الأعشى ميمون
نسبه وكنيته
هو الأعشى ميمون بن قيس بن جندل بن شراحيل بن عوف بن سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. ويكنى أبا بصير، وكانوا يسمونه صناجة العرب لجودة شعره، وكان يقال لأبيه: قتيل الجوع؛ سمي بذلك لأنه دخل غارًا يستظل فيه من الحر، فوقعت صخرة عظيمة من الجبل، فسدت فم الغار، فمات فيه جوعًا، وهجاه بعض بني عمه، فقال:
طبقته في الشعراء
وهو أحد فحول أهل الجاهلية، عَدَّهُ ابن سلام في الطبقة الأولى من شعراء الجاهلية، وقرنه بامرئ القيس وزهير والنابغة، وكان أهل الكوفة يُقَدِّمُونَهُ عليهم، وسُئِلَ يونس بن حبيب النحوي: مَن أشعر الناس؟ فقال: لا أومئ إلى رجل بعينه، ولكن أقول: امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب. وهو أول من سأل بشعره، وكان أبو عمرو بن العلاء يعظم محله، ويقول: شاعر مُجيد كثير الأعاريض والافتتان. وإذا سئل عنه وعن لبيد قال: لبيد رجل صالح، والأعشى رجل شاعر. وروي أن عبد الملك قال لمؤدِّب أولاده: أدِّبهم برواية شعر الأعشى؛ فإنه — قاتله الله — ما كان أعذب بحره وأصلب صخره! وقال المفضل: من زعم أن أحدًا أشعر من الأعشى فليس يعرِف الشعر. وقال أبو عبيد: الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين: امرئ القيس والنابغة وزهير. قال: كان الأعشى يقدمه على طرفة؛ لأنه أكثر عدد طوال جياد، وأوصف للخمر وأمدح وأهجى وأكثر أعاريض، وطرفة يوضع مع أصحابه وهم أصحاب الواحدات، فمنهم الحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم التغلبي وسويد بن أبي كاهل اليشكري، قال: وإنما فضل الأعشى على هؤلاء؛ لأنه سلك أساليب لم يسلكوها، فجعله الناس رابعًا للأوائل بآخرة، واتفقوا على أن أشعر الشعراء واحدة في الجاهلية طرفة والحارث بن حلزة وعمرو بن كلثوم، ثم اختلفوا فيهم، ونظيرهم في الإسلام سويد بن أبي كاهل اليشكري.
وروي أن أبا عمرو قال: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير والأعشى؛ فامرؤ القيس من اليمن والنابغة وزهير من مضر والأعشى من ربيعة. وبعث أبو جعفر المنصور يحيى بن سليم الكاتب إلى حماد الراوية بالكوفة يسأله: من أشعر الناس؟ فقال له: ذاك الأعشى صناجها. وروي أن الأخطل قدم الكوفة، فأتاه الشعبي يسمع من شعره، قال: فوجدته يتغدى فدعاني إلى الغداء فأبيت، فقال: ما حاجتك؟ قلت: أحب أن أسمع من شعرك. فأنشدني:
قال لي: يا شعبي، ناك الأخطل أمهات الشعراء بهذا البيت. فقلت: الأعشى في هذا أشعر منك يا أبا مالك. قال: وكيف؟ قلت: لأنه قال:
فقال وضرب بالكأس الأرض: هو — والمسيحِ — أشعر مني، ناك الأعشى أمهات الشعراء إلا أنا.
وقال أبو عبيدة: من قدَّم الأعشى يحتج بكثرة طواله الجياد، وتصرُّفه في المديح والهجاء وسائر فنون الشعر، وليس ذلك لغيره، وسُئِلَ مروان بن أبي حفصة: مَنْ أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول:
وهذا البيت من مقطعة للأعشى يهجو بها علقمة بن علاثة، وسيأتي سبب ذلك.
