الفصل الأول
أحلام بوجود كائنات غير أرضية
لكي نَشعُر بالضآلة، كلُّ ما علينا فعله هو النظر لأعلى. إن
وجود الشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، ومجرَّة درب التبانة
يُمثل أدلةً كافية على أن الأرض ليسَت هي كل ما في الكون.
ومنذ اكتسب البشَر القُدرة على الكلام ونحن نتشارَك القصص حول
بناةِ السماوات المُقبَّبة وسكانها المُفترَضين، مِن آلهة
وأرواحٍ وملائكة وشياطين، الذين كانوا، بشكلٍ من الأشكال،
أولى الكائنات غير الأرضية.
وفقًا لإحدى قصص قبيلة شيروكي الأمريكية الأصلية، على سبيل
المثال، فإن درب التبانة عبارة عن شبكةٍ كبيرة غزَلَتْها عبر
السماء العنكبوتة الجدة، والتي استخدمتها للوصول إلى الجانب
الآخر من العالم وإرجاع الشمس.
1 وفي إحدى أساطير الأزتيك المُروِّعة، خرج إله
الحرب هويتزيلوبوشتلي من رحم أمِّه كواتليكويه مُكتملَ النمو
ومُدرَّعًا بالكامل. قطع رأس أخته كويولشاوكي، التي كانت
تُخطِّط لقتل كواتليكويه، وألقى برأسها في السماء، خالقًا
بذلك القمر.
2
حلَّت التفسيرات المادية للكون في نهاية المطاف مكان
التفسيرات الأسطورية. غير أنَّ فكرة أنه ربما تكون هناك
كائنات أخرى في السماء بقِيَت معنا، ووجدت جذورها العِلمية
الأولى في اليونان في القرن السادس قبل الميلاد.
ساهم أناكسيماندر، الفيلسوف الذي عاش في ميليتوس في المكان
الذي أصبح في العصر الحديث تركيا، بإحدى الأفكار الرئيسية.
كان هو أول من اقترح أنَّ الأرض جرم يطفو في فراغ لا نهائي،
غير مدعوم بشيء. وبالنسبة إلى شخصٍ عاش قبل ٢٢٠٠ سنة من إسحاق
نيوتن، كانت هذه رؤية مُذهلة. وصفها الفيلسوف كارل بوبر
بأنها «إحدى أجرأ الأفكار، وأكثرها ثورية، وأكثرها روعة في
تاريخ الفكر البشري بأكمله.»
3 اعتقد أناكسيماندر أيضًا أن الأرض كانت
أسطوانية، حيث تصطفُّ القارَّات في طرفٍ مسطح، لذلك لم يكن
مُحقًّا في كل شيء. غير أنه ابتكر فكرة الفضاء، ذلك المكان
الذي ليس لِعلوِّه أو انخفاضه نهاية. وبالقَدر نفسه من
الأهمية، كان نظام أناكسيماندر أول من ترك الباب مفتوحًا
أمام احتمالية وجود عوالِم أخرى مثل عالمنا. (على الرغم من
أنه ربما لم يكن يَعتقِد في وجود هذه العوالم في مكانٍ آخر في
الفضاء. ربما كان يعتقد أنها قد سبقت الأرض أو أعقبتها في
الزمن أو ربما صاحبتها في الوجود في كونٍ موازٍ
آخر.)
4
كان أناكسيماندر هو أول من اقترح أن الأرض جرم يَطفو
في فراغ لا نهائي، غير مدعومٍ بشيء.
كان خلفاء أناكسيماندر أكثر تحديدًا بشأن الفكرة التي
أصبحت تُعرف باسم «تعدُّد العوالم» وأكثر استعدادًا لاستِكشاف
آثارها. في القرن الخامس قبل الميلاد، ابتكر الفيلسوف
التراقي ليوكيبوس وتلميذه ديموقريطوس المذهب الذرِّي، أي
الاعتقاد بأنَّ الكون المرئي يتكوَّن من ذراتٍ مُتناهية
الصِّغَر غير قابلة للانقسام أو الائتلاف تتمخَّض في الفراغ
دون سببٍ أو غرض. العوالم في هذا التصوُّر ليسَت مخلوقة بقُدرة
إلهية؛ بل تتكوَّن ببساطة عندما يتصادم عددٌ كافٍ من الذرات
ويلتصق معًا. اعتقد ديموقريطوس أن ثمة إمداد غير محدود من
هذه الذرات، لذلك استنتج أنه لا بدَّ وأن هناك عددًا لا
نهائيًّا من العوالم.
5 وقد صاغ تلميذه ميترودوروس من خيوس الفِكرة
قائلًا: «يبدو من السخف القول بأنه في حقلٍ كبير لا تنمو سوى
قصبة واحدة فقط، وأنه في فضاء لا مُتناهٍ لا يُوجد سوى عالم
واحد.»
6
ثم جاء إبيقور. عاش إبيقور بعد حوالي قرنٍ من ديموقريطوس
واشتُهر أكثر ما اشتهر بفلسفته القائلة بأن المتعة — وأفضل ما يمكن تحصيلها به العيش
المتواضع المكتفي بالذات — هي الخير الأعظم. لكن إبيقور قرأ لديموقريطوس
واستوعَب تمامًا نظرته الذرية التجريبية للعالم، بما في ذلك
فكرة وجوب وجود عدة عوالم. كتب إبيقور في رسالةٍ إلى المؤرِّخ
هيرودوت يقول:
7 «ثمة عدد غير محدود من الأكوان [العوالم]،
وبعضها يُشبه هذا العالم وبعضها الآخر لا يُشبهه.»
