طرفة بن العبد
نسبه ومكانه في الشعراء
هو طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. وطَرَفَةُ — بالتحريك — في الأصل واحدة الطرفاء وهو الأثل، وبها لُقِّبَ طرفة، واسمه عمرو. وهو أشعر الشعراء بعد امرئ القيس ومرتبته ثاني مرتبة؛ ولهذا ثُنِّيَ بمعلقته. قال عبد القادر البغدادي: ولا يعارض هذا ما تقدم في ترجمة امرئ القيس من الخلاف في الأربعة: امرئ القيس، وزهير، والنابغة، والأعشى؛ لأن المراد معلقته فقط إذ ليس له فيما عداها ما يوازن حوليات زهير.
قال ابن قتيبة: هو أجود الشعراء قصيدة، وله بعدَ المعلقة شعر حسن، وليس عند الرواة من شعره وشعر عبيد إلا القليل، وهذا الكلام وقفتُ عليه في بعض كتب الجاحظ، قال: وإلا لكانت منزلتُهما دون ما يقال، وهذا يستقيم في عبيد؛ لأنه عُمِّرَ كثيرًا، أما طرفة فإنه قُتِلَ وهو ابن ستٍّ وعشرين سنة كما قالت أخته:
وقول عبد القادر البغدادي إنه في الرتبة الثانية من الشعر مخالف لقول ابن سلام فيه؛ فإنه عدَّه في الطبقة الرابعة وقرنه بعبيد بن الأبرص، وعلقمة الفحل التميمي، وعدي بن زيد العبادي. قال: فأما طرفة فأشعرهم واحدة وهي قوله:
ويليها أخرى مثلها وهي:
ثم من بعدُ له قصائد حسان جياد، قال محمد بن خطاب: قال الذين قدَّموا طرفة هو أشعرهم إذ بلغ بحداثة سِنِّهِ ما بلغ القوم في طول أعمارهم، وإنما بلغ نَيِّفًا وعشرين سنة، وقيل: بل عشرين سنة، فخَبَّ وركض معهم.
ذكاؤه وشيء من خبره
وكان طرفة في صغره ذَكِيًّا حديدَ الذهن، حضر يومًا مجلس عمرو بن هند، فأنشد المسيب بن علس قصيدته التي يقول فيها:
فقال طرفة: استنوق الجمل. وذلك أن الصيعرية من سمات النوق دون الفحول، فغضب المسيب، وقال: من هذا الغلام؟ فقالوا: طرفة بن العبد. فقال: ليقتلنه لسانه. فكان كما تفرس فيه.
ومات أبو طرفة وهو صغير، فأبى أعمامه أن يقسموا ماله، وكانت أم طرفة من بني تغلب واسمها وردة فقال:
في أبيات. ويقال: إن أول شعر قاله أنه خرج مع عمه في سفر، فنصب فخًّا فلما أراد الرحيل قال:
والأشطار الثلاثة الأولى مذكورة في قصة كليب، وهو أقدم من طرفة. ويروى أن النبي ﷺ تمثل بقوله: «بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد.» ولعل المراد أنه تمثل به مقلوبًا أو نحو ذلك؛ لأن الله ما علَّمه الشعر وما ينبغي له.
خبر مقتله
وسبب قتله أنه هجا عمرو بن هند وقابوس أخاه بقصيدته التي منها:
ومنها:
فلم تبلغ عمرًا لأنه كان لا يجسر أحد أن يخبره لشدة بأسه، وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة؛ لشدة بأسه. فاتفق أن عمرو بن هند هذا خرج يومًا للصيد فأمعن في الطلب، فانقطع في نفرٍ من أصحابه، حتى أصاب طريدته، فنزل وقال لأصحابه: اجمعوا حطبًا. وفيهم عبد عمرو بن مرثد أحد أقارب طرفة، فقال لهم عمرو: أوقدوا. فأوقدوا وشووا، فبينما عمرو يأكل من شوائه وعبد عمرو يُقدِّم إليه إذ نظر إلى خصر قميصه منخرقًا، فأبصر كشحه، وكان من أحسن أهل زمانه جسمًا، وقد كان بينه وبين طرفة أمر وقع بينهما منه شر، فهجاه طرفة بقصيدته التي يقول فيها:
فقال له عمرو بن هند: يا عبد عمرو لقد أبصر طرفة كشحك حيث يقول: «ولا خير فيه غير أن له غنى …» البيت، فغضب عبد عمرو وقال: لقد قال في الملك أقبح من هذا. فقال عمرو بن هند: وما الذي قال؟ فندم عبد عمرو على الذي سبق منه وأبى أن يُسمِعَه ما قال، فقال: أسمعنيه وطرفة آمن. فأسمعه القصيدة، فسكت عمرو على ما وقر في نفسه، وكره أن يَعجَل عليه لمكان قومه، فلما طالت المدة ظَنَّ طرفة أنه قد رضي عنه، وكان المتلمس — وهو جرير بن عبد المسيح — هجا عمرو بن هند أيضًا، فقَدِمَا إليه فجعل يُرِيهِمَا المحبة ليأنسا به، فلما طال مقامهما عنده قال لهما: لعلكما اشتقتما إلى أهلكما. قالا: نعم. فكتب لهما إلى عامله بالبحرين وهَجَر واسمه ربيعة بن الحارث العبدي — وقيل: اسمه المعكبر — فلما هبط النجف — وقيل: أرضًا قريبة من الحيرة — إذا هما بشيخ معه كسرة يأكلها وهو يتبرَّز ويقتل القمل، فقال له المتلمس: باللهِ ما رأيت شيخًا أحمق منك، ولا أقل عقلًا. فقال له الشيخ: وما الذي أنكرت عليَّ؟ فقال: تتبرز وتأكل وتقتل القمل! قال: إني أخرج خبيثًا، وأُدخِل طيبًا، وأقتل عدوًّا، ولكن أحمق مني من يجعل حتفه بيمينه وهو لا يدري. فتنبه المتلمس، فإذا هو بغلام من أهل الحيرة، فقال له: يا غلام أتقرأ؟ قال: نعم. ففتح كتابه ودفعه إليه، فلما نظر إليه، قال: ثكلت المتلمس أمه. وإذا في الكتاب: «إذا أتاك المتلمس، فاقطع يديه ورجليه، وادفنه حيًّا.» فرمى المتلمس صحيفته في نهر يقال له: كافر، وفي ذلك يقول:
وضُرِبَ بصحيفته المثل، ثم تبع طرفة ليرده فلم يدركه، وقيل بل أدركه، وقال له: تعلم أن ما كتب فيك إلا بمثل ما كُتِبَ فيَّ، فقال طرفة: إن كان قد اجترأ عليك فما كان ليجترئ عليَّ. فهرب المتلمس إلى الشام، وانطلق طرفة إلى العامل المذكور، حتى قدم عليه بالبحرين وهو بهَجَر، فدفع إليه كتاب عمرو بن هند فقرأه، فقال: تعلم ما أُمِرْتُ به فيك؟ قال: نعم أمرت أن تجيزني وتحسن إليَّ. فقال له العامل: إن بيني وبينك خئولة أنا لها راعٍ، فاهرب من ليلتك هذه، فإني قد أُمِرْتُ بقتلك، فاخرج قبل أن تُصبِح ويعلم بك الناس. فقال له طرفة: اشتدت عليك جائزتي، وأحببت أن أهرب، وأجعل لعمرو بن هند عليَّ سبيلا، كأني أذنبت ذنبًا، واللهِ لا أفعل ذلك أبدًا، فلما أصبح أمر بحبسه، وجاءت بكر بن وائل فقالت: قدم طرفة فدعا به صاحب البحرين، فقرأ عليهم كتاب الملك، ثم أمر بطرفة فحُبِسَ وتَكَرَّمَ عن قتله، وكتب إلى عمرو بن هند أن ابعث إلى عملك فإني غير قاتل الرجل. فبعث إليه عمرو بن هند رجلًا من بني تغلب يُقال له عبد هند، واستعمله على البحرين، وكان رجلًا شجاعًا، وأمره بقتل طرفة وقتل ربيعة بن الحارث العبدي فقدَّمها عبد هند، فقرأ عهده على أهل البحرين، ولبث أيامًا، واجتمعت بكر بن وائل فهَمَّت به، وكان طرفة يحضُّهم وانتدب له رجل من عبد القيس، ثم من الحواثر يقال له أبو ريشة فقتله، فقبرُه معروف بهجر بأرض منها لقيس بن ثعلبة. ويزعمون أن الحواثر ردته إلى أبيه وقومه لما كان من قتل صاحبهم إياه كذا قال ابن السكيت: ويعارضه ما تقدم من أن أباه مات وهو صغير. ولما حبسه العبدي المتقدم بعث إليه بجارية اسمها خولة فلم يقبلها، وفي ذلك يقول:
ومنها البيت المشهور يخاطب به عمرو بن هند: