تَشابُهُ الناس آفةُ عصرنا
لهم الله أولئكم الأقدمون الذين طاروا على جناح الخيال بأساطيرهم، فإذا هم يُشرِفون من علٍ على حقائق الحياة الخالدة، ثُمَّ يُصوِّرون تلك الحقائق في أساطيرهم تصويرًا لا تَبلى له — مع مرِّ الأيام — جِدَّة، ولا تذهب عنه نَضارة. فكلَّما تغيَّر وجه الدَّهر — عصرًا بعد عصر، وحضارةً في إثر حضارة — التَمَس الكاتِبون في أساطير الأقدمين تأويلًا جديدًا، يجعلها وكأنَّما خُلقتْ خلقًا لتصوير هذا الوجه الجديد، فانظُر كم تأويلًا ظفِرت به أسطورة «أوديب» من أُدَباء عصرنا، وكم ظفِرت به أسطورة «بجماليون». وها أنا ذا أوجز للقارئ أسطورةً قديمة تُصوِّر لي وله آفةً من آفات عصرنا، هي إصرار حضارة العصر على أن يتشابَهَ الناس. ذلك أنهم زَعموا عن رجلٍ يُدعى «بروقرسطس» أنه كان صاحب فندق في طريق المُسافرين، فكان كلَّما نزل بنزلِه النازلون، أصرَّ على أن يَقُدَّ قاماتِهم على قدِّ أسِرَّته، فإن كان النازل أطولَ من سريره جذَّ ساقَيه جذًّا حتى يتعادَلَ الطُّولان، وإن كان أقصرَ مطَّه مطًّا حتى تطول قامته ما طال السرير، فكان بهذا العناء من قِبَله، وبتلك الآلام يُعانيها زبائنُه، يحُقِّق مَثَله الأعلى، وهو أن يخرُج الناس من عندِه ذوي قاماتٍ مُتساوية؛ إذ لم يطق أن يرى بينهم التفاوُتَ الذي يُطاوِل به بعضُهم بعضًا!
وحضارة عصرنا هي «بروقرسطس» يُنشَر من جديد، ليجذَّ الطوال ويمُطَّ القصار، حتى تتعادَلَ الرءوس، وكأنما صُبَّت الأجسام في قالبٍ واحد! ولقد يُنْعَتُ عصرُنا بنعوتٍ كثيرة، فهو آنًا عصر الذرة، وآنًا عصر الفضاء، لكنه كذلك يُنْعَت بعصر الإنسان الوسَط. ولا عجَبَ فهو عصر العِلم التطبيقي بغَير شك، فربما شهِد العالم إبان تاريخه الطويل علمًا كثيرًا، لكنه لم يشهد تطبيقًا لهذا العلم يتسلَّل به إلى كلِّ رُكن من كلِّ بيتٍ في المدائن والقرى، كالتطبيق الذي يشهَدُه عصرنا هذا. ومع تطبيق العِلم يجيء الإنتاج الكبير، ومع الإنتاج الكبير يَجيء تشابُهُ الناس في طرائق العَيش تَشابُها أوشكْنا به على يومٍ ينصهِر فيه العالَم كلُّه ثم ينسَبِكُ على صورةٍ واحدة. وما ظنُّك بعالَمٍ يُسافر فيه الناس بسرعة الصَّوت ويتفاهَمون فيه بسُرعة الضوء؟
كانت الشعوب إلى ما قبل عصر التطبيق العلمي الحديث، إذا تشابَهَت في علومها، فهي تتبايَنُ بفنونها، فللهِند عمارة وللصين عمارة أخرى، ولأوروبا عمارة ثالثة، ولأمريكا عمارة رابعة، وهلمَّ جرًّا، حتى لتتوقَّع إذا ما سافرتَ هنا أو هناك أن يُصادفك طرازٌ معماري يُميِّز المكان ممَّا عداه، وربما كان هذا التباين راجِعًا إلى ظروف التُّربة أو المناخ أو طبائع الناس أو ما لستُ أدري. أما اليوم، فطرازٌ للناطحات يَسري، ولعلَّه يعمُّ بعد حين، أفتستطيعُ اليوم إذا ما وقعَ منك البصَر على صورة بناءٍ من ذوات الطوابق التي تُعدُّ بالعشرات، ومن اللواتي بُنِيَتْ على طراز الخطوط المُستقيمة التي لا تنعرِج هنا في شُرفة ولا تنثني هناك بزُخرف، بل يقمن مكعَّباتٍ هندسية ثُقبت ثقوبًا منظومة في صفوف، هي النوافذ، كأنها أبراج الحمام، أفتستطيع إذا ما وقَعَ منك البصر على صورةِ بناءٍ كهذا أن تقول في أيِّ بلدٍ هو؟ إنه قد يكون في القاهرة أو روما أو نيودلهي، لأنه بناءٌ وليد التطبيق العِلمي وليس وليدَ الفن، والناس يختلفون فنًّا ويتشابهون عِلمًا.
