نحن وقضايا الفكر في عصرنا

١

إنَّني لأقول قولًا مَكرورًا مُعادًا، إذا أخذتُ أتَتبَّع الملامح الرئيسية التي تجعل من هذا العصر عصرًا فكريًّا مُتميِّزًا من سواه، فمن ذا يُريدُني لأنبِّئه أنَّ من ملامح عصرنا، هذه القوة النووية الجبارة، التي فُكَّتْ من عِقالها، ولا يَعلَمُ إلَّا الله، والعُلماء، أين عساها أن تتَّجِهَ بنا في طريق سيرها؟ ومن ذا يُريدني لأُنبِّئه أنْ قد كُتِبَت السيادة في عصرنا للعلم، وما يتفرع عن العِلم من آلاتٍ وتقنيات؟ أو لِأنَبِّئه بأن التفجُّر السُّكاني الرهيب قد أصبح علامة مُميزة، ففي الوقت الذي تُهدِّدنا فيه القوة الذَّرِّيَّة بأن تمحو البَشَر مَحوًا، يَجيء هذا التفجُّر البشريُّ ليكون لها أبلَغَ جواب؛ أو مَن ذا يُريدني لِأُنَبِّئه عمَّا يُميِّز عصرنا من ثَوراتٍ تلاحقَتْ فأيقظتْ قارَّتَين جبَّارتَين: آسيا وأفريقيا؟ لقد أوشكت الثورات في يومِنا أن تَحُلَّ مَحلَّ الحروب بالأمس، وبينَ البديلين فارق فسيح؛ فالثورات تنهض بها شعوب، وأما الحروب فيغلِب أن يَشُنَّها ساسةٌ وحكَّام؛ الثورات لا تكون إلا من أجل حرية، أو مزيدٍ منها، وأما الحروب فما أكثرَ ما نشبَتْ لتطمس حُرية أو لتحدَّ منها. فلئن كان عصرُنا هذا ما ينفكُّ جاهدًا في مُقاومة الحروب، فهو كذلك عصر لا يَدَّخِر وُسعًا في إثارة الشعوب المظلومة على ظالميها؛ إنه عصر ثورات؛ نعم، لقد سبقَتْها في التاريخ ثَورات مشهودة، كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية في أواخِر القرن الثامن عشر، لكن الثورة إذا قِيستْ بعددِ من يتأثَّرون بها، وبِعُمق ذلك الأثَرِ ومداه، فإن ثَورات الأمس لا تُقاس بثَوْرات اليوم عُمقًا واتِّساعًا.

٢

لكنَّني لا أتحدَّث هذا الحديث، لأتقصَّى به ملامح العصر وسِماتِه، فليس ذلك موضوعنا؛ إذ السؤال هو عن الفكر وقضاياه، التي قد تكون تلك الملامح والسِّمات مصدرها. وإنه ليَجمُل بنا أن نُحاول عرض هذه القضايا الفكرية، كما نعيشها نحن ونحياها، لا كما نقرؤها في الكُتب نقلًا عن سِوانا، وإنْ يكن بيننا وبين سوانا — ونحن أبناء عصر واحد — من وشائج الصِّلة، ما يُوحِّدنا جميعًا في مُشكلات بعَينِها، تتَّفِق مع سِحْنَتِها، ثُم تختلف في لونِ بشرتِها من إقليمٍ لإقليم.

وما قضايا الفِكر هذه، إلَّا أسئلة مُلقاة عَلينا، تتطلَّبُ منَّا جوابًا، ولم نَستقرَّ لها بعدُ على جواب؛ أما ما قد استقرَّ عليه الجواب فليس هو بالقضية المُثارة، فمثلًا، قد استقرَّ الجواب على أنَّ حقيقة الإنسان، وحقيقة العالم كله، تَطوُّرية لا سُكونية، فهي في صيرورة دائمة، فلم يَعُد أحد يسأل، بل لم يَعُدْ يجوز لأحدٍ أن يسأل إذا كان التطوُّر حقيقة قائمة أو لم يكن، إنما الأسئلة المشروعة في هذا المجال، هي أسئلة عن صورة ذلك التطوُّر وخصائصه ماذا عساها أن تكون؟ أهي تسلسل في منطق الفكر كما يقول هيجل؟ أم هي تَسلسُل في الطبيعة كما يقول ماركس؟ … أهي حركة تشمل العالم والإنسان كما يقول هيجل وماركس معًا؟ أم هي حركة مقصورة على الإنسان وحدَه كما يقول سارت؟

تلك وأشباهها هي الأسئلة المشروعة في هذا المجال، لا التَّطوُّر من حيث هو كذلك.

فما أهمُّ القضايا التي تُثار اليوم، وما تزال تنتظِر مِنَّا الجواب؟ أولها — فيما أرى — وأهمُّها وأعَمُّها، قضية تسأل عن أيهما تكون له الأولوية في اعتبارنا: العلم أم الحياة؟ العقل أم الوجدان والحدْس؟ الحقائق العامة المُجرَّدة أم الخبرة الخاصة المباشرة؟ لقد انقسم الفكر — في عصرنا — حيالَ ذلك قِسمين: أحدهما استقبل العلوم الطبيعية، وما انتهت إليه من تطوير للحياة، تطويرًا جعل للآلة وللتقنيات مكانة الصدارة. أقول إن أحدَهما قد استقبل هذه العلوم ومُقتضيَاتها بالقَبول والرِّضا، وكرَّس جُهودَه لخِدمتِها ولدَفعِها إلى الأمام ما استطاع إلى هذا الدَّفْع من سبيل، وأمَّا الآخَر فقد ازوَّرَ عنها وأشاح بوجهه رافضًا، خوفًا على ذات نفسه من الضَّياع. وإن العالم لتقسمه هاتان النَّزعتان، اللَّتان هُما في الحقيقة وليدَتا أُمٍّ واحدة، لكنهما — كقابيل وهابيل — اختلفا هدفًا ومسلكًا. وفي وُسعنا أن نقول — على وجه الإجمال — إن أمريكا والشمال الغربي من أوروبا وكذلك شرقيها قد انصرفتْ إلى النزعة العلمية عن طواعية، على حين اتَّخذَتْ فرنسا وجاراتها موقف الاحتجاج والرفض، وأما نحن فقد تجاورَتْ عندَنا النَّزعتان، تتنازعان حينًا، وتتكاملان حينًا آخر.

