(١) العمل الفني وأصوله
سوف نبحث في الفصول التالية بعضًا من أهم النظريات المتعلقة
«بطبيعة الفن». هذه النظريات تحدد سمات معينة ترى أنها هي التي
تميز «الفن الجميل». وهي تفعل ذلك محاولة منها الإجابة عن ذلك
السؤال الذي يصاغ على أبسط الصور وأوسعها انتشارًا بقولنا: «ما
الفن؟» وفي هذا الفصل سوف نبحث في الطريقة التي يخلق بها العمل
الفني، وذلك إجابة عن السؤال: «كيف يظهر الفن؟»
ومن المهم أن نتبين هنا، منذ البداية الأولى، كيف يرتبط هذان
السؤالان كل بالآخر.
ويهمنا أن نلاحظ أولًا أن هذين السؤالين مختلفان كل عن الآخر
تمام الاختلاف. وعلى ذلك فإن من الواجب أن يجاب عنهما بطرق
مختلفة كل الاختلاف. وهذا أمر لا بد لنا من تأكيده؛ إذ إنه
كثيرًا ما يظن أن المرء إذا وصف الأصول الأولى للفن فقد أجاب
في الوقت ذاته عن السؤال: «ما الفن؟» ومن هنا كان من الإجابات
الشائعة عن السؤال الأخير، أن الفنان يمر بانفعالات عميقة،
وتؤدي به رغبته في التعبير عنها إلى إنتاج الموضوعات الفنية …
وبالمثل فعندها يحاول الناس تفسير عمل فني معين، تراهم يصفون
ما حدث في ذهن الفنان أثناء إبداعه للعمل، أو يشيرون إلى
الإطار التاريخي أو الاجتماعي الذي رأى فيه العمل
النور.
والحق أن أمثال هذه الأوصاف التاريخية كثيرًا ما تكون مفيدة
إلى أبعد حد، ولكني أود أن أثبت أنها لا تكون بذاتها إيضاحًا
لطبيعة العمل الفني. ولو خلطنا بين الأمرين، لوقعنا فيما يطلق
عليه اسم «المغالطة المنشئية (المغالطة الخاصة بتأثير المنشأ)
genetic fallacy» أو
«مغالطة الأصل fallacy of
origins».
والواقع أن الوقوع في هذه المغالطة أمر يسير، ليس فقط في
ميدان علم الجمال، بل أيضًا في ميادين أخرى للدراسة. هب أننا
ندرس طبيعة الدولة، في النظرية السياسية. عندئذٍ قد نقرر، كما
فعل الفيلسوف هُبز، أن أصل الدولة يرجع إلى العداوة والمنازعات
المستمرة بين أشخاص أنانيين، يعيشون خارج نطاق أي نظام
اجتماعي، وأن الدولة تنشأ من محاولة الحد من هذه العداوات.
ولكن حتى لو صح هذا، لما كان يفسر بالضرورة طبيعة الدولة في
الوقت الراهن. فمن الممكن أن تتجاوز الدولة نطاق وظيفتها
الأصلية، وتضع لنفسها أهدافًا مختلفة كل الاختلاف، وتركيبًا من
نوع آخر. وعندئذٍ لا يمكننا القول إن من طبيعة الدولة ذاتها أن
تقوم بالقمع والتنظيم؛ فمن الممكن أن يكون تبرير سلطتها
مختلفًا كل الاختلاف عما تصوره هُبز، الذي انتهى إلى موقفه هذا
استدلالًا من وصفه المنشَئي
genetic. وبالمثل؛ ففي وسع
المرء أن يفسر القوى النفسية والمؤثرات الاجتماعية التي أدت
إلى صياغة نظرية ما، في الاقتصاد أو في الدين مثلًا، ولكن هذا
لن يؤدي في ذاته إلى أن نعرف مدى صحة النظرية واتساقها المنطقي.
١
وبالاختصار فإن منشأ «س» شيء، و«س» ذاتها شيء آخر. وما إن
تبدأ «س» في الوجود، حتى تصبح لها حياة خاصة بها، إن جاز هذا
التعبير. وسوف يصبح لها — شأنها شأن النظرية أو الكائن البشري
— تركيب وقيمة، وتدخل في علاقات مع الأشياء الأخرى، لا يمكن
فهمها تمامًا من خلال أصلها الأول. فلا بد لنا من دراسة هذه
السمات لكي نعرف «كُنْهَها».
وفي استطاعتنا الآن أن
نرى أن هذا السؤال الذي يبدو في ظاهره بسيطًا: «ما الفن؟» بعيد
كل البعد عن البساطة؛ ذلك لأنه بعد أن يتم إنتاج الموضوع
الفني، يمكن النظر إليه وفهمه من وجهات نظر كثيرة متباينة، وقد
لا يكون لها أي شأن بأصله الأول؛ فقد نهتم بهذا الموضوع
أخلاقيًّا، أو ماليًّا، أو عمليًّا، فضلًا عن أننا قد نهتم به
جماليًّا. كذلك فإن اهتمامنا الجمالي به قد يتخذ أشكالًا
متباينة كل التباين؛ فتاريخ الفن يثبت بوضوح أن دلالة العمل
الفني وقيمته يمكن أن تفسر على أنحاء شتى على يد مختلف الأشخاص
وفي مختلف العصور؛ فالبعض كان يقدر مسرحيات شيكسبير أساسًا لما
فيها من مزايا شعرية، وغيرهم كان يقدرها لما فيها من إثارة
ميلودرامية، وغير هؤلاء وأولئك كانوا يقدرونها بسبب معالجتها
النفسية الدقيقة للشخصية الإنسانية. وهذا أمر لا ينبغي أن يؤسف
له؛ إذ إنه يدل على أن في هذه الأعمال ثراء لا ينضب بعينه،
ولكنا نستطيع أن نرى أن كلًّا من هذه التفسيرات ينبئنا، من
ناحية معينة، ﺑ «ما كان عليه» شيكسبير. وكما أن الأعمال الفنية
لهذا الفنان الواحد يمكن أن تكون لها وجوه مختلفة، فكذلك يمكن
أن يكون للفن الجميل عامة مثل هذه الوجوه بطبيعة الحال. وعلى
ذلك فمن واجبنا أن نحذر أولئك الذين يدعون أن نظريتهم وحدها هي
التي تنبئنا بما يكوِّن الفن «حقيقة». فمن الممكن دائمًا تصور
طبيعة الفن على أنحاء أخرى هي بدورها سليمة تلقي عليه ضوءًا
مفيدًا.
وهناك اتجاهات معينة في الفكر القريب العهد ضاعفت من خطر
ارتكاب «المغالطة المنشئية»؛ ذلك لأن اهتمامنا بتاريخ حياة
الفنان الفرد وشخصيته أصبح في العصر الحديث أعظم بكثير مما كان
في العصور السابقة. وهكذا كانت النزعة الرومانتيكية في القرن
التاسع عشر تركز كل اهتمامها على فردانية الفنان، وربما على
شذوذه. غير أن أمثال هذه الأفكار، شأنها شأن كل الأفكار التي
يكون لها تأثير قوي في عصر معين من عصور الفكر، أخذت تهبط بعد
فترة معينة من المستويات العليا للتفكير النظري الجمالي والنقد
الأدبي، لكي تحتل مكانها في الفكر الشعبي واللغة الجارية. وكما
أشرت منذ قليل، فنحن نوحد الآن في كثير من الأحيان بين العمل
الفني وبين الفنان. ويتجلى هذا الاهتمام بالفنان أيضًا في
كتابة سير الفنانين، التي تتخذ في بعض الأحيان طابعًا لا يفترق
كثيرًا عن الثرثرة، وفي تكوين طقوس صغيرة تهدف إلى تقديس فنان
معين. وهذا أمر يمكن أن يوقعنا بسهولة في المغالطة المنشئية؛
فقد نسيء مثلًا تفسير عمل فني بأن نقرأ فيه ما نعرفه عن حياة الفنان.
٢
•••
ولقد كان من الطبيعي أن يؤدي هذا الاهتمام إلى تخمينات واسعة
النطاق عن التركيب النفسي للفنان، وشغل بهذه المهمة عدد كبير
من علماء النفس، من بينهم الرائد الأول لعلم النفس في عصرنا،
زيجمند فرويد. والواقع أن ما يقوله فرويد عن الفنان له طرافته
وأهميته في ذاته، ولكن الأهم بالنسبة إلى أهدافنا الراهنة هو
أنه يشير إلى ضرورة التمييز بوضوح بين الفنان وبين ما
أبدعه.
ويرتكز تحليل فرويد للفنان المبدع على نظريته النفسية
العامة. وبطبيعة الحال فإن المقام لا يتسع هنا لعرض شامل لتلك
النظرية. ومع ذلك ينبغي أن
يقال أولًا إن للناس في رأي فرويد دوافع ورغبات كامنة معينة لا
يمكن إشباعها كليةً في المجتمع. ومن هنا كانوا مضطرين إلى
التخلي عن هذه الدوافع والرغبات أو تعديلها، أو على حد تعبير
فرويد، عليهم أن يقبلوا «مبدأ الواقع». غير أن هذه الرغبات لا
يمكن أن تخمد. فهي تطالب بنوع من الإشباع، حتى لو كان ذلك في
«التخييل
phantasy». «وعلى
ذلك، ففي التخييل يستطيع الإنسان أن يستمتع بتحرره من قبضة
العالم الخارجي.»
٣ ويتمثل التخييل في أحلام اليقظة وأحلام النوم، حيث
تستمتع تلك الرغبات التي تظل مكبوتة في غير ذلك من الأوقات،
بإشباع خيالي.
والفنان بدوره يعاني من هذه المحنة الإنسانية الشاملة. فهو
يبحث عن «المجد، والسلطة، والثراء، والشهرة، وحب النساء، ولكنه
يفتقر إلى وسيلة الوصول إلى إشباع هذه الرغبات.»
٤ ومن هنا فإنه يلجأ بدوره إلى التخييل. ومع ذلك فإن
التخييل الذي يخلقه من نوع مختلف كل الاختلاف. فتخييل غير
الفنان ينطوي على صور وأفكار شخصية، وبالتالي لا يمكن أن تكون
مفهومة إلا للفرد ذاته. أما الفنان فيغير أحلامه بحيث يمكن أن
تنقل إلى الآخرين وأن يستمتع بها هؤلاء. فهذه أحلام يمكن
قبولها على الملأ، وذلك أساسًا عن طريق الرمزية — أي باستخدام
صور وأفكار تدل على المحتويات الأصلية للتخييل وتوحي بها،
ولكنها مختلفة عنها، وكذلك عن طريق التباس المعنى
ambiguity، أي باستخدام
صور يمكن تفسيرها على أنحاء شتى، وبذلك يطمس دلالتها الأصلية.
وعلى هذا النحو يستطيع كل من الفنان وجمهوره أن يستمتع، دون
كبت، «بحلمه» البهيج.
وقد أكد فرويد ذاته أن هذه النظرية تخمين لم يثبت بالدليل،
وكان في ذلك يكشف عن تواضعه الشخصي الجم، فضلًا عن وضوحه
العقلي، ولكن حتى لو كانت النظرية صحيحة، فمن الواجب أن ندرك
أنها — كما اعترف فرويد أيضًا — لا تقدم تفسيرًا كاملًا ﻟ
«طبيعة الفن».
فليس ما يهمنا، من وجهة النظر الجمالية، هو تاريخ العمل،
وإنما العمل ذاته، واقفًا على قدميه. وعندما نريد التعبير عن
قيمة العمل، نشير إلى عناصر
داخلة في هذا العمل ذاته، فنقول إن السيمفونية جيدة لأن
الألحان الرئيسية قد طورت بطريقة فيها خيال واسع، أو إن
الدراما تستحوذ على اهتمامنا نظرًا إلى البناء المحكم لعقدتها،
ولكننا لا نشير إلى «تخييل الفنان»، ولا حاجة بنا إلى أن نفعل
ذلك. على أن الباحث المتأثر بفرويد قد يتمكن من أن يبين كيف
دخل التخييل في العمل ذاته. وقد حاول فرويد نفسه أن يفعل ذلك
في دراسته للفنان ليوناردو دافنشي.
٥ غير أن هذا لا يؤدي في ذاته إلى تفسير قيمة العمل؛
فالعمل ليس مجرد تخييل، وإنما هو تخييل صِيغ وشُكل في بناء فني
وباستخدام وسائل فنية. وهو قد أصبح جزءًا لا يتجزأ من نموذج من
الألوان أو الأصوات أو الكلمات. فعلينا ألا ننسى أبدًا عناصر
العمل التي تجعله على ما هو عليه في طبيعته الباطنة.
فإن لم يكن ذلك قد ظهر
لك بعد بوضوح، فلتنظر إلى الأمر على النحو الآتي: من الممكن أن
يؤثر نوع متشابه تمامًا من الإحباط
frustration في فنانين
مختلفين، وقد يتخيلان إشباعًا بديلًا من نوع مماثل إلى حد
بعيد. ومع ذلك فإن الأعمال التي يبدعانها قد تكون مختلفة
تمامًا من حيث القيمة، فيكون أحدهما ضئيل القيمة، والآخر
عظيمًا. وعندئذٍ يكون ذلك راجعًا إلى عوامل مثل الجاذبية
الحسية للعمل، وما فيه من إثارة خيالية، وبلاغة انفعالية؛
فالقيمة الجمالية لا يمكن أن توجد إلا في العمل الفني، لا في منشئه.
٦
وهناك سبب آخر يدعونا إلى الالتزام بالتمييز بين العمل الفني
وأصله لو شئنا ألا تضللنا النظرية الفرويدية. فلنسلم جدلًا،
مرة أخرى، بأن التخييل متضمن في العمل. هذا التخييل ليس
ذاتيًّا تمامًا؛ إذ إن فرويد يؤكد، كما رأينا من قبل، أن
الفنان يجعله قابلًا لأن يوصل للغير ويشارك فيه الغير، ومع ذلك
فإن طبيعة التخييل والعمل الفني معًا تتوقف إلى حد بعيد على
العصر والحضارة التي يعيش فيها الفنان، وتعكس مظاهر الكبت التي
يفرضها هذا المجتمع الخاص، والرموز التي يستخدمها هذا المجتمع
من أجل إخفاء الأفكار غير المقبولة حضارية، وغير ذلك من
العوامل النفسية الاجتماعية المماثلة، ولكن بمجرد أن يكتسب
العمل حياة خاصة، يدركه أناس يعيشون في مجتمعات أخرى، قد يكون
تكوينهم النفسي مختلفًا كل الاختلاف عن ذلك التكوين الذي عاش
فيه الفنان. ومن هنا فإن تفسيرهم للعمل الفني وتقديرهم له
سيكون مختلفًا كل الاختلاف، بل إن في العمل الفني عادة من تعدد
الدلالة ما يكفي لأن يفسر على أنحاء متباينة، كما أكدت النظرية
الفرويدية، وهو تأكيد يُعد من أعظم ما حققته هذه النظرية. وعلى
ذلك فإننا لا نستطيع أن نقيد العمل بمنشئه، ولا يمكننا القول
إن العمل «هو ذاته» الوسيلة العلنية لنقل هذا «الحلم» المعين
للفنان أو لمجتمعه؛ فمن الممكن كشف عدد متنوع من «الأحلام»
داخل العمل ذاته، كلها مرتبطة به من الوجهة الجمالية. وإذن،
فكما أن تخييل الفنان لا يضمن القيمة الجمالية للعمل، فإنه لا
يستطيع أن يضمن ماذا ستكون دلالته بالنسبة إلى جماهيره
المتغيرة.
وما إن نفهم «المغالطة المنشئية» حتى يصبح كلامنا وتفكيرنا
أشد حذرًا ودقة؛ إذ إن هذا الفهم يجعلنا نحذر الاستدلالات
المتسرعة، غير النقدية، من حياة الفنان على طبيعة عمله، فليس
في وسعنا أن نفترض بسهولة أن كون الفنان في حالة نفسية معينة
في وقت الخلق الفني يؤدي بالضرورة إلى انعكاس هذه الحالة
النفسية على العمل. وكما قلت من قبل، فإن للعمل طابعًا خاصًّا
به، بل إن هناك في الواقع فارقًا هائلًا بين الحالة النفسية
التي تشيع في العمل، وبين حالة الفنان في وقت خلقه لهذا العمل.
فهناك سيمفونيتان من أكثر سيمفونيات بيتهوفن إشراقًا — وهما
السيمفونية الثانية البهيجة، والسيمفونية الثامنة الصريحة، غير
المتكلفة، الأخاذة — كتبنا في أوقات كان فيهما المؤلف يعاني
ألم شخصية مبرحة أو مأساة أو كليهما معًا. فلتستمع إلى هذين
العملين، ولتحكم بعد ذلك: ألم تكن ستتصور أن حياة الفنان هادئة
سعيدة لو لم تكن لديك معرفة سابقة بتاريخ حياته؟ ولنضرب مثلًا
آخر؛ فقد كان تشايكوفسكي — كما تعرف على الأرجح — واحدًا من
أصرح الموسيقيين تعبيرًا عن عواطفه وانفعالاته. وقد تتصور
بناءً على ذلك أن موسيقاه لا بد أن تكون تدفقًا لانفعالات كان
يشعر بها في تجربته الشخصية. ومع ذلك فإن شهادة تشايكوفسكي
الشخصية تمنعنا من ارتكاب خطأ كهذا؛ إذ إنه يقول: «إن العمل
الذي يؤلف في أسعد الظروف قد يصطبغ بألوان قاتمة كئيبة.»
٧ وهناك كاتبة
أمريكية مشهورة معاصرة، هي كاترين آن بورتر
Katherine Anne Porter،
تفرق بدورها بين الحالة النفسية للخلق وبين العمل الفني،
فتقول: «ليس في وسعي أن أقول لك ما الذي يضفي على العمل حرارة
حقيقية … إنها ليست متعلقة بما تشعر به في أية لحظة بعينها،
وليست قطعة متعلقة بما تشعر به في لحظة الكتابة. وربما كان
البرود هو أنسب الحالات لذلك، في معظم الأحيان.»
٨
كذلك ينبغي تجنب مغالطة الأصل عندما يكون العامل المنشئ
اجتماعيًّا لا شخصيًّا. مثال ذلك أن كثيرًا من موضوعات الفن
البدائي التي نضعها في المتاحف كانت في الأصل تستخدم لأغراض
عملية؛ فهذه الأواني والملاعق والأوعية كانت من قبل موضوعات
عادية تستخدم في الحياة اليومية. ومع ذلك لا يمكننا القول إن
النظر إليها بطريقة جمالية، بدلًا من الطريقة العملية، ينطوي
على تشويه «لطبيعتها الحقة»؛ ففي هذا القول خلط بين الموضوع،
الذي يمكن النظر إليه على أنحاء شتى، وبين منشئه.
(٢) عملية الإبداع الفني
ولكن، على الرغم من أن السؤالين: «ما الفن؟» و«كيف يظهر
الفن؟» مختلفان كل الاختلاف، فإن لكل منهما صلة بالآخر؛ ذلك
لأن الإجابة عن السؤال الأول ينبغي أن يُعمل فيها — بصفة جزئية
— حساب للطريقة التي أُبدع بها العمل الفني. ولكي يتضح لنا سبب
ذلك، ينبغي علينا أن نفهم معنى لفظ «الفن».
من الواجب أن نعترف أولًا بأن لهذا اللفظ معنًى مزدوجًا؛ فمن
الممكن أن يشير لفظ «الفن» إلى نوع معين من النشاط، وكذلك إلى
نوع معين من الموضوعات. فعندما نقول إن شخصًا «يدرس الفن»،
نعني عادة أنه يتعلم كيف يقوم بنشاط يحتاج إلى مهارة، وعندما
نتحدث عن «متحف للفن»، نشير إلى الموضوعات التي توجد فيه.
و«العمل الفني» أو «الموضوع الفني» هو نتاج النشاط الفني.
فلنتساءل الآن عما نعنيه «بالفن» من حيث كونه نشاطًا.