خبر هاجسه من الجن
وهاجس الأعشى اسمه مسحل بن أثاثة. روي عن الأعشى أنه قال: خرجت أريد قيس بن معدي كرب بحضرموت فضللت في أوائل أرض اليمن؛ لأني لم أكُن سلكت ذلك قَبْلُ، فأصابني مطر، فرميت ببصري أطلب مكانًا ألجأ إليه، فوقعت عيني على خباء من شعر، فقصدت نحوه، وإذا بشيخ على باب الخباء، فسلَّمت عليه، فرد السلام، وأدخل ناقتي خباء آخر كان بجانب البيت، فحططت رَحْلِي وجلست، فقال: من أنت؟ وأين تقصد؟ قلت: أنا الأعشى أقصد قيس بن معدي كرب، فقال: حيَّاك الله، أظنك امتدحته بشعر. قلت: نعم. قال: فأنشدنيه. فابتدأت مطلع القصيدة:
فلما أنشدته هذا المطلع منها، قال: حسبك، أهذه القصيدة لك؟ قلت: نعم. قال: مَنْ سمية التي نسبت بها؟ قلت: لا أعرفها، وإنما هو اسم أُلْقِيَ في رُوعي. فنادى: يا سمية اخرجي. وإذا جارية خماسية قد خرجت، فوقفت وقالت: ما تريد يا أبت؟ قال: أنشدي عمك قصيدتي التي مدحتُ بها قيس بن معدي كرب، ونسبت بك في أولها. فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفًا، فلما أتمتها قال: انصرفي، ثم هل قلت شيئًا غير ذلك؟ قلت: نعم، كان بيني وبين ابن عَمٍّ لي — يقال له يزيد بن مسهر يكنى أبا ثابت — ما يكون بين بَنِي العم فهجاني وهجوتُه فأفحمته. قال: ماذا قلت فيه؟ قلت: قلت:
فلما أنشدته البيت الأول قال: حسبك من هريرة هذه التي نسبت فيها. قلت: لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها. فنادى: يا هريرة! فإذا جارية قريبة السن من الأولى خرجت، فقال: أنشدي عمَّك قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر. فأنشدتْها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفًا، فسقط في يدي، وتحيرت وتغشتني رعدة، فلما رأى ما نزل بي قال: ليفرج روعك أبا بصير، أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي ألقى على لسانك الشعر. فسكنت نفسي ورجعت إليَّ، وسكن المطر، فدلني على الطريق، وأراني سَمْتَ مقصدي، وقال: لا تعج يمينًا ولا شمالًا حتى تقع ببلاد قيس.
ورُوِيَ عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي — رضي الله عنه — أنه قال: سافرتُ في الجاهلية، فأقبلت ليلة على بعير أريد أن أسقيه، فلما قربته من الماء تأخر، فعقلته ودنوت من الماء، فإذا قوم مشوهون عند الماء فبينا أنا عندهم إذ أتاهم رجل أشد تشويهًا منهم، فقالوا: هذا شاعر. فقالوا: يا أبا فلان أنشد هذا فإنه ضيف. فأنشد:
فوالله ما خرم منها بيتًا حتى أتى على آخرها، فقلت: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا أقولها. قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران. قال: إنك صادق أنا الذي ألقيتها على لسانه وأنا مسحل، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس.
وقيل: إن هريرة وخليدة أختان كانتا قينتين لبشر بن عمرو وكانتا تغنيانه وقدم بهما إلى اليمامة لما هرب من النعمان بن المنذر، وقيل: إن هريرة كانت أَمَةً سوداء لحسان بن عمرو، وكان الأعشى يشبب بها. وروي أن رجلًا من أهل البصرة خرج منها حاجًّا، فقال: إني لأسير في ليلة أضحيانة إذ نظرت إلى شاب راكب على ظليم قد زمَّه بخطامه وهو يذهب عليه ويجيء ويرتجز ويقول:
فعلمت أنه ليس بإنسي فاستوحشت منه فترددت ذاهبًا حتى آنست به، فقلت: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول:
فعرفت أنه يريد امرأ القيس قال: ثم ذهب وأقبل، قلت: ثُمَّ مَن؟ قال: الذي يقول:
يريد الأعشى، ثم ذهب وأقبل، قلت: ثُمَّ مَنْ؟ قال: الذي يقول:
يريد طرفة.