إن قصَّة النزاع بين العقل وغير العقل من جوانب الإنسان، قديمة قِدَم التاريخ، فآنًا هو نزاع بين العقل التقاليد، كما حدَث لسُقراط وآنًا آخر هو نزاع بين العقل والتصوُّف، كما حدَث في احتجاج الغزالي على الفلاسفة، وآنًا ثالثًا هو نزاع بين العقل والوجدان، كما حدَث بين فولتير وروسُّو، وآنًا رابعًا هو نزاع بين العقل والدين، كما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي بصفةٍ خاصَّة. ولم تكن هذه هي كُلُّ ألوان الصراع بين العقل وغيره من جوانب الإنسان، وكأنما هذا العقل عدوٌّ للفطرة البشرية، وليس جُزءًا منها، كأنَّهُ مفستو فوليس أقحَمَ نفسه في حياة فاوست ليُضِلَّها ويُفسِدها. ومهما يكن من أمر، فقد ظهر في أيامنا صراع جديد، هو بين العقل وخِبرة الإنسان الباطنية المُباشرة، أو قُلْ — إن شئت — بين العقل والحياة، بين العام والخاص، بين الكلِّ والجُزء، بين الجماعة والفرد.

لقد شهد العالم — وما يزال يَشْهَد — سيطرة للعِلم تزدادُ قبضتُها على الخناق، وإذا قُلنا العلم، فقد قُلنا العقل، مِمَّا أخذ يُغرينا أن نُسلم الزمام للبحوث العلمية وما تنتهي إليه من نتائج. مهما يكن أمر تلك النتائج؛ فالكلمة لأنابيب المَعامل وقوائم الإحصاء، وعلينا أن نسمع ونُطيع، فكان من الطبيعي أن تنشأ فلسفة لتُواجِه هذا الوَثَن الجديد، لِتَصيح في وجهه قائلة: لا، إنه إذا كان العقل أداةً صالِحة للتحليل والتَّعليل، فما يزال الإنسان أغزَرَ من أن تُحيط أحكام العقل وتحليلاته بكلِّ ما في أعماقه وأغواره، إنَّ قصارى العقل أن يَقيس نتيجة إلى مُقدِّمات، بحيث يتنبَّأ بأنَّ كذا سيحدُث إذا توافَر كيت، لكنَّهُ عاجز عن رؤية اللحظة الراهنة في تيَّار الوعي، مع أنَّ هذا التَّيار الباطني هو نفسه الحياة في سيالها الدافِق، وكانت الوجودية هي هذه الفلسفة التي جاءت لتُعلن هذا التمرُّد الرافض.

على أنَّ الوثن المعبود لم يَتَّخِذ في عالم الفلسفة صورةً واحدة، بل ظهر بادئ الأمر على الصورة الهيجلية، التي جعلت من العقل كائنًا مُطلقًا لا تحدُّه حدود، يسع في جوفه كلَّ شيء، فما الفرد الواحد فيه، إلا لحظة عابرة من لحظاته، كأنما هذا الفرد حرْف في قصيدة كبرى، لا يعنى شيئًا إذا انعزل وحدَه، وكلُّ معناه مُنحصِر في موضعه من سياق القصيدة، إنه ليس كيونس ابتلعَهُ الحوت في جوفه، لأن يُونس مآله الخروج من المِحنة إلى حيث ينفرِد بشخصه من جديد، بل هو أقربُ إلى الخلية الواحدة في الكيان العضوي الكبير.

ثمَّ اتَّخَذ هذا الوثَن المعبود لنفسه صورة أخرى، قلبتْ سالِفَتَها رأسًا على عَقِبَين، فقد كان الصَّنَم في الحالة الأولى مُستندًا على رأسه، والقدمان إلى أعلي — والرأس هنا رمز للفِكر، والقدَمان رمْز للأرض وما تضطرِب به من أوجه النشاط في ميادين الزراعة والصناعة — أقول إن الصورة الجديدة جاءت لتُقيم الوَثَن مُعتدلًا على قدميه، والرأس إلى أعلى، لتجعل أرض الواقع — هذه المرة — هي مَنبَت الفكر، وتلك هي الماركسية التي قرأتْ حقيقة الوجود بلمسات الأصابع كالمكفوف يقرأ بطريقة بريل، بعد أن كان يقرؤها هيجل على لَوح داخل رأسه، والعين مُغمضة والأذن صمَّاء، فمن ذا يلوم المُتمرد؟ والمُتمرِّد هنا هو المُفكر الوجودي، إذا ثار على الوثن، سواء على رأسه وقف، أم وقف على قدَمَيه؟ وإني لأقول ذلك راجيًا أن أكون مُنزَّها عن الهوى، لأنَّني في عالم الفلسفة لا إلى أولئك أنتمي ولا إلى هؤلاء.

ونحن، ما شأنُنا بهذا كله؟ لقد ألقتْ هذه المشكلة بظلالها فوق أرضنا، فانقسمنا بدورنا إزاءها شُعَبًا، لكن هذه المُشكلة في موطِنِها الأصلي مُرتبطة هناك بظروفها التي ولدتْها، وأمَّا عندنا فالصلة مَبتورة — أو هي كالمبتورة — بينها وبين تيَّار الواقع الحي. فإذا كانوا هناك قد ضاقوا بالعِلم وتقنياته، فتمرَّدوا على العقل، ولاذوا بالوعي الداخلي واستبطانه، فلأنهم شبِعوا علمًا وصناعة، حتى أخذَهم الحنين إلى حياة الانطواء المُتأمِّل. أما نحن — فعلى عكس ذلك تمامًا — طال بنا أمَدُ الانطواء والتأمُّل، حتى أصابَنا منهما الدوار، وتخلَّفْنا في العلم وفي الصناعة، تَخلُّفًا لم يكن يُبرِّره ماضينا العلمي المجيد، فلستُ في الحقِّ أغفِر لأي صوتٍ منَّا يرتفِع ليقول مع المُتمردين في الغرب: حسبُكم علمًا وكفاكم عقلًا؛ إذ نحن — بالنسبة إلى تاريخنا الحديث — ما نزال على عتبة العلم والعقل نحبو. وإنني لعلى يقينٍ — أو ما يقرُب من اليقين — أنَّ يومًا سيأتي، حين تتلاقى على أيدينا هذه الفلسفات المُتضاربة، فكما عرَف أسلافنا الأوَّلون كيف يوَفِّقون بين العقل والإيمان، بين الرأس والقلب، سنعرف نحن كيف نُوفِّق بين العلم الحديث من جهةٍ وخصوصية الحياة في الأفراد من جهةٍ أخرى، ففيمَ اختيارُنا إما هذا أو ذاك، ونحن في أمسِّ الحاجة إلى هذا وذاك معًا؟

ولنَعبُر بأنظارنا مُسرعين على حياتنا الفكرية خلال خمسين عامًا، فماذا نرى؟ نرى في أول الطريق أجنبيًّا يستعمِر أرضنا، وحاكمًا داخليًّا دخيلًا يستبدُّ بنا، نرى الفواصل حادَّةً بين أفراد الناس وطبقاتهم: بين الشَّعب والحكومة، بين الفقْر والغِنى، بين الريف والمدينة، كما نرى الهوَّةَ سحيقةً بين ثقافَتَين تتقسَّمان المجتمع، فقِسم يعيش مع القديم ولا جديد، وقِسم يعيش مع الجديد ولا قديم، قِسم يحيا حياةً تسودُها القِيَم العربية الإسلامية الخالِصة حتى لكأنَّ الغرب لم يَدُقَّ أبوابَنا بحضارته، وقِسْم آخر يحيا حياة أوروبية خالِصةً حتى لكأنَّهُ مُقيم على أرض غير الأرض العربية، وكأنه لم يرِثْ تُراثًا ثقافيًّا ضخمًا كان ينبغي أن يُميِّزه بطابعٍ خاص.

ذلك ما كان في أول الطريق، فلم تكدِ الحرب العالمية الأولى تبلُغ ختامها، حتى انطلقَتْ جهودنا الفكرية في كلِّ ميدان، تُريد شيئَين في آنٍ معًا: تُريد التَّحرُّر من القيود أولًا، ثم إقامة بناء جديد على دعامتين: ثقافة عربية أصيلة تُبتَعَث، وثقافة حديثة تُستعار، بحيث يَتلاقى العُنصران في وحدةٍ عضوية واحدة؛ وبعبارة أخرى. أردْنا أن نَضفُر خَيطَين في نسيج حياتنا: حُريَّةً وعلمًا. ولقد ركزَّ بعضنا جهوده في الحُرِّية ينشُدُها في ميادين السياسة والأدب والحياة الاجتماعية، وركز بعضُنا الآخَر جهوده في إثراء الحياة العلمية العقلية؛ لكن الطرفَين قد التَقَيا في قِلَّةٍ من القادة، أخذتْ تزداد وتَتَّسِع، حتى لنراها اليوم وقد كادت تُصبِح رُوحًا سائدة، فلا نَطلُب مزيدًا من الحُريَّة إلَّا مصحوبًا بمزيدٍ من عِلمٍ وصناعة، ولا نَزيد من العلم والصناعة إلَّا وفي أذهانِنا أنَّ ذلك هو طريقنا إلى الحُريَّة الصحيحة.

فلئن كان المَوقِف الفكري في أوربا وأمريكا يُبرِّر أن يستقلَّ فريق بفلسفةٍ للعلم، وأن يَستقِلَّ فريقٌ آخَر بفلسفة للحياة الحُرَّة، فمَوقِفُنا نحن يقتضي أن تندمج الشُّعبَتان في تيارٍ واحد، وبذلك يَنمحي الازدواج من حياتنا، فالفرد تجاه المُجتمع، يُصبح فردًّا في المجتمع؛ والمَحكوم تجاه الحاكم، يُصبِحُ محكومًا هو نفسه الحاكم؛ والعامل تجاه صاحب المال، يُصبح عاملًا هو نفسه صاحِب المال؛ والريف تجاه المدينة يُصبح ريفًا فيه وسائل المدينة، والقديم تجاه الجديد، يُصبح جديدًا قائمًا على أساس القديم.

٣

ومن القضايا الفكرية التي تتَّصِل بما كنا نتحدَّث فيه، هذه القضية ذات الأثر البعيد في مجال الأدب والفن، وهي: أنَطْوي الطبيعة في الإنسان، لنجعلها جزءًا من إدراكه، أم نسلُك الإنسان في الطبيعة لنجعله ظاهرةً من ظواهرها؟ إنَّنا نعيش في عصر يسودُه العلم، ما في ذلك أدنى رَيب، ولا تقوم للعلم قائمة ما لم يُصغِ الإنسان لما تقوله الطبيعة، والأخيرة في العلم، إنما هي للوقائع الصُّلبة العنيدة، التي تقَع في مجال البحث، ولا قيام لنظريةٍ مهما ارتفع قدرُها إذا ظهرتْ واقعة واحدة تُفنِّدها، فلسْنا نحن الذين نضَع للضوء والصوت والكهرباء قوانينها، بل لسْنا نحن الذين نضعُ للإنسان قوانِين إدراكه وشعوره وسلوكه؛ ومعنى ذلك أنه كلَّما نما العلم ودقَّت تقنياته، صغُر الإنسان وتضاءلَ دَوره، برغْم أنه هو مُشيد العلم وصانع التقنيات، ولستُ أدري إلى أيِّ حدٍّ أصاب من قال إنَّ إله القُدماء قد نزل عن مكانه لإنسان العصر الحديث، فلم يلبَثْ إنسان العصر الحديث أن نزل عن مكانه للآلة، تُمسك بزمامه وتُسيِّره.

لكن الذات الإنسانية المُتذوِّقة الحسَّاسة، قد هالَها ما صنَعه العقل حين صنع العلم والآلة، فأرادتْ أن تُعوِّض فقدَها بكسبٍ تُحرِزه في ميدان الفنِّ والأدب؛ فلئن كانت الطبيعة الخارجية قد فرضتْ نفسها علينا في مجال العِلم، فلم يبقَ إلَّا أن نفرض أنفُسنا عليها في مجال الفنِّ والأدب، بمعنى أن يُنتِج الفنان فنًّا لا يُحاكي به الطبيعة في شيء، فنًّا يُسقط فيه ذاته على موضوعه إسقاطًا كاملًا، فنًّا يَخلُقه من عنده خلقًا، حتى لينظُر إليه الناظر فلا يجِد بينَه وبين الطبيعة الخارجية شبهًا، بل يجيء إضافةً جديدة تُضاف إلى كائنات الطبيعة، وليس هو بالتكرار لها في أيَّةِ صورة من الصُّور، وبذلك استطاع الإنسان أن يقول لنفسه، وللدُّنيا الطاغية من حوله: ها أنا ذا، لم يستطِعْ أن يَمحوه من الوجود الذاتي الفردي عِلم ولا آلة، كلَّا ولم تُغرِقه موجةٌ من مَوجات الشمول الذي أراده هيجل في عالم الفكر، أو الذي أراده ماركس في عالم المادة.

لم يكن في هذه الحركة، التي أراد بها الفن أن يستقلَّ بذاته عن الطبيعة الخارجية، جديد بالنسبة إلى الموسيقى، فالموسيقى بحُكم طبيعتها لا تلتزِم أن تجيء تشكيلاتُها الصوتية مُحاكيةً لأيِّ بناء صَوتي في الطبيعة، وإنما كان الجديد في هذه الحركة مُتَّصِلًا بفنِّ التصوير وفنِّ النحت وفنِّ الشعر، فقد ألِفَ الناس أن تكون اللَّوحة الفنية صورةً لشيءٍ ما، وأن يكون التمثال المنحوت مُمثلًا كذلك لكائنٍ من الكائنات، يغلِب أن يكون كائنًا حيًّا، وأما فنُّ الشعر فقد أصابتْهُ ذبذبةٌ في تاريخه، إذ جعله النُّقَّاد آنًا تابعًا لفنِّ التصوير، وآنًا آخَر تابعًا لفنِّ الموسيقى، ففي الحالة الأولى، كانوا يُطالبون الشاعر بأن يَجيء شِعرُه «تصويرًا»، وفي الحالة الثانية، كانوا يُطالبونه بأن يَجيء شعرُه «نغمًا»، أو هُم كانوا يُطالبونه — إذا أرادوا الحَيطة — بأن يجيء شِعره تصويرًا مُنغَّمًا في آنٍ معًا. كأنما الشعر مقسوم له أن يكون أيَّ شيء إلا أن يكون شِعرًا.

فلما جاء عصرنا هذا الذي نَحياه، بكل ما شاع فيه من الضغوط على فردية الفرد، ولاذ الفرد عندئذٍ بجبلِ الفنِّ يعصمه من ذاك الضياع. استقلَّ المُصوِّر بتكويناتِهِ اللَّونية عن موضوعات الطبيعة، ووضع على لوحتِهِ ما يُحقِّق ذاته هو، لا ما يخضع به لأيِّ شيء خارجي يفرِض عليه، وكذلك فعل النحَّات في تماثيله، إذ جعل همَّهُ أن يَصوغ مادَّته على أيِّ نحوٍ شاء، مما يراه مُتناسبًا مع طبيعة تلك المادة، ولا أحسب أن المصور أو النحَّات قد ضلَّ بذلك جادَّة السبيل، إذ ليس في اللون نفسه — الذي هو وسيط فن التصوير — ما يفرض علينا استخدامًا بعينه، كلا، ولا في قطعة البرونز أو الرخام، ما يُحتِّم علينا أن تُصاغ على وجهٍ دون وجهٍ آخر، وإلى هنا والأمر مَقبول، لكن الشاعر أراد أن يلحَقَ بزميلَيه المصور والنحَّات، بأن يَرُصَّ اللفظ على أي نحوٍ شاء، وها هنا — فيما أرى — شيء من ضلال، لأنَّ مادة الشِّعر — على خلاف مادة التصوير ومادة النحت — فيها ما يُحتِّم أن يرتبِط اللفظ بمدلوله، لأنَّ كلَّ لفظةٍ هي بمثابة تعاقُد اجتماعي بين الناس على طريقة استخدامها، أو لم يكن يكفي الشاعر ليضمَن لنفسه حريته واستقلاله عن ضواغط الدنيا المُحيطة به، أن يَبني لنفسه ما شاء من قصور مَسحورة يعيش فيها، ونعيش فيها معه، شريطة أن يُحافظ لألفاظه على قوَّة التوصيل، حتى نستطيع أن نُتابِعه وهمًا بوهم، وخيالًا بخيال؟ انظر إلى فنِّ العمارة كيف جدَّد نفسه ليُلائم عصره، فبنى العمائر والمطارات والفنادق وغيرها؛ بناها مُتأثرًا بالعلم الجديد، وبالحياة الجديدة، لكن الفنان لم ينسَ قطُّ أن العمارة تُبنى لتُسكَن، وأن المطار يبنى ليَصلُح للطائرات، وهكذا ينبغي للشعر أن يُجدِّد نفسه كيف شاء على ألَّا ينسى أن مادته من لفظ، وأن اللفظ صنعه الناس ولم يصنعه الشاعر، أو قُلْ صنعه الشاعر فاستخدَمَه الناس فالتزم به الشاعر والناس جميعًا، وقد صُنِع اللفظ ليَرمُزَ أو يُشير، لا ليكون صوتًا بلا دلالة، فإلى هنا والشاعر مُقيَّد مُلتزِم، وبعد ذلك هو حُرٌّ طليق.

ويجرُّنا هذا إلى قضية الالتزام في الأدب والفن، وهي قضية يُثار حولَها الجدل، وتكثُر فيها التحليلات والشروح، على أنَّ أبسط صورة لها هي هذا السؤال: هل يكتُب الأديب لنفسه ما يُشبع هواه؟ أو هو يكتُب ليتناول موضوعًا ممَّا يُهم الناس في مشكلات حياتهم؟ وإنه ليجدُر بنا في هذا الموضع من الحديث، أن نذكُر بأن سارتر — وهو من أهمِّ من يُرجَع إليهم في موضوع الالتزام هذا — يُخرج الشعر من دائرة الالتزام التي يريدها للنثر وحده؛ ذلك أنَّ اللغة لا تؤدِّي في الشعر الدور نفسه الذي تؤدِّيه في النثر، ففي الشعر تكون اللغة مقصودة لذاتها، لا لِما تدلُّ عليه خارج حدودها؛ وأما في النثر فاللُّغة أداة بأدقِّ معاني كلمة «أداة»، هي أداة تؤدي لِسواها، وليست هي بمقصودة لذاتها، ولذلك وجَب أن يكون للنثر موضوع خارجي. فماذا يكون الموضوع الذي يتناوَلُه الكاتب إن لم يكن ماسًّا بحياة الناس ومشكلاتهم؟

هذه خُلاصة ما يقوله سارتر في كتابه «ما الأدب؟» لكن هنالك من يُريد أن يُوسِّع من التزام الأديب ليشمل الشعر أيضًا، بحيث لا ينظُم شاعر ولا يكتُب ناثر، إلا إذا أدار نظمه أو نثره حول مشكلةٍ مأخوذة من حياة المجتمع، كما أن هناك من يُضيِّق مجال الالتزام، بحيث يُلغيه بالنسبة إلى النثر وإلى الشعر معا …

هذا هو الوضع من الناحية النظرية، وأما من الناحية العملية، فإني أعتقد أن الأديب غير المُلتزِم لم تشهدْهُ الدنيا لا في قديمها ولا حديثها؛ إذ أقلُّ ما يقال في هذا الصدد، أن الأديب الحقَّ مُلتزم بالصدق، سواء كان ذلك الصدق مُتصلًا بموضوعٍ خارجي يتناوله الأديب، أو مُتصلًا بحالة شعورية داخلية. وحسبُه بالتزام الصدق التزامًا، لأنه حِمل ثقيل، لا يقوى على الاضطلاع به إلَّا الصفوة المُمتازة.

وحركة الفن الحديث مُرتبِطة بقضيةٍ أخرى من قضايا العصر، وأعني بها حركة اللامعقول في الفن والأدب، بل إنَّ عصرنا كله، بجميع اتجاهاته ونزعاته ليُوسَم باللامعقولية هذه، تمييزًا له من أعصُرٍ سلفَت، كان العقل رائدها. لكن ماذا نعني بالعقل، حين نصِف به عصرًا ولا نصِف به عصرًا آخر؟ الحقُّ أن تعريف الأشياء والأفكار هو من أشدِّ الأمور عُسرًا، حتى حين تكون مألوفة مُتداولة، فما بالك إذا أريد لنا أن نعرف مفهومًا هو في ذاته مُتشعِّب الحَنايا كمفهوم «العقل»، فما أيسَرَ أن تسوق هذه الكلمة في الحديث، حتى إذا ما وقفتَ عندها تطلُب لها تحديدًا، ألفيتَها زائغةً روَّاغةً لا تكاد تُمسك من خُيوطها خيطًا بين أصابعك، حتى يفلت منك ويختفي. والأمر في هذا شبيهٌ بموقفك من المدينة التي تسكنها، تستطيع في يُسرٍ يسير أن تجُوب خلال شوارِعها ودرُوبها، فإذا قِيل لك ارسُم لها خريطةً تعذَّر عليك الأمر، ففي مفهوم العقل: ذكاء، ومعرفة، وإرادة، ونوازع، ومشاعر، وإدراك بالحواسِّ واستنباطات رياضية، وخيال، وتذكُّر، وعشرات الجوانب الأخرى، مِمَّا يكون موضوعًا علميًّا بأسرِه، هو عِلم النفس، فضلًا عن الفلسفات التي عُنِيَت بتحديده وتحليله عن طريق الاستبطان والحدْس والتأمُّل. تُرى ماذا يُراد من هذه العناصر الكثيرة، حين يُقال إن العصر الفلاني — كالقرن الثامن عشر في أوروبا مثلًا — كان يسُوده العقل، وإنَّ العصر الفلاني الآخر — كالقرن العشرين — عصر يسُوده اللاعقل؟

أظنُّ أن أقربَ شيءٍ إلى الصواب، هو أن نجعل تحديد الهدف وطريقة الوصول إليه، علامةً تُميِّز العقل من اللاعقل، فإذا رأيتَ رجُلين في الطريق، أحدُهما يعرِف وجهته ويعرِف الطريق إليها ويسير وفقَ معرفته هذه، والآخر يخبط خبطَ عشواء — كما نقول — فلا هو يعرِف لنفسه هدفًا، ولا هو بالتالي قد حدَّد لنفسه طريقًا يسير فيه، أقول إنَّنا إذا وجدنا مثل هذين الرجلين، وصفْنا أولهما بالعقل، ووصفْنا الآخر باللاعقل، على أنَّ طريق السَّير العاقل، شرطُه دائمًا أن تجيء الخطوات فيه مُرتَّبة على نحوٍ يجعل السابقة فيه مُرتبطة باللاحقة، كي ينتهي السير إلى الهدف المقصود.

ونعود إلى عصرنا هذا، فنراه عصرًا قد شهد حربين عُظمَيَين، ونرجو ألا يشهد ثالثة، برغم أنه يُرهِف لها السلاح؛ هي حروب استخدَمَ فيها الإنسان كلَّ ما قد بلَغَه من عِلم وتقنية ومهارة، لِغير ما هدف. إنه عاقل حين أنشأ العلم، لكنه مجنون حين استخدَمه.

ونراه عصرًا يذهب فيه المُحللون للنفس الإنسانية إلى أنها مُسيَّرة بغرائزها، على اختلافهم بعد ذلك في ماذا تكون الغريزة المُسيطرة. ومعنى ذلك أنَّ الإنسان إذ يتصرَّف في مواقف حياته، وإذ يُعامل الناس بالحبِّ أو بالكراهية، فهو لا يتصرَّف على هُدى خطةٍ مرسومة لتحقيق هدف معلوم، بل يتصرَّف للتخفيف عن نفسٍ مكروبة بما احتبسَ فيها من رغبةٍ وشهوة.

ونراه عصرًا قد سُدَّت فيه وسائل التوصيل بين ذاتٍ وذات، حتى لَيُظَنُّ أنَّ كلَّ فردٍ يعيش في نفسه ولنفسه، كأنما أفراد الإنسان جُزُر معزول بعضها عن بعض بخِلجان من الماء مُستعصية على العبور، أو كأنما هم ذرَّات رُوحية كالتي قال عنها ليبنتز، كلُّ ذرةٍ منها عالَم قائم بذاته لا يفتح نوافذه على ما عداه؟ وإذن فلا تفاهُم بين إنسانٍ وإنسان؟ أو فلنُوسِّع من مجال القول بعض الشيء، فنقول إنه لم يعُد التفاهُم مَيسورًا بين أمَّةٍ وأمة، فكان ذلك من أعجبِ مُفارقات هذا العصر، لأنَّ وسائل الاتِّصال المادية من إذاعةٍ مسموعةٍ ومرئية قد اشتدَّ ربطُها لأجزاء الأرض، فاشتدَّ تباعُد العقول والنفوس، بدلَ أن يشتدَّ قربُها.

تجمعت هذه العوامل كلها، فلمَّا جاء العلم وتطبيقاته، كاد يغرق الفرد في لُجَّةٍ لا يملك فيها لنفسه أن يختار طريقَه في دُنيا العمل، ولا أن يختار سبيلَه في أوقات الفراغ، ففرَّ إلى عالم اللامعقول، يُنشئ فيه أدبًا لا تسلسُل فيه بين عِلَّة ومعلول، بل لا ارتباط فيه بين لفظٍ ومعنى، ويُنشئ فنًّا لا يعني شيئًا خارج حدود ذاته، فعليك أن تنظُر إلى اللَّوحة لا تُجاوِزها إلى مدلولٍ يُشار إليه خارجها. وما بالك بعصر يَقبَل أن يُدار على المسرح حوار لا مُحاورة فيه، لأنَّ العلاقة مُنبتَّة بين السائل والمسئول.

لكن ذلك هو عصرُنا، الذي قَبِلَ أن تجتمع فيه جمعية للأمم، يخطُب فيها الأعضاء بما يُعبِّر عن رغبات شعوبهم، دون أن يكون الهدَف تخاطُبًا أو تفاهُما، وذلك هو عصرنا الذي يَئِسَ من عالم الصَّحوِ فلجأ إلى عالم الأحلام.

٤

إن هذا الموقف الذي تكثُر فيه المقابلة بين الذات، والموضوع، بين الإنسان والعالم، لم يُعرَف له — فيما أظن — مَثيل في تاريخ الفكر كله، فلو اقتصر الأمر على تحليلٍ يُبيِّن علاقة الطرفَين أحدهما بالآخر في تحصيل الإنسان لمعرفته بالعالم الذي حوله، لقُلنا إنها قضية قديمة، لكن الأمر يُجاوز ذلك إلى حالةٍ من الصراع والشعور بالقلق والغُربة، كأنما الإنسان قد أحسَّ بأنَّ هذا العالم ليس هو مَسكنه ومأواه، بل هو العدو المُتربِّص، فأصبحَتْ مُهمَّتُه أن ينظُر في طريقة الوقاية والدفاع.

إنني لا أعرف بين عصور التاريخ عصرًا شَعَر فيه الإنسان بذاته بمِثل ما شعر في عصرنا، ولا استبدَّ به القلق فيه، كما استبدَّ به في عصرنا، وحسبُك أن ترى كم ألف مقالةٍ وكتابٍ أخرجتْها المطابع بكلِّ لُغةٍ من لغات الأرض، يُحلِّل فيها الإنسان نفسه. ما الذي يجري بين جوانِحها ويصطرِع، كأنما الجرَّاح قد حمَل بين أصابِعِه مِبضَعَه، وتلفَّت فلم يجِد أولى به من ذاتِ نفسِه.

لقد شهد تاريخ الفكر عصورًا غنيَّةً بفكرها، شهدها في أثينا والإسكندرية ودمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة، وشهدها في النهضة الأوروبية وفي العصر الحديث منذ تلك النهضة. وما أظننا واجدين في أي من تلك العصور، انشغالًا من الإنسان بتحليل نفسه، كالذي نجِده منه اليوم، حتى لقد أصبحتْ مُصطلحات التحليل النفسي بضاعةً يتبادلُها سوادُ الناس في أحاديثهم الجارية، وحتى لقد وُضِعت طبيعة الإنسان نفسها مَوضع التشكُّك والتساؤل: أهي عقل أم لا عقل؟ أهي وعيٌ أم لا وعي؟ أهي الفِكر المنطقي أم العُقَد المكبوتة والشهوات الحبيسة؟ وإن مؤرخي الفكر المُعاصر لا يذكرون أربعة أعلام صنعوا هذا الفكر كله، إلَّا ويذكرون فرويد رسول اللاوعي، مع دارون في التطوُّر، وماركس في الاشتراكية، وأينشتين في النِّسبية.

وقد أوشكَ أن يخلوَ الميدان للنظرية الفرويدية في طبيعة الإنسان، لولا أن أخذَتْ فلسفات جديدة قوية تظهَر، مُؤكِّدة حقيقة الإنسان الواعية من جديد؛ فلم يكن الإنسان يعرِف لنفسه — قبل فرويد — تعريفًا أرجحَ صوابًا من التعريف الأرُسطي بأنه الحيوان الناطق، أي أنه — بين سائر الكائنات — هو الكائن المُفكِّر العاقل الواعي؛ وحتى حين اشتدَّ الشعور الدِّيني في عصر الإيمان — العصر الوسيط — جعل الفلاسفة همَّهم لا أن يتنكَّروا للعقل المنطقي، بل أن يلتمِسوا وسيلةً للتوفيق بينه وبين العقيدة. وجاء العصر الحديث ليستهِلَّه ديكارت بقولته المشهورة: أنا أُفكِّر فأنا موجود، أي أن الوعي أو الشعور أو الفكر أو العقل، هو شرط وجوده، فلو كان لا واعيًا لما كان موجودًا من حيث هو إنسان، ثُمَّ تَوالى الفلاسفة من ديكارتيين في القارة الأوروبية أو تجريبيِّين في إنجلترا وأمريكا، على هذا المنوال نفسه، وأيَّدهم في اتِّجاههم علم النفس التجريبي منذ ظهوره، فالوعي — أو الشعور — هو الأساس عند وليم جيمس كما كان هو الأساس عند فنت. ولم ينحرِف بنا عن الطريق إلا فرويد وتابِعوه، لكن الوقت لم يطُل بنا مع انحِرافِه هذا، حتى ظهرت — كما قُلنا — فلسفات تعدِل الميزان، أخصُّ بالذكر منها فلسفة الظواهر عند هوسرل، التي أرادتْ أن تُبعِد عن الرؤية كلَّ ما هو طافٍ في مجرى الوعي من موضوعات وحالات، لترى ماذا تجِد وراء ذلك، فوجدَتْ وعيًا خالصًا، وليس وراء الوعي إلَّا وعي، وتلك هي حقيقة الإنسان وجوهره. وقد جاءت فلسفة سارتر لتنهَلَ بدَورها من هذا المَعين، فلم يجِد سارتر في الإنسان — بعد كل تحليلاته في أغوار النفس — إلَّا حالات من الوعي.

ولا أدعُ فرصة هذا الحديث عن الوعي، دون أن أُشير إلى نقطةٍ فرعية لها أكبر الخطَر في الفكر المُعاصر، ألا وهي فكرة «الآخر»؛ فقد كان الفلاسفة من قبلُ على ظنٍّ بأن الإنسان يُمكنه الوعي بنفسه، مُفردًا، دون حاجةٍ منه إلى شخصٍ آخر، لا بل ربما دون حاجة منه كذلك إلى الكون بأسره، قال سقراط للإنسان: «اعرف نفسك بنفسك»، كأنما ذلك في مُستطاعه، وكأنما اقتصار الإنسان على نفسه هو وحده كافٍ لمعرفته لتلك النفس. وكذلك قال ديكارت: «أنا أفكر فأنا موجود.» كأنما وجوده مُتوقِّف على كونه، هو في حد ذاته، مُفكرًا، دون أن نسأل: «مُفكر في ماذا؟» ولكن مُعاصرينا جميعًا، ممن تناولوا الوعي الإنساني بالتحليل والدراسة، وجدوا أن الوعي لا يكون إلَّا وعيًا بشيء، فمُجرَّد اعترافنا بقيام الوعي أو الفكر، يُصبح في الوقت نفسه اعترافًا بوجود ما نَعيه أو ما نفكِّر فيه، أي أنه يُصبِح اعترافًا بعالم الأشياء والأشخاص. ومن هنا باتَ واضحًا أنَّ كلمة «أنا» التي جعلها ديكارت محوَرَه، لا يتمُّ معناها إلا «بالآخر»، كما أصبحت معرفة الإنسان لنفسه، التي أوصى بها سُقراط مُستحيلة إلَّا إذا أخذنا «الآخر» في اعتبارنا؛ لأن وجود الآخر شرط جوهري لمعرفتي لذاتي.

وإني لأنظُر إلى هذه الفكرة الغنيَّة الخصبة، فكرة أن الذات المُتفرِّدة بخصائصها الفريدة المُميَّزة، تتضمَّن بالضرورة وجود الآخرين، ثم أنظُر إلى تيَّار الفكر العربي الراهن، فلا أجد فكرةً واحدةً تُمثِّله بأجلي ممَّا تُمثله هذه الفكرة، فلو سئلت: ما قضية القضايا في الفكر العربي المُعاصر؟ لأجبتَ في غير تردُّد، إنها هي التِماس الأساس النظري الذي يضمُّ الفرد المُتميز إلى تضامُنِ الجماعة، دون أن ينمو أحدهما على حساب الآخر، فأولًا — على المستوى الثقافي العام — مُشكلتنا الفكرية الأولى، هي أن نُحافظ على كياننا الثقافي الخاص دون أن ننحصِر فيه، بل نمدَّ من أطرافه حتى يشمل أركان الثقافة العصرية كذلك، بعبارة أخرى: مُشكلتنا هي أن نخلُق مركبًا ثقافيًّا يُتيح لنا أن نقول: ها نحن، بكلِّ خصائصنا ومُميزاتِنا، شريطة أن تتضمَّن الإشارة إلى أنفسنا، إشارة إلى كل مقومات الحضارة العلمية الجديدة.

وانظُر إلى قادة الفكر وأعلام الأدب في تاريخِنا العربي القريب، تجِدهم — في الكثرة الغالبة — يُحاولون هذه المُحاولة: محمد عبده يعرِض مبادئ الدين الإسلامي على نحوٍ يُبيِّن ألَّا تعارُض بينَه وبين العلم، لطفي السيد يبسُط المبادئ السياسية بَسطًا يُقرِّبنا من مناخ عصرنا، العقاد يُشيع من مبادئ النقد الأدبي ما ينقلنا إلى تصوُّر جديد يتَّفِق مع قِيَم العالم من حولنا، طه حسين يدرُس الأدبَ على ضوء المناهج العلمية، وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة يُشكِّلان بأدبِهِما الإنسان العربي الجديد، وغير هؤلاء وأولئك كثيرون. ثُم ها هُم أولاء كُتَّاب المسرحية والقصة جميعًا، يُدخِلون على الأدب العربي فنونًا لم يألفْها من قبل، فيستعيرون من الغرب القوالِب الفنية ليملئوها بمضموناتٍ عربية مَحليَّة، وانطلَقَ الباحثون في مجال الدراسة الفلسفية، يُعيدون كتابة الفلسفة الإسلامية ليُبرزوا جوانب الأصالة فيها، ويُسايروا مع ذلك تيَّارات الفلسفة كلها السائدة في عصرنا، والمُعبِّرة عن روح ذلك العصر.