ولنبدأ بأن نسترجع ضروب النشاط البشري التي نأبى عليها اسم
«الفن». فماذا نقول عن التنفس أو العطس أو قفزة الرجل عندما
يضرب الطبيب ركبته بمطرقته الصغيرة المصنوعة من المطاط؟ ليس في
هذا كله شيء فني. وماذا نقول عن ربط المرء لرباط حذائه، أو عن
تلك الحركات التي لا تستهدف غرضًا، أو نؤديها بلا تفكير، مثل
حك المرء لأنفه؟ إننا لا نتحدث عن «الفن» في أية حالة من هذه
الحالات، وإذن ففي وسعنا أن نقترب قليلًا من معنى «الفن» بأن
نستبعد منه ضروب النشاط التي تتميز بأنها غريزية أو انعكاسية،
أو تتم بالعادة أو بطريقة عشوائية.
فإذا ما أردنا الآن أن نتحدث بطريقة إيجابية، لقلنا أولًا إن
الفن «واعٍ بهدفه»؛
٩ فهو نشاط نقوم به ولدينا فكرة واعية عن تحقيق هدف
معين في المستقبل. وهذا يؤدي إلى التفرقة بينه وبين العطس
والحركات العشوائية، وكذلك بينه وبين ربط رباط الحذاء على
الأرجح. وفضلًا عن ذلك، فلا بد أن يهتدي هذا النشاط إلى سبيل
لتحقيق هدفه. فليس ثمة طريقة ثابتة محددة مقدمة، كما هي الحال
في ربط رباط الحذاء، أو إدارة مفتاح النور، بل إن على الفنان
أن يرتجل، وعندما ينتج مسودات متعددة، فعليه أن يقرر أيها
يختار وأيها يرفض. وثالثًا يمارس الفن على نوع من «المادة
الخام» التي يشكلها أو يحورها لكي يؤدي غرضه. وقد تكون هذه
المادة الخام ألفاظًا، أو رخامًا، أو أصواتًا. وأخيرًا فإن
الفنان يتميز بمهارة وبراعة في استخدام هذا الوسيط.
ونستطيع أن نلخص هذا في تعريف لنشاط «الفن»، فنقول إنه
«المعالجة البارعة، الواعية، لوسيط من أجل تحقيق هدف
ما.»
وأنت ترى أن هذا التعريف لا يقصر «الفن» على ما نسميه
«الفنون الجميلة» ولكن هذا بالفعل هو ما ينبغي عمله؛ ذلك لأن
الفن نشاط أشمل بكثير مما يقوم به الموسيقي أو المصور أو
الكاتب:
«إن ميدان الفن هو ذاته ميدان سيطرة الإنسان الواعية
على عالم المواد والحركات الذي ينبغي على الإنسان أن
يستوطنه، وعلى عالم الدوافع الباطنة والعمليات الآلية
التي تؤلف كيانه الباطن؛ فكسْر عصا، وبناء كوخ أو
ناطحة سحاب أو كاتدرائية، واستخدام اللغة للاتصال
المتبادل، وبذْر محصول أو حصده، وتعهُّد الأطفال
وتربيتهم، وصياغة قانون تشريعي أو أخلاقي، ونسْج ثوب
أو حفْر بئر؛ كل هذه ضروب من النشاط لا تقل في تمثيلها
للفن عن تشكيل صورة بارزة أو تأليف سيمفونية.»
١٠
«فالفن»، بهذا المعنى الواسع، يشمل «الفنون الصناعية» أو
«الفنون النافعة»، مثل «فن الطبخ». ويكاد يكون من الممكن أداء
أي نوع من النشاط بطريقة فنية، إذا ما أُدِّي بوعي ومهارة،
وإدراك للهدف، وحسبنا في هذا أن نفكر في تعبيرات مثل «لاعب كرة
فنان» أو «متفنن في الكذب»، ولكن ما الذي يميز ما نسميه
بالفنون الجميلة؟ إن الفصول المقبلة قد كُرِّست للإجابة عن هذا
السؤال. أما في الوقت الراهن، فمن الضروري أن ندرك أن أي نوع
من الموضوعات الفنية يفترق عن الموضوعات غير الفنية؛ كالصخور
والأشجار والحفر، بناء على الطريقة التي يخلق بها. ومن هنا فإن
أي تعريف للفن على أنه موضوع ينبغي أن ينطوي على إشارة إلى
أصله. ومع ذلك فإن طبيعة هذا الموضوع الفني لا يمكن، كما أشرنا
في القسم السابق، أن تفهم فهمًا كاملًا بالرجوع إلى أصل هذا
الموضوع.
•••
فلنرجئ الآن مسألة الفن بوصفه موضوعًا، ونبحث في النشاط
الفني كما يمارس في «الفنون الجميلة». وتحقيقًا لهذا الغرض،
سوف نستمع إلى ما يقوله الفنانون أنفسهم عن الخلق الفني؛ فهم
على الأرجح الأشخاص الوحيدون الذين يمكنهم الكلام في هذا
الموضوع بناء على خبرة مباشرة.
ومع ذلك فلزام على من يخوض هذه الدراسة المتعلقة بالشواهد
المستمدة من الفنانين أنفسهم ألا يعلق عليها من الآمال أكثر
مما ينبغي. وعليه قطعًا ألا ينتظر منها حلًّا لذلك «اللغز»
القديم العهد؛ لغز الطريقة التي يحدث بها الخلق الفني. والواقع
أن هناك بالفعل عددًا كبيرًا من الكتابات، وكذلك من المحادثات
المسجلة والمذكرات … إلخ، وصف فيها الفنانون أساليبهم في
العمل، ولكن هذه الكتابات في معظم الأحيان مخيبة للآمال، وهي
في عمومها غير قاطعة. ولهذه الظاهرة أسباب متعددة.
فمن الملاحظ أولًا أن وصف الفنان لنشاطه الخلاق كثيرًا ما
يكون مفتقرًا تمامًا إلى الوضوح، وربما كان الأمر كذلك حتى في
الحالات التي يكون فيها إنتاجه الفني ذاته شديد الوضوح
والتنظيم. وهذا أمر يبدو منطويًا على مفارقة، كما أنه يثبط
عزيمة من يحاول أن يعرف شيئًا عن القدرة الخلاقة، ولكن هل
يُعَد ذلك أمرًا شاذًّا بحق؟ وهل يُعد من الشذوذ أن يحسن المرء
أداء عمل دون أن يكون قادرًا على شرح الطريقة التي يؤديه بها؟
الواقع أن الأمر لا ينطوي على شذوذ على الإطلاق، لا سيما وأن
إبداع قصائد أو أغانٍ يتم عند كثير من الفنانين بطريقة لا تقل
يسرًا وتلقائية عن عملية التنفس بالنسبة إلى الباقين منا.
وعندما يأتي الإلهام الخلاق بسهولة، يكون من الصعب أن نقرر كيف
أتى، ومن أين أتى. وفضلًا عن ذلك، فيبدو أن الخلق يرتكز على
عمليات نفسية معقدة، كثيرًا ما تكون خفية غير ظاهرة، كما سنرى
فيما بعد. وإذا كانت الدراسة المنظمة التي قام بها علماء النفس
مثل فرويد، للإبداع الفني، لم تحرز حتى الآن إلا تقدمًا ضئيلًا
نسبيًّا، فلا عجب إذن أن يحار الفنانون أنفسهم حين يحاولون
تفسير مواهبهم والطريقة التي يمارسونها بها.
ويتسم ما يقوله الفنانون عن عملهم، إلى جانب انعدام وضوحه،
بافتقاره إلى التجانس؛ فهم يختلفون اختلافًا كبيرًا فيما بينهم
حول الأساليب التي يستخدمونها، والبيئة التي يجدونها أنسب ما
تكون للنشاط الإبداعي، ومقدار الوقت اللازم لهذا النشاط، وما
إلى ذلك. وهذا يكفي في ذاته لتثبيط همة كل من قد تدفعه سذاجته
إلى الاعتقاد بأنه يستطيع أن يصبح قادرًا على الإبداع الفني
إذا قرأ ما يقوله عنه الفنانون. وفضلًا عن ذلك، فمن الواجب أن
نتذكر، ولكن نقرأ للفنانين، أنهم لا يعرضون على الدوام أوصافًا
صريحة مباشرة للعملية الخلاقة. وليس معنى ذلك أنهم يكذبون
عمدًا، وإن كان من المؤكد أن الكذب بدوره قد تسلل إلى بعض
أقوالهم. وإنما المقصود هو أنهم تأثروا، بطريقة لا شعورية
تمامًا، بنظريات الفن وعلم الجمال السائدة في عصرهم. ومن هنا
فإن الوصف الذي يقدمونه، بدلًا من أن يكون واقعيًّا صريحًا،
يُشوَّه بفعل أفكار نظرية سابقة. فهم يروون لنا ما يعتقدون —
تبعًا للنظرية المعاصرة — أنه ينبغي عليهم القيام به، لا ما
يقومون به بالفعل. وهناك أخيرًا عدد كبير من الأسباب الأخرى
التي تؤدي إلى تشويه شهادة الفنانين؛ فقد يرغبون، بطريقة واعية
أو غير واعية، في أن يبعثوا في نفوس الناس العاديين مزيدًا من
الخشوع إزاء «لغز» الخلق، أو قد يرغبون في تبرير الأعمال التي
أنتجوها تبريرًا لاحقًا. ومن هنا كان ينبغي علينا أن نقف موقف
الحذر من الادعاء، والتبرير، والمبالغة.
وربما ظننت بعد هذا كله أنه لا جدوى من دراسة أوصاف الفنانين
للنشاط الإبداعي، ولكن من الواجب ألا ننسى أن كثيرًا من
الفنانين قد حاولوا بالفعل، بأمانة وإخلاص، أن يبصروا الناس
بالعملية الخلاقة. والأهم من ذلك أنهم نجحوا في محاولتهم هذه
إلى حد ما. فلم يكن المقصود من المناقشة السابقة تأكيد ضرورة
تجاهل كل ما يقولونه، بل إنها تؤكد لنا أن من واجبنا ألا نتوقع
من شهادة الفنانين أكثر مما ينبغي، وأن نمارس قدرًا معقولًا من
الحذر حين نقرؤها. ومثل هذا الحذر لازم في قراءة أي نوع من
الوثائق التاريخية.
•••
ولننتقل الآن، أخيرًا، إلى ما يقوله الفنانون. والواقع أن من
أول الأمور التي تعجب لها أن الكثيرين منهم يقولون إنهم لا
يتحكمون في النمو العضوي للعمل الفني. فقد عرَّفنا النشاط
الفني منذ قليل بأنه «واعٍ». وهذا معناه أن الفنان يسيطر على
عملية الخلق عن وعي. غير أن هناك تراثًا قديمًا يتصور الخلق
الفني على أنه عملية لا عقلية، بل عمليةٌ نشوى، يفقد فيها
الفنان سيطرته على نفسه؛ فأفلاطون، في محاورة أيون
Ion، يصف الفنان بأنه
«ملهم ومجذوب» والشاعر، في التعبير المجازي الذي قال به
أفلاطون، لا يتحكم فيما يفعله عن وعي، مثلما أن المغناطيس لا
يتحكم في جذب الحديد؛ «ذلك لأن الشاعر نوراني ملائكي مقدس، وهو
يغيب عن حواسه، ولا يعود للعقل وجود فيه.»
١١ ويقتفي شيكسبير أثر أفلاطون عن قرب، وذلك حين
يجمع، في «حلم ليلة صيف» (الفصل الخامس المشهد الأول) بين
«المجنون، والعاشق، والشاعر».
وكثير من الفنانين يقولون ما يؤيد هذا الاعتقاد؛ فهم أولًا
يصفون، مرارًا وتكرارًا، ما يمكن تسميته «بلا إرادية» الخلق أو
خروج المرء فيه عن نفسه. وهم لا يشعرون بأنهم يتحكمون في نمو
العقل، أو يصوغونه عن وعي في القالب الذي يريدون أن يأخذه،
وإنما يشعرون بأنهم مدفوعون بقُوًى ليس في مقدورهم التحكم
فيها. فالقدرة الخلاقة لا تخضع لإرادة الفنان، بل إنها هي التي
تسيطر على إرادته. ويقول نيتشه إن الفنان «ليس إلا تجسدًا لقوى
عليا، وناطقًا باسمها، ووسيطًا لها … فالمرء يسمع، ولا يبحث،
ويأخذ، ولا يسأل من الذي يعطي؛ والفكرة تومض كالبرق، وتبدو
كأنها شيء لا مفر منه … فلم يكن لديَّ أبدًا خيار.»
١٢ وفي وسعنا الإتيان بعدد كبير من الاقتباسات الأخرى
المماثلة؛ فجيته، الشاعر والدرامي الألماني العظيم، يقول: «لقد
صنعتني الأغنيات، ولم أكن أنا الذي صنعتها؛ فالأغنيات هي التي
تسلطت عليَّ.»
١٣ والروائي ثاكري
Thackery يقول: «يبدو كأن
قوة خفية كانت تحرك القلم.»
١٤ والروائي الأمريكي المعاصر توماس ولف
Thomas Wolfe يقول: «لا
أستطيع أن أقول حقًّا إن الكتاب قد كُتب، بل كان هناك شيء تحكم
فيَّ وامتلكني.»
١٥
على أننا لا نجد مثل هذا الوصف للخلق الفني لدى جميع
الفنانين. وفضلًا عن ذلك فإن الفنانين الذين يتحدثون عن خلق
«لا إرادي»، لا يدعون عادة أن هذا الخلق قد أنتج كل إنتاجهم،
وإنما جزءًا منه فحسب. كما ينبغي ألا نغفل احتمال أن تكون هذه
الشهادة قد تأثرت بنظريات معينة في الفن والشخصية، أعني مثلًا
بتلك النظريات «الرومانتيكية» التي تنظر إلى الفنان على أنه
شخص لا عقلي وعاطفي إلى أبعد حد، ولكن حتى بعد وضع هذه
التحفظات، فإن الشواهد من النوع الذي اقتبسناه من قبل تظل
هائلة العدد بحق، وتصدر عن عدد ضخم من الفنانين يشتغلون بفنون
مختلفة ويستخدمون أساليب متباينة، فهي إذن شهادة لا نستطيع
استبعادها ببساطة، بل إنها تدفعنا إلى مراجعة الرأي الذي ينظر
إلى النشاط الفني على أنه نشاط واعٍ يتحكم فيه الفنان.
وهناك أمر آخر يشهد به الفنانون، ويؤدي بدوره إلى التشكيك في
هذه النظرة إلى الفن. فهم يقولون لنا إن قدرًا كبيرًا من الخلق
الفني يحدث لا شعوريًّا، وقد تكون لديهم فكرة ما أو تخطيط معين
لعمل في دون أن يعرفوا كيف يطورونه. وعندئذٍ يكفون عن محاولة
الاشتغال بهذا العمل على مستوى الوعي الشعوري. وعند هذه النقطة
يقوم الفنان ﺑ «إسقاط الموضوع إلى مستوى اللاشعور، على نحو
يشبه إلى حد بعيد إسقاط المرء لرسالة في صندوق البريد.»
١٦ كما تقول الشاعرة إيمي لويل
Amy
Lowell. وبعد فترة زمنية قد تطول أحيانًا
— بلغت ستة أشهر في حالة القصيدة التي أشارت إليها إيمي نويل —
تعود الفكرة الخلاقة فجأة إلى الظهور في
الوعي. وعندئذٍ يجوز أن
تكون قد أصبحت عملًا فنيًّا كامل النمو، وفي هذه الحالة لا
يحتاج الفنان إلى أن يكرس له مزيدًا من الوقت. أو قد يظل غير
مكتمل، ولكنه يكون قد اكتسب خلال هذه الفترة مزيدًا من النمو
والثراء؛ فالفكرة الآن، على حد تعبير هنري جيمس
Henry James، يصبح لها
«وجه متماسك مشرق، وزيادة ملحوظة في الوزن.»
١٧ ونتيجة لذلك يستطيع الفنان عندئذٍ أن يرى طريقه
بوضوح حتى المراحل النهائية للنشاط الخلاق.
هذه العملية تسمى أحيانًا بعملية «الحضانة» أو «الحمل»، وإن
كان مختلف الفنانين يستخدمون في وصفها مجازات متباينة؛
فالروائية المعاصرة روزاموند ليمان
Rosamond
Lehmann لا تتحدث عن «صندوق بريد»، وإنما
تستخدم صورة أكثر إيحاءً بكثير هي «إناء المربى»
١٨ الذي تنضج فيه الفكرة. ويتحدث ج. ل. لويس
J. L. Lowes، الذي أجرى
دراسة متعمقة عن هذه العملية عند الشاعر كولريدج،
١٩ عن «اختزان البئر» في هذا الصدد. وينبغي أن نلاحظ
أن «الحضانة» لا تقتصر على النشاط الخلاق في الفنون؛ فقد تحدث
عنها أيضًا مفكرون في مجال الرياضيات والعلوم؛ كالرياضيين
هاملتن وبوانكاريه، بل إنها تحدث لدى من يحلون مشكلات أكثر
تواضعًا بكثير، كما يعرف الطالب على الأرجح من تجربته
الخاصة.
إنها حقًّا لعملية خلابة، ولكنها في الوقت ذاته تبعث على
القلق. فما الذي يحدث فعلًا في «إناء المربى»؟ هذا السؤال
ينبغي أن تكون له أولوية كبرى في برامج أبحاث علم النفس في
المستقبل، ولكن أيًّا كان تفسيره، فإن «الحمل»، مقترنًا «بخروج
الفنان عن ذاته» عند الخلق، على نحو ما أوضحنا من قبل، يلقي
ظلًّا من الشك على تعريف «الفن» بأنه نشاط «بارع واعٍ»؛ إذ
يبدو الفن قد أصبح مسألة «وحي» لا عقلي، عشوائي، يتحدى سيطرة
البشر، فإن كان الأمر كذلك، كان خلق الفن الجميل مختلفًا
عن كل نشاط بشري آخر يقتضي
مهارة؛ فالقصيدة ليست «مركبة بطريقة واعية تماثل الطريقة التي
يركب بها صانع الساعات إحدى آلات قياس الوقت.»
٢٠
•••
ومع ذلك فعلينا أن نتذكر أنه لا «اللاإرادية» ولا «الحمل»
يرد ذكرهما في جميع أمثلة الخلق؛ فهما منتشران، ولكنهما ليسا
ساريَين على جميع الحالات. ومن هنا لم يكن من الممكن
استخدامهما في تعريف نشاط «الفن». وفضلًا عن ذلك فإن
«اللاإرادية»، حتى عندما تحدث بالفعل، ليست كافية لتحديد معالم
الخلق الفني؛ فهي في كثير من الأحيان تتمثل في شخصيات معتلة
نفسيًّا، لا نقبل أن نسميها «فنانين». ومن هنا فإن السؤال
يصبح: إلى أي مدًى تدخل العوامل اللاعقلية واللاشعورية في
العملية الخلاقة؟
إني أود أن أحذر القارئ من المبالغة في أهمية هذه العوامل؛
فكون الفنان يشعر وكأنه «مجذوب» ليس في ذاته دليلًا على أن
نشاطه ليس «بارعًا»، و«واعيًا»؛ فالصانع الشديد البراعة، الذي
يندمج ويستغرق تمامًا في عمله، كثيرًا ما يحس بهذا الشعور. ولو
مضى عمله في طريقه بلا جهد، ولم يصادف عقبات، فقد يشعر فعلًا
بأنه لا يستخدم قدراته الخاصة، بل يشعر كأن العمل يصنع ذاته،
إن جاز هذا التعبير، ولكن هذا الشعور لن يتملكه، في الواقع،
إلا لأن مهاراته قد بلغت من النمو حدًّا يستطيع معه أن يسير في
طريقه بلا صعوبة. وثانيًا، فحتى لو كان الإلهام يستغرق الفنان
تمامًا، ويتخذ طابعًا لا شخصيًّا، فإن الخلق يظل مع ذلك
«واعيًا». فليس صحيحًا أن عقل الفنان يفارقه؛ ذلك لأن عليه أن
يتأمل عمله بإمعان، ويصدر بشأنه حكمًا على أعظم جانب من
الأهمية — أعني الحكم بأنه يعده كافيًا أو مرضيًا. والدليل على
أنه أصدر هذا الحكم هو أنه لا يبذل مزيدًا من الجهد في العمل؛
فهو يعده أمرًا منتهيًا. كما أن من الجائز أنه سيرفض قبول ما
تلقاه بالوحي. وعندئذٍ يحكم عليه بطريقة نقدية، ويقرر أنه غير
جدير بفنه على نحو ما. وإن اتخاذ هذا القرار لأمر تقع مسئوليته
على الفنان نفسه؛ فهو في هذه الناحية العظيمة الأهمية يمارس من
«السيطرة» بقدر ما يمارس زميله الأكثر تأنيًا، الذي لا يشعر
بأنه «مجذوب»، بل يتعين عليه أن ينجز العمل بجهد شاق
متدرج.
كذلك فإن من الممكن، في هذا الصدد، أن يضل الفنان «الملهم»
طريقه إلى حد مؤسف؛ فقد يقرر أن يستعين بإلهامه لأنه أتاه بمثل
هذه القوة الطاغية، حتى حين لا تكون له بالفعل قيمة فنية
كبيرة. وعندئذٍ يكون العمل الفني تافهًا من الوجهة الجمالية،
حتى على الرغم من كون الفنان «ملهمًا»؛ فالإلهام، حين يحدث،
ليس ضمانًا للقيمة الفنية.
وواقع الأمر أن الإلهام نادرًا ما يكون هو القصة الكاملة
للخلق الفني — بل إن ريبو
Ribot، وهو من أعمق دارسي
القدرة الإبداعية، يذهب إلى حد القول إن الإلهام «لا يقدم
أبدًا عملًا منتهيًا».
٢١ فإذا كان هذا الحكم مطلقًا أكثر مما ينبغي، فإنه
مع ذلك لا ينحرف عن الصواب كثيرًا. صحيح أن الشاعر «هوسمان
A. E. Housman» ينبئنا كيف
أن فقرتَين من إحدى قصائده «ظهرتا في رأسي تمامًا كما هما
مطبوعتان، في الوقت الذي كنت أعبر فيه ركن هامستدهيث
Hampstead Heath»
٢٢ غير أن فقرة أخرى في القصيدة نفسها اقتضت كتابتها
أكثر من عام، حتى رضي هوسمان عنها. وفي ما يقرب من جميع
الحالات التي يحدث فيها إلهام لا إرادي أو «حضانة»، يكون من
الضروري للفنان أن يعيد صياغة ما يقدمه إليه الإلهام، بطريقة
بطيئة واعية. ويكاد يكون هذا أمرًا مؤكدًا في الحالات التي
يكون فيها العمل واسع النطاق، كالسيمفونية أو الرواية. ولنذكر
أيضًا أن القدرة الخلاقية، في حالات أخرى لا حصر لها، تمارس
عملها كله تقريبًا على مستوى الجهد الواعي. ومن هنا فإن
الأستاذ جوتشوك
Gotshalk
يحذرنا من الوقوع في الخطأ نتيجة لشهادة الفنانين على النحو
الذي أشرنا إليه من قبل، عندما يقول «إن وصف الخلق بأنه
تلقائية بحتة إنما هو مبالغة رومانتيكية.»
٢٣
إننا لا نفهم طريقة أداء الإلهام لعمله، ولكنا نعرف بالفعل
أنه لا يحدث إلا لأولئك الذين انشغلوا فعلًا في نشاط خلاق دون
أن ينتفعوا من الإلهام؛ فهو يأتي لأولئك الذين كرسوا وقتًا
وجهدًا للوصول إلى السيطرة التكنيكية على الوسيط الفني الذي
يتخذونه أداة لهم. كما أن هؤلاء لا بد أنهم أعملوا فكرهم في
مشكلة من النوع الذي يوضح معالم الإلهام عندما يأتيهم؛
فالإلهام في عمومه يفترض مقدمًا «فيضًا من المواد المتوافرة،
وتجربة متراكمة، ومعرفة».
٢٤ ولقد كان هوسمان وهاملتن معًا «ملهمَين»، ولكن
ينبغي أن نلاحظ أن الإلهام قد زود الشاعر بشعر، وزود الرياضي
بطريقة حل المعادلات الرياضية، ولم يزوِّد كلًّا منهما بنصيب
الآخَر. ويقول هاملتن إن الحل عندما طرأ على ذهنه كان «نتيجة
خمس عشرة سنة من الجهد». وهكذا نرى مرة أخرى أن الإلهام ليس
قوة عشوائية مستقلة تمامًا — وإن كان قد يبدو كذلك للفنان —
وإنما هو يتوقف على النشاط الواعي الخاضع لسيطرة
الفنان.
والنتيجة التي أخلص إليها من ذلك هي أن وجود الإلهام لا
يرغمنا، في ذاته، على التخلي عن تعريف الفن الذي أوردناه منذ
بضع صفحات. وقد يثبت تحليل النشاط الخلاق في المستقبل أن أهمية
القوى اللاعقلية أعظم كثيرًا مما نعتقد الآن. فإذا ثبت ذلك،
فقد يتعين علينا إعادة النظر في التعريف، ولكن حتى لو لم يحدث
ذلك، فإن الشواهد المتعلقة بالإلهام لها قيمتها؛ فهي تحذرنا من
الاعتقاد بأن النشاط الخلاق يبلغ من البساطة ومن الوضوح بقدر
ما يدلنا عليه التعريف. وأود الآن أن أبين أن هنالك جزءًا آخر
من التعريف لا يقدم وصفًا كاملًا للعملية الخلاقة، وأن من
الواجب تكملة هذا الجزء بدوره بواسطة شواهد تجريبية.
•••
لقد قلت، نقلًا عن سانتيانا، إن الفن «على وعي بهدفه». وقد
يُفهم من ذلك أن لدى الفنان، عند بداية نشاطه الخلاق، فكرة
واضحة المعالم عن الهدف الذي يحاول بلوغه. غير أن هذا ليس
صحيحًا، ما لم تعبر عن هذا الهدف بعبارات شديدة العمومية، كأن
تقول مثلًا إنه «كتابة رواية»، بل إن هذا التحديد العام بدوره
كثيرًا ما يكون مستحيلًا، ما لم يكن الفنان قد كُلِّف، مثلًا،
بإنتاج عمل من نوع معين؛ فكثيرًا ما يكون الهدف الذي يسعى إليه
الفنان غامضًا تمامًا في نظره في البداية. ولا يتضح شكل العمل،
وطابعه التعبيري، وتفاصيله الخاصة، إلا خلال عملية الخلق
ذاتها. وقد يُضطر إلى أن يبدأ عدة بدايات خاطئة، ويجرب كثيرًا
من الحلول المتباينة ثم يرفضها، قبل أن يبدأ هدفه في اتخاذ
صورة محددة في ذهنه، بل إننا لو قلنا إن هدف الفنان هو ذاته
خلق العمل في حالته النهائية، لوجب أن نقول إن من السمات
المميزة للفنان أنه لا يعرف هدفه إلا بعد أن يضع آخر الأمر
أدواته جانبًا ويقول: «ها قد انتهيت منه!» وهذا ما تنطبق عليه
عبارة «تشارلي تشابلن» المشهورة «قبل أن أعرف إلى أين أنا
ذاهب، ينبغي أولًا أن أصل إلى هناك».
وهنا أيضًا ينبغي أن نحذر من تعميم حكمنا على جميع الفنانين.
وقد ذهب واحد من أشهر فناني عصرنا إلى أن التصور العام للعمل
واضح منذ البداية الأولى، وأن الخلق إنما ينحصر أساسًا في وضع
التفاصيل؛ فبيكاسو يقول: «إنه لمن أغرب الأمور حقًّا أن نلاحظ
أن الصورة لا تتغير أساسًا، وأن أول «رؤية» تظل على ما هي عليه
تقريبًا، رغم كل المظاهر.»
٢٥ ولكن يلاحظ في عمل الفنانين الآخرين أنه حتى
الخطوط العامة للناتج النهائي لا تتحدد في البداية، ولا تتضح
معالمها إلا ببطء وبالتدريج.
إن هناك أمثلة لا حصر لها للمراجعة المستمرة وجهود المحاولة
والخطأ بين الفنانين. وقد اخترت المثلَين الآتيَين لسبب خاص —
هو أن أعمالهما تبلغ من الإحكام والتوحد حدًّا قد نظن معه أنها
ظهرت كاملة في فعل واحد من أفعال «الرؤية» الخلاقة، ولكن هذا
لم يحدث في الواقع، وإنما هي قد صيغت في عملية إعادة تشكيل
دائمة. وهكذا نرى مرة أخرى أهمية التمييز بين طبيعة الموضوع
الفني وبين أصله، وخطر الاستدلال على أحدهما من الآخر. أما
المثل الأول فهو قصيدة وليم بليك
William
Blake المشهورة «النمر
The
Tiger». هذه القصيدة التي كانت قصيرة إلى
حد ما، تتميز — كما قد يعرف القارئ — بالتركيز والوحدة
الشديدين. غير أن المسودات المختلفة للقصيدة
٢٦ تكشف عن العملية المعقدة؛ عملية اقتراح ورفض أفكار
متعددة خطرت ببال الفنان، حتى استقر على الصيغة النهائية.
والمثل الثاني هو المؤلف الموسيقي شوبان؛ فقطع البيانو التي
ألفها تعطينا إحساسًا واهمًا بالتلقائية التامة والإبداع
المنطلق في يسر، غير أن «جورج صاند» تخبرنا كيف أن شوبان كان
«يحبس نفسه في غرفته أيامًا كاملة، وهو يبكي، ويمشي، ويكسر
أقلامه، ويكرر عمودًا في المدونة الموسيقية ويغيره مئات المرات».
٢٧
ولهذا الاقتباس أهميته أيضًا لأنه أنموذج لعدد كبير من
الأوصاف المتعلقة بالألم المصاحب للعملية الخلاقة. فنحن نتحدث
عن نشاط الفنان على أنه «بارع» و«هادف» وقد يؤدي بنا ذلك إلى
أن نتصوره شخصًا يسيطر على الموقف بسهولة، ويستخدم آلاته
ومواده ببراعة في تذليل أية عقبة تعترضه، ويستمتع بممارسة
قدراته. وهذا بدوره قد يصدق على بعض الفنانين، بعض الوقت، ولكن
ليس على الكل قطعًا. فكثيرًا ما تكون التجربة مؤلمة إلى حد لا
يحتمل بالنسبة إلى أولئك الذين يكون النزوع الخلاق لديهم
قويًّا، ولكنهم يجدون أنفسهم عاجزين عن ممارسته على النحو
المنشود. وهكذا يقول كولريدج عن قصيدة «كريستابل
Christable»: «لقد أنتجت
كل بيت فيها بآلام أشبه بآلام المخاض.»
٢٨ وبالمثل يقول الشاعر المعاصر ستيفن سبندر «إنني
أشعر بالرعب من كتابة الشعر.» ويقدم لذلك أسبابًا منها أن
«القصيدة رحلة مخيفة، وجهد مؤلم من أجل تركيز الخيال».
٢٩
ولو كنت، أيها القارئ، ممن لديهم أي طموح فني خاص، فقد يكون
مما يؤدي إلى اطمئنانك إلى حد ما، أن تعلم كيف أن فنانة مثل
فرجينيا ولف ظلت، بعد أن أحرزت نجاحًا كبيرًا، تشعر بنفس
المخاوف ومظاهر القلق القديمة إزاء عملية الخلق.
٣٠ وإذا كنا نشعر في كثير من الأحيان، عندما يبعث
فينا عمل فني متعة خاصة، بشعور الامتنان نحو الإنسان الذي
أعطانا إياه، فإن ما ندين به لهذا الإنسان لا بد أن يتضاعف
مرات عديدة لو عرفنا تلك المشقة الأليمة التي يتكبدها من يبعث
إلى النور عملًا فنيًّا كهذا.
(٣) الفنان الخلاق
ما الذي يميز الفنان الخلاق من غير الفنان؟ هذا السؤال يقتضي
الحصول على معلومات تجريبية عن الفنان. وعندما يطرح الناس هذا
السؤال — كما دأبوا على أن يفعلوا طوال قرون عديدة — فإنهم
يلتمسون معرفة نفسية على وجه التحديد، فهل للفنان نفس التكوين
النفسي الأساسي الذي نجده عند غيره من الناس، بحيث يكون الفارق
الوحيد هو أن لديه مقدرة تكنيكية في مجال في معين؟ لو صح هذا
لكنا جميعًا فنانين بالقوة. أم أن هناك شيئًا مميزًا — شيئًا
متعلقًا بانفعالاته مثلًا، أو بقدراته التخيلية — يميزه من غير
الفنان؟
إن الفكر الحديث، في عمومه، يأخذ بثاني هذين الرأيَين. وقد
نما هذا الاعتقاد في نفس الوقت الذي أخذ الفن فيه يتميز عن
بقية مظاهر الحضارة الحديثة. فمنذ عصر النهضة، أخذ خالق «الفن
الجميل» يصبح متميزًا، على نحو متزايد، عن بقية الصناع، وأصبح
عمل الفنان، كما أوضحنا من قبل، عملًا مستقلًّا على نحو
متزايد، أعني عملًا أقل ارتباطًا بالنظم وأوجه النشاط الثقافية
الأخرى مما كان في العصور الماضية. فلا عجب إذن أن أصبحت
«الموهبة» الخلاقة تعد شيئًا فريدًا تمامًا. وقد كان الفيلسوف
«كانْت»، الذي ألف كتاباته قرب نهاية القرن الثامن عشر، أول من
أشاع لفظ «العبقرية» للدلالة على هذه الموهبة؛ ومنذ ذلك الحين
شاع هذا اللفظ على أوسع نطاق.
غير أن أي لفظ لا يمكن أن يؤدي، في ذاته، إلى تسوية أية
مسألة متعلقة بالواقع. فالسؤال: «لماذا تسقط الأشياء إلى
أسفل؟» لا يجاب عنه بكلمة: «الجاذبية»، ما لم تكن كلمة
«الجاذبية» تستخدم بوصفها رمزًا مختصرًا لملاحظات تجريبية
وحسابات رياضية معقدة. وبالمثل لا يكفي القول إن الفنانين
يخلقون لأنهم قد وهبوا «العبقرية»؛ فمثل هذه الإجابة لن تكون
إجابة أصيلة إلا إذا استطعنا أن نهتدي، تجريبيًّا، إلى تلك
القدرات النفسية التي تتألف منها العبقرية، ولكن هذا بعينه هو
المجال الذي ينبغي أن نعترف فيه بجهلنا، فقد أجريت خلال
الأعوام المائة والخمسين الأخيرة دراسات لا حصر لها حول
العبقرية الخلاقة. وكانت كثرة هذه الدراسات تأملية خالصة، وإن
كان بعضها قد حاول أن يكون تجريبيًّا. ومع ذلك فمن الصحيح،
للأسف، أنها لم تنجح في مهمتها، بل إن المشتغلين المعاصرين في
هذا الميدان ليسوا على يقين من الفروض التي يمكن أن تعد أفضل
سبل إلى دراسة هذه المشكلة. وليس معنى ذلك أن من الواجب
استبعاد المشكلة بوصفها «سرًّا» لن يحل أبدًا. وكل ما في الأمر
أننا نعلم أن سؤالنا ينبغي أن يظل، في هذه المرحلة من تطور
المعرفة، بلا جواب.
وقد حاول بعض الباحثين أن يهتدوا إلى علاقة بين العبقرية
وبين سمات نفسية أو حتى عضوية أخرى، ولكن عاقهم عن ذلك عجزهم
عن دراسة فناني العصور الماضية دراسة مباشرة؛ فقد تعين عليهم
أن يعتمدوا على أوصاف وردت في السير المكتوبة عن الفنانين،
وغيرها من الأوصاف التي لم تكن على الدوام موثوقًا منها، بل
كانت في بعض الأحيان متضاربة، وعلى الرغم من ذلك فقد حاولوا أن
يثبتوا أن القدرة الخلاقة تتمثل في أناس لهم تكوين فيزيائي
معين، أو في أناس مصابين بالجنون، أو فيمن يعانون أمراضًا معينة.
٣١ وينبغي أن نتذكر أن جميع الدراسات من هذا النوع لا
تحلل طبيعة العبقرية ذاتها، وإنما تحاول إثبات وجود ارتباط بين
العبقرية وشيء آخر. غير أنها تستخدم مفهوم «العبقرية» بالمعنى
غير النقدي المعتاد، الذي ينطبق فيه على فنانين مشهورين، دون
أن تنبئنا بما يتألف منه هذا المفهوم. وفضلًا عن ذلك، فحتى لو
أمكن الاهتداء إلى ارتباط بين العبقرية الفنية وبين مرض السل،
مثلًا، لظللنا نود أن نعرف كيف يكون هذا المرض سببًا للقدرة
الخلاقة، إن كان سببًا لها، ولكن على الرغم من إخفاق أمثال هذه
الدراسات في الإجابة عن تلك الأسئلة الحيوية، فسيظل مما له
أهميته أن نهتدي إلى ارتباط بين القدرة الخلاقة وبين سمات
جسمية أو ذهنية معينة. وكثيرًا ما يحدث في تاريخ العلم أن يكون
مجرد كشف اقتران حادثين سويًّا، نقطة بداية لاكتساب معرفة
سببية منهجية مفصلة، ولكن من سوء الحظ أن أية دراسة من
الدراسات التي أشرنا إليها من قبل لم تنجح في إثبات وجود
ارتباط يعول عليه. مثال ذلك أن من الصحيح أن كثيرًا من
الفنانين، مثل بيتهوفن، وكيتس، وروبرت لويس ستيفنسون، قد
أصيبوا بأمراض خطيرة، غير أن هناك كثيرين غيرهم كانوا يتمتعون
بصحة جيدة نسبيًّا. فلا بد أن يؤدي بنا إخفاق هذه الدراسات إلى
الشك فيمن يزعمون — بلا سند قوي من الشواهد التجريبية — أن
المقدرة الفنية توجد دائمًا مقترنة بعامل جسمي أو نفسي
معين.
•••
وإذا كان المرض والجنون يبدوان بعيدين كل البعد عن تفسير
العبقرية، فهلا توجد سمة أخرى للشخصية، أقرب صلة إلى طبيعة
الفن كما نعرفه، وتستطيع تفسير القدرة الخلاقة؟ يظن الكثيرون
أن هذه السمة لا بد أن تكون هي نطاق انفعالات الفنان وشدتها.
وقد أعرب ج. أ. ودبري
G. E.
Woodberry عن هذا الرأي إذ قال: «إن علامة
الشاعر … هي أنه يخوض غمار الحياة بالانفعال أكثر مما يفعل
بقية الناس … فالانفعال هو شرط وجوده؛ وهو جوهر كيانه … إن
الشاعر تواق إلى الانفعال، يغذي النار التي تستهلكه، وبهذا
الشرط وحده ينعم بالقدرة الخلاقة.»
٣٢ وتبعًا لهذا الرأي يكون لدى الفنان «تعاطف»
انفعالي، ومعنى ذلك حرفيًّا أن عواطفه تتجه نحو حوادث وأشخاص
كثيرين مختلفين. وهكذا يستطيع أن يملأ رواية بمجموعة غنية من
الشخصيات، ويشحن العمل بقوة انفعالية، وفضلًا عن ذلك فإن
انفعالاته القوية تدفعه إلى الخلق، وتدعوه إلى المثابرة حتى
عندما تكون العملية بطيئة مؤلمة.