شيء من سيرته وأخباره
وقال يحيى بن الجون راوية بشار: أعشى بني قيس أستاذ الشعراء في الجاهلية، وجرير بن الخطفى أستاذهم في الإسلام، وما مدح الأعشى أحدًا في الجاهلية إلا رفَعَه ولا هجا أحدًا إلا وضعه. وكان الذي يريد أن يذكره منهم يستميله لعلَّه أن يمدحه فيرفعه ذلك، فمن ذلك قصة المحلق الكلابي، وكان ذا بنات قد عنسن عليه، فقالت له امرأته: ما يمنعك من التعرض لهذا الشاعر، فما رأيت أحدًا اقتطعه إلى نفسه إلا أكسبه خيرًا؟ قال: ويحك! ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل، قالت: الله يخلفها عليك. فتلقاه المحلق من بعيد خوفًا أن يسبقه إليه أحد، فوجد ابنه يقود به، فأخذ الخطام، فقال الأعشى: من هذا الذي غلَبَنا على خطامنا؟ قال: المحلق. قال: شريف كريم. فأنزله ونحر له ناقته، وكشط له عن سنامها وكبدها، ثم أحاطت به بناته، فجعلن يغمزنه ويمسحنه، فقال: ما هذه الجواري حولي؟ قال: بنات أخيك. فلما رحل من عنده ووافى سوق عكاظ جعل ينشد قافيته التي مدح بها المحلق ومطلعها:
فتسابق الناس إليهن حتى تزوجن عن آخرهن واستغنى بعد فقره.
خبره مع ذي فائش الخميري
ولما رجع من عند سلامة ذي فائس الحميري وكان مدحه بقصيدته التي منها:
فلما أنشده إياها قال: صدقت «الشيء حيثما جعل» فأعطاه مائة من الإبل، وكساه حللًا، وأعطاه كرشًا مدبوغة مملوءة عنبرا، وقال له: إياك أن تخدع عنها. فأتى الحيرة فباعها بثلاثمائة ناقة حمراء، فخاف أن يُنتهب ماله فاستجار بعلقمة بن علاثة العامري، فقال له: أُجيرك من الأسود والأحمر. قال: ومن الموت؟ قال: لا. فأتى عامر بن الطفيل العامري أيضًا، فقال له مثل مقالة علقمة، فقال له الأعشى: ومن الموت؟ قال: نعم. قال: وكيف؟ قال: إن مت في جواري وديتُك. فقال علقمة: لو علمت أن ذلك مراده لهان عليَّ، وكان ذلك في أوان منافرة عامر وعلقمة المشهورة، وكانت العرب تهاب أن تنفر أحدهما على الآخر، ثم إن الأعشى ركب ناقته، ونفر عامرًا بقصيدته المشهورة التي يقول فيها:
فهدر علقمة دمه، وجعل له على كل طريق رصدًا، فقال الأعشى قصيدته التي مطلعها:
يقول فيها:
وقد كذب في هجوه لعلقمة فإنه كان من أجود العرب، ثم إنه أسلم وحسُن إسلامه، ثم إنه اتفق أن الأعشى سافر ومعه دليل، فأخطأ به الطريق فألقاه في ديار بني عامر بن صعصعة فأخذه رهط علقمة بن علاثة، فأتوه به، فقال علقمة: الحمد لله الذي أمكنني منك. فقال:
فقال قوم علقمة: اقتله وأرِحْنا والعرب من شر لسانه. فقال علقمه: إذن تُطْلَبُوا بدَمِه ولا ينغسل عني ما قاله، ولا يُعرف فضلي عند القدرة. فأمر به فحل وثاقه وألقى عليه حلة وحمله على ناقة وأحسن عطاءه، وقال له: انجُ حيث شئت. وأخرج معه من بني كلاب من يبلغه مأمنها، فجعل بعد ذلك يمدحه. وهجا رجلا من كلب فاتفق أن الكلبي أغار على حي من العرب، وكان الأعشى ضيفًا عندهم، فأسره فيمن أسر، وهو لا يعرفه، فمر بتيماء، ونزل قريبًا من شريح بن السموأل الذي يُضرب به المثل في الوفاء، وتقدم بعض قصته في ترجمة امرئ القيس، فمر شريح بالأعشى فناداه الأعشى وأنشد قصيدة ارتجلها مطلعها:
وقال منها في قصة السموأل:
فجاء شريح إلى الكلبي، فقال له: هَبْ لي هذا الأسير المضرور. فقال: هو لك. فأطلقه، وقال: أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك. فقال له الأعشى: إن من تمام صنيعتك أن تعطيني ناقة نجيبة، وتخليني الساعة. فأعطاه ناقة فركبها، ومضى من ساعته، وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إليَّ الأسير الذي وهبتُ لك حتى أحبوه وأعطيه، فقال: قد مضى. فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه.
