إن السؤال الذي نحن بصدده الآن هو «ما الفن الجميل؟» أعني، كيف
يتميز «الفن الجميل» من الفن بمعناه الواسع العام، كما عرفناه في
الفصل السابق؟ سوف نبحث في هذا الفصل، والفصول التالية، أقوى
الإجابات عن هذا السؤال تأثيرًا في تاريخ الفكر الجمالي، ولكن هذه
الإجابات لم تكن لها أهميتها بين الفلاسفة فحسب، بل إن هذه
الاعتقادات المتعلقة بالفن الجميل قد سيطرت على تفكير كل من لهم
شأن بها من فنانين ونقاد ومعلمي فنون، وكذلك الأشخاص غير
المتخصصين، الذين ينحصر اهتمامهم في التطلع إلى الأعمال الفنية
والاستمتاع بها. وكما قلنا في الفصل الافتتاحي، فإن لهذه
الاعتقادات أهميتها لأنها هي التي توجه السلوك، وذلك فيما يتعلق
بطريقة خلق الفن، وفيما يبحث عنه المشاهد في العمل الفني،
والأساليب التي يستخدمها النقاد في تقدير الموضوعات الفنية. وفضلًا
عن ذلك، فلما كانت جميع الاعتقادات التي سنناقشها واسعة الانتشار
إلى أبعد حد في الوقت الراهن، فيكاد يكون من المؤكد أن لها مكانًا
في تفكير القارئ عن الفن؛ ففي أثناء عرض هذه النظريات، لا بد أن
يجد القارئ نفسه مدفوعًا إلى أن يقول، عند موضع معين: «أجل، إني
أومن بذلك»، بل إنك قد تجد أنك تؤمن بعدد من هذه الاعتقادات، حتى
لو لم تكن قد حاولت أبدًا أن تعبر عنها بالكلام.
ومهمتنا الآن هي أن نعبر عن هذه الاعتقادات بوضوح، وأن نميز بين
بعضها وبعض. وبعد ذلك علينا أن نتتبع النتائج المترتبة على كل
اعتقاد، ونرى ما هي الاعتقادات الأخرى التي ينبغي أن نأخذ بها معه،
إذا ما شئنا أن يكون اعتقادنا بالنظرية متسقًا. مثال ذلك أن كل
نظرية لا تهتم بطبيعة الفن فحسب، بل تهتم أيضًا بقيمته،
فلا بد لنا من أن نرى ما هي
المعايير التي تستخدمها النظرية في الحكم على قيمة الفن، وما إذا
كانت هذه تؤدي إلى تقديرات نستطيع قبولها. وينبغي، طوال ذلك، أن
نبحث بصراحة في الشواهد والأدلة التي تستخدم في تأييد كل نظرية.
وعلى هذا النحو تتاح للقارئ فرصة إدراك اعتقاداته الخاصة عن الفن
بوضوح، كذلك فرصة اختبار هذه الاعتقادات.
(١) المحاكاة «البسيطة»
وإذن، فما هو الفن الجميل؟ إن أولى الإجابات هي في الوقت
ذاته أبسطها وأقدمها وأوسعها انتشارًا. وهي تقول إن الفن
محاكاة؛ «فالفن الجميل» يعرف بأنه «الترديد الحرفي الأمين
لموضوعات التجربة المعتادة وحوادثها». وما يكشف عنه الموضوع
الفني يشبه بدقة ذلك الأنموذج الموجود خارج العمل الفني، والذي
«يحاكيه» هذا العمل. وهكذا فإن الصورة الشخصية «تحاكي» الشخص
الذي تصوره، وذلك بتبع تفاصيل وجهه بدقة يستطيع معها أي شخص
عرفه «شخصيًّا» أن يتعرف عليه منها فورًا. وعلى ذلك فأهم شيء
في الفن هو «المشابهة»؛ فهو مماثل لما نعرفه في الواقع بمعزل
عن الفن، وهو يذكرنا به. وسوف نطلق على هذه النظرية اسم
«المحاكاة البسيطة»، تمييزًا لها عن أنواع أخرى من نظرية
«المحاكاة».
هذه النظرية، كما أشرت من قبل، هي أقدم نظرية في الفن. وقد
عرضها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في أول مناقشة منهجية لطبيعة
الفن في الفكر الغربي. ومع ذلك لا يكاد يوجد فيلسوف واحد منذ
أفلاطون أراد الدفاع عن «المحاكاة البسيطة»، بل إن أفلاطون
ذاته، كما سترى بعد قليل، لا يدافع عن هذه النظرية بوصفها
نظريته الخاصة، فلا بد من أجل فهم الانتشار الهائل النظرية
«المحاكاة البسيطة» من أن نبحث فيما وراء علم الجمال
الفلسفي.
على أننا لسنا بحاجة إلى أن نبحث بعيدًا؛ إذ إن الشواهد على
هذا الاعتقاد قريبة منا كل القرب؛ فكثير ما سمعنا أناسًا
يقولون عن رواية أو دراما أو فيلم سينمائي إنه «مطابق
للمحاكاة»، بل إننا نحن أنفسنا كثيرًا ما قلنا ذلك دون شك. ومن
جهة أخرى فنحن نعرف جميعًا أن ما يسمى «بالتصوير الحديث»
يهاجَم بشدة؛ لأن الناس والموضوعات التي يصورها ليسوا
«مشابهين» لأولئك الذين نعرفهم في التجربة المعتادة، أو لأنه
لا يكشف عن أي موضوع يمكن التعرف عليه
على الإطلاق. أما التصوير
الذي يلقى إعجابًا شعبيًّا فهو مماثل لذلك الذي قام به «فرا
ليبو ليبي Fra Lippo Lippi» في
قصيدة روبرت براوننج التي تحمل هذا الاسم:
وقف الرهبان في دائرة وامتدحوا بصوت عالٍ …
لأنهم أناس بسطاء — «هذا هو الرجل نفسه!
انظر إلى الصبي الذي ينحني ليربت على الكلب!
هذه المرأة تشبه بنت أخت القسيس، التي تحضر
لترعاه عندما يصاب بالأزمة: إنها الحياة!»
فعبارة «إنها الحياة!» تلخص استجابتنا إزاء
التصوير وجميع الفنون الأخرى، وذلك تبعًا لنظرية «المحاكاة
البسيطة.» صحيح أن الناس الذين تصورهم لوحة أو دراما ليسوا هم
بعينهم الناس الذين نعرفهم في «الحياة الواقعية». فلهم في
التصوير بُعدان فقط، وهم محصورون في إطار، كما أنهم في الدراما
يظهرون على مسرح. ومع ذلك فإن قيمة الموضوع الفني تتوقف على
درجة مشابهته لأنموذجه.
والواقع أن انتشار «المحاكاة البسيطة» في عصرنا الحالي ليس
إلا مثلًا واحدًا لتأثيرها التاريخي الدائم، فنحن نجد ليوناردو
دافنشي، الشخصية الفذة في عصر النهضة، يصف التصوير بأنه
«المحاكي الوحيد لكل الأعمال المرئية في الطبيعة»،
١ ويقول «إن أعظم تصوير هو الأقرب شبهًا إلى الشيء المصور».
٢ وبالمثل تُستخدَم «المحاكاة البسيطة» في الحكم على
قيمة الفن في هذا الوصف الذي كتبه فازاري (١٥٥٠م)، الناقد
الفني والمؤرخ الشهير، للوحة «موناليزا» المشهورة:
«على كل من يود أن يرى مدى قدرة الفن على محاكاة
الطبيعة، أن يتأمل هذه الرأس، فيجد فيها المحاكاة
الكاملة؛ ففيها نجد ترديدًا أمينًا لكل سمة استطاعت
الريشة أن تصورها بكل دقة؛ ففي العينين نجد البريق
اللامع والبلل الذي نراه في الحياة، وحولهما نجد تلك
الدوائر الشاحبة الحمراء المنطفئة قليلًا، التي تتمثل
أيضًا في الطبيعة، ومعها الأهداب التي لا يمكن أن
تُنسج على هذا النحو إلا بصعوبة بالغة؛ كذلك يصور
الحاجبين بأكبر قدر من الدقة، حيث يمتلئان وحيث يخفان،
مع تحديد معالم كل شعرة على حدة من منبتها في الجلد،
وتتبُّع كل ثنية، وعرض جميع المسام بطريقة لا يمكن أن
تكون أقرب إلى الطبيعة مما هي، أما الأنف … فمن الممكن
الاعتقاد بسهولة بأنها حية.»
٣
وخلال تاريخ التصوير، بُذِلت جهود كبيرة لاستحداث أساليب
تزيد من قوة التشابه مع الواقع. فقد كُرِّس قدر كبير من
التصوير في عصر النهضة المتقدم للتغلب على مشكلات المنظور،
بحيث يمكن تحقيق الشكل ذي الأبعاد الثلاثة على قماش ذي بُعدين.
وفي القرن التاسع عشر، عندما كانت هذه المشكلات قد حُلَّت إلى
حد بعيد، بُذِلت جهود كبيرة في حركة «الانطباعية
impressionism» من أجل
التعبير بدقة عن تألق الضوء على السطوح الملونة.
وهذا يعطي القارئ فكرة عن النطاق التاريخي لنظرية والمحاكاة
البسيطة. فأول تعبير عن النظرية يوجد، كما أشرت من قبل، عند
أفلاطون، الذي يقول في محاورة «الجمهورية» إن الشاعر أو المصور
«إلى جانب إنتاجه لكل أنواع الأشياء الصناعية … يستطيع أن يخلق
كل النباتات والحيوانات، ونفسه أيضًا، والأرض والسماء والآلهة
والأجرام السماوية وكل ما في جوف الأرض في العالم الأدنى».
٤ فكيف يحدث ذلك؟ يستخدم أفلاطون في إجابته تلك
الاستعارة التي تكمن في قلب نظرية «المحاكاة البسيطة»؛ فكل ما
يحتاج إليه الفنان هو أن «يأخذ مرآة ويديرها في جميع الاتجاهات».
٥ كذلك يردد شيكسبير
٦ أقوال أفلاطون، إذ يقول في حديث هاملت إلى
الممثلين في (الفصل الثالث، المشهد الثاني) إن «غاية»، التمثيل
«كانت، وستظل هي حمل مرآة أمام الطبيعة، إن جاز
التعبير.»
•••
لقد وَجدَت نظرية «المحاكاة البسيطة» أنصارًا بين الفنانين
والنقاد، وبين أولئك الذين يسميهم براوننج «بالناس البسطاء»،
ولكنها لا تكاد تجد لها نصيرًا من الفلاسفة. فلم كان ذلك؟ في
اعتقادي أن هذه النظرية هي إحدى النظريات التي تبدو صحتها
واضحة عندما تؤخذ بروح غير نقدية، ولكن يتضح بُعدها التام عن
الصواب عندما يفكر المرء فيها بطريقة نقدية؛ فحين ننظر إلى
لوحة، أو نقرأ قصة، أو نشاهد مسرحية، يبدو من الواضح أن العمل
يصور ما نعرفه في «الحياة الواقعية». ومع ذلك ينبغي أن نتشكك
بوجه خاص في تلك الاعتقادات التي تبدو واضحة بذاتها. فلْنَرَ
لماذا كان الاعتقاد عن الفن أمرًا لا يمكن الأخذ به.
لو كان لدينا موضوع يُعد تسجيلًا حرفيًّا تمامًا لأحداث في
«الحياة الواقعية»، أو تصويرًا مباشرًا لمنظر طبيعي، فهل يصح
أن نسميه عملًا من أعمال «الفن الجميل»؟ من المشكوك فيه أن
نفعل ذلك، ما لم يكن هناك سبب آخر لوجود الموضوع غير مطابقته
الحرفية؛ فالتسجيل الدقيق لمحادثة عادية، أو الصورة الدقيقة
السطحية التي يأخذها مصورها، ليست من «الفن الجميل» في شيء، بل
لا بد أن ينظم «الأنموذج» على نحو ما، ويصبح ذا دلالة، وينبغي
أن تزيد أهميته على نحو ما، إذا ما شئنا أن يكون الموضوع
منتميًا إلى مجال «الفن الجميل». وهذا راجع إلى أن «الحياة
الواقعية» هي عادة فارغة سطحية لا شكل لها، كما يعبر عن ذلك
«ميلن
Milne» بطريقة هزلية إذ
يقول:
«تصوَّر نفسك واضعًا رأسك في نافذة بيت غريب تستمع
إلى المحادثة خلال ثلاثة أرباع ساعة. ستجد هناك فترات
صمت طويلة، ويجيء الناس ويذهبون دون تفسير؛ وتكون هناك
إشارات إلى أسماء مجهولة، ونكات خاصة غير مفهومة، بل
إنه حتى لو أصبح المنظر فجأة دراميًّا بعمق، فإن
الطاهية تفسده إذ تضع رأسها فيه، وتسأل … عما إذا كانت
هناك أية طلبات للجزار.»
٧
إننا نتفق جميعًا على أن قصة همنجوي القصيرة «القتلة
The Killers» ولوحة فان
جوخ الشهيرة «الليل المرصع بالنجوم The Starry
Night» (انظر اللوحة رقم ٨)، هي أعمال من
«الفن الجميل»، حتى لو لم يكن معنى هذا التعبير الأخير واضحًا
في أذهاننا بعد. غير أن حديث «الفتوة» الأمريكي في القصة
القصيرة ليس مجرد تسجيل حرفي، بل إننا نبخس مقدرة همنجوي
الفنية في النثر حقها لو تصورنا ذلك. فهو قد سمع طريقة الكلام
الأمريكية وأفاد منها، ولكنه أحيا صوتها وضاعف قوة إيقاعها.
كما أن المحاكاة أقل «حرفيةً» من ذلك في لوحة فان جوخ.
فالدوامات الدوارة في السماء لا تحدث في التجربة المألوفة. غير
أن هذا لا يؤدي قطعًا إلى الحط من قيمة اللوحة بوصفها
«فنًّا».
إن معنى «الفن الجميل» في نظرية «المحاكاة البسيطة» لا ينتظم
تلك الموضوعات التي يعدها الكثيرون فنية، بل إن هناك موضوعات
قليلة جدًّا هي التي يصفها هذا التعريف وصفًا كافيًا. ومن
الممكن أن تظهر هذه النتيجة بوضوح لو فكرنا في أنواع فنية أخرى
غير التصوير والأدب؛ ففي فنون كالموسيقى والعمارة لا يكاد يوجد
أي أثر «للمحاكاة»؛ وذلك لأننا لو استثنينا فقرات قليلة في
الموسيقى؛ كصياح الأغنام في قطعة «دون كيخوته» لشتراوس، فإنا
نجد أن الموسيقى لا تحاكي «حرفيًّا» و«بأمانة» أصوات التجربة
المعتادة. صحيح أن أفلاطون قد تحدث عن الموسيقى على أنها تحاكي
«النفس الطبية والخبيثة»،
٨ وأن أرسطو، الفيلسوف اليوناني الذي جاء بعده، يقول
إن الموسيقى «تحاكي» المشاعر والفضائل الخلقية.
٩ ولكن من الواضح أن الموسيقى لا تستطيع «محاكاة»
حالات الشخصية، بنفس المعنى الذي يستطيع به التصوير «محاكاة»
شجرة، بل إن من الضروري استخدام لفظ آخر، له معنى مختلف وأكثر
اتساعًا، كلفظ «التعبير» مثلًا.
وإذن «فالمحاكاة البسيطة» أضيق مما ينبغي بوصفها نظرية في
الفن. وأود الآن أن أبين أنها تسيء تصور طبيعة الفن وقيمته،
وذلك من وجهة نظر الفنان ومن وجهة نظر المشاهد الجمالي
معًا.
إن الفنان لا يعتقد أن مهمته هي أن «يدير مرآة في جميع
الاتجاهات». ولو اعتقد ذلك، لكان عمله أيسر بكثير مما هو
بالفعل؛ فحيثما استخدم «أنموذجًا» في الطبيعة، نراه يغيره
ويعدله لأغراضه الخلاقة. فالمصور يعيد ترتيب الكتل في المنظر
الطبيعي، ويحذف خطًّا هنا، ويضيف حدًّا هناك. وهناك دليل عيني
على ذلك في كتاب ظهر حديثًا عن المصور سيزان،
١٠ الذي يضع صورة فوتوغرافية للمناظر التي شاهدها
الفنان، في مقابل لوحاته (انظر اللوحتين ٩، ١٠)؛ ففي اللوحة
نجد المنظر الطبيعي وقد تغير تمامًا. وبهذا المعنى يبدو
«التحريف» ظاهرًا في كل خلق فني. ومع ذلك فلو كان الفنان يقتصر
على «المحاكاة» لكان ذلك أمرًا غير مفهوم، بل إن جميع آثار
الموضوع المنتمي إلى «الحياة الواقعية» تختفي تمامًا في بعض
الأعمال، ويصور الفنان «النور الذي لم يكن أبدًا، لا في البحر
ولا في البر».
وبالمثل فإن «المحاكاة البسيطة» تضللنا حين يكون هدفنا فهم
التجربة الجمالية. فلو كانت هذه النظرية صحيحة، فماذا يكون
جدوى وجود الأعمال الفنية على الإطلاق؟ ولمَ نهتم بالحصول على
«نسخ»، في الوقت الذي نستطيع فيه، بمجرد النظر حولنا، أن نرى
«الأصل»؟ إن أرسطو يقترح إجابة ربما قبلها الكثيرون ممن يؤمنون
«بالمحاكاة البسيطة»، إذ يقول: «من الطبيعي أن نستمتع
بالمحاكاة … وهذا بدوره يرجع إلى أن التعلم يعطي أعظم قدر من
المتعة للناس عامة … وعلى ذلك فسبب استمتاع الناس برؤية الشبيه
هو أنهم عند تأمله يجدون أنفسهم يتعلمون أو يستدلون، وربما
قالوا: إنه ذاك.»
١١ وهكذا فإننا، كالرهبان المعجبين في قصيدة براوننج،
نتعرف على الأنموذج الذي تصوره اللوحة، ولكن حتى لو كان صحيحًا
أن التعرف يبعث متعة، فإن هذه ليست متعة جمالية. فعندئذٍ لا
تكون للوحة قيمة كامنة في نظر المشاهد، وإنما تكون «دليلًا» أو
«مفتاحًا» نستدل منه على أنموذجها. «فالتعرف … هو البحث عن
مستقر في الماضي بدلًا من العيش في الحاضر».
١٢
ولما كان اهتمام المدرك ينصب على «التعلم» أو «الاستدلال»،
فإنه لا ينتبه إلى العمل الفني كاملًا، وإنما إلى «موضوعه»
فحسب، أي إلى الشخص أو الشيء الذي يصوره العمل. فإذا كان
الموضوع واضحًا بقدر معقول، استطاع المشاهد أن يقول: «ها هو
ذا». وفي هذه الحالة يمكن أن تؤدي صورة فوتوغرافية تافهة،
ولكنها دقيقة، نفس الغرض الذي تؤديه لوحة شخصية عظيمة. غير أن
كل ما يدخل في العمل الفني تكون له أهميته، في الإدراك الجمالي
الأصيل. فليس «الموضوع» وحده هو الذي يستحوذ على انتباه
المدرك، بل هناك أيضًا جاذبية العمل للحواس، وبناؤه الشكلي،
ودلالته الانفعالية والتخيلية. ويبدو أن أرسطو يعترف بذلك حين
يقول: «ذلك لأنك لو لم تكن قد شاهدت الأصل، فلن تكون اللذة
راجعة إلى المحاكاة من حيث هي كذلك، وإنما إلى الأداء، أو
التلوين، أو أي سبب آخر من هذا القبيل.»
١٣ وبعبارة أخرى، فحين لا يكون اهتمام المشاهد
منصبًّا على التعرف، يكون من الممكن توجيهه نحو السمات الكامنة
في العمل الفني.
إن نظرية «المحاكاة البسيطة» تذهب إلى أن العمل الفني يكون
في أفضل حالاته عندما يكون أقرب شبهًا إلى الحياة. وقد أوضح
أفلاطون ذاته تهافت هذا الرأي حين سخر من الفن الذي يحقق
تشابهًا يبلغ من القوة حدًّا يخدعنا إلى درجة الاعتقاد بأننا
ننظر إلى «الشيء الحقيقي»؛ ذلك لأن الفنان، كما يقول أفلاطون،
قد يصوِّر نجارًا بحيث «يخدع طفلًا أو شخصًا ساذجًا، فيجعله
يعتقد أن صورته نجار حقيقي، لو رآها عن بعد»؛
١٤ فالحكم على القيمة الجمالية على أساس التشابه يؤدي
إلى تقويمات لا يمكن أن يقبلها إلا القليلون منا؛ إذ يكون
علينا عندئذٍ أن نقول، مثلًا، إن الصور الفوتوغرافية «المشابهة
للواقع»، والتي تمثل أشخاصًا منحرفين، وتعلق على لوحات النشرات
بمكاتب البريد، أفضل من صور موديلياني
Modigliani، التي تصبح
فيها الوجوه بيضاوية ممطوطة (انظر اللوحة رقم ١١)، ولقد كان من
أصرح أمثلة «المحاكاة الحرفية» في تاريخ الفن، محاولة الروائي
«شانفلوري
Champfleury» في
القرن التاسع عشر، الذي كرس الكثير من أعماله لكتابة «تقارير
حرفية عن محادثات، أو قوائم تسجيلية بقطع الأثاث».
١٥ غير أن هذه الروايات «تبعث عند قراءتها مللًا شديدًا»،
١٦ كما أن افتقار كاتب هذه الروايات إلى أي قدر من
الشهرة هو دليل على مقدار القيمة الجمالية التي وجدها القراء
في أعماله، وربما استطاع القارئ أن يتذكر أعمالًا أخرى تمثل ما
يسمى بالفن «الواقعي» أو «المطابق للطبيعة»، ويشوبها هذا العيب
نفسه.
•••
وهكذا رأينا الآن، على أنحاء شتى، لماذا كان من الخطأ النظر
إلى الفن الجميل على أنه مجرد «محاكاة بسيطة»؛ ففي مواضع
متعددة من التحليل الذي قدمته، انتقدت هذه النظرية بأن أوضحت
إلى أي مدى تتعارض مع الوقائع المألوفة للتجربة والتقدير
الجماليين. ومع ذلك فإن الواقع يشهد أيضًا بأننا كثيرًا ما نصف
عملًا فنيًّا بأنه «حقيقي» أو بأنه «مطابق للحياة»، فهل نكون
مجرد «سُذَّج» عندما نقول شيئًا كهذا، أم أن ذلك دليل على أن
في «المحاكاة البسيطة» أكثر مما اكتشفنا حتى الآن؟
إن هذه الطريقة في الكلام لها مكان في اعتقاداتنا عن الفن،
ولكن ليس، في رأيي، على النحو الذي تفسرها عليه نظرية
«المحاكاة البسيطة». فلنلاحظ أولًا أن هناك عددًا كبيرًا من
الأعمال الفنية في ميدانَي التصوير والأدب — وهما النوعان
الفنيان اللذان يفترض، كما رأينا من قبل، أنهما معقلان
للمحاكاة — لا نحمل عليها لمجرد كونها غير مماثلة للواقع.
فلماذا لم نكن نحمل عليها؟ لنفس السبب الذي لا نحمل من أجله
على رباعية وترية لأنها تعجز عن «محاكاة» أصوات التجربة
المعتادة، أعني لأن هذا، كما يقول التعبير الشائع، «ليس
اختصاصها»؛ فنحن لا نستطيع استخدام معيار «مطابقة الحياة» إلا
حين نتحدث عن بعض الأعمال الفنية، أعني تلك التي تحاول أن تصل
إلى ترديد التجربة بأمانة.
غير أن هذه الأعمال ليست بالضرورة تلك التي تصور الناس
العاديين أو الأشجار أو الحروب؛ فكثيرًا ما نصف، عن حق،
أعمالًا تبدو غير واقعية أو خيالية إلى حد بعيد بأنها تكشف
«حقائق» عن التجربة، كما هي الحال في الهجاء الساخر مثلًا.
وإنا لنجد رواية «أسفار جليفر Gulliver’s
Travels» مليئة بالأقزام والعمالقة
والخيول المهذبة. ومع ذلك فإن هذا الكتاب يفضح الحماقات
الفردية والاجتماعية في عصر «سويفت» وعصرنا. ومن الممكن قراءة
«حفل الشاي الجنوني» في قصة «أليس في بلاد العجائب» على أنه
هجوم على العادات الاجتماعية الإنجليزية، يكشف عما تتصف به من
سخف. فهذه الأعمال تحاول أن تكون «مطابقة للحياة»، ولكن بطريقة
شديدة العمق وبعيدة كل البعد عن الطابع المباشر.
ومن هنا، فحتى عندما يكون التأثير الجمالي المقصود من العمل
هو أن يكون «مطابقًا للطبيعة»، فإن العمل لا يكون مجرد «مرآة»،
بل إنه يسعى إلى تصوير شيء في تجربتنا، وإن كان يفعل ذلك
بطريقته الخاصة، التي قد تكون منطوية على «تحريف» أو «خيال
مسرف». وعندما يتحقق «التشابه مع الحياة» كما هي الحال عند
سويفت أو ليويس كارول Lewis
Carrol، يصبح هذا التشابه جزءًا لا يتجزأ
من الأهمية الكامنة للعمل؛ فالتصوير المحرِّف الساخر للحياة في
هذه الأعمال يزيد من قوتها وسحرها. غير أن انتباهنا يظل لذلك
محصورًا في العمل، ولا ينصرف عن العمل إلى أنموذج «الحياة
الواقعية».
ومن الممكن إثبات هذه الفكرة أيضًا بالرجوع إلى التصوير.
فلنتأمل، على وجه التحديد، أسلوب التصوير الذي يبدو أكثر
الأساليب وفاء بأغراض «المحاكاة البسيطة»، وهو ما يسمى بأسلوب
الخدع البصرية
trompe l’oeil.
هذا الأسلوب يستطيع — كما يدل عليه اسمه — أن «يخدع العين»؛ أي
أنه مشابه للحياة إلى حد أن المشاهد قد يخلط بين الموضوع
المصور والموضوع الحقيقي. وتعد أعمال الفنان الأمريكي وليم
هارنت
William Harnett
(المتوفَّى عام ١٨٩٢م) مثلًا رائعًا لهذا الأسلوب (انظر اللوحة
رقم ١٢). ومن الروايات التي تشهد بمقدرته رواية حقيقية من
الوجهة التاريخية، تحكي كيف صور العملة الأمريكية بالحجم
الطبيعي بقدر من الدقة جعل مخبري الخزانة يقبضون عليه بتهمة التزوير.
١٧
ومع ذلك فإننا لا نكون منصفين لهذا الفنان لو امتدحناه بسبب
قدرته على محاكاة الواقع فحسب. صحيح أن الموضوعات التي يصورها
تشبه «نماذجها»، ولكنها أكثر من ذلك؛ إذ إن الفنان قد ضاعف من
تأثير لونها وملمسها بحيث تكون شديدة الحيوية، جذابة للعين.
وعن طريق فنه استطاع أن يضاعف من الأهمية البصرية للغلايين
والكتب بحيث إننا «نراها»، على نحو يندر أن يتحقق في الإدراك
العادي. ومن هنا فإن انتباهنا يستغرق في التصوير الذي تظهر فيه
هذه الموضوعات. ولنتذكر، فضلًا عن ذلك، أن «الموضوع» ليس إلا
وجهًا واحدًا للعمل. وهناك وجه آخر حاسم لهذا العمل هو الطريقة
التي ترتبط بها الموضوعات المصورة فيما بينها في التصوير.
والواقع أن «هارنت» قد ربط هذه الموضوعات بعضها ببعض، بطريقة
مدروسة، على نحو من شأنه أن تكتسب اللوحة قيمة شكلية. وهذا
بدوره يجعل العمل طريفًا في ذاته. وهناك فنان آخر معاصر
لهارنت، لم تكن قدرته على التعبير عن الواقع الحرفي أقل من
قدرة هذا الأخير،
١٨ كان أقل منه شأنًا بكثير، لأن عمله يفتقر إلى
الإحكام الشكلي والحركة (انظر اللوحة رقم ١٣). ولو كان المعيار
الوحيد الذي نطبقه هو نظرية «المحاكاة البسيطة» التي تركز
اهتمامها على التشابه من الواقع، مستبعدةً كل ما عداه في
العمل، لكانت مكانة هذين الفنانين متساوية.
•••
لهذه الأسباب التي أوردناها في مناقشتنا رفض معظم المفكرين
نظرية «المحاكاة البسيطة»، بل إن نفس الفلاسفة والنقاد الذين
تحدثنا عنهم من قبل على أنهم مدافعون عن هذه النظرية، لا
يقولون بها على نحو متسق، فهناك سبب قوي يدعو إلى الاعتقاد بأن
أفلاطون عندما شبه الخلق الفني بإدارة «مرآة» كان يسخر من
اتجاهات فنية معينة ظهرت في أيامه، كتصوير «الخداع البصري» أو
«الإيهام»، وكالدراما «الواقعية». أما هو ذاته فلم يكن
متعاطفًا مع هذا الفن. وفضلًا عن ذلك فقد اعترف بأن الفنان، في
الأنواع الأخرى من الفنون، كثيرًا ما يعمل على «التحريف»
تحقيقًا لأغراضه الإبداعية.
١٩ وقد رفض أرسطو، كما سيتضح في القسم التالي، فكرة
«المحاكاة البسيطة» في نظريته في الدراما. كما أن «فازاري»،
على الرغم من إطنابه في امتداح «الموناليزا» لمشابهتها للواقع،
يختم كلامه بأن يقول عن موضوع اللوحة: «إن المرء عندما يتطلع
إليها يظنها إلهية لا بشرية.»
٢٠ وهو إذ يقول ذلك، يفترق دون أن يشعر عن «المحاكاة
البسيطة»، ويدخل معيارًا آخر للقيمة الجمالية.
ومع ذلك فإن نظرية «المحاكاة البسيطة»، لا يمكن أن تُهزم
بسهولة. فهي ما زالت واسعة الانتشار بين أولئك الذين لم
يختبروا اعتقاداتهم عن الفن بطريقة نقدية. وهي تظهر بوضوح في
المواقف التي يشيع اتخاذها من «الفن الحديث». وقد حدث في
الآونة القريبة أن أعرب رئيسان للجمهورية في الولايات المتحدة
علنًا عن اتخاذهما هذا الموقف، فتحدث أحدهما عن التصوير الحديث
على أنه «تصوير لحم الخنزير بالبيض»، وقال الآخر: «لا يتعين
عليك، لكي تكون عصريًّا، أن تكون مخبولًا.» ولقد كان من الممكن
سحب هذه الأحكام القاسية لو نُظر إلى وظيفة الفن على أنها ليست
هي «المحاكاة البسيطة» على الإطلاق.
فلننتقل الآن إلى بحث الطريقة التي تُوصف بها طبيعة الفن في
نظريات أخرى «للمحاكاة» أكثر معقولية من السابقة.
(٢) محاكاة «الجوهر»
رأينا أن بعض الفن، وإن لم يكن كله، يحاول أن يكون «مطابقًا
للحياة»، وإن لم يكن يفعل ذلك عن طريق «النسخ» الحرفي للتجربة
المعتادة. ويمكن القول، بمعنًى معين، إن الدراما أقرب الفنون
جميعًا إلى مطابقة الحياة؛ لأنها تصور البشر وهم يتحدثون
ويؤدون أفعالًا. ومع ذلك فإن «حقيقتها» لا تكون في هذا فحسب.
وقد حلل أرسطو الطريقة التي «تُحاكَى» بها الحياة في كتاب
الشعر، الذي ربما كان أهم كتاب أُلف في جميع العصور عن نظرية
الدراما والأدب بوجه عام.
إن أرسطو يهتم أساسًا بالتراجيديا، وهي الصورة العليا
للدراما، وهو يعرف التراجيديا بأنها «محاكاة سلوك جاد، كامل،
له نطاق معين … بأحداث تثير الشفقة والخوف».
٢١ غير أنه لا يعني ﺑ «المحاكاة» ما تقصده نظرية
«المحاكاة البسيطة»، فهو يفند هذه النظرية في الفقرة المشهورة
التي يضع فيها «الشعر» (أي الأدب) في مقابل «التاريخ»، فيقول
إنه «ليس من مهمة الشاعر أن يروي ما حدث»،
٢٢ أي أن الشاعر لا يسجل تعاقبًا للحوادث كما وقعت
بالفعل، بل إن أهمية الشعر أعظم من ذلك بكثير؛ «فالشعر شيء
أقرب إلى الروح الفلسفية من التاريخ، وأرفع منه؛ إذ إن الشعر
يتجه إلى التعبير عن الكلي، بينما التاريخ يعبر عن الجزئي».
٢٣
في هذه الجملة الزاخرة بالمعاني، يضع أرسطو صيغة مختلفة كل
الاختلاف لنظرية «المحاكاة» في الفن؛ فهو يقول إن المؤلف
الدرامي لا يسجل تفاصيل أية حوادث، أو كل الحوادث، التي تحدث
خلال فترة زمنية معينة. ولو كان يسجل «الجزئي» على هذا النحو،
لحفل العمل الفني بوقائع عشوائية تافهة — كتلك التي يتحدث عنها
«ميلن
Milne» — مثل: «يجيء
الناس ويذهبون دون تفسير»،
٢٤ وما إلى ذلك. وعلى هذا النحو يكون العمل مختلطًا
فاقد المعنى، ولكن المؤلف الدرامي يحاول أن يجعل للتجربة
الإنسانية معنًى، وأن يفسرها. ومؤلف التراجيديا، على وجه
التخصيص، يود أن يبين أن أحداث حياة الإنسان ليست عشوائية
مفككة، بل ترتبط فيما بينها ارتباطًا وثيقًا، بمعنى أن أحدها
يفضي إلى ما يتلوه، وهذا يسبب غيره، وكلها سويًّا تؤدي، على
نحو محتوم، إلى كارثة التراجيديا؛ فالتراجيديا في التجربة
البشرية ترجع إلى نوع شخصية الإنسان وهي الشخصية التي تؤدي به
إلى القيام بأفعال تسفر عن كارثة؛ فالشخصية التراجيدية هي، على
حد تعبير أرسطو، إنسان «لا ترجع تعاسته إلى رذيلة أو وضاعة، بل
ترجع إلى نوع من الخطأ أو الضعف»؛
٢٥ أي إلى «الهفوة التراجيدية» المشهورة. وتكون
الدراما «فلسفية» في كشفها عن نتائج مثل هذه الشخصية. فالدراما
تعرض «مبررات» الحوادث التي تصورها.
على أن الدراما لا تستطيع أن تفعل ذلك عن طريق إدارة «مرآة»
أمام الحياة؛ ذلك لأن الحياة ليست إلا أشياء متعاقبة فحسب،
تنتشر فيها الأحداث الهامة في حياة الإنسان على مدى فترة طويلة
من الزمان، وتغلفها غشاوة من الوقائع المنعدمة الأهمية، التي
تبلغ من الكثرة حدًّا لا نستطيع معه أن نرى عادة أسباب فرحه أو
تعاسته. ومن هنا فإن أرسطو يعترف بأن الفنان التراجيدي ينتقي
من المادة الخام غير المترابطة «للحياة الواقعية»؛ فهو لا
«يحاكيها» دون تمييز. ومؤلف التراجيديا لا يروي كل ما حدث لشخص
معين، وإنما يروي كل ما هو أساسي من أجل فهم هذا الشخص، ففي
مسرحية مثل «أوديب ملكًا»، يكاد كل سطر من الحوار، وكل قرار
تتخذه إحدى الشخصيات، وكل حادث، يقوم بدور في الكشف عن مصير
أوديب. صحيح أن المؤلف مَعنيٌّ قطعًا ﺑ «الحياة الواقعية»،
ولنذكر في هذا الصدد أن التراجيديا «تحاكي الناس في تصرفاتهم»
٢٦ ومع ذلك فإنها تجرد ما في التجربة من عناصر تافهة
وشاذة. وهكذا فإن حياة البطل بأكملها تُلخَّص كلها في الوقت
القصير الذي ينقضي في مسرحية مثل «أوديب»، بحيث نعرف كل ما هو
أساسي بالنسبة إلى شخصيته، وكل الحوادث الرئيسية في حياته،
وضمنها مصيره التراجيدي.
