي الذي يجعل النظم الأخرى على ما هي عليه، لكان من الواضح أن نظريته غير مقبولة؛ فهذا الرأي ينطوي على تبسيط مفرط، ولا توجد أدلة تؤيده، ومن المهم أن نرى لماذا كان هذا الرأي على خطأ في حالة الفنون الجميلة، على الرغم من أن الانتقادات نفسها تصلح أيضًا في حالة مناقشة نظم الحكومة، والحياة العائلية … إلخ.
فمن الملاحظ أولًا أن الفن يتأثر بقوى أخرى في المجتمع غير العامل الاقتصادي؛ فالأفكار الأخلاقية للعصر، ونظرته الكاملة إلى العالم أو إلى الحياة، ومستوى الثقافة والذوق، والمعتقدات الدينية السائدة — كل هذه العوامل وكثير غيرها، يمكن أن تترك طابعها على الفنان، وبالتالي على أعماله، ولكن الأهم من ذلك أن أهم العوامل التي تجعل العمل الفني على ما هو عليه هي عوامل تنتمي إلى مجال الفنون الجميلة وحده؛ فالفنون الجميلة، بما هي كذلك، لم تكن لتوجد لولا وجود وسط، وقوالب، وأساليب فنية، ولا يوجد لهذه الأخيرة مقابل خارج الفن، بل إن لها حياة ودلالة خاصة بها في نظر الفنان، وهي تفرض حدودًا على نشاطه الخلاق، كما توحي بالاتجاه الذي ينبغي أن يتخذه هذا النشاط.
وهي تُغيَّر أو تُستبعَد تلبية لحاجات فنية، وليس في استطاعتنا أن نفهم تاريخ الفن ما لم نفهم الأسباب الفنية المتخصصة، التي تؤدي إلى تطور مختلف الأساليب والتقاليد الفنية.
ذلك أولًا لأن المشكلات الاجتماعية الحيوية للعصر الذي يعيش فيه الفنان تحفزه على الخلق، ولقد كان ماركس يرى أن جميع المجتمعات تنقسم إلى طبقات، على أساس اقتصادي؛ فهناك صراع لا يتوقف بين المسيطرين على الثروة الاقتصادية وغير المسيطرين عليها. ويولد صراعهما توترات في جميع مجالات الحياة، ويؤدي إلى تغيرات سياسية وقانونية، وإلى عدم استقرار اجتماعي. وهو يؤدي أيضًا إلى خلق الفن؛ فالفنان، شأنه شأن أي فرد آخر في المجتمع، داخل في هذا الصراع؛ فهو قد يرتبط بالقوى الثورية في ميدان الاقتصاد، أو قد يكون متحدثًا باسم النظام القديم وفي كلتا الحالتين يكون أصل عمله، والعامل الذي يحدد اتجاه هذا العمل، هو الديناميات الاجتماعية لعصره.
•••
ما مدى سلامة هذه النظرية بوصفها أساسًا للنقد الفني؟
إن جزأها الأول، الذي يصف الدوافع إلى الخلق، ليس أساسًا للنقد على الإطلاق؛ فالعامل الذي يدفع الفنان إلى الخلق يخرج عن نطاق العمل الفني ذاته، وقد يكون هو الاندماج في الصراع الاجتماعي، ولكنه قد يكون أيضًا الرغبة في كسب المال، أو خطب ود المحبوبة؛ فهذه مسألة متعلقة بالدراسة النفسية للخلق الفني، أو بالسيرة الذاتية للفنان.
ولو نظرنا إلى الرأي الماركسي على أنه نظرية في الخلق فحسب، لكان فيه بالتأكيد قدر من الحقيقة؛ فمن الواضح أن بعض الفنانين كانت تتملكهم مشاعر التمرد الاجتماعي، ولكن هل كانت المظالم التي يحملون عليها اقتصادية في أساسها؟ لقد كانت كذلك في بعض الحالات، كما هي الحال في الروايات «البروليتارية» في الثلاثينات من هذا القرن، غير أن الفنان، في حالات أكثر جدًّا، لم يكن ينظر إلى المشكلات الاجتماعية من خلال عوامل اقتصادية خالصة، ومن هنا فإن المار كسي يحاول أن يثبت أن المشكلات الاجتماعية، في كل هذه الحالات، كانت جذورها متغلغلة في الصراع الاقتصادي، وعلى الرغم من أن إمكان إثبات ذلك أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد، فقد حاوله الماركسيون في تحليلاتهم للفنانين التقليديين.
من الواضح إلى حد بعيد أن هناك أعمالًا فنية عديدة لا تسري عليها مقولات التحليل الاجتماعية الاقتصادية، ففي استطاعتنا أن نقول، عن حق، إن هايدن كتب سيمفونيات متعددة لراعيه الأرستقراطي. غير أن هذه الحقيقة خارجة عن مجال الموسيقى، بل إننا قد نقول — وإن كانت الأرض التي نرتكز عليها في هذه الحالة أضعف بكثير — إن موسيقى هايدن «تعكس» رشاقة المجتمع الأرستقراطي وتأنقه. أما إذا شئنا أن نقول أي شيء أدق وأكثر تفصيلًا عن الموسيقى، فسوف يتعين علينا أن نبدأ الكلام بلغة «الموسيقى»، فعندئذٍ ينبغي أن نصف الأوركسترا الذي كتبت السيمفونيات من أجله، وطريقة هايدن في استخدام قالب السوناتا، والمرح والرقة اللذين تعبر عنهما الموسيقى.
أما الموسيقى «الخالصة» فهي أوضح الأمثلة على ما نقول، والواقع أن هناك أعمالًا في جميع الفنون لا تسري عليها مفاهيم النقد الماركسي، ولو كان الماركسي يعترف بالحدود التي لا تتعداها نظريته، لسلَّم بهذه الحقيقة، غير أن هناك ماركسيين يحاولون تطبيق مذهبهم حتى على هذه الأعمال. عندئذٍ يترتب على ذلك حدوث أحد أمرين:
أما وصف نوع من الموسيقى بأنه «برجوازي» فكلام لا معنى له على الإطلاق. وكل ما يمكن أن يعنيه هو أن تلك الموسيقى تؤلف وتعزف في بلاد توجد فيها نظم رأسمالية برجوازية، ولكن هذه لا تعدو أن تكون حقيقة سياقية عن الموسيقى وهي تدل على ما هو موجود في الموسيقى، فمفهوم «البرجوازية» لا جدوى منه في التحليل الفني، شأنه شأن أي مفهوم آخر غير مرتبط بالميدان الجمالي.
والواقع أن الخطأ الذي تقع فيه الماركسية في هذا الصدد، هو نفس العيب الكامن في كل نقد سياقي، أي أن المفاهيم الأساسية فيها هي بالضرورة أضيق من أن تفي بأغراض النقد الفني.
إن صاحب النظرية السياقية يتجه بطبيعته إلى الاهتمام بما يقع خارج نطاق العمل الفني، أي بالتركيب الاقتصادي للمجتمع مثلًا. وهو يستطيع الكلام في هذا الموضوع بعبارات تاريخية واجتماعية ونفسية … إلخ. وعندما ينتقل إلى العمل ذاته، يستخدم نفس العبارات، ومن هنا لم يكن في استطاعته أن يتحدث إلا عن عناصر العمل، المستمدة من «الحياة» أو المشابهة لها؛ فالناقد الماركسي يهتم بالموضوع الذي يعالج العمل، و«بالأفكار» التي يعبر عنها، وهذه يمكن أن تناقش بلغة اجتماعية واقتصادية. غير أن ما يسميه الماركسي، دون تمييز، بالعناصر «الشكلية» في العمل، لا يمكن أن يناقش بهذه اللغة، وعلى ذلك فإن جهازه النقدي محدود بدرجة لا أمل فيها.
وفضلًا عن ذلك، فإن المظالم الاجتماعية أو الصراع الطبقي إذا اندمجَا في العمل بوصفهما «مضمونًا» له، فإنهما لا يكونان عنصرَين مستقلَّين؛ فالمضمون والشكل يتبادلان التأثير، والمشكلة أو «الفكرة» الاجتماعية لا تصبح في داخل العمل نفس ما هي عليه وهي خارج العمل، وإنما تتحول عن طريق «الجسم» والتركيب الحسي، وتكون لها دلالة مختلفة، ومن هنا، فحتى عند الحكم على المضمون الفني، وهو الشيء الوحيد الذي يستطيع صاحب النظرية السياقية أن يتحدث عنه، لا تكون مقولاته المستمدة مباشرة من النظرية الاقتصادية أو الاجتماعية كافية.
هذه نواحي نقصٍ خطيرة في النقد الماركسي وفي كل نقد سياقي، ومع ذلك، فعندما تكون الموضوعات الاجتماعية جزءًا من «المضمون»، فإن الناقد الماركسي يستطيع في كثير من الأحيان أن يقدِّم إلينا تفسيرات مفيدة للعمل، ولكن حتى في هذه الحالة نجد بعض الماركسيين يرتكبون خطأ «التزييف المتعصب»، وإن كان في هذه الحالة من نوع مختلف؛ فهم يذهبون إلى أن تفسيرهم هو التفسير الوحيد المشروع للعمل، غير أن هذا زعم لا يمكن أن يدعيه أي ناقد، مهما كانت المدرسة التي ينتمي إليها؛ إذ إن حقائق الفن، وتاريخ الذوق يكذبانه؛ فالأعمال الفنية متعددة القيم، والتفسيرات السليمة للعمل الواحد يمكن أن تتعدد إلى حد يستحيل معه تبرير القول بوجود معنى واحد فريد للعمل.
وفضلًا عن ذلك، فحتى بعد أن يكون النقد التفسيري قد أدى وظيفته، فإن لدى الناقد مهمة أخرى ينبغي عليه إنجازها، وكما يقول إدموند ولسون:
على أن الماركسيين لا يقفون عند حد النقد التفسيري، وبل إنهم يقومون أيضًا بنقد تقديري.