خبره في الإسلام
وكان الأعشى جاهليًّا قديمًا، وأدرك الإسلام في آخر عمره، ورحل إلى النبي ﷺ في صلح الحديبية، فبلغ قريشًا خبرُه فرصدوه على طريقه، وقالوا: هذا صناجة العرب ما مدح أحدًا قط إلا رفع قدرَه. فلما ورد عليهم، قالوا: أين أردت يا أبا بصير؟ قال: أردت صاحبكم هذا لأُسْلِمَ، قالوا: إنه ينهاك عن خلال، ويحرمها عليك، وكلها لك موافق. قال: وما هن؟ قال أبو سفيان بن حرب: الزنا. قال: لقد تركني الزنا وما تركته، ثم ماذا؟ قال: القمار. قال: لعلي إن لقيتُه أن أصيب منه عوضًا من القمار، ثم ماذا؟ قال: الربا. قال: ما دنت ولا ادَّنت. قال: ثم ماذا؟ قالوا: الخمر. قال: أوه! أرجع إلى صبابة قد بقيت لي في المهراس فأشربها. فقال له أبو سفيان: هل لك في خير ممَّا هَمَمْتَ به؟ فقال: وما هو؟ قال: نحن وما هو الآن في هدنة، فتأخذ مائة من الإبل، وترجع إلى بلدك سنتك هذه، وتنظر ما يصير إليه أمرُنا، فإن ظهرنا عليه كنت قد أخذت خلفًا وإن ظهر علينا أتيتَه. فقال: ما أكره ذلك. فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، هذا الأعشى واللهِ لئن أتى محمدًا واتبعه ليُضْرِمَنَّ عليكم نيران العرب بشِعْرِه، فاجمعوا له مائة من الإبل. ففعلوا، فأخذها وانطلق إلى بلده، فلما كان بقاع منفوحة رَمَى به بعيره فقتله، وكان قد قال قصيدة يمدح بها النبي ﷺ مطلعها:
وروي أن النبي ﷺ قال في حقه: «كاد ينجو ولما.»
مفردات أبياته المشهورة
روي عن الشعبي أنه قال: الأعشى أغزل الناس في بيت، وأخنث الناس في بيت، وأشجع الناس في بيت، فأما أغزل بيت فقوله:
وأما أخنث بيت فقوله:
وأما أشجع بيت فقوله:
وفادته على الملوك
قالوا: وكان الأعشى قَدَرِيًّا، وكان لبيد مُثْبِتًا، قال لبيد:
وقال الأعشى:
قالوا إن العباديين لقَّنوه ذلك بالحيرة؛ لأنهم كانوا نصارى، وكان يشتري منهم الخمر، وكان الأعشى يَفِدُ على ملوك العرب وملوك فارس، فلذلك كثرت الفارسية في شعره، وكان أبو كلبة هجا الأعشى، وهجا الأصم بن معبد، فقال فيهما:
فأمسك عنه الأعشى فلم يجبه بشيء. وقال للأصم: أنت من بيت مشهور وأبو كلبة رجل مرذول فلا تُجِبْهُ فترفع من قدره. قالوا: والأعشى ممن أقر بالملَكَيْن الكاتبين في شعره، فقال في قصيدة يمدح بها النعمان:
وقد كانت العرب ممن أقام على دين إسماعيل والقول بالأنبياء، قالوا: والأعشى ممن اعتزل، وقال بالعدل في الجاهلية، ومن ذلك قوله: استأثر الله بالوفاء وبالعدل (البيت).
وسلك الأعشى في شعره كل مسلك، وقال في أكثر أعاريض كلام العرب، وليس ممن تقدم من فحول الشعراء أحد أكثر شعرًا منه، وكانت العرب لا تَعُدُّ الشاعر فحلًا، حتى يأتي ببعض الحكمة في شعره، فلم يعدوا امرأ القيس فحلًا حتى قال:
وكانوا لا يعدون النابغة فحلًا حتى قال:
وكانوا لا يعدون زهيرًا فحلًا حتى قال:
وكانوا لا يعدون الأعشى فحلًا حتى قال: