الوظيفة التربوية للنقد
يصف الناقد أ. س. برادلي، في بداية كتابه الذي أصبح الآن كلاسيكيًّا: «التراجيديا الشيكسبيرية»، أهداف نقده، على نحو يتضح منه أن برادلي ليس ناقدًا فحسب، بل هو أيضًا ناقد يهتم اهتمامًا كبيرًا بمناهج النقد ووظائفه، وهو إلى هذا الحد يعد فيلسوفًا للنقد الفني.
وهناك هدف واحد يضعه برادلي قبل أي هدف آخر:
وهكذا يتجنب برادلي مختلف أنواع النقد السياقي؛ فمعظم دراساته للتراجيديات من قبيل النقد الباطن، وهذا يؤدي، كما يعترف هو ذاته، إلى تحليل المسرحيات. غير أن من الممكن تبرير التحليل عن طريق هدف النقد بدوره:
إن النقد الفني يكون تارة تفسيريًّا وتارة أخرى تقديريًّا، وهذه الوظائف النقدية هامة في ذاتها، ولكن السبب الرئيسي للتحليل والتقدير، في جميع مجالات القيمة، هو إثراء تجربتنا للقيمة في المستقبل؛ وعلى ذلك فإن الوظيفة الرئيسية للنقد الفني هي جعل التجربة الجمالية أفضل مما هي بدونه، أو جعلها «أكثر إرضاءً وإمتاعًا»، على حد تعبير برادلي. فالمبرر النهائي للنقد، بل أفضل مبرر ممكن له، هو المتعة الإنسانية المكتسبة.
ويؤدي النقد إلى جعل التجربة الجمالية أفضل عن طريق جعله الإدراك الجمالي أقدر على التمييز. فهو يتيح. لنا أن نرى ما لم نكن نراه من قبل. وبفضله نستطيع أن نميز كل ما يتضمنه العمل بوفرة، وبالتالي أن نستجيب له. فالنقد يوجه انتباهنا إلى تألق المادة الحسية أو سحرها، وإلى عمق الشكل والطريقة التي يؤدي بها بناؤه الشكلي إلى توحيد العمل، وإلى معنى الرموز، والروح التعبيرية للعمل بأسره. والنقد يعطينا إحساسًا «بالمقصد الجمالي» للعمل، بحيث لا نعود نطلب منه مطالب غير مشروعة. كما أن النقد ينمي «التعاطف» عن طريق إزالة التحيزات والغوامض التي تقف في طريق التذوق، وهو يفسر المواضعات الفنية والمعتقدات الاجتماعية السائدة في عصر الفنان، وهو يربط بين العمل الفني وبين العالم الكبير، ويبين مدى ارتباطه بتجربتنا الخاصة.
على هذا النحو، وعلى أنحاء كثيرة أخرى، يكون النقد «تعليميًّا»؛ فهو يعلمنا، ولكنه لا يقتصر على تلقيننا معرفة فحسب، بل إنه يوجه الإدراك، والفكر، والشعور، والخيال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بحيث تستطيع كلها أن تتجه نحو العمل الفني بتعاطف وفهم.
•••
لقد درسنا في الفصل السابق بعض الأنواع الرئيسية للنقد، وكل منها يمكن أن يكون تعليميًّا على أنحاء متباينة؛ وأود الآن أن أوضح ذلك بالنسبة إلى كل نوع من النقد على التوالي.
إن النقد بالقواعد يبدأ بتصنيف العمل إلى نمط معين، وهذا وحده يمكن أن يكون تعليميًّا، من الوجهة الجمالية، فوصف قصيدة بأنها «غنائية» أو «رثائية»، يعطينا بالفعل إحساسًا بمقصدها الجمالي، ويساعدنا على تهيئة أنفسنا على النحو الملائم ونحن نبدأ القراءة، فعندئذٍ نتوقع «روحًا» تعبيرية معينة، وإذا كان العمل خاضعًا إلى حد بعيد للتقاليد السائدة، فإننا نتمكن عندئذٍ من فهم مواضعاته الأسلوبية والشكلية، وفضلًا عن ذلك فإن تطبيق القواعد على العمل يؤدي إلى إبراز التفاصيل الهامة فيه، مما يترتب عليه أن يصبح إدراكنا أقدر على التمييز. وبعد ذلك فإن التقدير الذي ينجم عن الحكم بواسطة القواعد له نفس الوظيفة النقدية التي لكل تقدير، ألا وهي أنه ينبئنا بنوع ودرجة القيمة التي يمكننا أن نتوقع الاهتداء إليها في العمل. وهذا بدوره يؤثر في «تهيؤنا» الجمالي؛ فالنقد بالقواعد ينبئنا، في نفس الآن، بما «يكونه» العمل، و«بما يستحقه العمل».
أما الدور الذي يسهم به الناقد الانطباعي فيختلف عن ذلك كل الاختلاف. فهو يتجنب عمدًا المعرفة السياقية، ولا يقدم تفسيرًا شكليًّا، ومع ذلك فإن نقده بدوره يستطيع أن يكون ذا قيمة تعليمية، ما لم تكن «انطباعاته» بعيدة الصلة تمامًا عن الميدان الجمالي؛ ذلك لأن أحواله النفسية، وصوره الخيالية، وأفكاره، كما يصفها، يمكن أن توحي بما في العمل من ثراء، وهي تنبه، على نحو غير مباشر، إلى سمات العمل التي أثارتها، والانطباعي بدوره يعلمنا عندما يجعلنا بدورنا انطباعيين — إن جاز هذا التعبير — أي عندما يشجعنا على الإقبال على العمل بخيال خصب؛ فهناك عدد كبير منا يشعرون بالرهبة أو الوجل من الأعمال الفنية، ونحن نتردد في أن نفكر أية أفكار أو نشعر بأية انفعالات غير الأفكار والانفعالات «الصحيحة» التي قرأنا أو سمعنا عنها. أما الانطباعي فيستطيع أن يجعل إدراكنا أكثر مرونة، وإبداعية، وحيوية. وأخيرًا فإن أفضل ما يفعله الانطباعي هو أنه ينقل إلينا حماسته للعمل؛ ففي كتابته من الحماسة والسورة ما يفوق كتابة أي نوع آخر من النقاد، وهي تتسم بنفس الطرافة التي يتسم بها أي تعبير شخصي عميق. وكثيرًا ما تبدو الأنواع الأخرى من النقد، بالقياس إليه، جامدة لا حياة فيها؛ فقد تستطيع أنواع النقد الأخرى هذه أن تحلل بدقة وتحكم بإمعان، ولكن العملية بأسرها تبدو آلية سطحية، بحيث إننا نفرغ من قراءة النقد وما زلنا لا نشعر باهتمام لمشاهدة العمل بأنفسنا. أما الانطباعي فكثيرًا ما يثير فينا هذا الاهتمام؛ فبعد أن نقرأه نُقبل على العمل، لا بتعاطف فحسب، بل بتحمس أيضًا، والواقع أن مقياس نجاح الناقد إنما هو تلقائية تجربتنا وما يشيع فيها من استمتاع.
وأخيرًا فإن النقد الباطن، كالنقد الجديد مثلًا، هو تعليمي بصورة واضحة؛ لأنه يوجه الإدراك نحو ما هو مختفٍ وراء السطح الظاهري للعمل؛ فهو إذ يكشف عن المعاني المتجسدة في العمل، يجعل تجربتنا أعمق، و«أكثر إرضاء»، على حد تعبير برادلي.
•••
وهكذا فإن لكل نوع من النقد قيمة تعليمية، على طريقته الخاصة. ولكن لا بد «للقارئ العادي»، أي الشخص الذي يبدي بعض الاهتمام بالفن، ويود أن يزيد من اهتمامه به — لا بد له من أن يقوم بوظيفته أيضًا؛ فالنقد لا يمكن أبدًا أن يكون في ذاته كافيًا. وهو لا يمكن أن يكون بديلًا عن الشعور الجمالي المباشر، ولو نسينا هذا لكان في ذلك تشهير بالنقد وحرمان لأنفسنا من المتعة؛ ففي بعض الأحيان يكتسب الناس معرفة من الناقد، ولكنهم يخفقون في إدماج هذه المعرفة في تذوقهم للعمل، ويكتفون بأن تكون لهم القدرة على الكلام عن العمل بطريقة مقبولة، وفي أحيان أخرى يقرءون وصف الناقد لتجربته الخاصة، ولكنهم لا يحاولون أن يجربوا العمل بأنفسهم، والواقع أن النقد، آخر الأمر، لا يكون ذا قيمة تعليمية إلا في نتاجه النهائي — وهو التجربة الجمالية كما تمر بها، وعلى ذلك فإن النقد لا تكون له قيمة تعليمية إلا إذا بذل المدرك جهدًا من الانتباه والتعاطف الجمالي.
وربما كان ت. س. إليوت أشهر ناقد في عصرنا الحاضر، غير أنه يتحدث في الفقرة الآتية باسم «القارئ العادي» المستنير، فيقول:
وكما أنه لا يوجد نوع واحد من النقاد يحتكر لنفسه القيمة التعليمية، فكذلك لا يوجد أي نوع من النقد يظل معصومًا من خط التعليم الفاسد، فأي منهج نقدي يمكنه، بدلًا من أن يؤدي إلى إرهاق الذوق وحفز الاهتمام، أن يؤدي إلى النتيجة العكسية.
فالنقد بواسطة القواعد يمكنه أن يؤدي إلى طمس فردانية العمل الفني على أنحاء شتى. فعن طريق قيام هذا النقد بتقسيم العمل إلى أنماط، يؤكد أوجه التشابه، لا أوجه الاختلاف، بين العمل وبين الأعمال الأخرى، وعندئذٍ يكون هناك خطر حقيقي من أن يتغافل الناقد عما هو مميز لهذا العمل بعينه، ومن ثَم يدرك قارئه العمل بطريقة نمطية، وتكون استجاباته هي الاستجابات الآلية التي تكونت لديه بفضل أعمال أخرى تنتمي إلى هذا النمط، ولا يدرك العمل بوصفه موضوعًا جديدًا فريدًا، وفضلًا عن ذلك فإن تطبيق القواعد يؤدي إلى إعطاء أجزاء العمل أهمية تفوق أهمية الكل، وما لم يعوض حكم الناقد بالانتباه إلى الكل، فإنه يرتكب عندئذٍ خطأ «القتل من أجل التشريح». ويعجز عن أن يبين كيف تسهم الأجزاء فيما يسميه بوب «بالنتيجة الكاملة للكل». أما قارئه فتكون لديه معرفة بالتفاصيل، وتقديرات لكل منها، غير أن التذوق الجمالي يقتضي قبل كل شيء إحساسًا بالكل، وعلى هذا النحو وحده يستطيع المدرك أن يهيئ نفسه للاستجابة على النحو الصحيح، وعلى هذا النحو وحده يستطيع تفسير كل جزء تفصيلي، وإعطاءه مكانه في كلٍّ مترابط.
أما الخطر الناجم عن الالتجاء إلى النقد السياقي فهو خطر واضح، تدل عليه بصورة جلية كتابات كثير من السياقيين. هذا الخطر هو، بالطبع، أن الناقد يقدم إلينا معرفة عن العمل، ولا شيء غير ذلك، وأمثال هذا الناقد يعجزون عن بيان الطريقة التي تكون بها هذه المعرفة ذات صلة بتفسير العمل وتذوقه — بل إنه ليبدو أحيانًا أنهم لا يحفلون بذلك، وعندما يلم القارئ غير المنتبه بالوقائع السياقية يعتقد أن في هذا الكفاية، ولكنه قد يستخدم العمل عندئذٍ لا لشيء إلا لاستخلاص عناصر تكون أمثلة لهذه الوقائع — كأن يقول: «هذا هو الموضع الذي انتهت فيه قصة غرام المؤلف الموسيقي نهاية حزينة»، وما إلى ذلك، ولما كان كثير من الوقائع السياقية ليست له أية صلة بالناحية الجمالية، فإن مثل هذا القارئ كثيرًا ما يقضي وقته باحثًا في العمل عن أشياء لا وجود لها فيه؛ فالنقد السياقي يكون له تأثير عميق مضاد للتعليم الصحيح، عندما يسفر عن صرف الانتباه عن الموضوع الفني إلى سياقه.
كذلك فإن الناقد الانطباعي قد يعمل بدوره على صرف انتباهنا عن العمل الفني، فإذا كانت كتابته مثيرة أو جذابة، كما هي بالفعل في كثير من الأحيان، فإن القارئ ينظر إلى النقد على أنه غاية في ذاته، ويغيب عن عينيه العمل، ولو كان النقد مجرد تحليق جامح للخيال، كما هو في بعض الأحيان، فإن القارئ لا يتعلم منه شيئًا عن السمات الباطنة للعمل. وفضلًا عن ذلك، فحتى عندما يكون النقد ذا صلة بالناحية الجمالية، فإنه يكون عادة منحازًا إلى جانب واحد. فالانطباعي يمتاز بقدرة هائلة على تقديم وصف مثير للطابع العام للعمل، أو «مذاقه». غير أنه يكون عادة ضعيفًا في التفاصيل، ومن هنا فإن النقد لا يزيد من قدرتنا على التمييز؛ فالشخص الذي يقع تحت تأثير ناقد انطباعي، كثيرًا ما يستشعر حالة عامة غامضة، إزاء العمل، غير أنه يعجز عن إدراك التفاصيل التي هي كفيلة بأن تجعل انفعالاته أكثر تنوعًا وتخصصًا.