جهود فكرية مُتلاحقة، منذ أول هذا القرن؛ وإلى يوم الناس هذا، تدُور كلها حول إيجاد الصِّيغة التي تحمِل طابعنا العربي المُميَّز، مَقرونًا بملامح العصر.

ذلك في المجال الثقافي بصفةٍ عامَّة، فإذا انتقلنا إلى المجالات النوعية في حياتنا الفكرية، ألفَينا هذه الجهود نفسها تُبذَل، نحو أن نجمع بين «أنا» و«الآخر» في وحدة واحدة، فثَورتنا الاشتراكية تعبير قوي صادِق عن هذا المبدأ، إذ المحور فيها هو هذا الدمج بين الخاص والعام، دمجًا تظلُّ تشعُر فيه اﻟ «أنا» بنفسها لكنَّها كذلك تشعُر أن ليس لها كيانٌ كامل إلا بأن يُضَمَّ إليها «الآخر» وتُضَمَّ إليه؛ نعم إنَّ أنظمةً كثيرة قائمة في بلاد أخرى، قد غلَّبَت طرفًا على طرف، ولم نستطع إقامة الميزان مُعتدِلَ الكفَّتَين، لكنَّنا في محاولة دائبة نحو تحقيق هذا المَثل الأعلى، وقد كان لا بدَّ لنا من المُحاولة، لأن التبِعة الفردية أمام الضمير وأمام الله جُزء من تُراثنا الرُّوحي، وينبغي أن تظل جزءًا من طابعنا الشخصي المميز، كما ينبغي في الوقت نفسه أن تمتدَّ هذه التبعية حتى تشمل الأمة العربية، بل الأمة الإنسانية إذا استطعْنا إلى ذلك سبيلًا، وبذلك يتَّسِع نِطاق «الأنا» إلى «نحن» التي تشمَل الآخرين مع ذَواتِنا.

ولعلَّ هذه الرابطة الوثيقة العميقة، بين «أنا» و«الآخر» — وهي رابطة تكمُن في جذور الثقافة المُعاصرة كلها — أقول لعلَّها لا تتبدَّى في قضية من قضايانا الفكرية، تَبدِّيها في قضية الوحدة العربية، فما تلك الوحدة في صميمها إلا توسِعة من معنى «الأنا» بالإضافة «الآخر» إليها، على أنَّ هذا الآخَر بدَوره — ومن زاويتِهِ — هو «أنا» تتَّسِع هي الأخرى على الصورة نفسها. إن هذا الترابُط بين الوحدات في كلِّ واحدٍ يحتويها ويُضيف إليها عُمقًا وأبعادًا جديدة، أمرٌ مألوف في الكائنات العضوية كلها، ومن بينها آيات الفن على اختلافها. فالخلية الواحدة في جِسمها العضوي، والبيت الواحد في القصيدة والخط الواحد أو اللَّون في اللوحة الفنية، كلُّ هذه وحدات تُضاف إلى أخواتها فتُغزِّر وجودًا، وتُعمِّق كيانًا، وتزداد خُصوبة وغنًى، دون أن تنقص في سبيل هذه الزيادة شيئًا.

وإن هذا ليصدُق أيضًا على مشكلة القومية والعالمية، التي يكثُر عنها الحديث، حتى لَيُقال أحيانًا إنَّ العصر عصر قوميَّات، فهاهنا قد يُقال: وفيمَ تقسيم الإنسانية إلى أقوامٍ يتعصَّب كلٌّ منها لوجوده الخاص؟ وجوابُنا عن ذلك هو نفس الجواب: إنَّني إذا ضمنتُ أن تُصان فرديَّتي، ثم تجيء الإضافة إضافةً جديدة، تزيد من وجودي ولا تنقُصه، فلن أتردَّدَ عندئذ، في أن أفهم إنِّيَّتي على الوجه الذي يتَّسِع للآخر، لكن ذلك يستلزِم أن يقِف منِّي هذا الآخر كما أقِف منه، لا أن يُظهِر التآخي ويُضمِر السيادة والسيطرة، فتضيع منِّي حتى الأنا المعزولة في فقرِها وضمورها.

ها نحن أولاء قد بسَطْنا طائفة من قضايا الفكر المُعاصر، وأوضحنا موقفنا — نحن العرب — منها: عرضْنا قضية الصراع بين سيطرة العلم والصناعة والتقنيات وبين حُريَّات الأفراد وما تتعرَّض له من الضياع؛ وعرضْنا قضية الموضوع الطبيعي وطغيانه وكيف لاذت النفس الإنسانية بدُنيا الفنون تحتمي بها، واقتضى ذلك أن نعرِضَ لقضية الالتزام في الفن والأدب، ولقضية المعقول واللامعقول، ثُمَّ جرَّنا هذا الحديث عن عودة الوعي إلى الظهور على مسرح الفلسفة بعد أنِ انفرد به اللاوعي حينًا. وبيَّنَّا أنَّ الوعي في تصوُّرنا الحديث يقتضي بالضرورة وجود الآخرين مع الأنا الواعية، وطبَّقْنا هذه الفكرة الأساسية على ثلاثٍ من أهم قضايانا العربية: الأولى هي احتفاظنا بشخصيتنا الثقافية مع ضمِّ الثقافة الحديثة الواحدة إليها، والثانية هي جمعنا بين حرية الفرد الواحد مع ضرورة أن يأخُذ سائر المواطنين في اعتباره، والثالثة هي قضية الوحدة العربية، التي تصون لكل قُطر مميزاته، ثم تضع الكل في كيانٍ واحد.

ألا أن الإنسان ليحيا، بقدْر ما يشارك العصر في فكره، رافضًا هنا، مُعدلًا هنا، وراضيًا هناك. وإنا لنحمد الله أن نرى الأمة العربية قد استيقظتْ لعصرها، ترفض منه، وتعدِّل فيه لترضى آخر الأمر بما تصنعه لنفسها بنفسها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