قيمة القيم
شِبْهُ السفينة، نراها ماخِرةً عباب الماء عن قصْد مرسوم وإلى هدَفٍ معلوم، يلطُمها الموج وتلطُمه، يَفور البحر من حولها أو يسكُن، وتعصف بها الريح، أو تهدأ، لكنها في مَجراها ومُرساها ماخِرة عباب الماء عن قصدٍ مرسوم وإلى هدفٍ معلوم؛ وذلك بفضل ربَّانها الذي يلوذ بمقصورته، قد لا تراه الأبصار الشاخِصة، لكن السفينة تحسُّ بزمامها في قبضته، يُجريها هنا ويُرسيها هناك كيفما شاء ودبَّر. شِبْهُ هذه السفينة ورُبَّانها يكون الإنسان بما يَغمُر رأسه من قِيَم، هي قِيَم يُدركها بالفطرة حينًا، وحينًا آخَر تُبَث في نفسه بثًّا، فإنك لترى هذا الإنسان في صخَبِ الحياة صاعدًا هابطًا ساخطًا راضيًا مُستسلِمًا أو ثائرًا، فتدري آنًا وآنًا لا تدري فيمَ سُخطُه ورِضاه؛ لأنَّ الشواهد المَنظورة قد لا تكفيك للفَهْم والتَّعليل، وذلك لأنها هي المعاني في رأسه التي تُسيِّره، وإن شئتَ فقُل إنها مجموعة القِيَم التي تُمسك بزمامه وتُوجِّهه، فَفَهْمُه على حقيقته هو فَهمُها.
وإنهم ليُقَسِّمون هذه القِيَم ثلاثةَ أقسامٍ كُبرى تنضوي تحتها شتَّى المعاني التي تضبط مسالك الإنسان في خِضَمِّ حياته، وهي الحق، والخير، والجمال، في مقابل ثلاثة الأوجه التي يُحلِّلون بها حياة الإنسان الواعية، وهي الإدراك، والسلوك، والوجدان.
ففي حياتك الواعية تُدرك ما حولك بالسمع والبصر وغيرها من الحواس، فيحدُث فيك هذا الذي أدركَتْه حالة شعورية تضعُف أو تشتدُّ وفقَ خطورة الموقف الذي يُحيط بك، وبهذا الإدراك الذي صحِبَه الشعور الذي يُلائمه، تتصرَّف على النحوِ الذي يُحقِّق لك ما تبتغي. أما الإدراك فالفرضُ فيه أن يكون إدراكًا صحيحًا لا مُضلِّلًا ولا مَغلوطًا حتى يَجيء السلوك آخِر الأمر على أساسٍ سليم. ومن هنا كانت قيمة «الحق» حياة الإنسان، إنه يُريد أن يعلم ما هنا لك على وجه الدقة واليقين. حتى لو وَسوَسَ له شيطانه بعد ذلك أن يكتُم الحقَّ في نفسه ليُخفيه عن الناس، أو أن يخدع الناس بالقول الباطل. أقول إنه حتى لو وَسوَس الشيطان للإنسان بالكذب، فالكاذب نفسه يُريد أن يكون هو على علمٍ بالحق، لكنَّنا إذا ما غضضْنا الأنظار عن أصحاب التضليل والكذِب جاز لنا أن نُعمِّم فنقول إن الإنسان بفطرته ينشُد «الحق»، وعلى الحقِّ يَبني علومه، وعلى علومه يبني حياته المادية كلها.