لكنك ربما أمعنْتَ النظر في الصورة لعلَّك واجِدٌ فيها ما يُميِّز بلدها، من أزياء الناس إذا كانت بها صور الناس، فهنا أيضًا كان الناس يتبايَنُون، فلمحةٌ واحدة إلى إنسانٍ واحدٍ وماذا يرتدي، تكفيك أن تقول عنه من أين جاء، وإلى أيِّ شعبٍ ينتمي، فقد كانت أذواقُ الناس تتبدَّى في أزيائهم، ولكن بأيِّ سرعةٍ تتجاوَب الدنيا اليوم ليعلم قاصِيها من دانيها في لحظةٍ سريعة ماذا يكون بِدْع العام الجديد؟ إنَّنا لنُلاحظ في المحافل الدولية التي كثيرًا ما تنعقِد هذه الأيام، نُلاحظ زعماء الدول الناشئة مُستمسِكين بأزيائهم الوطنية، فنلمح من هذا على الفور دعوةً سياسية لأقوامهم أكثرَ مِمَّا نلاحظ رغبةً حقيقية في تلك الأزياء؛ لأنَّ الزيَّ القومي في عصرنا — عصر التشابُه— يلفت الأنظار كما تلفِتُها لافِتاتُ الإعلان.
واهبط في رحلتك ما شئتَ من مدينة في الشرق أو في الغرب، تجِد فنادق على طرازٍ واحد، تُقدِّم طعامًا من طرازٍ واحد، وشرابًا واحدًا هنا وهناك، فقد ذهب زمانٌ كانت فيه لكلِّ بلدٍ مُميزاته من منزلٍ ومن طعامٍ ومن شراب، وحسبُك أن تجد إعلان الكوكاكولا ولفائف التبغ يسدُّ عليك الطريق أينما ولَّيتَ وجهك في السفر، ووسائل النقل في بلدٍ هي وسائله في بلدٍ آخر، فها هنا وها هنا سيارات خاصة وسيارات عامَّة، وها هنا وها هنا دُورٌ للسينما تعرِض الأفلام نفسها في وقتٍ واحد، ودُورٌ لسهرات اللهو تتبادَلُ فِرَق الرقص والغناء، حتى لتأخُذك الحيرة إذا ما كَثُر بك الانتقال: أين يا ترى رأيتُ هذه الراقصة وأين سمعتُ هذا المُغني؟ فهل رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت في سان فرانسيسكو أو في طوكيو؟
على أنَّ هذا التشابُه كله ليس هو الذي أردتُ الحديث فيه؛ لأنه في الحقِّ لا يعنيني إلا قليلًا، وإنما الذي يَعنيني هو هذه الموجة الجارفة التي تُريد بنا تَشابُهًا في الثقافة، لا فرق فينا بين صفوةٍ وسواد، وهي موجةٌ جاءت هي الأخرى نتيجةً مباشرة للتطبيقات العلمية التي وجدَتْ سبيلها إلى خِيام الصحراء وأكواخ الريف، كما وجدَتْها — على حدٍّ سواء — إلى دُور المدن وقُصورها، إذا كانت قد بقيت فيها قصور. ففيما مضى كانت الصفوةُ تُخاطِب الصفوة، وكأنما لم يكن للجماهير وجود، فالفنان الكبير يُنتج فنه ليسمَع الحُكم من الناقد الكبير، تمامًا كما يُنتِج العالم نظرية علمية فلا يُهمُّه سوى أن يجِدَ القَبول عند زميله العالم، وبالطبع ما زالتْ هذه هي حال العلم؛ لأنها يستحيل ألا تكون كذلك. وأما في مَيدان الفنِّ والأدب فالأمر قد تبدَّل حالًا بعد حال.
