الفصل الثاني
الموقف الجمالي
ذكرنا في نهاية الفصل السابق أن لفظ «الإستطيقي» يدل على أعم
وأهم مفهوم من مفاهيم دراستنا؛ فهو يشير إلى موضوعات قد تكون
أعمالًا فنية وقد تكون موضوعات في الطبيعة، كما يدل على أشياء
جميلة وأشياء تكون لها قيمة بالنسبة إلى الإدراك الحسي على أنحاء
أخرى، كالأشياء «اللطيفة» والجليلة والهزلية. وقد اقترحت، بصفة
مؤقتة، أن يقال عن الموضوع إنه «إستطيقي» كلما أدركناه على نحو
معين، أي كلما نظرنا إليه لمجرد النظر إليه والتمتع به، لا لأي غرض
آخر. وعلينا الآن أن نحلل هذا الاقتراح ونتوسع فيه.
فنحن نحدد مجال الإستطيقي على أساس نوع مميز من «النظر». وهذا
يعني أننا لم نقل شيئًا عن الموضوعات التي تدرك على هذا النحو.
فنحن نترك مسألة تحديد كُنْه هذه الأشياء، والصفات التي تجمع
بينها، إن كانت هناك مثل هذه الصفات — نترك هذه المسألة مفتوحة.
غير أن هناك عدة نظريات تقليدية في علم الجمال تتخذ هذا الموقف؛
فهي لا تبدأ مثلنا بالتساؤل: «ما هي التجربة الإستطيقية؟» وإنما
تنظر إلى لفظ «الإستطيقي» على أنه يدل على سمات معينة تتسم بها بعض
الأشياء، وتكون بفضلها جميلة، على حين أن الأشياء الأخرى تفتقر
إليها، وبعد ذلك تأخذ هذه النظريات على عاتقها مهمة الاهتداء إلى
هذه السمات على وجه التحديد. وعندما يتم الاهتداء إلى هذه السمات
المميزة، تكون هي التي تؤلف المجال الإستطيقي في التجربة.
غير أننا لا نسير في دراستنا على هذا النحو. فلماذا؟ لا بد لنا،
لكي نكون «نقديين» بالمعنى الصحيح، من أن نقدم تبريرًا لنظرتنا
هذه. ولهذا التبرير شعبتان:
فأولًا، يلاحظ أن المحاولات التقليدية لتفسير قيمة الفن والجمال
بواسطة سمة «إستطيقية» مميزة قد اتضح أنها محدودة أكثر مما ينبغي.
فهي لم تعمل حسابًا للتنوع الهائل للأعمال الفنية، ولكل الأشياء
الأخرى المختلفة كل الاختلاف، والتي يهتم الناس بالتطلع إليها.
فالسمة التي نُظِر إليها على أنها أساس تعريف «الإستطيقي» وهي «الانسجام»
١ بوجه خاص، قد فسرت على نحو مختلف لدى مختلف المفكرين
والعصور، وهي في عمومها سمة الأعمال الفنية التي يجدها الناس في
عصر تاريخي معين أو حضارة معينة جذابة أو تدعو إلى الإعجاب. ومع
ذلك فإن هذه السمة تُعرض علينا كما لو كانت هي السمة المشتركة بين
جميع الموضوعات
الإستطيقية، بحيث يستبعد أي موضوع يفتقر إليها من مجال الإستطيقا.
وهكذا ينظر إلى الفن الذي ينتمي إلى أسلوب معين، أو إلى ذوق عصر
معين، على أنه أنموذج كل قيمة إستطيقية. ومع ذلك فلا مفر من أن
يظهر بمُضِي الوقت فن مختلف كل الاختلاف. وهذا واحد من الأسباب
التي تؤدي إلى تغير الأذواق (وسوف نأتي في موضع تالٍ من هذا الفصل
بأمثلة محددة لهذه الظاهرة).
٢ وعندئذٍ يتضح أن هناك موضوعات لها قيمتها بالنسبة إلى
الإدراك، ولكنها لا تتسم بالسمات التي كانت تعد من قبل «إستطيقية»،
ويتبين أن التفسير الأصلي للقيمة الإستطيقية كان محدودًا وضيقًا
أكثر مما ينبغي، أو يتضح أنه يسيء تفسير طبيعة الميدان
الإستطيقي.
ورغبةً منا في تجنب هذا النوع من النظرة الضيقة التي تؤدي إلى
الشلل في التفكير، فسوف نعرف «الإستطيقي» على أساس نوع معين من
الإدراك. وإن مما له أهمية عظمى عند بدء هذه الدراسة أو أية دراسة
أخرى، ألا يضع المرء حدودًا أضيق مما ينبغي لميدان دراسته. والواجب
على الأقل ألا نفعل ذلك بطريقة قبلية
(apriori)، أي قبل أن يبدأ
البحث الفعلي لمعطيات الموضوع؛ ذلك لأنك لو قيدت نفسك بقيود شديدة
منذ البداية، فأغلب الظن أنك ستغفل حقائق عظيمة الأهمية. أما إذا
عرفنا «الإستطيقي» بأنه إدراك لموضوع معين لمجرد إدراكه فحسب، فإن
جميع الموضوعات التي وجد الناس فرصة لتأملها، أيًّا كان نوعها،
تدخل ضمن ميدان الدراسية. وهذه الموضوعات تشمل الأنواع والعصور
والأساليب المختلفة للفن، كما تشمل موضوعات متباينة، ومناظر
طبيعية. وبعد ذلك يمكننا أن ننتقل إلى تحليل بناء هذه الموضوعات،
ونرى إلى أي مدى تتشابه فيما بينها.
وهذا يؤدي بنا إلى السبب الثاني لاختيار هذا التعريف للفظ
«الإستطيقي»، وهو سبب سبق أن ذكرناه عند نهاية الفصل الأول، فإذا
أردنا أن نفهم ما المقصود عادة «بالفن» و«الجمال» وتجربتنا الخاصة
بهما، فلا بد لنا من فهم الطريقة التي يعمل بها الإدراك الإستطيقي،
وقد رأينا أن الأعمال الفنية يمكن أن تدرس وتقوم على أنحاء شتى، أي
من الوجهة الأخلاقية، وبوصفها وثيقة اجتماعية … إلخ. فإذا ما
أقبلنا على العمل متخذين وجهة نظر عالم الاجتماع أو المفكر
الأخلاقي، فإنَّا لا نصل إلى قيمته الكامنة. ولا بد لتحقيق هذا
الهدف من النظر إلى العمل دون أي انشغال بأصله ونتائجه. وعلى ذلك
فإن تحليل مثل هذا الإدراك شرط ضروري لتفسير القيمة الإستطيقية (لا التاريخية أو
الأخلاقية … إلخ) للفن، والمعاني الإستطيقية للفظ «الجمال».
•••
إن فكرة فردانية الإدراك الإستطيقي لها، ككل الأفكار الأخرى،
تاريخها، ولكن على الرغم من أننا نجدها في مواضع متفرقة طوال تاريخ
التفكير النظري الجمالي، فإنها لم تصبح ذات أهمية رئيسية في دراسة
الإستطيقا إلا في القرن الثامن عشر. وبعد ذلك الوقت أصبحت الفكرة
عظيمة الشيوع. فلنحاول إذن أن نتبين بعض الأسباب التاريخية التي
أدت إلى ذلك.
لقد ظل الفن يُفسَّر ويُقدَّر، طوال التاريخ كله، وحتى في عصرنا
الحاضر، على أسس غير إستطيقية؛ إذ كان يُبجَّل من أجل منفعته
الاجتماعية، أو لأنه يبث في النفوس معتقدات دينية، أو لأنه يجعل
الناس أفضل من الوجهة الأخلاقية، أو لأنه مصدر للمعرفة. ولعل
القارئ يدرك أن قيمة الفن تقدر في كل هذه الحالات بناء على ما يؤدي
إليه من النتائج، لا من أجل أهميته الباطنة، ولكن حدث في القرون
الأخيرة تحول ملحوظ نحو الاهتمام بالأهمية الإستطيقية للفن. ومن
أهم أسباب ذلك، التغير الضخم في مركز الفنان في المجتمع؛ فقد أخذ
يزداد انفصالًا عن بقية مجتمعه، ولم يعد ينظر إليه على أنه واحد من
بين الصناع الآخرين، كما كان في المجتمع اليوناني والوسيط، وإنما
أصبح ينظر إلى نفسه على أنه مميز عن الباقين بفضل قدراته الخلاقة
أو «عبقريته». وفضلًا عن ذلك فإن نشاطه الإبداعي أصبح منفصلًا عن
الوظائف الأخرى للمجتمع. ولعل أبلغ الأمثلة دلالة على ذلك هي
الموسيقى. فطوال التاريخ الاجتماعي كانت الموسيقى فنًّا تابعًا
لأوجه نشاط أخرى، أي أنها كانت أناشيد للعمل، وموسيقى شعائرية،
وأغانيَ للحرب. وكان من الشائع تسخيرها لخدمة الدين، حيث كانت
تستخدم لأغراض العبادة والاحتفالات. وهكذا قال الموسيقي الألماني
العظيم يوهان سباستيان باخ (١٧٨٥–١٧٥٠م) إنه كانت يكتب الموسيقى
«لينشد المدائح في الله»، ولكن الموسيقيِّين أخذوا طوال القرن
التاسع عشر يزدادون ميلًا إلى كتابة موسيقى يُقصد منها أن تُتذوق
لذاتها. وعلى ذلك فإن الموسيقى التي لا تخدم أي غرض سوى أن تُسمع،
هي تطور حديث نسبيًّا من الوجهة التاريخية. وأخيرًا، فهناك عدد من
القوى الاجتماعية والحضارية عملت على زيادة عزلة الفنان؛ فهو،
أولًا، ينفر من قبح المجتمع الصناعي، بما فيه من مراكز صناعية
كئيبة ومدن مزدحمة قذرة. وهو في الوقت ذاته يرفض ضغوط «المجتمع
الجماهيري mass society» التي تفرض
على المرء أن يتمشى مع قيم «الجماهير» وطريقتها في الحياة. ومثل
هذا التجانس والاطِّراد كفيل بخنق الفردية التي يعتز بها الفنان كل
الاعتزاز. وعندما يحاول الفنان أن يعبر عن فرديته دون قيد، يؤدي
ذلك إلى زيادة تفاقم الموقف؛ فالفنان يخلق أعمالًا جديدة جريئة إلى
حد مذهل، لا يوجد لها إلا جمهور قليل، إن وُجِد. يصبح الفن والنشاط
الفني موضوعًا للازدراء والاحتقار، أو يُقابَلان بالتجاهل، وهو
أسوأ ما في الأمر. فلنتأمل مثلًا المواقف التي يتخذها معظم الناس
في الوقت الراهن نحو «الفن الحديث» والموسيقى المعاصرة. فعلى الرغم
من تزايد عدد الناس الذين يجدون في مثل هذا الفن قيمة، فإن نطاق
جاذبيته ما زال محدودًا جدًّا. وهكذا فإن التيار الرئيسي للمجتمع
قد لفظ الفن.
ونتيجة للأسباب التي أجملتها من قبل، وكذلك لأسباب أخرى، أخذ
يبرز فهم جديد للفن: هو أن الفن يوجد لمجرد الاستمتاع به لذاته.
فله قيمته في ذاته، لا لأنه يخدم أهداف الدين أو الأخلاق أو
المجتمع بوجه عام. وأشهر تعبير عن هذه النظرة يتمثل في الحركة
المسماة «الفن لأجل الفن»، التي ازدهرت في النصف الثاني من القرن
التاسع عشر؛ فهذه الحركة كانت تؤكد أن الطريقة الوحيدة للنظر إلى
الفن إنما تكون من خلال الإدراك الإستطيقي.
وهكذا فإن الاهتمام الفلسفي بالإدراك الإستطيقي ينشأ عن تطورات
تاريخية في الفنون والمجتمع.
•••
غير أن معرفة الأصول التاريخية لفكرة معينة شيء، وفحص هذه الفكرة
ذاتها واختبار مدى صحتها شيء مختلف كل الاختلاف. وعلينا الآن أن
ننتقل إلى هذه المسألة الثانية. ولنذكر أن التبرير الذي يقدم من
أجل جعل الإدراك الجمالي أساسيًّا في دراستنا لم يفسَّر حتى الآن
إلا تفسيرًا جزئيًّا، ولكن أهمية هذا المفهوم، شأنها شأن أهمية
الفكرة الرئيسية في أي ميدان من ميادين البحث، ستزداد وضوحًا كلما
مضينا في طريقنا قُدمًا. وسوف يتضح لنا أن مفهوم الإدراك الإستطيقي
له فائدة هائلة في حل كثير من المشكلات التي ستعترضنا فيما
بعد.
وأخيرًا، لنذكر أننا لما كنا سنتحدث عن نوع معين من التجربة
البشرية، فإن ما نقوله ينبغي أن يكون مطابقًا لوقائع هذه التجربة،
وينبغي أن يصف بدقة الطريقة التي ندرك بها الأدب والموسيقى
والتصوير، ويساعد على تفسير قيمة التجربة. وما لم يؤدِّ العرض الذي
سنقدمه إلى هذه النتيجة، فلن يقبله أي شخص ذي نزعة نقدية
فلسفية.
(١) كيف ندرك العالم
يفسَّر الإدراك الإستطيقي عن طريق الموقف الإستطيقي.
والواقع أن الموقف الذي نتخذه هو الذي يتحكم في طريقة
إدراكنا للعالم. والموقف هو طريقة في توجيه إدراكنا أو التحكم
فيه؛ فنحن لا نرى أو نسمع أبدًا كل شيء في بيئتنا دون تمييز،
وإنما «ننتبه» إلى بعض الأشياء، على حين أننا لا ندرك غيرها
إلا بطريقة باهتة، وقد لا ندركها على الإطلاق. وهكذا فإن
الانتباه انتقائي؛ أي إنه يركز على سمات معينة من البيئة
المحيطة بنا، ويتجاهل الأخريات. وعندما يتضح لنا ذلك، نستطيع
أن ندرك مدى النقص في الفكرة القديمة القائلة إن البشر ليسوا
إلا كائنات تستقبل بطريقة سلبية كل المنبهات الخارجية، وأي
واحد من هذه المنبهات. وفضلًا عن ذلك فإن الأغراض التي تكون
لدينا في وقت الإدراك هي التي تتحكم في تحديد ما نختاره لكي
ننتبه إليه. فأفعالنا في عمومها تتجه نحو هدف ما. ولكي يحقق
الكائن العضوي هذا الهدف، فإنه ينتبه بدقة لكي يعرف ما الذي
سيفيده في البيئة وما الذي سيضره، ومن الواضح أنه عندما تكون
للأفراد أغراض مختلفة، فإنهم يدركون العالم على أنحاء مختلفة،
بحيث يؤكد أحدهم أمورًا معينة يتجاهلها غيره؛ فالكشاف الهندي
يبدي انتباهًا دقيقًا للعلامات والمعالم التي يغفلها الشخص
الذي يسير في الغابة متجولًا بلا غاية.
وهكذا فإن الموقف الذي نتخذه يرشد انتباهنا في اتجاهات
مرتبطة بأغراضنا، وهو يضفي اتجاهًا على سلوكنا بطريقة أخرى غير
هذه؛ فهو يعدُّنا للاستجابة لما ندركه، وللسلوك على نحو نعتقد
أنه سيكون فعالًا إلى أقصى حد في تحقيق أهدافنا. وفي الوقت
ذاته فإنا نكبت أو نقمع تلك الاستجابات التي تقف حائلًا في وجه
جهودنا؛ فالشخص الحريص على كسب مباراة في الشطرنج يعدُّ نفسه
للرد على نقلات خصمه، ويفكر مقدمًا في أفضل طريقة للقيام بذلك،
كما أنه يحرص على ألا ينصرف انتباهه بعيدًا بفعل المؤثرات
اللاهية.
وأخيرًا، فإن اتخاذ المرء موقفًا يعني أنه اتخذ اتجاهًا فيه
استحسان أو استهجان؛ فقد يرحب المرء ويبتهج بما يراه، أو قد
يقف إزاءه موقفًا معاديًا جافًّا؛ فالشخص الكاره للإنجليز هو
شخص يتخذ من كل ما هو إنجليزي موقفًا سلبيًّا، بحيث إنه عندما
يصادف شخصًا ذا لكنة إنجليزية أو يسمع السلام البريطاني، فإنا
نتوقع منه أن يقول شيئًا فيه استخفاف أو ازدراء. وإذن فعندما
يتخذ المرء موقفًا إيجابيًّا من شيء معين، فإنه يحاول دعم وجود
الشيء، ومواصلة إدراكه، أما عندما يكون هذا الموقف سلبيًّا،
فإنه يحاول القضاء على الشيء أو صرف انتباهه عنه.
ومجمل القول إن الموقف أو الاتجاه ينظم وعينا بالعالم
ويوجهه. على أن الموقف الإستطيقي ليس هو الموقف الذي يتخذه
الناس عادة، بل إن الموقف الذي نتخذه في العادة يمكن أن
يُسمَّى بموقف الإدراك «العملي».
•••
إننا نرى الأشياء في عالمنا عادةً على أساس فائدتها في تحقيق
أغراضنا أو إعاقتها. ولو أمكن أن نعبر بالكلمات عن موقفنا
المعتاد من شيء ما، لاتخذت هذه الكلمات صورة السؤال: «ما الذي
يمكنني أن أفعله به، وما الذي يمكنه أن يفعله لي؟» فأنا أرى
القلم على أنه شيء أستطيع أن أكتب به، وأرى السيارة القادمة
على أنها شيء ينبغي تجنبه؛ ولكني لا أركز انتباهي على الموضوع
ذاته، بل إن هذا الموضوع لا يهمني إلا بقدر ما يتسنى له
مساعدتي في تحقيق هدف مقبل معين. والحق أن المرء حين يضع تحقيق
أغراضه نصب عينيه، يكون من الحمق ومن قبيل تبديد الجهد فيما لا
طائل وراءه أن يستغرق في الموضوع ذاته؛ فالعامل الذي لا يفعل
شيئًا سوى النظر إلى أدواته، لا ينجز عمله أبدًا. وبالمثل فإن
الأشياء التي تستخدم «علامات»، كجرس الغداء أو إشارات المرور
الضوئية، لا تكون لها أهمية إلا من حيث هي مرشدة لسلوك تالٍ.
وإذن فعندما يكون موقفنا «عمليًّا»، لا ندرك الأشياء إلا
بوصفها وسيلة لهدف يتجاوز تجربة إدراكنا لها.
وعلى ذلك فإن إدراكنا للشيء يكون عادة محدودًا متجزئًا، ونحن
لا نرى منه إلا سماته المرتبطة بأغراضنا، وما دام مفيدًا فإننا
سنبدي به اهتمامًا كبيرًا.
والإدراك عادةً لا يعدو أن يكون تحديدًا وقتيًّا سريعًا لنوع
الشيء وفوائده. وعلى حين أن الطفل لا بد له أن يبذل جهدًا
ليعرف كُنْه الأشياء وأسماءها واستعمالاتها الممكنة، فإن
البالغ لا يفعل ذلك، بل إن التعود جعله يقتصد في إدراكه، بحيث
يستطيع التعرف على الشيء وفائدته على الفور تقريبًا. فإذا كنت
أنوي الكتابة، فإني لا أتردد في التقاط القلم بدلًا من ساعة
اليد أو الملعقة، والشيء الوحيد الذي يعنيني في هذه الحالة هو
فائدة القلم في الكتابة، لا لونه أو شكله المميز. ألا ينطبق
ذلك أيضًا على الجزء الأكبر من إدراكنا للأشياء المحيطة بنا في
هذا العالم؟ «إن كل ما يفعله الشخص السوي حقيقة في الحياة
الفعلية هو أنه يقرأ البطاقات الموجودة على الموضوعات المحيطة
به — إن جاز هذا التعبير — ولا يعبأ بأي شيء آخر.»
٣
والحق أننا لو فكرنا في مقدار ما نراه حقيقة من العالم
لأدهشتنا ضآلته فنحن «نقرأ البطاقات» على الأشياء لنعرف كيف
نسلك إزاءها، ولكنا لا نكاد نرى الأشياء ذاتها. وكما قلت من
قبل، فإنه لا مفر لنا من أن نفعل ذلك حتى يتسنى لنا أن ننجز ما
نريده في العالم. ومع ذلك فعلينا ألا نفترض أن الإدراك الحسي
هو دائمًا «عملي» عادة، كما هو في حضارتنا على الأرجح، بل إن
هناك مجتمعات أخرى تختلف عن مجتمعنا في
هذا الصدد.
٤
ومع ذلك فإن الإدراك لا يقتصر على الطابع «العملي» وحده في
أيه حالة من الحالات؛ ذلك لأننا نوجه انتباهنا، من آنٍ لآخر،
نحو شيء معين لمجرد الاستمتاع بمرآه أو بمسمعه أو ملمسه. وهذا
هو الموقف «الإستطيقي» في الإدراك، وهو يظهر حيثما أصبح الناس
مهتمين بمسرحية أو رواية، وحيثما استمعوا بانتباه إلى قطعة
موسيقية، بل إنه يحدث حتى في وسط الإدراك «العملي» وذلك في
«لمحات شاردة نقوم بها من آنٍ لآخر نحو الأشياء المحيطة بنا،
عندما نمل إلحاح مشاغل الحياة العملية أو نتخلى عنها لحظة
لنفرغ لأحوالنا نحن، كما يحدث للسائح في إجازته،
أثناء قيامه بمهمة تستغرق
انتباهه، هي قيادة سيارته بسرعة أربعين أو خمسين ميلًا في
الساعة في الطريق الواسع لكي يصل إلى المكان المطلوب، أن يلقي
بنظرة إلى الأشجار أو إلى التلال أو المحيط.»
٥
(٢) الموقف الإستطيقي
المفروض أن نبدأ مناقشتنا للموقف الجمالي بالإتيان بتعريف
له، ولكن ينبغي أن نذكر أن التعريف، هنا أو في أية دراسة أخرى،
ليس إلا نقطة بداية لبحث تالٍ. ولا يمكن أن يقنع بألفاظ
التعريف وحدها، دون إدراك للطريقة التي يستطيع بها التعريف أن
يساعدنا على فهم تجربتنا، وكيف يمكن استخدامه في مواصلة دراسة
علم الجمال، إلا طالب يفتقر إلى الفطنة أو إلى النشاط العقلي.
وبعد كلمة التحذير هذه، أود أن أُعرِّف «الموقف الإستطيقي»
بأنه «انتباه وتأمل متعاطف مُنزَّه عن الغرض لأي موضوع للوعي
على الإطلاق، من أجل هذا الموضوع ذاته فحسب». فلنتناول إذن كل
فكرة وردت في هذا التعريف على التوالي، ونبحث في معناها
الدقيق. ولما كان هذا تحليلًا مجزءًا، فلا بد أن تكون قيمة
الوصف الذي نقدمه متمثلة في التحليل بأكمله، لا في أي جزء
منفرد منه.
•••
إن اللفظ الأول، وهو لفظ «مُنزَّه عن الغرض»، له أهمية
حاسمة، فهو يعني أننا لا ننظر إلى الموضوع اهتمامًا منا بأي
غرض خارجي قد يفيد هذا الموضوع في تحقيقه؛ فنحن لا نحاول
الانتفاع من الموضوع أو استخدامه أداة. وليس هناك غرض يتحكم في
التجربة سوى غرض ممارسة التجربة فحسب؛ فاهتمامنا يقف عند حد
الموضوع وحده، بحيث لا يعد هذا الأخير علامة على حادث مقبل
معين، كجرس الغداء، أو منطلقًا لنشاط تالٍ، كإشارة المرور
الضوئية.
وهناك أنواع متعددة من «الاهتمام» تستبعد من المجال
الإستطيقي. من هذه الأنواع الاهتمام بامتلاك عمل فني من أجل
التفاخر أو المباهاة؛ ففي كثير من الأحيان قد يرى أحد هواة جمع
الكتب مخطوطًا قديمًا، فلا يهتم إلا بندرته أو بسعر بيعه، لا
بقيمته من حيث هو كتاب أدبي (وهناك من هواة جمع الكتب من لم
يقرءوا أبدًا ما يملكونه منها!) وهناك نوع آخر غير إستطيقي من
الاهتمام هو الاهتمام «المعرفي»، أي الاهتمام باكتساب معرفة عن
الموضوع؛ فخبير الأرصاد الجوية لا يهتم بالشكل المرئي لتكوين
فريد من السحب، وإنما يهتم بالأسباب التي أدت إليه. وبالمثل
فإن الاهتمام الذي يبديه عالم الاجتماع أو المؤرخ بعمل فني،
وهو الاهتمام الذي أشرنا إليه في الفصل السابق، هو اهتمام
معرفي. وفضلًا عن ذلك، فحين يكون غرض الشخص الذي يدرك الموضوع،
أي «المدرك
percipient»،
٦ هو إصدار الحكم عليه، فإن موقفه لا يكون
إستطيقيًّا. وهذا أمر ينبغي أن نذكره جيدًا؛ إذ إن موقف الناقد
الفني، كما سنرى فيما بعد، يختلف اختلافًا ملحوظًا عن الموقف
الإستطيقي.
ونستطيع أن نقول عن جميع هذه الاهتمامات غير الإستطيقية، وعن
الإدراك «العملي» بوجه عام، إن الموضوع يدرك فيها بغية معرفة
أصله ونتائجه وعلاقاته المتبادلة مع الأشياء الأخرى. وفي مقابل
ذلك يقوم الموقف الإستطيقي ﺑ «عزل» الموضوع والتركيز عليه — أي
على «منظر» الصخور، وصوت المحيط، والألوان في صورة. وعلى هذا
النحو لا يدرك الموضوع بطريقة جزئية أو عابرة، كما هي الحال في
الإدراك «العملي»، أي عند استخدام قلم في الكتابة، بل إن
الاهتمام ينصب على طبيعته وكيانه الكامل. أما الشخص الذي لا
يشتري لوحة إلا لكي يغطي بقعة في الجدار فلا يرى التصوير فيها
على أنه توزيع ممتع للألوان والأشكال.
فبالنسبة إلى الموقف الجمالي، لا ينبغي تصنيف الأشياء أو
دراستها أو الحكم عليها؛ فهي في ذاتها باعثة للذة، أو مثيرة في
مرآها. وإذن فينبغي أن يكون واضحًا أن كون المرء منزهًا عن
الغرض disinterested مختلف
تمامًا عن كونه غير عابئ أو مكترث
uninterested، بل إن من
الممكن، كما نعرف جميعًا، أن نكون مستغرقين بعمق في كتاب أو
فيلم سينمائي، بحيث نصبح أكثر «اهتمامًا» بكثير مما نكون خلال
نشاطنا «العملي» المعتاد.
ويشير لفظ «المتعاطف» في تعريف «الموقف الإستطيقي» إلى
الطريقة التي نعدُّ بها أنفسنا للاستجابة للموضوع، فعندما ندرك
موضوعًا بطريقة إستطيقية، نفعل ذلك لكي نتذوق طابعه الفردي،
وندرك إن كان الموضوع جذابًا، أو مثيرًا، أو مليئًا بالحيوية،
أو هذه كلها معًا. وإذا شئنا أن نتذوق الموضوع، فلا بد لنا من
أن نقبله «على ما هو عليه». وعلينا أن نجعل أنفسنا متلقين
للموضوع و«نهيئ» أنفسنا لقبول أي شيء قد يقدمه للإدراك. وإذن
فمن الواجب أن نكبت أية استجابات تكون «غير متعاطفة» مع
الموضوع، وتؤدي إلى تباعدنا عنه أو وقوفنا منه موقف العداء؛
فالمسلم المؤمن قد لا يتمكن من إقناع نفسه بالوقوف طويلًا أمام
لوحة للعائلة المقدسة، نظرًا إلى عدم إيمانه بالعقيدة
المسيحية. ولو شئنا مثلًا أقرب إلينا لقلنا إن أي واحد منا قد
يرفض رواية معينة لأنها تبدو متعارضة مع اعتقاداتنا الأخلاقية
أو «طريقتنا في التفكير». وعندما نفعل ذلك، ينبغي أن نكون على
بينة مما نحن فاعلون؛ فنحن لم نقرأ الكتاب بطريقة إستطيقية؛ إذ
إننا أقحمنا استجابات أخلاقية أو غيرها، وهي استجابة خاصة بنا،
وغريبة عن الكتاب نفسه، وفي هذا خروج عن الموقف الجمالي.
وعندئذٍ لا يكون في استطاعتنا القول إن الرواية رديئة
«إستطيقيًّا»؛ إذ إننا لم نسمح لأنفسنا بفحصها إستطيقيًّا. أما
إذا شئنا أن نحتفظ بالموقف الإستطيقي، فلا بد لنا من أن ننقاد
للموضوع ونستجيب له بطريقة متوافقة معه.
على أن هذا ليس في كل الأحوال أمرًا هينًا، إذ إن لكل منا
قيمًا وتحيزات متأصلة فيه. وقد تكون هذه أخلاقية أو دينية، أو
قد تنطوي على شيء من التحامل على الفنان، أو حتى على البلد
الذي ينتمي إليه (ففي خلال الحرب العالمية الأولى، كان كثير من
الفرق السيمفونية الأمريكية يرفض عزف مؤلفات الموسيقيين
الألمان). وتزداد المشكلة حدة في حالة الأعمال الفنية
المعاصرة، التي قد تعالج مسائل متعلقة بالخلافات أو المعتنقات
التي نكون مندمجين فيها بعمق. وعندما نفعل ذلك، يحق لنا أن
نذكر أنفسنا بأن الأعمال الفنية كثيرًا ما تفقد بمضي الوقت
دلالتها المتعلقة بمناسبتها المؤقتة، وتجد بعد ذلك تقديرًا من
الأجيال اللاحقة بوصفها أعمالًا فنية عظيمة؛ فقصيدة ملتن
Milton «المذبحة الأخيرة
في بيامونت On the Late Massacre in
Piedmont» هي احتجاج مدوٍّ أثاره حادث وقع
قبل كتابته للقصيدة بوقت قصير. غير أن المسائل الدينية
والسياسية الحامية المتضمنة فيها تبدو بعيدة كل البعد عنا في
الوقت الراهن. وفي بعض الأحيان قد يعتب المرء على صديق يرفض
مقدمًا عملًا فنيًّا يميل إليه الأول، فيقول «إنك ترفض حتى أن
تعطيه فرصة»؛ «فالتعاطف» في التجربة الإستطيقية يعني أن نعطي
الموضوع «فرصة» لكي يبين لنا كيف يمكنه أن يكون ذا أهمية
وطرافة بالنسبة إلى الإدراك.
وهنا نصل إلى كلمة «الانتباه» في تعريفنا «للموقف
الإستطيقي». وكما أشرنا من قبل، فإن أي موقف يوجه انتباهنا نحو
سمات معينة للعالم. غير أن عنصر الانتباه ينبغي أن يؤكَّد
تأكيدًا خاصًّا عند الكلام عن الإدراك الإستطيقى؛ ذلك لأن
الإدراك الإستطيقي، كما اعتاد أن يقول أحد أساتذتي السابقين،
كثيرًا ما يظن أنه «حملقة شاردة، أشبه بنظرة البقرة البلهاء»،
ومن السهل أن نقع في هذا الخطأ عندما نجد الإدراك الإستطيقي
يوصف بأنه «مجرد التطلع» دون أي نشاط أو اهتمام عملي. ومن ذلك
يستدل على أننا نقتصر على تعريض أنفسنا للعمل الفني، ونسمح له
بإغراقنا في موجات من الصوت أو اللون.
غير أن هذا قطعًا تشويه لوقائع التجربة. فعندما نستمع إلى
قطعة موسيقية ذات إيقاع مثير، تستحوذ علينا بما فيها من حركة
وتوثب، أو عندما نقرأ رواية تثيرنا إثارة بالغة، نبدي لها
انتباهًا جادًّا، ونكاد نستبعد كل شيء آخر محيط بنا؛ فحين
«نجلس على حافة الكرسي» من فرط الإثارة، نكون أبعد ما يمكن عن
السلبية. إننا حين نتخذ الموقف الإستطيقي، نريد أن نجعل قيمة
الموضوع تأتي بحيوية كاملة إلى تجربتنا. وعلى ذلك فإننا نركز
انتباهنا على الموضوع، ونشحذ قدراتنا على التخيل والانفعال حتى
نستجيب له. وكما يقول أحد علماء النفس عن التجربة الإستطيقية:
«إن التذوق … وعي، وتنبه، وحيوية.»
٧ والانتباه له دائمًا درجات، وهو يزداد شدة أو ينقص
باختلاف حالات الإدراك الجمالي؛ فاللون الذي يُرى بسرعة، أو
اللحن الصغير، قد يُدرك على «حافة» الوعي، على حين أن الدراما
قد تستحوذ علينا استحواذًا تامًّا، ولكن أيًّا كانت درجة
الانتباه، فإن التجربة لا تكون إستطيقية إلا عندما «يسيطر»
الموضوع على انتباهنا.
وفضلًا عن ذلك فإن الانتباه الإستطيقي يكون مصحوبًا بنشاط
إيجابي، ليس من قبيل نشاط التجربة العملية، الذي يسعى إلى
تحقيق هدف خارج عنه، بل إن هذا نشاط يثيره الإدراك المنزَّه عن
الغرض للموضوع، أو يتطلبه هذا الإدراك. أما الأول فيشمل كل
الاستجابات العقلية والعصبية والحركية، كأحاسيس التوتر أو
الحركة الإيقاعية. وعلى عكس ما يريد أن يقنعنا بعض المتحذلقين،
فليس ثمة شيء غير إستطيقي في أساسه عندما يدق المرء قدمه مع
الإيقاع الموسيقي. فنظرية «الاندماج العاطفي
empathy» تشير إلى أننا
نكيف حركاتنا العضلية والجسمية بحيث نندمج بأحاسيسنا في
الموضوع. فنحن نشد أنفسنا وتصبح عضلاتنا متوترة عندما نواجه
تمثالًا يتصف بطول القامة والقوة واستقامة البنيان.
٨ ولا يحدث ذلك في التجربة الإستطيقية وحدها، كما
أنه لا يحدث في كل تجربة إستطيقية، ولكنه عندما يحدث، يكون
مثالًا لذلك النوع من النشاط الذي يمكن أن يثيره الإدراك
الإستطيقي، وقد لا يكون من الخطأ تسمية توجيه الانتباه ذاته
باسم «النشاط
activity»، ولكن
الإدراك الإستطيقي قد يقتضي أيضًا حركات وجهودًا جسمية مباشرة.
فنحن عادة نجد أنفسنا في حاجة إلى السير حول كل جوانب العمل
المنحوت، أو في أرجاء كاتدرائية، قبل أن نستطيع تذوقها، وفي
كثير من الأحيان قد نمد أيدينا ونلمس التماثيل لو سمح لنا حراس
المتاحف بذلك.