ذلك هو جانب الإدراك وما يلحَقُه من قيمة الحق، وأما جانب السلوك الذي ينتهي به المطاف، فالغرَض فيه أن يَجيء سلوكًا مُحقِّقًا لأهدافه؛ أي أن يجيء سلوكًا سليمًا مُلتزمًا سواء السبيل. والمجنون وحده هو الذي يقصِد إلى هدفٍ ثم يتعمَّد أن يسلُك السلوك الذي لا يُحقِّقه. وإذا قُلنا «سلوك صحيح» فقد قلنا «فضيلة»؛ فما الفضيلة إلا السلوك الذي دلَّتْ خِبرة الإنسان في تاريخه الطويل — لا الإنسان الواحد المُفرَد في حياته القصيرة — على أنه خير ما يُحقِّق الأهداف. وإذن فالإنسان بفطرته يقيس صواب السلوك بمقياس «الخير» الذي يترتَّب على فعله. «فالخير» عند الإنسان قيمة ليس له عنها غَناء حتى وهو يقترِف الإثم ويفعل الشر، لأنه حالة اقتِرافه الإثم يتمنَّى من صميم نفسه ألا يفعل سواه ما هو فاعل، وإلَّا لضاعَتْ عليه فوائد إثْمه. وهل يُريد سارق المال — مثلًا — أن يتعرَّض له سارق آخَر فيسلُبه ما قد سرق؟ هل يُريد القاتل أن يُقابله قاتل آخَر فيقتُلَه كما قد قتَل؟
هاتان — إذن — قِيمتان تُمليهما على الإنسان فطرته: قيمة «الحق» فيما يعلمه ويُدرِكه، وقيمة «الخير» فيما ينشط في سبيله، وبقيت قيمة ثالثة تقَع وسطًا بين الطرفين هي ما يُطلقونه عليه اصطلاحًا بالنَّشوة الجمالية. فلئن كان بين الإدراك من ناحيةٍ والسلوك من ناحية أخرى حلقةٌ وسطى هي الحالة الوجدانية، فبُغية الإنسان لنفسه أن تجيء هذه الحالة الوجدانية مما يشيع فيه الطمأنينة والرِّضى، فتراه على هذا الأساس يختار ثِيابه ومسكنَهُ وأثاث مسكنه، ويَفتنَّ الفنون صوتًا ولَونًا ونحتًا وعمارة.
هي قِيَم ثلاث تدور عليها حياة الإنسان دَوَران الرَّحى حول قُطبها، وعنها تتفرَّع معانٍ يُضحِّي الإنسان بنفسه ولا يُضحِّي بها. وحتى إن رأيتَهُ يُظهر ما ينقُضها، وجدتَهُ في حقيقة أمره يُبطِن غير ما يُظهر، ومن هذه المعاني: العدْل والسلام والحرية.
في قصة دون كيشوت المعروفة، كان هذا الفارس يسير ومعه تابعه «سانكو بانزا» في طريقهما إلى برشلونة، فمرَّا بعصابة من اللصوص على رأسها كبيرهم «روك جوينار» فوجداه يُقسِّم الغنائم بين أفراد عصابته، فأوقفهم صفًّا وأمرَهم أن يُقدِّموا كلَّ مسروقاتِهم من ثيابٍ وجواهر نفيسة ومال، منذ أن اجتمعوا معًا لتقسيم الغنائم في المرة السابقة. فلمَّا صدَعوا بأمره وقدَّموا ما عندهم، راح يُقسِّمه بينهم قسمةً عادلة، وما لم يقبَل الانقسام من المسروقات، قوَّمه بالمال لتسهُل عملية التوزيع العادل، غير مُتحيِّفٍ هنا ولا مُجحِفٍ هناك. ثم التفت إلى دون كيشوت وقال: إنني إذا لم ألتزِم القسطاس بين رجالي، تعذَّرَتْ عليَّ الحياة معهم، وهنا دخل في مجرى الحديث «سانكو» المازح الساخر، فقال: «إنَّني إذا حكمتُ بما قد شهدتُ الآن، لقلتُ إنَّ العدالة شيء جميل ينبغي التمسُّك به حتى بين اللصوص.» وعندئذٍ أوشكَ اللصوص أن يفتكوا بصاحِبنا «سانكو»، لا لأنه أثنى على العدْل، بل لأنه اجترأ فأسمى اللُّصوصَ لصوصًا.
هذه لمحةٌ نافِذة بارِعة من «سيرفانتيز» فكأنَّما أراد أن يقول ما نحن الآن قائلوه، وهو أن كيان الإنسان يهتزُّ من أساسه إذا ما عرف أنه قد افتأتَ على قيمةٍ عُليا من القِيَم التي لا حياة للإنسان بغَيرها، فاللصوص — حتى في حالة كونهم لصوصًا يقتسِمون سرقاتِهم علنًا — يُؤذيهم أن يعلموا بأنهم لُصوص!
وها هنا نضع أصابعنا على عجيبةٍ من عجائب البشر، فبينما ترى كلُّ جماعةٍ من الناس على إدراك تامٍّ ووعيٍ كامل بأنه لا حياة لها إلَّا إذا رُوعِيَت العدالة بين أفرادها — كما قال رئيس العصابة — تراها في الوقت نفسه تأبى أن تقُوم هذه العدالة نفسها بينها وبين غيرها من الجماعات! وإن الأمر في هذا لدرجات مُتفاوِتة؛ ذلك أنَّ الإنسان الفرد لا ينتمي إلى جماعةٍ واحدة، بل ينتمي إلى جماعاتٍ كثيرة تظلُّ دائرتها تتَّسِع وتتَّسِع حتى تشمل الجماعة الإنسانية كلها. وكلما ازدادتْ ثقافة هذا الإنسان الفرد واتَّسعتْ مدارِكه وانداح أفُقُه، ازدادت بالتالي واتَّسعتْ دائرة الجماعة التي يُريد أن تقوم العدالة فيها بينه وبين سائر أفرادها.
وأضيق الدوائر الجماعية هي الأسرة، تتلُوها مجموعة الزملاء في العمل، فأبناء المدينة الواحدة، فأبناء الإقليم، فأبناء الأمة، فأبناء مجموعة الأُمَم التي ترتبِط معًا في تحالُف، فأبناء المُجتمع البشري كله. وأضيَقُ الناس نظرًا هو الذي يُريد للعدل أن يقوم ميزانه بين أفراد أُسرتِه، وأما ما بين أسرتِهِ وما عداها من صوالح مُتشابكة، فليختلَّ ميزان العدل ما دام خلَلُه لكسْبِهِ وخسارة الآخرين. وأوسع الناس أفُقًا هو من لا يستقرُّ له جنبٌ على فراشٍ حتى يرى العدالة قد أخذتْ مجراها بين أفراد البشر أجمعين على حدٍّ سواء. وبين أضيقِهم نظرًا وأوسعِهم أفُقًا يقع الناس درجات. على أن النقطة الهامَّة فيما نحن الآن بصَدَد الحديث فيه، هي أنه إذا اختلف الناس في الدرجة وحدَها، فهم جميعًا على اتِّفاقٍ بأنه لا حياة بغَير عدلٍ يُوازن بين صوالح الأفراد. وموضع الاختلاف هو: ما حدود هؤلاء الأفراد الذين لا تكون لهم حياة بغَير عدْل؟
إنَّ قصةً طريفة لتروَى عن طفلٍ اصطحبه أبوه في روما أيام المسيحية الأولى حين كان الشهداء الأولون، من روَّاد الدين الجديد، يُلقَى بهم في حَلْبةِ السباع على مشهدٍ من الجموع الوثنية، إذ رأي الطفلُ في الحلبةِ سباعًا وجدَ كلٌّ منها مسيحيًّا ينهَشُه ليأكل، إلا سبعًا واحدًا لبثَ ضائعًا بغَير فريسة. فقال الطفل لأبيه: مسكين هذا السبع الذي لا يجِد مسيحيًّا يأكله كزملائه السِّباع. ولم يكن الطفل على ضلالٍ في عطفِه على السبع المسكين، ما دامت نظرتُه محصورةً في نطاق الحلبةِ التي أمامه، فها هي ذي مجموعة من آحاد الحيوان اجتمعتْ على غرضٍ مُشترك، والإدراك الفطري السليم يَقضي بأن يسُود بينها قسطاس. ولا يتجلَّى موضع الخطأ إلا إذا وسَّعنا الدائرة إلى حلبةِ السِّباع داخل نِطاقٍ أوسع، فعندئذٍ نرى أن ما قد عددْناه عدلًا داخل الحلبة، هو ظُلم بالقياس إلى ما هو خارجها. فهو ظلم بالنسبة إلى جماعة الشهداء من أبناء الدِّيانة الجديدة. وأعود فأُبرِز النقطة التي تعنينا هنا بصفةٍ خاصة، وهي أن اختلاف النظر ليس قائمًا على قيمة العدل في ذاتها، بل على اتِّساع دائرة التطبيق أو ضِيقها.