و«المقصد النفسي» هو جزء من سياق الموضوع الفي، ومن هنا فإن هذا النوع من النقد يتعرض لنفس الأخطار التي لاحظناها الآن في صدد النقد السياقي بوجه عام.
أما النقد الباطن فقد يبدو أنه لا بد أن يكون ذا قيمة تعليمية؛ ذلك لأنه يلتزم حدود العمل، ويجعل العمل أقوى دلالة بالنسبة إلينا، ومع ذلك فحتى عندما يظل تحليله للمعنى يأسره منحصرًا «في داخل» العمل — وهو ما لا يحدث في كل الأحوال، كما نجد في حركة «النقد الجديد»، فإن من الممكن أن يكون الأثر التعليمي لهذا النقد ضارة، وإن كان ذلك بطريقة خفية إلى حد ما.
فلنتأمل حالة الطالب الذي يدرس مقررًا في الأدب، يستخدم فيه الأستاذ والكتاب المقرر مناهج حركة النقد الجديد، فبعد وقت قصير يستطيع أن يدرك مدى سطحية قراءته السابقة للقصيدة أو الرواية؛ فقد فاتته المستويات الأعمق للمعنى، وتلك الأبعاد «الزائدة» التي يجدها النقد الجديد في الأدب على الدوام. مع ذلك فإن عدم إدراكه لمدى تعقد العمل عندما قرأه لأول مرة، هو بعينه الذي أتاح له أن يدركه بوصفه وحدة عينية، وأن يشعر إلى حد ما بما فيه من إثارة للعاطفة والخيال. أما بعد أن يدرس الكتابات النقدية المتعلقة بالعمل، فإن معلوماته تغدو أفضل بكثير مما كانت عليه من قبل، ومع ذلك فإن كل المعاني التي تعلَّمها لا يمكن أن تُدمج في الكيان الجمالي للعمل، ويترتب على ذلك أن تغدو قراءته للرواية، في معظم الأحوال، عملية تعرُّفٍ على المعاني، واحدًا تلو الآخر، وبذلك يفقد العمل حيويته وإثارته.
وهكذا فإنه لا يكفي أن يكون النقد ذا صلة بالناحية الجمالية، بمعنى أن يلتزم النقد ما هو موجود في العمل، بل ينبغي أيضًا، لكي يكون ذا قيمة تعليمية، أن تكون له مثل هذه الصلة، بمعنى إمكان اندماج ما نتعلمه في التجربة الجمالية وتعميقه لها؛ فالنقد الذي يشتت الانتباه الجمالي ويحوله إلى تدريب على المعرفة، أبعد ما يكون عن القيمة التعليمية.
ولا أكاد أجدني في حاجة إلى القول إن ما سبق لا يترتب عليه ضرورة عدم وجود أي إيضاح للمعاني؛ فمن الحُمق أن يعتقد المرء ذلك، لأن هذا الاعتقاد يحرمنا من جميع المكاسب التعليمية للنقد الباطن، بل إن ما نستخلصه مما سبق هو أن الناقد ينبغي أن يضع في اعتباره على الدوام التجربة الجمالية التي سيمر بها القارئ، فعلى الناقد أن يتذكر الفوارق الواضحة بين التحليل وبين الإدراك الجمالي، وبالتالي فإن عليه أن يتذكر حاجات الإدراك الجمالي وحدوده، ومن ثَم فإن عليه هو ذاته أن يضع حدودًا لتفسيره، وعليه أن يحاول جعل الإدراك أكثر وعيًا وأعمق معرفة، ولكن من واجبه ألا يثقله إلى حد لا يعود معه قادرًا على أداء وظيفته على الإطلاق.
•••
إن للتجربة الأسبقية من حيث الأهمية والقيمة؛ فهي هدف النقد أو غايته، وما النقد إلا وسيلة أو عامل مساعد، لا غاية في ذاته.
ويترتب على ذلك بعض المبادئ التوجيهية الأخرى بالنسبة إلى النقد.