غير أن التركيز على الموضوع و«السلوك» إزاءه ليس كل المقصود
«بالانتباه» الإستطيقي، بل لا بد لنا، لكي نتذوق القيمة
الكاملة للموضوع، من أن ننتبه إلى تفاصيله التي كثيرًا ما تكون
معقدة وغامضة. والوعي الواضح بهذه التفاصيل هو «التمييز
discrimination». والواقع
أن الناس كثيرًا ما يفقدون قدرًا كبيرًا في تجربة الفن، ليس
فقط لأن انتباههم يضعف، بل لأنهم يعجزون عن «رؤية» كل ما له
أهمية في العمل، بل إن هذا السبب بعينه كثيرًا ما يكون علة ضعف
انتباههم. فعندئذٍ تفوتهم الشخصية المميزة للعمل، بحيث يكون
وقع أية سيمفونية كوقع أية قطعة أخرى من الموسيقى «الطويلة
النفس»، ولا تتميز قصيدة غنائية عن قصيدة أخرى، ويكون الجميع
عملًا بنفس المقدار. أما لو كان من حسن حظك أن درست الأدب مع
أستاذ قدير، لعرفت كيف يمكن أن تغدو المسرحية أو الرواية حيوية
أخاذة عندما تتعلم الاهتداء إلى التفاصيل التي لم تكن من قبل
تشعر بها. غير أن مثل هذا الوعي ليس بالأمر الذي يسهل الوصول
إليه؛ فهو في كثير من الأحيان يقتضي معرفة بالإيحاءات أو
الرموز الموجودة في العمل، وتجربة متكررة للعمل، بل قد يقتضي
أحيانًا تدريبًا متخصصًا في النوع الفني ذاته.
وإذ ينمو لدينا الانتباه القادر على التمييز الدقيق، يبعث
أمامنا العمل حيًّا، فلو استطعنا أن نحتفظ في أذهاننا بالألحان
الرئيسية في حركة سيمفونية، ونرى كيف تنمو وتتحول أثناء
الحركة، ونتذوق طريقة وضع كل منها في مقابل الآخر، فعندئذٍ
تحرز تجربتنا كسبًا كبيرًا، وتزداد ثراءً ووحدة. وبدون هذا
التمييز الدقيق تكون هزيلة؛ إذ إن المستمع لا يستجيب إلا
لفقرات مبعثرة أو البقعة من الألوان الأوركسترالية البراقة.
كما أنها تكون عندئذٍ مفتقرة إلى التنظيم؛ لأن المرء لا يشعر
بالبناء الذي يربط أجزاء العمل سويًّا. وقد يكون من الممكن وصف
تجربته بأنها إستطيقية بطريقة متقطعة، وعلى نطاق محدود، غير
أنها لا تبعث فيه من الرضاء كل ما كان يمكنها أن تبعثه. وكلنا
نعلم مدى سهولة الانتقال إلى التفكير في أمور أخرى أثناء عزف
الموسيقى، بحيث لا نكون في حقيقة الأمر واعين بها إلا في لحظات
متفرقة وهذا بدوره سبب آخر يدعونا إلى تنمية قدراتنا على تذوق
ما فيها من ثراء وعمق، فعلى هذا النحو وحده نستطيع أن نحول بين
تجربتنا وبين أن تصبح، على حد تعبير سانتيانا المشهور «حلم
يقظة نعسان، تتخلله سورات عصبية».
٩
فإذا ما فهمنا الآن كيف يكون الانتباه الإستطيقي يقِظًا
وواعيًا، فعندئذٍ لا يكون هناك خطأ في استخدام لفظ كثيرًا ما
طُبِّق على التجربة الإستطيقية؛ وهو لفظ «التأمل». أما قبل هذا
الفهم، فإن هناك خطرًا كبيرًا في أن يُفهم هذا اللفظ بمعنى
الحمْلقة المنعزلة، الباردة، وهو المعنى الذي رأينا أنه لا
ينطبق على حقائق التجربة الإستطيقية. والواقع أن لفظ «التأمل»
لا يضيف جديدًا إلى تعريفنا، بقدر ما يلخص أفكارًا ناقشناها من
قبل. فهو يعني أن الإدراك موجه إلى الموضوع لذاته، وأن المشاهد
لا يهتم بتحليل هذا الموضوع وتوجيه أسئلة بشأنه … كذلك يدل هذا
اللفظ على الاهتمام والاستغراق الكامل، كما هي الحال عندما
نقول إننا «غارقون في التأمل»، فعندئذٍ لا نكاد نلحظ معظم
الأشياء الأخرى، على حين أن موضوع الإدراك الإستطيقي يبرز من
الوسط المحيط به ويستحوذ على اهتمامنا.
•••
إن من الممكن اتخاذ الموقف الإستطيقي إزاء «أي موضوع للوعي
على الإطلاق». والواقع أننا لو التزمنا الدقة الكاملة لَمَا
وجدنا أنفسنا مضطرين إلى إدخال هذه العبارة الأخيرة في
تعريفنا، فقد كان في إمكاننا أن نفهم الموقف الإستطيقي على أنه
نوع الانتباه الإدراكي الذي كنا نتحدث عنه حتى الآن، دون أن
نضيف العبارة القائلة إن «أي موضوع على الإطلاق» يمكن أن يكون
موضوعًا له. غير أن التعريفات مرنة إلى حد ما. وفي استطاعتنا
أن ندرج فيها باختيارنا ما ليس ضروريًّا كل الضرورة في تحديد
كنه اللفظ المعرَّف. والواقع أن من أطرف وأهم صفات التجربة
الإستطيقية اتساع نطاقها إلى حد هائل، بل إلى غير حد.
إن التعريف يتيح لنا أن نقول إن أي موضوع على الإطلاق يمكن
أن يدرك بطريقة إستطيقية، أي إنه ليس ثمة شيء غير إستطيقي بحكم
طبيعته الباطنة. هناك، بالطبع، موضوعات معينة لها جاذبية
واضحة، بحيث «تخطف أبصارنا»، وتلفت إليها انتباهنا، كباقة من
الزهور براقة مختلفة ألوانها، أو أغنية حماسية، أو تكوينات
ضخمة للسحاب، أو كاتدرائية شامخة جليلة. ومن المؤكد أن هذا
الوصف لا يصدق على كثير من الأشياء الأخرى الموجودة في العالم،
بل لا يصدق على معظم هذه الأشياء، فهل يمكننا القول إن مجموعة
من البيوت القذرة الخربة المهدمة يمكن أن توصف بأنها
«إستطيقية»؟ وماذا نقول عن الأشياء الرتيبة التي لا تثير أية
مشاعر، كالبضائع المرصوصة صفًّا صفًّا في مخزن، أو كدليل
التليفون، إذا شئت؟ الواقع أن لفظ «الإستطيقي» كثيرًا ما
يُستخدم في اللغة اليومية للتمييز بين الموضوعات التي يسرنا
النظر أو الاستماع إليها، وتلك التي لا نجد فيها مثل هذه
المتعة. وكما قلنا من قبل عند بداية هذا الفصل، فإن هذا بدوره
هو رأي عدد كبير من النظريات الإستطيقية التقليدية.
ومن المؤكد أن هذه الحجة، القائلة إنه ليست كل الموضوعات
تستحق أن توصف بأنها «إستطيقية»، تبدو سليمة مقنعة. وفي
اعتقادي أن أفضل سبيل إلى الرد عليها هو تقديم أدلة على أن
البشر قد تأملوا بطريقة منزهة عن الغرض موضوعات شديدة التنوع
إلى حد هائل، من بينها ما يمكننا أن نعده منفرًّا إلى حد بعيد.
وكما ذكرنا من قبل، فقد كان الناس يجدون متعة إدراكية في أشياء
كان غيرهم في العصور السابقة أو في الحضارات الأخرى يعدونها
غير إستطيقية، بل إن «تاريخ الذوق» بأسره يثبت أن حدود التجربة
الإستطيقية قد أخذت تتوسع بالتدريج، وأصبحت تشتمل على أمور
هائلة التنوع.
وخير دليل على اتساع الرؤية هذا يتمثل في الفنون؛ فهنا نجد
لدينا سجلات دائمة للموضوعات التي كانت تثير الاهتمام
الإستطيقي. غير أن هذا الدليل يمكن أن يُهتدَى إليه في تذوق
الطبيعة أيضًا؛ فالموضوعات التي كان يختارها الفنانون من
الطبيعة ليعالجوها تدل على توسيع لنطاق الاهتمام الإدراكي.
ويستطيع «المؤرخون الاجتماعيون» في كثير من الأحيان أن يتتبعوا
تغيرات في تذوق الطبيعة على أنحاء أخرى، كما في المذكرات
واليوميات، والمواقع التي تختار أماكن للنزهة، وما إلى ذلك.
ولكن لنتحدث الآن عن الفن وحده. فلو اقتصرنا على فن الأعوام
المائة والخمسين الأخيرة، لوجدنا أن قدرًا هائلًا من الفن قد
كرس لنوعين من الأشياء تعدهما «الفطرة السليمة» غير
إستطيقيَّين في طبيعتهما الكامنة — أي تعدهما موضوعات عادية
تافهة، وأشياء وحوادث قبيحة مضحكة؛ ففي بداية القرن التاسع
عشر، كرس الشاعر ووردزورث قدرًا كبيرًا من شعره «للحياة
الريفية المتواضعة». وهناك لوحة من لوحات فان جوخ موضوعها كرسي
أصفر عادي تمامًا (انظر اللوحة رقم ١)، كما أن هناك لوحة
موضوعها الأثاث المهدم في غرفة نومه، بل إن في الفن القريب
العهد أمثلة أوضح من هذه، لتصوير الموضوعات القبيحة الكئيبة،
وقد يستطيع الطالب بنفسه أن يتذكر بعضًا منها. وسأذكر منها
«قارب الميدوزا The Raft of the
“medusa”»، لجريكو
Gericaul (اللوحة رقم ٣)،
والتصوير المؤلم لشخصية بائسة معذبة في أوبرا «فوتسك
Wozzeck» لبرج
Berg، والأدب «الواقعي»
كرواية «الأعماق السفلَى» Lower
Depths لجوركي و«إسطبلات لونيجان
Studs Lonigan» لفاريل
Farrell.
ومن المؤكد أن الفنان يدرك أمثال هذه الموضوعات بخيال
وإحساس، وعندما تظهر في العمل الفني، يكون قد أضفى عليها حيوية
وإثارة. ومع ذلك فإن مجرد توجيهه لانتباهه نحو هذه الموضوعات
يدل على مدى إمكان اتساع نطاق الاهتمام الإستطيقي. وفضلًا عن
ذلك فإن استخدامه لها يغير ذوق غير الفنان ويوسع نطاقه،
فعندئذٍ يصبح الشخص العادي حساسًا من جديد للأهمية الإدراكية
لكثير من الموضوعات والحوادث المختلفة. وهكذا فإن تذوق عظَمَة
سلاسل الجبال، وهو فصل حديث نسبيًّا في تاريخ الذوق، قد أثارته
أعمال فنية مثل قصيدة هالر
Haller «جبال الألب
Die Alpen». كذلك فإن هناك
موضوعات أقل ترفعًا، بل مناظر قبيحة، أصبحت موضوعات للانتباه
الإستطيقي. وها هي ذي شهادة شخص ليس من الفنانين:
«إن أقبح شيء في الطبيعة أستطيع أن أتصوره في الوقت
الراهن هو شارع معين به بيوت متداعية وتقام فيه سوق من
أسواق الطريق. ولو مر المرء به، كما أفعل أحيانًا، في
الصباح الباكر لأحد أيام الآحاد، لوجده قد اتسخ بالقش
والأوراق القذرة وغيرها من نفايات السوق. والموقف
المعتاد الذي أتخذه في هذه الحالة هو موقت التقزز،
بحيث أود أن أنأى بنفسي عن المنظر … ولكني أجد في بعض
الأحيان أن … المنظر قد انسحب بعيدًا عني، وانتقل إلى
المستوى الإستطيقي، بحيث أستطيع أن أتحمله بطريقة لا
شخصية تمامًا، وعندما يحدث ذلك، يبدو لي أن ما أدركه
يتخذ مظهرًا مختلفًا، ويصبح له شكل وتماسك كان يفتقر
إليه من قبل، وتظهر فيه التفصيلات بوضوح أكبر، ولكنه …
لا يبدو وقد زال قبحه وأصبح جميلًا. ففي استطاعتي أن
أرى القبح بطريقة إستطيقية، ولكني لا أستطيع أن أراه جميلًا.»
١٠
وفي استطاعة الطالب أن يفكر في أشياء في تجربته الخاصة —
كوجه، أو مبنًى، أو منظر طبيعي — تثير اهتمامًا إستطيقيًّا،
وإن لم تكن مما يُصطلح على وصفه بأنه «لطيف» أو «جذاب».
وبطبيعة الحال فإن أمثال هذه الشواهد لا تثبت أن جميع
الموضوعات يمكن أن تكون موضوعات جمالية. غير أنه عندما تتعدد
هذه الشواهد، فإنها تجعل من هذا الافتراض مسلمة معقولة في
مستهل البحث الجمالي.
•••
وتمشيًا مع هذه المسلمة، استخدم لفظ «الوعي
awareness» في تعريفنا
«للموقف الجمالي». ولقد كنت حتى الآن أستخدم لفظ «الإدراك» في
وصف التعرُّف الجمالي، غير أن معناه أضيق مما ينبغي؛ فهو يدل
على التعرف على معطيات الحس؛ كالألوان أو الأصوات، التي تفسر
أو «يحكم عليها» بأنها من نوع معين. ويختلف الإدراك عن الإحساس
كما تختلف تجربة البالغ عن تجربة الوليد، الذي يكون العالم
بالنسبة إليه مجموعة متعاقبة من «الانفجارات» الحسية الغامضة
المفككة. أما في تجربة البالغين، فيندر أن ندرك المعطيات
الحسية دون معرفة شيء عنها والربط بين بعضها وبعض، بحيث تصبح
ذات معنًى؛ فنحن نرى أكثر من مجرد بقعة لونية؛ إذ نرى راية أو
إشارة إنذار؛ فالإدراك هو أكثر الأنواع المألوفة «للوعي»، ولكن
إذا حدث الإحساس، فمن الممكن أن يكون بدوره إستطيقيًّا.
وهناك نوع آخر من «الوعي» يحدث في تجربة البالغين، وإن كان
حدوثه أقل نسبيًّا. ذلك هو المعرفة «العقلية» غير الحسية
«للتصورات والمعاني» وعلاقاتها المتبادلة؛ ومثل هذه المعرفة
تحدث في التفكير المجرد، كالمنطق والرياضة، فحتى في الحالات
التي يكون فيها مثل هذا التفكير مقترنًا «بصور»، فإن هذه تكون
ثانوية في حرب؛ فعندما يفكر الرياضي في خواص المثلثات، لا يكون
تفكيره مقتصرًا على أي مثلث معين قد «يراه في رأسه» أو يرسمه
على الورق. والشخص الذي يضع نسقًا للمنطق الرياضي يهتم
بالعلاقات المنطقية التي لا تُحس ولا تُدرك. على أن هذا النوع
من الإدراك يمكن أن يكون بدوره إستطيقيًّا، فإذا لم يكن هدف
المرء، خلال لحظة مؤقتة، هو حل إحدى المشكلات، وإذا تريث لتأمل
البناء المنطقي الماثل أمامه بطريقة منزهة عن الغرض، فعندئذٍ
تكون تجربته إستطيقية. وقد اعترف كثير من الرياضيين بوجود هذا
النوع من التجربة، ويشهد على وجودها استخدام ألفاظ مثل
«الرشاقة» و«اللطف»، وهي ألفاظ مستعارة من مجال الإستطيقا، في
وصف نسق فكرى. وتقول الشاعرة إدنا سانت فنسنت ميلي
Edna St. Vincent Millay،
في بيت أصبح مشهورًا «لا أحد سوى إقليدس رأى الجمال عاريًا».
ذلك لأن العالم الهندسي اليوناني الكبير شاهد الخواص والعلاقات
الرياضية التي «لا تكتسي برداء» محسوس من الصوت أو
اللون.
ولكي أعمل حسابًا لمثل هذه التجربة، فضلًا عن الإحساس،
استخدمت لفظًا متسعًا هو «الوعي» بدلًا من «الإدراك»؛ فأي شيء
على الإطلاق، سواء أكان موضوعًا لإحساس أم إدراك، وسواء أكان
نتاجًا للخيال أم للفكر التصوري يمكن أن يصبح موضوعًا للانتباه
الإستطيقي.
•••
وبذلك ننتهي من تحليل معنى «الموقف الإستطيقي»، وهو المفهوم
الرئيسي في دراستنا؛ «فالإستطيقي»، مفهومًا بمعنى «الانتباه
المتعاطف المنزه عن الغرض» هو الذي يحدد ميدان بحثنا التالي.
وجميع المفاهيم التي ستناقش فيما بعد تُعرَّف على أساس إرجاعها
إلى هذا المفهوم الرئيسي؛ «فالتجربة الإستطيقية» هي التجربة
الكلية التي تمر بها عندما يتخذ هذا الموقف؛ و«الموضوع
الإستطيقي» هو الموضوع الذي يتخذ إزاءه هذا الموقف؛ و«القيمة
الإستطيقية» هي قيمة هذه التجربة أو موضوعها. ومن هنا كان من
الضروري أن يفهم الطالب معنى «الإستطيقي» ويفكر فيه قبل أن
ينتقل إلى دراسة المسائل الأخرى.
(٣) دلالة الوعي الإستطيقي في التجربة الإنسانية
العنصر الأساسي في أي موقف هو اتخاذ اتجاه إيجابي أو سلبي
نحو ما هو مدرك؛
١١ فنحن إما أن ننظر إلى الموضوع بعين الرضا، وإما أن
نعاديه ونفر منه. فإذا كنا قد وصفنا الموقف الإستطيقي بدقة،
فمن الممكن أن يقال الآن إن الوعي الإستطيقي موجه دائمًا
«بطريقة إيجابية» نحو موضوعه. فنحن نركز انتباهنا على الموضوع
الذي «يستأثر باهتمامنا»، كما يقول التعبير الشائع. ومجرد كون
منفعة الموضوع لم تعد تدخل في الحسبان، يثبت أننا نرحب بوجود
الموضوع لمجرد كونه على ما هو عليه بالنسبة إلى أبصارنا أو
أسماعنا. ولنقل مرة أخرى إن هذا لا يعني أن الموضوع «جميل» أو
«لطيف» أو «خلاب» بالضرورة. فمن الممكن أن تكون له أهمية
إستطيقية على أنحاء أخرى؛ كأن يكون «أخاذًا» أو «مؤثرًا» أو
«قويًّا»، حتى لو كان كئيبًا قبيحًا.
وعلى ذلك فإن وصفنا للموقف الإستطيقي قد انطوى ضمنًا على أهم
ما في التجربة الإستطيقية؛ وهو أنها تجربة نجد رضاء في
ممارستها لذاتها، أو بتعبير آخر، أن هذه التجربة ذات قيمة
كامنة؛ فنحن نستغرق في فعل الوعي ذاته، ونجد فيه رضاء. وهذا
الفعل لا يكون مماثلًا لأداء المرء لعمله اليومي، أو زيارته
لطبيب الأسنان، وهي أمور تكون قيمتها راجعة إلى نتائجها؛ فنحن
نشعر بقيمة التجربة الإستطيقية في هذه التجربة ذاتها.
ولقد اعترف المفكرون بالقيمة الكامنة للتجربة الإستطيقية
بقدر ما اعترفوا بوجود «التأمل المُنزَّه عن الغرض» ذاته. ومن
الجدير بالملاحظة أن كِلا هذين الأمرين قد لقي اعترافًا من
فلاسفة توجد بينهم خلافات عميقة في بقية جوانب النظرية
الإستطيقية؛ فنحن نجد إيحاءً واضحًا بهما لدى مفكر العصور
الوسطى العظيم، القديس توما الأكويني، الذي عرف «الجمال» بأنه
«ذلك الذي يلذ لنا مجرد النظر إليه أو إدراكه ذاته
id cuius ipsa apprehensio
placet».
١٢ ولقد كان أول عرض منهجي في الفلسفة الحديثة لفكرة
التنزه الإستطيقي عن الغرض هو ذلك الذي قدمه «إمانويل كانْت»
في أواخر القرن الثامن عشر. فكانْت بدوره يتحدث عن «الرضاء»
الذي يتمثل في هذه التجربة.
١٣ ويعد الوصف المتضمن في كتابات شوبنهور، الفيلسوف
الألماني في القرن التاسع
عشر، من أفضل الأوصاف الموجزة للموقف الجمالي، التي يمكن
الاهتداء إليها في أي موضع.
١٤ فعلى الرغم من أن شوبنهور كان متشائمًا بعمق من
إمكان بلوغ السعادة البشرية، فإنه كان يرى أن للتجربة
الإستطيقية قيمة كبرى. ومن الممكن الإتيان بأمثلة كثيرة أخرى
لفلاسفة معاصرين تختلف اتجاهاتهم كل الاختلاف عن أولئك الذين
تحدثنا عنهم الآن.
هذا الاعتقاد الذي يشترك فيه الفلاسفة تؤيده التجربة التي
يكاد يمر بها كل إنسان تقريبًا — فحين يجذب المرءَ لونُ شجرة
أو رشاقتُها أو تناسقُها، أو يندمج في قصة ويظل مستغرقًا في
الانتباه لها، تكون تلك «لحظة» في الحياة جديرة بأن نمر بها
لذاتها. فإذا ما تساءل أحد: «وما قيمة هذه التجربة؟» كان
الجواب أوضح مما لو وجه هذا السؤال نفسه بصدد أي نوع آخر من
التجربة. فقيمة التجربة الجمالية ملموسة في التجربة ذاتها.
وإنا لنجد أن ذوي العقليات «العملية»، وأولئك الذين لا يشغلهم
شيء سوى إنجاز «عملهم في الحياة»، كثيرًا ما يتشككون في قيمة
التجربة الإستطيقية، ويعدونها تبديدًا لا جدوى منه. وصحيح أن
الموقف الإستطيقي، كما رأينا من قبل، يكبت الإدراك العملي، وقد
يؤدي، إذا ما استمر طويلًا، إلى إبطال النشاط الهادف الذي
يقتضيه منا العالم، ولكن لنطرح هذا السؤال نفسه من الجانب
الآخر: فما قيمة النشاط الإنساني الذي لا يخدم إلا هدفًا
مقبلًا ما؟ هل الغرض منه هو إتاحة تجربة أخرى معينة تكون أداة
لتجربة أخرى غيرها لا يُستمتع بها لذاتها، بل نمارسها من أجل
هدف آخر غيرها؟ وهل يتمثل أنموذج الحياة البشرية في حياة كثير
من عمال المدن في المجتمعات الصناعية، الذين يؤدون عملًا لا
يجدون فيه طرافة ولا يستمتعون به، حتى يمكنهم أن يظلوا أحياء
ليعودوا في الغد إلى نفس العمل الممل؟ إن ما نود أن نقوله هو
أن الجهد البشري «العمل» لا جدوى منه ما لم يؤدِّ في نقطة
معينة إلى تجربة تكون طريفة وممتعة في ذاتها. وإن الكثيرين
ليصفون الأمريكيين المعاصرين بأنهم يستغرقون في الاهتمام
بوسائل العيش إلى حد أنهم نادرًا ما يتذوقون القيمة الكامنة
للتجربة، ولكني أتجاسر فأقول إن هذا كان يصدق دائمًا على كثير
من الشعوب، في كثير من العصور والمجتمعات. ومع ذلك فإن غياب
القيمة الإستطيقية من الحياة كثيرًا ما يكون نتيجة لأخذ المرء
بشعار السعي إلى الكفاءة في العمل وترك «الكلام الفارغ»
جانبًا. والحق أن أولئك الذين يلتزمون بهذا الأسلوب في الحياة
هم من قصر النظر بحيث لا يختبرون أسلوبهم هذا أبدًا بطريقة
نقدية، وبالتالي لا يدركون قصوره أبدًا. فمن الواجب أن نذكرهم
بأن:
حياتنا، لو امتلأت بالمشاغل،
ولم تترك لنا وقتًا للتوقف والتأمل،
وقد لا يكون هذا شعرًا من الطراز الأول، ولكنه
رد ملائم على أولئك الذين لا يجدون للتجربة الإستطيقية
قيمة.
وعند هذه النقطة يكون من السهل الوقوع في خطأ التغزل الخيالي
في التجربة الإستطيقية، وهو الخطأ الذي حذرت منه في الفصل
الافتتاحي، ولكن المسألة ذاتها لا تحتاج إلى ذلك؛ فالإدراك
الإستطيقي ليس شيئًا نادرًا خارجًا عن المألوف، ما لم تكن
طريقة حياتنا مؤدية إلى النظر إلى هذا الإدراك على أنه شيء غير
طبيعي؛ فمن الممكن القول، بمعنًى معيَّن، إنه لا شيء أكثر
«طبيعية» من الوعي الإستطيقي. فما الذي يمكن أن يكون طبيعيًّا
أكثر من مجرد التطلع إلى العالم والاهتمام بمناظره وأصواته،
وحركته وطابعه المعبر؟ إننا جميعًا نفعل ذلك تلقائيًّا من آنٍ
لآخر، والطفل يفعله على الدوام، بحيث يظهر العالم له ناضرًا
مثيرًا.
ولكنا إذا شئنا أن نشق طريقنا في العالم فلا بد لنا أن نتعلم
كيف نتعرف على الأشياء ونضع لها أسماء، ونعرف فوائدها ومضارها.
وكما قلنا من قبل فإن تنمية عادات الإبصار هي أمر لا غناء عنه
من أجل توفير النشاط وبذله بطريقة فعالة. وعندما نعرف على
الفور كُنْه الأشياء وكيف نستطيع استخدامها، لا نحتاج إلى
إضاعة وقت في الإدراك، ولكن هذا يؤدي إلى فقدان للقيمة
الإستطيقية. ذلك لأننا لا نرى الأشياء إلا جزئيًّا وبتعجل، وفي
ذهننا أغراضنا المقبلة. وهكذا تغطي المادة عالمنا بقشرة من
الرتابة والجمود، وتبدد عنصر الإثارة الإستطيقية فيه. وإذن،
فالأمر كما قال الأستاذ بيبر
Pepper: «لو لم تكن هناك
عادات، لكانت معيشتنا كلها إستطيقية إلى أعلى مدى، ولما احتجنا
إلى أي فن أو أي أسلوب تطبيقي لكي نجعلها كذلك.»
١٦
•••
ومع ذلك فإني لا أود أن أترك لدى القارئ انطباعًا بأن
التجربة الإستطيقية والتجربة العملية متعارضتان بالضرورة؛ فهذا
اعتقاد واسع الانتشار في مدينتنا، كان من نتيجته أننا استبعدنا
الفن والتجربة الإستطيقية في ركنٍ قَصِي من حياتنا، وكل ما
نفعله هو أننا نرفع قبعاتنا تحية لهما عندما نذهب من آن لآخر
إلى معرض للفن أو قاعة للعزف أو عندما «نقرأ كتابًا جيدًا»،
ولكن هذه الطريقة في التفكير والسلوك تبعث الهزال في تجربتنا
بلا داعٍ.
لقد ميزنا في هذا الفصل بين الموقف الإستطيقي وموقف الإدراك
العملي، ولكن التمييز بين شيئين عند التفكير فيهما لا يترتب
عليه أن يكونا على الدوام منفصلَين في الوجود الفعلي. فعندما
نعرف التركيب الكيميائي للماء، نميز الهيدروجين عن الأوكسيجين
فيه. أما في الماء ذاته فهما بالطبع ممتزجان بلا انفصال.
وبالمثل فإن الاهتمام العملي والإستطيقي يمكن أن يوجدا معًا،
وكثيرًا ما يوجدان بالفعل، في التجربة العينية. وقد تكون
تجربتنا عملية في أساسها، وقد يكون اهتمامنا منصبًّا على
المهمة المطلوبة منا، ومع ذلك يمكن أن يكون قدر، مهما كان
ضئيلًا، من انتباهنا موجهًا إلى الاستمتاع الإستطيقي بالأشياء
المحيطة بنا. وحتى عندما يكاد اهتمامنا يكون عمليًّا كله، فإن
«النظرة الشاردة العارضة» للاهتمام الإستطيقي قد تتدخل فيه؛
ففي وسط صراع سياسي حاد، أو منافسة شخصية يكون مصير المرء فيها
معلقًا في الميزان، قد يستلفت نظر المرء ما نطلق عليه اسم
«دراما الموقف». وعلى ذلك يبدو أن من التبسيط المفرط، من
الوجهة النفسية، أن نقول إن من المستحيل، في أية لحظة بعينها،
أن نتخذ سوى موقف واحد.
١٧ صحيح أن الموقفين الإستطيقي والعملي متعارضان،
بمعنى أن تركيز الانتباه المميز لأحدهما يقلل من نوع الانتباه
المميز للآخر. غير أن الانتباه دائمًا مسألة درجة، ومن الممكن
أن تتحكم فيه أغراض متباينة في آن واحد. ومن حسن الحظ أن الأمر
كذلك؛ إذ إن قدرًا، ولو ضئيلًا، من العنصر الإستطيقي يجعلنا في
كثير من الأحيان نتحمل أعمالًا كانت تغدو بدونه مملة منفرة إلى
أقصى حد.
على أننا لسنا بحاجة إلى الارتكان تمامًا إلى حسن الحظ لكي
نصبغ النشاط العملي بالصبغة الإستطيقية؛ ففي استطاعة الجهد
البشري أن يزيد من القيمة الإستطيقية للتجربة، وكلما نمينا
حساسيتنا الإستطيقية وزدناها رهافة وتيقظًا، خلقت «اهتمامًا
جديدًا بكل ما نفعل، في أي موضوع نتصل به، وفي أي جانب من
جوانب حياتنا».
١٨ وإن هذا ليصدق بوجه خاص حين نستخدم الفن في جعل
أدوات حياتنا اليومية ومتاعها أكثر جاذبية للإدراك. فمن واجبنا
ألا نحكم على هذه مقدمة بأنها «نافعة فحسب»، وبالتالي لا يكون
لها حق في القيمة الإستطيقية، بل إن المجتمعات البدائية ذاتها
تزين أكثر الأشياء شيوعًا وتداولًا بحيث يبعث مرآها وملمسها
متعة، إلى جانب القيمة الإستطيقية للفن والطبيعة: كونها مفيدة
وكثيرًا ما يجد عالم الأنثروبولوجيا أن مثل هذا التزيين يخدم
غرضًا اجتماعيًّا أيضًا، أي إنه ينفع في الصيد أو الحرب أو
الطقوس الدينية، غير أن هذا لا يقلل من أهمية العنصر
الإستطيقي، وإنما يدل على الطريقة التي يمكن بها إعلاء الحياة
حين يعمل الإنسان على تلبية حاجاته الإستطيقية وغير الإستطيقية
دون أن يستبعد جانبًا من الاثنين. وهناك علامات مشجعة على مثل
هذا النشاط في الوقت الراهن في مجتمعنا الحديث، تتمثل في إنتاج
أشياء كالأدوات الفضية والأثاث «الحديث»، وفي العمارة وقاطرات
السكك الحديدية الجديدة.
وليس من الضروري أن تكون القيمة الجمالية للأشياء اليومية
مجرد زخرف لا صلة له بطبيعة الشيء، بل إن مثل هذه الزخرفة
كثيرًا ما تكون ذات قيمة ضئيلة نسبيًّا، بل إن الغرض الذي صمم
من أجله موضوع كالفأس أو قاطرة السكك الحديدية، كثيرًا ما يكون
جزءًا لا يتجزأ من قيمته الإستطيقية؛ فمن الممكن أن تعجب
بالطريقة التي يتلاءم بها تركيبه مع وظيفته. وعندما ننظر إلى
أمثال هذه الأشياء جماليًّا، فإننا لا نفكر مقدمًا في منفعتها،
كما يفعل المهندس أو الرجل الذي سيستخدمها. غير أن الوعي
بمنفعة الموضوع جزء من إدراكنا، وهو ضروري للإعجاب بملاءمته
للغرض منه. فالقيمة الجمالية تزداد عندما يكون المظهر الكامل
للشيء، ولونه وشكله … إلخ، سببًا في منفعته. ويتضح ذلك في
طائراتنا، وفي بعض المباني المشيدة حديثًا، سواءٌ منها السكنية
والتجارية. أما لو رسمت على آلة الحرث أو ماكينة الصهر زخارف
بلون وردي أنثوي باهت، فقد تظل هذه الآلة تؤدي عملها بطريقة
اقتصادية فعالة، وتجد منا إعجابًا بسبب فائدتها، ولكن يكون
هناك شيء مضحك في التباين بين وظيفتها وبين مظهرها
العام.
•••
ولقد ظللنا حتى الآن نناقش التجربة الإستطيقية من زاوية
قيمتها الكامنة فحسب، وتلك هي قيمتها من حيث هي تجربة منطوية
على ذاتها. فمن طبيعة الموقف الجمالي في صميمه أنه يتخلى عن
النشاط المستمر المتجه إلى المستقبل. ومع ذلك فإن التجربة
الجمالية لو نظر إليها بطريقة غير إستطيقية لما كانت — كأية
تجربة أخرى — منفصلة تمامًا عن الحياة؛ فلها نتائج تتجاوز نطاق
التجربة ذاتها؛ ذلك لأن التقاءنا بالموضوع الجمالي، شأنه شأن
أية تجربة أخرى، يغيرنا تغييرًا قد يكون ضئيلًا فحسب، وقد يكون
عميقًا، وبذلك يبدل تجربتنا المقبلة. وكما نعلم جميعًا، فإن
اعتياد مشاهدة الأعمال الفنية الجديدة يغير ذوقنا، فلا نعود
نعجب بقصص المغامرات التي كانت تخلب ألبابنا في فترة الدراسة
الأولى، بل نبدأ في تقدير أنواع أخرى من الأدب وأشكال أخرى
للفن. كما أن قدرتنا على التمييز تزداد رهافة، بحيث «نرى» في
الفن قيمة لم نكن نراها من قبل. غير أن تأثير الإدراك
الإستطيقي لا يقتصر على التجارب الإستطيقية الأخرى، بل إنه
يغير أيضًا شخصيتنا وتجربتنا في المجالات غير الإستطيقية
للحياة؛ فمن الممكن أن يؤدي عمل فني إلى تعميق بصيرتنا بالناس
الآخرين وبأنفسنا، وقد يؤدي بنا إلى تحدي القيم التي كنا
متمسكين بها من قبل، وقد يوسع نطاق تعاطفنا. وإنه لمن المستحيل
وضع حدود للتأثيرات النفسية التي يمكن أن تكون للعمل الفني، أو
محاولة تحديد طبيعة هذه التأثيرات. ومع ذلك ينبغي أن نتذكر
أننا لو تعمدنا اكتساب هذه التأثيرات، لأضعفنا القيمة الجمالية
أو قضينا عليها، فعندئذٍ تصبح التجربة نفعية متطلعة إلى
المستقبل؛ فنتائج التجربة الجمالية تأتي دون طلب ودون
إلحاح.