وهكذا فإن «المحاكاة» انتقائية خلاقة. ويترتب على ذلك أن
تصبح للتراجيديا أهمية تفوق بكثير ما كان يمكن أن تكون عليه
أهميتها لو كانت «محاكاة بسيطة». إن أرسطو يقول إن «الشعر يتجه
إلى التعبير عن الكلي، بينما يعبر التاريخ عن الجزئي أو
الخاص». ثم ينتقل إلى القول: «أعني بالكلي كيف يتحدث أو يسلك
شخص من نمط معين.»
٢٧ وبعبارة أخرى، فالتراجيديا لا تكتفي بأن تكشف لنا
عما يحدث لأوديب، الإنسان «الجزئي» (أو الخاص)، وإنما تبين ما
يمكن أن يحدث لأي فرد له نفس شخصيته، يوجد في ظروف كتلك التي
وجد نفسه فيها؛ فالقُوى التي تودي بأوديب تؤثر أيضًا في حياة
غيره من الناس، حتى لو كانوا يعيشون في أزمنة وأمكنة أخرى، وقد
تكون الظروف الخاصة مختلفة، غير أن علاقات العلة والمعلول،
التي تكمن من وراء حياة الإنسان، هي في أساسها واحدة. ومن هنا
فإن الدراما تكشف عن حقيقة، من حقائق الحياة تتسم بأنها أعم
وأعمق من السيرة التي تسرد حياة يوم بيوم.
والحق أن التراجيديا تكشف عما هو «كلي» بحق في التجربة
البشرية، من حيث إننا جميعًا نعاني نوعًا من «الخطأ» أو
«الضعف» يؤدي إلى تعاستنا. وفي هذا الصدد تكون الشخصية
التراجيدية «إنسانًا مثلنا».
٢٨ وعلى هذا النحو يعلل أرسطو ما نسميه عادة
«بالتعاطف الذي يحس به الجميع» نحو البطل التراجيدي؛ إذ إن ما
يحدث له يحدث لكثير من الناس، ولنفس الأسباب؛ فالبطل التراجيدي
يجسد «كل الناس»، ومن هنا كان في استطاعتنا أن «نرى أنفسنا
فيه».
•••
بهذه النظرية خطا أرسطو خطوة جبارة نحو إيضاح طبيعة الفن
الجميل. فعلينا ألا نطلب من الفن أن يكون «ترديدًا حرفيًّا»
للمجرى المألوف للتجربة، إذ ليس هذا ما يحاول الفن أن يفعله.
وعلى حين أن نظرية «المحاكاة البسيطة» تجعل الفن تافهًا، فإن
أرسطو يكشف لنا عن أهميته وعمقه.
ونظرًا إلى أن العمل الفني ليس مجرد «نسخة» ذلية، فمن الواجب
ألا يحكم عليه على هذا الأساس. وهكذا يقول أرسطو «إن الشاعر لو
ارتكب خطأ في الوقائع فإنه يكون مخطئًا، غير أن من الممكن أن
يكون لهذا الخطأ ما يبرره إذا كان يؤدي إلى بلوغ غاية الفن …
أي إذا كان هذا يؤدي إلى تقوية تأثير هذا الجزء من القصيدة أو غيره.»
٢٩
وعلى الرغم من أن الدراما تحاول إيضاح «الحياة الواقعية»،
فإن لها حياة مستقلة خاصة بها، فمن الواجب أن ننظر إليها بعين
التعاطف، ونتقابل معها على أرضها الخاصة. ويذهب أرسطو إلى حد
القول إن «القصة التراجيدية ينبغي ألا تكون مؤلفة من أجزاء لا
معقولة … ولكن ما إن يصبح للامعقول وجود فيها، ويخلع عليه طابع
محتمل التحقق، فينبغي عندئذٍ أن نقبله على الرغم مما في ذلك من امتناع.»
٣٠
في هذه الفقرات يرى أرسطو ضرورة الحكم على العمل على أساس
فعاليته الجمالية الكاملة؛ فالعمل لا يخلق «تأثيره»، إلا إذا
كان يتسم بالوحدة الباطنة. ولا بد أن تكون مختلف أجزاء العمل
محكمة الترابط فيما بينها بحيث إنه لو تغير موضع أي منها أو
استُبعد، لتفكك الكل واختل؛ ذلك لأن الشيء الذي لا يؤدي حضوره
أو غيابه إلى إحداث فارق ملموس، لا يكون جزءًا عضويًّا من الكل.
٣١ وفي التراجيديا تتحقق هذه الوحدة «العضوية»
بالانتقاء الدقيق للعناصر المرتبطة بالموضوع التراجيدي وحدها،
كما رأينا من قبل؛ فالدراما التي تقتصر على تصوير التعاقب
العشوائي للحوادث تخفق من الوجهة الفنية إخفاقًا تامًّا —
ويسميها أرسطو «أسوأ أنواع العقدة».
٣٢ فمن الواجب تنشأ أن الخاتمة أو النتيجة «عن العقدة ذاتها.»
٣٣ ومن ثَم فإن أرسطو ينتقد أسلوب «الإله المنبثق عن
آلة
deux ex machina»، أي
الظهور المفاجئ المعجز لإله أو شخصية فوق البشرية، يتدخل لحل
جميع المشكلات التي أثيرت في المسرحية، وللربط بين جميع الخيوط
المفككة في عقدتها.
وهنا أيضًا يوجه أرسطو نظرتنا إلى العمل الفني بأسرها وجهة
جديدة. فلم تعد الاستعارة الحاسمة هي «المرآة»؛ أعني الشيء
الذي لا تكون له أهمية إلا لأنه يعكس شيئًا آخر خارجًا عنه، بل
إن العمل «كائن عضوي»؛ أعني شيئًا منطويًا على نفسه، له
استقلال ذاتي، وله قيمته الكامنة فيه.
•••
رأينا إذن أن أرسطو يدخل تعديلًا جذريًّا على معنى
«المحاكاة»، ويجعلها بذلك أقرب إلى المعقول، وأعظم فائدة
بكثير، حين تطبق على الفن الجميل. كما رأينا منذ قليل أن أرسطو
يؤكد القيمة والدلالة الكامنة للفن، وضرورة ملاقاة الفن على
أرضه وبشروطه الخاصة. ومع ذلك فإن أرسطو ذاته لا يستخدم أبدًا
لفظ «الفن الجميل»، وإنما هو يهتم بالأدب، ولا سيما
التراجيديا. وعندما تحدثت، في الجزء السابق، عن «الفن»، كان
ذلك تعميمًا مما قاله أرسطو عن التراجيديا. أما لفظ «الفن
الجميل» فكان مجهولًا لدى أرسطو واليونانيين، بل إنه في الواقع
لفظ حديث نسبيًّا؛ إذ إن كلمة «الفنون الجميلة»
(beaux arts بالفرنسية) لم
تظهر إلا في القرن السابع عشر، بينما لم يظهر المقابل
الإنجليزي لها إلا في القرن التالي.
على أن هناك مفكرين لاحقين أخذوا على عاتقهم توسيع الآراء
التي عرضها أرسطو في كتاب الشعر بحيث تتحول إلى نظرية في «الفن
الجميل» بوجه عام. وسوف نطلق على هذه النظرية اسم «محاكاة
الجوهر imitation of essences»
إن كلمة الجوهر essence،
والصفة المشتقة منها essential
تستخدم للدلالة على ما هو «عظيم الأهمية» أو «لا غناء عنه».
وهكذا فإننا نعترض على الشخص الذي يقدم إلينا تفصيلات لا داعي
لها فنقول: «ليس هذا هو المهم»؛ فنحن نريد أن نعرف «جوهر»
الموضوع. وهذا التعبير يعكس طريقة استخدام اللفظ في الفلسفة
ونظرية الفن. ففي الفلسفة يدل لفظ «الجوهري» على الصفات أو
الخصائص التي ينبغي أن يتصف بها شيء إذا كان ينتمي إلى فئة أو
نوع معين. وهكذا فإن مما هو جوهري في الكائن أن يكون «عاقلًا»
إذا كان ينتمي إلى فئة الإنسان. وكل ما ليس بعاقل ليس إنسانًا.
وعندما نقدم تعريفًا لشيء من نوع ما فإنا نؤكد جوهره، كما هي
الحال في تعريف الإنسان. وفي مقابل ذلك تتصف الأشياء الفردية
بصفات ليست أساسية لانتمائها إلى نوع معين. فمما هو «عَرَضي»
أن يكون الشخص المعين طويلًا أو قصيرًا، أسمر البشرة أو أشقر،
يونانيًّا أو فرنسيًّا، فهو سيظل بشرًا، أيًّا كان، لو كان
يتصف ﺑ «ماهية» الإنسان.
وعلى ذلك فإن الجوهري هو ما يشترك فيه جميع أفراد فئة معينة.
وهنا نستطيع أن نفهم السبب الذي من أجله تتخذ نظرية أرسطو في
التراجيديا أساسًا لنظرية «الجوهر». وأنت تذكر أن البطل
التراجيدي، في نظر أرسطو، ليس مجرد فرد، وإنما هو إنسان «من
نمط معين» تتجسد فيه خصائص مشتركة مع أناس آخرين. وعلى ذلك فإن
التراجيديا تعبر عن «الكلي»؛ ففي نظرية «الجوهر» يعلو الفن على
ما هو جزئي، وذلك بتجاهله للخصائص «العرضية» للشيء، بينما كان
الفن في نظرية «المحاكاة البسيطة» مقتصرًا على ما هو جزئي.
فلكل فن إذن تبعًا لرأي أرسطو، دلالة كلية.
ولقد ظلت «محاكاة الجوهر» هي المفهوم الرئيسي، والمركزي، في
التفكير عن الفن طوال قدر كبير من العصور الحديثة. وهي، على
وجه التحديد، تسود التفكير الجمالي والنقدي خلال الفترة
المسماة «بالكلاسيكية الجديدة، التي تمتد تقريبًا من عام ١٥٥٠م
إلى ١٧٥٠م.
٣٤ فقد تغلغلت هذه النظرية في التفكير الإيطالي
والإنجليزي، وكان الفضل الأكبر في ذلك يرجع إلى التأثير الهائل
لكتاب الشعر عندما ترجم من اليونانية لأول مرة عام ١٤٩٨م. وعلى
الرغم من أن انتشار النظرية قد تضاءل إلى حد بعيد في القرنين
الأخيرين، فما زال لهما وجود في طرق التفكير والحديث المعاصرة
عن الفن.
وسوف ندرس هذه النظرية عند اثنين من كبار النقاد الإنجليز في
أواسط القرن الثامن عشر، وهما الدكتور صمويل جونسون (الذي ربما
كان العامل الأكبر على شهرته هو كتاب بوسويل
Boswell المشهور عن
«حياته»)، والسير جوشوا رينولدز Joshua
Reynolds. هذان الناقدان، اللذان كانا
صديقَين حميمَين، كانا أبرز المتحدثين باسم الأدب والفنون
البصرية في عصرهما. وسوف يتيح لنا التحليل النقدي لكتاباتهما
أن ندرك نقاط القوة والضعف في نظرية «الجوهر».
•••
يبدو في مواضع معينة أن الدكتور جونسون يدافع عن نظرية
«المحاكاة البسيطة»، فتراه يستخدم الاستعارة الأفلاطونية
المميزة لهذه النظرية، إذ يقول: «إن شيكسبير يفوق الكتاب
جميعًا في كونه … شاعر الطبيعة؛ فهو الشاعر الذي يحمل لقرائه
مرآة أمينة لعادات الناس وحياتهم.»
٣٥ ولكن جونسون، مثل أرسطو، لا يرى أن هذه هي «مرآة»
«الترديد» الحرفي؛ فهو يقول عن حوار شكسبير إنه يبدو «مقتطفًا
عن طريق الانتقاء الحريص من المحادثة المعتادة»،
٣٦ وعلى ذلك فإن «الحياة الواقعية» ليست إلا نقطة
بداية الفنان، وهي ليست كل الفن.
وبعد أن يرفض جونسون نظرية «المحاكاة البسيطة»، ينظر إلى
«محاكاة الجوهر» على أنها هي الوظيفة الحقة للفن. فأهم ما
يمتدح من أجله شيكسبير هو أن الفنان يصور «الكلي» في التجربة
البشرية: «إن شخصياته لا تتغير تبعًا للعرف السائد في أماكن
معينة، والذي لا يمارس في بقية العالم … أو تبعًا لأغراض
الأذواق العابرة أو الآراء المؤقتة … بل إن أشخاصه يسلكون
ويتكلمون بتأثير تلك الانفعالات والمبادئ العامة التي تحرك
الأذهان جميعًا.»
٣٧ وكما لاحظنا من قبل في صدد مناقشتنا لأرسطو، فإن
البطل التراجيدي يجتذب الناس على أوسع نطاق لأن الآخرين
يشاركونه طباعه. ولذا يقول جونسون إنه «لما كانت شخصيات
شيكسبير تسلك بناءً على مبادئ منبثقة عن انفعال أصيل، ولا
تغيرها الأشكال الجزئية إلا أدنى تغيير، فإن أفراحها وأحزانها
يمكن أن تشارك في كل الأزمنة والأمكنة؛ فهي طبيعية، ومن ثَم
فهي دائمة.»
٣٨ وإذن فالفنان «يحاكي الطبيعة»، غير أنها «طبيعة
عامة»، وهو التعبير الذي كان يستخدم في القرن الثامن عشر بمعنى
يساوي معنى «الكل» عند أرسطو.
وبالمثل فإن رينولدز يرفض، في مجال الفنون البصرية، «الفكرة
السوقية عن المحاكاة»،
٣٩ أي «المحاكاة البسيطة»؛ «فالطبيعة ذاتها لا ينبغي
أن تُحاكَى بدقة كاملة»،
٤٠ بل إن في استطاعة الفنان، عن طريق ملاحظته لعدة
موضوعات من فئة معينة أو نوع معين، أن يميز بين الصفات
«العرضية» الخالصة والصفات التي تؤلف «الجوهر»، أي ما يسميه
رينولدز «بالصورة العامة التي لا تتغير».
٤١ وعلى هذا النحو يصل الفنان إلى «تشابه مع الحياة»
يزيد عما يصل إليه عن طريق «المحاكاة البسيطة»؛ فرينولدز يقول
إن الفنان الذي يعرف «الطابع العام» للأشجار يستطيع أن «يحاكي
شكل الأشجار على نحو أصدق».
٤٢ من ذلك الذي يصور الأشجار مُبديًا اهتمامًا خاصًّا
بتفاصيل محددة. ولو استطعنا أن نفهم ما الذي يعنيه رينولدز
بهذا، لأمكننا أن نفهم ما هو أساسي في نظرية «الجوهر». فلتتخيل
الفارق بين صورة فوتوغرافية «دقيقة» لشجرة واحدة، تتسم
بالخشونة وإن تكن مضاءة بقدر معتدل من الضوء وتردد كل تفاصيل
الشجرة، وبين تخطيط في مرسوم يؤدي بنا إلى أن نقول: «هذا
التخطيط قد توصل إلى جوهر الأشجار ذاتها.» أعني إلى علوها
ورشاقتها وامتلائها بالأوراق. هذا الرسم التخطيطي لا يتعين أن
يكون ممثلًا لأية شجرة معينة في العالم، بل قد يكون مجرد عدد
قليل من الخطوط البارعة المقتصدة، ولكن هذه الخطوط قد تكون
كافية للنفاذ إلى الكيان الباطن للشجر، وهي عبارة تشرح بوضوح
رأي نظرية «محاكاة الجوهر».
ونستطيع أن نلخص عرضنا لهذه النظرية باقتباس تعبير رينولدز
الموجز: «إن كل جمال الفن وعظمته ينحصر، في رأيي، في قدرته على
العلو على جميع الصور الفردية، والعادات المحلية، وشتى أنواع
التفاصيل والجزئيات.»
٤٣
•••
فلنبحث هذه النظرية إذن بمزيد من العمق. ولأبدأ بالتعبير
صراحة عن شيء ربما كان قد خطر ببال القارئ من قبل، وهو أن
العمل الفني أو الصورة لا يستطيع أن يقتصر في تصويره على
«الجوهر»؛ فالجوهري، كما قلنا من قبل، سمة أو خاصية يشارك فيها
جميع أفراد فئة معينة، وبفضلها يكونون أفرادًا في هذه الفئة.
ولكن عندما يتمثل الجوهر في موضوع جزئي معين، فإنه لا يمكن أن
يوجد بذاته، وإنما يوجد دائمًا مقترنًا بسمات «عرضية» معينة؛
فالشخص الجزئي أو المعين لا يكون أبدًا مجرد تجسد «للإنسان
بوجه عام»، وإنما هو أيضًا شخص أصفر الشعر أو أسود الشعر أو
أصلع، وهو يتحدث بلهجة معينة، وقد يكون مجرد طفل. هذه السمات
تجعل منه «هذا الشخص بعينه». والواقع أن الجوهري لا يوجد
بذاته، دون أية خصائص مصاحبة، إلا عندما يجَرد من الموضوعات
التي تشارك فيه. وهذا هو ما يفعله التعريف؛ فتعريف «الإنسان»
مثلًا لا يحتاج إلى إشارة إلى لون الشعر، مثلًا، على حين أن
هذه الإشارة ضرورية في وصف إنسان معين.
فلنطبق هذه الفكرة إذن على نظرية «محاكاة الجوهر»، إن
الدراما أو اللوحة لا تستطيع أن تكشف عن جوهر «الإنسان» أو
«الشجرة» إلا عن طريق تصوير موضوع جزئي من هذا النوع. فالشخصية
التراجيدية، كما قلنا من قبل، هي، من نواحٍ معينة، «كل إنسان».
غير أن هاملت هو أيضًا أمير دنمركي، يبلغ سنه حوالي الثلاثين،
وهو «سمين، ضيق الأنفاس»، كان وهو طفل يلعب مع «بوريك». على أن
أمثال هذه الخصائص المتعلقة بتاريخ حياته ليست هي وحدها الأهم
من وجهة نظر الفن. فكل ما تقوله الشخصية التراجيدية وتفكر فيه،
من انفعالات ودوافع وأحوال، ينبغي أن يتجمع ليجعل منها، في نظر
القارئ، إنسانًا فردًا متكاملًا، معقولًا؛ فالماهية التي
يجسدها ينبغي أن تبعث فيها الحياة وتسري فيها دماؤها. وعلى هذا
النحو وحده يمكن أن تكون لهذه الشخصية طرافتها، وتكون معقولة
قابلة للتصديق من الوجهة الجمالية؛ فمن الممكن أن تكون دلالة
البطل التراجيدي «كلية شاملة»، ولكنه لا يمكن أن يبدو لنا
«بشرًا مثلنا» كما يقول أرسطو، ما لم يكن إنسانًا
فردًا.
وعلى الرغم من أن رينولدز وجونسون يؤكدان «العام»، فإنهما
يعترفان بأن التفاصيل العينية يمكن، بل يجب، أن تدخل في العمل.
فرينولدز «على استعداد للتسليم» بأن «بعض الحوادث التفصيلية
الجزئية كثيرًا ما تؤدي إلى إضفاء طابع الحقيقة على القطعة،
وجذب اهتمام المشاهد على نحو غير عادي.
٤٤ كما يقول رينولدز أيضًا «إن من لا يعبر عن كل
الجزئيات، لا يعبر عن شيء».
٤٥ ويضيف جونسون إلى مديحه لشيكسبير أن شخصياته فردية
إلى حد بعيد، «تتميز كل منها عن الأخرى».
٤٦
ويظهر الدليل على أن «محاكاة الجوهر» وحدها ليست كافية، في
الإخفاق الواضح الذي تنتهي إليه تلك الأعمال التي تحاول أن
تقتصر على ذلك. وتلك الأعمال التي تحاول تصوير «أنماط» بشرية،
دون أي من التفاصيل الجزئية اللازمة لأي فرد بشري. وقد أُلِّف
كثير من هذه الأعمال خلال العصر الكلاسيكي الجديد، تمشيًا مع
نظرية «محاكاة الجوهر»، ولكن من المؤسف أن أعمالًا كهذه ما
زالت تنتج إلى اليوم. مثل هذه الأعمال توصف بأنها «باردة»
و«فارغة»، وشخصياتها لا تتصف بأنها محتملة الحدوث أو معقولة،
أو كما نقول عادة، لا «تدب فيها الحياة»؛ فهي مجرد متحدث بلسان
الجبن أو التقتير أو الفضيلة، يمشي على رجلين. ولهذا السبب
كانت الحكاية الخرافية تبدو في كثير من الأحيان سخيفة إلى حد
كبير. ويعبر الدكتور جونسون عن نظرية «الجوهر» أسوأ تعبير
عندما يقول في أحد المواضع: «إن الشخصية، في كتابات الشعراء
الآخرين، تكون في معظم الأحيان فردية، ولكنها في كتابات
شيكسبير هي عادة نوع.»
٤٧ غير أن هذه الشخصيات، كما يعترف جونسون نفسه، ليست
مجرد نوع. ولو كانت كذلك لما ظل لير وماكبث وباجو محتفظين
بمكانتهم في أذهان الناس طوال هذه القرون.
ونستطيع أن نختم هذه المناقشة بالقول إن تعريف «الفن الجميل»
من خلال محاكاة الجوهر، ينبغي أن يُوسَّع إذا شاء أن يوفي قيمة
الفن حقها. فإذا كان هدف الفن، كما يقول رينولدز، هو «إحداث
تأثير سار في الذهن»،
٤٨ وهو رأي يشاطره إياه جونسون، فلا بد عندئذٍ من أن
يتصف العمل بالحيوية والثراء وقابلية التصديق، ولكن محاكاة
الجوهر لا تكفي وحدها لتحقيق ذلك.
•••
فلننتقل الآن إلى مسألة أهم حتى من هذه، فمن الضروري أن
نختبر معنى «الجوهر» اختبارًا أدق. ولنتساءل، على وجه التحديد:
كيف نعرف جوهر نوع معين، «كالإنسان» مثلًا؟ إن رينولدز يرى،
كما لاحظنا من قبل، أننا نستطيع، عن طريق ملاحظة عدد كبير من
الأشياء الجزئية، أن نعرف «الصورة العامة الثابتة»،
٤٩ وذلك «حتى دون أن نبحث عنها»؛ غير أننا لو اختبرنا
أفراد فئة «كالإنسان»، بحثًا وراء سمة مشتركة بينهم جميعًا،
وبينهم وحدهم، لوجدنا قدرًا هائلًا من أمثال هذه السمة، فمن
الصحيح، بالنسبة إلى جميع الناس مثلًا، أن لديهم قدرات أبصرية
لا تتوافر لدى الحيوانات الأخرى، وأنهم «من ذوي الرجلين بلا
ريش»، وأنهم قادرون على الضحك. ومع ذلك فإنا نتردد في القول إن
أيًّا من هذه الصفات هي جوهر الإنسان؛ ذلك لأن الجوهر، كما
لاحظنا من قبل، يرتبط عادة بما هو «حاسم»، أو «أهم»، فمن
الواجب ألا يكون جوهر الإنسان مجرد سمة تميز الناس جميعًا، بل
ينبغي أيضًا أن يكون سمة «حاسمة» للإنسان، بمعنى أنها تفسر لنا
منه قدرًا كبيرًا. وعلى ذلك فإذا كان العقل هو جوهر الإنسان،
فإنا نعرف أن الناس قادرون على استخدام التصورات العقلية
والرموز في التفكير المجرد، وأن أفعالهم لا يتعين أن تكون
إنتاجًا للاندفاع الوقتي، وإنما يمكن «إعمال الفكر» فيها، بل
إن من الممكن بالفعل تنظيم الحياة بأسرها تنظيمًا عاقلًا
ذكيًّا. ومن هنا كان العقل أهم بكثير للإنسان من حقيقة كونه
«ذا رجلين بلا ريش».
وإذن، فلنتساءل مرة أخرى؛ كيف نعرف جوهر نوع معين؟ إن
رينولدز على ثقة من أننا نستطيع جميعًا أن نعرفه ونتفق عليه.
ولكن الأرجح أن القارئ يعلم أن هناك عددًا كبيرًا من المفاهيم
المختلفة حول جوهر «الإنسان». فما أهم شيء عن الإنسان؟ لقد
ذكرت منذ قليل الرأي القديم القائل إن الإنسان «حيوان عاقل».
ومع ذلك فإن عددًا من النظريات القوية التأثير قد ذهبت في
الآونة الأخيرة إلى أن العقل ليس إلا صفة ضئيلة القيمة عند
البشر؛ فالأهم منه إرادة الإنسان أو رغبته، في رأي النظريات
الإرادية مثل نظرية شوبنهور، أو القوى اللاشعورية اللاعاقلة،
في رأي بعض المذاهب الأخيرة في علم النفس. وهناك أيضًا الفهم
المسيحي للإنسان بوصفه مخلوقًا من مخلوقات الله، والفهم الآلي
له بوصفه تركيبًا فيزيائيًّا كيمائيًّا معقدًا. كل هذه
النظريات تزعم أنها تصف جوهر الإنسان، بمعنى «الجوهر» الذي
أوضحناه من قبل. غير أن ما نجده لديها ليس هو «الجوهر الواحد»،
وإنما هو كثرة من «الجواهر».
فلنطبق هذا التحليل على الفن. لقد قلنا، في مناقشتنا لأرسطو
والدكتور جونسون، إن البطل التراجيدي شخصية «كلية شاملة»، وأن
المأزق الذي يجد نفسه فيه إنما هو صورة مصغرة «للمحنة
الإنسانية». ومع ذلك فإن التراجيديات العظيمة ذاتها تقدم
مفاهيم مختلفة كل الاختلاف لطبيعة الإنسان ومصيره. فهناك فوارق
ملحوظة في أعمال الكاتبين التراجيديين اليونانيين القديمين،
أيسخولوس وسوفوكليس، وفوارق هائلة بين هذين وبين يوريبيدس. وقد
عولجت الشخصيات التراجيدية اليونانية بطريقة حديثة، عند الكاتب
الوجودي المعاصر جان بول سارتر، كما في مسرحية «الذباب» مثلًا،
فإذا بتفسير «جوهر الإنسان» يبتعد كل البعد عن تفسير أيسخولوس
لها. فلا يمكن القول إن جميع هذه الأعمال تصور الجوهر الموحد
للتجربة البشرية، بل إننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذا الجوهر
الموحد إلا إذا افترضنا، بطريقة قطعية، أن أعمال فنان واحد من
هؤلاء، وليكن أيسخولوس مثلًا، هي التي «تحاكي» «الصورة العامة
الثابتة» للمصير الإنساني، ولكن عندئذٍ يتعين علينا، لكي نكون
متسقين مع أنفسنا، أن نقول أيضًا إن التراجيديات الأخرى ليست
لها قيمة فنية، لأنها تعجز عن «محاكاة الجوهر». ولا شك أن هذه
النتيجة لا تتمشى مع رأينا في هذه الأعمال الفنية
العظيمة.
ولنضرب مثلًا آخر، مستمدًّا من الفنون البصرية هذه المرة.
فلتتأمل دراسة «كولفتس
Kollvitz» بعنوان
«الوالدان» (انظر اللوحة رقم ١٤)، وستجد أن من الطبيعي تمامًا
القول إنها توصلت إلى «جوهر الحزن». ولتنظر أيضًا إلى تمثال
سان جودان Saint-Gaudens
بعنوان «الحزن» (اللوحة رقم ١٥). وفي هذه الحالة يكون من
الممكن حدوث نفس الاستجابة. ولتلاحظ أن العمل الفني يبدو في
كلتا الحالتين كأنه «توصل إلى الجوهر» عن طريق الإقلال إلى
أدنى حد ممكن من «التفصيلات والجزئيات»، فهما يصوران الحزن في
ذاته، وبصورة مبدئية غير معقدة. ومن هنا كانا يمثلان بوضوح
نظرية «الجوهر». ومع ذلك فلو قارنت كلًّا من هذين العملين
بالآخر، لاتضح لك مدى غموض عبارة «التوصل إلى الجوهر»؛ ذلك لأن
«الجواهر» مختلفة في كل حالة، ففي تمثال سان جودان، نجد الحزن
متجردًا، متماسكًا، متجلدًا، أما في قطعة كولفتس فإنه يطغى على
المحزون ويحطمه. وهكذا كان التعبير عن الجوهر مختلفًا نظرًا
إلى اختلاف التفسيرات الانفعالية للموضوع لدى كل من الفنانين،
وتباين «الأسلوب» الفني عند كل منهما، وغير ذلك من
العوامل.
ونستطيع أن نلخص مناقشتنا بتوجيه الأسئلة الآتية إلى من
يدافع عن نظرية «محاكاة الجوهر»: هل تعني أن الفن يكشف عن
الدلالة الكلية الشاملة لموضوعه، مهما كان تصوره لذلك
«الجوهر»؟ أم تعني أن هناك ذلك الجوهر الواحد فقط، للمصير
التراجيدي، أو للحزن، وهو الجوهر الذي يستطيع جميع الفنانين أن
يعرفوه و«يحاكوه»؟ إن صح الأمر الأخير، لأصبح نطاق الفن
محدودًا إلى أبعد حد.
إن جونسون ورينولدز، شأنهما شأن القرنَين السابع عشر والقرن
الثامن عشر بوجه عام، لا يقدمان إجابة متسقة عن هذه الأسئلة؛
فجونسون يعترف، في مواضع متعددة من كتاباته،
٥٠ بالتنوع غير المحدود «للطبيعة»، وهو اعتراف يستنتج
منه أن من الممكن تصوير جواهر متعددة لفئة واحدة. كما أن
رينولدز، في أحكامه على فنانين معينين، يفسح مجالًا لأعمال
فنية شديدة التنوع، ولكن الاعتقاد الغالب عليهما هو الاعتقاد
بأن «أنماط» الأشياء في العالم لها جوهر محدد المعالم. ومن هنا
كان من الواجب أن تصور الأعمال الفنية، في عمومها نفس الجوهر
إلى حد بعيد. ويقول جونسون إنه «على الرغم من أن الطبيعة
ذاتها، من وجهة النظر الفلسفية، لا ينضب معينها، فإن تأثيراتها
العامة في العين والأذن متجانسة، ولا تقبل تنوعًا شديدًا في
الوصف» (٥١) ويعتقد جونسون على وجه التحديد أن الطبيعة البشرية
هي في أساسها واحدة في جميع الأزمنة والأمكنة «فانفعالات الناس
… متجانسة».
٥١
ومع ذلك فإن طبيعة الإنسان، كما رأينا من قبل، قد فُسِّرَت،
خلال التاريخ، على أنحاء متعارضة، ولكن القرن الثامن عشر كان
ميالًا أكثر مما ينبغي إلى افتراض وجود اتفاق عام على الطبيعة
البشرية. وفضلًا عن ذلك فإن مفكري ذلك العصر كانوا يعرفون جوهر
«الإنسان» من خلال اتجاهات ثقافتهم الخاصة وقيمها. والواقع أنه
«عندما كان النقاد يشيرون إلى الطبيعة البشرية العامة، وإلى
الإنسان مجردًا، فإن كل ما كان في أذهانهم، في معظم الأحيان،
لم يكن إلا إنسان عصرهم».
٥٢ فمن الممكن تمييز هذا الإنسان باستخدام بعض
الألفاظ الرئيسية في ذلك العصر، مثل «الذوق»، و«الاستقامة»،
و«الحكم الصائب». وهو إنسان يعبر في ملبسه وحديثه وسلوكه عن
الأسلوب التقليدي لمجتمعه، ولكن ليس من العسير أن نرى كيف أن
هذا الفهم للإنسان لا يمكن أن يصدق بالنسبة إلى الثقافات
الأخرى، التي تتسم بأنها أقل بساطة واستقرارًا وتمسكًا
بالتقاليد. وبعبارة أخرى فإن «الإنسان الكلي الشامل»، في القرن
الثامن عشر لم يكن كلية شاملًا بحق، لذلك كانت هناك مفارقة
ساخرة في تحذير رينولدز القائل: «يكاد كل إنسان يكون معرضًا
لأن يحكم … على أساس التحيزات المحلية … ما لم يكن قد راضَ
عقله … على فكرة الطبيعة الأزلية الثابتة.»
٥٣ ذلك لأن عدم وجود اتفاق عام على هذه «الفكرة
الأزلية» هو بعينه ما يحتم علينا أن نلاحظ أن رينولدز ومعاصريه
لم يكونوا على الإطلاق المفكرين الوحيدين الذين خلطوا بين
اعتقادات ثقافتهم الخاصة وبين «الفكرة الأزلية الثابتة عن
الطبيعة».
•••
وما زالت أمامنا آخر الأمر مسألة واحدة ينبغي أن ننظر فيها
إذا ما شئنا أن نصل إلى فهم نقدي متوازن لنظرية «محاكاة
الجوهر».
فالمفروض أن هذه النظرية تقدم تعريفًا «للفن الجميل»، أي
أنها تحاول أن تنبئنا ما هو الفن الجميل؛ فهي ليست وصفًا بقدر
ما هي تقدير وحكم. وبدلًا من أن تصف طبيعة كل الموضوعات التي
تعد في عمومها أعمالًا للفن الجميل، نراها تستبعد كثيرًا من
هذه الموضوعات من مجال الفن. ونستطيع أن نقول، بناءً على ما
أوصلتنا إليه مناقشتنا حتى الآن، ما هي هذه الموضوعات التي
تستبعدها، فهي: (١) الأعمال
التي تتجنب «الكلي أو العام»، وتبدي بدلًا من ذلك اهتمامًا
وثيقًا بالسمات الجزئية للموضوع، (٢) والأعمال التي تخالف
«الطبيعة العامة» كما كانت هذه الأخيرة تُفهم في القرن الثامن
عشر، عن طريق تصوير ما هو غير مألوف غريب، شاذ، بل ما هو
مَرَضي.
ويلخص جونسون في عبارة مشهورة رفضه للفئة الأولى، فيقول: «إن
مهمة الشاعر هي أن يبحث في النوع لا في الفرد، وأن يلاحظ
السمات العامة والمظاهر الكبرى، فهو لا يحصي الخطوط اللونية في
زهرة، أو يصف مختلف الظلال في أدغال الغابة.»
٥٤ ومع ذلك فإن عددًا كبيرًا من الشعراء والمصورين قد
رأوا أن «مهمتهم» هي أن يتغلغلوا فيما هو فريد في الشخص أو
الحادث الذي يصورونه. وقد انتقد رينولدز أحد أمثلة هذا النوع
من الفن انتقادًا مريرًا، وكان ذلك هو لوحات رمبرانت، فهو يكتب
عن هذا الفنان قائلًا إنه قدم «تمثيلًا دقيقًا للأشياء
الفردية»، ولكن «هذه الجزئيات لا يمكن أن تكون هي الطبيعة، إذ
كيف يمكن أن تكون تلك التي لا يتماثل فيها فردان طبيعة للإنسان؟»
٥٥ ولا يوضح رينولدز إن كانت هذه الأعمال فنًّا
رديئًا، أم أنها ليست فنًّا على الإطلاق، بسبب «جزئيتها».
والواقع أنه إذا عرف «الفن» بأنه «محاكاة للجوهر أو الطبيعة
العامة»، وإذا كان وصف رينولدز لأعمال رمبرانت دقيقًا، فلا بد
أن الرأي الثاني هو الصحيح — أي أن هذه الصور ليست «فنًّا
جميلًا» على الإطلاق. فإذا بدت هذه النتيجة متطرفة أكثر مما
ينبغي، فلا بد من التخلي عن نظرية «الجوهر» بوصفها نظرية كاملة
عن الفن الجميل. أما إذا كانت النظرية ترى أن لوحات رمبرانت
موضوعات فنية، ولكن قيمتها ضئيلة، فإن النظرية تكون متعارضة مع
إجماع الرأي النقدي، الذي يعزو لهذه الأعمال العظيمة قيمة
كبرى.
والحق أن هناك بالفعل أعمالًا كثيرة لا يسهل وصفها من خلال
لغة «الجواهر» أو «الكليات». فلوحة رنوار المشهورة «فتاة
بصفيحة الماء» تصور هذه الفتاة الصغيرة الجميلة بعينها، في
ردائها الأزرق والأبيض، والشريط في شعرها. وهذه اللوحة عمل
ساحر يشيع الإعجاب به بين الناس، غير أن من الصعب أن نرى ما هو
«الجوهر» الذي «يحاكيه». ويبدو أن نظرية رينولدز تمثل هجومًا
على هذا النوع من الفن، لصالح الفن الذي يتناول موضوعات «كلية شاملة».
٥٦ ولكن، على الرغم من أن نظرية «الماهية» تلقي ضوءًا
على هذا النوع الأخير من الفن؛ كالتراجيديا، فإنها لا تنتظم
الفن كله.
أما الأعمال الفنية التي تنتمي إلى الفئة (٢) المذكورة من
قبل، فتستبعدها نظرية «الجوهر» لأن هذه الأخيرة تؤكد أن ما هو
تقليدي مألوف في التجربة هو وحده الموضوع «الملائم» للفن، ومع
ذلك فإن عدد هائلًا من الموضوعات التي يشيع النظر إليها على
أنها «أعمال فنية»، تصور ما هو شاذ غير مألوف، بل إنها تؤدي
إلى إثارتنا لهذا السبب عينه، فبعض أشعار كولريدج، وكثير من
الأعمال الفنية السيريالية، وقدر كبير من الأعمال الأدبية
والدرامية القريبة العهد، التي تبحث فيما هو شاذ، تعد أمثلة
لهذا الفن. وهنا أيضًا يتعين على نظرية «الجوهر» أن تقرر إن
كانت هذه الأعمال رديئة، أو ليست «أعمالًا فنية» على الإطلاق،
وهنا أيضًا تصادف النظرية صعوبات خطيرة، أيًّا كان القرار الذي
تنتهي إليه. وفضلًا عن ذلك فإن ما يعده مفكرو القرن الثامن عشر
«تقليديًّا» في التجربة البشرية هو إلى حد بعيد ما كان
تقليديًّا مألوفًا في تجربة عصرهم، كما رأينا من قبل. وقد صور
سانتسبري هذا الموقف بصورة ساخرة فقال: «إن ملك سيام الأسطوري،
لو كان قد ألف «فنًّا للشعر»، لقال على النحو ذاته: اتبعوا
الطبيعة، ولا تتحدثوا عن أمور غير طبيعية كالثلج والجليد.»
٥٧
•••
فلنُجمِل الآن النتائج
التي وصلنا إليها بشأن نظرية «محاكاة الجوهر». هذه النظرية
تظهر بوضوح عيوب، نظرية «المحاكاة البسيطة»، إذ تبين أن عمل
الفنان خلاق إلى حد يفوق بكثير مجرد «النسخ». فعليه أن ينتقي
من حوادث التجربة المألوفة ويضفي عليها دلالة. وفضلًا عن ذلك
فهناك أعمال فنية كثيرة، ضمنها بعض من أعظم هذه الأعمال،
نستطيع أن نقول عنها — ونقول بالفعل — إنها «تنفذ إلى جوهر كذا
…» ومع ذلك فقد رأينا أن هذه الطريقة في الكلام يشوبها الغموض؛
إذ إن هناك في مجال الفن عددًا كبيرًا من «الجواهر المختلفة»،
في حالة المصير التراجيدي مثلًا. وفضلًا عن ذلك فإن «محاكاة
الجوهر» ليست تعريفًا كافيًا «للفن الجميل» بأسره، وليست في
ذاتها شرطًا كافيًا للقيمة الفنية.
(٣) محاكاة «المثل الأعلى»
تذهب هذه النظرية، شأنها شأن نظرية «الجوهر»، إلى أن الفنان
لا «يحاكي» بلا تمييز، بل يقتصر على محاكاة موضوعات معينة
فحسب. وقد عبر الدكتور جونسون عن هذه النظرية إذ قال: «يقول
الناس، عن حق، إن أعظم مزايا الفن هي محاكاة الطبيعة، ولكن من
الضروري تمييز جوانب الطبيعة التي هي «أليق» بالمحاكاة.»
٥٨
ويعني جونسون بالموضوع «اللائق»، ذلك الذي يعد «مهذبًا» من
الناحية الأخلاقية، وما يستحق المدح والاستحسان. فلا بد أن
يصور الكاتب والمصور حوادث هي في ذاتها جديرة بالثناء، كقصة
كلاسيكية من قصص البطولة مثلًا، أو ينبغي عليه أن «يضفي صبغة
مثالية» على الموضوع المنتمي إلى «الحياة الواقعية» وذلك إذ
ينقيه من شوائبه الأخلاقية. ويُعرَف هذا المذهب في القرنين
السابع عشر والثامن عشر باسم مذهب «الطبيعة الجميلة
La belle nature». ولا
يقول هذا المذهب بإضفاء الصبغة المثالية من الناحية الأخلاقية
فحسب، بل من الناحية الجمالية أيضًا. ومع ذلك فسوف نبحث، في
الجزء التالي، محاكاة المثل الأعلى «الأخلاقي» فحسب.
وليس من الممكن الجمع بطريقة منسقة بين نظرية «الجوهر»
ونظرية «المثل الأعلى» ما لم يتخذ المرء مسلمات معينة، هي أن
ماهية الإنسان والطبيعة خيرة من الوجهة الأخلاقية على الدوام …
ولو لم يسلم بذلك، لما كانت هاتان النظريتان متفقَتَين دائمًا
على تحديد الموضوعات التي تعد «أعمالًا من الفن الجميل»؛ ذلك
لأن العمل قد يصور جوهرًا شريرًا أو محايدًا أخلاقيًّا، أو قد
ينطوي، من الناحية الأخرى، على مثل أخلاقي أعلى لا يتمثل في
الطبيعة على نحو شامل. ومع ذلك فإن الدكتور جونسون لا يتخذ هذه
المسلمة المتفائلة، فهو يقول: «إن الحالة الحقيقية الطبيعة
الأرضية … تجمع بين الخير والشر، والفرح والألم، وذلك بنسب
متفاوتة تفاوتًا لا حدَّ له.»
٥٩ كما يقول «إن المسرحية التي يربح فيها الشرير
ويخسر الفاضل … هي تصوير دقيق للحوادث المعتادة في الحياة البشرية».
٦٠ ومع ذلك فإن جونسون يؤكد أن المسرحية ينبغي أن
تصور دائمًا انتصار الفضيلة. وها هي ذي الفقرة المشهورة التي
يُنحى فيها باللائمة على شيكسبير لخروجه عن «اللياقة الشعرية»،
أي عن المذهب القائل بوجوب تصوير الشخص الخير بأنه سعيد،
والشرير بأنه شقي: «إن شيكسبير يضحي بالفضيلة من أجل الإرضاء،
وهو يحرص على أن يسر الناس بدلًا من أن يعلمهم، إلى حد يبدو
معه كأنه يكتب دون أي هدف أخلاقي … فهو لا يوزع الخير أو الشر
توزيع عادلًا … وهو ينقل شخصياته، بطريقة غير مكترثة، عبر
الخير والشر، ويصرفها في النهاية دون مزيد من الاهتمام».
٦١
وهكذا فإن الفنان ينبغي أن يحرص على الانتقاء، لا من حيث إنه
يتجاهل «الخطوط اللونية للزهرة» في سبيل «السمات العامة» فحسب
(وهو ما يفرق بين نظريتَي «المحاكاة البسيطة» و«محاكاة
الجوهر») بل إن عليه أيضًا، إذا دعا الأمر، أن يتجاهل «الحوادث
العادية للحياة البشرية» أو يزيفها باسم الأخلاق. ولما كان
جونسون لا يرى أن العالم «خيِّر» في أساسه، فإن نظريته،
المثالية، تتميز تمامًا عن نظرية «الجوهر».
وهنا نجد أن التمييز بين نظرية تؤكد ما يكون عليه الفن،
ونظرية أخرى تعرض ما ينبغي أن يكون عليه الفن، قد أصبح أعظم
ضرورة مما كان من قبل؛ ذلك لأن من الواضح أن نظرية المثل
الأعلى هي من النوع الأخير؛ فجونسون ورينولدز لا ينكران أبدًا
أن الأعمال التي تلجأ إلى موضوعات مستقبَحة أو ضارة هي أعمال
فنية، ولكنهما يعربان عن اقتناعهما بأن أمثال هذه الأعمال
ينبغي أن تكون أقل من الجودة الكاملة. وبعبارة أخرى فإن نظرية
«المثل الأعلى» تضع معيارًا لقيمة الفن.
فلماذا إذن كان الفن، تبعًا لنظرية «المثل الأعلى»، ذا قيمة
عندما يصور موضوعات «لائقة»؟ أيرجع ذلك إلى أن أخلاقية العمل
تزيد من «تأثيره السار في النفس»
٦٢ خلال تجربة الإدراك الجمالي؟ أم أن التهذيب الذي
يتسم به العمل أمر له قيمته لأنه يقوِّي المشاعر والسمات
الفاضلة في الجمهور، وبذلك يجعلهم أفضل في حياتهم اليومية؟
ولنتساءل بعبارة أخرى: هل تعد «محاكاة المثل الأعلى» جزءًا من
القيمة الكامنة للعمل، عندما يُدرك جماليًّا، أم أنها ذات قيمة
أداتية
instrumental ترجع إلى
ما تحققه من نتائج مفيدة؟
لا يقدم جونسون إجابة قاطعة عن هذه الأسئلة. غير أن من
الواضح أنه حساس إلى أبعد حد للتأثير الأخلاقي للأدب في
القارئ؛ فهو يؤكد أن الشرط الأول، في جميع مجالات الحياة، هو
«المعرفة الدينية والأخلاقية بالصواب والخطأ … فنحن دعاة
أخلاقيون على الدوام».
٦٣ ومن هنا فإن «واجب الكاتب دائمًا هو أن يجعل
العالم أفضل».
٦٤ وهو يواصل كلامه قائلًا: «وعلى ذلك فمن الواجب
ألَّا يُقرأ في المدارس إلا الكُتَّاب الذين يقدمون أكبر قدر
من قواعد الفطنة ومبادئ الحقيقة الأخلاقية.»
٦٥ ومع ذلك فإن جونسون على الرغم من هذه الفقرات، لا
يدافع عن الأدب «الإرشادي»، أي الأدب الذي يقدم «وعظًا»
للقارئ، والذي يحاول بطريقة واضحة أن يبث «مبادئ الأخلاقية»
على حساب تقديم المتعة الجمالية؛ فهو يعتقد أن «غاية الشعر هي
التوجيه من خلال الإمتاع».
٦٦ ومع ذلك فإن الفن لا يمكنه أن «يمتع» إلا إذا كان
أخلاقيًّا.
فلنختبر مدى صحة هذا الرأي.
٦٧ ولنتساءل إن كانت هناك بالفعل أية أعمال تمتع على
الرغم من أن موضوعها غير «أخلاقي»، أو أن طريقة معالجتها
للموضوع غير أخلاقية. في رأي الدكتور جونسون أن العمل، لكي
يكون «أخلاقيًّا»، ينبغي أن يصور «اللياقة الشعرية». ومن
الأمثلة الواضحة لأعمال لا تفعل ذلك، ويوجه إليها جونسون
انتقاده، تراجيديات شيكسبير. وتبعًا لهذا المعيار فإن «الملك
لير» تخفق في هذا الصدد إخفاقًا ذريعًا. ومع ذلك فإن «لير»
تُعَد عادةً واحدة من أعظم التراجيديات الرفيعة، بل تُعَد
عملًا من أروع الأعمال الفنية.
إن جونسون ذاته يردد القول إن مسرحيات شيكسبير مقنعة وقابلة
للتصديق إلى حد بعيد؛ فهو يقول إن الشخصيات في هذه المسرحيات
«تسلك وتتحدث على النحو الذي يعتقد القارئ أنه هو ذاته كان
خليقًا بأن يسلك أو يتحدث عليه في المناسبة نفسها.»
٦٨ ولقد كانت مسرحية «لير» هي ذاتها التي وصفها
جونسون، في الفقرة المقتبسة من قبل، بأنها «تصوير دقيق للأحداث
المألوفة في الحياة البشرية». وهو يقول أيضًا إن شيكسبير
«يستحوذ بقوة» على ذهن القارئ، ولكن إذا كانت الشخصيات
والحوادث في «لير» مقنعة، حية، درامية، فهل يكون من حقنا أن
نطالبها بضرورة تحقيق الانتصار للفضيلة؟ إننا لو شئنا أن نقرأ
العمل جماليًّا، فلا بد لنا أن نقرأه «بتعاطف»، أي أن نلاقيه
على أرضه الخاصة وبشروطه الخاصة، ثم نرى إن كان عملًا فنيًّا
موحدًا مؤثرًا، وقد تكون طريقة وصفه للتجربة البشرية مختلفة عن
طريقتنا الخاصة، ولكن إذا كان مقنعًا ومؤثرًا من الوجهة
الجمالية، «فلا بد لنا من قبوله»، كما يقول أرسطو. ولو لم نكن
نقرأ الأدب بمثل هذه الطريقة «المتعاطفة» فكيف كنا نتمكن من
قراءة أعمال شديدة التباين كأعمال اليونانيين ودانتي وشيكسبير
وتوماس هاردي وسارتر، والاستمتاع بها؟ لو كان جونسون قد انتقد
«لير» لأن الشخصيات فيها غير معقولة، أو لأن المسرحية ذاتها
مفككة، لكان انتقاده قائمًا على أسس جمالية، ولكن، ألسنا نرى
أنه ينتقدها لأسباب خارجة عن الموضوع، عندما يشكو من أن
كوردليا الوفية المُحِبة تموت في النهاية؟
كذلك نستطيع أن نجد في مجال الفنون البصرية أعمالًا قيمة من
الوجهة الجمالية وإن لم تكن «تحاكي المثل الأعلى». ومن الأمثلة
ذات الدلالة في هذا الصدد، المصور والنحات هوجارث
Hogarth، فقد كان هوجارث
معاصرًا لرينولدز، وكان في فنه وفي تفكيره النظري يسخر من
«الأسلوب الفخم» الذي يدعو إليه رينولدز. وكان الكثير من
أعماله، كما قد يعرف القارئ، يصور الفساد والانحلال بين أناس
منفرين إلى أقصى حد. ومع ذلك فقد لقيت أعماله تقديرًا رفيعًا
لما فيها من حيوية وروح متوثبة (انظر اللوحة رقم ١٦). وقد
اعترف رينولدز بأن هوجارث أبْدَى «عبقرية» في تصويره «لموضوعات
منحطة وضيعة» غير أن رينولدز يرى أن الثناء الذي نوجهه إليه
ينبغي أن يكون محدودًا، شأنه شأن موضوعه»،
٦٩ أي أنه لما كان هوجارث يصور موضوعات ذات مستوًى
منحط، فلا بد أن يكون عمله أدنى مرتبة بالضرورة.
•••
وهكذا فإن رينولدز، على الرغم من اعترافه بمقدرة الفنان،
يميل إلى تقدير عمله على أساس الموضوع الذي يصوره هذا العمل
أساسًا. وعندما تحكم نظرية «المثل الأعلى» على العمل من خلال
موضوعه فحسب، فإنها تقع في الخطأ الذي أشرنا إليه من قبل،
٧٠ إذ تحكم على العمل الفني بأكمله من خلال عنصر واحد
من عناصره. وقد ارتكب الناقد فيليبيان
Félibien (١٦٦٦م)، الذي
ينتمي إلى العصر الكلاسيكي الجديد، هذا الخطأ؛ إذ وضع «ترتيبًا
تنازليًّا» بين الموضوعات، «فلما كانت هيئة الإنسان أفضل عمل
أنجزه الله، فإن من يصور الإنسان هو أعظم المصورين، ويلي ذلك
من يصوِّر الحيوانات الحية بدلًا من الأشياء الميتة التي لا
تتحرك، ثم مَن يصور الطبيعة، وأخيرًا الأزهار والثمار».
٧١
غير أن الموضوع وحده لا يمكن أن يحدد قيمة العمل. فمن المؤكد
أن إحدى لوحات سيزان التي تصور «الأزهار والثمار»، وأعني بها
«الزهرية الزرقاء»، أرفع بكثير من عدد كبير من الصور الشخصية.
ومن الناحية الأخرى فإن العمل التصويري أو الأدبي الذي يمثل
موضوعًا رفيعًا أو مفيدًا من الوجهة الأخلاقية، قد يكون تافهًا
أو مدعيًا أو مبالغًا. وهذا يصدق على قدر كبير من الفن
«الإرشادي». فلا بد أن يعالج الفنان موضوعه على نحو من شأنه أن
يتسم العمل الكامل بالحيوية والقوة. وعلى ذلك فإن نظرية «المثل
الأعلى» غير كافية حتى بوصفها نظرية في القيمة الفنية، إذا
كانت تركز اهتمامها على أخلافية الموضوع وحدها، فلا بد أن نعمل
حسابًا لكل العناصر الأخرى التي تؤلف العمل الفني في صورته
العينية.
هذا النقص في نظرية «المثل الأعلى» يتجلى في جميع صور نظرية
«المحاكاة»؛ ذلك لأن أية نظرية ترى أن المحاكاة «أساسية»، تركز
اهتمامها على ما يقع خارج نطاق العمل الفني، أي على «ما ي
يُحاكَى». وقد يكون هذا «الأنموذج» هو «التجربة المعتادة»، أو
«الماهيات»، أو «المثل الأعلى». وعلى ذلك فإن هذه النظرية تركز
الانتباه على التصوير الفني لهذا الأنموذج. غير أننا لا نستطيع
أن نفهم العمل الفني إلا إذا أخذنا في اعتبارنا جاذبيته
الحسية، وارتباطاته التخيلية، وبنيانه الشكلي، وعوامل كثيرة
أخرى، لا موضوعه فحسب. وهذه العوامل الأخرى ليست مجرد زخرف
يضاف إلى الموضوع؛ إذ إن كل هذه العناصر معًا تندمج في تلك
الوحدة التي هي العمل الفني؛ فما يهمنا في التجربة الفنية هو
العمل الفني الكامل، ومن ثَم فإن هذا العمل الكامل هو ما ينبغي
أن نأخذه بعين الاعتبار عند إيضاحنا لقيمة الفن.
•••
لقد ظلت نظريات «المحاكاة» تحتفظ بمكانها في أذهان الناس
لأنها تذكرنا بما هو واضح جلي — ألا وهو أن الفن يستفيد من
التجربة الإنسانية ويحاول تصويرها وإيضاحها. وهذا يصدُق بوجه
خاص على نظرية «محاكاة الجوهر». ولو اعترفنا بالارتباط بين
الفن والحياة، لحكمنا عليه من خلال «مشابهته للواقع» (نظرية
المحاكاة البسيطة) أو شموله (نظرية «الجوهر») أو أخلاقيته
(نظرية «المثل الأعلى») ومن جهة أخرى ينبغي أن نعترف، كما فعل
أرسطو، بأن للعمل الفني حياة خاصة به. فعندما نتذوق العمل
جماليًّا، نكون معنيين بالعمل ذاته. ولو شئنا أن نوفي أهميته
الباطنة حقها، لحكمنا عليه على أساس وحدته الكامنة وحيويته
وفعاليته. وهذا التوتر بين الحياة، وبين «الفن» هو عصب نظريات
«المحاكاة» جميعًا.
وأخيرًا فقد رأينا أن هذه الأشكال الثلاثة لنظرية «المحاكاة»
تقصر كلها في ناحية أخرى؛ فهي لا تصف بدقة كل الأعمال الفنية.
ومن هنا فإنها لا تستطيع تقديم أساس سليم للنقد الفني؛ ذلك لأن
هناك أعمالًا فنية كثيرة لا يمكن أن توصف بأنها «تحاكي التجربة
المعتادة»، وأخرى كثيرة لا تعد تجسيدًا «للجوهر»، وغيرها لا
«تحاكي المثل الأعلى»، بل إن هناك أعمالًا فنية كثيرة لا يمكن
تمييزها على أساس أية نظرية من هذه النظريات؛ فالأعمال الفنية
تبلغ من التنوع والتعقد حدة تخرج معه عن نطاق تعريفات نظرية
«المحاكاة». وإذن، فهذه النظرية تقدم إلينا بعض الحقائق عن بعض
الأعمال الفنية، ولكنها لا تقدم إلينا الحقيقة الكاملة عن كل
هذه الأعمال.
المراجع
(⋆) أرسطو: كتاب
الشعر.
(⋆) جونسون، صمويل:
مقدمة لكتاب «شيكسبير».
Johnson, Samuel, “Preface to
Shakespeare”.
(⋆) رينولدز، جوشوا:
المقالات.
Reynolds, Joshua, The
Discourses.
فيتس: مشكلات في علم الجمال، ص٥–٤٩.
بوتشر، س. ﻫ: نظرية أرسطو في الشعر والفن الجميل، الفصول
١–٣.
Butcher, S. H., Aristotle’s
Theory of Poetry and Fine Art, 3rd ed., London,
Macmillan, 1902.
جيلبرت، كاترين: «المحاكاة الجمالية والمحاكون الجماليون عند
أرسطو» مقال في «المجلة الفلسفية». العدد ٤٥ (نوفمبر ١٩٣٩م،
٥٥٨–٥٧٣).
Gilbert, Katherine E., “Aesthetic
Imitation and Imitators in Aristotle, “Philosophical
Review, vol. XLV (Nov., 1936).
لفجوي، آرثر: «الطبيعة بوصفها معيارًا جماليًّا» (مقال في
«مذكرات لغوية حديثة»، المجلد ٤٢؛ نوفمبر ١٩٢٧م)،
ص٤٤٤–٤٥٠.
Lovejoy, Arthur O., “Nature as
Aesthetic Norm,” Modern Language Notes, vol. XIII (Nov.,
1927).
ماكيون، رتشارد: «النقد الأدبي ومفهوم المحاكاة في العصر
القديم» مقال في مجلة «فقه اللغة الحديث،» العدد ٣٤ (أغسطس
١٩٣٩م)، ص١–٣٥.
McKeon, Richard, “Literary
Criticism and the Concept of Imitation in Antiquity,”
Modern Philology, vol. XXXIV.
أزبورن: «علم الجمال والنقد»، الفصل الثالث.
Osborne, Aesthetics and
Criticism.
بيبر: «أساس النقد في الفنون». الفصل الخامس.
Pepper, The Basis of Critictism
in the Arts.
ويليك، رنيه: «تاريخ النقد الحديث». المجلد الأول، الفصلان
١، ٥.
Wellek, Pené, A Hist. of Modern
Criticism, Yale U.P., 1955. vol.
I.