موقف ابن خلدون من الفلسفة١
في الفصل الرابع والعشرين من «المُقدِّمة»، وعنوانه: «في إبطال الفلسفة وفساد مُنتحلها» يشرح ابن خلدون رأيه في الفلسفة، فيبدأ بعرْض طبيعتها، ثم يُعقِّب على ذلك ببيان أوجه بُطلانها؛ وأودُّ — بهذه الكلمة المُوجَزة — أنْ أُبيِّن أنَّ الطريقة التي دحَضَ بها الفلسفة من شأنها كذلك أن تدحَضَ العِلم الطبيعي. ولمَّا كان ابن خلدون حريصًا على المنهج العلمي، فهو — إذن — ينقُضُ نفسه بنفسه؛ ولكي يُحقِّق غايةً ثانوية بالنسبة إليه — ألا وهي تفنيد الفلسفة — قد فَوَّتَ على نفسه غايةً أساسيةً له، وهي تأسيس المنهج القائم على الاستدلال العقلي من مُشاهداتٍ صحيحة.
ننتقل بعدَ هذه المُقدِّمة إلى موضوعنا الرئيسي، وهو موقف ابن خلدون من الفلسفة، ثم تَعقيبنا على هذا الموقف؛ يقول — في الفصل الذي عقدَه لذلك — ما مُؤدَّاه أنَّ قومًا من عُقلاء النوع الإنساني قد زعَموا أن الوجود كله، الحِسِّيَّ منه وما وراء الحسِّي، يُدرَك بالأنظار الفكرية والأقيِسَةِ العقلية، وأنَّ تصحيح العقائد الإيمانية إنما يكون بالرجوع إلى النَّظَر العقلي، وهؤلاء يُسمَّون فلاسفة؛ وهؤلاء الفلاسفة قد وَضَعوا قانونًا يهتدي به العقل في نظرِهِ عند التمييز بين الحقِّ والباطل وسمَّوهُ بالمنطق.
وخُلاصة رأيهم أنَّ العقل هو الفَيصل في الأمور، وأنَّ طريقة العقل هي أن ينتزِع المعاني المُجرَّدة من الموجودات الحِسِّية، فيجيء كلُّ معنًى مُجرَّدٌ صالحًا لأن ينطبِق على جميع مُفردات النوع الواحد «كما ينطبِق الطابع على جميع النُّقوش التي ترسُمُها في طينٍ أو شمع.» وتُسمَّى هذه المعاني التي جرَّدناها من المحسوسات بالمَعقولات الأوائل؛ ثم تُجرَّد من تلك المعاني الكلية مَعانٍ أخرى أعمُّ منها، ومن هذه المعاني الأخرى تُجَرَّد معانٍ ثالثة، وهلَّم جرًّا، إلى أن ينتهي التجريد بنا إلى المعاني البسيطة الكلية، المُنطبقة على جميع المعاني والمُفردات الجُزئية؛ ولا يكون منها تجريد إلى ما هو أبسطَ منها — إذ هي قمَّة التجريد والبساطة — وهذه المُجرَّدات كلُّها إذا ما تآلَفَ بعضُها مع بعض، كان الحاصِل هو «العلوم» وهي تُسمَّى بالمعقولات الثواني.
ويرى الفلاسفة أنه إذا نظر الفِكر في هذه المعقولات المُجرَّدة — أي في العلوم — نظرةً تقوم على البُرهان العقلي اليَقيني، استطاع أن يتصوَّر الوجود على حقيقتِه؛ ثُمَّ يزعُم الفلاسفة — هكذا يقول ابن خلدون — أنَّ سعادة الإنسان مرهونة بهذا الإدراك العقلي للموجودات كلها؛ وهو يستنكِر هذه النتيجة التي يراها عجيبة، وهي أن يكون الإنسان قادرًا — بحُكم عقله وحدَه — أن يصِل إلى التمييز الخُلقي بين الفضيلة والرذيلة، حتى «ولو لم يَرِدْ شرعٌ» يُعينُه على هذا التمييز. ولو صحَّ هذا لاستغنَينا بالعقل عن الشَّرع، وهو عندَه مُحال.
- (١)
إن اعتماد الفلسفة على العقل وحده فيه قُصورٌ عمَّا وراء ذلك من «رُتَب خلق الله»؛ وفي اكتفاء الفلاسفة بالعقل شَبَهٌ باكتفاء الطبيعيِّين بالأجسام المادية وحدَها دون العقل والنقل معًا؛ فهؤلاء يعتقدون أن ليس وراء المَحسوسات شيء، وأولئك يعتقِدون أن ليس وراء المعقولات شيء، فهما في قُصور النظر صِنوان.
وشرح ذلك أنَّنا في المجال الفلسفي نُفرِّق بين ثلاث سُبُل للمعرفة، هي: الحواس، والعقل، والحدْس؛ فالمعرفة التي سبيلها الحواسُّ هي تلك الانطباعات التي تنطبِع بها العَين والأُذن وغيرهما من أعضاء الحس، وهي ما يُسمُّونه بالمُلاحظة الخارجية، أو بالمُشاهدة، التي هي رُكن أساسي في منهج العلوم الطبيعية؛ وأما المعرفة التي سبيلُها العقل، فهي تلك التي نَستخلِصها بالاستِدلال؛ ولكن ممَّ نستدل؟ إنَّنا إما أن نستدلَّ من المعلومات الأولية التي جاءتْنا عن طريق الحواس، وذلك هو ما يحدُث في مجال العلوم الطبيعية؛ أو أن نَستدلَّ من حقيقةٍ كلية مَفروضة ومأخوذة بادئ ذي بَدْءٍ مأخَذَ التسليم، وذلك هو ما يحدُث في مجال العلوم الرياضية، أو ما يجري مَجراها من علومٍ أخرى تقوم على الاستنباط كالفِقه مثلًا؛ وأما المعرفة الحدْسيَّة فهي التي يُحصِّلها الإنسان بالعيان المُباشر للحقيقة المُدرَكة، فلا هو إدراك بإحدى الحواسِّ الظاهرة، ولا هو إدراك باستدلالٍ عقليٍّ يسير في خطواتٍ ينتقِل بها من المُقدِّمات إلى النتائج، ولكنه إدراك يتمُّ بالمواجهة المُباشرة التي ينكشِف بها الحِجاب بين الذات المُدرِكة والموضوع المُدرَك.
وهنالك طائفة من رجال الفكر من رأيِها أنه مُحال على الحواس، وعلى العقل — إما مُتفرِّقين أو مُجتمِعين — أن يصِلا إلى إدراك الحقيقة في جوهرها؛ لأنَّ جوهر الحقيقة كيفي، ولا يُدرِك الإنسانُ الكيفَ إلَّا بوجدانه، وهو ما يُسمُّونه اصطلاحًا «بالحدْس»؛ فلئن كانت الحواسُّ والعقل معًا يُدرِكان من الأشياء ظواهرها، فالحدْس وحدَه هو الذي يُدرِك الحقيقة من باطن.
وابن خلدون وهو من هذه الطائفة، وعلى أساس مَذهبِهِ في صِدق المعرفة الحدْسية وحدَها في الموضوعات التي تُجاوز الظاهر، تراه يُفنِّد الفلسفة، على اعتبار أن الفلسفة تُقيم بناءها على العقل وأقيستِه، مع أنها تتعرَّض لموضوعات لا تخضَعُ لهذا الإدراك العقلي القياسي؛ وهو نفسه الرأي الذي نادى به وسبَقَهُ إليه الإمام الغزالي في تفنيده للفلسفة.
ولا يسعُني في الحقِّ إلَّا أن أعجبَ في هذا الصددِ لقول القائل إنَّ الفلسفة تَبني بناءها على أساس الأقيسة العقلية، ولذلك فهي باطِلة من حيث إنها تَستخدِم القياس العقليَّ فيما لا يصلُح له؛ أقول إنه لا يسعُني إلا أن أعجبَ لرأيٍ كهذا، لأنَّ القياس العقلي لا يَتمُّ أبدًا إلا بافتراضِ قيام مُقدِّمة أو مُقدِّمات نَقيسُ عليها لننتزِعَ النتائج اللازِمة عنها؛ فمن أين يأتي الفلاسفة بمُقدِّماتهم التي يَبنون عليها أقيِستَهم العقلية هذه؛ إنهم يأتون بها إما عن طريق الحدْس لِما يُسمُّونه بالمبادئ الأولى — ذلك إن كانوا من زُمرة الفلاسفة المِثاليِّين — وإما عن طريق المُعطيات الحسِّية إن كانوا من زُمرة الفلاسفة التجريبيِّين، ومعنى ذلك أنه إذا اشترط مُشترط أن يكون الحدْس هو مصدر المعرفة الحق، فهو باشتراطه هذا لا يهدِم الفلسفة، ولكنه يتحيَّز لفريقٍ من الفلاسفة دون فريق.
نعم قد يكتفي الإنسان المُدرِك بوجدانه حَقيقةً ما. قد يكتفي بهذه الحقيقة التي أدركَها، وقد يدمج ذاته فيها، وعندئذٍ يُقال عنه إنه من جماعة المُتصوِّفة؛ ولكنه أيضًا قد لا يكتفي بذلك، بل يعود فيصبُّ عليها عملية القياس المنطقي لينتزِع منها ما يترتَّب عليها من نتائج، وعندئذٍ يُقال عنه إنه فيلسوف، وفي ظنِّي أنه لا يجوز لنا أن نرفُض الأقيِسَةَ العقلية ونرميها بالبُطلان، إلا إذا رفضْنا معها المبدأ الأول الذي أدركْناه بالحدْس بادئ ذي بدء.
- (٢)
إنَّ في تجريدِنا للمعاني الكلية من الموجودات الحسِّية، ثُمَّ في زعمِنا بعد ذلك أن الأولى مُطابقة للثانية — وهو «ما يُسمُّونه بالعِلم الطبيعي» — لقصورًا؛ إذ «إن المطابقة بين تلك النتائج الذِّهنية التي تُستخرَج بالحدود والأقيسة — كما في زعمهم — وبين ما في الخارج، غير يَقيني؛ لأنَّ تلك أحكامٌ ذهنية كليَّة عامَّة، والموجودات الخارجية مُتشخِّصة بموادِّها. ولعلَّ في المواد ما يمنع مُطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي.» ويمضي ابن خلدون في اعتراضه هذا حتى ينتهي إلى القول بأنه حتى لو سَلَّم بانطباق المعاني المُجرَّدة على الطبيعة الخارجية «إلَّا أنه ينبغي لنا الإعراضُ عن النظر فيها، إذ هو من تَرْكِ المُسْلِمِ لما لا يَعنيه (أي ترْك المُسلِم ما يَعنيه إلى ما لا يَعنيه) فإنَّ مسائل الطبيعيات لا تُهِمُّنا في دِينِنا ولا معاشنا، فوجَبَ علينا تركُها.»
وهذه هي أهم نقطة أردْتُ إبرازها؛ لأنَّنا لو أبطلْنا الفلسفة على أساس أنَّها تُجرِّد من المحسوسات معقولات، ثم تزعُم أنَّ هذه المعقولات مُطابِقة للمحسوسات، مع ما بين الجانِبَين من فارقٍ كبير؛ أقول إنَّنا لو أبطلْنا الفلسفة على هذا الأساس، فقد أبطَلْنا بالتالي العلوم الطبيعية كلها، بما فيها عِلم الاجتماع الذي أراد ابن خلدون أن يُقيم بناءه.
نعم إنَّ مُشكلة العلاقة بين الصورة الذهنية من جهةٍ ومادَّة الأشياء العَينية من جهةٍ أخرى، هي ممَّا قد اختلفت فيه مذاهب الفلسفة، اختلافًا شطرَهم فريقين أساسيَّين: ففريقٌ يرى أن المُطابقة بين الصور الذهنية والأشياء الخارجية أمرٌ محال، لهذا الاختلاف بين الجانبين، الذي ذكَر ابن خلدون شيئًا منه؛ وفريق آخَر يذهب إلى أن الصور الذهنية إنْ هي إلا صُور لمادة، فلو لم تكن مادةٌ لما كانت صور.
وقد كان من حقِّ ابن خلدون أن يختار لنفسه تأييد الفريق الأول، دون الفريق الثاني؛ لكنَّه لو فعل ذلك، لكان: أولًا: آخِذًا بأحد الاتجاهات الفلسفية، لا مُبْطِلًا للفلسفة على إطلاقها. وثانيًا: لو فعل ذلك لقطَعَ على نفسه الطريق الذي يُحقِّق له غايتَه الرئيسية، وهي أن يكون معدودًا من عُلماء الاجتماع؛ لأنَّ العِلم — كائنًا ما كان مَوضوعه — يفرض — أساسًا — أنَّ قوانينه العامة صالحة للتطبيق على الواقع، أي أنَّ الصور العقلية مُطابقة بوجهٍ من الوجوه لمادة العالم الخارجي.
- (٣)
والوجه الثالث من أوجه بُطلان الفلسفة عند ابن خلدون، هو أنها تبحث أيضًا — إلى جانب بحثِها في الموجودات الحِسِّية — «في الموجودات التي وراء الحِس، وهي الرُّوحانيات، ويُسمُّونه العِلمَ الإلهيَّ، وعلمَ ما بعد الطبيعة.» مع أن هذه الموجودات مجهولة في ذَواتها «ولا يُمكن التوصُّلُ إليها، ولا البُرهان عليها، لأنَّ تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية، إنما هو مُمكن فيما هو مُدرَكٌ لنا، ونحن لا نُدرِك الذَّوات الرُّوحانية حتى نُجرِّد منها ماهياتٍ أخرى، فلا يتأتَّى لنا برهان عليها إلَّا ما نجِده بين جنبَينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مَداركها.»
ومرة أخرى نقول إن ابن خلدون من حقِّه أن يقول هذا كله بالنسبة إلى الموجودات الرُّوحانية، لكنه إذ يقول ذلك عنها، فهو يسلك نفسه بين فريق من الفلاسفة دون فريق، ولا يكون مُبطلًا للفلسفة على إطلاقها؛ وذلك لأنَّ الفلسفة قد سارت في أحد طريقَين رئيسيَّين بالنسبة إلى هذا الموضوع: فطريق منهما يؤدِّي بأصحابه إلى أنَّ في مُستطاع الإنسان إدراك هذه الحقائق التي هي وراء الطبيعة، إدراكًا يجعلون الحدْس أداته، وهؤلاء هُم الفلاسفة المِثاليُّون والفلاسفة العقليون جميعًا؛ وطريق آخَر يؤدِّي بأصحابه إلى استحالة أن يُدرِك الإنسان إلَّا ما قد تنطبِع به حواسُّهم من الموجودات الخارجية، وأولئك هم الفلاسفة التجريبيُّون؛ وأُكرِّر القولَ بأنَّ ابن خلدون من حقِّهِ أن يكون من هذا الفريق الثاني الذي يُنكِر قيام عِلم ما بعد الطبيعة، دون أن يتنكَّر بهذا للفلسفة من حيث هي كذلك. ولئن كان من رأي ابن خلدون أنَّ إثبات الموجودات الرُّوحانية لا يتعدَّى ما نراه كائنًا في نفوسنا نحن، فمن التجريبيِّين من يقول هذا بِعَينه، وكلُّ ما في الأمر هو أنَّنا لا يجوز أن نُجاوِز مجال الإدراك الذاتي، لنزعُم أنَّ ما نُدركه في ذَواتِنا إنما يدلُّ على ما هو موجود في الخارج حقًّا.
وليطمئنَّ ابن خلدون؛ فقوله النافِذ بأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية لا يكون مُمكنًا إلَّا فيما هو مُدرَك لنا، ولمَّا كنَّا لا نُدرِك الذوات الرُّوحانية، فليس في وُسعنا أن نُجرِّد منها ماهيَّاتٍ أخرى. أقول إنَّ قوله النافِذ هذا هو قُطب الرَّحى من فلسفة «كانْت»، وهو أساس الفلسفة الوضعية كلها. ونُريد بهذا أن نؤكِّد أنَّ وجهة النظر التي أخذَ بها ابن خلدون في هذا الموضع، هي «فلسفة» وليست هي مما يُبطِل الفلسفة ويُعلن فسادَها.
غير أنَّ وجه التناقُض عند ابن خلدون، أنَّه لم يَثْبُتْ على موقفٍ واحدٍ إزاء تلك الكائنات الغيبيَّة المجهولة لنا بحُكم كونها غيبية؛ فلو أنه قال لا حِيلةَ لنا إزاءها إلَّا ما يُقال لنا عنها بطريق الوحي الذي يُوحى به للأنبياء، لَما كان في ذلك من بأس، لأنه عندئذٍ كان سيُحيلُها إلى منطقةِ الإيمان وبذلك ينتهي أمرُها؛ لكنه عزَّ عليه ألا يجعل للإنسان قُدرة على إدراكها بأداةٍ إدراكية خاصة بها، فيقول عن إدراك الفِطرة (في المُقدِّمة السادسة) إن «للنفس استعدادًا للانسلاخ من البشرية إلى الملاكية، لتصير بالفعل من جِنس الملائكة وقتًا من الأوقات في لمحةٍ من اللَّمحات، فللنفس في الاتصال جِهتا العلوِّ والسُّفل، وهي مُتَّصلة بالبدَن — مِن أسفَلَ منها — وتكتسِب به المَدارِك الحسِّية التي تَستعدُّ بها للحصول على التعقُّل بالفعل. ومُتَّصِلة — من جهة الأعلى منها — بأُفق الملائكة ومُكتسبة به المَداركَ العلميةَ والغَيبية.»٥ - (٤)
والوَجهُ الرابع من أوجه بُطلان الفلسفة عند ابن خلدون ما تذهَبُ إليه من أنَّ السعادة مَرهونة بالعِلم علمًا عقليًّا بحقيقة الوجود؛ ومن رأيه أنها مُتوقِّفة على «امتِثال الإنسان ما أُمِرَ به من الأعمال والأخلاق» وإلَّا لما كان للشرع مُسوِّغ؛ ولابن خلدون في تحليل مصدر السعادة شرْح طويل، لكن الذي يلفِت النظر فيه هو مُحاولته البرْهنة على أنها لا تَنبني على الإدراك العقلي، إذ الإدراك العقلي مُعتمِد أساسًا على الإدراكات الحسِّية، وهذه بدَورها نتيجة لحياة البدن، فكيف تكون السعادة صادِرة عن نشاطٍ جِسمي، مع أن شرطها هو مُقاومة الجِسم ونشاطه؟ وهذا كلام لا يَتَّسِق مع عالِمٍ يجعل منهجه المُشاهدة مَصدرًا وتطبيقًا.
على أن للفلسفة — في رأيه — بعد هذا كلِّه ثمرةً مُفيدة، وتلك أنها تشحذُ الذهن في ترتيب الأدلَّة والحِجج، لتحصيل ملَكَةِ البرهنة السديدة؛ «لأن نَظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان» — على حدِّ تعبيره — هو شرط عملية التفلسُف بكلِّ ما فيها من علومٍ طبيعية ورياضية؛ فلا بأس في دراسة الفلسفة على شرْط التحرُّز من مَزالقها «وليكُن نَظرُ من ينظُر فيها بعدَ الِامتلاء من الشرعيَّات والاطلاع على التفسير والفِقه ولا يُكِبَّنَّ أحدٌ عليها وهو خُلو من علوم الملَّة، فَقَلَّ أن يسلَمَ لذلك من مَعاطيها.»٦ هكذا يختم ابن خلدون حديثه في الفلسفة، ولو صَحَّتْ هذه النظرية لذهبتِ الفلسفة وذهبَ معها العِلم الذي كان ابن خلدون من أساطينِهِ.