فلا بد أن يعترف الناقد دائمًا بأن تفسيره وحكمه التقويمي ينبغي أن يختبر في التجربة الجمالية؛ فهُما لا يستطيعان أن يثبتا نفسَيهما، وإنما يتم إثباتهما عندما يمكن استخدام التفسير بطريقة مثمرة في داخل الوعي الجمالي، وعندما يتمشى الحكم مع القيمة التي يشعر بها الناس بالفعل عندما يصادفون العمل. ومن هنا فليس ثمة مجال للأحكام القاطعة أو المعصومة من الخطأ في النقد الفني، فالنقد فرض، أو ينبغي أن يكون فرضًا، لا حكمًا قطعيًّا.
ولما كان النقد فرضًا، فإنه مُعرَّض لإعادة النظر على الدوام، فلا بد أن يرجع الناقد على الدوام — شأنه شأننا جميعًا — إلى العمل ذاته، ويكاد يكون من المؤكد أنه سيغير رأيه عندما يميز فيه تفاصيل لم يرها من قبل، ويكتسب استبصارات جديدة، ما لم يكن متمسكًا بتفسيره الأثير لديه بطريقة متحجرة. ولو رجعت إلى الفقرة التي اقتبسناها من برادلي عند بداية هذا الفصل، لوجدته يقول عن التحليل النقدي إنه «لا يمكن أن ينتهي إلا بصورة مؤقتة». أما الناقد الذي ينسى ذلك، فإنه يدفع ثمن نقده الضيق الأفق، القصير النظر.
وفضلًا عن ذلك، فإن من واجب الناقد أن يختار مناهجه ومعايير القيمة لديه في ضوء التجربة الجمالية، وعليه أن يكيف الطرق التي يتبعها وفقًا لطبيعة الموضوع الجمالي. فكثيرًا ما تكون المعايير القديمة غير صالحة للحكم على أعمال جديدة ومختلفة. وعلى الناقد، بوصفه مدركًا جماليًّا، أن يبذل كل جهد لإدراك ما هو قيم في العمل، كما أن عليه، بوصفه ناقدًا، أن يختار — أو يصطنع في كثير من الأحيان — أساليب للتحليل تفسر قيمة العمل، ومن هنا كان لا بد أن تكون مناهج الناقد ومعاييره مرنة، لا جامدة، ولا بد أن تكون متنوعة، لا محدودة، حتى تستطيع أن تستوعب التباين الهائل للأعمال الفنية.
كذلك فإن الناقد الذي يعترف بثراء الأعمال الفنية، لا بد أن يعترف أيضًا بأن هناك تفسيرات كثيرة مشروعة للعمل، لا تفسير واحد. وعلى ذلك فإن هناك أحكام قيمة صحيحة متعددة، لا حكم واحد. فالمشاهدون المختلفون يجدون في العمل قيمًا مختلفة، والهدف في كل الحالات هو التجربة الجمالية. ولا بد من احترام أي تفسير له ارتباط بالناحية الجمالية، ويتصف بالتماسك، ويشجع على التجربة الجمالية الأصيلة. ولهذا السبب بدوره لم يكن هناك مبرر للنزعة القطعية في النقد.
المراجع
إليوت، ت. س.: «الحدود النهائية للنقد» في كتاب «في الشعر والشعراء»، ص١٠٣–١١٨.
فرنش (الناشر: الموسيقى والنقد).
أيزنبرج، آرنولد: «الاتصال النقدي» في كتاب «علم الجمال واللغة». الناشر إلتون، ص١٣١–١٤٦.
رتشاردز: النقد العملي.
أسئلة
-
(١)
«التحليل طريقة لا غناء عنها، غير أن تحليل قطعة معينة لا تكون له قيمة لأي شخص لا تكون لديه معرفة سابقة بالعمل.»
فرجيل طومسون «في الحكم على الموسيقى» في كتاب فرنش المذكور من قبل، ص١١١.
هل تعتقد أن هذا الرأي صحيح؟ وإن كان كذلك، فلماذا؟
-
(٢)
على أي الأنحاء يستطيع النقد أن يساعد الفنان الخلاق؟ هل يمكنك الاهتداء إلى أية أمثلة محددة يعترف فيها الفنان بمثل هذه المساعدة؟
-
(٣)
«إن الناقد الجيد لا يسمح لنقده بأن يكون غريزيًّا أو مستعارًا.»
بلاكمير «مهمة الناقد» المرجع المذكور من قبل، ص٢٧٧.
ما الذي تعتقد أن بلاكمير يعنيه بلفظي «غريزي» و«مستعار» هنا؟