فالفن — أساسًا — قد نشأ في وقتِ الفراغ، ليلهوَ به المُستمتِع في وقت فراغِهِ أيضًا، فما كان للإنسانِ أن يفتنَّ إلَّا بعد أن يسدَّ حاجاته الرئيسية. وللفنِّ بعد ذلك ما يفيض من طاقة النشاط، فترقُص الساقان بعد أن تستنفِدَ الحاجة إلى السَّير، ويُنظَم الكلام شِعرًا بعد أن يفرُغ الشاعر من قضاء أعماله في سُوق البيع والشراء نثرًا، وهكذا. ولئن كان نتاج الفنِّ وليدَ الفراغ فاستهلاكُه هو وليدُ الفراغ كذلك، لكنَّ أجهزة الفراغ قد باتَتْ مُتشابهة في كلِّ أرضٍ وسماء: الإذاعة الصوتية والإذاعة المُصوَّرة والسينما والصحف والطبعات الرخيصة من الكتب. وليست العِبرة كل العِبرة بالجهاز نفسه وتشابُهه هنا وهناك، ولكن العِبرة كلها هي في المادة التي ينقُلها الجهاز لكي تجِدَ القَبول عند من يقتنيه، وها هنا بيتُ القصيد ومربَط الفرس.
تحوَّلت الثقافة المنقولة على هذه الأجهزة سلعةً تُباع وتشترى كأيِّ سلعةٍ أخرى، فالإدارة المُشرِفة على كلِّ جهازٍ منها تُريد لنفسها الكسْب ولا تُريد الخسارة، وتُريد أن تجِد القَبول والرِّضى ولا تُريد أن تُقابَل بالرفض والنُّفور. إذن فلا مناص من أن تكون السلعة المَعروضة ممَّا يُرضي زبائنها، وإنَّ هذا الرِّضى لتظهَر آثاره فورَ تسلُّم البضاعة المرسلة. لا، لم يَعُد صاحب الفنِّ أو صاحِب النَّغَم أو صاحب الكلمة الأدبية مُضطرًا إلى انتظار الأجيال القادمة لتحكُم على عمله، وكم من فنانٍ وأديب قد طوى الأجلُ قبلَ أن يسمَعَ القولَ الفصلَ في فنِّهِ وأدبه، بل إنه في عصرنا ليُنتِج اليوم ليحكُم عليه «الجمهور» غدًا، فإما موتٌ له أو حياة، فيا ليتَ شِعري هل كان تولستوي يتوقَّع لنظريته في النقد الأدبي والفني أن يتَّسِع مجالها إلى هذا المدى، عندما قال إنَّ «الجمهور» وحدَه هو الناقد الحق، فما يقبَله من الأدبِ أو الفنِّ هو وحده الأدب والفن؟ إن منتِجَ الأدبِ والفن في عصرنا إذ يُطلَب إليه أن يُقدِّم طعامًا لهذه الأجهزة فإنما يكون مفهومًا أن يَجيء إنتاجُه ممَّا يرضى عنه جمهور السامِعين أو المُشاهِدين، والجمهور واحد، وإذن فالإنتاج مُتشابِه مهما تعدَّد مُنتِجوه.
وإنه لمِّما يلفتُ النظر أن القوَّامين على هذه الأجهزة قد وجدوا أنَّ هنالك قسطًا مُشتركًا بين أذواق الشعوب المُختلفة جميعًا، فلم يتردَّدوا في مُخاطبة هذا القِسط المُشترك، لتتَّسِع معهم سوق البيع، فهم ما ينفكُّون يُغربلون ويُغربلون، ليُبعِدوا في كل غربلةٍ ما ليس يجِد الاستجابة عند أكبر عددٍ مُمكن من المُستهلكين. وحاصل هذا كله هو أن يتحدَّد القسط المُشترَك تحديدًا واضحًا، فتُعدُّ له المادة الصالِحة مُقدَّمًا، كما تُعدُّ الثياب الجاهزة للابِسيها.
وقد حدث تغيُّران كبيران في عصرنا، التقيا معًا في تعميق هذا الاتجاه العام نحوَ توحيد الصورة الثقافية وتثبيتِها على «الأوساط»، أما أحدُهما فهو زيادة عددِ المُتعلمين زيادةً سريعة، وأما الآخر فهو أن ظفِر بالحرية عددٌ كبير من شعوبٍ كانت سليبةَ الحُرية زمنًا طويلًا، فكان لهؤلاء وأولئك أثرٌ ملحوظ في أن يكون لهم نصيبٌ من الاستهلاك الثقافي؛ فكان بالتالي مَحتومًا على أصحاب المعايير أن يُراعوا ذلك كلَّه عند تشكيلهم للإنتاج الثقافي، بل إنَّ مُراعاة هذه الأذواق الجديدة التي دخلت في الميدان، لَتُحدِثُ أثرَها بغَير توجيهٍ مدبَّر، وانظُر إلى مدارس الفنِّ الحديث كلها ومدى تأثُّرها بالفنِّ الإفريقي والفن الآسيوي — في الموسيقى، وفي الرقص، وفي التصوير — كأنَّما استجابَ الفنُّ من تِلقاء نفسه إلى الموقف الجديد، فمالَ نحوَ فنٍّ تزول فيه الميزات الخاصَّة، وتعمُّ فيه القواعد الأساسية بغضِّ النظر عن اختلاف الأقطار وتفاوتِ المُستوَيات الثقافية.
وإنَّ هذا الاتجاه نحوَ التوحيد الثقافي ليُعَدُّ فرعًا بين فروعٍ أخرى لاتجاهات نحوَ التوحيد أيضًا في ميادين أخرى، ففي الميدان الاقتصادي اتجاه قوي نحوَ تقريب المسافة بين الدخول الدُّنيا والدخول القُصوى، حتى في البلاد الرأسمالية نفسها؛ ولم يعُد أحدٌ من ساسَةِ العالم أجمعين يُغمِض عينيه عن الفارق بين المحظوظ والمحروم، ليأخُذ كلٌّ من طيِّباتِ الحياة بنصيب. وفي الميدان السياسي اتجاهٌ قويٌّ نحوَ توحيد المصالح، فمن أجل هذا التوحيد نشأت جمعيَّة الأُمم المُتَّحِدة، وانعقدتْ مئاتُ المؤتمرات الدولية في كلِّ شأنٍ من شئون الحياة، لتقريب وجهات النظر تقريبًا ينتهي إلى اتفاقٍ أو ما يُشبِه الاتفاق في مسائل التعليم والصحَّة والعمل وغيرها. وفي الميدان الاجتماعي اتجاهٌ قوي نحوَ إيجاد التوازُن بين الهيئات الداخلة في مُجتمعٍ واحد، فنقاباتُ المِهَن والحِرَف تسعى للتوفيق بين المصالح، ومسافة الخُلف تضيق بين الرجل والمرأة، وبين المُدن والريف، وبين العامِل بيده والعامِل برأسه، والمَثَل الأعلى عند هؤلاء وأولئك جميعًا هو أن تُقرِّب المعايير كلها من نقطة الوسط التي يلتقي عندها بنو الإنسان.
ويستحيل على كاتبٍ أن يستعرِضَ هذه الاتجاهات كلَّها نحوَ توحيد المصالح في نقطة الوسَط من مصالح الناس، إلَّا ويأخُذُه العَجَب من أن يُساير هذه الاتجاهات نفسها صراعٌ عنيف بين المُعسكرات السياسية قد يكون من أعنفِ ما شهِدَ العالمُ من ضروبِ الصراع. نعم، إنَّ مسرح التاريخ لم يَخلُ أبدًا من شِقاقٍ يَشقُّ الناس شطرَين كبيرَين: اليونان والفرس، روما وقرطاجنَّة، المَسيحية والإسلام، الشرق والغرب، إلى آخِر هذه الحركات الكُبرى التي امتلأت بأخبارها صحائف التاريخ. فإذا شهِدنا اليوم صراعًا بين الرأسمالية والشُّيوعية فلا يكون مَوضِع العجب أن يصطرع الناس على مذهب، وقد اصطرعوا على طُول الزمن، إنما الذي نعجَب له أن يظلَّ هذا التمزُّق قائمًا في مجال المذاهب السياسية في زمنٍ أخذ فيه كلُّ شيءٍ آخَر ينحو نحوَ اتفاق وجهات النظر. وإنا لنَستوحي التاريخ فيما عسى أن يتمخَّض عنه هذا الصراع المَذهبي فلا يُوحي برأي؛ لأنَّ التاريخ قد شهِدَ الرأيَين معًا: فإمَّا أن ينتهي الصراع بخضوع أحَدِ الطرفَين للآخَر كما حدَث في الصراع بين رُوما وقرطاجنَّة، أو أن ينتهي بتجمُّد الطرفَين معًا لانتقال الانتِباه إلى بؤرةٍ أُخرى، كما حدَث في الخلافات العنيفة التي نشبَتْ بين العقائد.
وأعود إلى الموضوع الرئيسي الذي من أجلِهِ كُتِب هذا المقال، فأقول إنَّ تيَّار التوحيد جارِف، يُزيل الحواجِز بين الأفراد وبينَ الطبَّقات وبين الأمم، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. وكلُّ هذا خَير إلَّا إذا أطاح بالرءوس العالية في مَيدان الثقافة، فعندئذٍ هو في رأينا آفَةٌ تُصيب عصرنا والعصور التالية؛ لأنَّ كل هذه الاتجاهات العصرية هي نفسها من إنتاج صفوةٍ فكرية مُمتازة، فإذا محَوْنا الصفوةَ فمن ذا يشقُّ الطريق ويُنير السراج؟ إذا قَضَينا على برومثيوس فمن ذا يهبِطُ من السماء وفي يدِهِ قبَس البرق ليهتدي على ضوئه الناس؟ لقد ألِفَ الناس أن يستمِدُّوا الهداية من أعلى: من السماء ومن الشوامخ. وإنا لنلحَظُ اليوم تحوُّلًا هو الذي نُشفِقُ من نتائجه، وذلك أن القدَر قد أخذَ يعلو من أسفل ولا يهبِط من أعلى، فقد أوشكَ الناس أن يستغنوا عن توجيه الدعاء إلى السماء بالعِناية بالذرَّات والغُدَد والناسلات. أوشك الناس أن يَستغنوا عمَّن يُوجِّههم إلى ما يَكونُهم وقد يكون كلُّ ذلك خيرًا إلَّا في ميدان العلم والفن، فهو ميدان إذا سُوِّيَت أرضه ليتساوى السَّهل والجبل، ويَستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، لم يعُدْ بين الناس مُهتدٍ وهاد، وضلَّ السائرون سواءَ السبيل.
ونعود إلى «بروقرسطس» صاحِب الأسِرَّة ذات الطول المفروض، فنقول إنه لا عَيْب في أن يَجذَّ القصار ويمُطَّ الطوال ليتساوى الناس في شئون معاشهم، لكن العيب هو أن يمتدَّ الجذُّ والمطُّ إلى عالم الفِكر، فيُوضَع إطار لأصحاب الفكر ويُقال لهم: في هذا الإطار فكِّروا. بل ينبغي أن يُترَك هؤلاء فيتمدَّدوا على الأسِرَّة ما شاءتْ لهم أطوالهم، فهُنا يَجيء الرجل أولًا وسَريرُه ثانيًا، وبهذا تتفاوَتُ الأطوال حتى يبلُغ بعضُها مسالك النَّجم في أطباق السماء، وإن بقِيَت الكثرة فوق الأرض زاحفةً على بطونِها ابتغاءَ طعامٍ وشراب.