والواقع أن نفس المفاهيم التي يستخدمونها في وصف سياق الفن، تتحول إلى معايير للحكم على الفن؛ فالماركسيون، كما رأينا من قبل، يرون أن الأعمال الفنية يرجع أصلها إلى الصراع الطبقي، وأنها تعكس هذا الصراع، وسواءٌ أكان هذا الرأي صوابًا أم خطأ، فإنه مسألة متعلقة بالواقع، ويرى الماركسيون أيضًا أن العمل يكون جيدًا عندما يعبر عن احتجاج الطبقة الدنيا في المجتمع ويساعد على تطورها الثوري، بينما يكون العمل رديئًا إذا كان متحالفًا مع الطبقة الحاكمة.
والواقع أن التصوير الذي تم إنتاجه في الاتحاد السوفيتي يكشف بوضوح عن الفارق بين القيم الأخلاقية السياسية وبين القيم الجمالية؛ فهو «محاكاة» ميلودرامية، قريبة من الواقع، لأبطال الثورة الروسية وحوادثها، وربما كان لمثل هذا التصوير تأثيرات اجتماعية ودعائية يوافق عليها الماركسيون؛ غير أنه من الوجهة الجمالية لا يقل سوءًا عن اللوحات التاريخية في عواصم الولايات المتحدة الأمريكية.
ويعد استخدام المفاهيم التفسيرية التي تعبر عن أمر واقع، «كالوعي الاجتماعي» مثلًا، في التقدير، خطأ آخر نجده يتكرر كثيرًا في النقد السياقي، وسوف نصادف هذا الخطأ مرة أخرى فيما بعد. ولقد كان هذا الخطأ، بما أدى إليه من أحكام قيمة مشوَّهة، هو السبب الرئيسي في ارتياب النقد، خلال عصرنا هذا، في النظرية السياقية.
أما من الناحية العملية، فإن النقد الماركسي ليس دائمًا واقعًا في هذا الخطأ الصريح الذي تحدثت عنه الآن، فكثيرًا ما تتداخل في هذا النقد الوقائع الاجتماعية مع النقد التفسيري والتقدير الجمالي والتقدير الأخلاقي، ونستطيع أن نعد النقد الماركسي لإبسن مثلًا على ذلك.
•••
•••
وربما لم يكن هناك من يعتقد اليوم أن تين قد نجح في هذه المحاولة، والواقع أن التأثير الباقي لتين يرجع إلى استكشافه المنهجي للأصول الاجتماعية للفن، ولكنه كان مفرِطًا في الطموح، شأنه شأن معظم الرواد العقليين، وهو لم يبرهن في الواقع على وجود علاقة سببية دقيقة بين ثالوثه السببي وبين أعمال الأدب الإنجليزي.
•••
وهناك أخطاء أخرى أقل وضوحًا في موقف تين، ولكن من المهم كشفها لأنها تظل متأصلة في تفكيرنا ولغتنا. ألسنا نقول في كثير من الأحيان إن فنانًا معينًا «يعكس مجتمعه»؟ كذلك تحدث بين عن الرواية بوصفها «مرآة عصرها». وهكذا تظهر ثنائية بين العصر، باتجاهاته وقيمه من جهة، وبين العمل الفني، وهو نتاج للعصر و«مرآة له»، من جهة أخرى.
وقد أثبت الأستاذ «بوس» بوضوح أن هذه الطريقة في التفكير مضطربة من بدايتها فقال:
وهناك خطأ آخر في النظرة إلى الفن على أنه «مرآة» لعصره. ويعد هذا الخطأ أشد خطورة من وجهة نظر النقد الفني؛ ذلك لأنه يؤدي إلى تجاهل فردانية الفن الجميل.
علينا أن نتذكر مرة أخرى أن تشبيه «المرآة» بأسرة تشبيه مضلل؛ فالمرآة إنما هي ازدواج للأشياء التي تنعكس عليها، والتي تظل في صورة المرأة مثلما هي خارجها — أعني رجالًا بدينين، ومناضد خشبية … إلخ، ولكن هذا لا يصدق على المعتقدات والقيم الاجتماعية عندما «تندمج» في العمل الفني؛ فهي تتجسد هناك في الوسط الحسي للفن، وتتخذ لها من القالب الفني تركيبًا، وهي تكتسب قالبًا دراميًّا في الشخصيات العينية التي تحيا حياة خاصة بها داخل العمل الفني.
ونتيجة لذلك فإن معتقدات مجتمع الفنان وقيمه تكتسب معنى وقوة تعبيرية تفتقر إليها وهي خارج مجال الفن. فالاعتقاد الاجتماعي ليس الآن في بيئته المعتادة، وهي السلوك اليومي الشخصي والتنظيمي، بل يدخل في سياق فريد مختلف — هو سياق الفن. وإذن فهو يصبح بالضرورة مختلفًا. فالعمل إذن ليس «مرآة». وإنما هو أشبه بنسيج. أو هو — حسب التشبيه القديم — كائن عضوي، أي تنظيم فريد لعناصر تربط بيها علاقات متبادلة.
وهناك خطأ أخير عند تين، يتمثل أيضًا عند الماركسيين، وعند كثير من السياقيين الآخرين، هو تحويل المفاهيم الواقعية السياقية إلى معايير للتقدير.
•••
كان اهتمام ماركس وتين منصبًّا على المجتمع. أما الفنان الفرد فيُعد، أساسًا، حصيلة لتحكم العوامل الاجتماعية، وهناك نوع آخر من النقد السياقي يبدي اهتمامًا أعظم بنفسية الفرد.
على أن الشخصية الرئيسية في تطور النظرة النفسية إلى الفن كانت، دون شك، شخصية فرويد، الذي ناقشنا من قبل نظريته في منشأ الخلق الفني.
أما إذا كان الناقد حريصًا على ألا «يرد» الفن إلى علم النفس، فإننا نستطيع أن نتعلم منه الكثير، وعلينا ألا نمضي إلى الطرف المضاد، الذي يقول إن شخصية الفنان لا شأن لها على الإطلاق بالعمل الفني. فلننتقل الآن إلى ذكر أمثلة محددة توضح كيف تعين المعرفة النفسية في النقد التفسيري.
•••
وسوف نتحدث في هذا الصدد عن روايتَي فرانتس كافكا: المحاكمة، والقلعة. ويكاد هذان العملان يكونان نموذجًا كاملًا لنوع الفن الذي ساعدت الفرويدية على زيادة إحساسنا به، ألا وهو الأعمال المحتشدة بالرمزية، التي يكون كل حدث محدد فيها عينيًّا، بل عاديًّا، ولكن يكون مجموع هذه الأحداث غامضًا لا معقولًا، كما هي الحال في الحلم (ولقد عرف كافكا نظريات فرويد، ولكن من غير المحتمل أن يكون قد كتب روايته وفي ذهنه هذه النظريات، والواقع أن من الواجب أن نأخذ في اعتبارنا أيضًا، عند تقديرنا لأهمية فرويد، ذلك التأثير الهائل الذي مارسه على الفنانين أنفسهم، سواء في الأدب وفي التصوير) غير أني لن أستشهد بتحليل فرويدي معين، بل أود أن أبين كيف يمكن استخدام تاريخ حياة الفنان في إلقاء ضوء على أعماله.
إن القارئ المحدود الذكاء جدًّا هو وحده الذي يأخذ أي «تلخيص» لروايتَي «المحاكمة» و«القلعة» مأخذ الجد (أما القارئ الذكي حقًّا، فسوف يقرأ الكتابين ذاتهما، إن لم يكن قد فعل ذلك من قبل) ومع ذلك فلا بد أن أقول شيئًا عن موضوع كل منهما لكي أفسر صعوبتهما.
إن البطل في رواية «المحاكمة» يُقبَض عليه ذات صباح، ولا يُبلَّغ بالاتهامات الموجهة إليه، وهو لا يُسجن، ولا يُقدم للمحاكمة. بل إنه هو ذاته يبذل كل جهد لمقابلة من يتهمونه ومواجهتهم، غير أنه لا يتمكن من ذلك أبدًا. وفي النهاية يأتي جلادوه لأخذه، فيسير معهم طائعًا مختارًا، ويُطعن في مقتل، ويموت، كما يقول «كالكلب!».
أما بطل رواية «القلعة» (ولنلاحظ أنه في كلتا الروايتين بلا اسم أخير فيما عدا الحرف الأول «ك») فيؤمن بأن السلطات في «القلعة» قد طلبت إليه أن يقبل وظيفة مشرف؛ فيرحل إلى المدينة التي تقع فيها القلعة، ويحاول الاتصال بهذه السلطات، غير أن القلعة أعلى من المدينة، ولا يمكن الوصول إليها، وتنتهي محاولاته لمقابلة من هم أعلى منه، كما في «المحاكمة»، بالإخفاق شبه التام، فتجربته كلها، كما في حالة «المحاكمة»، تجربة إخفاق وإحباط أشبه بالكابوس، ولكنه لا يستسلم، بل يثابر على جهوده من أجل الوصول إلى من في القلعة. ومع ذلك يستمر إخفاقه، ويموت دون أن ينجح في تحقيق هدفه.
والآن، فلا شك في أن السؤال المعتاد: «ما معنى هذا؟» سؤال معقول؛ وفي اعتقادي أن حياة الفنان يمكنها أن تساعدنا في هذا الصدد، فالوقائع النفسية البارزة لا تأتي، في هذه الحالة، من نقد سياق، بل من الفنان ذاته.
ويصف كافكا بالتفصيل «الحادثة الوحيدة في السنوات الأولى التي انطبعت في ذاكرتي انطباعًا مباشرًا»:
فهل يمكن أن تساعدنا هذه الواقعة الفعلية المنتمية إلى «الحياة الواقعية»، والتي تخرج عن نطاق روايات كافكا، على تفسير هذه الروايات؟ في اعتقادي أنها تستطيع أن تعطينا نقطة بداية على الأقل. وهذا أمر لن يأباه ذلك الذي يقف حائرًا تمامًا عندما يقرأ كافكا للمرة الأولى (وهو وصف يكاد ينطبق على معظم الناس).