ولا تكتسب أفكار إبيقور أهمية لمجرَّد أنها كانت تنبُّؤية
ولكن لأنها مثَّلت عاملًا مُثيرًا طويل الأمد للفلاسفة
واللاهوتِيِّين المُستقبليين. فُقِدَت مُعظَم كتاباته للأسف. وما
نعرفه عن فكره جاء في الأساس من قصيدة «عن طبيعة الأشياء»،
وهي قصيدة بطول كتاب لتلميذه الرُّوماني لوكريتيوس.
يُمكنكم التفكير في هذا الكتاب، الذي كُتِب في سنة ٥٠ قبل
الميلاد تقريبًا، باعتباره الكتاب الأول في العلوم المبسطة.
هذا ما قاله لوكريتيوس حول النظرة الإبيقورية للعوالم
الأخرى:
إن كان ثمة مخزون هائل من البذور،
بحيث لا تكفي أعمار الكائنات الحية كلها لحَصرِها
…
وإن ظلت قُدرتها وطبيعتها كما هي،
قادرةً على إلقاء بذور كلِّ الأشياء معًا
في أماكنها، كما ألقت بذور كلِّ الأشياء في عالَمنا
هذا،
فلا بدَّ من الاعتراف بأنه لا يزال هناك أكوان
أخرى،
وعوالم أخرى، وسلالات أخرى من البشر،
يُعد هذا المقطع نقطةً فارقة في المناقَشات
حول الكائنات غير الأرضية. فقد تجاوز الفكرة الأساسية التي
مفادُها أن اللانهاية يجب أن تحتوي على العديد من العوالم
إلى تقديم ما هو على الأرجح أول تأكيدٍ صريح في الأدب الغربي
على ضرورة وجود كائنات غير أرضية.
وقد كان الأول والأخير، بكل أسف، لفترة طويلة
للغاية.
الحقيقة هي أن صورة العالم ذات الطبيعة الآلية غير الخارقة
للطبيعة التي قدَّمها أناكسيماندر وديموقريطوس وإبيقور كانت
راديكالية في أيامها. فقد فشلت في حشد عددٍ كبير من المُؤيِّدين
في اليونان القديمة. وفي أثينا عام ٤٥٠ قبل الميلاد، افترض
الفيلسوف أناكساجوراس أنَّ الشمس صخرة نارية، وأن القمر جسم
شبيه بالأرض يُضيء من خلال عكس ضوء الشَّمس. قُبِض عليه على
الفور بتهمة الزندقة وحُكِم عليه بالإعدام. وبعد أن جاء
صديقُه وتلميذه السابق بريكليس للدفاع عنه، أُطلِق سراحه
ولكنَّه نُفي.
انتقد كلٌّ من أفلاطون (٤٢٨–٣٤٨ قبل الميلاد) وأرسطو
(٣٨٤–٣٢٢ قبل الميلاد) فكرة ديموقريطس عن تعدد العوالم على
أسس لاهوتية. رجَّح أفلاطون، المُوحِّد، أنه لا يُوجَد سوى
خالقٍ واحد؛ ومن ثمَّ فلا يُمكن أن يوجد سوى عالمٍ واحد، «إذا
كانت النسخة الناتجة تتوافَق مع العالم الأصلي».
9 وبالمثل، اعتقد أرسطو أنَّ تعدُّد العوالم يتطلَّب
تعدُّد «المحرك الأول» للإبقاء على تلك العوالم في حالة
الحركة؛ وتلك فكرة هرطقية بحتة. تعارضت أيضًا فكرة
اللانهائية مع نظرته للفيزياء؛ حيث تميل العناصر الخمسة
الأساسية — الأرض، والهواء، والنار، والماء، والأثير الإلهي
— للحركة لأعلى أو لأسفل تجاه «أماكنها الطبيعية» في مركز
الكون أو حوافه. ونظرًا لأن الأشياء المُكوَّنة من الأرض
تغرق دائمًا في المركز، فقد اعتقَدَ أرسطو أن الأرض لا بد
أنها العالم الوحيد، وأنه لا يُمكن أن تُوجَد أجسام صلبة في
السماء.
10
وعلى الرغم من أن أرسطو كان وثنيًّا، فقد كان تصوُّره عن
مركزية الإنسان في الكون بمثابة هبة لعلماء اللاهوت
المسيحيِّين الأوائل. لم يترك سفر التكوين، الذي يقول إنَّ
الله خلق «السماوات» و«الأرض» عمدًا، مجالًا لافتراض وجود
عوالم أخرى أو كائناتٍ عاقلة أخرى (إلا لو أخذنا في الحسبان
الملائكة والشياطين). ثم قدَّم العهد الجديد فكرة أنَّ الإله
تجسَّد في صورة المسيح لتخليص المؤمنين من الخطيئة واللعن،
في قصةٍ مُداهِنة تُوحي بالاستحقاق الفريد للبشر بأن
يتمتَّعوا بتضحية المسيح. وكما قال العالم والمدافع عن
المسيحية ويليام ويويل في وقتٍ لاحق فإنَّ التجسُّد وضع
الأرض في «مرحلة الدراما الكبرى لرحمة الإله وخلاص
الإنسان».
11
على النقيض من ذلك، قدَّم ديموقريطس وإبيقور ولوكريتيوس
تصوُّرًا لكونٍ ميكانيكي بحت؛ حيث ينشأ كلُّ شيءٍ من الاصطدامات
غير المقصودة للذرَّات، وحيث ربما يكون البشر مجرَّد أحد
الأجناس الذكية اللامُتناهية العدد. كتب عالم الأخلاق
الكاثوليكي بنجامين ويكر: «لا عجب أن المسيحيِّين الأوائل
ألقوا بالمُعتقَدات الإبيقورية، من الكائنات غير الأرضية وكل
ذلك، في هاوية الأخطاء العقائدية.»
12
وعندما اجتاحت المسيحية الإمبراطورية الرُّومانية
المتدهورة في القرنَين الثالث والرابع الميلادِيَّين، سخر آباء
الكنيسة من الإبيقوريِّين ومن أفكارهم وقمَعوهم وسمحوا بحرق
كتاباتهم أو تحطيمها. المذهب الذرِّي، والسعي للمُتعة، وتعدُّد
العوالم؛ جميعها أفكار واراها الظلام الذي كتَب ويكر يقول
إنه «ظلَّ باقيًا لما يَقرُب من ألف عام».
13
الطرد من فردوس مركزية الأرض
على الرغم من ذلك، تمكَّنت قصيدة لوكريتيوس «عن طبيعة
الأشياء» من عبور الهاوية إلى القرن الخامس عشر. يُخبرنا
كتاب «الانعطاف»، وهو كتاب رائع عن «كيف أصبح العالم
حديثًا» لعالم الأدب بجامعة هارفارد، ستيفن جرينبلات،
بقصة جامع الكتب الفلورنسي بوجيو براتشيوليني، الذي
استعاد نسخة من القصيدة في مكتبة أحد الأديرة في جنوب
ألمانيا عام ١٤١٧. خلال ٦٠ عامًا، ظهرت مئات المخطوطات
وكانت النُّسَخ المطبوعة مُتداولة، وهو ما أعاد الاهتمام
بالإبيقورية.
14 يُرجِّح جرينبلات أن الأفكار الإلحادية
والمادية في القصيدة قد ساعَدَت على التبشير بدخُول عصر
النهضة الإنسانية، وهي فلسفة فُضولية بدأت، على الرغم من
اسمها، في التشكيك في المكانة المُميزة للبشَرية في
الكون.
وسواء أكان الفضل يَرجع إلى براتشيوليني أم لا، فقد
شهد عصر النهضة اهتمامًا متزايدًا بفكرة تعدُّد العوالم
ونتيجتها الطبيعية؛ أي إمكانية وجود عوالِم أخرى مأهولة
بكائناتٍ أُخرى. قدَّم ميكوي كوبرنيك، المشتهر أكثر باسم
نيكولاس كوبرنيكوس، إحدى نقاط الانطلاق الرئيسية.
وُلِد عالم الرياضيات والفلك البولندي في عام ١٤٧٣، وهو
مُصادفةً العام نفسه الذي ظهرت فيه أول نسخة مطبوعة من
كتاب «عن طبيعة الأشياء». (لاحظوا التاريخ هنا، فقد عاش
كوبرنيكوس في الوقت نفسه الذي عاش فيه كريستوفر
كولومبوس، الذي كان يَكبُره ﺑاثنَتَين وعشرين سنة،
وليوناردو دافنشي، الذي كان يَكبُره بإحدى وعشرين سنة،
ونيكولو مكيافيلي، الأكبر بأربع سنوات، ومارتن لوثر،
الذي كان أصغر بعشر سنوات.) يُمثِّل كوبرنيكوس محور قصة
الكائنات غير الأرضية، ليس لأنه اعتقد في وجودها — فلم
يبدُ أن السؤال قد أثار اهتمامه — ولكن لأنه كان أول شخصٍ
يقترح — بناءً على الملاحظة والحساب — أن الأرض ليست هي
مركز الكون المرئي.
حوالي عام ١٥١٠، بدأ كوبرنيكوس في كتابة التعليقات
والمخطوطات التي ستُصبح فيما بعدُ كتابًا «عن دوران
الكواكب السماوية». قَلَب الكتاب الذي نُشِر أخيرًا في عام
١٥٤٣، وهو العام الذي تُوفِّيَ فيه كوبرنيكوس، النظام
الأرسطي القديم رأسًا على عقب. رجَّح كوبرنيكوس أن الأرض
تدور حول قُطبها، وأن القمر يدور حول الأرض، وأن عطارد،
والزهرة، ونظام الأرض والقمر، والمريخ، والمشتري،
وزُحَل؛ جميعها تدور حول الشمس، كلٌّ بمُعدَّل دورانه.
وأخيرًا، أكَّد على أن الجلد — الكرة السماوية
الخارجية التي تَحتوي على النجوم — لا بدَّ أنها بعيدة
بُعدًا غير مُدرَك، على الأقل مُقارنةً بالمسافات بين
الشمس والكواكب.
فسَّر نموذج مركزية الشمس لكوبرنيكوس ظواهر غريبة
ومُهمَّة لم يستطع النظام الأرسطي القديم تقديم شرح وافٍ
لها، مثل «الارتداد» أو الحركة العكسية للكواكب الأخرى
في مُواجَهة النجوم الموجودة في خلفيتها. ولكن بالطبع لم
تُصبح مركزية الشمس مقبولةً على الفور، وأحد الأسباب
المهمة لذلك أنها كانت بمثابة حطٍّ كبيرٍ من مكانة
الأرض. لم تترك لنا سوى تابعٍ سماوي واحد فقط، وهو القمر،
وقد أَجبَرَت قراء كوبرنيكوس على التفكير في فكرة أننا
نَعيش على كوكب مثله مثل أي كوكب آخر. هذا الافتراض —
بأنه ليس ثمَّة أفضلية خاصة بالأرض، وأننا لسنا في موضعٍ
مِحوَري مُتميِّز لمراقبة الكون — سوف يُعرَف فيما بعدُ
بمبدأ كوبرنيكوس، وهي الحجة الجوهرية في العصر الحديث
للبحث عن ذكاء خارج الأرض، كما سنَعرض في فصولٍ
لاحقة.
بالطبع، لم تُصبح مركزية الشمس مقبولة على الفور،
وأحد الأسباب المُهمَّة لذلك أنها كانت بمثابة حطٍّ
كبيرٍ من مكانة الأرض.
عرف كوبرنيكوس أن نظريته ستُثير اعتراضاتٍ دينية، وربما
هذا هو السبب في رفضه نَشرَها خلال حياته. لكن لم يكن
تابعه جيوردانو برونو بهذا الحذَر. لقد كان برونو أحد
الرعايا الصقليِّين الذين دخلوا الرهبنة الدومينيكانية
في نابولي، ثم أصبح أحدَ عابري السبيل المتديِّنين. قرأ
للوكريتيوس وكوبرنيكوس، وتشرَّب أفكارهما حتى النخاع،
وحقَّق هو نفسه بعض القفزات المُذهلة.
في ثلاثِ مجموعات من المحاورات نُشرت بين عامي ١٥٨٤
و١٥٩١ — «عشاء أربعاء الرماد»، و«عن الكون اللانهائي
والعوالم»، و«عن الاتِّساع» — رجَّح برونو أن بعض النجوم
على الأقل هي شموسٌ لها كواكبها التي تدور حولها، وأن
بعض هذه الكواكب لا بدَّ أن عليه مَن يسكنه. وفي هذا
الموضوع والعديد من الموضوعات الأخرى، تعارضت آراء برونو
الجريئة مع العقائد القائمة لزمنٍ طويل للكنيسة
الكاثوليكية؛ بادئ ذي بَدءٍ أن الكون قد خُلِق من أجل
البشرية وحدَها وأنه لا يمكن أن يكون هناك أشخاص آخرون في
عوالم أخرى من دون وجود مَسيحٍ آخرَ ليُخلِّصهم. أُلقي
القبض على برونو في فينيسيا عام ١٥٩٢ بتهمة التجديف
والهرطقة وأُرسِل إلى روما؛ حيث استمرَّت محاكمته سبع
سنوات. وفي ١٧ فبراير ١٦٠٠، عُلِّق عاريًا رأسًا على عقب
وأُحرِق على الوتد.
حظِيَ اضطهاد برونو بمتابعةٍ واسعة النِّطاق مِن قِبَل
أشخاصٍ يعيشون خارج روما، لكنه لم يستطع أن يمنع ظهور فهمٍ
جديدٍ للسماء. في عام ١٦٠٩، نشر يوهانس كيبلر، عالم
الرياضيات والفلك الألماني، كتاب «الفلك الجديد»، والذي
توسَّع في الكوبرنيكية توسُّعًا جوهريًّا. من المعقول أن
كيبلر كان فَرِحًا بِتلقِّي نسخة من «الرسالة الفلَكية»
لجاليليو جاليلي بعد فترةٍ وجيزة من نَشرِها في السنة
التالية. أعلن الكتاب عن اكتشاف جاليليو لجبالٍ على سطح
القمر ولأربعةِ أقمارٍ تدور حول كوكب المشتري، نُطلِق
عليها أسماء «آيو»، و«أوروبا»، و«جانيميد»، و«كاليستو».
شكَّلت أقمار المشتري هذه ما كان، في جوهره، نموذجًا
مُصغَّرًا للنظام الشَّمسي يخضع للقواعد نفسها التي تخضع
لها الكواكب. قدَّم هذا الاكتشاف دليلًا مُذهلًا على
الكوبرنيكية، وأكَّد لكيبلر نظرياته الخاصة حول حركة
الكواكب. لكن هنا يأتي الجزء المُثير للاهتمام ذو الصلة
بأغراضنا في هذا الكتاب؛ فعلى الرغم من أن كيبلر
(البروتستانتي) قد علمَ بالمشاقِّ التي عاناها برونو
وبموقف الكنيسة الكاثوليكية تجاه فكرة تعدُّد العوالم،
أرسل إلى جاليليو (الكاثوليكي) خطاب تهنئةٍ تضمَّن
تكهُّنات حول وجود كائناتٍ تعيش خارج كوكب الأرض. افترض
كيبلر أن أيَّ كوكبٍ كان من الأهمية بمكانٍ لتكون له
أقمار، فلا بد أن يكون عليه أشخاصٌ أيضًا. كتب: «هذه
الأقمار الأربعة الصغيرة هي لكوكب المشتري، وليس لنا.
كلُّ كوكبٍ بدوره، بمَن عليه من ساكنيه، تخدُمُه أقماره
الخاصة به. ومن هذا المنطق نَستنتِج بأعلى درجات
الاحتمالية أن ثمَّة حياة على كوكب المشتري.»
15
رفض جاليليو بتعقُّل تأييد هذه الفكرة. وكتب في
مَنشُورٍ بعنوان «تاريخ وشروحات حول البُقَع الشمسية» في
عام ١٦١٣ يقول: «وجهة نظر أولئك الذين يَفترضون وجود
سكَّانٍ لكواكب المشتري، والزهرة، وزحل، والقمر، ويعنون ﺑ
«السكان» حيوانات كالتي لدَينا، وبشر على وجه الخصوص»
كانت «خاطئة وسيئة للغاية».
16 ولكن في حين كان جاليليو ربما يتجنَّب خطأ
برونو في هذه الحالة، فقد اصطدم في نهاية المطاف
بالكنيسة لأسبابٍ مُختلفة. أثار مُجلَّده «حوار حول
النظامَين الرئيسيين للكون»، الذي يُمثل دفاعًا تحريضيًّا
عن كوبرنيكوس، غضب البابا أوربان الثامن وقضاة محكمة
التفتيش التابعة له. وفي عام ١٦٣٣، حكمت الكنيسة على
جاليليو بالإقامة الجبرية التي استمرَّت حتى وفاته عام
١٦٤٢.
العديد من الكواكب المُشابهة للأرض
لستُ أسعى في هذا الفصل إلى ذِكر كل عالمٍ أو فيلسوف
تناول مسألة وجود كائنات خارج كوكب الأرض قبل عصر البحث
المنظَّم عن ذكاء خارج الأرض.
17 كلُّ ما أُحاول فعله هو بيان أن فكرة أن عوالم
أخرى قد تكون موطنًا لكائناتٍ غريبة — تأتي الكلمة
الإنجليزية
alien (والتي تعني
غريبًا أو أجنبيًّا) من المُصطلَح اللاتيني
alius (والذي يعني
«آخر») — لطالَما كانت جزءًا من تفكيرنا طوال تطلُّعنا
نحو السماء.
من ديموقريطس إلى جاليليو، تعامل المُفكِّرون مع هذه
الفكرة بجديةٍ شديدة. وفي نهاية المطاف، كان الاعتقاد في
وجود كائناتٍ أخرى يتسبَّب في النَّفي أو الحرق على
الوتد. ولكن في عام ١٦٨٦، أصبح رجلٌ فرنسي — كان يُدعى
برنارد لي بوفير دي فونتينيل — أولَ كاتب يستغلُّ
الجوانب الفكاهية في الموضوع. كان كتابه «محادثات عن
تعدُّد العوالم» مثالًا مُبكرًا آخر على تعميم العلوم
للجمهور.
قدَّم فونتينيل حُجةً صارمة على الكوبرنيكية، ولكن
للإبقاء على التسلية في الأمر استخدم أيضًا مفاهيم خيال
عِلمي أولية غريبة حول ثقافات الكواكب الأخرى. تخيَّل
فونتينيل أن أهل الزهرة «سفعتهم الشمس، وتملؤهم الحماسة
والنار، وفي حالة غرامٍ دائمة، ومُحبون للأشعار والموسيقى،
ويُبدعون في الاحتفالات والرقص والبطولات كل يوم.» بينما
سكان زُحَل على النقيض من ذلك «يتميزون بلامُبالاةٍ شديدة.
… إنهم أشخاص لا يَعرفون معنى الضَّحِك، ويستغرقون يومًا
كاملًا للإجابة عن أبسط سؤال يُطرَح عليهم.»
18
أكَّد فونتنيل لقُرَّائه أن هذه الأفكار لم تكن تتعارَض
مع عقيدة التجسُّد الفريد للمسيح على الأرض؛ لأنَّ
الاشخاص على الكواكب الأخرى لم يَنحدِرُوا من آدم، ولن
يحتاجوا إلى الخلاص. ومع الأسف، لم يَمنع هذا الكنيسة من
وضع كتاب «المحادثات» في فهرس الكتب الممنوعة.
سلك كريستيان هوجنس، عالِم الفلك الهولندي الذي شرَح
حلقات زحل واكتشف القمر «تيتان»، نهجًا أكثر جديةً في
كتابه «النظريات الكونية»، الذي نُشِر بعد وفاته في عام
١٦٩٨ وتُرجِم إلى اللغة الإنجليزية باسم «عوالم سماوية
مُكتشَفة»، أو «تخمينات بشأن السكان، والنباتات، وإنتاج
العوالم في الكواكب». أشار هوجنس إلى أن كوكبَي الزُّهرة
والمشتري لهما غلافان جوِيَّان، الأمر الذي يُعدُّ أحد
مُتطلبات الحياة. وتوسَّع في تأكيد رأي برونو بأن النجوم
الأخرى لا بد أن لها أنظمةً كوكبية خاصة بها، واستنتج أنه
حيثما تُوجَد كواكب، فلا بد من وجود أشخاص.
لماذا ليس لكلِّ نجمٍ أو شمس من هذه النجوم أو
الشموس ركب عظيم من الكواكب، كالذي لشَمسِنا،
بأقمارها التي تخدمها؟ … لا بدَّ أن بها
نباتاتها وحيواناتها، بل ومخلوقاتها العاقلة
أيضًا، وأولئك المُعجَبُون كثيرًا بالسموات
ومراقبوها الدءوبون مثلنا. … يا له مِن نظامٍ رائع
وبديع لدَينا هنا من اتساعٍ مهيبٍ في الكون! الكثير
جدًّا من الشموس، والكثير جدًّا من الأراضين،
وكل منها مُزَوَّد بالكثير جدًّا من الأعشاب،
والأشجار، والحيوانات، ومُزَيَّن بالكثير جدًّا
من البحار والجبال!
19
بحلول زمن هوجنس، كان مفهوم تعدُّد
العوالم قد بدأ يبدو عاديًّا. قَبِله مُفكِّرُو القرن
الثامن عشر مثل إدموند هالي، وجوتفريد لايبنتز، وألكسندر
بوب، وإيمانويل كانط، وويليام هيرشل، وبيير لابلاس،
وتوماس باين باعتباره جزءًا من نظرةٍ عالَمية من الواقعية
العلمية. غير أن هذه النظرة لا تزال غير مُتوافقة مع
المسيحية الصارمة. هذا ما حفَّز واحدًا من قادة علماء
القرن التاسع عشر ومؤمنًا سابقًا بوجود عوالم أخرى مأهولة،
وهو ويليام ويويل، للتخلِّي عن فكرة تعدُّد العوالم ونشر
أحد أقوى فهارس الحجج العلمية «ضد» الفكرة.
كان ويويل عالمًا موسوعيًّا، وأستاذًا في علم المعادن
بجامعة كامبريدج، ثم أستاذًا في فلسفة الأخلاق، وأخيرًا
رئيس كلية ترينيتي، حيث دَرَس السير إسحاق نيوتن. وفي
ثلاثينيات القرن التاسع عشر، نشر ويويل مقالات تركت
مجالًا لفِكرة وجود كائناتٍ خارج كوكب الأرض. لكن بعد ذلك
حيَّره بشكلٍ مُتزايد السؤال عما إذا كان الإله قد قدَّم
«منظومة خلاص مُماثلة» لكلِّ عالَمٍ من العوالِم الأخرى. وإن
كان لا يُمكن الإيمان بصحة التعدُّد والتجسُّد؛ فقد قرَّر
ويويل الالتزام بالإيمان بالتجسُّد. لذلك جمَّع انتقادات
عِلمية وفلسفية ضد فكرة العوالم الأخرى، ونشرها في عام
١٨٥٣ تحت عنوان «عن تعدُّد العوالم: مقال».
أشار ويويل إلى أن البشر، وفقًا للسجلِّ الجيولوجي الذي
اكتُشِف بعد ذلك، كانوا موجودين على هذا الكوكب قبل ما
لا يتجاوَز «ذرة من الزمن». وإذا كانت الأرض، في الواقع،
غير مأهولة بالسكان خلال مُعظم تاريخها، فلن يكون
مُفاجئًا إذا كانت الكواكب الأخرى البَعيدة فارغة أيضًا.
وأشار إلى أنه على أيِّ حالٍ لم يتمَّ حتى الآن رصد أيِّ
كواكب حول نجومٍ أخرى، وأن العديد من السُّدُم، والعناقيد
النجمية، والأنظمة المتعدِّدة النجوم؛ ستكون أماكنَ غير
مناسبة لوجودها. لاحظ ويويل أنه هنا، في مُحيط ملاحظاتنا،
القمر ليس له غلاف جوي ولا يحتوي على الماء، ويتميز كوكب
المشتري بجاذبية ساحِقة وقد يَفتقِر إلى سطحٍ صلب، ومن
المحتمَل أن تكون الكواكب زُحَل وأورانوس ونبتون بعيدة
جدًّا عن الشمس؛ ومن ثم شديدة البرودة بحيث لا تدعم وجود
حياةٍ عليها، ومن المُحتمَل أن يكون كوكبا عطارد والزهرة
شديدَي القُرب من الشمس؛ ومن ثمَّ ترتفع درجة الحرارة
عليهما للغاية. لم يكن متأكدًا بشأن الوضع على كوكب
المريخ، لكنه افترض أن كوكب الأرض وحدَه هو ما يقع فيما
أسماه «المنطقة المُعتدلة للنظام الشمسي.»
20
وباختصار، على الرغم من أن هدف ويويل النهائي كان
الدفاع عن عِلم اللاهوت المسيحي، فقد كان أول من حشد
الأدلة التجريبية للإشارة إلى نقاط الضعف الحقيقية في
فكرة تعدُّد العوالِم. كان هذا التحدي قد تأخَّر إلى حدٍّ
ما. كان كوبرنيكوس مُحقًّا في إنكار الوضعية المميزة
لكوكب الأرض بصفته مركز الكون، غير أن ذلك التعَقُّل في
حدِّ ذاته لا يقول شيئًا عما قد يكون موجودًا في الكون
«غير ذلك». نحن نعلم اليوم أن ديموقريطس وإبيقور كانا
على المسار الصحيح عندما وضعا نظرياتٍ حول الذرات
والعوالم الأخرى، لكنَّهما لم يكن لديهما أيُّ بيانات
مؤكدة، وكذلك كان الوضع مع برونو، وكيبلر، وهوجنس،
وفونتينيل. وخلص ويويل إلى نتيجةٍ مفادها أن «الاعتقاد
بأن كواكب أخرى، إضافة إلى كوكبنا، هي أماكن صالحة
لسُكنى الكائنات الحية، قد دخَلَ حيِّز التفكير، بوجهٍ
عام، ليس نتيجةً لأسبابٍ فيزيائية، ولكن «على الرغم من»
الأسباب الفيزيائية.»
21
على الرغم من أن هدف ويويل النهائي كان الدفاع عن
علم اللاهوت المسيحي؛ فقد كان أول من حشَدَ الأدلة
التجريبية للإشارة إلى نقاط الضعف الحقيقية في فكرة
تعدُّد العوالم.
ونظرًا لصدور هذا الهجوم من رئيس كلية ترينيتي، فقد
تسبَّب في ضجةٍ في العالم العِلمي. أُجبِر المدافعون عن
تعدُّد العوالم على العودة إلى مُختبراتهم وتلسكوباتهم
(وهو دليل، إذا كنتَ في مزاج مُتفائل، على أن الماديِّين
والمؤمِنين لا يخوضون حربًا يستأثر فيها الفائز بجميع
الغنائم، بل في منافسة صحية في الأفكار). وحتى اليوم،
فإنَّ الهدف الأساسي لعلماء الأحياء الفلَكية والباحِثين
عن الكواكب الخارجية هو توفير ما أطلق عليه ويويل
«الأسباب المادية» المفقودة.
بناة القنوات
كان بيرسيفال لويل أحد الباحثين الذين ضخُّوا دماءً
جديدةً في البحث عن كائناتٍ غير أرضية في أواخر القرن
التاسع عشر. استخدم لويل، الذي كان عالِم فلك هاويًا، ثروته
وعلاقاته، بصفته عضوًا في إحدى عائلات نخبة بوسطن القديمة،
لتأسيس مرصدِه الخاص في فلاجستاف بولاية أريزونا عام
١٨٩٤.
في العام السابق، كان عالم الفلك الإيطالي البارز
جيوفاني سكاباريلي قد نشر كتاب «الحياة على كوكب
المريخ»؛ حيث عرض ملاحظاته عن «البحار» و«القارات»
والممرَّات المائية على سطح المريخ. وبعد قراءة كتاب
سكاباريلي وكتاب آخر عن المريخ من تأليف عالم الفلك
الفرنسي كميل فلاماريون، اقتنعَ لويل أن الممرات
المائية المزعومة كانت قنوات اصطناعية، وبنى المرصد
لمُراقبتها، وتوثيقها، والإعلان عن وجودها.
تُفيد إحدى الروايات الدائمة التكرار في الكتب ومقالات
المجلَّات والمنشورات على الإنترنت عن كوكب المريخ بأن ما
أَطلَق خيال لويل كان إحدى أكثر الترجمات الهزلية الخاطئة
في التاريخ. تقول القصة إنَّ سكاباريلي وصف الخطوط التي
رآها على سطح المريخ مُستخدِمًا الكلمة الإيطالية
canali، (قنوات).
لكنَّ المُترجِمين الإنجليز ترجموها بالكلمة الإنجليزية
canals (قنوات
اصطناعية). والكلمة الإيطالية لا تعني بالضرورة قنوات
اصطناعية، بينما الكلمة التي استخدمها المترجمون
الإنجليز فتعني ذلك بالضرورة. كان اختيار الكلمات
المُضلِّلة هو ما يُفترض أنه قد أدَّى إلى جموح لويل في
سعيه.
هذه واحدة من تلك القصص التي يُسمِّيها الصحفيون «جيدة
جدًّا لدرجة أنه من الصعب التحقُّق من صحتها». في
الواقع، بدأ سكاباريلي الحديث عن «القنوات» مُبكرًا في
عام ١٨٧٨، وهو العام الذي أعقب تقاربًا شديدًا بين
كوكبَي المريخ والأرض. كان يُدرك جيدًا أن عمله قد ألهم
الآخرين للتكهُّن بأن القنوات كانتِ اصطناعية، وربما كانت
تُستخدم للري. لم يفعل شيئًا لإخماد هذه التكهنات. كتب
سكاباريلي في «الحياة على كوكب المريخ»: «مظهرها الفريد
وحقيقة أنها مُصمَّمة بدقةٍ هندسيةٍ تامة، وكأنها رُسمَت
بمسطرة أو بوصلة، قد قادَت البعض ليروا في هذه الملامح
عمل الكائنات الذكية؛ سكان الكوكب. سأَحرص على عدم تفنيد
هذا الافتراض الذي لا يتضمَّن أيَّ شيءٍ مُستحيل.»
22
بصرف النظر عمَّن كان مصدر الإلهام وراء هوس لويل
بالقنوات، فقد شرَع في تأكيد اكتشاف سكاباريلي؛ حيث أجرى
ملاحظات تقريبية ليلية للمريخ بدايةً من منتصف عام ١٨٩٤.
نجح في اكتشاف ١٨٤ قناة، ما جعله يتفوَّق على سكاباريلي
الذي اكتشف ٧٩ قناة. نشر لويل هذه النتائج في مجلدٍ شائع
بعنوان «المريخ» (١٨٩٥)، وتبعه بمُجلَّدَين آخرين «المريخ
وقنواته» (١٩٠٦)، و«المريخ مأوى للحياة» (١٩٠٨). ومثل
سكاباريلي من قبله، أدهش لويل «الاتساق»، و«الدقة»،
والمظهَر «المُنتظِم انتظامًا خارقًا للطبيعة» للقنوات
المزعومة. كتب في المجلد الأول: «إنَّ الاتساق الرائع
للغاية في حدِّ ذاته هو أكثر الظروف إثارةً للشكِّ في أن
الأمر نتاج عمل ذكاءٍ ما.»
23
مثل هذه المجموعة الكبيرة من الأعمال من شأنها أن
تحتاج إلى بنَّائين، بالطبع، وسيُواصِل لويل الاستنتاج —
على أساس جاذبية المريخ المُنخفِضة — أن سكان المريخ لا
بدَّ أنهم أكبر بكثيرٍ وأقوى من البشر. أكبر عُمرًا وأكثر
حكمةً أيضًا. كتب: «يبدو أن عقلًا ذا قُدرة غير ضئيلة
يرأس النظام الذي نراه، عقلًا بالتأكيد أكثر إحاطةً من
ذلك الذي يتولَّى مُختلِف أقسام الأشغال العامة في عالمِنا.
ما نراه يُشير بالتأكيد إلى وجود كائناتٍ أكثرَ تقدُّمًا
منَّا، وليسوا مُتخلِّفين عنا، في رحلة
الحياة.»
24
رحَّب العامة بعمل لويل بحماس، بينما كان العلماء أقل
حماسًا. كان ألفريد راسل والاس، أحد مُشاركي تشارلز
داروين في اكتشاف التطوُّر عن طريق الانتقاء الطبيعي، لا
يزال على قيد الحياة عندما ظهَرَت كتب لويل. وقد انتقَد
فكرة سكان المريخ الأذكياء بُناة القنوات بشدة. أشار
والاس، على نحوٍ صحيح، إلى وجود القليل من الماء السائل
على المريخ؛ بحيث يَصعب انتقاله في قنوات.
25 وتوقَّع الانتقادات اللاحِقة لمجال البحث عن
ذكاء خارج الأرض عن طريق تسليط الضوء على الاحتمال
الوهمي المُناقِض لظهور ولو نوع تكنولوجي واحد في نظامٍ
نَجمي، ناهيك عن نوعَين على كوكبَين مجاورَين. وبالنظر
إلى سلسلة الأحداث التطوُّرية التي مهَّدت الطريق لظهور
الرئيسيَّات، نجد أن كلَّ حدثٍ مُعتمِد على الحدث الذي سبقه؛
كتب والاس: «إجمالي الفُرَص ضد تطوُّر الإنسان، أو كائنٍ
أخلاقي مُفكِّر مكافئ … يُساوي مائة مليون مليون إلى
واحد.»
26
كان والاس محقًّا في قوله بعدَم وجود بشَرٍ على سطح
المريخ. لكن «كان» ثمَّة ذكاء في القصة، وهو ذكاء
لويل.
27 نعلم بفضل عُقود من الاستِكشاف للكوكب
الأحمر عبر التلسكوبات والأقمار الاصطناعية والروبوتات
أنه لا تُوجَد قنوات أو حتى ملامح مثل الكُثبان الرملية
أو العواصف الترابية يُمكنها أن تتسبَّب في توهُّمنا
بوجود قنواتٍ على سطحه. ما رآه لويل لا بدَّ أنه كان ما
أطلَقَ عليه عالِم الفلك سيمون نيوكومب، في عام ١٩٠٧،
«الاستدلالات البصَرية» اللاواعية؛ أي إسقاط لرغبة لويل
في رؤية ما كان يَعتقِد بالفعل في وجوده. ذكَّرني هذا
بالاختصار الساخر الذي يَستخدمُه أحيانًا العاملون في
الدعم الفني لوصف المشكلات للسُّذَّج من مُستخدِمي أجهزة
الكمبيوتر: «المشكلة تكمُن بين لوحة المفاتيح وكرسي». في
حالة لويل، كانت المُشكِلة تَكمُن بين عدسة التليسكوب
ولوح الرسم.
ولكن حتى قبل أن يَنشر والاس نقدَه في عام ١٩٠٤، كان
قد فات الأوان لنَزع فتيل فِكرة لويل. كانت فكرة سكان
المريخ قد توغَّلت في الثقافة الشعبية. أخذ إتش جي ويلز
فكرة لويل عن وجود جنسٍ قديم ومُتقدِّم من سكان المريخ
وأضاف طبقةً من الحِقد الإمبراطوري في رواية «حرب
العوالم»، التي نشَرَها في شكلِ سلسلة في عام ١٨٩٧، وفي
صورة رواية مطبوعة في عام ١٨٩٨. واستخدم إدجار رايس
بوروز كوكب المريخ، ويُعرف أيضًا باسم «برسوم»، إطارًا
لسلسلة من القصص والروايات الشَّعبية التي نُشِرت بين
عامَي ١٩١٢ و١٩٤٨. واقتبس أورسون ويلز قصة إتش جي ويلز
في بثٍّ درامي إذاعي مُباشر في عشية عيد الهالوين عام
١٩٣٨، وأرعبَت بصياغتها الإخبارية المُتَكَلَّفة على
الأقل عددًا قليلًا مِن المُستمعين لدرجةٍ جعلتهم يُصدِّقون
بأن غُزاةً من المريخ قد وصلوا الأرض حقًّا. انتشرت الصورة
النمطية للأعداء المرِّيخيِّين بسرعةٍ كبيرة حتى أصبحت
بحلول عام ١٩٤٨ محلَّ تهكُّم في صورة شرِّير أفلام لوني
تيونز المتحرِّكة المُفضَّل لدى جميع المهووسين بالعلوم،
مارفين المريخي، ولحقَت بها في عام ١٩٥٠ مجموعة قصص راي
برادبري القصيرة الرائدة «سجلات المريخ»، التي تحكي عن
الصراعات بين المَريخيِّين ذوي القُدرات التخاطُرية
والمستوطِنين من الأرض.
إننا نعلم اليوم أن المريخ بارد وجاف، وإنه إذا كان
هناك مريخيُّون بالفعل، فقد يكونون ميكروبات مدفونة أسفل
السطح. لكن المريخ لطالَما كان بيئةً شديدة الخُصوبة
كبستانٍ لنظرياتنا ومخاوفنا وأشواقنا المُتطوِّرة حول
الكائنات غير الأرضية. لا نعرف حتى الآن ما إذا كانت
السماء مليئة «بعوالم أخرى بها سلالات أخرى من البشر»،
كما قال لوكريتيوس بصيغة شاعِرية. ولكن لا تزال هناك
حقيقة واحدة صامدة ومُشوِّقة؛ وهي أن الحياة على الكوكب
التالي لنا مباشرةً ليست غير مُحتملة، حتى إن انتهى الأمر
بكوننا نحن من سنُشكِّل هذه الحياة.