فكيف نقدر قوة هذه النظرية؟ من المؤكد أنها تلقى قبولًا
واسعًا في الوقت الراهن، ولكن هذا لا يعني، في ذاته، أنها
صحيحة أو مخطئة. وربما أدى ذلك إلى أن نكون أكثر حذرًا بقليل
عند قبولها؛ إذ إن من الجائز أننا أخذناها «قضية مسلمة» لمجرد
أننا سمعناها وقرأنا عنها كثيرًا. ولنلاحظ أولًا أن هذا الرأي
قد انتشر على أوسع نطاق في وقت كان فيه قدر كبير من الفن
انفعاليًّا إلى حد بعيد. فبرغم أن الاعتقاد ﺑ «الإيهام»
الانفعالي للفنان هو، كما رأينا من قبل، اعتقاد قديم العهد،
فإنه كان يسود أساسًا خلال الفترة المسماة بالرومانتيكية في
القرن ونصف القرن الماضيين. وقد أنتجت هذه الفترة فنًّا ذا
طابع «انفعالي» واضح، كموسيقى تايكوفسكي، وتصوير فان جوخ، وشعر
شيلي:
احملني كموجة، كورقة من شجرة،
كسحابة!
فأسقط فوق أشواك الحياة! وأُدمَى!
(أنشودة للرياح الغربية)
وإذن فمن الممكن جدًّا أن يكون رأي «ودبريذ» تعبيرًا عن فن
ينتمي إلى عصر معين، أو فن من نوع معين فحسب، بحيث لا يصدق على
جميع الفنانين كما يدعي. فهل يبدو هذا الرأي صحيحًا في الوقت
الذي يبدي فيه الفن قدرًا كبيرًا من ضبط النفس والتحكم في
الانفعالات؟ إن لم يكن الجواب بالإيجاب، فإن النظرية تكون
عندئذٍ جزئية محدودة، ولا يمكن أن تكون هي الحقيقة الكاملة
بشأن نفسية الفنان.
وفضلًا عن ذلك، فلا بد لنا من أن نتساءل بصدد هذه النظرية:
«كيف نعرف أنها صحيحة؟» إنها تدعي أنها تكشف لنا عن نفسية
الفنان. وعلى ذلك فلا بد أن تكون مرتكزة على شواهد مكتسبة
بتحليل نفساني، ولكن هذه ليست هي الطريقة التي يدافع بها عن
النظرية عادة، بل إن الذي يحدث هو أن المدافعين
عنها يشيرون إلى أعمال
فنية، ويجدونها انفعالية بصورة واضحة، ثم يستدلون من ذلك على
أن الفنان لا بد أن يكون متطرفًا في انفعاليته، ولكن إذا كان
الأمر كذلك فإن النظرية لا تنبئنا حقًّا بشيء على الإطلاق. إذ
إن كل ما تعنيه بالقول إن «الفنان مفرط في انفعاليته» هو أن
«العمل الفني الذي أبدعه انفعالي جدًّا». على أن العمل الفني
شيء، ونفسية الفنان شيء آخر. فهذه الأخيرة يمكن أن تبحث على
نحو مستقل، حتى لو أمكن الاهتداء إلى معالم نفسية في العمل.
وهذا يقتضي دراسة واسعة النطاق لانفعالية الفنان بالقياس إلى
غير الفنان. وبالاختصار فإن الاستدلال من الموضوع الفني على
الفنان هو أمر غير مقبول منطقيًّا. وقد أوردت من قبل شواهد
تثبت أن الطابع الانفعالي للموضوع يمكن أن يكون مختلفًا كل
الاختلاف عن الحالة النفسية لمبدع هذا الموضوع.
٣٣ وأخيرًا، فحتى لو تبين أن جميع الفنانين ذوو
انفعالات شديدة، فإن هذا لن يكون في ذاته تفسيرًا كافيًا
للقدرة الخلاقة. فالانفعالية العنيفة، في أشد صورها تطرفًا،
تتمثل لدى شخصيات معينة مريضة نفسيًّا، لا تستطيع أن تخلق
فنًّا. فلا بد إذن من شيء آخر لكي يكون الإنسان فنانًا.
وعلى ذلك فإن النظرية التي كنا نناقشها، شأنها شأن معظم
نظريات الإبداع، لا يمكن أن تقبل على علاتها. وإنما الواجب
اختبارها بشواهد تكتسب فيما بعد. ومن الجائز جدًّا أن الرأي
المضاد، الذي قال به ت. س. إليوت، صحيح بنفس المقدار: «إن
الشاعر لا يتميز أبدًا بانفعالاته الشخصية، وبالانفعالات التي
تثيرها الحوادث الخاصة في حياته، بل إن انفعالاته الخاصة قد
تكون بسيطة، أو ساذجة، أو باردة.»
٣٤
•••
وإذن، فهل يمكن أن يقال أي شيء عن الفنان الخلاق بقدر نسبي
من اليقين؟ إذا كان ثمة شيء يمكن أن يقال، فأغلب الظن أن هذا
الشيء هو أن الفنان شخص «يفكر» من خلال وسيط
(
medium) فني معين. ويشتمل
الوسيط على عناصر حسية معينة هي الألوان والأصوات … إلخ، يتم
ترتيبها والربط بينها، فوسيط الموسيقى يتألف من أنغام مرتبة في
سلم، يمكن أن يُربط بعضها ببعض في مسافات، كما يمكن أن تُربط
إيقاعيًّا. والشعر يستخدم الكلمات التي يمكن الجمع بين معانيها
بطريقة نظمية أو نحوية، ويمكن جمعها في نمط من الأوزان
والقوافي أو غيرها. فأيًّا كانت انفعالات الفنان، وسواء أكانت
عنيفة أم باردة، كما يقول إليوت، وأيًّا كانت أفكاره، وسواء
أكانت عميقة أم سطحية، فإنها تتمثل لذهن الفنان متجسدة في
وسيطه الخاص. وعلى ذلك فإن العملية الخلاقة هي عادة عملية
تنمية لحن أو التوسع في تصميم بصري طافَ بذهن الفنان، وإن لم
تكن دائمًا كذلك. فليس ما يميزها هو كونها عملية الوصول إلى
«فكرة» أو «حالة نفسية» معينة، ثم محاولة الاهتداء إلى رداء
فني معين تكتسي به.
٣٥
وقد صور الشاعر ستيفن سبندر العقل الخلاق في وصفه المفصل
الطريف الذي كتبه بعنوان «عمل قصيدة»؛ فهو يصف الطريقة التي
أتاه بها بيت واحد هو:
فيقول: «كنت أقف في ممر قطار يعبر الأرض
السوداء
Black Country فرأيت
منظرًا مؤلفًا من فوهات المناجم وفتحاتها، وجبالًا صناعية،
وجروحًا صفراء غائرة في الأرض، وكل شيء قد تحول وكأن حيوانًا
هائلًا أو عملاقًا قد مزق الأرض بحثًا عن فريسة أو كنز. ومن
العجيب أن شخصًا غريبًا مجاورًا لي في الممر قد ردد نفس الفكرة
التي كانت كامنة في أعماق نفسي، إذ قال «كل ما هناك من صنع
الإنسان». وفي هذه اللحظة ومض البيت الشعري في رأسي.»
٣٦ ويواصل سبندر كلامه قائلًا إنه رأى «فوهات المناجم
وأكوام النفايات والتجاهل المريع لكل شيء ما عدا السعي وراء
الثروة.» على أنه «رمز» أو «لغة» للإنسان الحديث. وهذه اللغة
مختلطة، فهي «رطانة عتيقة مخرفة»،
٣٧ أما نوع «لغة» الحياة التي يريدها الإنسان ويحتاج
إليها حقًّا فهي:
والواقع أنه ليس ثمة شديد الغرابة في استجابة
سبندر الانفعالية للمنظر الذي يصفه؛ فالنفور من قبح الحضارة
الصناعية الجشعة، والحنين إلى مجتمع أكثر إنسانية، هي أمور
شائعة بحق، يشعر بها الكثيرون منا ممن ليسوا بفنانين،
فتفكير سبندر وشعوره هو،
بمعنى معين، «بسيط» على حد تعبير إليوت. ولتلاحظ أن «الغريب
الموجود في الممر» كانت لديه نفس الفكرة في نفس الوقت. والفارق
بين الفنان وغير الفنان هو أن ملاحظة الغريب — وهي: «كل شيء
هناك من صنع الإنسان» — عادية وذات صيغة نثرية، على حين أن بيت
سبندر ليس كذلك؛ فالبيت الذي «ومض» في رأس الشاعر يتميز بالسمة
الشعرية؛ فإيقاعه ووزنه ومجازه يدل على أن استجابة سبندر حدثت
داخل إطار وسيط الشاعر، وليس البيت ذاته قصيدة، ولكن من الممكن
أن يتطور إلى قصيدة، عن طريق تتبع الصور والأفكار المتضمنة
فيه، ومواصلة الوزن الذي يوحي به … إلخ.
وإذن فالفنان هو الشخص
الذي يتميز بالحساسية نحو الوسيط الذي يخلق فيه العمل الفني،
ويتألف مع هذا الوسيط. وليس هذا، بطبيعة الحال، سوى بداية في
طريق معرفة نفسية الفنان؛ فهو لا يفسر الفارق بين الفنان
العظيم والفنان الضئيل القيمة. وما زلنا نود أن نعرف إن كانت
ملكات الفنان الحسية؛ كالسمع والإبصار، أقوى على نحو غير عادي،
وبالتالي تجعل لديه استعدادًا للخلق، وكيف يعمل خياله في خلق
أنماط جديدة داخل الوسيط، وما إلى ذلك. ولكنا نستطيع على الأقل
أن نؤكد هذا الفهم للفنان، دون خوف من الزلل. ومن الممكن أن
يستخدم هذا الفهم مرشدًا للتربية في الفنون. وقد عبر الشاعر
المعاصر المشهور «أودن
W. H.
Auden» عن هذه الفكرة بقوله: «لِم تود أن
تكتب شعرًا؟ إذا أجاب الشاب بقوله: إن لدي أشياء هامة أود أن
أقولها، فإنه لا يكون شاعرًا. أما إذا أجاب: إني أحب صحبة
الكلمات والإنصات إلى ما تقوله، فعندئذٍ قد يصبح شاعرًا.»
٣٨
•••
ولقد أكد الفيلسوف الحديث بندتو كروتشه
Benedetto Croce الفكرة
القائلة إن المواهب الخلاقة لدى الفنان لا يمكن أن تنفصل عن
الوسيط الذي يعمل فيه. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع الخوض في
تفاصيل نظريته الصعبة، فجدير بنا أن نشير، في إطار المناقشة
الحالية، إلى أن كروتشه يرى أنه لا معنى لأن يشكو شخص من أنه
«لدي أشياء هامة أقولها، ولكني لا أجد الكلمات (أو الأنغام أو
الألوان) التي أقولها بها.» فتبعًا لمصطلح كروتشه، لا يوجد
«حدس بلا تعبير»؛ إذ إن حدس الموسيقي ليس إلا نموذجًا من
الأصوات، ولا يمكن إلا أن يكون كذلك. كما لا يمكن أن توجد أية
«فكرة» شعرية منفصلة عن كلمات القصيدة وأوزانها وتنظيمها الشكلي.
٣٩
ومع ذلك فقد هوجم كروتشه لأنه، على ما يقال، يتجاهل أهمية
الوسيط الفني. فلنبحث في هذا النقد.
إن كروتشه يؤكد أن
الخلق الفني عملية «باطنة» تمامًا. أي إن عملية الحدس الفني لا
تحدث إلا في الخيال. وهي لا تحتاج إلى أي اتصال مع موضوعات
فيزيائية كالبيانو أو قماش اللوحة أو كتلة الرخام، أو إلى
تعامل معها. إن الفنان يستخدم بالفعل وسيطًا، بل إن كروتشه
يرى، كما أوضحنا منذ قليل، أن استخدام الوسيط ضروري له، لكي
يكون فنانًا. غير أن الوسيط يصطبغ بصبغة باطنة تمامًا في ذهنه.
وهكذا يتخذ كروتشه من كلمة ميكلانجلو المشهورة «المرء لا يرسم
بيده، بل بمخه» شعارًا لكل خلق فني. وبالمثل يرى كروتشه أن
«العمل الفني» لا وجود له بوصفه شيئًا ماديًّا. فمن الجائز أن
يعمل الفنان، إذا شاء، على تجسيد حدسه التخيلي في مادة
فيزيائية معينة، ولكن هذا شيء لا صلة له بعملية الخلق، التي
تكون قد تمت وانتهت عندما يبدأ هذا النشاط «الخارجي». والقيمة
الوحيدة لهذا النشاط هي أنه يعد «ترديدًا»
٤٠ لصور الفنان على نحو يمكن معه حفظها والمشاركة
فيها. فعندما يشاهد المدرك الموضوع المادي، لا يكون ذلك إلا
«علامة» تؤدي إلى إعادة خلق العمل الفني الحقيقي — وهو «رؤية»
الفنان — في خيال المشاهد نفسه.
هذه النظرية في الفن وفي الخلق الفني تعكس موقف كروتشه العام
في الفلسفة؛ وهو الموقف الذي يعرف باسم «المثالية» — أعني
النظرية التي تقول، باختصار، إن «الذهن» أو «الروح»،
ومضموناته، هو وحده الحقيقي، أما المادي فليس حقيقيًّا. وهكذا
يرى كروتشه أنه لما كان الفن «حقيقيًّا بمعنًى رفيع» فلا بد أن
يكون غير عادي.
٤١ فلنطرح هذا الموقف الميتافيريقي جانبًا، ولنختبر
رأي كروتشه في «الطبيعة الباطنة» للخلق.
من المؤكد أن عبارة ميكلانجلو تصف جانبًا كبيرًا من الخلق.
ولنلاحظ أن سبندر يقول إن البيت «ومض في رأسي». وهناك مثل
أفضل، بل ربما كان أفضل مثل على الإطلاق، هو موتسارت المعجز،
حين قال إنه «ألف» سيمفونية ولكنه لم «يدوِّنها» بعد. ومع ذلك
ينبغي أن نتساءل: أكان الفنان يستطيع استخدام الوسيط في الخيال
لو لم يكن قد جرب من قبل تجسده الفيزيائي؟ أكان موتسارت يستطيع
أن يؤلف «في ذهنه» لو لم يكن قد استمع من قبل إلى اللون المميز
للبيانو والكلارينيت والفيولينه؟ إن الفنان لا يكتسب سيطرة على
العمليات التكنيكية التي ينطوي عليها استخدام الوسيط إلا عن
طريق الاتصال المادي به.
والأهم من ذلك أن العملية الخلاقة لا تكتمل، في كل الأحيان
تقريبًا، بدون تعامل واضح مع وسيط مادي. صحيح أن خيال الفنان
جريء واسع الأفق، ولكنه ليس كافيًا. و«رؤيته» للألفاظ أو
الأبيات المتخيلة تظل ناقصة أو مشوهة حتى يحاول أن يضفي عليها
تجسدًا ماديًّا. وهكذا فإنه حين يكون إزاء قماش اللوحة أو
البيانو تتكشف له تفصيلات كان قد تجاهلها من قبل. وعندئذٍ
يستطيع أن يفهم كيف يمكن تنمية «بذرة» رؤيته التخيلية إلى عمل
فني كامل.
ويقول واحد من أعظم فناني عصرنا، هو بابلو كازالس
Pablo Casals: «وأعتقد أنه
لا يكفي الفنان أن يتعلم الموسيقى بعينيه وحدهما؛ بل إنه بحاجة
إلى أن يمر بتجربة الصوت ماديًّا. وعلى الرغم من أن الصوت في
ذاته لن يغير فكرته عن العمل، فإن انتقال الصوت إلى الأذن يبعث
فيها نوعًا من النشوة التي هي مفيدة ومثمرة. وإني لأشعر، عندما
أمر بتجربة الصوت، أن ثراءه يساعدني على إبداع أدائي على نحو
يختلف عن الاكتفاء بالقراءة من مدونة.»
٤٢
إن كروتشه يتحدث كما لو كان العمل ينتهي ويتم كله داخل خيال
الفنان، ثم ينقل بأكمله إلى الوسيط المادي. غير أن هذا لا
ينطبق على وقائع الخلق الفني. فعندما يحاول الفنان نقل «فكرته»
المتخيلة إلى الوسيط الخارجي، قد يجد أنها «لا تصلح»؛ ذلك لأن
ما سمعه داخليًّا قد لا يكون له الوقع المطلوب عندما يُعزَف
على آلة؛ وخطته لصنع تمثال قد يتضح أنها لا تلائم تركيب الرخام
وكتلته، فيضطر الفنان إلى إعادة النظر في تصوره للعمل، ويبدأ
السير في اتجاه جديد. وبعبارة أخرى فإن الوسيط المادي ليس
سلبيًّا فحسب، وكأنه قطعة الشمع تأخذ شكل الختم الذي تطبع به،
بل إن له طابعًا خاصًّا به، يسمح بأن تصنع به بعض الأشياء دون
البعض الآخر.
غير أن أهمية الوسيط المادي ليست سلبية فحسب، بل إنه أيضًا
يعطي العملية الخلاقة اتجاهًا، إذ يوحي للفنان بأفكار لم تخطر
بباله من قبل؛ فالأصوات والألوان غنية بالقيم الترابطية
والتعبيرية التي يستطيع الفنان استغلالها. والألفاظ، كتلك التي
جاءت في بيت سبندر، تتداعى مع القوافي وتوحي بأفكار جديدة. وقد
اقتبس الأستاذ «جوتشوك
Gotshalk» من النحات بيلي
R. A. Baillie قوله:
«إنك كلما مضيت قدمًا في النحت، أوحى إليك الحجر
ذاته بتحسينات تدخلها على تخطيطك الأول. ولو كنت
حساسًا للرسائل التي ينقلها إليك، لعدلت تفصيلات معينة
في أثناء عملك — كأن تترك مسطحًا خاليًا حيث كان
تخطيطك يدل على سطح مستدير أو متقطع … وللكثير من
الأحجار عروق، مثلما أن للخشب حبيبات، وفي بعض الأحيان
قد تصل، باتباع ما توحي إليك به تلك العروق، إلى تأثير
أبدع من كل ما فكرت فيه عندما كنت تصنع أنموذجك من الصلصال.»
٤٣
وإذن فالوسيط يحمل في ثناياه، على أنحاء لا حصر لها، مفاتيح
تساعد على تكوين صورة العمل النامي. وهذا يصدق أيضًا، بالطبع،
على الوسيط المتخيل الذي تحدث عنه كروتشه. غير أن استبعاد
الوسيط المادي، الذي هو «جسم» العمل الفني، على أساس أنه «غير
حقيقي» أو ضئيل القيمة، يترك لدينا فهمًا مشوهًا غير متكامل
للخلق الفني.
المراجع
(⋆) جوتشوك: الفن
والنظام الاجتماعي. الفصل الثالث.
(⋆) ريدر: مرجع حديث
في علم الجمال.
(⋆) فيفاس وكريجر:
مشكلات علم الجمال.
(⋆) فيتس: مشكلات في
علم الجمال.
ألكسندر، ص.: الجمال وغيره من صور القيمة.
Alexander, S., Beauty and Other
Forms of Value (London, Macmillan, 1933) Chaps.
II-IV.
بوزانكيت، برنارد: ثلاث محاضرات في علم الجمال (المحاضرة
الثانية).
Bosanquet, Bernard, Three
Lectures on Aesthetic (London, Macmillan, 1923), Lect.
II.
تشاندلر: الجمال: الجمال والطبيعة البشرية، الفصلان ١٥،
١٦.
Chandler, Beauty and Human
Nature.
كروتشه، بندتو: ماهية علم الجمال.
Croce, B., The Essence of
Aesthetic, Trans. Ainsile (London, Heinemann,
1921).
جيزلين، بروستر: العملية الخلاقة.
Ghiselin, Brewster, The Creative
Process (Univ. of California Press,
1952).
هاردنج، روزاموند: تشريح الإلهام.
Harding, Rosamond E. M., An
Anatomy of Inspiration, 2nd ed., Cambridge, Heffer,
1942.
شون، ماكس: الفن والجمال. الفصول ٣–٥.
Schoen, Max, Art and Beauty (N.
Y., Macmillan, 1932).
ولسون، أدمند: الجرح والقوس.
Wilson, Edmund, The Wound and the
Bow (N. Y., Oxford U.P., 1974) pp.
227–295.