فلننظر إلى السلطات في «المحاكمة» و«القلعة» على أساس أنموذج الأب كما وصفه كافكا، عندئذٍ تعبر الروايات عن حقائق معينة عن السلطة الاجتماعية؛ فالنظم التي تمارس السلطة على البشر لا معقولة، ولا يوجد أساس مشروع لسلطتها، وهي تمارس ضغطها بطريقة تفتقر إلى العقل، وحتى القانون الذي يحاول أن يكون دقيقًا وشكليًّا، والذي يحاط بمظاهر الجلال والاحترام الذاتي، لا معنى له في نهاية الأمر.
ومع ذلك فإن أعمال كافكا تزيد بكثير عن أن تكون نقدًا لنظم اجتماعية، وهو موضوع نجده أيضًا في كثير من الأعمال الفنية الأخرى، بل إن الأهم من ذلك استجابة البشر لنظامهم؛ فهُم لا يديرون ظهورهم للسلطة، على الرغم من أن فهمها مستحيل وميئوس منه. فلنتأمل العلاقة بين الأب والابن، إن انفعالات الابن تتجه بعمق إلى أبيه ولا تتحول عنه. ومهما فعل الأب، ومهما كان طاغيًا مستبدًّا، فلن يتغير من هذا الأمر شيء؛ فالابن لا يستطيع أن ينفصل عن أبيه، والدليل القاطع على ذلك هو أنه يشعر بالإثم إذا لم يتمكن من تلبية مطالب أبيه، ولو كان الأمر على غير ما نقول، لشعر بعدم الاكتراث أو التمرد، فإذا اتخذنا من هذه العلاقة أنموذجًا، ففي استطاعتنا أن نقول إن سلطة النظم الإنسانية أساسية لحياة الإنسان، فهو لا يرضى بالهرب منها، حتى لو استطاع، وعلى الرغم من عدم معقولية السلطة، فإن الإنسان يظل ملتزمًا بها، وهو يتحمل ما يقاسيه بسببها من إحباط، ويقبل حكمها راضيًا، والإثم الذي يشعر به هو معيار التزامه، وهو يكشف عن إثمه بإبداء استعداده لأن يموت «كالكلب!».
فكيف يؤدى هذا التفسير إلى جعل الروايات أوضح معنى وأعظم قيمة؟
إن أكثر ما يبعث على الحيرة في الروايات، عند قراءتها للمرة الأولى، هو إصرار ك على محاولة الوصول إلى المحكمة والقلعة. ولو أحس القارئ بقدر كاف من خيبة الأمل عند قراءة «المحاكمة»، لجاز أن يوجه السؤال المعقول الآتي: «إن المحكمة تتركه وشأنه، فلم لا يترك المحكمة وشأنها؟» أو قد يقول، في صدد «القلعة»: «لم لا ينسى كل شيء عن الناس الذين يعيشون في القلعة، ما داموا على ما يبدو لم يسمعوا به أبدا؟» ولكننا لو استخدمنا وقائع حياة كافكا، لسقط السؤال، فليس في استطاعة «ك» أن يفصم الروابط التي تجمعه بمن هم أعلى منه. إن «القضاة» بعيدون، ولكنهم ليسوا قضاة لا شخصيين؛ فانفعالاته وقيمه مرتبطة بهم، وسعيه إليهم إنما هو علامة ارتباطه، والأمر الذي يبدو سخيفًا غير مفهوم عند أول قراءة، يتضح الآن أنه عمل من أعمال الإخلاص والولاء.
فإذا ما أصبح الإدراك الجمالي متجهًا هذه الوجهة، فإن الضوء يلقي على جوانب أخرى في العمل، والواقع أن من أجمل ما تتصف به كتابات كافكا ذلك الطابع الغني التعبيري الذي يسود أعماله كلها. غير أن التعبير ينشأ من الموضوع والفكرة الرئيسية ويلونهما بدوره، والقارئ الذي يروعه «المعنى» ستفوته تلك النغمة الثقيلة، التي هي أشبه بالكابوس، والتي تخيم على رواية «المحاكمة»؛ فالنغمة التعبيرية تنبثق عن محنة ك التي لا أمل منها، ولكن لا بد أن يفهم القارئ الصفة المميزة لهذه المحنة، التي هي أكثر من مجرد سعي لا نهاية له. ومع ذلك فمن الغريب حقًّا أن هذه الفكرة الرئيسية نفسها كثيرًا ما تؤدي إلى مواقف مرحة، ولا سيما في «القلعة»، بل إن «ك» منغمس في موقف كلاسيكي كوميدي، هو ذلك التناقض الذي يتسم به شخص يحاول أن يفعل ما هو واضح الاستحالة، وعندما يهزم، يعاود الكرة ثانية، وهو موقف، قريب من السلوك «الآلي» و«التكراري» عند برجسون، ولكن ينبغي أن نلاحظ ثانية أنه بمجرد أن نفهم الخطورة العميقة لمحنة «ك»، فإن كوميديا كافكا تصبح أكثر من مجرد كوميديا؛ فهي تصبح ذات طابع ساخر كئيب، يزيده الألم حدة.
فهل من الممكن تفسير «المحاكمة» و«القلعة» بأسرهما على أساس «خطابه إلى أبيه»، أم أن طفولة كافكا مجرد مفتاح لمراحل معينة في الروايات؟ لو وضعنا في اعتبارنا التمييز بين أصول العمل الفني ودلالته الباطنة، لأصبح الاحتمال الثاني أرجح بكثير؛ فالرواية ليست مجرد سرد لتجارب الكاتب الأولى، ولا يوجد تناظر حرفي بين «الرسالة» وبين تفاصيل القصة وتصوير الشخصيات في الروايتين، ولو حاولنا أن نحشر الرواية قسرًا في إطار «الرسالة»، لضاع منا قدر كبير مما تنطوي عليه الرواية، وأدى ذلك قطعًا إلى تشويه قدر أكبر بكثير، مثال ذلك أن وصف كافكا لطفولته يشير إلى أنه لم يكن يستطيع التخلص من شعوره بالخوف والإثم، ومن المؤكد أنه لا يوجد شيء مضحك في تلك الليلة التي قضاها في الشرفة، ومع ذلك فهناك، كما رأينا من قبل، كوميديا من نوع معين في الروايتين. كما نجد في كل من «المحاكمة» و«القلعة» معًا، أن «ك» يوجه إليه اللوم لأنه لا يستطيع أن «يتقبل النكتة» (وبهذه المناسبة فإن كافكا ذاته كان يجد «المحاكمة» مضحكة إلى حد صاخب). وهذا يذكرنا، مرة أخرى، بأن للعمل الفني حياة ودلالة خاصة به.
وأخيرًا، فحتى لو تبين أن هذا التفسير مفيد محكم الترابط، فإنني لا أستطيع أن أدعي لحظة واحدة أنه هو التفسير الوحيد الممكن؛ فكل الأعمال الفنية التي تستحق أن يتكلم المرء عنها متعددة القيم، وكافكا، بغموضه الظاهر، من أفضل الأمثلة على ذلك، وقد سبق لي أن أشرت إلى العدد الهائل من التفسيرات المتباينة «للقلعة».
•••
وإذن، فالنظرة النفسية إلى الفن تستمد مادتها من حياة الفنان، غير أنها تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك بكثير؛ ففي استطاعتها أن تطبق على العمل ما عرفه علم النفس عن الدوافع والشخصية الإنسانية، وعلى هذا النحو بدوره تستطيع أن توضح سلوك الشخصيات في الدراما والقصة، والرموز في الأدب والتصوير … إلخ. مثل هذا النوع من النقد النفسي لا ينطوي بالضرورة على أية إشارة إلى تاريخ حياة الفنان.
وقد طُبِّق هذا النقد على تلك المشكلة التي هي دون شك أكثر مشكلات النقد التفسيري بأسره تعرضًا للجدل، وللجدل الحاد — وأعني بها «مشكلة هاملت».
لقد كُتبت حول نقد «هاملت» مؤلفات لا حصر لها، وقدم للمسرحية كل تفسير يمكن تصوره تقريبًا، وكثيرًا ما كانت هذه التفسيرات تتعارض بعضها مع البعض تمامًا، بل إن بعضها كان مغرقًا في الخيال بحق. وكان من بين المسائل التي حيرت النقاد، «جنون» هاملت، فهل هو مجنون حقًّا، أم أنه يدعي الجنون فحسب؟ وقد تساءل أحد الظرفاء، بعد أن قرأ قدرًا كبيرًا من النقد المكتوب حول «هاملت»: «هل نقاد هاملت مجانين أم أنهم يتظاهرون بذلك فحسب؟»
ومن حسن الحظ هنا أننا لسنا مضطرين هنا إلى مناقشة هذا السؤال، إذ ليس هدفي هو أن أقدم عرضًا شاملًا لنقد «هاملت» (كما أنني لا أود حتى أن أشير إلى السؤال: «من الذي كتب هاملت؟») وإنما أود أن أبين كيف يعالج النقد الفرويدي «مشكلات هاملت»، وسيكون هذا أكثر الأمثلة تفصيلًا، في هذا القسم، للطريقة التي يستطيع بها النقد السياقي أن يخدم أغراض النقد التفسيري.
وتهدف مناقشتنا ﻟ «هاملت» إلى غرض آخر. فقد حاولنا عدة مرات من قبل أن نواجه السؤال: «هل نستطيع أن نقول في أي وقت إن تفسيرًا معينًا للعمل الفني «أفضل» أو «أكثر مشروعية» من تفسير آخر؟ وإن كان الأمر كذلك، فمتى؟ وسوف نرى الآن كيف يمكن اختبار عدة تفسيرات متعارضة، أثناء محاولتنا الملاءمة بينها وبين الوقائع الداخلية للعمل.
•••
إن ما أسميته «بمشكلة هاملت» هو في الواقع مجموعة المشكلات المتعددة. على أن أهم هذه المشكلات جميعًا، السؤال: «لماذا يتأخر هاملت؟» فالشبح يخبره، منذ وقت مبكر في المسرحية، أن عمه كاوديوس قد قتل أباه، ولكن استجابة هاملت هي:
فمن الجائز إذن أنه كان يشك في عمه من قبل. ومع ذلك فإنه لا يفي بوعده للشبح بأن ينتقم لأبيه، بل يبدو أنه يرجئ هذا الانتقام في مناسبات متعددة.
ربما كان أبسط تفسير هو ذلك الذي «يقرأ» المسرحية من خلال تقاليد الأدب الدرامي في الوقت الذي كتبها فيه شيكسبير (ولنلاحظ أن هذا بدوره نوع آخر من النقد السياق). وهنا تظهر هاملت على أنها واحدة من «مسرحيات الثأر»، التي كانت نمطًا دراميًّا شائعًا في ذلك العصر؛ فهناك عناصر مشتركة بين القصص التي تدور حولها هذه المسرحيات؛ إذ إنها تبدأ بجريمة، هي عادة جريمة قتل؛ ويصبح واجب الثأر مفروضًا على أقرب الناس إلى القتيل، الذي ينبغي عليه أن يعرف القاتل، وقبل أن يستطيع أداء واجبه هذا، يصادف عقبات متعددة ويتغلب عليها، وفي النهاية يقتل المنتقِم والمنتقَم منه عادة؛ ولا بد أن يقاسي الأخير عذابًا مقيمًا في الحياة الأخرى، نظرًا إلى ما ارتكبه من خطايا.
ولو كانت هاملت مسرحية كهذه، لكان بطلها شابًّا شجاعًا قوى العزيمة، على استعداد تام لقتل عمه، فلماذا إذن يترك أربعة أشهر تنقضي، لا يفعل خلالها شيئًا، ما بين رؤياه للشبح ووصول الممثلين إلى القصر؟ من الضروري، تبعًا لهذا التفسير، أن يتأكد هاملت من أن الشبح ليس وهمًا أو روحًا شريرة:
وفي هذا الصدد يقول أحد النقاد:
ويقتنع هاملت بجرم كلوديوس بعد أن يرى تصرفه إزاء المسرحية التي تحدث داخل المسرحية الأصلية، وهنا يصبح قتل كلوديوس أمرًا له ما يبرره تمامًا. ومع ذلك فإن هاملت لا يستطيع أن يفعل ذلك لأن الملك محاط بحرسه دائمًا. ولا يجده هاملت دون حراسه إلا مرة واحدة في المسرحية، وهي المرة التي كان فيها كلوديوس يصلي. (٣-٣). ولو قتله هاملت عندئذٍ، لما قاسى كلوديوس من اللعنة الي تشترطها «مسرحية الثأر».
وهناك تفسيرات أخرى قريبة الشبه من هذه، يكون فيها إبطاء هاملت راجعًا إلى العقبات التي ينبغي عليه التغلب عليها فحسب. غير أن العقبات في هذه الحالة أقل وضوحًا مما هي في حالة النظرية التي عرضناها الآن؛ إذ يقال مثلًا إن العدالة لا تكون قد تحققت ما لم يعرف الشعب الدنمركي أسباب قتل كلوديوس؛ إذ إن عملية الثأر تهدم نفسها بنفسها لو كان مواطنو هاملت يرونها فعلًا بلا وازع، وبلا دافع سوى طمع الأمير في العرش.
هذان التفسيران، شأنهما شأن تفسيرات أي عمل فني، ينبغي أن يكونا متمشيَين مع تفاصيل المسرحية، ولا بد أن يؤديا إلى تنظيم «ما يحدث في مسرحية هاملت» في كل محكم الترابط. غير أن العقبة الكبرى في وجه التفسيرين اللذين تحدثا عنهما الآن هي ما يقوله هاملت ذاته عن تأخره.
إن المناجيات الذاتية في مسرحيات شيكسبير ينبغي، بوجه عام، أن تُقبل على أساس مضمونها الظاهر، فليس ثمة رغبة في خداع الجمهور أو بعث الحيرة فيه (وإن كان المتحدث ذاته قد يختلط عليه الأمر أو يخطئ فيما يؤمن به). على أن هاملت، في مناجياته الذاتية المشهورة، لا يعزو إبطاءه إلى عقبات «تكتيكية»، كحراس الملك مثلًا، بل إنه يلوم نفسه مرارة على تأخره، وهو ما لم يكن ليفعله لو كانت العقبات خارجية فحسب.
وعندما يتحدث بالفعل عن أسباب خارجة عنه، كاحتمال أن يكون الشبح قد خدعه، يبدو هذا أشبه بفكرة لاحقة ومحاولة مصطنعة للتبرير.
فلا بد للتفسيرات السابقة إذن أن تأخذ المناجيات الذاتية، على نحو ما، بعين الاعتبار؛ فبعض النقاد يرون أن هذه المناجيات ليست أساسية بالنسبة إلى قصة المسرحية أو إلى شخصية هاملت، ويعتقدون أن شيكسبير يستخدمها من أجل مكانتها الشعرية فحسب. وهناك تفسير أبرع قليلًا، يرى أن المناجيات الذاتية مجرد أساليب لتأخير القتل، حتى تظل المسرحية تجتذب اهتمام المشاهد أطول وقت ممكن، وتلك أساليب درامية مألوفة في «مسرحية الثأر».
على أن كلا التفسيرين ليس مرضيًا تمامًا، بل إنهما يقللان، بطريقتين مختلفتين، من أهمية المناجيات الذاتية، فتبعًا للتفسير الأول تكون أحاديث هاملت نقاط ضعف واضحة في البناء الشكلي للمسرحية، وتكون عناصر خارجية أُقحمت دون أن ترتبط بالعمل الكامل ارتباطًا محكمًا، أما في التفسير الثاني، فلا يكون لها إلا غرض درامي ثانوي؛ فهي ليست ذات أهمية أساسية في ذاتها، أو بوصفها تعبيرًا عن شخصية هاملت.
والواقع أن لنا الحق في رفض أي تفسير يقلل من قيمة العمل، لو كان هناك تفسير آخر يزيد من قيمته، ولا شك أن المناجيات الذاتية، تكون لها أعظم طرافة في نظرنا إذا أمكن إثبات أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكل ما عداها في المسرحية، عندئذٍ يكون كل شيء منبثقًا عن حوادث القصة، ومؤديًا إلى صبغها بلون خاص، ويؤدي، بكشفه لشخصية هاملت، إلى زيادة الأهمية النفسية للمسرحية وإثراء مضمونها التعبيري. فلا بد لنا إذن من البحث عن تفسيرات للمناجيات الذاتية غير تلك التي عرضناها الآن.
ويمكن القول بوجه أعم إن جميع التفسيرات التي تلجأ إلى أنموذج «مسرحية الثأر» تبدو غير كافية؛ ذلك لأنها تؤدي، في حالة هاملت، إلى فقدانها مكانة التراجيديا، وتحولها إلى ميلودراما. ومثل هذا التفسير ليس متمشيًا مع المشاعر التي تثيرها المسرحية فينا؛ فالمسرحية تبدو أعمق من ذلك وأعقد، وفضلًا عن ذلك فإن هذه التفسيرات تعزو أقل أهمية لذلك العنصر الذي أصبح محور الاهتمام في المسرحية في العهود القريبة على الأقل، ألا وهو شخصية هاملت؛ فهي تجعله قويًّا شجاعًا، ولكنها تجعله أساسًا إنسانًا بسيط الشخصية، ومع ذلك فإن هاملت، حتى قبل أن يعرف شيئًا عن الشبح، قد ظهر في مناجياته الذاتية الأولى شخصية مرهفة الحس، واعية بذاتها.
وهكذا نظل ننتظر تفسيرًا آخر، ونريد تفسيرًا يعمل حساب لجميع تفاصيل المسرحية، ويمدنا «بقراءة» مترابطة للكل، ويعمق الأهمية الجمالية للعمل.
من الواضح أن كولريدج يتغلب على الاعتراضات الموجهة إلى التفسير الأول. فهو يعمل حسابًا للطابع الاستنباطي الواضح للمناجيات الذاتية، بل يؤكده هذا الطابع وتبعًا لتفسيره يصبح هاملت شخصية أكثر تعقيدًا وطرافة بكثير. وهو يندرج تحت النمط الكلاسيكي للبطل التراجيدي؛ إذ إن «خطأً معينًا» (١–٤) يحول بينه وبين مواجهة تحدي الظروف، ونظرًا إلى الأهمية الرئيسية للبطل في «هاملت»، فإن المسرحية تغدو أكثر توحدًا، من الناحيتين الشكلية والتعبيرية، عما كانت عليه في التفسير الأول، وهي على وجه العموم تكتسب من جديد مكانتها بوصفها تراجيديا.
ومع ذلك فإن تفسير كولريدج لا يمكن أن يتمشى مع جميع الشواهد في المسرحية؛ فهو يجعل من هاملت شخصًا مفرطًا في «التأمل»، وبالتالي بطيئًا في سلوكه العملي، ومع ذلك فإن هاملت يبدو بعيدًا عن ذلك كل البعد في مواضع متعددة من المسرحية؛ فهو ليس فقط شجاعًا قوي العزيمة، كما يقول كولريدج، بل إنه في المشهد الرابع من الفصل الأول، عندما ينادي الشبح هاملت، يحاول أصدقاؤه أن يمنعوه من السير وراءه. ويحذره هوريشيو الحريص قائلًا:
ماذا لو كان يغريك نحو الطوفان يا مولاي؟
ولكن هاملت يهتف:
ثم يندفع نحو الشبح.
وفي المشهد الرابع من الفصل الثالث يندفع فورًا صوب بولونيوس. عندما يسمعه وراء الستار ويقتله. وتصف الملكة ذلك بأنه «سلوك دامٍ متهور». وفي المشهد السادس من الفصل الرابع يتبدى شخصًا مغامرًا جريئًا حين يترك السفينة التي تحمله إلى إنجلترا، وفي المشهد الثاني من الفصل الخامس يصف سلوكه الحاسم، السريع البديهة، في تدبير موت روزنكرانتس وجلند شترن. وفي المشهد الأول من الفصل الخامس، لا يتردد في قبول تحدي لايرتس للقتال باسم أوفيليا وفي سبيل ذكراها، ومن هنا فإن تفسير كولريدج لا يبدو صحيحًا إلا جزئيًّا.
وهنا بالضبط يبدأ التفسير الفرويدي، وقد عرض هذا التفسير إرنست جونس في كتابه «هاملت وأوديب»، الذي ربما كان أشهر دراسة فرويدية في النقد السياقي القريب العهد.
إن جونس، مثل كولريدج، يرى أن سبب الإبطاء لا بد أن يكون في داخل هاملت نفسه. غير أن هاملت، كما رأينا الآن، لا يتلكأ عادة عندما يكون السلوك ضروريًّا، فلِم يفعل ذلك في هذه الحالة، أي قتل عمه؟ لقد ظل هاملت، حتى المشهد الرابع من الفصل الرابع، لا يعرف السبب:
ولما كانت حالة هاملت هي حالة قوى لا شعورية، فإن جونس يعتقد أن نظرية التحليل النفسي يمكن أن تطبق عليها.
والواقع أن الشواهد التي يتعين فحصها من أجل اختبار صحة هذا التفسير، هي شواهد مفرطة في التعقيد، فلن يكون علينا فقط أن نحدد مدى ملاءمة هذا التفسير لتفاصيل المسرحية؛ بل إن صحة النظرية النفسية التي يرتكز عليها هذا التفسير توضع بدورها موضع الشك. على أننا نستطيع أن نقول عن يقين إن نظرية جونس، على الأقل، نظرية معقولة؛ وهي، على الأكثر، لها حق معقول في أن تعد أفضل رد قُدِّم حتى الآن على «مشكلة هاملت»؛ فهي تتغلب على الاعتراضات الموجهة إلى تفسير «مسرحية الثأر» وتفسير كولريدج، وهي تجعل المناجيات الذاتية متسقة مع بقية المسرحية، وهي قد تعلل جاذبية المسرحية الدائمة، ويبدو أن هناك وقائع تؤيدها، منها تلك الواقعة التي عبر عنها أحد النقاد تعبيرًا دقيقًا حين قال: «إن هاملت يبدو مهتمًّا بحياة أمه الجنسية اهتمامًا كبيرًا.»
إن من السهل في عصرنا الحالي، الذي أصبح فيه علم النفس جاريًا على ألسن الناس جميعًا، أن نقع في خطأ النظر إلى العمل على أنه مجرد «انعكاس» لشخصية الفنان، وعندما يكون من الصحيح على أي نحو، أن يوصف أي عمل فني بأنه «انعكاس» كهذا، فإن هذا الوصف لا يكون، كما ذكرت من قبل، إلا حقيقة جزئية؛ فالعمل ينطوي دائمًا على ما هو أكثر من ذلك. ومن الواجب أن نتذكر أن الأعمال الفنية يمكن تذوقها ونقدها جماليًّا في كثير من الأحيان، دون أن نقول كلمة واحدة عن الفنان؛ إن من المؤكد أن الوثائق النفسية لها طرافة خاصة، وأن الأعمال الفنية يمكن أن تعالج أحيانًا على أنها وثائق نفسية. غير أن من الخطأ الفادح، الباهظ التكاليف، أن ننظر إلى الأعمال الفنية على أنها ليست إلا هذا، وأن نُغمض عيوننا، وبالتالي، عن طبيعتها الكامنة، وقيمتها بوصفها موضوعات للإدراك الجمالي.
•••
لقد كان من الضروري، طوال مناقشتنا، أن نحذر القارئ من مبالغات النقد السياقي وسوء استخدامه، ولكن من الخطأ أن نختم هذا القسم بنغمة سلبية؛ ذلك لأن السياقيين قد علمونا عن الفن أمورًا لا تقدر قيمتها بثمن، وبفضلهم أصبحنا الآن نرى أوضح مما كنا نرى في أي وقت آخر من تاريخ الفن، مقدار ما يستمده العمل الفني من الفنان ومجتمعه. وهكذا أصبحت للعمل دلالة إنسانية أعظم بالنسبة إلى المشاهد، وصار أكثر ثراءً في معناه وقوته التعبيرية.
وهناك قدر كبير، من أفضل أمثلة النقد السياقي، لا ينتمي إلى أي من المدارس التي ناقشناها؛ فالناقد السياقي لا يتعين عليه أن يكون من أنصار ماركس أو فرويد، بل إن من الممكن أن يجمع بين علم النفس، والتحليل النفسي، والتاريخ، وعلم الاجتماع، وغير ذلك من فروع العلم، وكثيرًا ما تكون هذه لازمة لتفسير رمز معقد عميق، أو أسطورة كانت تقليدية في مجتمع الفنان.
وفي هذه الحالة بدورها يتبين لنا مدى وثوق الصلة بين النقد التفسيري والنقد التقديري. فعن طريق «فك الرموز» الذي قام به بانوفسكي، أصبح العمل يحدثنا على نحو أوضح وأقوى، بوصفه «وثيقة بشرية».
•••
وأخيرًا، فإن النظرية السياقية كان لها تأثير خفي، ولكنه قوي، في كل تقدير فني.
وفضلًا عن ذلك فإن موقف النظرية السياقية من الفن الغربي ذاته قد شجع أيضًا على توخي المزيد من التسامح واتساع الأفق في تقدير الفن، فعندما نعرف الأصل الذي يرجع إليه شيء ما، والمؤثرات التي تحكمت في تشكيله، نصبح أقل ميلًا إلى النظر إليه على أنه يسري على نحو «أزلي» أو «مطلق». وعندما نفهم تاريخه الطبيعي نفهم أيضًا حدوده التي لا يتعداها، فلهذا الشيء قيمة في حدود الموقف الخاص الذي نشأ فيه، لا في جميع المواقف. وهذا يصدق على النظام السياسي، كالملكية، وعلى القانون الأخلاقي، وهو يصدق أيضًا على الفن؛ فالنظرية السياقية وضعت الفن في إطاره الطبيعي، والفن الجميل ليس «سرًّا روحيًّا غامضًا»، وإنما هو ينشأ في ظروف الحياة البشرية، ويفي بحاجات بشرية، وفضلًا عن ذلك، فإن أصول الفن متعددة إلى غير حد، وبقدر ما تؤدي إلى جعل العمل الفني على ما هو عليه في تركيبه الباطن، فإنها تخلق قيمًا مختلفة في النواتج الفنية لمختلف العصور والثقافات، وهكذا ندرك الآن أن الأنواع المختلفة من الفن يمكن أن تكون كلها قيمة «على طريقتها الخاصة». والخلاصة أن النظرية السياقية زادتنا قربة من النزعة النسبية.
(٣) النقد الانطباعي
أراد أصحاب النظريات السياقية في أواسط القرن التاسع عشر أن يكونوا، قبل كل شيء، علميين، وكأن المطلوب من النقد الفني أن يقتدي بالعلوم الفيزيائية في موضوعيها ودقتها.
وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك رد فعل قوي على هذا النوع من النقد، وكان رد الفعل يرجع إلى عوامل متعددة.
وعلى ذلك فإن التاريخ، وعلم النفس، وماشابههما من العلوم، لا تفيد الناقد في شيء، وهو يتحرر من القواعد، فكل ما يريده الناقد هو «نوع معين من المزاج، والقدرة على أن يتأثر بعمق بوجود الموضوعات المادية».
•••
والواقع أن رد الفعل لدى «الانطباعيين» على «النقد الموضوعي» هو رد فعل انطباعي؛ ذلك لأن الانتباه يركز، في حالة النقد السياقي والنقد بواسطة القواعد معًا، على الموضوع. أما بالنسبة إلى الانطباعي، فإن الأسئلة الرئيسية هي:
•••
إن النقد الانطباعي لم يبدأ بالانطباعيين؛ فقد كانت كتابات عدد كبير من النقاد السابقين، إلى حد معين على الأقل، أوصافًا لاستجابات الناقد ذاته، والأرجح أن أناتول فرانس كان على حق حين قال إن العنصر الشخصي لا يمكن أن ينفصل عن النقد الفني. أما اللاشخصية الكاملة فكثيرًا ما تتمثل في «إعطاء الدرجات»، وهو عادةً نوع آلي عقيم من النقد، ويكاد جميع النقاد الكبار يكون لهم طابع شخصي مميز.
ولكن، برغم أن لدى معظم النقاد قدرًا من الانطباعية، فمن المشترك فيه أن تكون الانطباعية في ذاتها أساسًا سليمًا للنقد. صحيح أن للانتقادات الانطباعية في كثير من الأحيان، أهمية أدبية في ذاتها. ومع ذلك فلو طلبنا من الانطباعية شيئًا أكثر من ذلك، لوجدناها تخذلنا عادة.
إن الانطباعية لا تضع حدودًا لما يقوله الناقد؛ ففي استطاعته أن يتحدث عن أي شيء وكل شيء، ولو كنا ننشد تفسيرًا لما هو متضمن في العمل، لما استطعنا أن نحصل عليه منه إلا بالمصادفة البحتة، وبالمثل فإنا لا نستطيع أن نتوقع منه تقديرًا معقولًا منظمًا للعمل.
إن آفة الانطباعية هي خروجها عن النطاق الجمالي؛ فالناقد الانطباعي لا يكون له، في كثير من الأحيان، شأن بالتركيب الباطن للعمل، وقيمته، ولا شك أن الخروج عن الموضوع خطر دائم يتعرض له كل ناقد، ولا يوجد أي نوع من النقد معصوم تمامًا من هذا الخطر، وقد رأينا أن هذا يصدق على كل من النقدين الكلاسيكي الجديد والسياقي، ومع ذلك فإن الانطباعية هي النوع الوحيد من النقد، الذي يشجع عمدًا على الخروج عن الموضوع، بل إنه يرحب به، كما هي الحال عند أوسكار وايلد.
لقد وقع ريمر في خطأ الخروج عن الموضوع لأنه طبق قواعد الكلاسيكية الجديدة بطريقة غشوم لا تصرف فيها، ومع ذلك فإن هذه القواعد تنطبق على بعض الأعمال الفنية على الأقل، ولو كان هناك ناقد أذكى من ريمر، حتى لو لم يكن ناقدًا من الطراز الأول، لكان لنا أن نتوقع منه أن ينبئنا بشيء عن العمل، عن طريق استخدام القواعد بحكمة. أما الانطباعية فهي تطرح جميع القواعد جانبًا، ومن ثَم فإن من السهل أن تتحول إلى تدفق انفعالي صرف. وكثيرًا ما يكون هذا التدفق منعدم القيمة تمامًا، سواء من وجهة النظر الأدبية أم النقدية.
وعلى الرغم من أن الانطباعية التامة لا يمكنها القيام بالعمل الذي نتوقع من الناقد أن يقوم به، فإن قدرًا معينًا منها يمكن أن يكون نافعًا له ولنا في آن واحد. وربما أفضل ما يمكنها عمله هو أن تبث في القارئ حماسة الناقد نفسه للعمل، فإذا انتقلت إلينا حُمَّى الحماسة هذه، كان من الأمور شبه المؤكدة أننا سنفهم قيمة العمل على نحو أفضل. غير أن الحماسة وحدها ليست كافية، بل ينبغي على الناقد أن يوضح لنا ما تحمس له، وسبب هذا التحمس.
(٤) النقد القصدي
إن النظرية القصدية هي على الدوام دعوة إلى «التعاطف» الجمالي، هي تحذِّرنا من تأمل العمل «بروح» غريبة عن روح الفنان، على حد تعبير بوب، وبذلك فإنها تحول بيننا وبين البحث عن أمور غير مطلوبة في العمل، ولو تأملنا المذهب القصدي على هذا النحو، لكان فكرة صحية بالنسبة إلى أي نوع من النقد.
•••
غير أن كل شيء يتوقف على ما نعنيه «بالقصد»؛ فللفظ عدة معانٍ متباينة. كثيرًا ما نخلط بينها في حديثنا عن الفن، ولهذا الخلط عواقب وخيمة؛ ذلك لأن «القصد»، في أحد معانيه، لا يمثل أساسًا عمليًّا سليمًا للنقد.
في هذا المعنى يكون «القصد» لفظًا نفسيًّا، يشير إلى شيء حدث في ذهن الفنان؛ فهو الفكرة التي كانت لديه، قبل الخلق وأثناءه، عن العمل الفني النهائي الذي أراد إنتاجه. وبعبارة أخرى فالقصد هو هدف نشاطه، كما تخيله. وعلى ذلك فإن هذا «القصد النفسي»، كما أسميه، هو شيء يقع خارج العمل الفني ذاته (ولما كانت النظرية القصدية، في هذا المعنى، تهتم بأحد أصول العمل، فمن الممكن أن تعد نوعًا من أنواع النقد السياقي).
وثمة اعتراضات قوية على استخدام «القصد النفسي»، إما في تفسير العمل الفني، وإما في تقديره؛ فهناك أولًا مشكلة «عملية»، ليست على الإطلاق بالمشكلة الضئيلة الشأن، تلك هي صعوبة معرفة المقصد الحقيقي، بل استحالة معرفته في كثير من الأحيان؛ فالقصد شيء يقع في نطاق تجربة الفنان الخاصة، وما لم يصفه، في رسائله أو محادثاته أو سيرته الذاتية، فإنه يظل غير معروف إلا له هو ذاته، وعلى ذلك فلا يمكن تطبيق معيار القصد على الأغلبية الساحقة من الأعمال الفنية، وفضلًا عن ذلك، فحتى في الحالات التي يكون فيها الفنان قد وصف قصده، فإن وصفه يتعرض لكل العيوب المعتادة التي يتعرض لها كلام الفنانين عن الخلق الفني، كالتبرير، والخداع المتعمد، والخداع الذاتي اللاشعوري.
ولنضف إلى ذلك أنه يكاد يكون من الخطأ دائمًا الكلام عن مقصد واحد، وكأن لدى الفنان فكرة ثابتة، موحدة، عن العمل منذ أول عملية الإبداع إلى آخرها؛ فالعملية الخلاقة، كما رأينا من قبل، ليست في العادة حركة مباشرة، غير منقطعة، نحو هدف الفنان، وإنما هي تنطوي على تجريب، وإعادة نظر، وتتبع «مسالك» جديدة يوحي بها الوسط المستخدم في الفن، وما إلى ذلك، وعلى ذلك فإن قصد الفنان يتغير أثناء سيره في عمله، وكثيرًا ما يكون للفنان مقاصد متعددة، فأيها تستخدم في نقد العمل؟
ومع ذلك، فلنفرض جدلًا أن للفنان قصدًا محدَّدًا واضحًا طوال إبداعه الفني، وأننا نعرف هذا القصد، وحتى في هذه الحالة يكون القصد شيئًا خارجًا عن العمل. فمن الممكن، منطقيًّا على الأقل، ألا يفسر القصد ما هو متضمن في العمل ذاته، وقد لا يتحقق القصد في العمل لأن الفنان عاجز عن السيطرة على الوسط الذي يعبر عن فكرته من خلاله، أو لأنه يختار موضوعًا غير مناسب، أو لأسباب أخرى، وعندئذٍ يكون القصد خارجًا عن مجال النقد التفسيري.
ومن ناحية أخرى، فليس في وسعنا أن نحكم على قيمة العمل على أساس نجاح الفنان أو عدم نجاحه في تحقيق مقصده، فمن الجائز أن يكون قد أخفق، ولكن العمل تكون له قيمته الجمالية في ذاته، كما أن من الجائز أن يكون قد نجح، ولكن إذا كان قصده تافهًا أو عقيمًا، كان العمل ضئيل القيمة من الوجهة الجمالية.
وأخيرًا، فحتى لو نجح الفنان، فإن قصده لا يكون بالضرورة الوسيلة الوحيدة، أو أفضل وسيلة، لتفسير العمل، فما إن يخرج العمل إلى حيز الوجود، حتى تكون له حياة مستقلة خاصة به، ومن الممكن أن يفسره مختلف النقاد على أنحاء متباينة، كما تفسره الأجيال المتعاقبة تفسيرات مختلفة، فقد تجد في العمل قيمة مغايرة تمامًا لتلك التي كان يقصدها الفنان؛ بل إن هذا يكاد يصدق في كل الأحوال، إذا وضعنا في اعتبارنا تعدد القيم التي اهتدى إليها النقد في معظم الأعمال الفنية، وفضلًا عن ذلك، فإن التفسيرات اللاحقة قد تجعل العمل أفضل من ذلك الذي اختمرت فكرته في ذهن الفنان:
وحين يضع الناقد «القصد الجمالي» نصب عينيه، يستطيع بعد ذلك أن يطرح السؤال الثاني في النقد القصدي: «كيف تتحقق النتيجة؟» وهذا يؤدي إلى فحص البناء الداخلي للعمل، ويكون مفهوم «القصد الجمالي» أحيانًا ذا فائدة عظمى عندما يحكم الناقد بأن العمل لم يحقق المقصود منه. إذ قد يتضمن العمل شواهد واضحة على نوع التأثير الذي يحاول تحقيقه، فمن الجائز أن التأثير كان يفترض فيه أن يكون «ضخمًا» أو «ملحميًّا»، وأن العمل «يحاول أن يكون» عميقًا، ولكن العمل لا يحقق هدفه، فبدلًا من أن يكون عميقًا، نراه يتظاهر بالعمق فحسب؛ وبدلًا من أن يكون مثيرًا لمشاعر قوية، نراه يثير انفعالات سطحية فحسب، وفي هذه الحالة بدورها يكون تحليل عناصر العمل ضروريًّا.
وبعد أن حددنا معالم التمييز بين «القصد النفسي» و«القصد الجمالي»، ينبغي أن يلاحظ أن الأول قد يكون في بعض الأحيان مفيدًا من وجهة النظر الجمالية، فإذا كان «القصد النفسي» قد تحقق في العمل، بحيث يؤثر في طبيعة العمل الكامنة، فعندئذٍ يكون استخدامه مفيدًا للناقد، ويكون في استطاعة الوصف الذي يقدمه الناقد أن يوضح عناصر معينة في العمل، ويكشف أيضًا عن «القصد الجمالي» للكل، وهذا يصدق في أحيان كثيرة على الفن المعاصر، في الحالات التي يكون العمل فيها، في الأصل، مستغلقًا على أفهام الجمهور بسبب أسلوبه أو الرمزية المستخدمة فيه.
إن المبدأ الموجه في الالتجاء إلى «القصد النفسي» في النقد هو نفس المبدأ الموجه بالنسبة إلى جميع الوقائع السياقية، فلا بد أن يكون مفيدًا في تفسير ما ثبت أنه موجود بالفعل في العمل، وأن يلقي ضوءًا على طبيعة الموضوع الجمالي وقيمته.
(٥) النقد الباطن
ولو قلنا إن حركة النقد الجديد تُفنِّد كلًّا من أنواع النقد التي درسناها حتى الآن، لكان هذا القول صحيحًا بقدر ما يمكن أن يكون مثل هذا التعميم صحيحًا.
فكثير من أبرز الشخصيات في هذه الحركة قد هاجموا النقد السياقي هجومًا مريرًا، إذ يتهمونه بتحويل الانتباه عن «القصيدة من حيث هي قصيدة»، إلى تاريخ حياة الفنان، وإلى علم الاجتماع والتاريخ وما إلى ذلك. ولهذا السبب نفسه يهاجمون الانفعالات المتدفقة عند الانطباعيين، وكل ما هنالك من فارق هو أن الانطباعية تحول الانتباه إلى الناقد ذاته.
ويتميز «النقاد الجدد» بالصبر الشديد، والدقة والعمق البالغين، في تحليلاتهم؛ فعملهم «احترافي» بأفضل معاني هذه الكلمة. وليس من العسير أن نفهم سبب احتقارهم للانطباعية التي تبدو لهم مهوشة مفتقرة إلى التنظيم، ولكن حتى لو لم تكن كذلك، لظلوا يرفضونها لأنها تؤكد التأثيرات التي يحدثها العمل في القارئ.
وهكذا يرفض «النقاد الجدد» القواعد، مثلما يرفضون السياق، والقصد، و«انطباعات» الناقد، والواقع أن إيضاح ما لا تكونه حركة النقد الجديد، يساعد على تفسير ما تكونه، ومع ذلك ينبغي أن ندرس الآن أساليب هذه الحركة وأهدافها بطريقة أقرب إلى الطابع المباشر.
•••
•••
•••
وأود أن أقدم بضعة أمثلة محددة لعمل هؤلاء النقاد، وإن كانت أعمالهم بطبيعتها ليست مما يمكن تلخيصه؛ فهذه الأعمال شديدة التماسك، وكثيرًا ما تبدو، في ترابطها وإحكام بنائها، مماثلة للأعمال الفنية «العضوية» التي تدرسها! ولذا يكاد يكون من المحال أن يستطيع التلخيص أن يوفي تفاصيلها الثرية العميقة حقها، على عكس التفسيرات الفنية للنقاد السياقيين، التي يمكن تلخيصها بسهولة أكبر.
إن الأبيات الثمانية الأولى من القصيدة هي:
ويقول بروكس ووارين عن البيتين السابع والثامن:
ويتابع التحليل هذا الإيحاء؛ «فنوم الشتاء» يضع الراحة والمكافأة في مقابل الجهد وحياة اليقظة، وهنا تتخذ قصيدة «بعد قطف التفاح» معنًى أعمق، بل معنًى فلسفيًّا.
وفي استطاعة القارئ أن يرى بنفسه مدى ابتعاد هذا عن الحكاية البسيطة المتعلقة بقطف التفاح، وأغلب الظن أن معظم القراء لا يشكون أبدًا في وجود هذه «الفكرة الجذرية» في القصيدة، فهل لهذا التفسير الذي قدمه بروكس ووارين ارتباط جمالي بالموضوع، أم أنه مجرد فرض خيالي؟ إن الوسيلة الوحيدة للإجابة هي أن نطرح الأسئلة المعتادة: هل هذا التفسير مرتكز على ما ثبت أنه متضمن في العمل؟ وهل هو متسق؟ وهل يمكن استيعابه في الإدراك الجمالي، حيث يمكنه أن يعمل على تهيئة استعداد القارئ وتوقعاته نحو العمل، وتوجيه انتباهه، على نحو يؤدي إلى إحداث فارق في طابع تجربته الذي يشعر به؟
على أن حركة النقد الجديد، شأنها شأن أنواع أخرى من النقد، تتسم بأن «مزاياها تتحول إلى عيوب»؛ فهي قد أعادت الاهتمام النقدي إلى العمل ذاته، بعد أن كان بعض النقاد الأسبق عهدًا قد نسوه تقريبًا، وهي قد صححت مبالغات النظريات السياقية والانطباعية والقصدية وتجنبت عيوبها، ومع ذلك فان بعض «النقاد الجدد» كان رد فعلهم على السابقين عليهم من القوة بحيث وقعوا في الأخطاء المقابلة بالضبط؛ فهُم أولًا قد استبعدوا المعرفة السياقية تمامًا، كما لو لم تكن تزيد، في كل الأحوال، عن أن تكون مجرد علم أو تاريخ لا صلة له بالعمل الفني، وهذا اتجاه لا يقل خطأً عن الاعتقاد بأن الفن ليس إلا علم نفس أو تاريخًا؛ فهو يؤدي إلى إفقار النقد بلا داعٍ؛ ذلك لأن الناقد يجوز له، بل ينبغي عليه، أن يستخدم كل ما يمكن أن يساعده. ولما كان تاريخ حياة الفنان، ومشكلات مجتمعه، وأساطير حضارته، تدخل ضمن عمله أحيانًا على الأقل، فإن النقد التفسيري لا يكاد يستطيع المضي في طريقه دون معرفة بهذه العناصر.
والحق أنه ليس ثمة نقاد أبرع من النقاد الجدد. وهم قد أظهروا براعتهم بالاهتداء إلى «مستويات جديدة للمعنى» في العمل، وتتبع الإيحاءات المتعددة الألوان للفظ الواحد، ويستطيع القارئ أن يدرك ذلك حتى في العرض الموجز الذي قدمناه لتحليل قصيدة «بعد قطف التفاح». وقد أدى عمق تفكيرهم إلى إلقاء الضوء على قيم لم يكن أحد يشك في وجودها من قبل في الأعمال الأدبية، غير أن لهذه «الميزة» أيضًا «عيوبها». ففي بعض الأحيان يصل حرص الناقد على استخلاص «معنًى رمزي» إلى حد يصبح معه النقد غاية في ذاته؛ فالفكرة التي توحي بها الرواية أو المسرحية تستحوذ على الناقد إلى حد يفقد معه اتصاله بالعمل ذاته، وعندئذٍ يكون الجزء الأكبر من نقده تعبيرًا عن خواطره الخاصة، في هذه الحالات تقع حركة النقد الجديد في خطأ الخروج عن المطلوب، تمامًا كما يقع فيه أي نقد سياقي أو انطباعي، ويقترب من ذلك أن يكون إيضاح الناقد لنقطة تفصيلية معينة متصلًا بالعمل، ولكن هذا الإيضاح يستحوذ عليه إلى حد لا يستطيع معه أن يربط بين هذه النقطة التفصيلية وبين دلالة العمل ككل، عندئذٍ لن يكون التفسير الذي يقدمه للعمل متسقًا.
وهناك أخيرًا «عيب» لا يسهل كشفه لأنه يحدث في المسلمات الأساسية للناقد، فقد لاحظنا من قبل أن «النقاد الجدد» يتجهون إلى تجنب أحكام القيمة الصريحة، ومع ذلك فإن بعضًا منهم يفترض مقدمًا نظرية في تقدير القيمة ينبغي أن توضع موضع الشك.
ولقد أخذ البعض هذا الاتجاه على النقاد الجدد، فقال:
ولهذه «المغالطة» نتائج هامة.
وقد تحدثنا من قبل عن عيوب النظرية الموضوعية، ولكن يجدر بنا أن نتأمل الآن الصورة التي اتخذتها هذه العيوب في حركة النقد الجديد.
إن القضية الأساسية للنظرية الموضوعية هي أن القيمة كامنة في الموضوع، بغض النظر عن أي مشاهد له. وهكذا فإن القائلين بالنظرية الموضوعية من بين النقاد الجدد يفترضون أنه، بمجرد إيضاح بناء العمل، تتحدد قيمة ذلك العمل. وليس من الواجب إجراء أي اختبار آخر لحكم القيمة، سواء أكان صريحًا أم ضمنيًّا فحسب.
وكثيرًا ما يطلق النقاد الجدد على أنفسهم اسم النقاد الجماليين، وهم يعنون بذلك أنهم يلتزمون البناء الباطن للعمل، ولكن إذا فهمنا لفظ «الجمالي» على أنه يشير إلى العلاقة بين الانتباه النزيه وبين العمل، فهل يمكن عندئذٍ القول إن التحليل الشكلي يصف على الدوام قيمة العمل في التجربة الجمالية ويفسرها؟ لا يمكن أن يكون الأمر كذلك إلا إذا سلمنا بما يبدو أن الناقد القائل بالنظرية الموضوعية يسلم به، ألا وهو أن التجربة الجمالية ما هي إلا معاناة أو ممارسة التحليل النقدي، فلا بد له أن يفترض أن التجربة انعكاس، في مجال الإدراك والانفعال، لما يصفه العمل النقدي بطريقة تحليلية لفظية، أي أن المعاني التي كشف عنها الناقد ستكون قيمًا يشعر بها القارئ.
على أن هذا الافتراض غير سليم؛ فهو يُدعى أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى النقد، وهو — ككل نزعة موضوعية — يبدي اهتمامًا أقل مما ينبغي بالتجربة الجمالية؛ فهناك فوارق حاسمة بين هذين النوعين من النشاط، والتحليل النقدي، في ذاته، لا يمكنه أن يضمن القيمة الجمالية للعمل، وقد لا تترابط التفاصيل التي يكشف عنها التحليل في موضوع جمالي موحد. كما أن ما يصفه الناقد بأنه دلالة الكل قد لا يتمثل للإدراك الجمالي المباشر، ومن الجائز أن إطار المعاني المفصل، الذي يبدو واضحًا للناقد، قد يكون مختلطًا أو مهوشًا في نظر المدرك؛ كما أن الإيحاءات الرمزية التي تهم الناقد قد لا تؤثر في القارئ إلا تأثيرًا ضئيلًا، أو لا تؤثر فيه على الإطلاق، وليس ذلك دليلًا على عدم حساسية القارئ — إذ إنني افترضت أن المدرك واعٍ قادر على التمييز — بل هو يدل على أن هناك فارقًا هائلًا بين العمل عندما يدرس بطريقة تجزيئية، تحليلية، وبين نفس العمل عندما يُدرك بوصفه وحدة جمالية.
فحكم القيمة الجمالي ينبغي أن يختبر في التجربة الجمالية، كما تؤكد النظرية النسبية؛ إذ إن الحكم الذي يبدو معقولًا، حين يكون جزءًا من عرض نقدي، قد لا يتمشى على الإطلاق مع الاستجابة الجمالية.
ويستطيع القائلون بالنظرية الموضوعية من بين النقاد الجدد أن يقولوا، كما قال أصحاب النظرية الموضوعية الذين تحدثنا عنهم من قبل، إن العمل تظل له قيمته بغض النظر عن الاستجابة التي نشعر بها، أو أن القيمة لا يدركها إلا من كان لديه «ذوق سليم»، وهم في بعض الأحيان يقولون ذلك بالفعل، ولكن لا بد لهم، في سبيل تبرير هذه الادعاءات، من أن يعرضوا نظريتهم الخاصة في التقدير بطريقة منهجية، وقد لمسنا في الفصل السابق ما يواجهونه من مشكلات، فلا بد لهم من الدفاع عن تعريف «القيمة» في الادعاء الأول، وإثبات أن الادعاء الثاني لا يقع في خطأ المصادرة على المطلوب.