وننتقِل من قيمة العدل إلى قيمةٍ أخرى هي قيمة السلام والأمن وطمأنينة النفس، لأنَّ القِيمتَين مُرتبطتان بأوثَقِ رباط، حتى لتستطيع أن تَعُدَّهما وَجهَين لشيءٍ واحد.
لا، إنه لا خِلاف على ضرورة السلام، لكن الخلاف كلَّ الخلاف هو أين تقَعُ حدوده، فالأمة الواحدة تقنَعُ بالسلام داخل حدودها، وصاحِب النظرة الواسعة لا يطمئنُّ له بالٌ إلَّا إذا شمل السلام حياة البشر أجمعين، وفي كِلتا الحالين لا غَناء لنا عن هذه الواحدة من القِيَم الإنسانية، ضاق مجال تطبيقها أم اتَّسع.
وأخيرًا نختم القول بحديثٍ قصير عن قيمةٍ ثالثة لعلَّها أعزُّ القِيَم الإنسانية كلها، وأعني بها «الحرية»، فلا أحسب أنَّ الدُّنيا بأسرِها، وفي شتَّى عصور تاريخها، قد شهدتْ إنسانًا واحدًا يُخالِفك في ضرورة هذه القِيمة لحياة الإنسان. ومرةً أخرى نقول إنه إذا كان ثَمَّةَ من خلاف، فهو خلاف على مدى اتِّساع نطاق التطبيق أو ضِيقه، لا على ضرورة الحرية نفسها لحياتِنا، سواء ظفِر بها فردٌ واحد أو ظفِر بها الملايين؛ ذلك أنك قد تجِد جماعات تقصُر الحرية على فئةٍ قليلةٍ منها، بل ربما قصَرتْها على فردٍ واحد، لكنَّ هذا الفرد أو تلك الفئة عندئذٍ يكونون على اعتقادٍ بأن ذلك أدعى إلى صيانة الضعيف من سطوة القوي، وهذه في ذاتِها قِيمة إنسانية تستحقُّ الصيانة والرعاية، فالحريَّةُ قبل أن تكون لفظًّا يُقال بالألسِنة والشِّفاه، هي تهيئة الظروف المُواتية لكلِّ فردٍ أن يُعبِّر عن طبيعتِه وعن كيانه وعن وجوده في نوعٍ العمل الذي يُؤدِّيه، وهو لا يكون في هذا بمأمنٍ إلَّا إذا كفلَتْه رعايةٌ قوية.
وهكذا تُقلِّب البصر في مسرح الحياة الإنسانية، فتراها مُرتكزةً آخِر أمرها على مجموعةٍ من القِيَم أو المعاني، لا تكون أبدًا موضع اختلافٍ للرأي من حيث الأساس، وإن اختلف الرأي عليها في الشرْح والتطبيق. ولو نفَذْتَ ببصرك إلى أعماق النفوس، لألفيتَها على عقيدةٍ راسخة بأنه لا بقاء بغير مجموعة القِيَم التي أدركَتْها بالفطرة السليمة حينًا، أو بُثَّتْ فيها بالتربية القويمة حينًا آخر. فإن اعوجَّ السلوك الظاهر عن إملاء تلك المعاني الشريفة، لم يحتجِ الأمر إلى تغييرٍ في فطرة الإنسان، بل احتاج إلى تربية جديدة تُنسِّق بين الظاهر والباطن، فيسلُك الإنسان عندئذٍ سلوكًا سويًّا، يجمع الإنسانية كلها بمِثل ما يجمع اليوم أفراد الأسرة الواحدة.