طيلة آلاف السنين، لم يكن بوسع المُتجادِلين إلَّا التخمين
والتفلسُف حول وجود كائنات خارج كوكب الأرض. لم تكن المشكلة
تكمن فقط في عدم وجود دليلٍ مادِّي يُؤيد أحد الرأيَين
المتعارضَين، كما أشار ويويل على نحوٍ صحيح. بل كانت المشكلة
أنه لم يكن أحدٌ يعرف حتى كيفية التوصُّل إلى أي دليلٍ (على
الرغم من أن سكاباريلي ولويل يَستحقان أن يرجع إليهما جزءٌ
من الفضل على الأقل؛ لنَظرِهما في تلسكوباتهما).
وقد بدأ كل ذلك يتغيَّر في عام ١٩٥٩، عندما نشرت المجلة
العلمية البريطانية «نيتشر» ورقةً بحثية بسيطة مكوَّنة من
ثلاث صفحات للفيزيائيين جوزيبي كوكوني وفيليب موريسون بعنوان
«البحث عن اتصالاتٍ فيما بين النجوم».
استهلَّ كوكوني وموريسون بحثهما بافتراض أن مجتمعًا متقدِّمًا
من الناحية التِّقنية وطويلَ العمر موجودٌ في مكانٍ ما
بالقُرب منَّا في المجرَّة. ولنفترِض أنهم يعرفون أن شمسَنا من
النوع الذي يُمكنه أن يدعم كواكب أخرى بالحياة أيضًا. إذا
أرادوا إرسال رسالةٍ بطريقتنا، فكيف سيفعلون ذلك؟ وهل ستكون
لدينا التكنولوجيا لاكتشاف تلك الرسالة؟
للإجابة عن السؤال الأول، افترض كوكوني وموريسون أن
الكائنات غير الأرضية المُفترَضة ستستخدِم موجات الراديو،
التي تنتقِل بسرعة الضوء ولدَيها القدرة على اجتياز العوائق
مثل السُّحب الغازية والغلاف الجوي للأرض. وللإجابة عن السؤال
الثاني، أجرَيا بعض العمَليات الحِسابية. وتمكَّنا مِن إثبات
أنه إذا زادَت الكائنات الفضائية من قوة إشارة الراديو
الخاصة بها إلى مُستوًى أبعدَ قليلًا من قُدراتنا، ولكنَّه من
المفترَض في حدود قُدراتها، فإن تلسكوبات الراديو الأرضية مثل
تلك التي كانت تُبنى بالفِعل في أواخر خمسينيات القرن
الماضي، ستكون حساسةً بما يكفي لاكتشافها.
كانت تلك الورقة البحثية بمثابة صرخة تنبيهٍ فِعلية. كان
كوكوني وموريسون يقولان إنه ربما كان خطُّ الهاتف المشترَك فيما
بين النجوم يضجُّ بالفعل بالمحادثات. والآن، وقد صار لدَينا
هاتف، ينبغي أن نَستقبِل المكالمات ونستمِع إليها. وقد خلصا
إلى نتيجة مفادها:
قد يسعى القارئ إلى إحالة هذه التخمينات برُمَّتها
إلى مجال الخيال العلمي. لكننا بالأحرى نُؤكد أن
الجدل السالف ذِكره يُبيِّن أن فكرة وجود إشارات بين
النجوم تتوافق تمامًا مع كل ما نعرفه الآن، وأنه
«إذا كانت الإشارات موجودة فإن وسيلة اكتشافها صارت
في مُتناوَل أيدينا الآن». قليلون هم من سينكرون
الأهمية العميقة — على المستوى العمَلي والفلسفي —
التي ستتَّضح إذا ما اكتشفنا وجود اتصالاتٍ فيما بين
النجوم. لذلك نشعر أن البحث التمييزي عن وجود إشارات
يستحقُّ جهدًا كبيرًا. من الصعب تقدير احتمالية
النجاح، ولكن إذا لم نبحث مطلقًا فستُصبح فرصة
النجاح صفرًا.1
افترض كوكوني وموريسون أنَّ الكائنات غير الأرضية
المُفترَضة ستستخدِم موجات الراديو، التي تنتقل بسرعة
الضوء ولدَيها القُدرة على اجتياز العوائق، مثل السُّحب
الغازية والغلاف الجوي للأرض.
ومِن المُفيد لنا أن نتراجَع ونُلقي نظرة
على تطورات مُنتصَف القرن العشرين التي مهَّدت الطريق لرُؤى
كوكوني وموريسون. درس موريسون الفيزياء في بيركلي تحت إشراف
روبرت أوبنهايمر في ثلاثينيات القرن، وانضمَّ إلى مشروع
«مانهاتن» خلال الحرب العالمية الثانية. عمل في مُختبر
المعادن بجامعة شيكاجو على تصميم مُفاعلٍ نووي، وساعدَ لاحقًا
في لوس ألاموس في تصميم «العدسات المُتفجِّرة» اللازمة
لتفجير أول قنبلةٍ نوَوية. بل إنه نقل نواتها المصنوعة من
البلوتونيوم إلى موقع اختبار ترينيتي النووي في الجزء
الخَلفي لسيارته الدودج سيدان. تولَّى موريسون بعد الحرب وظيفةً
بجامعة كورنيل، وأصبح ناشطًا في حركة عدم انتشار الأسلحة
النووية ومُهتمًّا بإمكانية دراسة الفلك بأشعة جاما.
وهكذا التقى بكوكوني، عالم الفيزياء الإيطالي الذي كان
يُدرِّس أيضًا في جامعة كورنيل والذي كان قد دَرَّس الأشعة
الكونية، التي هي جسيمات سريعة الحركة وعالية الطاقة من
المادة التي تحمِل طاقةً أكبر حتى من أشعَّة الجاما. علم
موريسون أن أشعة جاما يُمكنها أن تخترِق الغبار بين النَّجمي
الذي يحجب رؤيتنا لجُزء كبير من مجرَّة درب التبانة، وعلم أن
الفيزيائيِّين كانوا يتعلَّمون كيفية بناء المسرعات
الدورانية التزامُنية (السنكروترونات) التي تَنبعِث منها أشعة
جاما. وتساءل موريسون وكوكوني معًا عمَّا إذا كانت هذه
الحُزَم من الأشعة يُمكنها أن تحمِل رسائل فيما بين النجوم.
ومع الأسف، كان ذلك سؤالًا افتراضيًّا لأنَّ التكنولوجيا
التي تُتيح تجميع وتركيز وقياس أشعة جاما بشكلٍ دقيق لم تكن
قد وُجِدت بعد. ولذلك تحوَّلت محادثاتهما نحو احتمالية
مُبشِّرة أكثر، وهي تردُّدات الراديو.
يدين مجال علم الفلك الراديوي بميلاده العرضي لمُهندس في
مُختبَرات بيل للهَواتف كان يبلُغ من العمر آنذاك ٢٦ عامًا
ويُدعى كارل جانسكي. في عام ١٩٣٢، كان جانسكي يَستخدِم هوائيًّا
اتجاهيًّا قصير الموجة لدراسة الضوضاء الراديوية المُزعجة التي
تعوق الاتصالات الهاتفية عبر المُحيط الأطلنطي. وفي هذه
الأثناء، اكتشف إشارة راديو غامضةً كانت تمرُّ أمام الهوائي
كلَّ ٢٣ ساعة و٥٦ دقيقة. تصادَف أن هذه المدة هي ذاتها مدة طول
«اليوم النجمي»؛ أي الوقت الذي تستغرقه الأرض لتدور دورة
واحدة حول محورها بالنسبة إلى النجوم. (اليوم الشمسي أطول
قليلًا من اليوم النجمي؛ لأنَّه في الوقت نفسه الذي تدور فيه
الأرض حول محورِها، تدور في مدارها حول الشمس. يجب أن تدور
بما يَزيد قليلًا عن دورة واحدة أمام النجوم لتعود إلى
موضعِها نفسه من الشمس.) والفترة النَّجمية للإشارة تعني أن
المصدر يجِب أن يكون في السماء، لكن لا يُمكن أن يكون هو
الشمس. تتبع جانسكي في النهاية الإشارة إلى كوكبة الرامي في
الجزء الأكثر كثافةً من مجرة درب التبانة، وبذلك أصبح أول شخص
يكتشف جسمًا باعثًا لإشارة راديوية خارج نظامنا
الشمسي.
يُعتقَد الآن أن الإشارات التي وجدها جانسكي مُنبعثة من
الإلكترونات المُحاصَرة في المجال المغناطيسي لمنطقة الرامي
،
التي تُمثِّل الثُّقب الأسود الهائل في وسط المجرَّة. وتكريمًا
للاكتشاف، سُمِّيَت الوحدة الأساسية لكثافة الفيض الإشعاعي
في عِلم الفلك الراديوي فيما بعدُ بوحدة الجانسكي. لكن شركة
بيل للهواتف — التي كانت، على أيِّ حال، تعمل في مجال خدمات
الاتصالات وليس علم الفلك — لم تترك لجانسكي الوقت لمُتابعة
اكتشافه. ونتيجة لذلك، فإن علم الفلك الراديوي الجديد ظلَّ
راكدًا أغلب الوقت خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية
الثانية وامتدَّ هذا الركود ليشمل سنوات الحرب.
غير أن الحرب غيَّرت المجال تمامًا، كما غيَّرت في مجالات
أخرى كثيرة، من الفيزياء النووية إلى الحوسبة وعلم الصواريخ.
وبالتزامُن مع مشروع «مانهاتن»، اضطلعَت الولايات المتحدة
وبريطانيا بمشروعٍ مُكثَّف لاستخدام النبضات الراديوية
الدقيقة للمساعدة في اكتشاف الهجمات القادمة وتوجيه
القاذِفات إلى أهدافها. وأثناء عملية تطوير الرادار، حقَّق
علماء في مُختبَر الإشعاع بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا تقدمًا
جذريًّا في الإلكترونيات الراديوية، مثل تقنيات ترشيح ضوضاء
المُستقبِل. وبمُجرَّد انتهاء الحرب، أدرك علماء الفلك أن
التكنولوجيات الجديدة من شأنها أن تُتيح اكتشاف حتى المصادر
الراديوية الضعيفة في السماء.
ساعدت التكنولوجيا الألمانية أيضًا. فالعلماء البريطانيون
الذين استخدموا أطباق فورتسبورج، وهي أجهزة رادار مُضادَّة
للطائرات تركتها القوات النازية عندما فرَّت من سواحل فرنسا
وهولندا، كانوا أول من لاحظ انبعاثات الراديو من البُقَع
الشمسية. وفي هولندا، استخدم عالِم الفلك يان أورت أحد أطباق
فورتسبورج ليؤكِّد في عام ١٩٥١ على اكتشاف «خط الهيدروجين»
البالِغ طوله ٢١ سنتيمترًا.
ونظرًا لأهمية خطِّ الهيدروجين في قصة البحث عن ذكاء خارج
الأرض، سأُبطئ من وتيرتي كي أُشرِّحه. تتكوَّن ذرة الهيدروجين من
بروتون واحد وإلكترونٍ واحد. في ميكانيكا الكم، لكلا
الجُسيمَين نوع من الزخم الزاوي يُسمَّى «اللف المغزلي».
وعندما يكون للجُسيمَين لفٌّ مغزلي (متوازٍ) واحد، تَحتوي
ذرة الهيدروجين على طاقة إجمالية أكبر قليلًا، وعندما يكون
لهما لفٌّ مغزلي (غير متوازٍ)، يكون للذرَّة طاقة أقل. من
حينٍ إلى آخر على فتراتٍ متباعدة — كل ١٠ ملايين سنة في المتوسط
— يُمكن للإلكترون في ذرة الهيدروجين العالية الطاقة أن يعكس
لفَّه المغزلي من متوازٍ إلى غير المتوازي. وعندما يحدث ذلك،
تُطلَق الذرة دفقة من الطاقة الراديوية بطول موجي دقيق للغاية
(٢١٫١٠٦١ سنتيمترًا) وتردُّد (١٤٢٠٫٤٠٥٨ ميجاهرتز
[MHz])، وهو ما يُسمَّى خط
الهيدروجين.
على الرغم من أن انعكاس اللفِّ المغزلي يَندر حدوثه للغاية
في ذرة هيدروجين مُفرَدة، تحتوي السحب الغازية فيما بين
النجوم على عددٍ كبير جدًّا من ذرات الهيدروجين يجعل هناك
دائمًا انعكاسًا لبعض الإلكترونات وتسرُّبًا لبعض الموجات بطول
٢١ سنتيمترًا تقريبًا. كان الفيزيائيان هارولد إيون وإدوارد
بيرسيل من جامعة هارفارد هما أول من اكتشف هذه الطاقة في
ربيع عام ١٩٥١، وتلاهما على الفَور أورت.
ونظرًا إلى أن خطَّ الهيدروجين ضيق ودقيق للغاية، فمن
السهل العثور عليه على إشعاعات الخلفية الأخرى، ما يعني أنه
من السهل أيضًا قياس مدى تحوُّل الخط نحو الطرف الأحمر للطَّيف
الكهرومغناطيسي عندما يتحرَّك مصدر الانبعاث بعيدًا عن
الكاشف أو باتجاه الطرف الأزرق إذا كان يتحرَّك نحو الكاشف.
(تمامًا كما يُؤدِّي تأثير دوبلر لارتفاع صوت بوق السيارة
عندما تكون آتية في اتجاهك وانخفاضه عندما تبتعِد عنك.)
استخدم أورت هذا التأثير لوضع أولى الخرائط الراديوية للأذرع
الحلزونية لدرب التبانة. كما أثبت أن المجرة ككل تدور وأن
نظامنا الشمسي ليس بالقُرب من مركزها. في الواقع، نحن على
الحافة الداخلية لطرفِ ذراع الجبار، وهو بِنيةٌ مألوفة في
منتصف المسافة تقريبًا بين مركز المجرَّة وحافتها
الخارجية.
أقنع علماء الفلك في الولايات المتحدة — الذين حمَّستهم
هذه الاكتشافات — مؤسسة العلوم الوطنية لتمويل مجموعة من
التلسكوبات الراديوية الأكبر بكثير. وبدأ بناء هذه
التلسكوبات في عام ١٩٥٨ في المرصد الوطني لعِلم الفلك
الراديوي في جرين بانك، فيرجينيا الغربية، في جبال أليجيني.
كان العمل يُعد مُهمًّا للغاية لدرجةٍ جعَلَت لجنة الاتصالات
الفيدرالية تُنشئ منطقة الهدوء اللاسلكية حول جرين بانك.
وحتى يومِنا هذا، يجب أن تَعمل جهات البثِّ اللاسلكي داخل هذه
المنطقة التي تبلغ مساحتها ١٣ ألف متر مربَّع بقَدْر شديد
الانخفاض من الطاقة، ما يُسهِّل عمليات الرصد؛ حتى أفران
الميكروويف وموجِّهات الاتصال بالإنترنت (أجهزة الراوتر)
محظورة في هذه المنطقة.
قبل أن يَتعاون كوكوني وموريسون معًا، كانا على علمٍ
بالطفرة الحاصلة في مجال بناء التلسكوبات التي تُموِّلها
الحكومة. كانت ورقتهما البحثية في مجلة «نيتشر» بمثابة
اقتراحٍ باستخدام الأدوات الجديدة، لبعض الوقت على الأقل،
للبحث عن إشاراتٍ من كائنات خارج الأرض. بل لقد كانت لديهما —
بفضل إيون وبيرسيل وأورت — بعض الأفكار حول قنَوات الراديو
التي قد يستخدمها جنسٌ فضائي لتسهيل العثور على
رسائله.
على أي تردُّد يجب أن نبحث؟ ثمة معيار تردُّد فريد
وموضوعي تمامًا في المنطقة الراديوية الأكثر
استحسانًا، والذي يجب أن يعرفه كلُّ راصدٍ في الكون،
وهو خط الانبعاث الراديوي الشهير عند ١٤٢٠ ميجاسايكل
(مليون دورة) في الثانية
( = ٢١ سم) من
الهيدروجين المُحايد. من المنطقي توقُّع صناعة أجهزة
دقيقة لاستقبال هذا التردُّد في مرحلةٍ مبكرة من
مراحل تطوير علم الفلك الراديوي. سيكون ذلك هو
توقُّع المُتحكِّمين في المصدر المُفترَض، كما يدعمه
بالفعل الوضع الحالي للأجهزة الأرضية.2
صيغ رياضية
لم يكن كوكوني وموريسون الوحيدَين اللذَين فكَّرا على
هذا النحو. ففي أوائل عام ١٩٥٩، حصل فرانك دريك الذي كان
شابًّا في ذلك الوقت على وظيفةٍ في جرين بانك؛ حيث كان
الجهاز الأول، وهو طبق بطول ٢٦ مترًا يُسمَّى تلسكوب
تاتيل، قد اكتمل إعداده للتو. وقبل ذلك بقليل، أثناء
إنهاء دراسته العُليا بجامعة هارفارد، وجه دريك تلسكوبًا
راديويًّا أصغر نحو عنقود الثريَّا النجمي، واكتشف ما بدا
أنه إشارة ضيِّقة النطاق ذات أصلٍ ذكي. سرعان ما قرَّر أن
الإشارة قادمة من الأرض، وليس من عنقود الثريَّا، لكنه لا
يستطيع أن ينسى الإثارة التي شعر بها في تلك اللحظة؛ وقد
شغَفَه سِحر البحث عن ذكاء خارج الأرض. تحدَّث في جرين
بانك مع المدير الجديد للسماح له باستخدام طبق تاتيل
للبحث عن المزيد من الإشارات. وكان يعرف أين يريد البحث:
الخط اﻟ ٢١ سنتيمترًا.3
بحلول الوقت الذي نُشرت فيه ورقة كوكوني وموريسون في
مجلة «نيتشر» في سبتمبر من ذلك العام، كان دريك ومعاونوه
يَبنون بالفعل المُكبِّرات والمُعدات الأخرى التي
سيحتاجونها لمشروع «أوزما»، الذي سُمِّي بهذا الاسم
تيمُّنًا بأميرة أوز الخيِّرة في روايات إل فرانك بوم. وفي
الفترة من أبريل إلى يوليو عام ١٩٦٠، جمع دريك ١٥٠ ساعة
من القراءات الراديوية من مُحيط «تاو سيتي» و«إبسيلون
إريداني»، وهما نجمان يُشبهان الشمس، ويقعان على بُعدِ
١٢ و١٠٫٥ سنة ضوئية من الأرض، على التوالي.
وباستثناء بعض النتائج الإيجابية الزائفة — مثل طائرةٍ
تمرُّ في سماء المنطقة، أو إشارة من منشأة رادار عسكرية
سرية — لم يَكتشِف مشروع «أوزما» شيئًا غير عادي. (لكن،
بالتأمُّل في الماضي، نجد أن النجم «تاو سيتي» كان
اختيارًا ذكيًّا لاستهدافه. يُعتقَد الآن أن لهذا النجم
أربعة أو خمسة كواكب، تبلُغ كتلة كلٍّ منها ضعف كتلة الأرض
أو أربعة أمثالها. وللنجم «إبسيلون إريداني» حزامان من
الكويكبات وربما كوكبان.) غير أنَّ المشروع قد نجح
بالفعل في جذب انتباه مجلة «تايم»، وكذلك انتباه جي بيتر
بيرمان، وهو أحد المُوظَّفين في مجلس علوم الفضاء في
الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم. وفي صيف عام ١٩٦١،
اتصل بيرمان بدريك وقال إنه يُريد أن يُنظِّم مؤتمرًا
يهدف لحَشدِ المزيد من الدعم الفيدرالي للبحث عن كائناتٍ
خارج كوكب الأرض.
وافق دريك على مدِّ يد العون على الفور. ولكن مَن
عساهما يدعوان إلى هذا المؤتمر؟ كتب دريك في وقتٍ لاحق:
«فكَّرنا معًا في عام ١٩٦١ لنتذكَّر كلَّ عالِمٍ عرفناه كان
يُفكر حتى في وجود حياة خارج كوكب الأرض. تبيَّن أنه لا
يزيد عددهم على عشرة، بما في ذلك أنا وبيرمان.» الثمانية
الآخرون كانوا كوكوني وموريسون، والرائد في مجال أعمال
لإلكترونيات دانا أتشلي، والباحث في شركة هيوليت-باكارد
بارني أوليفر، وعالم الأعصاب جون ليلي، والكيميائي
ميلفين كالفين، ومدير مرصد الفلك الراديوي الوطني أوتو
ستروف، وكارل ساجان الذي كان لا يتعدَّى عمره السادسة
والعشرين في ذلك الوقت، ولكنه بحسب قول دريك: «كان يعلم
عن عِلم الأحياء أكثر من أيِّ عالمِ فلَكٍ عرفتُه على
الإطلاق».4
وبإضافة مُشاركٍ آخر، وهو عالِم الفيزياء الفلَكية في
وكالة ناسا سو شو هوانج، اجتمعت المجموعة في جرين بانك
في نوفمبر. كان على دريك أن يُعِدَّ جدول الأعمال. سأل
نفسه: ما الذي يحتاج العلماء إلى معرفته ليتمكَّنوا من
تقييم احتمالية نجاح مشروع «أوزما» المستقبلي؟ وبدأ في
سرد الموضوعات، التي كان يُمكن تلخيص بعضها بالأرقام أو
كسور.
بالتأكيد كنَّا بحاجةٍ إلى معرفة عدد النجوم
الجديدة التي تنشأ كلَّ عام. وإذا كانت هناك كواكب
خارجية مُناسبة للحياة عليها، فكم منها يُمكن
حقًّا أن يكون موطنًا لكائناتٍ حية؟ وكم من هذه
الكائنات يُمكن أن يكون ذكيًّا؟ … ثم جاءني
الإلهام: لم تكن المواضيع على القَدر نفسه من
الأهمية فحسب، بل كانت أيضًا مستقلةً كلٌّ منها
عن الآخر تمامًا. علاوةً على ذلك، شكَّلت هذه
الأعداد بتجميعها معًا صيغةً لتحديد عدد أنواع
الكائنات المُتقدِّمة والقادرة على التواصُل.
وسرعان ما أعطيتُ كل موضوع رمزًا، صيغة رياضية،
ووجدتُ أنه باستطاعتي اختصار جدول أعمال الاجتماع
بأكمله في سطرٍ واحد.5
وبهذه الطريقة، وضَع دريك المعادلة
التي ستحمِل اسمَه إلى الأبد. كتبها على السبورة أثناء
الجلسة الافتتاحية، وقضى الحاضرون الأيام الثلاثة
التالية في محاولة إيجاد تقديراتٍ معقولة لكلِّ حدٍّ من
حدود المعادلة.
بدت المعادلة كما يلي:
في معادلة دريك، هو معدَّل تكوين النجوم في مجرة درب
التبانة الذي يُمكن أن يدعم وجود حياة، و هو الكسر المُعبِّر عن النجوم التي
لها كواكب، و هو عدد الكواكب في كل نجم الصالحة
للحياة، و هو الكسر المُعبِّر عن الكواكب التي
تظهر فيها حياة، و هو الكسر المعبر عن الكواكب التي
تتطوَّر فيها كائنات ذكية، و هو الكسر المعبر عن الأنواع الذكية
التي طوَّرت تكنولوجيا للاتصال فيما بين النجوم، و هو المدة الزمنية التي يَبقى فيها مثل
هذا النوع قابلًا للاكتشاف، في الواقع، مدة بقائه قبل أن
يَموت أو يُقضى عليه. (للمهووسين بالرياضيات: إذا
عبَّرنا عن بعدد النجوم في السنة، وعن بعدد السنوات، فإن هاتَين الوحدتَين
ستُلغي كلٌّ منهما الأخرى، و هو عدد صحيح بلا وحدة، فهو عدد
الحضارات القادرة على التواصُل في المجرة.)
عندما أدخل أفراد مجموعة جرين بانك أفضل تقديراتهم
لحدود المعادلة، فوجئوا بأن حاصل ضرب أول ستة حدود، من إلى ، كان العدد واحد. كتب دريك لاحقًا:
«وهكذا بدا أن قيمة تعتمد اعتمادًا حصريًّا على قيمة . وبعبارة أخرى، إذا افترضت أن حضارة
تكنولوجية متقدمة ستستمر لمائة ألف سنة، فستقول المعادلة
إنه يجب أن تكون هناك مائة ألف حضارة قادرة على التواصُل
في المجرة». ذكر دريك أنه في نهاية الاجتماع رفع ستروف
نخبًا، وقال: «إلى قيمة . علَّها تكون عددًا ضخمًا.»6
وبالمناسبة، بدا المُشاركون في مؤتمر جرين بانك على
درايةٍ بالطبيعة التاريخية والغريبة في الوقت نفسه
لمُناقشاتهم. ظلَّت مسألة ذكاء الدلافين تتكرَّر
باستمرار، فإذا كان الذكاء قد ظهر على الأرض ليس مرةً
واحدة بل مرتَين؛ فقد يُؤدِّي ذلك إلى تحريف تقدير . نتيجةً لذلك، سيُطلِق المشاركون في
المؤتمر على أنفسهم في وقتٍ لاحق اسم «جماعة
الدلافين».
إذا افترضتَ أن حضارة تكنولوجية مُتقدِّمة
ستستمرُّ لمائة ألف سنة، فستقول المعادلة إنه يجب أن
تكون هناك مائة ألف حضارة قادرة على التواصُل في
المجرة.
وفي عام ١٩٦١، تطلَّب ملء بُنود المعادلة الكثير من
التخمين البحت مِن جانب جماعة الدلافين. لم يكن أيٌّ من
حدود المعادلة مفهومًا بقَدْرٍ جيِّد في ذلك الوقت سوى الحد ، وهو مُعدَّل تكوُّن النجوم في درب
التبانة. وقد ثبَّتَت المجموعة هذا الحد عند نجمٍ واحدٍ
لكلِّ سنة. كان ذلك تقديرًا قريبًا إلى حدٍّ ما؛ فعلماء
الفلك الآن يَعتقدُون أن سبعة نجوم ونصف النجم تتكوَّن
كل سنة.
وبالانتقال إلى عالَم التخمين البحت، قدَّرت جماعة
الدلافين أن قيمة تتراوَح بين ٠٫٢ إلى ٠٫٥، ما يعني أن
خُمس إلى نصف النجوم الشبيهة بالشمس لها كواكب. وظنُّوا
أن قيمة ، عدد الكواكب الشبيهة بالأرض لكل نجم،
هي بين العددَين واحد وخمسة. وبحالةٍ من التفاؤل المُفرط،
عيَّنوا القيمة واحدًا لكلٍّ من و، ما يعني أن مائة بالمائة من هذه
الكواكب الشبيهة بالأرض ستتطوَّر عليها حياة، وأن
الكائنات الذكية ستَظهر على هذه الكواكب في مائة بالمائة
من الوقت. ووضعوا للحد القيمة مِن ٠٫١ إلى ٠٫٢، ما يَعني أن
١٠ إلى ٢٠ في المائة من الأنواع الذكية ستكتشف في
النهاية كيف تبني تلسكوبات راديوية. وخمَّنوا أن مثل هذه
الأنواع ستَستمرُّ ما بين ألف سنة ومائة مليون
سنة.
وعندما أجرَوا الحسابات، جاءت قيمة ، عدد الحضارات القادِرة على التواصُل
في المجرة، ٢٠ حضارة على الأقل و٥٠ مليونًا على
الأكثر.
وهنا، من الجدير بالذكر أن نقول إن هذه النتائج لا
تُساعد في حلِّ مفارقة فيرمي. في الواقع، لقد زادت الأمر
حيرة. فحتى لو لم تُوجَد سوى ٢٠ حضارة مُتقدِّمة في
المجرة، فلا بد أن حضارةً واحدة منها على الأقل قد زارت
نظامَنا الشمسي حتى الآن إذا قبلنا افتراض فيرمي القائل
بأنَّ المجتمعات تتوسَّع دائمًا لملء الفَراغ المُتاح.
وعلى الطرف الآخر، إذا كان هناك ٥٠ مليون حضارة، فلا بد
أن تكون العلامات على وجودها واضحةً وضوح الشمس في كبد
السماء.
لكنَّنا سنعود إلى هذه النقطة لاحقًا. الغرض الحقيقي من
مُعادلة دريك لم يكن وضع تقديرٍ راسخ لقيمة . بل كان ببساطة تصورًا لأنواع الأسئلة
التي سيَحتاج العلماء إلى دراستها من أجل استيعاب
العمليات التي تُؤدِّي إلى نشوء حضاراتٍ متطورة
تكنولوجيًّا. ومن الواضح أن هذه الأسئلة تجاوزت الفيزياء
الفلَكية لتشمل علم الكواكب، والكيمياء الحيوية، وعلم
الأحياء التطوري، والدراسات الثقافية. وهكذا، كانت
المعادلة بمثابة انطلاقةٍ لجدول أعمالٍ بحثي جريء لمستقبل
علم البحث عن ذكاء خارج الأرض.
كما لعبَت المعادلة أيضًا دور أداة للعلاقات العامة.
فقد منَحَت علماء الفلك طريقةً سهلة لشرح البحث عن ذكاءٍ
خارجَ الأرض لغير العلماء. وإذا كان بإمكان جماعة
الدلافين تقديم حُجةٍ معقولة بأن للحد قيمة كبيرة، فمن شأن ذلك أن يُساعد في
تبرير المزيد من الإنفاق على البحث عن ذكاءٍ خارج
الأرض.
بحث السوفيت عن ذكاءٍ خارج الأرض
إذا كانت قائمة بيرمان ودريك، التي تضمُّ «كل عالِمٍ
عرفناه كان يُفكِّر في وجود حياة خارج كوكب الأرض»، لم
تتجاوز العشرة أشخاص، فقد كان ذلك يَرجع إلى عدم
معرفتهما بما يكفي من العلماء. فبعد ثلاث سنواتٍ من مؤتمر
جرين بانك، عقد العلماء في الاتحاد السوفيتي اجتماعهم
الذي شملَ عددًا أكبر بكثيرٍ من العلماء، وهو المؤتمر
الأول لعموم الاتحاد حول الحَضارات خارج كوكب الأرض
والتواصُل فيما بين النجوم؛ وذلك في مرصد بيوراكان
للفيزياء الفلَكية في أرمينيا. كان مُنظِّم المؤتمر هو
عالم الفيزياء الفلَكية وعالم الفلك الراديوي الأوكراني
يوسف شكلوفسكي، الذي كان يُطلَق عليه «فرانك دريك
السوفيتي». وكان أحد نجوم المؤتمر هو تلميذ شكلوفسكي
نيكولاي كارداشيف.7
على الرغم من أن شكلوفسكي وكارداشيف شعرا بأن عدد
الحضارات الأخرى في مجرَّتنا قد يكون صغيرًا، فقد كانا
أكثر استعدادًا من مجموعة جرين بانك لإطلاق التخمينات
حول طبيعة تلك الحضارات. قال شكلوفسكي في حديثِه
الافتتاحي: «نحن لسنا أكثر من أطفالٍ رُضَّع فيما يتعلَّق
بالعلم والتكنولوجيا.» وتماشيًا مع الفلسفة الماركسية
التي تؤمِن بحتمية التطور الاجتماعي، اعتقد أن الحضارات
الأخرى سيكون لديها تكنولوجيا تفُوقنا بكثير. إلى أيِّ
مدًى؟ اقترح كارداشيف في بيوراكان طريقة لتصنيف الحضارات
حسب مقياس موارد الطاقة التي تستخدمها. النوع الأول من
الحضارات هي التي يُمكنها استخدام كل الطاقة المتاحة على
كوكبها. البشر من النوع الأول أو يقتربون منه. والنوع
الثاني يستخدم جميع الطاقة المُتاحة من النجم الذي يدور
حوله كوكبهم. («غلاف دايسون»، الذي وضع تصوُّرَه لأول مرة
الفيزيائي فريمان دايسون في عام ١٩٦٠، هو هيكل عملاق
افتراضي يُبنى حول النجم لالتقاط كل طاقته، وهو بذلك
تعبير مثالي عن تكنولوجيا النوع الثاني.) ويُمكن لحضارة
من النوع الثالث التحكُّم في طاقة مجرةٍ بأكملها.
استنتج كارداشيف أنه إذا اتبعت الحضارات مسار التطور
هذا، فلا بد أنها ستجعل مهمة علماء البحث عن ذكاءٍ خارج
الأرض أسهل؛ لأنَّ أنشطة الحضارات من النوعَين الثاني
والثالث سيكون من المُمكن اكتشافها من على سطح الأرض. قد
تُشير حقيقة عدم وجود مثل هذا النشاط إلى قيمةٍ مُنخفِضة
للحد ، ما يعني أن معظم الحضارات تُدمِّر نفسها في مكانٍ ما
بين مرحلتَي النوع الأول والنوع الثاني. بدا هذا الاحتمال
معقولًا للغاية في أوائل الستينيات. ولكن بعد اجتماع
بيوراكان، بدأت مجموعةٌ في موسكو بقيادة كارداشيف،
ومجموعة أخرى في جوركي (نيجني نوفجورود حاليًّا) بقيادةِ
في إس ترويتسكي؛ سلسلةً من الأبحاث في السماء بأكملها عن
إشاراتٍ من خارج الأرض. استخدموا هوائيات غير اتجاهية
وأخذوا عيناتٍ من نطاق واسع من التردُّدات على افتراض أن
الحضارات الفائقة من النوع الثاني أو الثالث ستُرسل
إلينا «إشارات اتصال» قصيرة وواضحة على قوة تردد عالية
للغاية.8
مشروع «سايكلوبس»
على الرغم من أن بيرمان وأفراد مجموعة الدَّلافين
الآخرين كانوا يأمُلُون أن يعمل مؤتمر جرين بانك على
الإسراع من وتيرة البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض في الولايات
المتَّحدة؛ فقد تباطأ المجال بدرجةٍ كبيرة في الواقع.
ركَّز علماء الفضاء على مسائل أكثر إلحاحًا، مثل
التفوُّق على السوفييت في الوصول إلى القمر وإرسال أول
المسبارات الروبوتية إلى كواكب أخرى.
انشغل ساجان بمساعدة ناسا في مهمتها «مارينر ٢» إلى
كوكب الزهرة. لكنه مع ذلك وجد الوقت للتعاون مع
شكلوفسكي. وسَّع ساجان في محتوى كتاب الأوكراني الذي حمل
عنوان «العالم والحياة والعقل» ١٩٦٢، والذي قدَّم أساسًا
لاجتماع بيوراكان، ونشرَه في الولايات المتَّحدة عام ١٩٦٦
تحت عنوان «الحياة الذكية في الكون». حقَّق الكتاب
مبيعات جيدة وأصبح أول بيانٍ عامٍّ للبحث عن ذكاء خارج
الأرض (إلا إذا وضَعنا في الحُسبان كتاب فونتينيل
«محادثات حول تعدُّد العوالم» ١٦٨٦، الذي كان أيضًا من
الكتب الأكثر مبيعًا في عصره).
جاهد الكتاب لتصوير البحث عن كائنات غير أرضية
باعتباره أحد فروع العِلم الموثوقة، على الرغم من مقدار
التخمين الذي لا يزال يَنطوي عليه. تساءل شكلوفسكي
وساجان: «هل من المُمكن حقًّا أن نعُد كتابًا يَتناول
الحياة الذكية في الكون؛ كتابًا «علميًّا»؟ لدينا قناعة
راسِخة أنه بالإمكان اتباع نهج مسئول في التعامُل مع
المسألة فقط إذا ذُكِرَت الافتراضات التي تَنطوي عليها
صراحةً، وإذا استُخدِمَ الأسلوب العِلمي بأكثر الطرق
كفاءة. وحتى مع ذلك لن نتوصَّل إلى العديد من الإجابات
النهائية. لكن لصياغة المسائل في حدِّ ذاتها أهميتها
وإثارتها.»9
بعد خمس سنوات، طلبت ناسا من بارني أوليفر — أحد
الأعضاء الأصليِّين في مجموعة الدلافين — تقدير الوقت،
والأجهزة، والأموال اللازمة «لتنظيم جهدٍ واقعي … يَهدف
إلى الكشف عن وجود حياةٍ ذكية خارج كوكب الأرض (نظام خارج
المجموعة الشمسية).»10 ترجم أوليفر تفويضَه على نطاقٍ واسع، ما
أدَّى في النهاية إلى تقديم حُجة من ٢٥٠ صفحة مفادها أن
الكائنات غير الأرضية ربما كانت في انتظار العثور عليها
فقط لو كان بإمكاننا البدءُ في البحث بجدِّية. جاء في
التقرير أنه لا يُوجَد شيء مميز في الأرض أو ساكنيها:
«العمليات الأساسية لتطوُّر النجوم والكيمياء
والبيولوجيا والتطور الثقافي قابلة للحُدوث في أي مكان
في الكون، ومتى تُؤتي ثمارها، تؤدي إلى ظهور التكنولوجيا
التي لا بد أن تَحمل أوجه تشابُهٍ شديد مع التكنولوجيا
التي لدَينا اليوم وفي المستقبل.»11
وانطلاقًا من المنطق نفسه الذي اتبعه كوكوني وموريسون،
خلص تقرير أوليفر إلى أنَّ نطاق الراديو الدقيق الموجات
سيكون أفضل مكانٍ للبحث عن إشارةٍ من خارج الأرض. ومن أجل
إيجاد فرصة جيدة للنجاح، نظرًا للعدد الهائل من المواقع
والتردُّدات التي كان سيتعيَّن فحصها، أوصى التقرير بأنْ
تَبني ناسا مجموعةً من أطباق الاستقبال الراديوية القابلة
للتوجيه. حاكت خطة أوليفر مصفوفة نيومكسيكو البالغة الكبر
— التي كانت بالفِعل في مراحل التخطيط، وكانت ستتألَّف
في النهاية من ٢٧ طبقًا، كلٌّ منها بقُطر ٢٥ مترًا، على
طول ثلاثة مسارات، طول كلٍّ منها ٢١ كيلومترًا — حيث كانت
ستَستخدِم عمليةً تُسمَّى القياس بالتداخُل لمُحاكاة جهاز
استقبالٍ أكبر بكثير. الاختلاف الكبير كان في أن منشأة
أوليفر، التي أطلق عليها اسم «سايكلوبس»، كانت ستتكون من
١٠٠٠ إلى ٢٥٠٠ طبق، قُطر كلٍّ منها ١٠٠ متر. كانت
المنشأة ستكون من الضخامة بحيث كانت ستتطلَّب مدينةً
جديدة (سُمِّيت «سايكلوبس» بالطبع، نسبة لكائن الصُّقلوب
الأسطوري الضخم)؛ وذلك لخدمة موظفيها وعائلاتهم. كانت
التكلفة المُقدَّرة هي ستة إلى عشرة مليارات دولار، دون
حساب الحاجة إلى مشروع «سايكلوبس» ثانٍ على الجانب الآخر
من الكوكب لتغطية كاملة للسماء ومُراقبتها
المستمرة.
من ناحية، كان اقتراح مشروع «سايكلوبس» باهظ الثَّمن
نتاج عصره. كانت ناسا قد أوفَت للتوِّ بالجدول الزمني الذي
وصل حدَّ الجنون في طُموحه والذي وضعه الرئيس جون كينيدي
للهبوط على سطح القمر. وفي ذلك الوقت، لم يَبدُ من
المُستبعَد أن الفنادق الفضائية، ومستعمرات القمر، والسفن
الفضائية فيما بين الكواكب، وأجهزة الكمبيوتر الواعية
مثل تلك التي يُصوِّرها ستانلي كوبريك في فيلم «٢٠٠١:
ملحمة الفضاء» (٢٠٠١: إيه سبيس أوديسي) (١٩٦٨) ستُبنى
بالفعل في غضون بضعة عقود. كانت ناسا قد طلبت من أوليفر
أن يكون طموحًا، وقد كان كذلك بالفعل.
ولكن مع اقتراب انتهاء بعثات أبولو، كان التمويل
المُخصَّص لناسا في تراجُع سريع. كان مشروع «سايكلوبس»
سيَستهلِك نحو خُمس الميزانية التي خصَّصتها الوكالة في
عام ١٩٧١ للعَقد المُقبل. وزَّعت ناسا ١٠ آلاف نسخة من
تقرير أوليفر، ولكن، في الواقع، حُكم على المشروع على
الفور بالإجهاض. قالت الصحفية سارة سكولز: «على الرغم من
أن ناسا كانت تَقصِد من تقرير «سايكلوبس» أن يجعل البحث
عن ذكاء خارج الأرض يبدو قابلًا للتنفيذ، فقد فعل الفريق
العكس في واقع الأمر.»12
التحدُّث باسم الأرض
بدلًا من «الاستماع» إلى الكائنات غير الأرضية، قضى
علماء البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض مُعظَم فترة السبعينيات
في جهودٍ غير عملية، ورمزية إلى حدٍّ كبير، وأقل تكلفة
بكثير لتعريف الكائنات غير الأرضية بكوكب الأرض. يُطلق
على هذا المسعى أحيانًا اسم «التواصُل مع ذكاءٍ خارج
الأرض» CETI، أو
«مُراسَلة ذكاء خارج الأرض»
METI. وقد حفَّزه
اجتماع مُشترك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي
في مرصد بيوراكان للفيزياء الفلَكية في عام ١٩٧١، ويُطلَق
عليه أحيانًا اجتماع بيوراكان الثاني، والذي جمَع كل
كبار هذا المجال — موريسون، ودريك، وساجان، ودايسون،
وشكلوفسكي، وكارداشيف، وحتى رائد الذكاء الاصطناعي مارفن
مينسكي، والمُكتشف المشارك للحِمض النووي فرانسيس كريك —
للتساؤل عن اللغة المشتركة التي يمكن تطويرها للتواصُل
مع الحضارات المُتقدِّمة. من الطبيعي للغاية لمجموعةٍ من
العلماء أن يَخلُصوا إلى أنَّ اللغة العالمية لا بد أن
تكون لغةً حسابية. قال مينسكي مازحًا: «غالبًا سيكون
التواصُل مع عالِم من كوكب المشتري أسهل منه مع مُراهِق
أمريكي.»13
سرعان ما أُتيحت الفرصة لساجان لوضع الفِكرة موضع
التطبيق. أطلقت ناسا في عامَي ١٩٧٢ و١٩٧٣ المسبارين
«بايونير ١٠» و«بايونير ١١» في المسارات التي من شأنها
أن تجعلهما يمرَّان بكوكبَي المشتري وزحل. كان ساجان يُدرك
أن المِسبارَين سيكونان أول جسمَين من صنع البشر يُغادران
المجموعة الشمسية، لذلك طلب من وكالة ناسا الإذن بإلحاق
لوحٍ صغير بكلِّ مركبةٍ مُصمَّمٍ لتراه أيُّ حضارةٍ قد
تَعترض أيًّا من المركبتَين في مرحلةٍ ما في المستقبل
البعيد.
وافقت الوكالة. احتوى اللوحان المطليَّان بأكسيد
الألومنيوم بطول ٢٣ سنتيمترًا وعرض ١٥ سنتيمترًا، اللذان
صمَّمهما ساجان ودريك ورسَمَت مُحتواهما زوجة ساجان
آنذاك ليندا سالزمان ساجان، على رسمٍ توضيحي لتَحوُّل اللفِّ
المغزلي للهيدروجين — لتحديد مقاييس الوقت والمسافة —
وكذلك رسمًا تخطيطيًّا لموقع المجموعة الشمسية بالنسبة
إلى ١٤ نجمًا نابضًا تمَّ تحديدُها من خلال تردُّداتها.
وفي الواقع، كانت تلك خريطة لمهووسي الرياضيات للعودة
إلى الأرض. احتوى اللوحان أيضًا على صورةِ شخصَين
عاريَين: رجل وامرأة. من غير المُحتمَل على الإطلاق أن
تُشاهدهما أعينُ كائناتٍ غير أرضية، غير أنهما قد تسبَّبا
في جدلٍ لا نهاية له هنا على الأرض. عدَّهما بعض
المعلِّقين صورًا إباحية، بينما رأى آخرون تحيُّزًا
عنصريًّا وجنسانيًّا في رسم آل ساجان يدفع لاعتبار
الشخصَين أوروبيَّين، ويُظهر الرجل وحدَه هو مَن يرفع يده
بالتحية.
في عام ١٩٧٤، رفع دريك من مستوى التحدي. فبحلول ذلك
الوقت، كان مدير المركز الوطني لعلم الفلك والغلاف
الأيوني، الذي كان يُشغِّل تلسكوب «آريسيبو» الراديوي
لمدة ١٠ سنوات في بورتوريكو. وفي حفلٍ بمُناسبة الانتهاء
من مشروعٍ كبير لزيادة دقة التلسكوب ومُقاوَمتِه
للأعاصير، استخدم دريك الطبق البالِغ قطرُه ٣٠٥ أمتار
لإرسال رسالة راديو قصيرة تحمل مزيدًا من المعلومات
المُشفَّرة عن الأرض وسكانها.
تألفت رسالة «آريسيبو» من ١٦٧٩ رقمًا ثنائيًّا: حاصل
ضرب عددَين أولِيَّين، وهما ٢٣ و٧٣. إذا كان مُستقبِل
الرسالة سيُرتِّب تدفُّق التيار وعدم تدفُّقه في شبكةٍ
مكوَّنة من ٢٣ مربعًا عرضيًّا و٧٣ مربعًا عموديًّا،
فسيظهر رسمٌ تخطيطي بدائي بنمطٍ يُذكِّر بنمط الرسومات
الثنائية الأبعاد البسيطة في ألعاب الفيديو التي كانت
موجودة في هذا العقد من القرن العشرين، مثل لعبة «بونج».
يُظهر الرسم التخطيطي نظام الأعداد العشري الذي نعرفه،
والأعداد الذرية للعناصر في الحمض النووي البشري
(الهيدروجين، والكربون، والنيتروجين، والأكسجين،
والفوسفور)، والصيغ الكيميائية للسكريات، والقواعد في
نيوكليوتيدات الحمض النووي، ورسمًا تخطيطيًّا للَّولب
المزدوج للحمض النووي، وصورة مُكوَّنة من مكعبات لإنسان
(تبدو أشبَهَ بروبوت قاتل)، وطول ذكَر مُتوسِّط الحجم،
وعدد سكان الأرض (٤٫٣ مليار في ذلك الوقت)، ورسمًا
بيانيًّا لمجموعتنا الشمسية، وصورة تلسكوب
«آريسيبو».
كانت قوة بث الرسالة عالية للغاية، بما يَكفي
لاكتشافها عبر تلسكوب بحجم «آريسيبو» في أي مكان من
المجرة. غير أنه كان من غير المُرجَّح أن يتلقَّاها أحد؛
نظرًا لأنها كانت تستهدِف حصرًا العنقود النجمبي
M13، وهو عنقود نجمي
كُروي يبعُد ٢٥ ألف سنة ضوئية؛ فبحلول الوقت الذي تصِل فيه
الرسالة إلى هذا البُعد، سيكون عنقود النجمي قد تحرَّك
بعيدًا. وفقًا لعالِم الفلك دونالد كامبل من جامعة
كورنيل، الذي كان باحثًا مشاركًا في مشروع «آريسيبو» في
ذلك الوقت، فإن رسالة «آريسيبو» «كانت بالأحرى حدثًا
رمزيًّا، لإظهار أننا قادِرُون على فعل ذلك».14 يقول دريك إن الرسالة كانت مجرد «لفتٍ
للأنظار» و«استعراض».15
ولكن في الوقت نفسه، كانت نوعًا ما نموذجًا مُتخيلًا
لرسالةٍ «واردة». فإذا ما استقبلنا في أي وقتٍ من الأوقات
إشارة راديو ذكية من النجوم، فسيكون من الملائم للغاية
أن تكون مُشفَّرة باستخدام نظامٍ رياضي يُمكن للباحثين عن
ذكاء خارج الأرض التعرُّف عليه وفك شفرته، مثل شبكة
الأعداد الأولية. ولكن على ما يبدو كانت رسالة «آريسيبو»
أيضًا مثارًا للجدل. فبعد أيامٍ من الحفل، كتب مارتن
رايل، عالم الفلك الملَكي في إنجلترا، إلى دريك يشكو من
أنه «من الخطير جدًّا الكشف عن وجودنا ومَوقعِنا في
المجرة؛ لأننا نعرف جميعًا أن أيَّ مخلوقاتٍ خارج الأرض
قد تكون شريرة؛ أو جائعة.»16
«هذه هدية من عالِم صغير وبعيد، تعبيرًا عن
أصواتنا، وعلومنا، وصورِنا، وموسيقانا، وأفكارنا،
ومشاعرنا.»
لم تُثنِ الاحتمالات المُتعلقة بغزو الكائنات الفضائية
علماء البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض عن متابعة أبحاثهم. لقد
استنتَجُوا أننا كنا نُسرِّب إشارات الراديو والبث
التليفزيوني لبقية ذراع الجبار منذ ثلاثينيات القرن
العشرين، فما الفرق الذي يُمكن أن يُحدِثه بثٌّ قصير
ومدروس؟
وفي الواقع، عندما جاءت الفرصة الكبيرة التالية لإرسال
رسالة صادرة، استغلَّها ساجان. قاد لجنة من وكالة ناسا
اختارت ١١٥ صورةً ثابتة وساعة من التسجيلات، والأصوات
البشرية، والمقاطع الموسيقية لتسجيل فوياجر المُرتحِل
عبر النجوم، الذي أُرفِقَ بمسباري «فوياجر١» و«فوياجر٢» قبل إطلاقهما في عام ١٩٧٧. (غادر
كِلا المسبارَين الآن المجموعة الشمسية وسيُسرعان إلى ما لا نهاية في الفضاء
السحيق بين النجوم.) كان الغرض مِن التسجيل أن يكون
كنزًا دفينًا ليكتشِفَه علماء الأنثروبولوجيا من خارج
الأرض في المستقبل البعيد. لكنَّ مُحتواه، الذي نُشرت نُسخ
منه على نطاقٍ واسع هنا على الأرض منذ عام ١٩٧٧، كان
أيضًا بمِثابة شكلٍ من أشكال الكبسولات الزمنية. قال
الرئيس جيمي كارتر في بيانٍ ضمَّنه في التسجيل: «هذه
هدية من عالم صغير وبعيد، تعبيرًا عن أصواتنا، وعُلومنا،
وصورنا، وموسيقانا، وأفكارنا، ومشاعرنا. نحن نُحاول
البقاء على قيد الحياة في زمَنِنا حتى نتمكَّن من الوصول
إلى زمنكم.»
إشارة «واو!»
بعد فشل مشروع «سايكلوبس» عند وصوله إلى وكالة ناسا،
أصرَّ العلماء على أنه لكي يستمر البحث عن كائنات خارج
الأرض، لا بدَّ أن يكون سعيُهم خارج الوكالة وأن
يَبتكرُوا أساليب أقل تكلفة. كانت إحدى الأفكار الواضِحة
هي إعادة توجيه الغرض مِن التلسكوبات الراديوية الموجودة
بالفعل، أو الاستفادة منها.
حتى قبل كوكوني وموريسون، حصَلَ عالم الفلك الراديوي
بجامعة ولاية أوهايو، جون كراوس، على تمويلٍ لبناء
تلسكوب الراديو ذي الشكل الغريب في ديلاوير بولاية
أوهايو، والذي سُمِّي «بيج إير» («الأذن الكبيرة»). ومع
وجود ريشةٍ عاكسة كبيرة في أحد طرفَي حقلٍ مفتوح وكبير
وعاكس تركيز منحنٍ في الطرف الآخر، عمل التلسكوب كماسحٍ
مسطح عملاق. سحب دوران الأرض مجال رؤية التلسكوب عبر
السماء، مع عدم إبقاء نقطةٍ واحدة في مجال الرؤية لأكثر
من ٧٢ ثانية. كان تلسكوب «بيج إير» يُستخدَم من عام ١٩٦٥
إلى عام ١٩٧٢ لإعداد المسح الفلَكي لسماء أوهايو، وهو
فهرس يحتوي على ٢٠ ألف مصدرٍ راديوي في الفضاء، مُعظمها
لم يَسبِق أن رأيناه من قبلُ. وبعد أن أوقف الكونجرس
تمويل المسح، قرَّر كراوس البدءَ في البحث عن إشاراتٍ ذات
أصل ذكي. بدأ التسجيل في ديسمبر ١٩٧٣، مع التركيز على
قناة تردُّدها ١٤٢٠ ميجاهرتز؛ أي خط الهيدروجين.
كان تلسكوب «بيج إير» يُستخدَم من عام ١٩٦٥ إلى
عام ١٩٧٢ لإعداد المسح الفلَكي لسماء أوهايو، وهو
فهرس يحتوي على ٢٠ ألف مصدر راديوي في الفضاء،
مُعظمها لم يَسبِق أن رأيناه من قبل.
وبعدما يَقرُب من أربع سنوات، في ١٥ أغسطس ١٩٧٧، سجَّل
تلسكوب «بيج إير» إشارةً قوية قادمة من نقطة بالقُرب من
العنقود النجمي الكروي «إم ٥٥» في كوكبة «الرامي». كانت
الإشارة على تردُّد الهيدروجين؛ وقد كانت قوية للغاية
(أعلى ٣٠ مرة من ضجيج الخلفية)، وقد كانت محلية (اكتسبت
شدة لمدة ٣٦ ثانية، وتضاءلت لمدة ٣٦ ثانية، تمامًا كما
هو متوقَّع من جسمٍ فلَكي يعبر مجال إدراك تلسكوب «بيج
إير»). وعندما استعرض عالِم الفلك جيري إيهمان نسخة
مطبوعة من جلسة الرصد بعد ثلاثة أيام، وضع دائرةً حول قمة
الإشارة بقلم أحمر وكتب كلمة «واو!».
كان التسجيل الذي التقطَه تلسكوب «بيج إير»، والذي
عُرِف بعد ذلك دائمًا باسم «إشارة واو!» مِن أكثر لحظات
البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض إثارةً.17 لكن في المرة التالية التي مسح فيها إيهمان
المنطقة، لم تكن الإشارة موجودة. باءت عدَّة دراسات
لمنطقة «إم ٥٥» في السنوات التالية بالنتيجة الفارغة
ذاتها. ولا يزال من المُمكن أن تكون إشارة «واو!» من
أصلٍ ذكي؛ فعلماء الفلك لم يَخلُصوا إلى تفسيرٍ طبيعيٍّ
مُقنِع. ولكن في هذه الحالة، من الصعب معرفة سبب عدم
تكرار المُرسِل للرسالة، والرسالة التي لا تتكرَّر ليس
لها مصداقية كبيرة. (بطريقةٍ ما، تكشف هذه المشكلة عن ضعف
في نهجنا في البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض بالكامل؛ إذ لا
يُمكننا بعدُ الاستماع إلى السماء بأكملها طوال الوقت،
لذلك نَعتمِد على كائنات غير أرضية مُفترَضة لمساعدتنا عن
طريق بناء فنارات ذات عمرٍ طويل.)
في السنوات التي تلَت ذلك، لم يَلتقِط فريق ولاية
أوهايو شيئًا مُثيرًا للاهتمام بهذا الحدِّ الكبير كإشارة
«واو!». وفي ١٩٩٨، بمجرَّد دخول مشروع «بيج إير» موسوعة
جينيس للأرقام القياسية لكونه وجهةً لأطول بحثٍ مُستمِر في
مجال البحث عن ذكاء خارج الأرض، دُمِّر التلسكوب لتهيئة
مساحته لبناء ملعَب جولف خاص.
خطوات صغيرة وعنيدة
عندما قرأ عالم الفلك في بيركلي ستيوارت بوير تقرير
«سايكلوبس»، أعطاه فكرة مشابهة لفكرة كراوس. لماذا لا
نَبني نظامًا للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض يكون مُتكافئًا
مع جهود علم الفلك الراديوي الحالية؟ فإذا كان بإمكان
بوير الحصول على نسخةٍ من بيانات الراديو الواردة
لتحليلها لاحقًا بحثًا عن إشاراتٍ مشكوكٍ في أمرها،
فيُمكِن لعلماء فلك آخرين مواصَلة عملِهم العلمي. أطلق
بوير على الفِكرة اسم «التراكُب»، ووُجدَ عالم فلك في
مرصد راديو هات كريك في شمال كاليفورنيا كان على استعدادٍ
للسماح له بتجربتها، وهو جاك ويلش. تطوَّعت جيل تارتر،
التي كانت طالبة دراساتٍ عُليا في علم الفلك في بيركلي في
ذلك الوقت، للمساعدة (وقد تزوَّجَت ويلش لاحقًا).
أطلقوا على مشروعهم اسم «البحث عن الانبعاثات
الراديوية خارج الأرض من الجماعات الذكية المتطوِّرة
القريبة»، أو
SERENDIP.18 كان مِن أوائل المشروعات التي تَستمِع إلى
السماء على تردُّدات مُتعدِّدة في وقتٍ واحد: ١٠٠ قناة فقط
في البداية غطَّت نطاقًا من التردُّدات بعرض ١٠٠
كيلوهرتز، ولكنه شمل المزيد لاحقًا. بدأ المشروع في
العمل عام ١٩٧٩ وأُجريَت عليه العديد مِن الترقيات
والانتقالات منذ ذلك الحين، مِن هات كريك إلى جرين بانك
وفي النهاية إلى آريسيبو، حيث لا يزال موجودًا ويعمل إلى
اليوم.
انطلق المشروع بتمويلٍ حكومي ضئيل، وكان صغيرًا
نسبيًّا من حيث الحَجم، وظلَّ في تقدُّمه في الغالب بفضل
رُوح الإصرار والمبادرة لدى الباحثين الذين آمَنوا
بأهمية البحث. وبعبارةٍ أخرى، كان مثالًا نموذجيًّا
للجهود المنظَّمة للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض من أواخر
سبعينيات القرن العشرين فيما بعد. في تلك المرحلة، كانت
رُوح المغامَرة التوسُّعية لعلوم الفضاء التي تُموِّلها
الحكومات في حالةٍ من الركود. لم يعُد علم الفلك الراديوي
أمرًا جديدًا، وقد جعلته الطبيعة التخمينية في أساسها —
وقُرب موضوعاته من حكايات الأجسام الطائرة غير المحدَّدة
الهُوية والمريخيِّين في المخيلة الشعبية — عرضةً للهجمات
السياسية. كان على الباحثين عن ذكاءٍ خارج الأرض الكفاح
من أجل كل بنسٍ من التمويل الفيدرالي، أو أن يبحثوا
بأنفسهم عن تمويلٍ لأبحاثهم.
فعلت جيل تارتر الأمرَين. ففي عام ١٩٧٥، بدأت وكالة
ناسا في تمويل دراسةِ تصميمٍ صغيرة، مشروع «مُراقبة
الموجات الدقيقة» MOP،
لتحديد نوع التكنولوجيا اللازمة لاستمرار الباحِثين عن
ذكاءٍ خارج الأرض؛ كان المشروع في جوهره صورةً قليلة
التَّكلفة من مشروع «سايكلوبس». واصلت تارتر، التي كانت
وقتَها عضوًا في هيئة التدريس في بيركلي، تصميمات
الأجهزة. لكن المشروع كان له أعداء في واشنطن العاصمة،
لا سيما ويليام بروكسمير، الذي كان سيناتورًا
ديمقراطيًّا من ولاية ويسكونسن وعُرفَ بأنه أحد صقور
الميزانية. مُنِح المشروع جائزة الصوف الذهبية في عام
١٩٧٨، بحجة أنه «لا يُوجد الآن ذرة دليل على وجود حياة
خارج مجموعتنا الشمسية». (بالطبع كان اكتشافُ مثل هذا
الدليل هو بيت القصيد.) وعندما لم تُؤدِّ الضجة
الإعلامية السيئة إلى وقف المشروع، حاول بروكسمير اقتطاع
تمويله من ميزانية وكالة ناسا في عام ١٩٨١، لولا أن كارل
ساجان قد أقنعَه شخصيًّا بالعدول عن ذلك.
بعد ذلك، تقدَّم المشروع ببطءٍ اعتمادًا على الحد الأدنى
من الميزانية. وفي عام ١٩٨٤، توصلت تارتر إلى خطة لتقليل
التكاليف العامة وتعظيم الاستفادة من أموال ناسا من خلال
تأسيس معهدٍ غير ربحيٍّ للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض في
ماونتن فيو، كاليفورنيا، بالقُرب من مركز أميس للأبحاث
التابع لناسا. تولَّى المعهد تطوير الأجهزة الأساسية
اللازمة لتسريع عملية البحث عن الإشارات الراديوية
لأغراض البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض، ولا سيَّما تحليلات
الطيف التي يُمكن أن تُعالج الإشارات على عدة تردُّدات في
آنٍ واحد.
ظهرت ببطء خطة لاستخدام أجهزة التحليل هذه في عمليتَي
بحثٍ مُنفصلتَين: بحث عميق يستهدف النجوم في نطاق ١٠٠
سنة ضوئية، ومسح سَطحي للسماء بأكملها. وفي عام ١٩٩٢ —
وهو الوقت الذي أُعيد فيه تسمية مشروع «مراقبة الموجات
الدقيقة بمسح الموجات الدقيقة عالي الدقَّة»
HRMS — كانت معدات
البحث العميق جاهزة أخيرًا لنقلها جوًّا إلى آريسيبو.
بدأ المسح هناك في يوم كولومبوس، وهو الذِّكرى السنوية
الخمسمائة «لاكتشاف» أمريكا الشمالية.
لكن مشروع «مراقبة الموجات الدقيقة بمسح الموجات
الدقيقة عالي الدقة» لم يَدُم طويلًا. ففي غضون عام،
تمكَّن خلفاء بروكسمير في الكونجرس من إلغاء ميزانيتِه
التي كانت تُقدَّر بنحو ١٢٫٣ مليون دولار، ما أدَّى إلى
إنهاء العمل في مجال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض في وكالة
ناسا نهائيًّا. جاء في بيانٍ صحفي ساخر صادر من مكتب
القابض على زمام الأمور الرئيسي سيناتور نيفادا ريتشارد
برايان: «حتى يومِنا هذا، أُنفِقَت الملايين ولم نتمكَّن
من الإمساك بأيِّ كائن أخضر صغير. لم يَقُل مرِّيخيٌّ واحد
«خُذني إلى قائدك»، ولم يتقدَّم طبق طائر واحد للحصول على
تصريحٍ من إدارة الطيران الفيدرالية.» وكان على تارتر أن
تبحث عن التمويل في مكان آخر.
أما في الشرق، في غضون ذلك، كان الفيزيائي بول هورويتز
قد اختار استراتيجية للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض، تجنَّبت
إلى حدٍّ كبير التمويل الفيدراليَّ وجميع المخاطر التي
تُصاحبه. اخترع هورويتز، الذي كان خبيرًا في
الإلكترونيات، مِطيافًا يُمكنه قياس قوة الإشارة على ٦٥
ألف قناة إذاعية بالغة الضيق حول خطِّ الهيدروجين.
(كلَّما كان عرض كلِّ تردُّد يخضع للفحص أضيق، زادَت قُدرة
الكاشفات على تمييز الإشارة عن الضجيج وقلَّ التداخُل من
المصادر الأرضية.) وفي عام ١٩٧٨، استخدم هورويتز المطياف
في آريسيبو لفحص ١٨٥ نجمًا قريبًا.19 وبدعمٍ من مجموعة الترويج للعلوم التي
يقودُها ساجان، الجمعية الكوكبية، حسَّن بعد ذلك مُعداته
وصغَّر حجمها لتُصبح في صورة جهاز محمول أسماه حقيبة
البحث عن ذكاء خارج الأرض، والذي تمَّ اختباره في
آريسيبو وتعديله مرةً أُخرى لتركيبه في تلسكوب
هارفارد-سميثسون الراديوي في بلدة هارفارد الريفية في
ماساتشوستس.
بين عامَي ١٩٨٣ و١٩٨٥، في عملية تُسمَّى مشروع
«سينتينيل»، أكمل فريق هورويتز عدة عمليات مسح للسَّماء
الشمالية. لكن مطياف «سينتينيل» كان أمامه قيدان
أساسيَّان. فمن ناحية، لا يُمكنه الاعتماد على تأثيرات
دوبلر المحتملة في الإشارة الواردة، وهذا يعني أنه إذا
كان هورويتز يأمل في التقاط إشارات حول تردُّد ١٤٢٠
ميجاهرتز السِّحري، فإنه سيتعيَّن على الحضارة المُرسِلة
المُفترَضة تصحيح إشاراتها «مسبقًا» بما يَتناسَب مع
الحركة النسبية لنظامها النجمي ونظامنا. ومن ناحية أخرى،
كانت معالجات «سينتينيل» بطيئة؛ فقد استغرقت ٣٠ ثانية
على الأقل لتحليل البيانات الواردة لنقطة معيَّنة في
السماء على جميع التردُّدات البالغ عددها ٦٥ ألف تردُّد،
وهو الوقت الذي يكون التلسكوب خلاله قد انتقل إلى الهدف
التالي.
ولتجاوز هاتين المشكلتَين، صمَّم هورويتز جيلًا جديدًا
من أجهزة قياس الطَّيف بقُدرة حسابية أكبر. كان بإمكان
جهاز المشروع الجديد «ميتا»
META («فحص الحياة
خارج الأرض عبر عدد هائل من القنوات») مسح ٨٫٤ ملايين
قناة بالقُرب من خط الهيدروجين آنيًا. كما كان بإمكانه
أيضًا تصحيح دوران الأرض والحركات الأخرى مثل حركة
المجموعة الشمسية حول مركز المجرَّة، ما كان يَعني أنَّ
الباحثين قد يتمكَّنون للمرة الأولى من اكتشاف إشارة
ضيِّقة النطاق لم تُصمَّم خصوصًا للأرضيِّين.
بنى هورويتز مطياف مشروع «ميتا» بمُساعدة من الجمعية
الكوكبية وهدية قَدرُها مائة ألف دولار من المُخرج ستيفن
سبيلبرج. زار ساجان وسبيلبرج حرم جامعة هارفارد في
سبتمبر ١٩٨٥ لحُضور ندوةٍ تَحتفي بإطلاق المشروع. وهنا
أَدخُل في القصة لفترةٍ وجيزة. في أول جولة لي وأنا طالب
صحفي، قابلتُ ساجان وأجريتُ مقابلةً شخصية مع هورويتز
(انظر التمهيد). لم يَسعْني إلا أن أطرح على هورويتز
السؤال التقليدي الذي يطرَحه كلُّ صحفيٍّ على عالِمٍ من
علماء البحث عن ذكاء خارج الأرض: ما هي فُرَصُ نجاحِك؟
فأجاب قائلًا: «لا أحدَ يعلم. يُمكننا استخدام المعادلات
لتخمين عدد الحَضارات خارج كوكب الأرض التي لا بدَّ أنها
في مجرَّتنا. لا تُوجَد طريقة لتكون إجابتنا دقيقة
تمامًا، لكن الأعداد تُظهِر ضرورة وجودِها.»20
«يُمكننا استخدام المعادلات لتخمين عدد الحضارات
خارج كوكب الأرض التي لا بدَّ أنها في مجرتنا. لا
تُوجَد طريقة لتكون إجابتُنا دقيقة تمامًا، لكن
الأعداد تُظهر ضرورة وجودها.»
المزيد من كل شيء
استمرَّ مشروع «ميتا»
META، ومن بعده
مشروع «بيتا» BETA (كما
خمَّنتُ: فحص الحياة خارج الأرض عبر مليار قناة) من ١٩٨٥
إلى ١٩٩٩. وغنيٌّ عن القول أنَّ أيًّا من المشروعَين أو
مشروع «البحث عن الانبعاثات الراديوية خارج الأرض من
الجَماعات الذكية المُتطوِّرة القريبة» أو «مُراقبة
الموجات الدقيقة بمَسح المَوجات الدقيقة عالي الدقة» لم
يَجِد على الإطلاق إشاراتٍ مرشَّحة قد تتكرَّر إن أعَدْنا
النظر. غير أنها قد وضَعَت نمَطًا للبحث عن ذكاء خارج
الأرض في العصر الحديث من عام ١٩٩٥ حتى وقتِنا الحاضر.
وهذا العصر يُمكن وصفه بأنه عصرُ «المزيد من كل شيء»،
بالطبع باستثناء تمويل الحكومة الأمريكية.
المزيد من العمل
الخيري: بعد إلغاء مشروع «مُراقبة
الموجات الدقيقة بمسح الموجات الدقيقة عالي الدقة»،
استحوذَ معهد البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض على مُعِدات
الكشف التي كان قد شيَّدها، وشقَّت تارتر الطريق لجَمع
الأموال للوصول لشكلٍ مِن أشكال البحث يُموِّله القِطاع
الخاص. جاءت الملايين من أقطاب صناعة الكمبيوتر مثل
المؤسِّسَين المشاركَين لشركة هيوليت-باكارد، ويليام
هيوليت وديفيد باكارد، والمؤسِّس المشارك لشركة إنتل،
جوردون مور، والمؤسِّس المشارك لشركة مايكروسوفت، بول
ألين. بدأ مشروع «فينكس» في عام ١٩٩٥ بالاستفادة من وقتِ
تأجير التلسكوبات في مرصد باركس في أستراليا، ثم في جرين
بانك، ثم في آريسيبو.
ولكن كان من الواضح أنَّ عمل المعهد كان بحاجةٍ إلى
مكانٍ دائمٍ خاصٍّ به، ما أثار فكرة إنشاء مصفوفة جديدة
من عددٍ كبير مِن الهوائيات ذات الأقطار الصغيرة، التي
يُمكنها معًا أن تُؤدِّي عمل تلسكوب واحد كبير للغاية.
بدأت مصفوفة تلسكوبات ألين التابعة لمعهد البحث عن ذكاءٍ
خارج الأرض العمل في مرصد هات كريك التابع لجامعة بيركلي
في عام ٢٠٠٧، وقد تكوَّنت من ٤٢ طبقًا مُنفصلًا قُطر
كلٍّ منها ستة أمتار. سُمِّيت بهذا الاسم تيمنًا ببول
ألين، الذي وضَع أكثر من ٣٠ مليون دولار في المشروع قبل
وفاته في عام ٢٠١٨.
في عام ٢٠١٥، في إطارٍ يَحتمِل أن يُغيِّر قواعد اللعبة
في مجال البحث عن ذكاء خارج الأرض، عهدَ قُطبٌ آخر من
أقطاب مجال التكنولوجيا، وهو رائد الأعمال والمستثمر
الإسرائيلي الروسي يوري ميلنر، بمبلغ ١٠٠ مليون دولار
على مدار ١٠ سنوات لمشروعٍ يُسمَّى «بريكثرو ليسن».
يشتري البرنامج، الذي يُديره مركز البحث عن ذكاء خارج
الأرض في جامعة بيركلي (والذي هو أيضًا مقرُّ مشروع
«البحث عن الانبعاثات الراديوية خارج الأرض من الجَماعات
الذكية المُتطوِّرة القريبة»)، وقت الرصد في تلسكوب جرين
بانك الجديد، البالِغ قُطره ١٠٠ متر، في النِّصف الشمالي
من الكرة الأرضية وباحث الكواكب الآلي، وهو تلسكوبٌ
بصَريٌّ في مرصد ليك بالقرب من سان خوسيه، كاليفورنيا.
قال ميلنر إنَّ هذه الأدوات تجمع معًا أكبر قدرٍ مِن
البيانات في يوم واحد، وهو ما يُوازي القَدر الذي كانت
مشاريع البحث عن ذكاء خارج الأرض السابقة تجمعُه في
عام.21 تُرسل البيانات الآتية مِن جرين بانك إلى
SETI@home، وهو
برنامج يَسمح للمُتطوِّعين بالتبرُّع بوقت فراغهم على
أجهزة الكمبيوتر في منازلهم للمُساعدة في فرز البيانات
المليئة بالضوضاء للكشف عن الإشارات الضعيفة. (لا تزال
هذه التجربة التي بدأت منذ ٢٠ عامًا اعتمادًا على العلم
الذي يجلبُه المواطنون والحوسَبة الموزَّعة قائمة بقوة؛
ويُمكنك الانضمام إليها على الموقع
setiathome.berkeley.edu.)
المزيد من
التردُّدات: إنَّ خط الهيدروجين البالغ
طوله ٢١ سنتيمترًا وتردده ١٤٢٠ ميجاهرتز ليس المكان
الوحيد في نطاق الاتصال الراديوي الذي قد تختاره
الحضارات خارج كوكب الأرض لبثِّ إشاراتها؛ إنما هو فقط
الأكثر وضوحًا؛ لأن الهيدروجين هو العنصر الأكثر شيوعًا
في الكون. على مرِّ السنين، حاول علماء البحث عن ذكاءٍ
خارج الأرض أيضًا الاستماع إلى تردُّدات أخرى، مثل
مضاعفات التردُّد ١٤٢٠ ميجاهرتز. في فيلم «كونتاكت»
(«اتصال»)، عُثر على إشارة من خارج الأرض عند «تردُّد خط
الهيدروجين مضروبًا في العدد باي
()». «تردد
خط الهيدروجين مضروبًا في عدد أويلر ()» و«خط الهيدروجين مضروبًا في الجذر
التربيعي للعدد اثنين» هما أيضًا صيغتان مقبولتان بالقدْر
نفسه.
وبعيدًا عن خط الهيدروجين، هناك خطوط الإشعاع لأيونات
الهيدروكسيل (OH) بين
النجوم عند التردُّدات من ١٦١٢ إلى ١٧٢٠ ميجاهرتز. أطلق
بارني أوليفر على قطاع الطيف الراديوي حول خطَّي
الهيدروجين والهيدروكسيل «حفرة الماء»؛ لأن
H (الهيدروجين)
وOH (الهيدروكسيل)
يمكن أن يتَّحِدا لتكوين
H2O
(الماء).22 حفرة الماء هي أيضًا مكان لتجمُّع العديد من
أنواع الكائنات، لذلك التصقَ الاسم الذي يتَّسم بالتفاؤل
في الأذهان.
لكن على العموم، لا يحتاجُ الباحثون عن ذكاء خارج
الأرض اليوم إلى وضع العديد من الافتراضات حول التردُّدات
التي قد تستخدمها الكائنات غير الأرضية. فالكاشِفات
الحديثة المبنية على المبادئ نفسها التي بُنيَ عليها
مِطياف مشروع «فحص الحياة خارج الأرض عبر مليار قناة»
لهورويتز يُمكنها الاستماع إلى مليارات القنوات الضيقة في
وقتٍ واحد. وحتى التقنيات الأحدث قد تُساعِد الباحثين عن
ذكاءٍ خارج الأرض على إلقاء نظرة خاطفة على «إطار
الموجات الدقيقة (الميكروويف)»، وهو النطاق الضيق
للتردُّدات (من ١٠٠٠ إلى ١٠ آلاف ميجاهرتز) الذي يُمكن
أن ينتقِل بسلاسة عبر الغلاف الجوي للأرض، المكوَّن من
النيتروجين والأكسجين والماء. حتى وقتٍ قريب، لم نتمكَّن
من البحث خارج نطاقات التردُّد هذه لأنَّ طاقة الراديو
عند تردُّدات أعلى من ١٠ آلاف ميجاهرتز يمتصُّها الغلاف
الجوي، والطاقة عند تردُّداتٍ أقل من ١٠٠٠ ميجاهرتز
تميلُ إلى أن تكون محجوبة بواسطة الضوضاء الخلفية
للمجرَّة. لكن تلسكوب «مصفوفة التردُّد المنخفض»
LOFAR — وهو عبارة
عن مصفوفة من ٤٤ هوائيًّا مُنتشِرة في جميع أنحاء هولندا
وفرنسا وألمانيا والسويد والمملكة المتحدة — بُني
لدِراسة النجوم البعيدة لدرجة أن تأثير دوبلر — الناتج
في هذه الحالة عن توسُّع الكون — قد أدَّى إلى الانزياح
الأحمر لإشعاعها وصولًا إلى نطاق ١٠ إلى ٢٤٠ ميجاهرتز.
وهذا هو نطاق التردُّد نفسه الذي نستخدِمه في البث
الإذاعي والتلفزيوني، لذا مِن المُقترَح أن تكون مصفوفة
التردُّد المُنخفِض دقيقة بما يكفي للتنصُّت على
الاتصالات التي تتسرَّب من الحضارات المُجاورة.23 وفي الوقت نفسه فإن مصفوفة الكيلومتر
المربَّع — وهو مشروع مُقترَح بقيمة ٢٫٣ مليار دولار
لتوزيع مئات التلسكوبات الراديوية عبر جنوب أفريقيا وغرب
أستراليا — ستكون دقيقة للغاية؛ بحيث يُمكنها اكتشاف
إشارات الراديو أو التليفزيون بنمطِ إشارات الأرض التي
تتسرَّب من كوكبٍ يبعد عشرات السنوات الضوئية.24
المزيد من أجزاء الطيف
الكهرومغناطيسي: حتى الآن، لم أتناول سوى
البحث الراديوي عن ذكاءٍ خارج الأرض. غير أن ارتباط البحث
عن ذكاءٍ خارج الأرض بعلم الفلك الراديوي هو حدث تاريخي
مُرتبِط بحقبة الحرب العالمية الثانية، كما سردنا في
بداية هذا الفصل. لكنَّ الحضارات البعيدة لن تكون على علمٍ
بتركيزنا على إشارات الراديو، وعلى الرغم من كلِّ ما
نَعرفه؛ فقد تكون هناك طُرق أفضل بكثيرٍ لإرسال الرسائل
فيما بين النجوم، مثل ضوء الليزر.
ظهر البحث البصري عن ذكاءٍ خارج الأرض كفِكرة منذ
اختراع الليزر في ستينيَّات القرن العشرين، لكن استخدامَه
لم يُؤخَذ مأخذ الجد حتى أواخر التسعينيات. خلص بول
هورويتز في هارفارد إلى أن البشر يُمكنهم باستخدام
التكنولوجيا الحالية توليد نبضات ليزر قصيرة يمكن
لأشعتها أن تفوق وهج أشعة الشمس بمقدار ١٠٠٠ ضعف، وتظلُّ
ثابتة عبر مسافاتٍ شاسعة. لاكتشاف إشارة كهذه قادمة من
حضارةٍ أخرى، ستَحتاج إلى مُستشعِر ضوئي قادر على تسجيل
نبضات قصيرة تَصِل في زمنها إلى النانوثانية. (يكاد لا
يُوجد شيء طبيعي يُولِّد مثل هذه النبضات الضوئية العالية
التردُّد؛ ومن ثمَّ فأيُّ إشارة عند معدَّل نقل البتَّات
هذا ستكون اصطناعية على الأرجح.) ذلك إذن ما بناه هو
وفريقه بتمويلٍ من «الجمعية الكوكبية» ومعهد البحث عن
ذكاء خارج الأرض. وابتداءً من عام ١٩٩٨، استخدم مشروع
«هورويتز البصري للبحث عن ذكاء خارج الأرض» تلسكوبات
بصرية موجودة بالفعل في هارفارد وبرينستون. وفي عام
٢٠٠٦، تحول الفريق إلى التلسكوب البصري الجديد المخصَّص
لمسح السماء بأكملها للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض
OSETI، والمصمَّم
لمسح كامل السماء الشمالية كل ٢٠٠ ليلة صافية.
يُرجى ملاحظة أنني ذكرتُ للتوِّ أنه «يكاد لا يُوجد شيء
طبيعي يُولِّد مثل هذا الضوء العالي التردُّد». كان مشروع
«التلسكوب البصري للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض» الذي أسَّسه
هورويتز عُرضةً لإصدار الإنذارات الكاذبة المُتكرِّرة،
التي كان يتسبَّب فيها في الأساس إشعاع شيرينكوف، وهو
ومضات سريعة من الضوء المُتولِّد عندما تصطدِم الأشعة
الكونية بجزيئات الغاز في الغلاف الجوي للأرض. قُرب عام
٢٠١٠، قرَّر فريق بقيادة فرانك دريك معالجة هذه المُشكلة
عن طريق تركيب جهاز بصري للبحث عن ذكاء خارج الأرض
بثلاثة مُستشعِرات ضوئية منفصلة في تلسكوب نيكل في مرصد
ليك بكاليفورنيا. وبرَفض الومضات المُنفصِلة المُتزامنة،
قلَّل النظام الجديد من مُعدَّل الإنذارات الكاذبة إلى
إنذارٍ واحد فقط في السنة. وفي عام ٢٠١٥، في مرصد ليك
أيضًا، عمل معهد البحث عن ذكاء خارج الأرض مع شيلي رايت،
وهي عالمة فيزياء بجامعة كاليفورنيا في سان دييجو؛ وذلك
لبدء البحث عن إشارات الليزر في أطوال موجية قريبة من
الأشعة تحت الحمراء. قد تكون الأشعة تحت الحمراء خيارًا
أفضل للاتصالات المُعتمِدة على الليزر من الأطوال الموجية
المرئية؛ لأنَّ إرسال الأشعة تحت الحمراء يستهلك طاقةً
أقل، ويُمكن أن تمرَّ بسهولةٍ أكبر عبر الغاز والغبار
فيما بين النجوم.25
المزيد من أجزاء
السماء: لا يُمكن لتلسكوب بصري أو راديوي
في نصف الكرة الشَّمالي أن يرى سوى السماء الشمالية،
ولكن من المُحتمَل بالقَدر نفسه أن تأتي إشارة من خارج
الأرض من السماء الجنوبية. كان جزء من قصة البحث عن ذكاء
خارج الأرض خلال العقود الثلاثة الماضية يدور حول
التوسُّع في بناء التلسكوبات في نصف الكرة الجنوبي.
ولإنشاء المشروع الثاني لفحص الحياة خارج الأرض عبر عددٍ
هائل مِن القنوات «ميتا ٢» META
II في أوائل تسعينيات القرن
العشرين، أخذ علماء الفلك نُسخًا من معدات هورويتز إلى
مرصدي تيدبينبالا وباركس في أستراليا ومعهد الأرجنتين
لعِلم الفلك الراديوي في الأرجنتين. رصد مشروع «فينكس»
٢٠٠ نجم في السماء الجنوبية في عام ١٩٩٥، واستمرَّ عمل
البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض في المراصد الجنوبية منذ ذلك
الحين. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال هناك قدر كبير من
العمل المتأخِّر الذي يجب إنجازه؛ فمِن أصل ١٠٣ مشاريع
للبحث الراديوي عن ذكاءٍ خارج الأرض منذ عام ١٩٦٠ —
وفقًا لقاعدة بيانات «تكنوسيرش» الشاملة التابعة لمعهد
البحث عن ذكاء خارج الأرض — يستخدِم أقل من ٢٠ منها
المَراصد الجنوبية.26
المزيد من أنواع
النجوم: إنَّ سيرة النجم — مراحل تطوره
وعمره الإجمالي — تتحدَّد مسبقًا بواسطة كتلته. استهدفت
معظم عمليات البحث عن ذكاء خارج الأرض نجومًا متوسِّطة
الحجم مثل شمسِنا لأنَّها تتطوَّر بمعدَّلٍ قابلٍ
للتنبُّؤ على مدى ١٠ مليارات سنة، وهي فترة طويلة بما
يكفي (نظريًّا) لنشأة الحياة على كواكبها. غالبًا ما
يَتجاهل الباحثون النجوم الكبيرة جدًّا، التي تَحترق
بسرعة كبيرة، وكذلك النجوم الصغيرة جدًّا مثل الأقزام
الحَمراء والأقزام البُنية، التي تعيش أعمارًا طويلة
جدًّا، ولكن لا تَنبعِث عنها حرارة كبيرة. وفي حالة هذه
النجوم الصغيرة، ستكون «منطقة جولديلوكس» — النطاق الذي
لا تَصِل فيه الكواكب إلى درجة الغلَيان أو التجمُّد،
ولكنَّها تحصُل فحسب على ما يَكفي من الطاقة للحفاظ على
مياهها في الحالة السائلة — ضيِّقة للغاية.
لكن الحقيقة، كما بدأنا نُدرك، هي أن النجوم القزمة
الحمراء وكواكبها تفُوق بأعدادها نجومًا مثل شمسنا
و«كواكبها». وفي الواقع، وجد الباحثون في عام ٢٠١٦
كوكبًا أكبر قليلًا من الأرض في المنطقة الصالحة للعيش
حول «قنطور الأقرب»، وهو قزم أحمر يشكل الجار الأقرب لنا
في الفضاء، على بُعدٍ أكثرَ بقليلٍ من أربع سنوات ضوئية،
وفي عام ٢٠١٧، عثروا على كوكبٍ آخر يدور حول قزمٍ أحمر هو
«روس ١٢٨»، على بُعد ١١ سنة ضوئية فقط. (هذه المسافات
ليست صغيرةً كما تبدو. لا يزال الأمر سيَستغرِق ٧٥ ألف
سنةٍ لوصول أسرع جسمٍ تمَّ إطلاقه على الإطلاق، وهو مسبار
«فوياجر١»، إلى «قنطور الأقرب». وفي الواقع، يَسلك
«فوياجر» في اتجاه مختلف تمامًا.)
ستكون الكواكب الصخرية الداخلية للنجوم القزمة غريب
بالنسبة إلينا — ستكون قريبة جدًّا من نجومها لدرجة أنها
ستكون خاضعةً للتقييد المَدِّي؛ بحيث يكون أحد جوانبها
حارًّا دائمًا والآخر متجمدًا دائمًا — غير أنَّ الأبحاث
الحديثة تُشير إلى أنها ربما تظلُّ صالحةً للعيش عليها.
ولأن نجومها أقدم بكثيرٍ وتتطوَّر على نحوٍ أبطأ، فإنَّ
الحضارات على هذه الكواكب تحظى بالمزيد من الوقت لتتطوَّر.
يقول سيث شوستاك، كبير علماء الفلك في معهد البحث عن
ذكاءٍ خارج الأرض: «قد يكون هذا أحد الأمثلة التي يكون
فيها الأقدم أفضل.»27 ومنذ عام ٢٠١٦، كان يستفيد من مُعظَم الوقت
الذي يَقضيه في المعهد في استخدام مصفوفة تلسكوبات ألين
لإجراء بحثٍ يستهدف ٢٠ ألف قزم أحمر.
المزيد من الأمم:
نشأت الجهود العمَلية للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض في
الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. وعلى مرِّ العقود،
انضمَّت إليهما أستراليا والأرجنتين، ومجموعة متنوعة من
الدول الأوروبية. غير أن أحد أكثر التطوُّرات المُحتملة
إثارةً في مجال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض تحدُث في مقاطعة
قويتشو جنوب غرب الصين. فعندما اكتمل بناء التلسكوب ذي
الفتحة الكروية البالِغ قطره ٥٠٠ متر، والذي يعرف
اختصارًا باسم «فاست»
FAST، والمُمول من
الحكومة في عام ٢٠١٦، تفوق على تلسكوب آريسيبو في كونه
أكبر تلسكوب راديوي في العالم. يعني حجم الطبق وشكله
أنَّ التلسكوب يُمكنه رؤية أجزاء من السماء أكثر ممَّا
يُمكن لتلسكوب آريسيبو رؤيته، وقد تصل دقته إلى ثلاثة
أمثال دقة آريسيبو. اكتشف التلسكوب العشرات من النجوم
النابضة الجديدة (نجوم نيوترونية سريعة الدوران تَنبعِث
منها حزم من الإشعاع)، ووقع مالكه — المرصد الفلكي
الوطني الصيني — اتِّفاقية مع مشروع «بريكثرو ليسن» في
عام ٢٠١٦ لمشاركة خطط الرصد وطرق البحث
والبيانات.28 وحتى كتابة هذه السطور، لم تبدأ بعد عمليات
الرصد للبحث عن ذكاءٍ خارج الأرض باستخدام هذا
التلسكوب.
نصف الكوب المُمتلئ
مرَّ ٦٠ عامًا منذ أن حوَّل فرانك دريك تلسكوب تاتيل
لأول مرةٍ في جرين بانك باتجاه تاو سيتي وإبسيلون
إريداني. وما تزال النقاشات الفلسفية والنظرية حول
الكائنات غير الأرضية مُستمرة، كما ينبغي لها. غير أننا
— على الأقل في هذه الأيام — على الرغم من السخرية
الصادرة من المُشرِّعين ضيقي الأفق، نبحث بالفعل عن كائناتٍ
فضائية، ولا نتحدَّث عنها فحسب. فلا تمرُّ ليلة دون أن
يستمرَّ هذا البحث.
لكن الحقيقة الأكثر أهميةً هي أننا لم نجد شيئًا.
ويستمر الصمت العظيم. تُوجَد على الأقل ثلاث طرق للنظر
إلى الأمر: نصف الكوب المُمتلئ، ونصف الكوب الفارغ، وما
أُسميه «الكوب الخاطئ».
لنبدأ بتفسير نصف الكوب المُمتلئ. لفهمه، فكِّر في
كوبٍ حقيقي. اذهب إلى الشاطئ واغمر الكوب في المُحيط. هل
اصطدتَ سمكة في الكوب؟ ألم تفعَل؟ يُمكنك أن تستنتج أن
الأسماك غير موجودة. أو يُمكنك أن تستمر في
البحث.
هذه هي الاستعارة التي قدَّمتها جيل تارتر عام ٢٠١٠،
عندما حسبت أن الجزء من المجرة الذي مسحه الباحثون عن
ذكاءٍ خارج الأرض حتى ذلك الوقت هو ككوبٍ من الماء مُقارنة
بمحيطات الأرض.29 وأعاد العلماء الحساب في عام ٢٠١٨ وخلصُوا
إلى أنه أقرب إلى حوض استحمام مُمتلئ بالماء وليس
كوبًا.30 في كلتا الحالتَين، ليس من المُستغرَب الحصول
على نتيجة سلبية. يُمكننا أن نفقِد الأمل في رحلة الصيد
ونترك الشاطئ لأنَّنا لم نَصطد شيئًا حتى الآن. أو
يُمكننا أن نُحضر المزيد من الأكواب، ونَغمُرُها على
مسافاتٍ أعمق، ونستمرُّ في الاستعداد لليوم الذي سنُصبِح
فيه علماءَ بحار موثوقين.
ويستمرُّ الصمت العظيم.
لم يفشل البحث التقليدي عن ذكاءٍ خارج الأرض، من وجهة
النظر هذه؛ لأنه بالكاد قد بدأ. يُمكِن فهم هذا الموقف؛
نظرًا لأنَّ البحث عن ذكاء خارج الأرض بالطُّرق التقليدية
لموريسون، ودريك، وساجان، وهورويتز، وتارتر قد نشأ جنبًا
إلى جنب مع علم الفلك الراديوي. لا يُمكننا أن نُنكر أن
التقنيات الراديوية والبصرية المُستمدَّة من الممارسات
السائدة لعلم الفلك قد قدمت للعلماء أول بياناتهم
التجريبية الصلبة حول الكائنات غير الأرضية، حتى لو كانت
هذه البيانات لم تُسفِر عن نتائج إيجابية حتى الآن.
لإعادة صياغة كلام دونالد رامسفيلد، فإنك تذهب إلى الحرب
ومعك التلسكوبات وأجهزة التصوير والرصد التي تَمتلكُها
بالفعل، وليس التي ترغب في أن تَمتلكها. وتبعًا لنطاق
الكون وتنوُّعه، فستُوجَد دائمًا أماكن جديدة لتوجيه
تلسكوباتنا وتردُّدات جديدة للبحث فيها.
أما تفسير نصف الكوب الفارغ، فهو أكثر قتامة. إننا
نَعرِف الآن — على نحوٍ مؤكَّد أكثر حتى ممَّا عرفه فيرمي —
أنه بغَمرنا للكوب في المياه المحلية، لن نجد أيَّ
كائناتٍ فضائية تَنتظِر مَن يكتشفها في جوارنا المباشر.
لقد فحصنا مُعظم النجوم القريبة في جميع أجزاء الطيف
الذي يُمكِن قياسه بسهولة. وإذا كانت هناك أيُّ حضارات
على مسافةٍ قريبة، وإذا كانت تلك الحَضارات تُريد أن
يَعثر عليها أحد، لكنَّا قد صادَفناها بحلول وقتِنا
هذا.
ولكن ذلك لم يحدُث. لا بد أن ذلك يُخبرنا «بشيء» مُهم
عن التردُّد، أو التوزيع، أو التواصُل مع المجتمعات
المتقدِّمة في المجرَّة. لا يُمكن أن يكون هناك ٥٠ مليون
نظامٍ نجمي تسكَنُه حضارات متكلمة، هذا حسب الحد الأعلى
لتقدير جماعة الدلافين الأول. لا بدَّ أن قيمة أقلُّ بكثير، وقد تُساوي العدد واحدًا
بالضبط. لقد فشل مجال البحث عن ذكاءٍ خارج الأرض حتَّى
الآن، وفقًا لتفسير نصف الكوب الفارغ؛ لأنه بحث عن شيء
ربما لا يكون موجودًا.
لكن لا تزال هناك احتمالات أخرى. ربما الكوب ليس أداة
جيدة لصيد الأسماك. ربما تعرف الأسماك أننا نُحاول
اصطيادها، فتَبتعِد عنا. ربما كنَّا نَبحث بجديةٍ عن شيءٍ
يُشبه الأسماك لدرجة أننا أغفلنا الفريسة الحقيقية، مثل
مخلوقات الهيبتابود المُتفوِّقة على البشر المُسيَّرة
آليًّا ذات القُدرة على التنقُّل عبر الأبعاد.
كل هذا يعني أنه يُمكن أن يكون هناك شيء خطأ في الأساس
أو أن ثمَّة قُصور في النظر في الطريقة التي نبحَث بها
عن ذكاءٍ خارج الأرض حتى الآن. وفي تاريخ العلم، نادرًا
ما تُسلِّم المسائل المهمَّة لأول فرضية تخطر بالأذهان.
لذلك ربما حان الوقت لتطوير فرضيةٍ أفضل حول الكائنات غير
الأرضية.
سنعود لتلك الفكرة وإمكانية حل مفارقة فيرمي في الفصل
الخامس. لكنَّنا نحتاج أولًا لمراجعة الاكتشافات الحديثة
في التخصُّصات التي كانت بالكاد موجودة عندما بدأ مجال
البحث عن ذكاء خارج الأرض، والتي غيرت ملامح الحلول
الممكنة.