ولما كانت النظرية الموضوعية ترى أن القيمة سمة غير علائقية، فإنها كانت عادة تذهب إلى أن هناك تقديرًا واحدًا للعمل هو وحده الصحيح، ويبدو في كثير من الأحيان أن بعض النقاد الجدد يقولون ضمنًا بهذا الرأي ذاته، إذ يبدو أنهم ينكرون مشروعية أي تفسير آخر، أو صحة أي حكم قيمة آخر، على أن هذا الوجه من أوجه النظرية الموضوعية يكون له ضرر وخيم عندما يتمثل في كتاباتهم؛ ذلك لأن النقاد الجدد قد أوضحوا مدى الثراء والتعقُّد اللذين يمكن أن يتسم بهما العمل الفني، وذلك على نحو قد لا يكون له نظير في تاريخ الفن، وقد أتاح لهم علمهم، وصبرهم، وذكاؤهم، أن يعيدوا تفسير أعمال تجاهلتها الأجيال السابقة، وأن يكشفوا عن معانٍ جديدة أعمق في الأعمال التي كانت معروفة ومألوفة منذ عهد بعيد. ولا بد لهم أن يعرفوا، خيرًا مما تعرف أية فئة أخرى من النقاد، أن هناك على الدوام تفسيرات مشروعة متعددة للعمل الواحد.
ولقد كانت النظرية الموضوعية هي علة مظاهر الضعف التي لا داعي لها في عدد من النقاد الجدد … فليس من الضروري، لكي يكون المرء ناقدًا موضوعيًّا، أن يكون آخذًا بالنظرية الموضوعية. فما هو المعنى الهام «للموضوعية»، كما تطبق على النقد؟ إن القوة الحقيقية للفظ تكمن في أنه يؤدي إلى استبعاد المعرفة التي لا تتصل بالميدان الجمالي، كتلك التي نجدها لدى بعض السياقيين، والتدفق الانفعالي الذي لا يخضع لنظام، كذلك الذي نجده لدى بعض الانطباعيين، ومن الممكن تمامًا أن يكون الناقد موضوعيًّا بهذا المعنى، ويكون في الوقت ذاته من أنصار النسبية، مثل هذا الناقد يركز اهتمامه على ما هو كامن في العمل، وهو لا يستعين بالمعرفة السياقية إلا عندما تكون ذات صلة بالموضوع الجمالي، ولا يخلط بين استجابته المباشرة وبين التقدير. غير أنه يحكم على العمل دائمًا في صلته بما يشعر به الناس عندما ينظرون إليه بوصفه موضوعًا له طبيعته الباطنة، وهو يعلم، بل يؤكد، أن التفسيرات والتقديرات الأخرى للعمل تعادل تفسيره وتقديره الخاص، على الأقل، في صحتها.
•••
وهناك كلمة أخيرة نتوجه بها محذرين من سوء فهم محتمل؛ فهذا الفصل قد ميَّز بين أنواع متعددة من النقد، لكل منها مسلماته ومناهجه وأغراضه، ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن النقاد يمكن أن يصنفوا، بسهولة، تحت واحد فقط من هذه الأبواب؛ فمعظم الكتابات النقدية مزيج من واحد أو أكثر من الأنواع النقدية؛ فحتى أكثر النقاد «موضوعية» أو «شكلية» يقدم إلينا عادة استجاباته الشخصية للعمل، كما أن الجميع، فيما عدا أشد الانطباعيين تطرفًا، يفسرون العمل ذاته، حتى لو كان ذلك بطريقة غير مباشرة فحسب، بل إنه ليس من التناقض المنطقي أن يجمع البحث النقدي الواحد بين أنواع النقد الخمسة جميعًا، وإن كان مثل هذا الخليط المهجن سيبدو، على الأرجح، شاذًّا غير مترابط، ولكن على الرغم من أن معظم النقاد يستخدمون عددًا من المناهج، فإنهم يفضلون عادةً نوعًا بعينه منها.
ومع ذلك فإن الناقد الجيد يكيف أساليبه ومعايير القيمة لديه تبعًا للعمل الخاص الذي يدرسه، ومن ثَم فإنه يستخدم في الحالات المختلفة أنواع مختلفة من النقد. كما أنه يضع في اعتباره الجمهور الذي يكتب له، ومستوى ذوقه، ومدى تعوده على عمل له هذا الأسلوب أو النمط.
مراجع
ديموث، نورمان (الناشر): مختارات من النقد الموسيقي.
فراي: التحولات.
جراف، ماكس: المؤلف الموسيقي والناقد.
هاوزر، آرنولد: التاريخ الاجتماعي للفن (أربعة مجلدات).
بانوفسكي، إروين: المعنى في الفنون البصرية.
ستولمان، روبرت (الناشر): أبحاث ودراسات في النقد.
ستاوفر، دونالد، (الناشر): مقصد الناقد.
سليفان: بيتهوفن.
ويليك، رينيه، ووارين، أوستن: نظرية الأدب.
ويمزات (الابن) وبروكس، كلينث: النقد الأدبي: تاريخ موجز.
أسئلة
-
(١)
حلل بدقة بعض الكتابات النقدية المتعلقة بأعمال معينة في المراجع الواردة في القائمة السابقة. ما أنواع النقد التي تمثلها هذه الكتابات؟ وهل يستخدم الناقد أكثر من نظرية واحدة من النظريات التي وصفناها في الفصل؟ وما هي العلاقة بين تفسيره للعمل وبين حكمه على قيمته؟
-
(٢)
«لو تأملنا هذا النشاط الروحي الخاص لوجدناه دون شك يستجيب في بعض الأحيان لمؤثرات من الحياة، ولكنه أساسًا منطوٍ على ذاته؛ فالتعاقبات الإيقاعية للتغير تتحدد بقواها الداخلية الخاصة، وبإعادة تعديلها لعناصرها الخاصة في داخلها، أكثر مما تتأثر بالقوى الخارجية» (فراي: الإبصار والتصميم … Fry, Vision and Design ص٩).
حلل مدى صحة هذا الرأي عن طريق اختبار تغير تاريخي رئيسي في الفن، على النحو الذي وصفه «هاوزر» في الكتاب المذكور في قائمة المراجع.
-
(٣)
ادرس بعض تفسيرات «هاملت» في كتاب ويليامسون، المذكور من قبل، هل هناك أية تفسيرات منها تبدو لك أوفى من تلك التي نوقشت في هذا الفصل؟ وكيف تحدد مدى صلاحية التفسير؟
-
(٤)
يقول سليفان، في الكتاب المذكور في قائمة المراجع، إن «سيمفونية الإيرويكا Eroica تعبير مترابط، متحقق على نحو يدعو إلى الدهشة، عن تجارب بيتهوفن الروحية.» (ص٧٦). ادرس عرض سليفان هذا الرأي، واذكر ما الذي يعنيه بلفظ «التعبير»؟ وما هي أدلته على هذا الرأي؟ هل هو يستدل من وقائع حياة المؤلف الموسيقي على طبيعة الموسيقى، أم العكس؟ وما مدى قوة حجته؟
-
(٥)
انظر إلى تصوير لوحة تيسيان «أسطورة الحكمة» (شكل رقم ٢٧). هل يؤدي النقد السياقي لبانوفسكي إلى زيادة القيمة الجمالية للعمل؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فكيف يؤدي إلى ذلك؟
-
(٦)
اقرأ دراسات أناتول فرانس النقدية «في الحياة والثقافة» هل هي انطباعية تمامًا؟ وهل لها أية صحة «موضوعية»؟
-
(٧)
عُرِّف «المقصد النفسي» بأنه فهم الفنان للعمل الذي يريد أن يخلقه. وقد يكون مقصده، بمعنًى مخالف، هو كسب المال، أو تنبيه سامعيه إلى وجود مظالم اجتماعية معينة، أو الوصول إلى الشهرة، إلخ. فهل يمكن أن يكون للمقصد، بهذا المعنى، علاقة جمالية بالموضوع؟ وإن كان كذلك، فكيف؟ هل يمكنك تقديم أمثلة محددة؟
-
(٨)
أي نظريات الفن التي درسناها من قبل (في الفصول ٥–٨) هي في رأيك أوثق ارتباطًا بكل نوع من أنواع النقد التي درسناها في هذا الفصل؟ اشرح إجابتك.
-
(٩)
اذكر، بالنسبة إلى كل نوع من أنواع النقد التي درسناها في هذا الفصل، أعمالًا فنية معينة تعتقد أن من الممكن دراستها بواسطة هذا النوع من النقد على نحو أفضل مما تدرس بواسطة أي نوع آخر. اشرح إجابتك في كل حالة.
René Wellek and Austin Warren, Theory of Literature (N. Y., Harcourt, Brace, 1949).
أوتو رانك: الفن والفنان Otto Rank, Art and Artist, Trans. Atkinson (N. Y., Knopf, 1932).
Ervin Panofsky, “Titian’s Allegory of Prudence, A Postscript,” in “Meaning in the Visual Arts” (Garden City, Doubleday, 1955).
Meyer Shapiro, “Style” in “Anthropolgy Today,” ed.
Krober (Univ. of Chicago Press, 1953).
“The Critic as Artist,” in “The Portable Oscar Wilde”.
Max Graf, Composer and Critic (N. Y., Norton, 1946).
J. E. Spingarn, “The New Criticism,” in “Creative Criticism” (N. Y., Harcourt, Brace, 1931) p. 6.
Charles Munch, I Am A Conductor, trans. Burkat (N. Y., Oxford U.P., 1955).
Complete Poems of Robert Frost (Henry Holt and Co., 1930).
David Daiches, Literary Essays (Philosophical Library, 1957).
Theodor Spencer, The Central Problem in Literary Criticism, College English, 4. (1942).
وانظر أيضًا بروكس، المرجع المذكور من قبل، التذييل الأول.