على أنه ليس هناك ما يضمن أن تكون هذه النتيجة طيبة دائمة.
فمنذ أيام أفلاطون نجد من ينبهنا إلى أن الفن قد يكون له تأثير
ضار، ولا سيما في الصغار. فمن الممكن أن يحطم الشخصية أو يهدم
الأخلاق. وربما كان هذا الخطر أقل بكثير في الوقت الراهن، الذي
أصبحت فيه «الفنون الجميلة» ضئيلة الأهمية نسبيًّا في المجتمع.
ومع ذلك فما زالت للمشكلة حقيقتها وأهميتها. وحسبك أن تتأمل
الخلافات الحادة التي ثارت في السنوات الأخيرة حول الرقابة على
الكتب والأفلام السينمائية، وكذلك مشكلات الرقابة في زمن
الحرب. وتلك، على أية حال، مشكلة صعبة سوف نتصدى لها في موضع
لاحق من هذا الكتاب (الفصل الثالث عشر).
(٤) القيمة الإستطيقية للفن والطبيعة
أشرت من قبل إلى تلك الحقيقة التي يشيع الاعتراف بها، وهي
أننا نستطيع أن ندرك الفن والطبيعة معًا إدراكًا إستطيقيًّا،
ونقوم بذلك بالفعل. وها أنا ذا أدعو القارئ إلى البحث في
مسألتَين بينهما اتصال وثيق، وهما:
- (١)
هل نحن «نبحث عن» أشياء مختلفة عندما نتأمل
أعمالًا فنية وعندما نتأمل الطبيعة؟
- (٢)
وهل يمكننا أن نقول إن أحد نوعَي التأمل أفضل أو
أعظم قيمة، بمعنى ما، من الآخر؟ إن مناقشتنا
ستتركز أساسًا على المسألة الثانية، ولكنها ستمس
المسألة الأولى في مواضع متعددة.
الأرجح أن معظم الناس يقولون، ردًّا على السؤال الثاني، إن
الفن أكثر إرضاء وأهم في التجربة الإستطيقية من الطبيعة.
وبالفعل أخذت معظم النظريات الجمالية التقليدية بهذا الرأي.
فعندما نتحدث عن الموضوعات الإستطيقية نعني عادة أعمالًا فنية
لا موضوعات طبيعية، ولكن لنتنبه إلى بعض أسباب ذلك. إن الفن
نشاط إبداعي يقوم به البشر، على حين أن الطبيعة حسب تعريفها
ليست كذلك. وإذن فَلِلفن أهمية اجتماعية لا تتوافر للطبيعة.
وفضلًا عن ذلك فإن الأعمال الفنية تكاد تكون على الدوام ثابتة
باقية، ومن السهل محاكاتها أو عمل نسخ منها. ومن هنا فإن من
الممكن المشاركة فيها عادة؛ ففي استطاعتنا جميعًا، في العادة،
أن نقرأ نفس الكتب، ونستمع إلى نفس التسجيلات، على حين أن
موضوعات الطبيعة، كالخلجان البحرية والتكوينات السحابية،
موضعية وعابرة إلى حد بعيد. وهذان العاملان معًا يوضحان لماذا
كنا نستطيع أن نتكلم عن
الفن أكثر مما نتكلم عن الطبيعة. ولكنهما في ذاتهما لا يثبتان
أن الفن أعظم قيمة، من
الوجهة الإستطيقية، من الطبيعة. فحتى على الرغم من أن
الموضوعات الطبيعية ليست نواتج للجهد البشري، فقد يظل من
الصحيح أنها موضوعات ذات قيمة إستطيقية أعظم. وبعبارة أخرى،
فإذا ارتكزنا على التمييز الذي أجريناه بين الإبداع الفني
و«التطلع أو النظر» الإستطيقي، فسنجد أن كون الشيء موضوعًا
فنيًّا، لا يستتبع كونه ممتعًا، في الإدراك الإستطيقي، أكثر
موضوع غير فني. وبالمثل فحتى لو لم يكن من الممكن مشاركة الناس
على نطاق واسع في المناظر الطبيعية، فلا يترتب على ذلك القول
إن قيمتها، عندما تصبح موضوعات
للتجربة، أقل من قيمة الأعمال الفنية. وإذن،
فلو كنا نعتقد أن قيمة الفن أعظم من قيمة الطبيعة، فلا بد أن
يكون اعتقادنا هذا قائمًا على حجج غير هذه.
ولنقتبس فيما يلي رأيًا مضادًّا للاعتقاد السابق، قال به
فيلسوف مشهور في أخريات حياته، وهو فيلسوف كان الاستمتاع
الإستطيقي في نظره واحدًا من أهم القيم في حياة الإنسان:
«… كذلك فإن حبي للجميل لم يجد بدوره رضاءه الأكبر
في الفنون؛ فإذا كان الفن ينقلنا من حال إلى حال،
ويحرر العقل والقلب، فإن له عندي إعزاز، غير أن
الطبيعة والتفكير يفعلان ذلك مرات أكثر، وبسلطة أعظم.
ولو كان ثمة شيء خلب لبي، فإنما هو الأماكن الجميلة،
والعادات الجميلة، والنظم الجميلة، ومن هنا كان إعجابي
باليونان وإنجلترا، واستمتاعي بأمريكا الفنية المرحة البارعة.»
١٩
ويقول أ. ف. كاريت: «لو أُجبرنا على الاختيار القاسي بين
الجمال الطبيعي والجمال الفني، وقدرنا الكنوز النفسية في
الموسيقى والشعر إلى آخر مداها، ففي اعتقادي أن اختيارنا ينبغي
أن يكون للطبيعة.»
٢٠
•••
فكيف يمكن، إزاء هذه الشواهد، الدفاع عن الرأي القائل إن
التذوق الإستطيقي للفن أعظم قيمة من تذوق الطبيعة؟ إن ذلك يكون
أولًا عن طريق الإشارة إلى واحد من أوضح الفوارق بين العمل
الفني والموضوع الطبيعي، وهو أن للأول «إطارًا»، أما الثاني
فلا؛ فالفنان يضع لعمله حدودًا؛ إذ إن الكتاب أو المدونة
الموسيقية يبدآن وينتهيان عند نقطة معينة، واللوحة يحدها
إطارها، والتمثال والمبنى تحدهما سطوحهما الخارجية. غير أن
الطبيعة لا تضع «أطارًا» لمناظرها الريفية أو خلجانها البحرية
أو تكويناتها السحابية بحيث تبدأ هنا على وجه التحديد وتنتهي
هناك بالضبط.
فما الذي يستتبعه ذلك فيما يتعلق بالقيمة النسبية للموضوعات
الفنية والطبيعية؟ هل يؤدي وجود «الإطار» بذاته وفي ذاته إلى
جعل الفن أعظم قيمة؟ قد نقول إن «الإطار» ينظم الموضوع الفني
ويوحده، وإن هذا أمر له قيمته، لأنه يربط بين أطراف تجربتنا
التي لن تكون، بغير هذا الإطار، إلا مهوشة لا شكل لها. وفي
مقابل ذلك يفتقر المنظر الطبيعي إلى إطار، وبالتالي لا تستطيع
العين، والذهن، أن تحيط به. غير أن هذه الحجة ليست قاطعة. ذلك
لأنه على الرغم من أن الطبيعة تفتقر إلى إطار عندما توجد فحسب،
خارج الإدراك البشري، فإن هذا لا يصدق عليها عندما تُدرَك
بطريقة جمالية، فعندئذٍ يفرض المشاهد ذاته إطارًا على المنظر
الطبيعي، فيختار ما سينتبه إليه جماليًّا ويضع هو ذاته حدودًا
له. ونحن جميعًا نفعل ذلك في وقت ما. «فلا بد لكي يرى المنظر
الطبيعي من أن يُنشأ ويُشكل
composed»،
٢١ ولو كان لدى المرء إدراك ثاقب وخيال خصب، لاستطاع
أن «ينشئ» منظرًا طبيعيًّا ذا قيمة جمالية كبرى، أعني منظرًا
قد لا تقل قيمته، وربما زادت، عن كثير من اللوحات التي تصور
مناظر طبيعية، ولكن معظمنا بطبيعة الحال لا تتوافر لديه القدرة
على القيام بهذا العمل، وهي القدرة التي يملكها الفنان بدرجة
ملحوظة. وفضلًا عن ذلك، فلما كنا لا نستطيع تغيير المنظر في
الطبيعة، فإنه قد يتضمن شوائب أو عناصر زائدة، يمكن استبعادها
في العمل الفني. لذلك يمكننا أن ننتهي إلى أن هذه الحجة لا
تثبت سوى أن الأعمال الفنية في
عمومها ذات قيمة أعظم، بفضل وحدتها، من
المناظر الطبيعية، لا أنها ينبغي أن تكون كذلك دائمًا
بالضرورة.
ومع ذلك فإن الأستاذ ت. م. جرين لا يوافق على هذا الرأي، فهو
يثير السؤال الآتي: «حتى لو فرضنا على الطبيعة إطارًا، وقررنا
بإرادتنا أن ندرج في إدراكنا الإستطيقي هذا القدر وحده ولا شيء
وغيره مما يقع أمامنا، فهل يكون من الممكن، على أي نحو،
الاهتداء إلى منظر أو موضوع طبيعي يكون تنظيمه الشكلي مرضيًا
من الوجهة الجمالية بقدر ما يكون العمل الفني؟»
٢٢ ويعتقد الأستاذ جرين أن الجواب بالسلب. ومع ذلك،
فقبل أن تقرر إن كانت الطبيعة «مرضية من الوجهة الجمالية بقدر
ما يكون العمل الفني»، فلا بد لنا من أن نتساءل: «أي عمل فني؟»
إن من الواجب ألا نتحدث عن «الفن» بالمعنى المثالي، وكأن لجميع
الأعمال الفنية قيمة عظيمة، فمن الواضح لسوء الحظ، كما نعلم
جميعًا، أن كثيرًا من الأعمال الفنية ضئيلة القيمة أو رديئة،
نظرًا إلى عيوب في «تنظيمها الشكلي». ولو قارنَّا هذا النوع من
الأعمال ببعض المناظر الطبيعية لكان الحكم قطعًا لصالح
الطبيعة. وهكذا نرتد مرة أخرى إلى النتيجة القائلة إنه ليس ثمة
إجابة عن هذا السؤال، في هذا الجانب أو ذاك، تصدق في جميع
الحالات. وثمة شيء آخر ينبغي أن يستقر في أذهاننا، وقد سبق لنا
أن ذكرناه؛ فحتى لو كان هناك منظر في الطبيعة له «تنظيم شكلي»
عظيم القيمة، فإن معظمنا لن تتاح له فرصة مشاهدته؛ ذلك لأنه لن
يكون باقيًا وقابلًا للمشاركة فيه كما هي الحال في معظم
الأعمال الفنية.
ولكن لنفرض جدلًا أن سؤال الأستاذ جرين ينبغي أن يجاب عنه
بالسلب. إني أعتقد مع ذلك أن الطبيعة تكون لها في بعض الأحيان
قيمة إستطيقية عظيمة الأهمية، لا لشيء إلا لكونها تفتقر إلى
«التنظيم الشكلي» بمعناه المعتاد. وأنا أعني بذلك تلك المناظر
الطبيعية ذات الضخامة والقوة الهائلة، التي تبدو وكأنها تطغى
علينا من كل جانب، وتشعرنا بأننا أقزام؛ فهي تبدو وكأنها تخرج
عن كل إطار نحاول أن نفرضه عليها. فلتتصور مثلًا منظرًا طليقًا
للمحيط خلال عاصفة، وطريقة رد فعلك وأنت تمتد ببصرك إليه حتى
الأفق ثم ترتفع نحو السماء الواسعة الداكنة. إن هذا المنظر
يتصف بتلك «الضخامة» التي تسمى عادة «بالجلال». وأنا أشك في
قدرة أي عمل فني على تحقيق مثل هذا الجلال. وبالنسبة إلى
تجربتي الخاصة، فإني أعتقد أن أكثر الأعمال الفنية التي أعرفها
جلالًا هي «الملك لير» لشكسبير. وقد تحدث الناقد العظيم أ. س.
برادلي عن «النطاق الهائل» لهذا العمل، و«تداخل الخيال الرفيع،
والعاطفة النفاذة، وروح الدعابة» فيه، وعن «ضخامة الرعدة التي
تسري في الطبيعة وفي الانفعال البشري».
٢٣ ومع ذلك فحتى هذا العمل العظيم بحق، قد لا يثير
أبدًا تلك الاستجابة التي تؤدي إليها بعض مناظر الطبيعة. ومن
هنا فإن من الواجب، عند وضع القيمة الجمالية للفن في مقابل
القيمة الجمالية للطبيعة، من حيث وجود إطار أو عدم وجوده، أو
من أية ناحية أخرى، أقول إن من الواجب إيضاح نوع القيمة
الجمالية الذي يدور حوله البحث؛ ذلك لأن الطبيعة قد تكون قاصرة
في أنواع معينة من القيم، ولكنها متفوقة في أنواع أخرى.
ولقد أكدنا، في مناقشتنا «للإطار»، النشاط شبه الإبداعي
للمدرك في تذوقه للطبيعة. غير أن من الواجب ألا ننخدع بهذه
الحجة بحيث نتصور أنه لا يلزم لتذوق الفن نشاط مماثل.
فوجود إطار يدخل في تركيب الموضوع الفني ليس في ذاته كافيًا
لإضفاء تنظيم بنائي عليه؛ فالإطار وغيره من الوسائل يستخدم في
إضفاء نظام على العمل، بحيث يوجه انتباه المدرك في اتجاه معين.
وهكذا نجد في الرواية أو المسرحية أن الشخصيات تقدم إلى
القارئ، وينشأ صراع بين الإرادات، وتزداد العقدة تشابكًا ثم
تحل في الجزء الختامي. ومع ذلك فليس تنظيم العمل شيئًا ثابتًا
محددًا في داخله، بحيث يكتفي القارئ بأن يتتبع بطريقة سلبية
تسلسل الحوادث كما حدده الفنان، بل إن في استطاعة القارئ في
كثير من الأحيان تفسير الروايات والمسرحيات على عدة أنحاء
مختلفة. وتبعًا لكل تفسير، يكون للعمل تنظيم مختلف. وعلى ذلك
فقد توجد اختلافات رئيسية في الرأي حول تحديد أهم جزء في العمل
(ومن الجائز أن القارئ حضر مقررًا دراسيًّا في الأدب طلب إليه
فيه أن يقرر أين توجد الذروة في العمل الذي كان يدرسه).
وبعبارة أخرى، فعلى الرغم من أن للعمل بعض النظام داخل إطاره،
يوجه إدراكنا ويتحكم فيه، فلا بد أن يسهم القارئ بدوره بنصيب
إيجابي، وذلك بأن يضع بنفسه الطريقة التي سينظم بها العمل في
تجربته الخاصة. ويظهر ذلك بوضوح أكبر في حالة الفنون الأخرى؛
فمن المعروف أن العازفين وقواد الفرق الموسيقية المختلفين يمكن
أن يتباينوا تباينًا شديدًا في تفسير (وأداء) القطعة الموسيقية
الواحدة، فأحد عازفِي البيانو يزيد تأكيد فقرة معينة يقلل عازف
آخر من أهميتها؛ و«يشيِّد» أحد قواد الأوركسترا ذروة عن طريق
الإيقاع وحجم الصوت في الأوركسترا، وما إلى ذلك، على حين أن
غيره لا يفعل ذلك. وفي التصوير والنحت، ينبغي على المشاهد أن
يحدد الجزء الذي سيوجه إليه انتباهه أولًا من العمل الفني،
والمسار الذي ستتخذه عينه في العمل بأكمله. وهنا أيضًا يحدد
الفنان اتجاهات عامة للاهتمام في عمله، قد ترشد المشاهد، ولكن
يظل هناك مجال كبير ﻟ «قراءة» العمل على أنحاء متباينة.
وخلاصة القول إن الانتباه والتفسير الانتقائي يتمثلان في
تجربة الفنون كما يتمثلان في تذوق الطبيعة. وبقدر ما يشير
العمل الفني إلى الاتجاهات التي ينبغي على الإدراك والتفسير
السير فيها، يكون مجال النشاط الإيجابي للمشاهد أقل مما هو في
حالة تذوق الطبيعة. غير أن الفارق بين الاثنين، كما حاولت أن
أثبت، إنما هو فارق في الدرجة، وليس من الصواب أن نجعل منه
تقسيمًا ثنائيًّا قاطعًا.
•••
ولننتقل الآن إلى معالجة مشكلة القيمة النسبية للفن والطبيعة
من زاوية أخرى. إن أهم فارق بينهما هو أن الأعمال الفنية نواتج
للنشاط البشري البارع المتعمد، على حين أن موضوعات الطبيعة
ليست كذلك، فهل تؤدي معرفتنا لهذه الحقيقة إلى زيادة تقديرنا
للفن؟ قد تكون إجابتنا بالإيجاب، وذلك لسببين على الأقل؛
أولهما أننا نشعر بنوع من الألفة والقرابة مع الشخص الذي صاغ
العمل أمامنا، وهو شعور لا نحس به عند إدراكنا للطبيعة، فقد
نحس بالامتنان للجهود التي زودتنا بهذا العمل الممتع، أو قد
نتأثر بالعقبات وعوامل الإحباط التي اضطر الفنان إلى التغلب
عليها، أو قد نشعر، ببساطة، برابطة تربطنا بإنسان آخر يتحدث
إلينا من خلال فنه بطريقة مباشرة مؤثرة. وثانيًا قد نعجب
ببراعة الفنان، ونحترم الخبرة التي تمكن بها من السيطرة على
وسيطه الفني ومن استخدامه، أو نقدر بساطة الخطوط التي تمكن بها
المصور من أن يحقق ثأثيرًا ضخمًا.
لهذه الأسباب ينبغي أن نعترف بأن تذوق الفن ينطوي في كثير من
الأحيان على قيمة زائدة. ومع ذلك ينبغي أن نعترف أيضًا بأن
الاهتمام بالفنان المبدع لا يؤدي دائمًا إلى زيادة القيمة
الإستطيقية للفن. فمن الممكن أن يكون له تأثير عكسي تمامًا.
وهذا يحدث عندما نقبل على العمل الفني من أجل كشف حياة الفنان
وشخصيته، أو معرفة معالم منها، أو عندما يشغلنا تمامًا البحث
في أسلوب الفنان؛ ففي كلتا الحالتين لا تكون للعمل أهمية إلا
من حيث هو وسيلة لشيء آخر؛ ففي الحالة الأولى يستخدم وثيقة
متعلقة بحياة الفنان. وهذا يؤدي في كثير من الأحيان إلى صبغ
الموضوع بصبغة رومانتيكية؛ إذ إن المُشاهِد يقرأ فيه ما يعرفه
من قبل عن حياة الفنان. وفي الحالة الثانية، يستخدم العمل كأنه
«عينة» معمل لدراسة مشكلات أسلوبية تطبيقية. ومن هنا كان من
الواجب مراعاة الحكمة في الاهتمام بالفنان المبدع، خشية أن
يصبح «غير مرتبط بالموضوع
irrelevant»
٢٤ من الوجهة الجمالية. فإذا لم يكن لهذا العنصر وجود
في تذوقنا للطبيعة، فإن غيابه في هذه الحالة يحول على الأقل
دون لخداعنا في هذا المجال، وتغيير موقفنا من الوجهة الجمالية
إلى شيء مختلف عنها كل الاختلاف.
ومع ذلك فعندما يوجه الانتباه إلى الموضوعات الفنية ذاتها،
فإنَّا في كثير من الأحيان نجد قيمًا لا تتمثل في الطبيعة؛ فقد
تكون للعمل قدرة تعبيرية عاطفية كبيرة، أو قد تكون له أنواع
أخرى من التأثيرات النفسانية التي تشد انتباهنا إليه. ومن
الممكن أن تكون له أهمية ثقافية كبرى، على خلاف معظم الموضوعات
الطبيعية، فيجسم أماني مجتمع وتقاليده، أو أكثر عقائده الدينية
قداسة. فعمل مثل «الكوميديا الإلهية» لدانتي يقدم تصورًا
شاملًا لدلالة الحياة البشرية وأهدافها. على أننا لا نستطيع
الآن، كما لم نكن نستطيع من قبل، أن نقول إن الفن وحده هو الذي
يملك هذه القيم، وأن الطبيعة خالية منها تمامًا. فهذا
الاستنتاج الذي ينتهي إلى «الكل أو لا شيء» لا مبرر له؛ ففي
أحيان غير قليلة نجد الموضوعات والمناظر الطبيعية «مؤثرة»،
ويستطيع المتصوف أن «يرى عالمًا كاملًا في ذرة من الرمال». غير
أن الطبيعة على وجه العموم تفتقر إلى الاهتمام النفسي والرمزي
إذا ما قيست بالفن.
•••
أما مشكلة قيمة الفن بالقياس إلى قيمة الطبيعة، فهي ككل
المشكلات التي تعالج في هذا الكتاب وينبغي أن تترك لكي يبتَّ
فيها القارئ بنفسه. وقد يتمكن من إثبات أن الحجج التي
استخدمتها غير سليمة منطقيًّا، أو قد يستشهد بوقائع أخرى غير
تلك التي أوردتها في هذه المناقشة. ومع ذلك فإني أعتقد أن
التحليل الذي قدمته قد أثبت هذه النتيجة: إن أي تأكيد يقول إن
الفن أرفع جماليًّا من الطبيعة، أو العكس، لا يمكن أن يصدق
صدقًا مطلقًا، وفي جميع النواحي. في حالات معينة، وفي بعض
النواحي، قد يكون الفن أعظم قيمة من الموضوع غير الفني؛ وفي
حالات أخرى يكون العكس هو الصحيح.
أما الاعتقاد الحازم في هذه المسألة فإنه يكون خطرًا بوجه
خاص إذا أدى إلى فقدان القيم في تجربتنا، أي إذا اعتقدنا أن
أحد الطرفين، الفن أو الطبيعة، ليست له إلا قيمة ضئيلة، أو لا
قيمة له على الإطلاق، بالنسبة إلى الآخر، فتتجاهله بناء على
ذلك. فالواقع أن من الممكن أن نجد رضاء في الاثنين معًا. فلو
استطعنا تنمية قدرتنا على الاستمتاع الإستطيقي بالطبيعة، لكان
من الممكن أن تكون مصدرًا لقيمة لا حد لها، فضلًا عن أنها توفر
علينا الاضطرار إلى الذهاب إلى المسارح أو الجلوس بلا حراك في
قاعة الموسيقى. وبطبيعة الحال فإن القدر الأكبر من اتصالنا
موضوعات الطبيعة هو اتصال «عملي»، مما يؤدي إلى صرف انتباهنا
الإستطيقي عنها، ولكن هناك دائمًا، كما رأينا في القسم السابق،
إمكانًا لتداخل الاهتمام الإستطيقي مع الاهتمام العملي. وفضلًا
عن ذلك، ففي استطاعتنا أن نتعلم من الفن كيف نكون أعمق نظرة في
تذوق الطبيعة، والعكس بالعكس. ولقد قيل إننا لا نصل إلى تذوق
الطبيعة إلا بعد أن نكون قد مارسنا تجربة الفن،
٢٥ غير أن هذا يبدو أمرًا مشكوكًا فيه إلى حد بعيد.
فمن الممكن أن يتخذ الانتباه الجمالي من أي شيء موضوعًا له،
سواءً أكان من صنع الإنسان أم لم يكن، ولا بد أن تؤدي تنمية
الذوق الناتجة عن مواجهة أي موضوع، إلى زيادة استمتاعنا بأي
موضوع آخر.
(٥) «الارتباط بالموضوع» من الوجهة الجمالية
يبدو أن التجربة الجمالية، في أحسن حالاتها، تعزلنا نحن
والموضوع معًا عن التيار المعتاد للتجربة؛ فحين نعجب بالموضوع
في ذاته، نفصله عن علاقاته المتبادلة بالأشياء الأخرى، ونشعر
كأن الحياة قد توقفت فجأة؛ إذ إننا نستغرق تمامًا في الموضوع
الماثل أمامنا ونترك أية فكرة عن النشاط الغرَضي المتطلع إلى
المستقبل.
هذه هي الطريقة التي نشعر بواسطتها بالتجربة. وقد حاولنا في
العرض السابق للموقف الجمالي أن نفسر الطبيعة المميزة لهذه
التجربة، ولكن ينبغي لنا ألا نتجاهل حقيقة واضحة ولكنها هامة:
هي أن لكل من المدرك الجمالي والموضوع الجمالي تاريخ يمتد أبعد
من مدة التجربة الجمالية. وعلى الرغم من أن المدرك لا يهتم
بالأمور الماضية والمستقبلة، فإنه يخوض التجربة، بطبيعة الحال،
وقد حمل معه تاريخه الماضي بأسره. فلديه قدر معين من المعرفة،
ومعتقدات وقيم معينة، واستعدادات انفعالية خاصة. وطريقته في
الاستجابة للموضوع تتقرر إلى حد بعيد بالتجارب الماضية التي مر
بها. فقد يثير الموضوع، مثلًا، ذكريات لتجاربه الماضية. وقد
«يرى» صورًا معينة أثناء استماعه إلى قطعة موسيقية. أو ربما
كان قد اكتسب معرفة معينة في الماضي تؤثر في إدراكه. ومن
الواضح تمامًا أن هذه المعرفة قد تكون معرفة متعلقة بالعمل
الفني ذاته. فالمرء قد يسمع «طقوس الربيع La
sace du printemps»، لسترافنسكي وهو يعلم
أنها أثارت فضيحة عندما عزفت لأول مرة، أو إلى السيمفونية
الرابعة لتشايكوفسكي وهو يعرف حالة الحب غير العادية التي كان
تشايكوفسكي يمر بها أثناء تأليفها. أو قد يقرأ المرء رواية
«عناقيد النقمة Grapus of
Wrath» لشتاينبك بعد أن يكون قد عرف أنها
أثارت اهتمامًا قوميًّا بمحنة الفلاح في المناطق التي يصيبها
الجفاف.
وفي استطاعتك أن تلاحظ شيئًا غريبًا في هذه الذكريات والصور
والمعلومات التي تدخل في التجربة الجمالية — هو أنها ليست
متضمنة في الموضوع الجمالي ذاته، وإنما تنشأ من خبرة المدرك
السابقة؛ فالموسيقى تحفز المدرك على تذكر حادث سابق في حياته،
غير أن هذا الحادث ليس شيئًا ماثلًا في الموسيقى ذاتها؛
كالأنغام والألحان التي تؤلفها. ففي هذه الحالة تكون الذكرى
شيئًا يضيفه المستمع إلى تجربته من الخارج. وبالمثل فإن
المعلومات التاريخية عن أعمال سترافنسكي أو شتاينبك لا توجد،
كما هو واضح، في الأعمال ذاتها، بل تُتَعلَّم من مصادر
أخرى.
غير أن هذا يؤدي إلى خلق مشكلة طريفة وصعبة في آنٍ واحد؛
فالموقف الجمالي، كما قلنا، يهتم بالموضوع وحده، وبممارسة أي
شيء قد يقدمه إلى الوعي. فهلَّا يترتب على ذلك أنا لو سمحنا
للذكريات والصور الشخصية، ومواد المعرفة الخارجية، أن تدخل في
التجربة، فإن هذه التجربة تصبح عندئذٍ غير جمالية؟ «إن
الانتباه الجمالي هو قبل كل شيء انتباه مركز على الموضوع».
٢٦ ألسنا إذن نحوِّل انتباهنا بعيدًا عن الموضوع
عندما نستغرق بشغف في ذكرياتنا، أو عندما نفكر في الأصول
والمؤثرات التاريخية للعمل الفني؟ وماذا نقول عن أولئك الذين
يقومون، خلال «حلم اليقظة النعسان» الذي يُفترض أنه هو تجربتهم
في الموسيقى، بنسج «قصص» بارعة مفصلة في أذهانهم، أو يجرفهم
تيار من الذكريات؟ أنستطيع أن نقول إن تجربتهم جمالية بالمعنى
الصحيح؟ وهناك أيضًا أولئك الذين يبدو أنهم يعرفون كل ما يمكن
معرفته عن العمل الفني — أي وقت إبداعه، والظروف التي أنتج
فيها، وتاريخ حياة الفنان، والمصطلحات الفنية المستخدمة في
وصفه، وموقعه في تاريخ الفن … إلخ. ومع ذلك لا يبدو أبدًا أنهم
يتذوقون العمل الفني ذاته. فهل من الممكن أن تكون كل معرفتهم
عن العمل قد تدخلت في طريقة انتباههم إليه واستمتاعهم به
جماليًّا؟
تلك هي مشكلة الارتباط بالموضوع
relevance من الوجهة
الجمالية. فهل مما «يرتبط بموضوع» التجربة الجمالية أن تكون
لدينا أفكار أو صور أو معلومات لا تتمثل في العمل ذاته؟ إذا
أمكن أن تكون هذه مرتبطة بالموضوع، ففي أي الظروف تكون
كذلك؟
•••
فلنبدأ ببحث تجربة معملية نفسية تتضمن تجربة جمالية غاية في
البساطة — هي إدراك الألوان المنفردة، وليس هذا هو نوع التجربة
التي انتقدناها في الفصل السابق.
٢٧ بل إن عالم النفس في هذه الحالة، وهو إدوارد بلو
Edward Bullough يبدأ
تقريره بتفنيد «تلك المسألة العقيمة، مسألة ما إذا كان ثمة
ألوان معينة سارة بذاتها وعلى نحو شامل».
٢٨ فموضوع اهتمامه هو الطرق المختلفة التي يستجيب بها
الناس جماليًّا. والنتائج التي يصل إليها تلقي ضوءًا واضحًا
على الموضوع، وسوف نبحثها بالتفصيل في الفصل التالي. أما الآن
فسوف نقتصر على الإشارة إلى ما توصل إليه بشأن نوع واحد من
الاستجابة، هو الاستجابة «الترابطية
associative».
في هذا النوع من الاستجابة، كان إدراك اللون مصحوبًا بفكرة
أو صورة لموضوع معين مر بالتجربة في الماضي. وكانت هذه
الترابطات متنوعة إلى أبعد حد؛ فكانت تشمل الشمس، والأزهار،
والأحجار الكريمة، والدم، والصلب (ص٤٢٨-٤٢٩). ويثير «بَلُو»
السؤال عما إذا كانت أمثال هذه الترابطات «غير مشروعة من وجهة
النظر الجمالية» (ص٤٣٢)، فيجد أن هناك نوعين من الترابط:
أولهما ذلك الذي يكون فيه للترابط «نغمة انفعالية» قوية خاصة
به، تتميز من نغمة الإحساس باللون ذاته. في هذه الحالة يستغرق
الترابط انتباه المشاهد كله تقريبًا، فيترتب على ذلك أن «اللون
يكاد يفقد تمامًا مركزه في الوعي، الذي كان من قبل مهددًا
بالخطر» (ص٤٥٤). أي إن المشاهد لا يبدي إلا انتباهًا ضئيلًا
جدًّا باللون، الذي يقتصر دوره على إثارة الترابط أو الذكري،
ثم يغيب بعد ذلك عن الأعين. أما النوع الثاني من الترابط
فيختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو ذلك النوع الذي لا ينفصل فيه
الترابط عن إدراك اللون، بل ويندمج أو يذوب،
(fuse) فيه. وهنا تقوى
نغمة الإحساس باللون بفضل الترابط، على حين أن المشاهد «يحافظ
على اللون بحرص في بؤرة الوعي» (ص٤٥٥).
ويرى «بلو» أن النوع الأول من الترابط غير مشروع جماليًّا؛
لأن اللون لا يستخدم إلا مثيرًا للترابط الشخصي، الذي يشد
الانتباه إليه. أما النوع الثاني فلا يخرج عن المجال الجمالي.
بل إن من الممكن أن يزيد من القيمة الجمالية للإدراك؛ إذ إنه
قد يضفي على اللون حياة ودلالة، كما أن الاندماج
fusion يحول دون تعريض
طابع التجربة بذاته للخطر (ص٤٥٦)؛ لذلك فإن «بلو» يجيب عن
سؤالنا الأصلي بالقول إنه «لا يمكن وضع قاعدة قاطعة بشأن
القيمة الجمالية للترابط بوجه عام» (ص٤٥٦).
وفي اعتقادي أن إجابة «بلو» سليمة؛ فإذا كانت التجربة
الجمالية كما وصفنا، فإن كون الترابط جماليًّا يتوقف على كونه
متمشيًا مع موقف «الانتباه المنزه عن الغرض» فإذا أدى الترابط
إلى دعم عملية تركيز الانتباه على الموضوع، عن طريق «الاندماج»
بالموضوع، وبالتالي إعطائه مزيدًا من «الحيوية والدلالة»
عندئذٍ يكون جماليًّا بحق. أما إذا اجتذب الانتباه إليه وابتعد
به عن الموضوع، فإنه يقضي على الموقف الجمالي. وإذن، فمشكلة
أولئك الذين يقولون: «اسمعي يا حبيبتي، إنهم يعزفون أغنيتنا»
ليست كون الموسيقى تذكرهم بشيء آخر فحسب، وإنما هي أنهم يستغرقون عادة في استعادة
ذكرياتهم إلى حد تصبح معه الموسيقى مجرد خلفية ضئيلة الشأن،
تسمع بطريقة غير واضحة المعالم على «هامش» الوعي.
•••
على أن معنى «الاندماج
fusion» في حاجة إلى مزيد
من الإيضاح. كما أننا لم نكن نتحدث حتى الآن إلا عن تجربة
جمالية أولية إلى حد ما. ومن الممكن أن نلقي مزيدًا من الضوء
على مشكلة «الارتباط بالموضوع» من الوجهة الجمالية، إذا
انتقلنا إلى تجربة من نوع آخر.
في هذه التجربة، قدم الدكتور رتشاردز
I. A.
Richards سلسلة من القصائد غير الموقع
عليها إلى عدد من تلاميذه الإنجليز في مرحلة ما قبل الليسانس،
وطلب إليهم أن يسجلوا انطباعاتهم عنها.
٢٩ وكانت تعليقات الطلاب تتضمن أمثلة متعددة
للاستجابة «المرتبطة بالموضوع، وغير المرتبطة بالموضوع».
فلنتأمل بعض ردود الفعل على قصيدة جاء في جزء منها ما
يلي:
بين الأشجار الشامخة المنتصبة
سوف أزحف راكعًا على ركبتَي،
فلن أجد في هذا اليوم
مكانًا مناسبًا كهذا للصلاة
الأشجار الخاشعة ترتفع وتجري
دونما انحراف، نحو الشمس
فلتتجه رغبة روحي إلى نارها المتوسطة
جذعها العمودي، ما أقواه!
لحاؤها الذي يكسوها، ما أنعمه!
والصوت الحلو الرقيق،
الذي تتغنى به الأوراق، ما أعذبه!
فلتمتلئ الرغبة والفكر والإرادة الصلبة
بقوة وعذوبة كهذه،
عندما أتذكر
تلك الأشجار المقدسة اليانعة.
٣٠
فمن الاستجابات غير المرتبطة بالموضوع، تلك
التي يتحدث فيها أحد الطلاب باسم ما يسميه «عصر الشك» فيقول:
«لا أحب أن أسمع الناس يتفاخرون بالصلاة» (ص٩٤). فهذا الطالب
لم يقرأ القصيدة ﺑ «تعاطف» كما يقتضي الموقف الجمالي. وهو لم
ينجح في كبت آرائه في موضوع الدين، التي وقفت حائلًا بينه وبين
القصيدة. وعلى ذلك فإنه لم ينجح في أن يعيش مع تصوير الشعر
والانفعالات المتضمنة في القصيدة عندما تُدرَك، فترتب على ذلك
عجزه عن تقدير قيمتها.
والآن، فلنبحث في استجابة أولئك الذين حاولوا قراءة القصيدة
بتعاطف. فأحد الطلاب يصف صورة ظهرت في ذهنه، فيقول: «إن
الأشجار الشامخة المنتصبة، المندفعة علوًّا نحو الشمس، توحي
ببرج مرتفع لكاتدرائية عظيمة، وبسكونه وقداسته.» (ص١٠٠). ومع
ذلك فإن القصيدة لا تقول شيئًا عن «الكاتدرائية» فهل هذه
الصورة مرتبطة بالموضوع جماليًّا؟ هناك عدد من العناصر
المتضمنة في «الإيحاء» بالكاتدرائية؛ أولها أن الكاتدرائية
مبنى مخصص للصلاة والعبادة؛ ثم هناك ذلك المنظر البصري «لبرجها
الطويل»؛ وأخيرًا هناك الطابع الانفعالي «للسكون والقداسة».
فللمرء الحق في أن يقول إن كلًّا من هذه العناصر يتلاءم مع
القصيدة. والقصيدة تتحدث صراحة عن الصلاة والعبادة، كما في
قولها «مكان للصلاة». كما أن الجو الديني يتمثل في ألفاظ مثل
«عبادة» و«مقدس». وقد أكد عدد آخر من الطلاب هذا الطابع
للقصيدة في تعليقاتهم (انظر ص٩٣، ٩٦، ١٠٠). كذلك يمكننا أن نرى
كيف أن «برجًا للغابة»، يتألف من «أشجار شامخة منتصبة» يمكن أن
يوحي ﺑ «برج كاتدرائية عظيمة». وأخيرًا فإن روح القصيدة هي روح
من «السكون والقداسة»؛ ومن هنا فإن الشاعر يتحدث، في فقرة لم
أوردها هنا، عن «سكون الهواء» ومن الممكن بسهولة الاهتداء إلى
إيحاءات مماثلة في الأبيات السابقة.
فمن الممكن إذن أن نستنتج أن «الإيحاء» المتعلق بالكاتدرائية
مرتبط بالموضوع من الوجهة الجمالية.
٣١ فهو يتمشى مع المعنى اللفظي للقصيدة، ومع
الانفعالات والروح التي تعبر عنها. وهو لا يحول الانتباه
بعيدًا عن القصيدة، بل إنه يحدث خلال قراءة متمعنة، ويضفي
حيوية على معنى القصيدة وطابعها.
ومع ذلك فليست كل الترابطات ذات علاقة بالموضوع. وسوف أذكر
تعليقين آخرين على نفس القصيدة؛ أولهما تعليق طالب يتحدث عن
ترابط خطر له وهو يقرأ البيت الثاني في اقتباسنا السابق؛
فالترابط حدث مع لعبة الرجبي الإنجليزية، وهو يصفه بقوله:
«عندما قرأت هذا البيت لأول مرة، طافت بذهني صورة حية لأحد
الأفراد المهاجمين في الفرقة وهو يقتنص الكرة من معمعة مضطربة،
ويتجه بها مباشرة نحو الهدف «دونما انحراف».» وبعد ذلك يعتذر
الطالب جزئيًّا عن هذه الصورة غير المرتبطة بالموضوع إلى حد
مضحك فيقول: إني لم أحاول التفكير في القصيدة بصورة هزلية،
ولكن الفكرة خطرت لي تلقائيًّا (ص٩٦). أما التعليق الثاني
فيمتدح القصيدة نظرًا إلى أنها «تخلق فينا ذلك الجو الرزين
الوادع الخاشع لغابة الصنوبر» (ص١٠١). وقد اتفقنا من قبل على
أن القصيدة تعبر بالفعل عن الرزانة والوداعة والخشوع، ولكن ما
القول في أشجار الصنوبر؟ إن الفقرة قبل الأخيرة، المقتبسة من
قبل، تصف الأشجار بقولها: «لحاؤها الذي يغطيها، ما أنعمه!»،
كما أن للشجرة «أوراقًا». ومن هنا يقول الدكتور رتشاردز عن
استجابة هذا الطالب أنها تثبت أن القصيدة «يمكن أن تثير حماسة
دون أن تُقرأ» (ص١٠١) وربما كان في هذا الحكم قسوة زائدة إلى
حد ما، ولكنا نستطيع أن نقول إن الطالب لم يقرأ القصيدة
بانتباه عميق ودقيق. ويبدو أنه واحد من أولئك الذين يجرفهم
«الجو» الذي يسود العمل الفني، ولا يرون التفاصيل المحددة التي
تكون هذا الجو العام.
•••
والواقع أن الناس يتعرضون لهذا الخطأ حين يستمعون إلى
الموسيقى بوجه خاص. وهذا واحد من الأسباب التي تجعل من الخطر
تصور «قصص» أثناء سماع الموسيقى، كما اعتاد بعض الناس إلى حد
الإدمان. وقد تكون «القصة» متمشية بوجه عام مع الطابع
الانفعالي للعمل، كأن تكون مثلًا «قصة» شخص يندب موت محبوبته،
وذلك حين تكون الموسيقي بطيئة ومن مقام «صغير» معبرة عن الحزن
والأسى، ولكن الأنغام والألحان المحددة تتغير بلا انقطاع.
وهكذا يكون من الضروري، من أجل «إدماج» التداعي بالموسيقى، أن
تتغير «القصة» لكي تناسب التنوعات والتقلبات المستمرة في
العمل. ومع ذلك يكاد يكون من المستحيل لأية «قصة» متخيلة أن
تفعل ذلك. والنتيجة هي أن تنوع الموسيقى وتفاصيلها تشوَّه في
نظر المستمع، فلا يعود يميز ما في الموسيقى من تنويعات
وتغييرات دقيقة تضفي عليها طابعها المميز. ويتضح ذلك في حالة
أولئك الذين يتخيلون دائمًا نفس «القصة» تقريبًا بالنسبة إلى
نوع معين من الموسيقى، كالموسيقى البطيئة الحزينة، مهما كانت
القطعة المعينة. وللتخيل خطر آخر مرتبط بالسابق، هو أن «القصة»
قد تصبح لها حياة خاصة بها، بحيث يصبح السامع مستغرقًا فيها،
بدلًا من أن يستغرق في الموسيقى. وهذا بدوره يعد مثلًا من
أمثلة الخروج عن الموضوع من الوجهة الإستطيقية.
•••
والآن نصل إلى أهم مجالات مناقشتنا — وهو المعرفة المتعلقة
بالعمل الفني، ومدى ارتباطها بالموضوع. تلك المعرفة هي معرفة
عن الموضوع، في مقابل ما نتعلمه بشأن الموضوع عن طريق إدراكه
المباشر. وقد تكون «المعرفة عن» معرفة عن الفنان، والفترة التي
ابتدع فيها العمل، والمجتمع الذي عاش فيه الفنان، وأوجه الشبه
والاختلاف بين هذا العمل وأعمال أخرى، و«نوع» العمل، مثل كونه
قصيدة شعرية أو سيمفونية، وتأثير العمل في التطور التالي للفن،
وكيف قدر العمل في مختلف العصور وعلى يد مختلف النقاد، وما إلى
ذلك. ولقد تحدثنا من قبل عن أولئك الذين يتوافر لهم قدر هائل
من هذا النوع من المعرفة، ومع ذلك يبدو أنهم لا يستمتعون
بالعمل ذاته إلا استمتاعًا ضئيلًا إلى حد يدعو إلى الرثاء.
لذلك رأى الأستاذ «دوكاس» أن مثل هذه المعرفة «هي على الأرجح
ضارة أكثر منها نافعة.»
٣٢ وهو يواصل كلامه قائلًا: «إن النوادر وغيرها من
المعلومات المتعلقة بسيَر كبار المصورين والرسامين والموسيقيين
والكتاب، تؤلف موضوعًا طريفًا للحديث والثرثرة، ولكن ليس لها
شأن مباشر بالاستمتاع الجمالي بالأعمال التي تركها هؤلاء الفنانون.»
٣٣
ومع ذلك فليس من الضروري أن تحمل على كل «معرفة عن»، على
أساس أنها غير مرتبطة بالموضوع من الوجهة الجمالية. فمناقشتنا
السابقة تتيح لنا أن نميز بين المعرفة المرتبطة بالموضوع
والمعرفة غير المرتبطة به. و«المعرفة عن» تكون مرتبطة بالموضوع
إذا توافرت فيها ثلاثة شروط: إذا لم تكن تضعف الانتباه الجمالي
إلى الموضوع أو تقضي عليه، وإذا كانت متعلقة بمعنى الموضوع
وطابعه التعبيري، وإذا جعلت لاستجابتنا الجمالية المباشرة
للموضوع طابعًا أرفع، ودلالة أقوى.
فلنتخيل شخصًا ينظر إلى لوحة عن صَلب المسيح، ولا يعرف
التفسير المسيحي لهذا الحادث، على خلاف المسيحيين. مثل هذا
الشخص قد يستجيب جزئيًّا، وقد يشعر بالحزن والرثاء الذي تعبر
عنه اللوحة، ولكن ليس من المحتمل أن يقف أمامها مشدوهًا. فهو
خليق بأن يتساءل: لِم كل هذا الجو الوقور الرسمي المحيط بإعدام
هذا الرجل؟ ولنفرض أنه قيل له إن الشخصية المصلوبة هي — حسب
العقيدة المسيحية — ابن الله وهو يموت من أجل خلاص البشر. هذه
المعلومات في ذاتها لن تجعل التجربة الجمالية أعظم قيمة في
نظره، بل سيكون عليه أن يلاحظ بدقة وضع الشخصيات في اللوحة،
أعني مثلًا وضع المسيح والسيدة مريم، وعلاقة كل منهما بالآخر،
وتعبيرات وجهَيهما، ووضع جسمَيهما، والضوء الذي ألقاه عليهما
المصور، وألوان الصورة والتقابل بين هذه الألوان، ومظهر
السماء، وما إلى ذلك. ولا بد له أن يدرك هذه العناصر، لا
بطريقة تحليلية مجزأة، على النحو الذي سجلتها به، بل بتركيز
الانتباه الجمالي على كل منها في علاقاتها المتبادلة بعضها
ببعض، كما تتمثل مباشرة للوعي، على أنه لو فعل ذلك لأمكن ﻟ
«المعرفة عن» التي اكتسبها أن تؤدي إلى حدوث فارق هائل في
تجربته؛ ذلك لأنه الآن يرى التعبير على وجه المسيح مختلفًا
بالفعل، كما تختلف رؤيته للهالة المحيطة برأسه، وردود أفعال
أولئك الذين يقفون أسفل الصليب، والسماء الداكنة المنذرة
بالسوء. أي إن الإحساس العام بالصورة يتغير، وتصبح اللوحة أعمق
وأكثر حيوية. وهكذا تدمج المعرفة في إدراك المشاهد، وتغير
الطابع البصري والتخيلي والانفعالي لتجربته.
وفي استطاعتنا الآن أن نفهم أهمية المعيار الثالث من معايير
الارتباط الجمالي بالموضوع، وهي المعايير التي أوردناها من
قبل؛ فالتفسير المسيحي لحياة المسيح وعذابه مرتبط، بطريقة
واضحة، باللوحة التي تصور الصلب، ولكن هذه المعرفة عنه لا تكون
مرتبطة جماليًّا بالموضوع ما لم يكن لها تأثير متبادل مع ما
نراه ونحسه عندما ننظر إلى اللوحة جماليًّا. فلا بد أن تندمج
في التجربة الجمالية. ومجرد اكتساب هذه المعرفة ليس كافيًا، بل
قد يكون له تأثير هدام على التذوق الجمالي؛ ذلك لأن المشاهد قد
يدور تفكيره حول قصة المسيح كما سمعها، لا كما تعبر عنها هذه
اللوحة بعينها تعبيرًا فريدًا. ويكون الدليل على ذلك هو أنه
يستجيب بطريقة مماثلة تقريبًا لتصوير آخر مختلف كل الاختلاف
لواقعة الصلب. وعندئذٍ يكون قد اقتصر على وضع بطاقة على اللوحة
— هي «الصلب» — مثلما قد يسمي لوحة أخرى «منظرًا طبيعيًّا» أو
«طبيعة صامتة»، بدلًا من أن يدركها على أنها موضوع فردي
تمامًا. وفي استطاعتنا أن ندرك مدى إمكان الاختلاف في تصوير
هذا الموضوع الواحد إذا قارنا لوحة «الصلب، لجرونفالد
Grünewald (اللوحة رقم ٤)
بلوحة بيروجينو Perugino التي
تحمل نفس العنوان (اللوحة رقم ٥).
هذا هو الخطر الأكبر في كل «معرفة عن» الفن — أعني أن تظل
بعيدة عن العمل، وألا تندمج في استجابة المرء الجمالية
المباشرة، بل أن تصرف انتباه المرء عن العمل. وهذا بعينه هو
الخروج عن الموضوع من الوجهة الجمالية. وينتمي إلى هذا النوع
نفسه قدر كبير من «المعرفة عن» الفن، التي تُعطى في برامج
«التذوق الفني» والكتب المتعلقة بالفن، وفي «التعليقات على
البرامج» في الحفلات الموسيقية؛ إذ نجد معلومات عن تاريخ حياة
الفنان ووفاته، ونعلم أنه كان سيئ الطبع، أو نعرف معتقداته
السياسية. كما يتعلم الطالب كيف يتعرف على قصيدة غنائية
لبترارك من نوع «السونيت
sonnot»، أو يعرف أقسام
حركة في قالب السوناتا. ويتعلم كيف يميز فن «الباروك» من الفن
الكلاسيكي، وكيف أن عملًا فنيًّا معينًا أثر في خلق أعمال
تالية. غير أن هذا كله لا قيمة له من الوجهة الجمالية (وإن كان
من الممكن أن تكون له أهمية تاريخية أو نفسية) ما لم يُلقِ
ضوءًا على العمل الفني ذاته، ويجعل الإدراك الجمالي للطالب
أكثر دقة ويثري تجربته. فالقدرة على تمييز قصيدة من نوع
«السونيت» لبترارك، من قصيدة أخرى لسبنسر، ليست في ذاتها أكثر
جمالية من قدرة عالم النبات على تمييز نوع من الأزهار من نوع
آخر. كما أن تركيب المجتمع الذي عاش فيه الفنان قد تكون له
أهمية بالنسبة إلى دارس التاريخ الاجتماعي، ولكنه لا يمكن أن
يلقي ضوءًا على العمل، بل قد تكون هذه المعرفة — وكثيرًا ما
تكون بالفعل — أسوأ من أن توصف بانعدام القيمة، فقد تكون ضارة
بصورة صريحة مباشرة؛ ذلك لأنَّ الطالب يظن خطأً أنه إذا عرف
معلومات عن أصل العمل وتاريخه، أو كان قادرًا على تصنيفه
وتحليله، فإنه يستمتع به جماليًّا. وإنا لنستطيع الآن، في ضوء
مناقشتنا في هذا الفصل، أن نرى مبلغ خطأ هذا الاعتقاد. ومما
يزيد من الأسف على هذا الخطأ أنه يؤدي إلى ضياع كل الاستمتاع
الذي كان يمكن الشعور به في التجربة الجمالية الأصلية.
فلماذا يقع معلمو الفنون في الخلط إلى هذا الحد؟ من أسباب
ذلك أن من العسير جدًّا تعليم ما يتضمنه عنوان برنامج دراسي في
«التذوق الفني»؛ فتنمية الاهتمام والحساسية الفنية ليست بالأمر
اليسير على الإطلاق، والأسهل منه كثيرًا تقديم حقائق عن الفن
للطالب. غير أن أقلية ضئيلة من المعلمين هم الذين يختارون هذا
الطريق الأقرب إلى الطابع المباشر بروية وتدبر. وهناك عدد أكبر
بكثير يسلم ببساطة بأن الطالب سيتمكن من إدماج مثل هذه المعرفة
في إدراكه، بحيث تصبح مرتبطة بالموضوع جماليًّا. ومع ذلك فهذا
أمر لا ينبغي التسليم به. فعلى المعلم أن يتوخى دائمًا الحكمة
في اختيار ما سيقدمه من «المعرفة عن»، فلا ينتقي إلا ما يمكن
ربطه بالموضوع بسهولة، وعليه بعد ذلك أن يبين كيف يكون ذلك
مرتبطة بالاستمتاع الجمالي بالعمل. ويجب أن يكون ما يقوله
موجهًا نحو الصعوبات التي لاقاها الطالب في أول لقاء له مع
العمل، كما يجب أن يرتد مرة أخرى إلى العمل، فيمكن الطالب من
أن «يرى ما لم يكن قد رآه من قبل»، بحيث لا يقتصر على جعل
تجربته أوسع معرفة — لأن هذا ليس غاية في ذاته — وإنما يجعلها
أعمق وأشد إرهافًا لأنها أوسع معرفة. وإني لأذكر أني عندما
قرأت شيكسبير لأول مرة، في المدرسة الثانوية، أعطاني المدرس
مشروعًا هو بناء نموذج خشبي لمسرح «جلوب
Globe»، الذي عرضت فيه
مسرحيات لشيكسبير للمرة الأولى. ولم أدرك في ذلك الوقت، وما
زلت لا أدرك حتى الآن، كيف يمكن أن يكون لهذا ارتباط بتذوق
«تاجر البندقية».
إن القاعدة الرئيسية في تعليم الفن هي القاعدة الرئيسية في
التجربة الجمالية — ألا وهي: ركِّز الانتباه على الموضوع ذاته
فحسب. ولا بد أن يكون أي شيء آخر تقوله أو تفعله خاضعًا لهذا
الهدف الأساسي، كما أنه لا يكون جديرًا، من الوجهة الجمالية،
بأن يُقال أو يُفعَل إلا إذا اندمج في الإدراك الجمالي وأضفى
عليه دلالة جديدة.
وهناك أسلوب معين في تعليم الفن يشجع على الخروج عن الموضوع،
وينبغي الكلام عنه؛ لأنه واسع الانتشار. فكثيرًا ما يطلب إلى
الطلاب إجراء مقارنة بين عملَين فنيَّين أو أكثر. ولا شك أن
لهذه الطريقة مزاياها، إذ لا غناء عنها في دراسة تاريخ الفن.
وفضلًا عن ذلك فمن الممكن أن تكون مفيدة لأغراض جمالية خالصة
أيضًا، إذ إنها كثيرًا ما تجعل الطالب شاعرًا بالطابع المميز
لكل من الأعمال التي يقوم بالمقارنة بينها. ومع ذلك فإنها تولد
أيضًا أخطارًا معينة. أول هذه الأخطار يمكن فهمهه إذا فُهمت
الطبيعة الباطنة للموقف الجمالي. فهذا الموقف يتركز على موضوع
معزول عن علاقاته المتبادلة، لكي يتذوقه بما فيه من طابع فريد.
فإذا كنا في موقف يتعين علينا فيه أن نربط الموضوع بشيء آخر،
فمن الجائز أن الانتباه لا يستطيع أبدًا أن يتركز كله على واحد
من الموضوعين أو من الموضوعات فحسب، وإنما يظل يتنقل بينها،
فيُحال بينه وبين أن يكون جماليًّا. كذلك تُستخدم الأحكام
المقارنة في التجارب النفسية التي وصفناها في الفصل السابق.
وقد فندها «بلو
Bullough» في
المقال الذي اقتبست منه مقتطفات من قبل، فقال: «إن طريقة
المقارنة … تقضي على استعداد الذات وتهيُّئِها المسبق للتجارب
الجمالية … وإنه لمن السمات المميزة بدقة للتذوق الجمالي ألا
يكون مقارنًا، بل أن يكون نازعًا إلى العزل والاحتفاظ بالفردية.»
٣٤ والواقع أن الطالب حين يعجز عن النظر إلى كل عمل
فني بطريقة جمالية، يُضطر إلى تحليل الأعمال الموجودة أمامه،
والتقاط أوجه الشبه والاختلاف البارزة بينها؛ فهذه القصيدة
«غنائية»، وتلك «درامية»، وهذا عمل مبكر للفنان، وذاك من
أعماله الناضجة. غير أن هذا ليس إلا تعرُّفًا عقليًّا، لا
استمتاعًا جماليًّا، وهو في ذاته لا يرتبط بالموضوع جماليًّا
إلا ارتباطًا واهيًا، أو لا يرتبط به على الإطلاق.
(٦) «السطح» و«المعنى» الجمالي
يؤكد تعريفنا «للموقف الجمالي» أن «أي موضوع للوعي على
الإطلاق» يمكن أن يدرك جماليًّا. ومعنى ذلك أننا نسعى إلى
إثبات أن الناس كانوا وما زالوا يتأملون بطريقة منزهة عن الغرض
عددًا هائلًا من الموضوعات الشديدة التنوع، وأن ميادين جديدة
للاهتمام الجمالي تفتح على الدوام. ومع ذلك ينبغي علينا الآن
أن نبحث في الاعتراض القائل إن هذا التعريف يجعل نطاق
الموضوعات الجمالية أوسع مما ينبغي؛ فالاعتراض يقول إن ما
يُدرَك مباشرة بالإحساس هو وحده «الجمالي» بحق؛ فالأصوات،
والألوان، والملمس، وما شابهها من موضوعات الحس، هي وحدها التي
يمكن أن تكون موضوعات جمالية. وهذه الصفات تؤلف ما يطلق عليه
«برول
Prall» اسم «السطح»
٣٥ الحسي للعالم.
ولا يمكننا أن نقدر قوة هذا الرأي إلا إذا فهمنا التمييز
الذي يقام بين صفات «السطح» وبين الموضوعات الأخرى
للوعي.
فعندما ندرك لونًا، مثلًا، فإن معناه كله ينحصر في الطريقة
التي يبدو لنا عليها فحسب؛ فليس له معنًى وراء ذاته. ولا حاجة
إلى تفكير أو نشاط عقلي من أجل الاستمتاع به جماليًّا، بل إن
كل ما تحتاج إليه هو أن نحس به مباشرة، أو أن ندركه «حدسيًّا»
٣٦ كما يقول برول. وفي مقابل ذلك، لنبحث في إدراكنا
لكلمة مثلًا. إن الكلمة ليست مجرد شكل على الورق، أو صوتًا
نسمعه إذا كانت منطوقة. وإنما هي لا تكون كذلك إلا بالنسبة إلى
الطفل الصغير أو شخص لا يعرف اللغة. أما بالنسبة إلى أي شخص
آخر، فإن للكلمة معنًى، وهي تشير إلى شيء يتجاوز نطاقها. فكلمة
«كلب» تشير إلى المخلوقات ذوات الأربع التي يقال عنها إنها
أخلص أصدقاء للإنسان. والواقع أننا لا نتوقف لنفكر في معنى
كلمة إلا عندما نجهد أنفسنا في تعلم لغة، ولكن بعد أن يتم هذا
التعلم، تأتي إلينا الكلمة دون مجهود، ولكن على الرغم من ذلك
يظل التمييز قائمًا بين اللون أو الصوت، الذي لا يقدم للوعي
إلا ذاته، وبين الكلمة، التي يكون معناها أكثر من مجرد المظهر
الذي تتخذه للإحساس.
على أنه، تبعًا للرأي الذي نبحثه، يكون «السطح» الكيفي هو
وحده الذي يمكن أن يكون موضوعًا للوعي الجمالي. فطبيعة التجربة
الجمالية ذاتها تقضي بأن «نستمتع بالموضوع كما يُدرَك مباشرة،
دون إشارة تتجاوز هذا الشكل أو المظهر المدرَك» (ص١٩). أما أي
شيء له مثل هذه الإشارة فليس في حقيقته جماليًّا: «فحين نترك
السطح في انتباهنا، لكي نزداد عمقًا في المعاني … ننفصل عن
الموقف الجمالي بمعناه المميز» (ص٢٠). ومن هنا كان برول يعتقد
أن تذوقنا للنوع الفني الذي يستخدم كلمات، كالشعر مثلًا، ليس
جماليًّا بحق (قارن ص١٨٩، ١٩٤).
فهل ترى إلى أي حد تُعدُّ هذه نظرية معقولة، من حيث هي نظرية
في التجربة الجمالية؟ إننا عندما نتوقف لكي نفكر لأول مرة في
هذه التجربة، ونحاول وصفها بعبارات «معقولة ومألوفة»، نقول
إنها هي النظر إلى شيء «لذاته فحسب». والكيفيات الحسية هي أوضح
موضوعات لهذه التجربة؛ فالألوان والأصوات والروائح والملمس
تكون جذابة أو أخاذة في ذاتها؛ وهي تمتعنا بمظهرها الخالص،
البحت. وهي تشد الانتباه بحيث يتوقف عندها، فلا يتطلع إلى ما
وراءها، كما يحدث في الإدراك «العملي».
•••
ولكن، على الرغم من أن نظرية «السطح» معقولة، فهل تستطيع أن
تصمد للاختبار الفاحص؟ إن النظرية تذهب إلى أن الإدراك الجمالي
منزَّه عن الغرض، ويفتقر إلى أي هدف خارج عنه. وهذا صحيح
قطعًا. ولكنها تذهب أيضًا إلى أن الصفات المحسوسة هي وحدها
التي يمكن أن تكون موضوعات لهذا الإدراك. وعند هذه النقطة تصبح
النظرية مشكوكًا فيها؛ فهي معرضة للنقد لأنها محدودة أكثر مما
ينبغي. فنادرًا ما نمر، ونحن بالغون، بتجربة تكون حسية خالصة،
أي لا نفسر فيها المعطيات التي ندركها على نحو ما؛ فالنور
الأحمر يدفع سائق السيارة إلى التوقف؛ ومن الممكن أن تكون
مجموعة من الألوان رمزًا لتاريخ أمة ومثلها العليا. وحتى في
حالة الإدراك الجمالي، عندما تكون الألوان أكثر حيوية وطرافة
مما هي في التجربة المعتادة، نقوم عادة «بملء الفراغات» في
إدراكنا، عن طريق ربط المحسوسات بتجربة ماضية، ومن هنا فإن
«الحدث» الحسي، كما يعترف برول، لا يكاد يحدث على الإطلاق
(ص١٨٢).
غير أن هذا ليس هو العيب الأساسي للنظرية؛ فالأرجح أن
الإحساس يحدث بالفعل في وقت ما، وعندما يحدث فمن الممكن، كما
قلنا في موضع سابق من هذا الفصل، أن يكون جماليًّا، ولكن
لنتأمل الآن إلى أي حد يصبح المجال الجمالي ضيقًا لو اقتصرنا
على الإحساس وحده.
عندئذٍ يكون من الضروري أن نستبعد من المجال الجمالي كل
تجربة لا تكون حسية. فكل وعي إدراكي وعقلي
٣٧ ينبغي أن يحشر في زمرة اللاجمالي. أي إن هذا لا
يؤدي إلى خروج الإدراك والتفكير «العملي» وحدهما عن المجال
الجمالي، بل يخرج عنه أيضًا الإدراك والتفكير عندما يكونان
منزهين عن الغرض. على أننا نقوم بمثل هذا الإدراك والتفكير حين
نقرأ قصيدة أو رواية. ونحن عادة نعد هذه التجربة جمالية. أما
حسب نظرية برول فإنها لا بد أن تقع خارج المجال
الجمالي.
وهكذا فإن نظرية «السطح» تمحو معالم الفارق الهام بين
الإدراك والفكر حين يكونان منزهين عن الغرض، وبينهما حين لا
يكونان كذلك. وهي تفعل ذلك لأنها تضع التمييز بين الجمالي
واللاجمالي في غير موضعه. فتعريفها «للجمالي» يهدد دراسة علم
الجمال بخطر شديد. ولو سرنا في الطريق الذي تدعونا إليه،
وأنكرنا أن تكون أية تجربة فيما عدا «الحدس» الحسي جمالية،
لكان علينا أن نمتنع عن دراسة جزء كبير من التجربة الجمالية،
بل الجزء الأكبر منها؛ إذ إن هذه التجربة إدراكية وتصورية في
معظم الأحيان.
٣٨
إن من المفروغ منه، بطبيعة الحال، أن للأعمال الأدبية
«معنًى». فلها هذا المعنى على الأقل بالنسبة إلى أي شخص يفهم
اللغة التي كُتبت بها. أما السيدة الإيطالية التي لم تكن تعرف
الإنجليزية فكانت تعتقد أن كلمة cellar
door هي أجمل كلمة في هذه اللغة، بسبب
وقعها الصوتي وحده، ولكن كون الألفاظ والجمل ذات معنًى، لا
يترتب عليه ألا يكون من الممكن إدراكها جماليًّا؛ ففي
استطاعتنا أن ننتبه إلى الألفاظ ومعانيها انتباهًا منزهًا عن
الغرض. وإذا كانت الألفاظ تشير إلى ما وراء ذاتها، فإن هذا لا
يعني أنه لا بد أن يكون لنا غرض آخر خارجي حين نقرؤها. ويقول
برول، في الجملة التي اقتبستها من قبل، إننا في التجربة
الجمالية «نستمتع بالموضوع كما يُدرَك مباشرة، دون أية إشارة
خارجة» عنه. وهذا صحيح إذا فُهم بمعنى أن اهتمامنا ينصب على
الموضوع وحده، لا على أي شيء خارج عن تجربة الإدراك، ولكن صحة
هذا الحكم لا تعني بالضرورة صحة الحكم الآخر القائل إن الموضوع
ذاته، أي اللفظ في العمل الأدبي، ينبغي ألا يشير إلى شيء خارج
عن ذاته. والواقع أن عدم الاعتراف بهذه الحقيقة هو الذي يعلل
ما يشوب نظرية «السطح» من نقص.
إننا حين نقرأ كثيرًا من الشعر، نقدر «سطحه»؛ أي «موسيقى»
الألفاظ، كما نقدر «الأفكار» التي ينقلها إلينا. واهتمامنا
ينصب على هذين العنصرين. أما عندما يرجع دارس الرياضيات إلى
جدول اللوغاريتمات، أو عندما يقرأ المرء مقادير الجرعات كما هي
مدونة على بطاقة زجاجة من الدواء، فإن الإدراك لا يكون منزهًا
عن الغرض. فعندئذٍ لا يكون القارئ مهتمًّا بالمعاني إلا من أجل
غرض معين يتجاوز تجربة الإدراك ذاتها. صحيح أن لفظًا له معنًى
مثل «النار!» أخلق بأن يحفز على النشاط العملي من لفظ لا معنى
له مثل «لبشمون»، ولكن هذا لا يعني أن كل إدراك ﻟ «المعنى»
ينبغي أن يكون غير جمالي. وعلى ذلك فليست طبيعة الموضوع هي
الحاسمة. فللأدب «معنى» ولكن هذا لا يسوي من المسألة شيئًا، بل
إن موقفنا نحن من الأدب هو الذي يمكن أن يجعله جماليًّا،
ويجعله كذلك بالفعل.
•••
إن أي نوع، وكل نوع، من الوعي — الحسي، والإدراكي، والعقلي،
والتخيلي، والانفعالي — يمكن أن يحدث في التجربة الجمالية. ولا
يؤدي تعريف «الموقف الجمالي» الذي قدمناه في هذا الفصل إلى
استبعاد أي من هذه الأنواع قبليًّا، وإنما هو يحاول أن يعمل
حسابًا لوقائع لا شك فيها، هي أن الناس يجدون متعة جمالية في
رائحة التبن المحصود حديثًا، وفي الروايات والمسرحيات، وفي
الخصائص الرياضية المنطقية للدوائر «الكاملة» والأعداد غير
المتناهية. وهكذا فإننا نحاول أن نكون مخلصين للشواهد القائمة،
ونتجنب في الوقت ذاته تضييق نطاق بحثنا للتجربة الجمالية في
بدايته.
المراجع
(⋆) جوتشوك، د. و.،
«الفن والنظام الاجتماعي».
Gotshalk, D. W., Art and the
Social Order (Chicago U.P., 1947), Chap.
I.
لونجمان، لستر، «مفهوم المسافة النفسية».
Longman, Lester D., “The Concept
of Psychical Distance,” Journal of Aesthetics and Art
Criticism, vol. VI, 31–36.
(⋆) ريدر، ملفن، مرجع
حديث في علم الجمال.
Rader, Melvin, ed., “A Modern
Book of Esthetics,” rev. ed., (N. Y., Holt, 1952) pp.
387–428, 548–564.
(⋆) فيفاس وكريجر،
مشكلات علم الجمال.
Vivas & Krieger, The
Problems of Aesthetics, pp. 315–325,
396–411.
(⋆) فايتر، موريس،
(الناشر)، مشكلات في علم الجمال.
Weitz, Morris, ed., Problems in
Aesthetics (N. Y., Macmillan, 1959) pp. 621–625,
637–656.
آيكن، هنري د، «مفهوم الارتباط بالموضوع في علم
الجمال».
Aiken, Henry D., “The Concept of
Relevance in Aesthetics,” Journal of Aes. and Art Crit.,
vol. VI (Dec. 1947), pp. 152–161.
كوني، إرفنج م، «ملحوظة عن التمثيل في الفن».
Copi, Irving M., “A Note on
Representation in Art,” Journal of Philosophy, vol. LII,
(June, 23, 1955) pp. 346–349.
ديوي، جون، الفن بوصفه تجربة.
Dewey, John, Art as Experience
(N. Y., Minton, Black, 1934) Chaps. I,
XI.
إدمان، إروين، مسعى الفيلسوف.
Edman, Irwin: Philosopher’s Quest
(N. Y., Viking, 1947), pp.
221–250.
لانجفلد، هربرت س، «الموقف الجمالي».
Langfeld, Herbert S., The
Aesthetic Attitude (N. Y., Harcourt, Brace, 1920) Chap.
III.
برول، الحكم الجمالي.
Prall, Aesthetic Judgment. Chaps.
I-III, X.
رتشاردز، النقد العملي.
Richards, I. A., Practical
Criticism (N. Y., Harcourt, Brace, 1952) Part III, Chap.
V.